المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالكثرات والاعتباريات
التوضيح
كيف تؤثّر قوّة الخيال في الإنسان؟ وهل يُمكن للعبادة أن تُؤثّر من دون عبوديّة؟ هل يجوز إقامة الذكرى السنويّة لغير المعصومين الأربعة عشر عليهم السلام؟ وما هو موقف العظماء من المدح والتلقّب بالألقاب؟ وهل يُمكن إطلاق عبارات من قبيل حسين العصر وعليّ الزمان؟ وأين يكمن شرف الإنسان وفخره؟ هي تساؤلات سعى سماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لشرح فقرة «قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعبدالله. قلتُ: يا أباعبدالله! ما حَقيقةُ العُبوديَّة؟» من حديث عنوان البصريّ الشريف.
هو العليم
العبوديّة شرف الإنسان
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣۷
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
«قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعبدالله. قلتُ: يا أباعبدالله! ما حَقيقةُ العُبوديَّة؟»
سلاطين على الله تعالى عبادٌ لغيره!!
بعدما بيّن الإمام عليه السلام لعنوان أنّ العبوديّة هي الطريق للتجلّي بالجلوات الإلهيّة النورانيّة، والتحلّي بحلية الأنوار الإلهيّة، وأنّ العلم عبارة عن تنزيه الخاطر وتزكية الباطن ـ بصفتهما شرطين للوصول إلى تلك الحقائق ـ شرع في الحديث عن حقيقة العبوديّة، حيث كان عنوان قد سأله عن معنى هذه العبوديّة وحقيقتها، وقال له: الآن، وقد بيّنتم أنّ العلم عبارة عن نور يقذفه الله ويضعه في قلب المؤمن، وأنّ اللازم من ذلك أن أطلب أوّلاً حقيقة العبوديّة في نفسي؛ فوضّحوا لي ما هي حقيقة العبوديّة؟ وما هو السبيل لتحصيلها؟ وللخروج من حالة السلطنة؛ إذ نحن سلاطين بأجمعنا! ولو أنّ هذا البلد ليس له إلاّ سلطان أو رئيس جمهوريّة واحد، لكن، حينما ننظر إلى الواقع، نرى أنّ كلّ واحد منّا سلطان؛ غاية الأمر أنّه سلطان على الله تعالى، وعبد للآخرين، حيث يختلف سلطاننا عن سلطان الآخرين؛ ونرجو من الله تعالى أن يكون الآخرون عبادًا لله تعالى وسلاطين علينا؛ إذ لن يوجد في هذه الحالة أيّ إشكال؛ وأمّا نحن، فسلاطين على الله تعالى، ولا نخضع له، ولا نُقيم وزنًا لكلامه؛ لكنّنا في الوقت ذاته عباد للسلاطين فيما يرتبط بشؤوننا الدنيويّة؛ وفي هذه الحالة، كيف يتسنّى لنا الانعتاق من عبوديّة هؤلاء السلاطين؟ وسوف نتحدّث لاحقًا إن شاء الله تعالى عن هذه الأمور، وعن كيفيّة التخلّص من عبوديّة كلّ ما يتسلّط على الإنسان؛ نظير سلطان القوّة، وسلطان الجاه والمقام، وسلطان الشهوة، وسلطان الأهواء النفسانيّة، وسلطان المادّة والمادّيات، وسلطان الآثار والشوائب الدنيويّة بأيّ نحو كانت؛ فجميع هذه الأمور سلاطين ـ وهي مشتقّة من السلطة ـ، حيث تأتي، وتستولي على قلب الإنسان وتتسلّط عليه. وهنا، نجد الإمام منهمكًا في تعريف العبوديّة وبيان حقيقتها، وكيف يُمكن للإنسان الانعتاق من هذه السلطات، الواحدة تلو الآخر، ويتخلّص منها، إلى أن ينعتق من سلطة نفسه؛ وهو ما یعنی الوصول إلى نهاية الخطّ.
لقد ذكرنا أنّ عنوان البصريّ قال للإمام: يا شريف! فأجابه عليه السلام مباشرةً بأنّ الشرف مختصّ بذات الباري تعالى، فقل لي: يا أبا عبد الله؛ لكن، لماذا منعه الإمام من مناداته بالشريف؟ أ فلم يكن عليه السلام شريفًا؟! وهل يوجد إنسان أجدر منه في الاتّصاف بالشرف؟! صحيح أنّه لا يوجد أيّ إنسان أليق من الإمام الصادق بذلك، لكنّه عليه السلام نهى عن هذا العنوان واللقب لسببين: الأوّل يرتبط بنفسه هو، والثاني يتعلّق بالتربية والمجتمع؛ وأمّا بالنسبة للسبب الراجع إليه، فإنّه لا يوجد من يُضاهي الإمام الصادق في إدراكه لعظمة الله تعالى؛ لا أنا، ولا أنتم، ولا الآخرون؛ والشخص الوحيد الآن الذي يُدرك عظمة الباري عزّ وجلّ هو إمام الزمان حضرة بقيّة الله أرواحنا له الفداء وعجّل الله تعالى فرجه الشريف؛ وكلّ من يدّعي خلاف ذلك كاذب؛ إذ لا يستطيع أيّ أحد سواه بلوغ درجة الخضوع والتذلّل والمسكنة والانقياد في مقابل هذه العظمة.
نموذج عن قوّة تأثير الخيال في الإنسان
لا أعلم هل اطّلع الحضور الكريم على كلام الإمام في دعاء أبي حمزة الثماليّ، أو سمعوا به، حيث كان بعض الأحبّة يسألونني: ما هذا الكلام الذي يذكره الإمام السجّاد في دعاء أبي حمزة حينما يقول: أنا الذي كذا، أنا الذي كذا، أنا الذي أذنبت، أنا الذي عصيت، أنا الذي تمرّدت على أوامرك، أنا الذي أنفقت الأموال في سبيل المعاصي، أنا الذي...؟! فما الذي يقوله هنا الإمام السجّاد؟! فهو إمام، وشؤونه ليست من باب المزاح، ومرتبته...؛ ولدينا رواية عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول فيها: إذا كان يوم القيامة، يُجمع كافّة الناس والخلائق، فيُنادي مناد: أين زين العابدين من بين هؤلاء الخلائق من الأوّلين إلى الآخرين؟ فهذه هي منزلة الإمام السجّاد! ثمّ قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: وفي هذه اللحظة، أرى ابني عليّ بن الحسين يمشي وسط هؤلاء الناس، ويتجّه إلى... ۱. وحينئذ، نرى الإمام السجّاد في دعاء أبي حمزة يتلفّظ بتلك الكلمات مع كلّ هذه الخصائص التي يمتلكها؛ أ فهل كان يمزح؟! أو كان يُمثّل؟! أو يتصنّع؟! إذ نجد البعض يقولون بأنّه كان يتصنّع؛ لكن، هل كان ذلك البكاء أيضًا من باب التصنّع؟ فهل يُمكن لأحد أن يتفوّه بمثل ذلك الكلام، ويذرف تلك الدموع [تصنّعًا]؟! أجل، يُقال إنّ من بين الفنون التي ينبغي على الممثّلين إتقانها في الأفلام وأمثال ذلك: أن تكون لهم القدرة على البكاء من دون تدخّل أيّ عنصر آخر؛ لكنّنا لا نستطيع القيام بهكذا أمور؛ وإذا كان أحد الحضّار يستطيع أن يُساعدنا في ذلك، فليتفضّل؛ فأنا غير مطّلع على هذه المسائل؛ لكنّهم يقولون إنّ هؤلاء الممثّلين لهم القدرة على البكاء بكلّ سهولة!
ذات يوم، شاهدت مسألة قد لا يكون لها ارتباط بموضوعنا الحاليّ، لكن من شأنها أن تُبيّن لنا إلى أيّ حدّ يُمكن أن يصل التصنّع والتخيّل؛ وهي مسألة لها ارتباط ببحثنا الحاليّ؛ ففي أحد الأيّام، كنت أطالع مجلّة ما، فجاء فيها أنّ أحد هؤلاء الممثّلين في السينما والمسرح وأمثال ذلك كان مسافرًا برفقة أحد الأشخاص؛ وفي أثناء الحديث، طرح عليه هذا الشخص السؤال التالي: كيف يتسنّى لكم القيام بتلك الأفعال؟ والظهور بتلك الأحوال؟ والحكاية عن الأحداث بشكل طبيعيّ؟ فقال: «إنّ إبداع الممثّل يكمن في فهمه للمخاطب وأموره النفسيّة بنحوٍ كامل، بحيث يكون قادرًا على إظهار المشهد بشكل لا يأتي على ذهن المخاطب أبدًا بأنّه غير حقيقيّ». والعجيب هنا، أنّنا لا زلنا ننساق وراء هذه التصوّرات! وسأضرب مثالاً على ذلك: افرضوا أنّكم تُريدون مشاهدة شريط سينمائيّ، فآتي أنا، وأقول لكم: أيّها السيّد! إنّ هذا الشريط لا وجود له في الخارج بتاتًا؛ وقد كنت حاضرًا أثناء صناعته، حيث جلست إلى جانب مؤلّف قصّته حينما بدأ يستخرج تلك الأحداث من مخيّلته، ويكتبها؛ ممّا يعني أنّ تلك الحكاية لم يكن لها في الأساس أيّ وجود خارجيّ، بل هي تُشبه الروايات التي يُؤلّفها الروائيّون، ولا يكون لها أيّ تحقّق في الخارج؛ فهذا الذي تعنيه الرواية، حيث تفترق عن القصّة في اعتمادها على الخيال مطلقًا؛ فيأتي الروائيّ، ويختلق شخصيّة من عنده، ويذهب بها إلى هنا وهناك، ويجعلها تسرق وتقتل، ويبحثون عنها؛ وهكذا تتبلور الرواية؛ لكن، أين تحقّقت هذه الأحداث؟ تحقّقت بأجمعها في ذهن ذلك الروائيّ، وليس في الخارج؛ وحينئذ، آتي عندكم، وأقول لكم: «أيّها السيّد! إنّ أصل هذا الشريط السينمائيّ رواية من تأليف أحد الروائيّين، فلا تنخدع بالأحداث التي تراها الآن، وبهذه الحركات والسكنات والمسائل التي تحصل فيه!»؛ فتقول: «أجل، صحيح»، وتقبل بنسبة مائة في المائة؛ لكن، ما إن يُشغَّل الشريط، وتبدأ في مشاهدته، وتمرّ عليك ربع ساعة على هذا الحال، حتّى تجد نفسك تنغمر شيئًا فشيئًا في تلك الأجواء.. يا أيّها السيّد، لقد قلتُ لك منذ البداية إنّها مجرّد رواية؛ فلماذا انهمكت في مشاهدتها إلى هذا الحدّ؟! فتقول: «اصبر قليلاً، إلى أن أرى ماذا سيحدث!»، فتجد بأنّك أُخذت تدريجيًّا بأجواء الفيلم: لماذا ضرب هذا؟ لماذا قام بذلك الفعل؟ لماذا...؟
أنا شخصيًّا كنت في مكان ما، وكان التلفاز يعرض حادثة قتل [تمثيليّة]، وكانت هناك امرأة تتفرّج عليها؛ وفي أحد المشاهد، أطلقت صرخة، وسقطت على الأرض، وفقدت وعيها؛ ممّا يعني أنّها لم تستطع تحمّل رؤية مشهد غير حقيقيّ لحادثة قتل إنسان؛ هذا، مع أنّه مجرّد شريط سينمائيّ، وليس هناك إلاّ آلة تصوير تلتقط تلك المشاهد، كما أنّ ذلك الممثّل لم يُصبه أيّ ألم أو مكروه، ولو بمقدار ذرّة؛ فما هي علّة ذلك؟ علّته التخيّل؛ فالإنسان خاضع للخيال، حيث نرى ذلك الشخص قد أُخذ بتلك الأجواء، وأُخذ إلى أن صار جزءًا منها، وانغمر وذاب فيها؛ أي أنّه حصل على كينونة تُماثل كينونة تلك الحادثة؛ هل التفتّم؟ فالناس هم على هذه الشاكلة؛ ولهذا، تصير أفكارهم مماثلة لهذه المسائل، وتُصبح تخيّلاتهم عين الواقع، وتضحى أفعالهم متطابقة مع ما يرسمه ذلك المؤلِّف، والمخطِّط، والمنظِّر، والذي يُحرّك الخيوط من وراء الستار؛ فهو يُخطّط، وهم يُنفّذون؛ وذلك لأنّهم يعدّون هذه المسائل حقيقيّة وواقعيّة.
فقال ذلك الممثّل: «أجل، على الممثّل على أن يتّبع هذا الأسلوب»؛ فقال له رفيقه في السفر: «وهل يقدر على ذلك؟»؛ فقال له: «حسن جدًّا، سوف أريك الآن مسألة»؛ فأخرج منديلاً من جيبه، أو أخذه من الكرسيّ في جانبه، وقال له: «انظر، فهذا مجرّد منديل!»؛ ثمّ أخذ يُحرّكه، وقال: «سوف أجعله على شكل طفل رضيع»؛ وبدأ بطيّ المنديل، وجمعه، وإعطائه شكلاً معيّنًا، حتّى صار الآخر يتصوّر بأنّه طفل؛ وضَمَّهُ إليه، وبدأ يلعب مع ذلك المنديل (الطفل)، ويقوم ببعض الحركات التي يبدو منها كأنّ هذا الطفل يبكي، ويصرخ، فقال له: «اسكت! لماذا لا تهدأ؟»، وأظهر نفسه بحالة من الإجهاد والعياء، ثمّ انتابه الغضب شيئًا فشيئًا، وقال: «سوف أضربك، وأفعل لك كذا!»؛ وفجأة، إذا بذلك الشخص يقول: «لا تفعل، لا تفعل ذلك أيّها السيّد! ما هذا الذي تقوم به؟ لقد قتلت الطفل!»؛ فأجابه الممثّل: «أين هو الطفل؟ لقد كان ذاك مجرّد منديل، ولا وجود هنا لأيّ طفل!». لاحظوا، فهذا الذي يُقال له تخيّل، ومجاز، وكذب، وباطل! فالعالم يدور على محور الباطل؛ ففي الموضع الذي لا توجد فيه عبوديّة، يوجد الباطل والتخيّل والمجاز؛ والذي تمكّن من الوصول إلى درجة العبوديّة سيرى الحقّ هناك. فالإمام السجّاد عليه السلام رأى الحقيقة في عظمة الباري تعالى؛ ولهذا، فإنّه لا يعتقد بوجود أيّ أحد أصغر منه في مقابل هذه العظمة؛ فكلّما اقترب الإنسان من تلك الحقيقة، شعر بها أكثر في نفسه.
العبادة من دون عبوديّة لا تملك أيّ تأثير!
يقول الإمام الصادق عليه السلام: إنّ العظمة لله تعالى؛ فلماذا تقول لي «يا شريف»؟ فالشرف يعود إليه تعالى؛ ومناداتي بالشريف والعظيم تُلحق بي الضرر؛ لأنّك بقولك ذاك توجد في نفسي بعض الخواطر، وتخلق في ذهني بعض الأمور، فأبدأ تدريجيًّا في نسيان حالة الانكسار في مقابل الله تعالى.. يا شريف! يا عظيم! يا سيّد! يا سماحة السيّد! يا كذا! فتأتي هذه الأمور، وتأتي، شيئًا فشيئًا، إلى أن نسقط في نفس مسألة المنديل حينما كان يعتقد ذاك بأنّ المنديل طفل؛ فيُؤمن الإنسان بأنّ لتلك العناوين حقيقة في الواقع، وأنّه شريف وعظيم فعلاً؛ ولهذا، فإنّ الإمام الصادق عليه السلام لم يكن يُعجبه أن يُقال له: يا شريف؛ والأئمّة عليهم السلام لم يكونوا يحبّون التمجيد والإطراء؛ وحتّى إذا حصل ذلك، ففي محلّه المناسب، فيأتون هم، ويتحدّثون عن أنفسهم؛ إذ كانوا يُراعون كلتا الجهتين في أنفسهم، لكنّهم لم يكونوا يُحبّون الإطراء، وكانوا يقولون: نحن لسنا عظماء؛ فهم الذي يقولون الحقّ، بينما نحن نكذب، وننسب العظمة إلى أنفسنا من دون مبرّر. إنّ الأثر الذي تُحدثه الألقاب في نفس الإنسان لا يُمكن محوه بألف سنة من العبادة؛ فالعبادة مجرّد حادثة وفعل لا يُمكنه التأثير، إلاّ إذا حصل في أرضيّة مناسبة وأجواء صحّية؛ وإلاّ، فلن يكون لتلك الصلاة وذلك الصيام [مثلاً] أيّ تأثير. فلماذا لم تُساهم صلاة الليل في تقرّب الخوارج إلى الله تعالى، بل أدّت إلى بعدهم عنه؟ لأنّ الأرضيّة لم تكن مناسبة، بل كانت مليئة بالعُجب والتكبّر وحبّ الذات وعدم التسليم للحقّ ولكلام المولى أمير المؤمنين؛ وهكذا أرضيّة لا تكون مناسبة للتأثّر بالعبادة؛ ولهذا، فإنّ هذه العبادة لن تترك تأثيرها، بل ستُؤدّي إلى البُعد، وزيادة الأنانيّة؛ وبالتالي، لن يرى الإنسان نفسه ضعيفةً، ولن يراها خاويةً؛ وهذا هو أكبر مانع وحجاب يُفرّق بين الإنسان وربّه.
قبل عدّة أيّام، طالعت رواية عجيبة جدًّا، ووجدت فيها أنّه: ذات يوم، كان أحد الأنبياء نائمًا، فحلّ وقت صلاة الصبح، لكنّه لم يستيقظ، إلى أن اقترب وقت طلوع الشمس؛ وفي هذه الأثناء، جاء الشيطان ليوقظه، فقال له: «انهض، سوف تفوتك الصلاة، فها هي الشمس تطلع!»؛ فقام ذلك النبيّ، ليؤدّي صلاته بسرعة؛ هذا، مع أنّ الأمر لم يكن بيده؛ لأنّ النوم قد اعتراه. وباعتبار أنَّ له سابقَ معرفةٍ بالشيطان، ويُسلّمان على بعضهما؛ ففي نهاية المطاف، هما... ، فقد قال له: «ما السبب الذي دفعك لإيقاظي؟ إذ ليس من شأنك دعوة الناس للعبادة؛ فما الذي حصل حتّى تأتي، وتُخالف عادتك؟»؛ فأجابه الشيطان: «أنت مخطيء، فقد قمت بما يتوافق مع شأني»، قال له: «كيف ذلك؟»، قال: «رأيت أنّك إذا نمت، وفاتتك الصلاة، ستعتريك حالة من التذلّل والخضوع والمسكنة والندم؛ وهذا الذي سيقصم ظهري، وليس أداؤك للصلاة»؛ هل لاحظتم مقدار الدقّة التي تتّصف بها هذه المسألة؟ فهذه الصلاة التي تُؤدّيها الآن مجرّد أمر اعتدت عليه، فتقول حينما تتداركها: «أحمد الله تعالى أنّني أدّيت الصلاة، ولم تُفتني!»؛ وهو ليس أمر بالغ الأهمّية؛ فكان الشيطان يقول: «لا يهمّني ذلك، فصلّ كما يحلو لك؛ لكن، إن اعترتك حالة الاستغفار والتوبة والانكسار، فهناك فقط سيرتفع صراخي إلى عنان السماء؛ وبما أنّني لم أرغب في حصول ذلك، فقد أيقظتك بسرعة لكي تُصلّي»؛ وهنا، علينا أن ننظر إلى أنفسنا نحن الذين نقوم للصلاة، حتّى نرى كيف هي أوضاعنا؛ وأنا لا أقول بأنّنا نغطّ في النوم، لأنّ... ، لكن يبدو أنّ الشيطان هو على قدر كبير من الدقّة والانتباه؛ وقد قلت لكم سابقًا إنّه أكثر خبرة ومهارة من الكلّ؛ فإذا كانت هذه العمامة [كناية عن العقل والعلم] بالحجم الكذائيّ، فإنّ عقله وعلمه سيكون أكبر؛ وإذا كان طول هذه اللحية يبلغ أربعة أشبار، فإنّ لحيته ستكون أطول؛ وإذا نقّبنا في الكتب، وقلّبناها بأجمعها إلى يوم القيامة، فإنّه سيكون مع ذلك صاحب اليد الطولى في هذا المجال؛ ولهذا، علينا أن نكون متيقّظين لهذه المسألة كثيرًا؛ إذ لا يستطيع أيّ أحد أن يكون ندًّا له، إلاّ إذا كانت يده موصولةً بيد وليّ الزمان.. الإمام عليه السلام، واستمدّ العون منه، وقصر رجاءه وتوجّهه عليه؛ وإلاّ، فلا يُمكن الاعتماد أبدًا على العلم وبقيّة الأمور.. يقول الخواجة حافظ رحمة الله تعالى عليه:
تكيه بر تقوى و دانش در طريقت كافريست | *** | راهرو گر صد هنر دارد، توكّل بايدش |
[يقول: الاعتماد على التقوى والعلم هو منهج الكفّار، ولو أنّ السالك أتقن مائة فنّ، للزمه التوكّل]
والأمر هو هكذا حقًّا! فيأتي الشيطان من طريق التقوى، ويطرح الإنسان أرضًا، ويأتيه من طريق العلم، ويُسقطه على الأرض سقطةً لو فكّر من الآن إلى يوم القيامة، لما علِم من أين تلقّى هذه الضربة! لماذا؟ لأنّ الله تعالى وعده منذ البداية بأن يُسلّطه على الجميع؛ أي سلّطه على الظاهر، والمثال، والملكوت، وكافّة العوالم العليا، وجميع عوالم الإنسان، إلى أن نتجاوز النفس؛ لكن، ما دام الإنسان في مرحلة النفس، فإنّ كلّ ما يراه أو يُدركه يتشكّل بحسب هذا القالب [النفسانيّ]؛ ولهذا، عليه أن يبقى متيقّظًا؛ فقد يقول الحقّ أحيانًا، غير أنّ قوله هذا يكون عن هوى؛ هذا، مع أنّه لا يقول باطلاً. وتوجد هنا الكثير من الموارد التي قد تحصل لنا جميعًا، فتُواجهنا مسألة حقّة، ونقف أمام خيارين: إمّا نقولها، أو لا نقولها؛ فمع أنّها مسألة حقّة، إلاّ أنّ البحث يقع في الهدف من قولها؛ فقد يرى الإنسان أحيانًا بأنّه لا ينبغي عليه البوح بإحدى المسائل الحقّة، وبضرورة أن يتركها حتّى تحين الظروف المواتية، أو قد يُضاف هذا الحقّ إلى مسألة باطلة؛ وهنا، عليه أن يتحفّظ؛ هل التفتّم؟!
فالمشكلة هنا هي التي يُريد الإمام عليه السلام أن يذكرها لعنوان بقوله: إنّ الضربة الأولى التي تُوجّهها هذه العناوين تلحق بنفس الوجود الشريف لصاحب الفيوضات العميمة؛ أي بك أنت؛ وبعد ذلك، تأتي تأثيراتها الجانبيّة والاجتماعيّة في الدرجة الثانية؛ ولهذا، على الإنسان أن يحذر كثيرًا من أن يتعرّض بدوره لهذه التأثيرات؛ فتمنعه من الوصول إلى الهدف المنشود.
اختصاص الذكرى السنويّة بالمعصومين الأربعة عشر عليهم السلام
ذات يوم، نقلت إحدى العفیفات حكاية قالت فيها: تمكّنت من المثول بين يدي المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه؛ وحينما فكّرت في لفظ يُعبّر عن العلاقة القائمة بيني وبينه، لكي أناديه به، وجدت بأنّه أعلى من كلّ هذه الألفاظ؛ فرأيت أنّني إذا خاطبته بالأستاذ، فإنّه أعلى من ذلك المفهوم الذي أحمله عن هذا الأستاذ، ومن المعنى الذي يحويه هذا القالب؛ وإذا ناديته بالمولى، فإنّ هذا اللفظ لا يفي بالتعبير عن حقيقة علاقتي به؛ وإذا سمّيته بالأب، فإنّ هذه الكلمة كثيرة جدًّا في حقّي؛ فماذا أقول له؟ وبأيّ كلام أناديه؟ يعني أنّ ذلك الارتباط الذي كانت تشعر بوجوده بينها وبينه كان يقتضي هذا الأمر؛ وهو الذي أحدث فيها هذه الحالة؛ هذا، مع أنّ المرحوم العلاّمة كان له إشراف واطّلاع على هذه الأوضاع؛ فقالت: نظرت إليه، وقلت: «بأيّ شيء أناديك يا سيّدي؟»؛ فتأمّل قليلاً، وقال: «قولي عبد الله! إذا كنتُ فعلاً كذلك!»؛ هل التفتّم؟ فهو لم يكن يمزح؛ فأنا ابنه، ولديّ اطّلاع على أحواله وأوضاعه النفسيّة؛ فهو لم يكن يمزح، ولم يذكر ذلك من باب التواضع، بل كان حاله بهذا النحو، حيث تجد الكثير منّا يقول: «لا يا سيّدي! نحن لا نستحقّ ذلك! لا يا سيّدي، نحن ...»، لكن، حينما تأتي ظروف مواتية، يقولون: «نعم ...»؛ وأمّا هو، فلم يكن يمزح، بل قال فعلاً: «قولي لي عبد الله»؛ فهذا هو الذي تمكّن من إدراك عظمة الله تعالى، ومن الشعور بذلّته، وتوصّل باطنُه وحقيقتُه وسرُّه إلى هذا الأمر، حيث جاءت تلك العفيفة بعينها، وقالت: «في كلّ سنة، وحين حلول يوم ولادة المرحوم العلاّمة ـ ويبدو أنّه كان في محرّم ـ ، كنت أشتري هديّة، وأبعثها إليه»؛ غاية الأمر أنّها كانت تُعطيها إلى والدتنا؛ فالمرحوم العلاّمة كان يُبدي حساسيّة مفرطة تجاه مسألة عيد الميلاد، والذكرى السنويّة، وأمثال ذلك، وكان يمقت هذه المسائل، ويقول: «إنّ هذه المسألة مختصّة بالأئمّة عليهم السلام، وباطلة في حقّ غيرهم»؛ لكنّكم ترونهم الآن يحتفلون بالذكريات السنويّة، وبأعياد الميلاد، وذكرى الوفاة، بينما هي باطلة بأجمعها؛ لأنّ الشيعيّ لا يعرف في هذه الأمور إلاّ المعصومين الأربعة عشر، والسلام! وأنا أقول لكم الآن: لا ينبغي علينا أن ننظر في هذه المسائل إلى فلان وعلاّن؛ وإلاّ سنخسر، ونضيع؛ فلماذا يتوجّب علينا أن ننتظر زيد وعمر، لكي يُحدّدوا لنا ماذا يجب أن نفعل؟ ولماذا لا نتشبّث بمبادئنا ومدرستنا، من دون أن يكون لنا شأن بالآخرين؟ فكلّ من أراد غير ذلك، فليتفضّل، ولن يمنعه من ذلك أيّ أحد؛ لكنّ هذا الطريق مختلف عن الطريق الذي سلكه العظماء. وبعد ذلك، قالت تلك المرأة: «أخذت تلك الهديّة، وأعطيتها لوالدتك، لكي توصلها للمرحوم العلاّمة»؛ وقد كانت والدتنا فطنة جدًّا، وتعلم بحقيقة المسألة؛ ولهذا، كانت تأخذ الهديّة للمرحوم العلاّمة، وتقول له: «السيّدة الفلانيّة بعثتها إليك»؛ وهو كان يعلم بمجريات الأمور، لكنّه لم يكن يرى عليها أيّة إشارة إلى السنة، أو الولادة، أو ...؛ فكان يقول: «ما هي المناسبة؟»، فتقول له: «أرسلتها إليك بعنوان هديّة»، فيقول: «حسن جدًّا، ضعيها جانبًا، فلا إشكال لدينا بشأنها». وقالت تلك المرأة: «استمرّت هذه المسألة لسنوات، إلى أن بقت سنة واحدة أو سنتين [على وفاة المرحوم العلاّمة]، فأعددت هديّة»؛ ويبدو أنّها كانت من تلك العباءات الرفيعة والنفيسة، فوضعتها في علبة هدايا؛ ثمّ قالت: «فأعطيتها لشقيقكم؛ لأنّني لم أتمكّن من إعطائها للوالدة، وقلت له: أوصلوها للسيّد العلاّمة؛ فسألني: ما هذه؟ فقلت له: في كلّ سنة، أشتري هديّة للمرحوم العلاّمة بمناسبة ذكرى ولادته؛ فأخذها، ووضعها مباشرة بين يدي المرحوم العلاّمة؛ فسأله: «ما هذه أيّها السيّد؟».
ـ جاءت السيّدة الفلانيّة، وأحضرت هذه الهديّة بمناسبة ذكرى ولادتكم؛ فقالت تلك المرأة: « قبل أن يخرج ذلك الكلام من فم شقيقكم، شعرت فجأة بحصول اضطراب عجيب في قلبي ومنزلي!»؛ وهذا طبيعيّ، وذلك بسبب الارتباط الذي كان لها بالمرحوم العلاّمة من الناحية القلبيّة وغير ذلك؛ فقالت: «رأيت فجأة بأنّ وضعي انقلب رأسًا على عقب؛ وكأنّ السماء وقعت على رأسي، فسقطت على الأرض، وقلت: أيّة مصيبة حلّت بي يا إلهي؟! ماذا حصل؟ فاكتشفت أن: يا وليتاه! لقد ساءت الأمور! يبدو أنّ المسألة انكشفت!»؛ وأنا أفهم الذي تقول من معاينتي لأحوال المرحوم العلاّمة؛ وقالت: «ارتديت عباءتي، وهربت نحو حرم الإمام الرضا، ليُغيثني ممّا حلّ بي، فوصلت للحرم، ولجأت للنذر، ومدّ يد الضراعة، والبكاء، والعويل، و... خلاصة القول، أنّني دعوت الإمام ليمدّ يد العون لي؛ لأنّ أحوالي ساءت كثيرًا؛ إذ يبدو أنّ السيّد العلاّمة غاضب منّي بشدّة؛ فلطُف بي عليه السلام، فشعرت بأنّ المسألة في طريقها للحلّ، فرجعت مسرورةً للبيت»؛ وقالت بعد ذلك: «التقيت بشقيقكم، وقلت له: أدعو الله تعالى أن يجزيك بكلّ خير، وأن يرحمك، ويُعطيك كلّ ما تُريد، لكن، لماذا يا سيّدي قلت له ذلك؟ فقال لي: «ليس هناك من سبب، فأنا أخبرته بنفس ما قلت لي، فأنت قلت إنّها بمناسبة عيد الميلاد، فذهبت، وأخبرته بذلك»؛ فقلت له: أ ولست تعلم بأنّ السيّد العلاّمة [لا يُحبّ] هذه الأشياء؟ ولقد كنت أقدّم هذه الهديث عن طريق والدتك طيلة عشر سنوات، فلم يحدث شيء من هذا القبيل؛ أ فلم يكن واجبًا عليك التوفّر على هذا المقدار من الالتفات؟! فقال: «وما أدراني أنا بأنّ المسألة ستكون بهذا النحو، فأنا لم أكن أعلم بأنّ الأوضاع ستؤول إلى ذلك»؛ فقلت له: كيف كان موقف السيّد العلاّمة؟؛ فقال: «جزاكِ الله خيرًا، فقبل أن أُكمل كلامي، قذف بتلك الهديّة جانبًا، وقال: ما هذه التصرّفات؟ فمن أكون أنا؟ وما معنى الذكرى السنويّة؟ إنّها مختصّة بالمعصومين الأربعة عشر فقط! ألا تستحيون؟»؛ ثمّ قال شقيقكم: «فبدأت ـ أنا الغافل عن المسألة تمامًا ـ أرتجف بدلاً عنكم، خشية أن يقوم السيّد العلاّمة بتوبيخي ولومي على أن أتيته بهذه الهديّة من الأساس»». فهذا لم يكن مزاحًا؛ ممّا يعني أنّ هذا الرجل لا يرى في مقام العبوديّة أحدًا سوى المعصومين الأربعة عشر؛ فما الذي تعنيه الذكرى السنويّة؟ وما معنى عيد الميلاد؟ ما كلّ هذا الكلام؟ والأمر الوحيد الذي يُمكن عدّه من الناحية القيميّة سنّة [حسنة]، ويلزم على الإنسان القيام به هو ذاك الأمر الذي ذكره السيّد ابن طاووس رضوان الله تعالى عليه في وصيّته لولده حينما أمره بالاحتفال بيوم تكليفه؛ وذلك لأنّ الله تعالى أعدّه في هذا اليوم لاستقبال أوامره وتكاليفه؛ فوحدها هذه المسألة التي يُمكن الاحتفال بها؛ لأنّها تتعلّق بالتكليف، حيث ينبغي علينا أن نحتفل بأبنائنا عند حلول زمان تكليفهم؛ فنقيم مجلسًا، ونستدعي الناس، ونُحضر الحلوى، ونتحدّث عن المسائل ذات الصلة بالتكليف؛ فهذا أمر جيّد ومستحسن؛ وأمّا أن نأتي، ونحتفل بعيد الميلاد، ونضيء الشموع، ونشتري الكعكة، ونُطفيء الشموع، فلا معنى لذلك أبدًا!
وخلاصة القول، قالت تلك السيّدة: «لم يُبد السيّد العلاّمة أيّ اهتمام بتلك الهديّة، وأمر بردّها؛ وبعد مرور يومين أو ثلاثة، رأيت بأنّ الأوضاع هدأت قليلاً، وصارت أفضل، فنادى عليّ بنفسه، وقال لي بهدوء نوعًا ما: هذا التصرّفات غير صحيحة، وعلى الإنسان أن يقصر نظره على المدرسة، وينظر إلى اللبّ؛ فوحدها شخصيّة الإمام مطروحة هنا، و...»؛ لاحظوا معي، فهذه هي المسألة التي علينا أخذُها بعين الاعتبار.
موقف العظماء من الإطراح والمدح والتلقّب بالعناوين
وقد كان رضوان الله تعالى عليه يقول لنا بنفسه: «إذا أردتم مناداتي، فنادوني بالسيّد محمّد حسين، وقولوا السيّد محمّد حسين كذا»؛ ولا زال بعض الأحبّة ينادونه الآن بالمرحوم الحاجّ السيّد محمّد حسين؛ وهو عمل جيّد. كما أنّه أوصى فعلاً بألاّ يقوم أحد من مكانه لأجله حينما يلج إلى المجلس؛ لكن، لعلّ هذه المسألة كانت خارجة عن قدرة الأحبّة واستطاعتهم، لا أنّه ذكرها كمسألة عادية، ومن باب المزاح ولقلقة اللسان؛ فقد كان يتأثّر كثيرًا، بل وتنقلب أحواله غاية الانقلاب إذا سعى أحد ـ في مقام الإفراط ـ أن يضعه في مكانة ليست له.
لا أدري هل ذكرت لكم أم لا أنّ البعض قاموا بتقبيل أقدامه، حيث حصل له ذلك مرّتين أو ثلاث مرّات في حياته؛ فكأنّ القيامة قد قامت؛ أي أنّ أحواله كانت تنقلب، إلى درجة أنّني احتملت في إحدى المرّات أنّه سيتعرّض لنوبة قلبيّة؛ فهل هذا كان كذبًا أيضًا؟! وهل كان بدوره تصنّعًا؟! فقد كان يرى نفسه عبدًا وخاضعًا ومتواضعًا في مقابل مدرسة أهل البيت، إلى حدّ أنّه كان يشعر بعدم امتلاكه من نفسه لأيّ وجود؛ وكان يحذر كثيرًا من أن يقع رفقاؤه وأحبّته ـ لا سمح الله ولا قدّر ـ في الخلط بين الأمور عند اطّلاعهم أحيانًا على بعض المسائل، وإدراكهم لبعض الحقائق ظاهرًا أو باطنًا، ويحرص على عدم تغييرهم وتبديلهم لتلك المكانة والمرتبة التي يحتلّها.
قبل عدّة سنوات، وفي يوم من الأيّام، كنت برفقة أحد الأصدقاء، فكان يتحدّث عن أحوال المرحوم العلاّمة، وكان يُبدي إعجابه الشديد بشؤونه، ويرى نفسه حقيقةً مُغرمًا بسيرته ومكانته وتربيته وأخلاقه؛ وهذه أمور يُحكم بصوابها وصحّتها في محلّها المناسب؛ لكنّه قال بعد ذلك: «لقد تفأّلت، وجعلتُ نيّتي في هذا التفأّل أن أرى هل يوجد من هو أعلى مرتبةً منه في عالم الوجود»؛ هذا، مع أنّه لم يكن يقصد حقيقةً كلّ عالم الوجود؛ لكنّه حاول أن ينعته بمسألة فيها نوع من الغلوّ يعجز لساني الآن على التعبير عنها؛ وأعتقد أنّ الرفقاء فهموا مرادي من ذلك؛ فقال: تفأّلت بديوان حافظ، فجاء البيت الشعريّ الذي يقول فيه:
به حسن خلق و وفا كس به يار ما نرسد | *** | ترا در اين سخن انكار كار ما نرسد |
[يقول: لا يستطيع أحد أن يبلغ مرتبة حبيبنا في حُسن الخلق والوفاء، ولا يحقّ لك أنت أن تأتي وتُنكر كلامي هذا]
فأراد أن يستنبط أمرًا خاطئًا من هذا الشعر، ويطرح بشأنه تفسيرًا سيّئًا؛ فتكدّر خاطري فجأة، وقلت له: ألا تستحي؟ ما هذا الانحراف؟ إنّ أيّة مكانة واحترام يحظى بهما المرحوم العلاّمة لديّ ـ أنا ابنه ـ ترجع إلى أنّه عبد من عبيد إمام الزمان عليه السلام والأئمّة والمعصومين الأربعة عشر؛ وقد كان يرى بأنّ أقصى ما بلغه فضلُه هو أنّه وصف نفسه في البيت الشعريّ الآتي بقوله:
آن كه سرود اين دُرَر پاك را | *** | خاك ره كوى حسين است و بس۱ |
[يقول: إنّ منشد هذه الدرر الطاهرة، مجّرد تراب في مسير درب الحسين]
وهكذا كنّا نعرفه نحن أيضًا، ولم نكن لنقبل منه بغير ذلك؛ وأقول ذلك بكلّ صراحة؛ إذ ينبغي أن تُحفظ كلّ مسألة في مكانها الخاصّ؛ فلكلّ مقام مقال، وعلينا أن نتعلّم هذا المنهج من العظماء.
فهذه المسألة التي ذكرتُها بخصوص علاقة المرحوم العلاّمة بالأئمّة عليهم السلام طبّقوها بعينها على علاقتي أنا به، من دون أن تسلكوا أيّ منهج آخر؛ فإذا كان هناك أمر صحيح قلته لكم، فاعلموا أنّ مصدره هو المرحوم العلاّمة؛ وأمّا إذا قلت لكم أمرًا خاطئًا، فهو منّي أنا، حيث سمعت أنّ البعض يذكرون في مقام المدح والثناء مجموعة من المسائل التي أقول عنها بكلّ صراحة: إنّها برأيي كفر محض! ولا أحتاج أن أبيّن بأنّ ...؛ فنحن يا عزيزي أدركنا حقيقة المسألة! فلا داعي لأن يمدحنا أيّ أحد؛ وإذا قام أحد بذلك في غير محلّه، فقد سعى إلى إهدار كرامته هو، و«عِرض خود را مىبرد و زحمت ما مىدارد»٢؛ فأنا لا أحتاج للمدح والثناء؛ لأنّني أكثر الناس علمًا بأوضاعي ومكانتي، ومطّلع أكثر منكم على شؤوني وأحوالي: {بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ}٣، وأنا مكلّف بأن آتي وأذكر لكم هذه المسائل، لا أكثر؛ ولا يوجد أيّ إلزام بالاستماع إلى ما أقوله، و ...؛ فإن قيل لي: تحدّث، فإنّني سأحدّث؛ وإن قيل لي: لا تتحدّث، فإنّني لن أتحدّث؛ وأنا أدرى بنفسي، وأتوقّع من الآخرين أن يُخاطبوني على هذا الأساس؛ فلا يُناسبني أن تُنادونني بعبارة «حضرة السيّد»، ويكفي الاقتصار على عبارة «السيّد محسن»، أو «السيّد الطهراني»؛ ولا تظنّوا بأنّ ذلك بالنسبة إليّ ...؛ لا، بل إنّه لا يُعجبني بتاتًا، ولا أحتاج إليه، ولیس ذلك من باب التواضع؛ فتكفي مخاطبتي بالسيّد الطهرانيّ، أو السيّد محسن؛ وأمّا إذا أتى أحد، وأراد أن يضعني في مصافّ المرحوم العلاّمة، فإنّ فعله سيكون باطلاً محضًا؛ وسأتبرّأ منه إذا أقدم على ذلك علنًا، ناهيك عن أن يسعى لذكر مسائل أخرى؛ وأظنّ أنّني وضّحت الأمر بما فيه الكفاية؛ ومن الآن فصاعدًا، إذا أراد أحد أن يتحدّث بهذه الأمور، فلا داعي لكي يأتي عندي ويطرحها عليّ، ولا يسعى للقائي أبدًا؛ لاحظوا، فقد بيّنت كلّ ما عندي! فلا يحاول أن يأتي للقائي إلى آخر عمري، وحتّى إذا جاء، فإنّني لن أفسح له المجال؛ فمدرستنا هي مدرسة الحقّ، وعلى المتشيّع لأمير المؤمنين أن يخضع لمبادئه، ولا ينبغي علينا أن نخدع بعضنا؛ فنحن لدينا أربعة عشر معصوم فقط، والباقي ليسوا كذلك؛ أجل، إذا تمكّن أحدٌ من بلوغ مرتبة الفناء والبقاء [بعد الفناء]، فإنّه سيكون داخلاً تحت الولاية التامّة للأئمّة عليهم السلام؛ لكن، اذهبوا وابحثوا عن هؤلاء! فمَن هم؟! وأين ستعثرون عليهم؟! ولهذا، يجب أن تكون العبارات التي نستخدمها في حقّ الأفراد محسوبة ومضبوطة؛ ولا ينبغي يا عزيزي أن نُطلق الكلام على عواهنه! لأنّ ذلك يستتبع المحاسبة، ويُؤدّي إلى زيادة ابتلاء الإنسان بالمسائل النفسانيّة، حيث ذكرت لكم في الجلسة السابقة أنّ الإنسان قد يقع في هكذا أمور، فيأتي أحدُهم ويقول له شيئًا، ويأتي ثانٍ ويقول له شيئًا آخر: يا حضرة السيّد! يا حضرة فلان! يا حضرة آية الله فلان! يا حامي الديار! وترتفع الصلوات والتسليمات عند قدومه؛ فيظنّ ذلك المسكين أنّه كذلك فعلاً؛ ولهذا، إذا جاء أحدهم وقال له ... ؛ لاحظوا معي، فالمسألة ليست بهذا النحو، بل تخضع لحساب دقيق!
اى مگس عرصه سيمرغ نه جولانگه تست | *** | عِرض خود ميبرى و زحمت ما مىدارى |
تأثير المسائل الدنيويّة في الإنسان يُضاهي تأثير المخدّر
قلت لكم سابقًا أنّ المسائل الدنيويّة لها جاذبيّة عجيبة؛ ففي بعض الأحيان، يُقال للإنسان: اقبل تَقَلُّدَ المنصب الفلاني! فيرفض في البداية واقعًا وحقيقةً، ويقول: «لا يا سيّدي! لأنّ ذلك سيُدخلني في المسائل الدنيويّة»؛ لكن، حينما يقبل في الأخير، ويمرّ اليوم الأوّل، واليوم الثاني؛ فما إن يدخل إلى محلّ العمل، حتّى يرفع أحدُهم يدَه تحيّةً له، وينحني الآخر له، ويأتيه ثالث عن اليمين، ورابع عن اليسار.. تفضّلوا يا جناب الوزير! ويكثر الضجيج.. واحد يذهب في هذا الاتّجاه، والآخر يذهب في الاتّجاه الآخر! ما الذي حصل؟! وفي اليوم الثاني، حينما يُريد أن ينزل من السيّارة، يأتيه شخصان، ويفتحان له السيّارة، حتّى لا تُؤلمه يده عند فتح الباب، ويمسكانه من ذراعه، ويُنزلناه من السيّارة، ويصطحبانه إلى الأعلى، ويُجلسانه هناك؛ ويأتيه اتّصال هاتفيّ من هنا، ومن هناك؛ ثمّ يمرّ اليوم الثالث والرابع، وينقضي أسبوع، وشهر؛ فيُقال له: يا سيّدي، يُريدون إقالتك من منصبك! فيرتفع صراخه: لماذا؟ ما هي علّة ذلك؟ أ فهل صدر منّي شيء؟! فيذهب إلى هنا وهناك، ويكتب رسائل، ويبعثها إلى فلان وعلاّن، و... أيّها السيّد! أنت بنفسك كنت تقول: «لا ينبغي القبول بهذا المنصب، فهو من الحظوظ الدنيويّة، ويعمل على تلويث الإنسان، وكذا وكذا»؛ فلماذا صرت الآن تطرق جميع الأبواب، وتتمسّك بكلّ شيء؟ ما هي علّة ذلك؟ لقد تغيّرتَ يا عزيزي! غاية الأمر أنّ ذلك حصل شيئًا فشيئًا، وبكلّ هدوء؛ فجاءت تلك المادّة المخدّرة، وعملت على تخديرك تدريجيًّا، وأفقدتك الوعي، ولم تعُد قادرًا الآن على التخلّص من هذا المسكر، إلى درجة أنّه إذا لم تتناوله لليلة واحدة، فإنّك ستُصاب بالخُمار (صداع الخمر). فلماذا يُقال إنّ المُسكر حرام؟ لأنّه لا يُظهر تأثيراته [السلبيّة] منذ البداية، بل يعمل أوّلاً على جذب الإنسان ویُشعره بالنشوة؛ أليس كذلك؟!! وهكذا في اليوم الثاني والثالث والرابع، وتمرّ الأيّام بالتدريج، من دون أن يشعر ذلك المسكين بالموضع الذي يطرأ عليه الفساد؛ فدمُه هو الآن في حالة تغيّر، وخلاياه صارت تتبدّل، وأصبح ذلك المُسكر يُؤثّر في خلاياه الدماغيّة والعصبيّة؛ وهو لا يدري أيّ سمّ صار يترشّح منه. وبعد ذلك، يرفضون أن يُقدّمون له ذلك المُسكر لليلة واحدة، فيذهب ليطرق جميع الأبواب، فيُقال له: عليك أن تفعل كلّ ما نأمرك به! هل انتبهتم إلى المسألة التي أريد أن أقولها لكم؟ فبعدما صرت مُدمنًا، لا يُمكنك أن تتخلّى عن هذا المخدّر؛ فصار واجبًا عليك الآن أن تُضحّي بأموالك، وحياتك، وزوجتك، وابنتك ـ حيث يصل الأمر إلى هذه الدرجة ـ ، وعليك أن تُضحّي بدينك، وإلاّ، فلن نُعطيك المخدّر؛ فيضطرّ إلى بيع دينه؛ ولهذا، على الإنسان أن يبقى متيقّظًا، ولا يجوز لنا أن نمنح أيّ لقب لأي أحد كيفما كان.
مدرسة التشيّع توجب المحافظة على المراتب
فأمير المؤمنين عليه السلام كان رجلاً واحدًا اسمه عليّ بن أبي طالب، وسيّد الشهداء أيضًا كان رجلاً واحدًا اسمه الحسين بن عليّ، وكفى؛ فما معنى حسين العصر؟ وما معنى عليّ العصر؟ عليّ العصر هو إمام العصر والزمان؛ أي هو الذي حلّ محلّ أمير المؤمنين عليه السلام، لكن مع فارق في الزمان، حيث وُلد الأوّل قبل ألف وأربعمائة سنة، وعاش في ذلك العصر وتلك الظروف، ووُلد الآخر بعد مائتين وخمسين سنة من ذلك التاريخ، وطوّل الله تعالى عمره إلى الآن، وندعو الله تعالى أن يمنّ علينا، وينوّر أعيننا بالنظر إلى جماله في عصر ظهوره، والأهمّ من ذلك، أن يكشف لنا عن ولايته وباطنه الحقيقيّين. فعليّ العصر هو حضرة بقيّة الله وحسب، وحسين العصر هو حضرة بقيّة الله وكفى، والإمام الصادق في هذا الزمان هو حضرة بقيّة الله فقط؛ فما الذي يعنيه هذا الكلام؟ يعني أنّ الشخصيّة التي يكمن اختلافها الوحيد مع الإمام الصادق في الوجود الخارجيّ هي شخصيّة إمام الزمان؛ بمعنى أنّ الاختلاف بينهما هو في الجسد فقط؛ فذلك الجسد وُجد قبل ألف ومائتي سنة، وهذا البدن موجود في عصرنا الحاليّ؛ لكنّهما متّحدان من جهة العلم، والإحاطة بالملك والملكوت، والإشراف على عالم الوجود بأسره؛ فالإمام الجواد في هذا العصر هو حضرة بقيّة الله، والإمام الهادي في هذا الزمان هو حضرة بقيّة الله، والإمام الحسن المجتبى في هذا الوقت هو حضرة بقيّة الله؛ فهذه هي حقيقة المسألة! فمن هو صاحب الإرشادات "شبه" النبويّة؟ إنّه إمام الزمان؛ لكن، أ فهل هو نبيّ؟! إنّ النبيّ يُمكن أن يكون له شبيه؛ فـ«شبه» تعني شبيه ومثيل ونظير؛ فالمسائل "شبه النبويّة" هي المسائل التي نسمعها من إمام الزمان فقط؛ وأمّا المسائل التي نسمعها من غيره، فهي عاديّة؛ ولهذا، فإنّ كلام الرسول الأكرم حيّ إلى أن تقوم القيامة، وكلام إمام الزمان عليه السلام حيّ إلى أن تقوم القيامة؛ بخلاف كلام بقيّة الناس، فإنّه يموت بأجمعه، اللهمّ إلاّ أن نأخذه منه صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ فحينئذ، لماذا نقول عنه إنّه كلام شبه نبويّ؟ بل علينا أن نقول إنّه عينه؛ فإذا كان كلامًا صحيحًا، وأخذناه عنه، فلنقل إنّه كلام الإمام، وكلام النبيّ، وكلام الإمام السجّاد، وكلام الإمام المجتبى، وكلام الإمام الجواد، وكلام الإمام الرضا؛ فلماذا ننسبه إلى أنفسنا؟ وأمّا إذا كان كلامًا مجانبًا للصواب، فإنّه سيكون عائدًا إلينا؛ وحينئذ، لماذا نقول عنه إنّه شبه نبويّ؟ ولماذا نقول إنّه شبه علويّ؟ أ فهل هذا هو أقصى ما بلغته مُدركات أمير المؤمنين عليه السلام؟ أ فهل هذا هو أقصى ما بلغته مُدركات سيّد الشهداء عليه السلام؟ فهذا الذي تعنيه كلمة «شبيه». هل تعلمون ما هو المراد من حسين العصر؟ المراد منه أنّ الفارق بينهما هو الزمان فقط؛ فهذه المدرسة [التي تدّعي ذلك] ليست هي مدرسة التشيّع، بل مدرسة الشعارات؛ لأنّ مدرسة التشيّع توجب المحافظة على المراتب.
شرف الإنسان في عبوديّته لله تعالى
يقول الإمام الصادق عليه السلام: لا تقل لي يا شريف، بل قل: يا أباعبد الله.. إلهي، كفى بي عزًّا أن أكون لك عبدًا، وكفى بي فخرًا أن تكون لي ربًّا؛ فهذا يكفيني، ولا أريد شيئًا آخر؛ فعزّتي وشرفي منحصران في أن أكون عبدًا لك، وأكون عبد الله؛ فهذا الذي يقوله الإمام الصادق: قل لي يا أبا عبد الله! وفخري الوحيد أن تكون لي ربًّا؛ وهذه بدورها مسألة مهمّة جدًّا.. {يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ}۱؛ فكم لنا نحن من ربّ؟ إلى ما شاء الله! فتعالوا بنا نعُدّ ذلك؛ فلنجلس يومًا ما في الغرفة، ونُغلق علينا الباب، ونأمر الأولاد بالتزام الهدوء، ونطلب من الآخرين عدم إزعاجنا ـ هل انتبهتم أم لا؟! ـ ونُفكّر في أنفسنا: كم لنا من ربّ؟ وما هو تعداد آلهتنا؟
اى هواهاى تو خدا انگيز | *** | ..................... |
[يقول: يا من اتّخذ هوى نفسه آلهةً تُعبد ........]
فكلّ هوى يأتيك يصنع لك إلهًا، وكلّ نزوة تحضُركَ تَنحَتُ لك إلهًا.
.................... | *** | وى خدايان تو خدا آزار |
[يقول: ................ إنّ آلهة هواك تُسخط عليك الإله]
وحينما تأتي تلك الأمور، تقوم بتنحية إلهك الحقيقيّ جانبًا.
أعتقد أنّ وقودي قد انتهى! وأنّني صرت أتحدّث بصعوبة، مع أنّ الكثير من المسائل لا زالت تحتاج إلى بيان؛ وكنت أظنّ بأننّي سأنتهي اليوم من الحديث عن هذا الموضوع.
ره رها كردهاى، از آنى گُم | *** | عزّ ندانستهاى، از آنى خوار |
[يقول: تنكّبتَ عن الدرب للحظة فضللتَ، وجهلتَ العزّ للحظة فلزمتك المذلّة]
كفى بي عزًّ أن أكون ...، أنتَ لم تعلم أين يكون العزّ؛ إنّ العزّ في العبوديّة أيّها المسكين! بينما أصبحت أنت ذليلاً، وصار واجبًا عليك أن تمّد يديك للجميع؛ فالإمام الصادق هو الذي يقول: قل لي يا أبا عبد الله! فهو أدرك العزّة؛ ولهذا، لا يهمّه أن يقول له كلّ العالم: «يا مسكين! يا كذا!»، بل سيقول: قولوا ما شئتم، وتحدّثوا بما يحلو لكم؛ لأنّني مأنوس بإلهي؛ ولتعمدوا أيّها المساكين إلى إضافة ألقاب إلى ألقابكم؛ فإن كان لديكم إثنان منها، فصيّروها ثلاثة؛ وإن كان لديكم ثلاثة، فاجعلوها أربعة: يا مالك رقاب كلّ العالم! يا حضرة فلان الفلانيّ! فاستزيدوا منها، ثمّ استزيدوا، واستزيدوا؛ لكن، حينما يأتي عزرائيل، فحتّى لو كانت لديك كومة من هذه الألقاب، فلن تنفعك، ولو بمقدار قشّة؛ هذا، مع أنّ مجيئه حقٌّ، ولا يُمكنك أن تتغاضى عنه؛ ولهذا، عليك أن تُفكّر في يوميك القادمين يا عزيزي! فاسعَ للتقليل من هذه الأمور! وانقص من حملك! وكن خفيفًا! واحذر من أن تُعرّضك هذه اللقاءات والاجتماعات للخسران! فما معنى عبارة «حضرة السيّد» التي اختلقوها؟ ومن يكون «حضرة السيّد» هذا؟! يكفي القول: السيّد الفلانيّ. علينا أن نكون حذرين ومنتبهين، وعلينا أن نجعل هذه المسائل نصب أعيننا؛ فنحن نريد ـ على حدّ زعمنا ـ أن نُطبّق ما قاله العظماء ببطء؛ وقد قلت لكم: هذا هو منهج العظماء، فما الذي سينقص منّا؟ وبحقّ، ما هو الشيء الذي سنفقده إذا لم يُنادوننا بحضرة السيّد؟ لا يا عزيزي! لن نفقد أيّ شيء، بل سنكسب أشياء؛ فإذا أردتم أن أكون فرحًا ومسرورًا وجذلاً، فاعلموا أنّ هذا هو الطريق لحصول لذلك؛ هل سمعتم؟ فهذا الأمر يصدق عليّ، وعلى الآخرين أيضًا.
وعلاوةً على هذه المسائل التي طرحتها عليكم، توجد مسائل أخرى قد نستعرضها إن شاء الله تعالى في الجلسات القادمة، ونتحدّث هناك عن الأضرار التي تُلحقها هذه الألقاب بنفس الإنسان؛ وأمّا أضرارها الاجتماعيّة، فيقع فيها بحث آخر، حيث قد تترتّب عليها العديد من الفجائع، والمصائب، والويلات، والجرائم، والانتهاكات؛ كما ينتج عنها تضييع الحقوق، والخداع، والانخداع، والسقوط في المهالك؛ فهذه بعض المفاسد الاجتماعيّة الناجمة عن هذه المسألة، بحيث إنّ جميع تبعاتها تنصبّ على الذي يُقصّر ويتهاون في مواجهتها.
نرجو من العليّ القدير ألاّ يُؤاخذنا بجرائمنا إن شاء تعالى، وأن يتولّى أمورنا في كلّ حال، وأن يتفضّل علينا بكلّ ما نحتاجه لكي نتقرّب إليه، وأن يحفظنا من الابتعاد ولو بمقدار ذرّة عن الطريق الحقّ الذي بيّنه لنا الأولياء والمعصومون، بحيث كان هذا الطريق يُمثّل منهجهم وديدنهم، ووصلوا به إلى الحقيقة، لا أنّهم اكتفوا ببيانه لنا فقط، بل سعوا إلى أن يبيّنوا لنا ما وصلوا إليه بكلّ وفاء، ومن دون إباء؛ فندعوك يا ربّ أن تقينا التساهل والتسويف في أداء هذه التكاليف، وألاّ تقصر أيدنا عن التمسّك بأذيال ولاية أهل البيت عليهم السلام، وألاّ تحرمنا في الدنيا من زيارتهم، وفي الآخرة من شفاعتهم.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد