المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالكثرات والاعتباريات
التوضيح
في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ لشرح فقرة «قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعَبد اللهِ» من حديث عنوان البصريّ الشريف، تحدّث سماحته عن مسألة الاتّصاف بالعناوين والألقاب، وأنّها تدور عادةً مدار الأمور الاعتباريّة والوهميّة، مبيّنًا في ضمن ذلك موقف الأولياء منها، وذاكرًا دورها في تغيير النفس، بل وحتّى انحرافها؛ ثمّ استعرض في ضمن ذلك علّة إطلاق الأولياء لبعض العبارات المختصّة بالأئمّة عليهم السلام على غيرهم، ليخلص في الأخير إلى أنّ التلقّب بالألقاب يخضع لحسابات خاصّة، لا سيّما بملاحظة دوره في إخراج الإنسان من حالة العبوديّة والفقر.
هو العليم
خطر الدخول في الاعتباريّات والوهميّات (التلقّب بالألقاب نموذجًا)
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣٦
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
قال إمامنا الصّادق عليه السّلام: «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه، واستَفْهِمِ اللهَ يفْهِمْكَ»، حيث تحدّثنا عن هذه الفقرة سابقًا؛ ثمّ جاء في الحديث: «قلتُ: يا شَريفُ! فقال: قُلْ يا أباعَبد اللهِ».
دوران العناوين والألقاب عادةً مدار الاعتباريّات والتوهّمات
كان الإمام الصادق عليه السلام يُكنّى بأبي عبد الله؛ فقال لعنوان: لا وجود هنا للشريف؛ وخلاصة القول، إذا أردت مناداتي، فلتنادني بأبي عبد الله؛ وهنا نرى الأخ "شريف" يضحك؛ لكنّ هذه المسألة لا ترتبط به هو؛ لأنّها وردت هنا كلقب [وليس كإسم]!! فلماذا يقول له الإمام الصادق: قل يا أبا عبد الله؟ أ فلم يكن عليه السلام شريفًا؟ أ فلم يكن عظيمًا؟ فلو عثرنا على عظيم في هذا العالم، لكان هو الإمام؛ لكنّنا في الوقت ذاته نجده عليه السلام يقول: أنا عبد الله، فنادني بكنيتي! إنّ هذا عبارة عن دستور أخلاقيّ يُريد منه الإمام عليه السلام أن يُجنّبنا الولوج في التعيّنات والاعتباريّات والمسائل المرتبطة بعالم الكثرة؛ لأنّ هذه الأمور لا تقف عند حدّ، وغير متناهية؛ فلو كتبتم سطرًا من العناوين والألقاب يبلغ طوله أربعة أمتار، لبقي مكان أيضًا لإضافة عناوين وألقابًا أخرى؛ لأنّها تنتمي إلى عالم الاعتبار والتخيّل والتوهّم؛ وهو عالم لا نهاية له، ولا يوجد أيّ حدّ يقف عنده؛ ولهذا، نجد الإمام الصادق يتصدّى لهذه الأمور منذ البداية؛ فلمّا أراد الشروع في بيان المسائل السلوكيّة، قال له أوّلاً: نحّ عنك الاعتباريّات، لأنّ السلوك لا ينسجم معها؛ فهما طريقان لا يلتقيان ببعضهما أبدًا أبدًا؛ فمسألة الاعتبارات والتخيّلات والتوهّمات لا تتلاءم مطلقًا مع الحقيقة والواقع ونفس الأمر. وكما أسلفنا الذكر، فإنّ مسألة السلوك تعني حذف الإنسان لكلّ ما سوى الله تعالى، ونسب كافّة المحامد والثناءات إلى الذات الإلهيّة المقدّسة؛ ولهذا، ما هو دور اللقب والعنوان هنا؟ وما هو دور حضرة فلان الدولة وأمثال ذلك؟ فإذا كانت القدرة ترجع إليه تعالى، وكذلك الشأن بالنسبة للعلم، والعزّة، والشرف، والجمال؛ وكان الأنس والمحبّة والمودّة والجاذبيّة وسلب القلوب والنفوس منسوب إليه تعالى بأجمعه، فما هو محلّ هذا العبد الحقير والفقير من الإعراب، لكي يُلصق به الناس هذه الألقاب والعناوين، ويحملونها عليه؟ ما هو محلّ الإنسان من الإعراب؟
ففي الزمن الماضي، كان لأولئك السلاطين شؤون خاصّة، واعتبارات محدّدة، ودائرة سلطة شخصيّة، بحيث لم يكُن لأيّ أحد الحقّ في ولوج هذه الدائرة، واقتحام ذلك الحريم الشخصيّ؛ ولهذا، كانوا يضعون لأنفسهم مجموعة من الألقاب والاعتبارات والعناوين، ويُقرّبون إليهم كلّ من يمنحهم ألقابًا أكثر؛ فكان الشعراء يأتون عندهم، ويقولون فيهم كلّ ما يحلو لهم: يا من الشمس والقمر قائمان بذاتك! ما معنى هذا الكلام يا عزيزي؟! فلو مات، لما علم بذلك جاره! فما معنى قولك: الشمس والقمر قائمان بوجودك؟! أو أنّ الفلك الدوّار يدور بلطفه؟! لا يا عزيزي! لو أُحيل التراب على مائة ألف مثله، لما تزعزع هذا الغصن من الشجرة الواقعة أمامنا عن مكانه، فما بالك بالفلك الدوّار! فإلى أيّ شيء يرجع ذلك؟ يرجع بأجمعه إلى الاعتبارات والتوهّمات والتخيّلات والتوهّمات والعناوين وأمثال ذلك؛ والعجيب أنّ هذه النفس كلّما منحتَها أكثر، قلّ في نظرها ذلك، وطلبت المزيد؛ ونعوذ بالله تعالى من هذه المسألة، وهذه المبالغات، والإفراطات التي تُهدّد الإنسان بخطر عظيم. ففي بداية الأمر، قد لا ينتبه الإنسان كثيرًا لهذه المسائل؛ لكن بالتدريج، يأتي الأشخاص المحيطون به وبطانته، ويُطلقون عليه مجموعة من الألقاب والعناوين؛ نظير: سماحة السيّد، وحضرة آية الله، وملجأ الإسلام ومداره، وقطب عالم الإمكان، وكذا وكذا، فيوقعونه في الانحراف، بحيث إذا جاء أحد، وتحدّث معه بكلام عادي وصريح ومن دون استعمال هذه المجاملات، فإنّه سيشعر بإحساس مختلف تجاهه؛ فلماذا طرأ عليه هذا التبدّل والتغيير؟ ولماذا لم يكن موجودًا في السابق؟ نرجو من الله تعالى أن يحفظ الإنسان من الوقوع في هذه المسائل التي تأتي بكلّ خفاء، وتقضي فيه على حقيقة العبوديّة والفقر والحاجة، بحيث متى ما واجهته حادثة من الحوادث العادية، فإنّها تبدو له سيّئة ومريرة.
عدم صحّة نسبة الصفات الإلهيّة لغير الله تعالى حقيقةً
إنّ لكلّ اسم معنى خاصًّا؛ ولهذا السبب، فإنّ الله تعالى يتوفّر في ذاته على صفات حقيقيّة ونفس أمريّة وواقعيّة، بحيث يكون له ـ بلحاظ كلّ معنى وصفة ـ اسمًا خاصًّا واقعًا وحقيقةً. فالله تعالى عالم حقيقةً، وغيره جاهل؛ وهو قادر، وغيره عاجز؛ مهما كان هذا الغير، ولو كان نبيّ آخر الزمان؛ فوجوده صلّى الله عليه وآله وسلّم المبارك وذاته المقدّسة أشرف من كافّة المخلوقات، ويُمثّل أوّل نقطة في عالم الوجود، والواسطة بين الوجود البسيط وذات الحقّ الأحديّة، وبين عالم الواحديّة وانبساط نور الوجود على جميع التعّينات والمرايا؛ لكن، مع ذلك، حينما يقف في مقابل قدرة الله تعالى، فإنّه عجز محض، وهو عاجز؛ لأنّ القدرة تختصّ بذات الباري عزّ وجلّ، وغيره عاجزون برمّتهم حقيقةً وواقعًا؛ ومعنى ذلك أنّ القدرة ملك حقيقيّ لله تعالى، والعجز مختصّ حقيقةً وبالحمل الشائع الصناعيّ ـ بحسب ما يصطلح عليه طلبة العلم ـ بغيره؛ والجمال مختصّ حقيقةً بذاته تعالى، والقُبح مختصّ حقيقةً بهذه الماهيّات والتعيّنات.
سيه رويى ز ممكن در دو عالم | *** | جدا هرگز نشد، والله اعلم |
[والمعنى: سواد الوجه لا يُفارق الممكن أبدًا في كلا العالمَين.. عالم الدنيا والآخرة، والله أعلم.]
فالمراد من سواد الوجه تلك الحقيقة الظلمانيّة التي تُحمل على كافّة الماهيّات عند عدم ارتباط وجوداتها الخارجيّة المتعيّنة بذلك الوجود البسيط، وبغضّ النظر عن حقيقة الوجود ونوره؛ فهذا هو معنى سواد الوجه. فاللطف مختصّ بذات الحقّ؛ والسلطنة والملك مختصّان أيضًا به تعالى، بينما بقيّة المخلوقات مملوكة بأجمعها. فإذا نظرنا إلى أيّة صفة من الصفات الحسنة، سنجد لها ما بإزاء في الخارج يكون مختصًّا حقيقةً بذات الباري، ويكون ضدُّه مختصًّا حقيقةً بغيره عزّ وجلّ؛ فهذا الجانب متعلّق حقيقةً بالله، وضدّه متعلّق حقيقة بغيره تعالى. حسنًا، إلى هنا لا يوجد أيّ إشكال؛ لكنّنا نأتي إلى ما يختصّ حقيقةً بذات الحقّ تعالى، ونُلصقه حقيقةً بغيره؛ وحتّى لو أردنا أن نمنّ على الله كثيرًا، ونعطف عليه، فإنّنا لن نقول عنه أنّه عاجز، أو أنّه جاهل ونحن علماء ـ مع أنّ البعض قد يقول ذلك أيضًا ـ ولن نقول عنه أنّه عاجز ونحن قادرون، أو أنّه مسودّ الوجه ونحن جميلون، أو أنّه مملوك ونحن مالكون؛ أجل، يبقى أنّ فرعون كان يلجأ حتّى إلى هذه الأفعال، أو نمرود على ما يبدو؛ فواحد منهما قال: سأطلق سهمًا على الله، لكي يظلّ هناك إله واحد في العالم؛ وهي ذاتي المقدّسة! فصنع سلّمًا، وصعد إلى الأعلى، وأطلق السهم!! فانظروا بحقّ إلى أيّ شيء يؤول أمر الإنسان! وهنا، قد يقول الباري تعالى: لا بأس! قل عن نفسك أنّك مالك، لكن، لماذا تُريد طردي من مملكتي؟! ولماذا تُريد إخراجي من سلطاني؟! لا بأس، اعتبرني إله السماء، وأنت إله الأرض، وسيأتي يوم نُصفّي فيه حساباتنا! لكنّ الإنسان لا يكتفي بهذا المقدار، بل يقول: «لا ينبغي أن يكون هناك غيري!»؛ وحينئذ، نأتي، وننسب هذه الألقاب والعناوين والمسائل والصفات المختصّة بذات الحقّ إلى أنفسنا؛ أ وليست هذه خيانة؟! فالمولى ـ بما هو مدبّر للأمور وخالق للعباد ولكافّة المخلوقات ـ هو الله تعالى، غير أنّنا نأتي، ونُطلق هذا الاسم على أنفسنا، ونقول: أنا المولى. فالمملوك يُقال للذي يدخل تحت طاعة المولى وأمره؛ لكن، من الذي أدرك هذا المعنى؟ إنّه أمير المؤمنين.. إلهي، أنت المولى وأنا المملوك، وهل يرحم المملوك إلاّ المولى؛۱ فهو الذي أدرك هذه المعاني؛ ولهذا، لا يُمكن لأحد أن يخدعه؛ فلو جاء ألف من الناس، وقالوا له: يا آية الله العظمى! أيّها الإمام الأوّل والأخير! لبقي ينظر هكذا، من دون أن يهتمّ؛ هذا مع أنّه كان فعلاً كذلك، وسأبيّن لاحقًا بأنّ لقب آية الله العظمى مختصّ به فقط؛ فلو قلت له: أيّها الواسطة في عالم الوجود! لقال لك: وماذا بعد؟! أجل، أنا الواسطة في عالم الوجود، لكنّك لن تستطيع خداعي بهذا الكلام؛ فكما أنّني الواسطة في عالم الوجود، فإنّني أيضًا الإمام الأوّل والأخير، وعالم بما كان وما يكون، ومطّلع على الغيب.. فأنا ذلك كلّه، لكنّني في الوقت ذاته فقير ومملوك؛ وهو معنى مكنون في قلبي؛ فلتقل حينئذ كلّ ما يحلو لك! لكن، للأسف، فإنّ قلوبنا خالية من هذا المعنى؛ ولهذا، تجدنا نتغيّر ونتبدّل بأقلّ لقب وعنوان يُطلق علينا؛ وهي حقيقةً واضحة للعيان؛ وهذا هو الذي علينا أن نعثر له على حلّ، ونتصدّى له؛ فلو جاء شخصان، وقالا لك: أيّها السيّد الفلاني والعلاّني، ولقبّاك بعنوانين، فإنّك ستقول: أنا لا أستحقّ ذلك، ما هذا الكلام؟ ثمّ يأتي ثالث، ويُلقّبك بهما أيضًا، فتقول: أنا لست أهلاً لذلك؛ ويأتي رابع وخامس وسادس؛ ثمّ يمرّ أسبوع، ويأتيك أحدٌ فجأة، ويقول لك: كيف حالك يا حسن؟ فإنّك ستعترض عليه [ولو في باطنك]؛ فما الذي حصل؟ فأنت بنفسك كنت تقول قبل أسبوع: أنا لست أهلاً لذلك! فكيف حصل هذا؟ لقد حصل تدريجيًّا ووبطء؛ فهذا هو حالنا، ونحتاج إلى الكثير حتّى نصير مثل أمير المؤمنين.. مثل أمير المؤمنين؟ هيهات! أو نُصبح مثل أصحابه عليه السلام؛ بل حتّى هذا لا يُمكننا أن نطمع فيه؛ وعلينا ألاّ نُفكّر فيه بتاتًا، ولا نُتعب أعصابنا ونزعج أنفسنا من دون طائل، ولا نسعى إليه أبدًا؛ لا، فيكفي أن تأتي نفحة من لطف وعناية قنبر غلام أمير المؤمنين، وتهبّ علينا، لكي تغنينا في الدنيا والآخرة.
فما هي علّة كلّ ذلك؟ علّته أنّ باطننا لم يصلح بعدُ، ولم يُصبح خالصًا لحدّ الآن؛ ونحن على خطأ كبير إن اعتبرنا أنّ الأمر قد تمّ، وبأنّنا قطعنا الطريق، و...؛ لا يا عزيزي، فهذا العظيم [أي الشيطان] لا يدعنا وشأننا بهذه السرعة! ولا يتركنا بهذه السهولة! وقد ثبت هذا الأمر بالتجربة!! لا يا عزيزي، أنّى لنا ذلك! وفي هذه الحالة، تأتي تلك العناوين والاعتبارات، وتسلب منّا حالة العبوديّة والفقر، وتُحلّ محلّها حالة الانطواء على النفس، والغور في الذات، وعزلها داخل جدار، وكبتها، وقطع علاقتها بأصل الوجود وحقيقته.
موقف الأولياء من التلقّب بالألقاب والعناوين
رحمة الله تعالى على أحد المشايخ الذين كانوا يعتلون المنبر في زمان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه، ولعلّ بعض الرفقاء يذكرونه؛ وهو المرحوم السيّد ضياء الدين التقويّ الشيرازيّ رضوان الله تعالى عليه؛ فقد كان رجلاً فاضلاً جدًّا، وذا علم غزير، وكان يُدرّس الأسفار في مدرسة سبهسالار، وأستاذًا للمعقول والمنقول؛ وكان شيخًا لطيفًا جدًّا، وقد بلغ من الكبر عتيًّا؛ فكان يأتي للمسجد في شهر رمضان المبارك؛ وهذا الذي أذكره؛ إذ كان سنّي صغيرًا في ذلك الوقت؛ فكان أكثر كلامه يدور حل المسائل الأخلاقيّة والتاريخيّة وأمثال ذلك. وبعد أن ينتهي من خطبته، وينزل من المنبر، كان يذهب برفقة المرحوم العلاّمة، حيث يوصلهما أحد الأشخاص معًا، فيذهب به أوّلاً إلى بيته، ثمّ يذهب بنا بعد ذلك إلى المنزل الواقع في تلك المنطقة؛ فكنت أسمعه أحيانًا ـ وقد حصل ذلك لمرّات عديدة ـ يقول للمرحوم العلاّمة: «يا سيدّي! لماذا لا تسمح لي بالثناء عليك من أعلى المنبر؟ ولماذا ينبغي عليّ عدم ذكر هذه الحقيقة التي أراها بنفسي؟»؛ فكان يقول له: «لا أيّها السيّد! أنا لا أرضى بذلك!»؛ هذا، مع أنّه لم يكن يجامله، بل كان يقول له بجدّ: أنا لا أقبل بذلك. فقد كانت العادة تقتضي في كلّ مسجد أنّه إذا لم يقم الخطيب بالثناء على إمامه، فإنّه لن يُستدعى في المرّة القادمة؛ وحتّى أنّني أذكر ذات يوم أنّنا ذهبنا لمسجد "لالة زار" من أجل المشاركة في مجلس عزاء أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة؛ وكان ذلك في عصر السابع أو الثامن من أيّام عاشوراء؛ فاعتلى المنبر شيخ، وألقى خطبته، ونزل من المنبر؛ وحينما أردنا مغادرة المسجد، جاء عند المرحوم العلاّمة، وقال له: «أعتذر منكم كثيرًا يا سيّدي، وأنا خجلان منكم جدًّا؛ لأنّني لم أتمكّن من أداء حقّكم؛ فأنا لم أكن عالمًا باسمكم الشريف»؛ فقال له المرحوم العلاّمة: «لا داعي لذلك! فجميع هذه الأفعال خاطئة؛ ولهذا، لا ينبغي عليك ذكر اسمي أنا، ولا اسم غيري»؛ فأطرق ذلك الخطيب برأسه للأرض، وقال: «أشكركم كثيرًا». لقد قال له المرحوم العلاّمة بكلّ صراحة ومن دون مواربة: «لا داعي لذلك! فجميع هذه الأفعال خاطئة»؛ فلم يكن من دأبه أن يسمح لأحد بمدحه من على المنبر، لكنّ ذلك الرجل الفاضل [السيّد ضياء الدين التقويّ الشيرازيّ] لم يُعجبه أن يرى مثل تلك الشخصيّة ومواقفها تجاه مختلف الظروف وفي مختلف المجالات، [ولا يتعرّض للحديث عنها]؛ وكأنّه كان يحسّ بنقص في خطبته؛ إلى أن حلّ أحد الأيّام، ونفذ صبره؛ فاعتلى المنبر، وبدأ يتحدّث عن المرحوم العلاّمة، ويقول: إلهي! مُدّ ظلّ هذا الرجل العظيم الذي لا مثيل له، وأبقه تاجًا على رؤوسنا! فردّ الحاضرون: إلهي، آمين! فأطرق المرحوم العلاّمة برأسه إلى الأرض؛ ثمّ قال ذلك الخطيب بنفسه: «لم أعد أتحمّل أيّها السادة! فهو لا يُجيز لي مدحه والثناء عليه، لكنّنى أرى نفسًا مكلّفًا بذلك؛ فإلى متى أصبر؟!»؛ ومع أنّني كنت طفلاً صغيرًا أبلغ من العمر ثمان أو تسع سنوات تقريبًا، إلاّ أنّني أذكر تمامًا عباراته هذه، والتي كان يقولها بغضب؛ وكأنّه غاضب من المرحوم العلاّمة! فكان يقول: «أنا لديّ تكليف أيّها السيّد! فما معنى [هذا المنع]؟!».
فهذا هو دأب العظماء؛ إذ كانوا على حذر من الدخول في هذه الاعتبارات، وكانوا يسعون إلى بيان ذلك بكلمات وبيانات مختلفة؛ وخلاصة القول أنّ هذه المسألة دقيقة جدًّا؛ وليس من السهل أن يقول الإنسان: إنّ التكليف والشعائر وعظمة الإسلام وغيرها [تقتضي هذه الألقاب والعناوين].. لا يا عزيزي! إنّهم يسعون لخداعك! فما دخل عظمة الإسلام بذلك؟ فلو أنّهم لم يمنحونك هذه الألقاب، هل سيُقضى على الإسلام؟ أ ولسنا نتذكّر تلك الألقاب التي كانت تُطلق على صاحب الجلالة [الشاه]، حيث كان يُلقّب بالسلطان الأعظم وملك الملوك؟ وحتّى أنّني أذكر بأنّهم طبعوا على الأوراق في ذلك العهد عبارة «السلطان ظلّ الله في أرضه»، ووضعوها على الأبواب والجدران.
پادشه سايه خدا باشد | *** | سايه از اصل كى جدا باشد؟ |
[والمعنى: السلطان ظلّ الله، وهل يُمكن أن ينفصل الظلّ عن أصله؟]
فما الذي حصل لكلّ هذه الأمور؟ لقد كانت بأجمعها مجرّد كلمات، ومجرّد اعتبارات وتخيّلات؛ والتخيّل والاعتبار ينقضيان في يوم واحد؛ وأمّا السلطان الحقيقيّ، فمن يكون؟ هو ذاك الذي يبقى إلى الأبد؛ فقد كان ملكًا مطلقًا، وسلطانًا، ومالكًا على الدوام؛ وهو الآن كذلك، وسيبقى هكذا إلى الأبد؛ وأمّا غيره، فمجرّد خيالات واعتبارات؛ فإذا نظرتم إلى الكتب والرسائل التي تُدوّن، سترون أيّة ألقاب وعناوين توضع فيها؛ فهل هي فعلاً وحقيقةً كذلك؟ فهل أدركنا معنى آية الله؟ وفهمنا المراد من آية الله العظمى؟ واستوعبنا هذه العناوين التي نضعها، وننسبها إلى أنفسنا؟ أم أنّنا نمرّ عليها هكذا، وبنحو مشوّش، ومن دون أيّ فهم أو إدراك؟
نماذج لمسألة الخوض في الكثرات والأمور الاعتباريّة
يستعرض أمير المؤمنين عليه السلام خطبة في ذيل سورة {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ* حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ}۱ المباركة، حيث ترجع حكاية هذه السورة إلى خلاف وقع في عصر الجاهليّة بين قبيلتين بخصوص أيّهما يتوفّر على عظماء وشجعان أكثر؛ فلجؤوا إلى الإحصاء والعدّ، فرجحت كفّة إحدى القبيلتين على الأخرى، لكنّ القبيلة المغلوبة لم تقبل، ودعت إلى إحصاء الأفراد الذين ماتوا أيضًا؛ فذهبوا إلى المقبرة، وبدؤوا يفتّشون القبور واحدًا واحدًا، وينظرون إلى شواهدها، ليعيّنوا إلى أيّة قبيلة ينتمي، إلى أن فازت إحداهما على الأخرى؛ لأنّ موتاها كانوا أكثر؛ وخلاصة القول، أنّهم كانوا يفتخرون بمثل هذه الأمور؛ فجاءت الآية تقول: {أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ}؛ فانظروا ماذا فعل بكم التكاثر؟ إنّ هذا الميّت هو الآن في صدد تقديم حسابه في ذلك العالم، وجئتم أنتم، لكي تفتخروا بعظامه النخرة! {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ}، وبدأتم في عدّ القبور {كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ}٢؛ فالمسألة ليست بهذا النحو؛ وإذا كنتم لا تستوعبونها الآن، فستستوعبونها لاحقًا؛ لكن، في ذلك الحين، سيكون الأوان قد فات، ولن تعود هناك أيّة فائدة؛ ولهذا، من الأحسن أن ينتبه الإنسان الآن، ويُدرك حقيقة الأمر؛ فهذا هو المراد من التكاثر. فالتكاثر والخوض في الكثرات يعني أن ينسب الإنسان إلى نفسه تلك المسائل التي لا علاقة له بها، وينسب إلى غيره الأمور التي ترتبط به هو؛ كأن يصير لديّ اهتمام بمعرفة من ينبغي عليه الدخول للمجلس: أنا أو فلان، ويُصبح النزاع قائمًا حول مسألة أيّنا يأتي مبكّرًا أو متأخّرًا؛ فإذا لاحظتم الآن ما يحصل في المنتديات الدوليّة، سترونهم يقولون: إن أراد أيّ واحد من طرفي النزاع [مثلاً] الدخول إلى مكان الجلسة، عليه ألاّ يأتي قبل الطرف الآخر، بحيث يصير في حكم المستقبِل.. أليس كذلك؟ وإلاّ، فإنّ ذلك سيُعدّ انتقاصًا من الطرف الآخر وكسرًا لشأنه؛ ولهذا، فإنّهم يجعلون في هذه الأمكنة بابين؛ فيضعون مثلاً طاولة الحوار أو المؤتمر في الوسط، ويجعلون البابين في مقابلها، ويصطفّ الطرفان وراء البابين؛ ثمّ ينفتح هذا البابان فجأة وفي لحظة واحدة، لكيلا يدخل إلى القاعة أحد الطرفين قبل الآخر، بل يدخلان معًا وفي نفس الوقت؛ فما هي علّة ذلك؟ إنّها الدنيا! وإلاّ، فما هو الفارق بين أن تأتي أنت أوّلاً، أو يأتي هو؟ ففي نهاية المطاف، سوف تجلسان، وتتحدّثان، وتتحاوران.
حضرتني الآن مسألة لا بأس من ذكرها؛ فأثناء الحرب العالميّة الثانية، حينما أنزل الحلفاء قوّاتهم في اليابان وتلك المناطق الواقعة في الشرق الأقصى، تقرّر أن يلتقي في إحدى الجزر اليابانيّة قائد الجيش الأمريكيّ بالرئيس الأمريكيّ آيزنهاور على ما يبدو؛ فحدّدوا يومًا معيّنًا لهذا اللقاء. فالطرف الأوّل كان هو قائد الجيش الذي تغلّب على الأعداء؛ ولهذا، فقد كان يحظى بمكانة خاصّة جدًّا ومقامًا رفيعًا من ناحية سياسيّة واجتماعيّة، وبالنظر إلى الأعراف الدوليّة؛ وأمّا الطرف الثاني، فقد كان رئيس الجمهوريّة، ومكانته معروفة؛ فجاءا، ووصلا إلى محلّ اللقاء، بحيث كان كلّ واحد منهما يُخطّط لوصول خصمه أوّلاً، حتّى يصدق عليه حكم المستقبِل. وفي تلك الأثناء، وصلا معًا وفي نفس اللحظة إلى مطار تلك المدينة؛ ولا أعلم هل حصل ذلك حقيقةً، أم بحسب الاتّفاق والصدفة؛ فيٌقال إنّ تلك الطائرتين ظلّتا تُحلّقان في سماء المطار لمدّة نصف ساعة، وكلّ واحد منهما يأمر الآخر بالنزول أوّلاً؛ إلى أن أُجبرت في الأخير طائرة ذلك القائد على النزول أوّلاً؛ فقام آيزنهاور على الفور بعزله من منصبه؛ وذلك بسبب تصرّفه الوقح تجاه الساحة المقدّسة لرئيس الجمهوريّة.
وأمّا الحادثة الأخرى، فتتعلّق بشيخ من المشايخ أتى إلى مدينة، فجاء الناس لزيارته؛ وبعد انتهاء لقائه بهم، بدأ هو في مبادلتهم الزيارة، فاتّصلوا بأحدهم، لكي يأتي ذلك الشيخ لزيارته، لكنّه رفض، وقال: «بما أنّه ذهب لزيارة فلان قبل يومين، فإنّ ذلك يُعتبر إهانة في حقّي؛ لأنّ منزلتي أرفع من منزلته، فكان عليه أوّلاً أن يأتي لزيارتي أنا!»؛ فرفض أن يأتي لزيارته، ولم يتمّ ذلك اللقاء. فهل انتبهنا الآن إلى أنّ حكايتنا واحدة؟ وأنّ الأمر لم يختلف بالنسبة إلينا؟ فنفس الفعل الذي قام به الرئيس الأمريكيّ وقائد جيشه ـ واسمه على ما أتذكّر ماك آرتور، وقد كان قائد الجيش في الشرق الأقصى الذي تغلّب على اليابان ـ هو الذي نقوم به نحن؛ فكلا الفعلين على نسق واحد، ولا يختلفان أبدًا: لماذا يتقدّم هذا؟ ولماذا يتأخّر ذاك؟
جميع النفوس واحدة والاختلاف في الصور فقط!
في أحد الأيّام على عهد المرحوم العلاّمة، أراد رضوان الله تعالى عليه أن يبعث برسالة إلى أحدهم؛ وحينما طالعت الرسالة، قلت له: «يا سيّدي، ما هذه الألقاب التي وضعتها فيها؟»؛ فقال لي: «يا سيّد! إلّم أفعل ذلك، فلن يُسلّمونها له». وبحقّ، إذا أردنا التفكير في هذه المسألة، سنراها مشابهة في حقيقتها لتلك؛ ولهذا السبب، كان المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه يقول مرارًا وتكرارًا طيلة أيّام حياته: «إنّ النفس يا عزيزي واحدة، والفارق في الصور فقط!»؛ فالنفس التي أمتلكها أنا هي بعينها النفس التي تمتلكها أنت، ويمتلكها زيد، وعمرو، واليهوديّ، والنصرانيّ، والسلطان، ورئيس الجمهويّة، والوزير، والحارس، وذلك العامل في المعمل الكذائيّ، وذلك العالم الفلانيّ، وصاحب الرسالة العمليّة الفلانيّ.. فجميع هذه النفوس واحدة، والاختلاف في الصور فقط؛ فأنا أضع على رأسي عمامة، بينما ذاك يضع على رأسه قبّعة؛ وأنا أرتدي قباء وعباءة ورداء، بينما يرتدي هو قميصًا وسروالاً؛ فهي عبارة عن صور مختلفة، لكن، ماذا عن الباطن؟ هل هو مختلف أيضًا؟ أي: إذا ارتديت عباءة ورداء، هل إنّ باطني أيضًا سيرتدي هذا اللباس، أم أنّه سيطوي مسيرته الخاصّة من دون أن تكون له أيّة علاقة بذلك اللباس؟ أ فلم يعمد فضلاء المدرسة الفيضيّة بعينهم إلى نزع عمائمهم، وارتداء القبّعة، وشدّ الزنّار، وتقلّد منصب رئيس المحكمة، وغيرها من المناصب في مؤسّسات الدولة؟! فهؤلاء بأنفسهم هم الذين أقدموا على هذه الأفعال! أ فلم يكن السيّد حسن تقي زادة من المعمّمين؟ وكذلك الشأن بالنسبة للسيّد حسن تديّن.. رئيس المحكمة العليا الأنيق الذي قال ذات يوم لرضا شاه: «إنّ صاحب الجلالة لا يُعطينا رواتبنا كاملةً»؛ فقال رضا شاه: «يا له من لعين! لقد أعطيته وزنه من الأوراق النقديّة ذات المائة تومان ـ مع ملاحظة أنّ ذلك حصل في ذلك العصر ـ ولا زال يطلب منّي النقود؟!»؛ فمن كان هؤلاء؟ كانوا من الذين وضعوا العمائم على رؤوسهم، ومن فضلاء مدرسة دار الشفاء، والمدرسة الفيضيّة؛ فما هي علّة هذا الأمر؟ علّته أنّ النفس واحدة؛ فالنفس هي النفس؛ وحينما لا تُربّى هذه النفس، فإنّها تؤدّي إلى تغيّر الصورة بنحو هاديء جدًّا؛ فينزع الإنسان العمامة، ويضع القبّعة بدلاً عنها، ويحلق لحيته، وعوضًا عن ذلك، يشدّ الزنّار، وينزع لباسه، ويستبدله بلباس آخر؛ فالمسألة واحدة.
قبل فترة من الزمان، كنت مارًّا من أحد شوارع قمّ، فرأيت رسالة عمليّة ـ ولم أكن مطّلعًا عليها من قبل ـ مكتوب عليها: «رسالة العبد محمّد تقيّ البهجة»، حيث كانت من تأليف الشيخ البهجة سلّمه الله تعالى۱.. انظروا؛ فكما أنّ الكثيرين صنّفوا رسالة عمليّة، فقد فعل هو أيضًا الشيء ذاته؛ لكن، ماذا وضع عليها؟ لم يضع عليها سماحة آية الله، ولا حجّة الإسلام والمسلمين، ولا آية الله في العالمين، ولا آية الله العظمى في السماوات والأرضين، ولا...، فلا وجود لمثل هذا الكلام بتاتًا، بل وضع عليها: العبد محمّد تقيّ البهجة؛ وحينئذ، هل نستطيع القول إنّ ذلك قد حطّ من قيمته ومكانته؟ أم على العكس أنّه رفع من مقامه وقيمته؛ غاية الأمر أنّ الآخرين لا يفهمون، ولا ينتبهون، ويعطون القيمة لأمور أخرى؟ الحقّ أنّه يرفع كثيرًا من مكانته. هل تعلمون من هو آية الله؟ إنّه ذاك الذي يدلّ على الله تعالى، ويحكي عن ذلك المبدأ؛ فالآية تعني العلامة والدليل؛ وحينئذ، من الذي تتسنّى له الدلالة على الله تعالى؟ فهل هو ذاك الذي انغمر بكلّ وجوده في التخيّلات والاعتبارات والأهواء والتوغّل في عالم الكثرة والخوض في الكثرات، واكتفى بالتنسيق بين معادلتين أو ثلاث معادلات لاستنباط حكم فقهيّ متكّيء على الظنّ بنسبة تسعين في المائة، ولجأ للاستعانة ببعض الاستصحابات والأصول الكذائيّة، لكي يستخرج من ذلك بعض الأحكام؛ لا يا عزيزي! فالمسألة ليست بهذا النحو، ولا يُعدّ هكذا شخص آية لله تعالى؛ إذ يُطلق هذا العنوان على الإنسان الذي إذا نظرتم إليه: يُذَكِّرُكُم الجنّة؛ فهذا هو آية الله؛ فحينما ينظر الإنسان إليه، يُذكّره الجنّة، ويُحيي العوالم الربوبيّة في وجوده، ويسوقه نحو ذلك المبدأ وتلك الذات المطلقة واللامتناهيّة للباري تعالى؛ وليس هو الذي حينما تُجالسه، يأخذ ثلاث ساعات في الحديث يمينًا ويسارًا، وارتكاب الغيبة والبهتان، بحيث حينما يخرج الإنسان من عنده، يجد بأنّه أضاف أثقالاً على أثقاله؛ فأيّ واحد منهما يكون آية الله؟
علّة إطلاق الأولياء لبعض العبارات المختصّة بالأئمّة عليهم السلام على غيرهم
حينما ارتحل المرحوم الأنصاريّ رضوان الله تعالى عليه عن الدنيا، كتب المرحوم العلاّمة في حقّه عبارة؛ وهي ذاتها المنقوشة الآن في قبره، حيث قال فيها: هذا المرقد الشريف وكذا وكذا لحضرة آية الله العظمى وحجّة الله الكبرى المرحوم الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ؛ فاستثقل الكثيرون هذه العبارة؛ إذ قد نستطيع تحمّل وصفه بآية الله العظمى؛ لأنّه يُطلق على العديد من العلماء؛ لكن، كيف يُمكننا تبرير وصفه بحجّة الله الكبرى؟ لأنّ حجّة الله الكبرى هو الإمام عليه السلام؛ ولهذا، فقد قام البعض بمحو هذه العبارة من خلال صبّ بعض الموادّ عليها؛ فجرى تنظيفها، وجاءت مجموعة أخرى، وسعوا إلى محوها مرّة أخرى، و...؛ والحاصل أنّ العديد من الأشخاص تردّدوا على شاهد قبر المرحوم الأنصاريّ، وسعوا إلى محو تلك العبارة وتعديها وأمثال ذلك. وهنا، علينا أن نرى ما هو السبب الذي دفع المرحوم العلاّمة لمنح هذا اللقب للمرحوم الأنصاريّ؟ وهل يجوز ذلك، ويقبل التبرير، أم أنّ المسألة هي بنحو آخر؟ فقد بينّا سابقًا أنّ مسألة تحقّق الصفات الحسنى في الذات الإلهيّة بنحو حقيقيّ هي مسألة لا تحتاج إلى دليل أو برهان؛ أي إنّ جميع هذه الصفات تختصّ ـ أوّلاً وبالذات ـ بالذات الإلهيّة المقدّسة، بحيث تكون لها حقيقةٌ في هذه الذات بالحمل الشائع؛ غاية الأمر أنّ هذه الصفات تنعكس في مخلوق من مخلوقات الله تعالى، فتصير ذاته مرآة للذات الإلهيّة؛ فإذا كانت لدينا ذات متّصفة بعلم مفاض مباشرة من تلك المقامات العلويّة، وكانت عبارة عن مرآةٍ منزّهة عن كلّ رين، ولم تكن مممزوجة بتاتًا بمسائل عالم الكثرة، ولا مشوبة بالأمور المشينة، فإنّ هذه المرآة ستكتسي طابع الآيتيّة والمرآتيّة بالنسبة لصفات الحقّ؛ وذلك نظير مرآة رسول الله، ومرائي الأنبياء العظام، ومرائي الأئمّة عليهم السلام، ومرائي الأولياء؛ والذين انمحوا وفنوا في الذات الأحديّة المقدسّة، فلم تُعد لنفوسهم أيّة دخالة ووساطة في تلقّي تلك الصفات؛ ولهذا، إذا تمكّن أحد من بلوغ مرتبة الفناء الذاتيّ، وصارت نفسه مطهّرة ومنزّهة بنحو مطلق عن شوائب عالم الكثرة برمّتها، فإنّ جهة الآيتيّة ستتجلّى في ذاته؛ ليصبح بذلك آية إلهيّة؛ وفي هذه الحالة، حينما تنظر إليه، فكأنّك تنظر إلى الله تعالى الذي تنزّل إلى هذا العالم في قالب بشريّ، وصار يتحدّث مع الناس؛ هل هذا واضح؟ وحينما يطرح هكذا إنسان مسألة معيّنة، فإنّك لا تلحظ فيها أيّ خلط بين الكثرة والوحدة، ولا أيّ مزج للحقّ بالباطل؛ فلا يخرج من فمه إلاّ الحقّ المحض؛ وهذا هو الذي يكون آية.
ذات يوم، كنت بمحضر المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله تعالى عليه، وكان المرحوم الوالد متواجدًا هناك أيضًا، وكذلك الشأن بالنسبة لجدّنا من جهة الأمّ.. الحاجّ السيّد معين الشيرازيّ رحمة الله تعالى عليه؛ والذي طرح سؤالاً على السيّد الحدّاد، لكنّ المرحوم العلاّمة هو الذي أجابه؛ فكان سؤاله بالنحو الآتي: لدينا رواية عن الأئمّة عليهم السلام بخصوص زيارة شهداء كربلاء [أصحاب سيّد الشهداء عليه السلام] جاء فيها: «السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّاءه، السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه، السلام عليكم ...»؛ ثمّ ورد فيها بعد ذلك: «بأبي أنتم وأمّي»؛ فكيف للإمام عليه السلام أن يأتي إلى مزارهم المطهّر، ويقول: بأبي أنتم وأمّي؟ فهذا يدلّ على أنّه عليه السلام يُريد فقط أن يُعلّمنا نحن ما الذي نقوله حينما نأتي لزيارة هذه المقامات، وإلاّ، فلا معنى أن يقف الإمام عليه السلام أمامهم، ويقول ذلك الكلام [حقيقةً]! فقال المرحوم العلاّمة في جوابه عن هذه المسألة: لا، لا يوجد أيّ إشكال في ذلك؛ ولا يوجد أيّ تناقض في أن يأتي الإمام عليه السلام بنفسه، ويذكر تلك العبارة؛ والسبب في ذلك أنّ تلك الأرواح المطّهرة المدفونة هنا لا تعُد لها أيّة جهة استقلاليّة؛ فحينما دخلوا في خيمة الإمام الحسين، وخضعوا لولايته عليه السلام، فقد صاروا عين الإمام الحسين؛ وهذا لا يعني أنّ كلّ واحد منهم صار بحدّ ذاته الإمام الحسين؛ وذلك لأنّه عليه السلام واحد، وليس لدينا إثنين منه، بل المراد من ذلك أنّهم تخلّصوا من جهة الغيريّة التي كانت لهم بالنسبة لسيّد الشهداء، وأصبحوا فانين في ذاته وولايته عليه السلام؛ ولهذا، فإنّ حبيب بن مظاهر لا وجود له الآن في الحقيقة، ومسلم بن عوسجة ليس له الآن أيّ وجود منفصل، ولا وجود مستقلّ الآن لبُرير، ولم يعُد الآن لعابس أيّ وجود منعزل، وليس لحضرة أبي الفضل وحضرة عليّ الأكبر أيّ وجود الآن؛ فالآن، هناك سيّد الشهداء وحسب! والآن هناك الإمام الحسين وكفى، ولم يعُد لغيره أيّ وجود. فحينما نقفهم أمامهم، ونقول: بأبي أنت وأمّي، فكأنّنا نقولها لسيّد الشهداء، وليس أنّنا نلحظهم بنحو مستقلّ عنه عليه السلام، ثمّ نُخاطبهم بتلك العبارة؛ وإلاّ، لو كانوا مستقلّين، لما كان أيّ معنى لأن يُخاطبهم إمام الزمان عليه السلام بها، ولو من باب المجاملة، أو إبداء الشكر والامتنان؛ لأنّ ما يصلهم الآن إنّما يصلهم من نافذة نفس إمام الزمان؛ فتلك الفيوضات التي يحصل عليها حبيب الآن تصله من ناحية إمام الزمان؛ وحينئذ، كيف يُمكنه له عليه السلام أن يقول له: بأبي أنت وأمّي؟! فهذا لا يصحّ؛ ومن هنا، فإنّ إمام الزمان واقف في الحقيقة أمام سيّد الشهداء، ويقول: بأبي أنتم وأمّي؛ فلا وجود هنا لحبيب بتاتًا؛ وعلى أيّ تقدير، فإنّ هذه المسألة عويصة وثقيلة على الأفهام، [وتحتاج إلى تفصيل أكثر]، لكنّ الجلسة قد شارفت على الانتهاء.
فذلك الوليّ الذي صار خاضعًا للولاية هو الذي بلغ مرتبة الآيتيّة، ووصل إلى درجة العظمة، حيث نقرأ في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام: أشهد أنّك الآية العظمى والنبأ العظيم؛ فأنت هو ذلك الخبر العظيم، والنبأ الذي جاء كلّ الأنبياء ليُخبروا عنه، ويُنبؤوا عن وجوده، ويسوقوا عالم الوجود برمّته نحو ولايته؛ هذا، مع أنّه إذا كنّا ننسب له عليه السلام هذا العنوان، فإنّ ذلك لا يعني أنّ الإمام الحسن لم يكن أيضًا آية عظمى، أو الإمام الحسين ... فقد كانوا بأجمعهم آيات عظمى؛ لأنّهم بلغوا تلك المرتبة؛ فإطلاق هذا العنوان على أمير المؤمنين عليه السلام هو باعتبار كونه علامة بارزة في هذا المجال، ولا يعني أنّه لا يُمكن لأيّ أحد غيره الوصول إلى تلك المرتبة؛ فنظرًا لكون أمير المؤمنين عليه السلام علامة بارزة في هذا المجال، وكونه والد الأئمّة، وأبا الأمّة، فإنّه يحوز على الدرجة العظمى من الآيتيّة؛ لماذا؟ لأنّ نفسه أضحت فانية ومندكّة في ذات الحقّ تعالى؛ وبالتالي، فما هي الآية التي يُقال عنها إنّها عظيمة، وليست عظمى؟ هي تلك الآية التي لا زالت في مرتبة النفس، ولم تتجاوزها بعدُ، حيث تكون قد تمكّنت من بلوغ مراتب العلم والقدرة وبقيّة الصفات الإلهيّة، وصارت تحكي عن الآيتيّة، لكنّها لم تصل بعدُ إلى تلك الدرجة من الفناء التي لا تبقى معها أيّة شائبة من الشوائب النفسانيّة، ولم تبلغ بعدُ مرتبة طهارة السرّ؛ فهذه هي الآية العظيمة لله تعالى؛ وأمّا الآية العظمى ـ ولا نقول الأعظم لأنّ الآية مؤنّث ـ فتُطلق على الآية التي وصلت إلى مرتبة الإطلاق؛ وهي المرتبة التي بلغها جميع الأئمّة عليهم السلام؛ كما أنّ الأولياء الذين ارتقوا إلى هذا المستوى ببركة ولاية الأئمّة وصلوا هم أيضًا إلى نفس هذه الدرجة من العظمة، وحازوا على المرتبة العظمى، فلم يعُد يوجد أيّ فارق هناك.
المؤمن الفاني في الولاية لا يُمكن وصفه
لدينا رواية عجيبة جدًّا ذكرها الإمام الهادي عليه السلام في سفره من المدينة إلى العراق وسامراء بناءً على طلب المتوكّل العبّاسي، وينقلها الفتح بن يزيد الجرجانيّ، حيث يقول: كنت مسافرًا من مكّة إلى خراسان، وكان الإمام الهادي عليه السلام في طريقه من المدينة إلى العراق، فالتحقت به وسط الطريق صدفة؛ وفي أحد الأيّام، أتيت عنده، فابتدرني بالكلام قائلاً: يا فتح! إنّ الله تعالى لا يقبل المدح، ويأبى عن الوصف، فلا يُمكن لأيّة ذات غير ذاته المقدّسة أن تصفه؛ لأنّ كلّ وصف يعتمد على الحواسّ، بينما هو خارج عن دائرة الحواسّ؛ كما أنّ الحواسّ محدودة، وهو مطلق ولا حدّ له؛ وبالتالي، فإنّ جميع الأوصاف التي يضعها الإنسان ـ مهما بلغت درجته ـ لن تتجاوز حدود إدراكه وعقله الناقص؛ ولهذا، لن يتسنّى له وصف الذات الإلهيّة المطلقة واللامتناهية.۱ وسأضرب لكم هنا مثالاً على ذلك: حينما نقول عن فلان إنّه عالم، فإنّ ذلك يعني أنّ حيّزًا خاصًّا من العلم مكنون في نفسه ووجوده؛ وفي هذه الحالة، إذا أردنا أن نقول عن الله تعالى إنّه عالم، فبأيّة طريقة ينبغي علينا أن نحمل هذا اللفظ على ذاته المقدّسة؟ فهل يُمكننا أن نصل إلى تلك الجهة الإطلاقيّة في العلم، لكي يصحّ لنا القول إنّ الله تعالى عالم؟ [لا يُمكننا ذلك] وبالتالي، فإنّ ما نملكه في هذا المجال هو مجرّد تصوّر؛ فحتّى إذا قلنا إنّ الله تعالى عالم، فإنّنا لم نحمل عليه حقيقةً ذلك الوصف اللائق بذاته؛ فهو عالم بمقتضى علمه... فغاية ما يُمكننا فعله أن نقول عن الإنسان الجالس أمامنا: «عالم»، ثمّ نضاعف هذا العلم مرّتين، وثلاث مرّات، ومائة مرّة، ونقول عندئذ: إنّ علم الله تعالى يفوق ذلك؛ لكن، مع ذلك، سنكون لا نزال عالقين في حدود العلم، وفي ذلك الأمر الذي يُقال له علم، وفي المراد من معناه الإطلاقيّ اللامحدود واللامحصور؛ أ فهل تمكّنا من إدراك هذه المسألة؟ لا، لم نتمكّن؛ ومن هنا، فإنّه لدينا آية شريفة جاء فيها: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ ولَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ}٢؛ فالله تعالى منزّه عن الوصف؛ لأنّ الحدود التي تكتنف نفوسنا وعقولنا ومدركاتنا تمنعنا من حمل الصفات الحقيقيّة على تلك الذات المطلقة والمنزّهة عن كلّ شائبة للكثرة؛ ولهذا، يقول الإمام الهادي عليه السلام: لا يُمكن لأيّة ذات غير ذات الباري تعالى أن تصفه؛ ويقول بعد ذلك: كما أنّ الله تعالى منزّه عن الوصف، ووحده فقط يُمكنه أن يصف نفسه، فكذلك النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم لا يُمكن لأيّ أحد غير الله تعالى أن يصف ذاته٣.. انظروا! فالرسول يأبى عن الوصف؛ فما هي علّة ذلك؟ لأنّ ذاته تخطّت الحدود، ووصلت إلى الإطلاق؛ ولذلك، صار ينطبق على ذاته نفس القانون والحكم الذي يصدق على ذات الحقّ تعالى؛ فالقانون لا يتغيّر، ولا يقبل الاستثناء؛ ومن هنا، إذا كان من المفروض عدم تمكّننا من وصف الله تعالى بسبب محدوديّة إدراكاتنا وقابليّاتنا، فإنّ تلك النفس التي صارت فانية ومنمحية في الذات الإلهيّة المقدّسة، وأضحت بعد فنائها وانمحائها مرآة للعلم والقدرة ستكون بدورها أيضًا خارجة عن دائرة تصرّفنا وإدراكنا. بعد ذلك، تأنّى الإمام عليه السلام قليلاً، ثمّ قال: يا فتح! إنّ الأئمّة من ولد هذا الرسول خارجون عن دائرة الوصف أيضًا؛ فكيف يُمكن وصفهم في حين أنّ الله تعالى قرن طاعتهم بطاعة الرسول وطاعته، حيث قال: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}٤؛٥ فالمراد من أولي الأمر الأئمّة الإثنا عشر وحسب؛ كما أنّ تلقيب أيّ أحد غيرهم بهذا اللقب حرام شرعًا، وباطل، ويتعارض مع مدرسة التشيّع؛ فأولو الأمر هم الأئمّة المعصومون فقط وفقط؛ وهذا نظير لقب أمير المؤمنين الذي يختصّ بالإمام عليّ عليه السلام، ويحرُم إطلاقه حتّى على إمام الزمان؛ لكنّنا نسمعهم يُطلقونه على الكثيرين. وبعد ذلك، يقول الإمام عليه السلام؛ والشاهد هنا: يا فتح! كما أنّ الله تعالى لا يقبل الوصف، وكذلك الشأن بالنسبة لنبيّه والأئمّة، فإنّ المؤمن الذي آمن بنا إيمانًا حقيقيًّا لا يقبل الوصف أيضًا؛٦ وهنا، هل مراده عليه السلام هم هؤلاء المؤمنين [العاديّين]؟ فمن هو المؤمن الذي يأبى عن الوصف؟ فإذا أردنا أن نُجري القانون السابق هنا، فمن سيكون المراد منه؟ سيكون المراد منه ذلك المؤمن الذي صار مرآة تامّة للإمام عليه السلام؛ نظير سلمان الفارسيّ؛ فهذا هو المؤمن الذي لا يقبل الوصف؛ مع أنّ هذا الكلام ليس لي أنا، بل هو للإمام الهادي عليه السلام الذي ذكره للفتح بن يزيد الجرجانيّ. وأمّا إذا رجعنا إلى هؤلاء المؤمنين الذين نُشاهدهم الآن، فسيتبيّن لنا بشكل واضح أنّ علمهم محدود؛ إذ غاية ما يُمكن للإنسان أن يُحصّله من معلومات لا يتعدّى بعض الأشعار والحكايات التي قرأها، وعددًا من الأسماء وأرقام الهواتف والعناوين... فإذا طلبت منك الآن يا سيّد روح الله أن تُدوّن كافّة معلوماتك على الورق، فإنّها ستنتهي عند حدّ معيّن، وكذلك الشأن بالنسبة إليك يا دكتور دلشاد، بل حتّى أنا سماحة السيّد الطهرانيّ، لو دوّنت معلوماتي على الورق، فإنّها ستنتهي في الأخير عند حدّ معيّن.. متر واحد، نصف متر، ثمّ تنتهي! وحينئذ، هل أستطيع القول إنّ علمي غير قابل للوصف؟ وكذلك الأمر بالنسبة لقدرتنا؛ فلنفرض مثلاً أنّنا نستطيع حمل كأس، أو حمل حجر وزنه كيلوغرام واحد، أو عشرة كيلوغرامات، أو مائة كيلوغرام؛ لكن، ما هو أكثر وزن يُمكننا حمله في الأخير؟ فلو حملنا خمسين كيلوغرامًا، لأُصبنا بانزلاق غضروفيّ (ديسك)، وتضرّر عمودُنا الفقريّ، وسقطنا على الأرض؛ وبالتالي، فإنّ قدرتنا ستتوقّف عند خمسين كيلوغرام من الوزن؛ وحينئذ، هل ستكون قدرتنا غير قابلة للوصف؟ سيُقال لنا: لا يا عزيزي! فهذا لا يتحمّل أكثر من خمسين كيلوغرام؛ وها نحن نُشاهد ذلك بأمّ أعيننا! حسنًا، هذه هي قدرتنا، وهذا هو علمنا، وهذا هو كمالنا؛ فما الذي حصل؟ إذن، ما هو مراد الإمام الهادي من ذلك المؤمن؟ فمراده ليس أنا، وأرجو من الله تعالى أن يكون السادة هم مراده، أو أن يُوفّقنا الباري عزّ وجلّ لكي يأخذ عليه السلام بأيدينا؛ إذ ليس ذلك بالأمر المستبعد؛ فاعتمادنا كلّه، وتوقُّعنا بأجمعه منصبٌّ على هذه المسألة. فمن هو الذي يقصده الإمام الهادي؟ هو السيّد الحدّاد، وذاك الذي يقول: «إنّني أراك مثل ما أرى راحة يدي الآن، ولو أخفيت نفسك في أيّ مكان من العالم؛ فاذهب إلى أيّة منطقة تريد، فإنّك ستكون ماثلاً أمامي كالمرآة؛ واطرح عليّ السؤال الذي تُحبّ، فإنّك ستجد جوابه عندي»؛ فهو يدّعي، ويستدلّ على ادّعائه؛ فلا يقتصر على الادّعاء فقط، بل يُثبت دعواه أيضًا؛ فهذا هو الذي يكون مصداقًا لكلام الإمام الهادي عليه السلام. ومن يكون أيضًا مصداقًا لهذا الكلام؟ مصداقه المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه؛ فقد اطّلعت بنفسي على حياته وعلمه ومدركاته، وجرّبتها بحسب وسعي وقابليّتي الضعيفة؛ فإن كان ذلك الكلام صحيحًا، فإنّ المرحوم العلاّمة هو الذي من شأنه أن يكون مصداقًا له؛ هذا، مع أنّنا لم نأت بذلك الكلام الصادر عن الإمام الهادي من عندنا.
وفي هذه الحالة، يصير الشخص الحائز على هذه الخصائص آية الله العظمى؛ أي أنّه بلغ مرتبة صار علمُه لانهائيًّا، وقدرته غير متناهية؛ فكلّ ما يصدر منه هو عبارة عن مشيئة الله تعالى وإرادته من دون أيّ تدخّل للكثرة؛ وحينئذ، سوف يكون آبيًا عن الحدّ.
وضع الألقاب والعناوين يخضع لقواعد وحسابات خاصّة
ومن هنا، يتّضح لنا السرّ في كتابة عبارة "حجّة الله الكبرى" على شاهد ذلك القبر [للمرحوم الشيخ الأنصاريّ]، وعلّة قول الإمام عليه السلام أمام قبور الشهداء في حرم حضرة سيّد الشهداء عليه السلام: «بأبي أنتم وأمّي»؛ فهل يجوز ـ والحال هذه ـ إطلاق لقب آية الله العظمى على أيّ واحد كيفما كان؟ إذ لكلّ واحد من هذه الأمور قواعده وقوانينه الخاصّة؛ فقد نأتي أحيانًا، ونُطلق ذلك اللقب هكذا، من دون قصد أو التفات، بل يكون مجرّد كلام؛ لكن، أحيانًا أخرى، قد يكون لنا قصد من كلامنا ذاك، وفي هذه الحالة، فإنّنا سنقع في مشكلة. حينما صنّف المرحوم العلاّمة تلك الكتب، وُضعت عليها عبارة: تأليف سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ، حيث بإمكانكم مشاهدة ذلك إذا كان لديكم أحد هذه الكتب؛ وحينما تحدّثوا معه في زمان حياته عن هذه العبارة، أجاز كتابتها بعينها؛ فأثيرت ضدّها الكثير من الاعتراضات: لقد أطلقوا عليه لقب العلاّمة، وآية الله! حسنًا، إذا أردنا أن نحكم بالظاهر، فقد كان علاّمة، وانظروا من هم الأشخاص الذين يُطلق عليهم هذا اللقب؛ فإذا كان يُطلق على هؤلاء، [فمن الأولى أن يُطلق عليه هو]؛ وأمّا بالنسبة للقب آية الله، فقد كان... هذا مع أنّه لم ترد هنا عبارة "آية الله العظمى"، بل اقتُصر على "آية الله" فقط؛ لكن، على أيّ تقدير، فقد أُشكل على هذه المسألة.
وفي أحد الأيّام، قال لي: «يا فلان! لقد اعترض الكثيرون على هذا العنوان الذي وضعته في كتبي؛ فما هو رأيك؟»؛ فقلت له: «إذا أردنا أن ننظر للمسألة بواقعيّة، فإنّ ما كتبتموه قليل في حقّكم»؛ إذ بمقتضى القواعد التي لدينا وحدّثتكم عنها للتوّ، علينا أن نُعبّر عن المسألة بطريقة أخرى؛ لكنّ كلامنا هنا يقع في أنّ العبارات التي توضع في أيّ كتاب ينبغي عليها التعبير عن شخصيّة المؤلّف؛ فالطبيب الذي يُريد أن يفتح الطبيب عيادة، يكون ملزمًا بكتابة مميّزاته، وتخصّصاته، وإنجازاته الشخصيّة على لوحة، لكي يطّلع عليها المرضى الذي يرغبون في مراجعته؛ فإذا كنت أعاني من مرض قلبيّ مثلاً، عليّ أن أتأكّد من أنّ الطبيب الفلانيّ متخصّص في أمراض القلب؛ لكيلا أُخطيء في الذهاب عند طبيب متخصّص في الأمراض الجلديّة، أو الأمراض الداخليّة، أو عند طبيب عامّ؛ وكذلك الشأن بالنسبة لمن يُعاني من أمراض عصبيّة ونفسيّة، حيث يتوجّب عليه الذهاب عند الخبراء في نفس هذا التخصّص. ولهذا، فقد قال عن تلك العبارة التي وضعها في كتبه: لقد وضعت هذه العبارة لكي يتّضح بأنّ مؤلّف الكتاب له اطّلاع على هذه العلوم، حتّى إذا أراد أحدٌ مطالعته، فإنّه يكون ملتفتًا إلى هذه المسألة، ولا يظنّ مثلاً بأنّه إنسان عاديّ؛ وإلاّ، فإنّه لم يكن يهتمّ بهذه الأمور، وكانت ساحته منزّهة عن استعمال تلك العناوين في سبيل إعلاء شخصيّته؛ وعلاوةً على ذلك، ففي إحدى سفراته من مشهد إلى طهران، نال أيضًا شرف زيارة السيّدة المعصومة عليها السلام، فوُفّقت برفقة بعض الأقارب من أن نكون بخدمته؛ وحينما كنّا جالسين في السيّارة، قال: البارحة أو قبل البارحة، قيل لي في المنام: يا فلان! إنّ عبارة "سماحة العلاّمة آية الله" التي وضعتها في هذا الكتاب مختصّة بشخصك أنت، ولا يحقّ لغيرك أن يضعها، لكنّ بعض أقاربك ـ وذكر اسمه لكنّني سأُحجم عن ذلك ـ يسعى للوقوف بوجه انتشار هذا اللقب، فنبّهوه إلى ذلك. لاحظوا! فإنّ الأمر يختلف باختلاف الناس.
فإذا أردنا ننسب اسمًا أو صفةً للإمام عليه السلام مثلاً، فإنّ ذلك سيختلف عن نسبته لإنسان عاديّ؛ فما أريد أن قوله هنا هو: إنّ تلك العبارة التي وضعها على الكتاب لم تكن باختياره، بل كانت تكليفًا وجب عليه الامتثال إليه بتلك الطريقة، وإلاّ، فإنّنا لا نستطيع نسبة الأوصاف والأسماء لأيّ شخص هكذا؛ لأنّ وضع الأسماء ونسبة الأوصاف يخضع لحسابات خاصّة، وينبغي على الإنسان أن يُراعي فيه مجموعة من القواعد، لا أن يُقدم على ذلك بشكل عبثيّ.
عدم الحذر في الاتّصاف بالألقاب يُخرج الإنسان من حالة العبوديّة والفقر
وعلى أيّ تقدير، فإذا جاء الإنسان، وألصق بنفسه هذه الأوصاف المرتبطة بعالم الكثرة، فإنّ ذلك سيُؤدّي إلى إحداث تغيير في نفسه، وخروجه من مرتبة العبوديّة والفقر؛ ولهذا، فإنّ من المسائل المهمّة التي ينبغي على السالك مراعاتها: أوّلاً، ألاّ يجعل نفسه عُرضةً لمثل هذه المسائل؛ وثانيًا، إذا تعرّض لها، أن يُخوّف نفسه دائمًا، ويُذكّرها، ويستحضر على الدوام حالة الفقر والحاجة والنقص المحض والتمحّض في النقص، حتّى لا يقع ـ لا قدّر الله تعالى ـ في تلك المحذورات؛ فأيّ إشكال في أن يُقال للإنسان مثلاً: سماحة السيّد الطهرانيّ؟! فإذا أراد ألاّ يكتب حتّى حجّة الإسلام، فلا يكتبها؛ وإذا أراد ألاّ يكتب حتّى آية الله، فلا يكتبها؛ بل لا ينبغي عليها كتابتها! فيكتب سماحة السيّد كذا وكذا.. كلّ واحد بمقتضى خصائصه؛ فما هو الإشكال في ذلك؟ لماذا يُريد الإنسان أن يفتح على نفسه هذا الباب منذ البداية، فيستعصي عليه بعد ذلك غلقُه؟ لماذا؟ فليُرح الإنسان نفسه من الأوّل؛ ومن هنا، يقول الإمام الصادق عليه السلام: «قل يا أبا عبد الله»؛ فلماذا تقول يا أيّها الشريف؟! قل يا أبا عبد الله؛ لأنّها كنيتي.. يا أبا عبد الله! فلا نعمل أيضًا على مناداته عليه السلام باسمه من باب الاحترام. فمع أنّ الإمام الصادق عليه السلام حائز على جميع الصفات والملكات الحسنة بسبب انمحائه وفنائه في الذات الإلهيّة، إلاّ أنّه في مقام التربية يقول لعنوان: تصرّف بهذه الطريقة يا عنوان! عليك أن تكون على حذر؛ لأنّك تضع الآن قدمك في طريق الحقّ والعبوديّة؛ فأوّل نقطة في هذا الطريق تتمثّل في حذف جميع الاعتبارات والتعيّنات؛ فحذار من [أن تنخدع] بامتلاكك لسنّ كبير، وأنّك قطعت شوطًا في الطريق، وأنّه قد اجتمع حولك بعض الأشخاص، وحذار من أن تأتي هذه التشجيعات والتصفيقات، وتُسقطك في الغفلة! وأقول لكم هنا أيضًا: إنّ الشيطان قد يأتي ويوسوس للإنسان بأنّ هذه الأمور لا تُؤثّر فيه، وبأنّه لا يرى نفسه أهلاً لتلك الأوصاف، وأنّه لا يسعى وراءها؛ فيعمل على خداعه، إلى أن تطرأ حادثة معيّنة، ليكتشف بأنّ الأمر ليس بذلك النحو، وأنّه كان يرى نفسه فعلاً أهلاً لتلك الأمور؛ فحينما يأتي الامتحان، تتبيّن لنا الخدعة التي انطلت علينا؛ وما أعظمها من خدعة! فقد بلغت حدًّا صرنا معه عاجزين عن التخلّص منها؛ وحينئذ، لماذا يسمح الإنسان بانطلائها عليه منذ البداية؛ فإذا كان الكثير من هذه الأمور مضرّ، فإنّ القليل منها مضرّ أيضًا.
فأولئك العظماء هم الذين انتبهوا لهذه المسألة، فكانوا على حذر في جميع الظروف وكافّة الأزمنة، وكانوا منتبهين ومتيقّظين، بحيث ما إن يتعرّضوا لأحد هذه المواقف، حتّى يُغلقوا الباب في وجهه، ويقطعوا الطريق أمامه، ولا يسمحوا له بالتقدّم أبدًا، ومن دون أن يكلوا ذلك إلى الغد، بحيث متى ما كان الموقف يستدعي التنبيه، فقد كانوا يعمدون إلى ذلك في الحين، ولا يدعون الأمر... ؛ وهكذا كان حال المرحوم العلاّمة، فلم يكن يقول: لا داعي لذلك، فلننتهج حاليًّا أسلوب المداراة، ولا نُبدِ أيّ شيء، ولندع الأمر يمرّ الآن، وسنُخبره بعد ذلك بكلّ هدوء.. لا يا سيّدي، فلا مجال هنا للمجاملة أو المواربة؛ ولهذا، كان يقول: «هذا عمل مجانب للصواب»، وينتهي الأمر! فلا ينبغي عليك أن تذكر [تلك الألقاب]؛ فما هو هدفك من ذكرها؟ هل تُريد بذلك أن تخدعنا أو تخدع نفسك؟ أو أنّ لك مصلحة شخصيّة في ذلك؟ لا، منذ البداية... لماذا؟ لأنّ ما نفقده هنا يفوق ما نكسبه، بل الأمر لا يقبل القياس بتاتًا؛ لأنّنا نفقد العبوديّة، ونحصل في مقابلها على ضحكتين، ونخسر ذلك الفقر، ونحصل بإزائه على تصفيقتين، ونُضيّع حالة المسكنة والذلّة، وننال بدلاً عنها بعض القيام والقعود [والاحترام]، وحسب؛ فنفقد ذلك الأمر الذي نحتاجه في العالم الآخر، في سبيل أن يأتي أحدهم في هذا العالم، ويقوم من مكانه احترامًا لنا لمدّة يومين، ثمّ يتخلّى عنّا في اليوم الثالث؛ يعني أنّ حتّى هذا الذي نحصل عليه لا يدوم؛ ولهذا، على الإنسان أن يكون تعيس الحظّ جدًّا وعلى درجة كبيرة من الحمق، لكي يتخلّى عمّا هو موجود في ذلك العالم الذي يُشكّل أصل بداية الحياة الإنسانيّة؛ فكم ستُعمّر في هذه الدنيا؟ ستُعمّر أيّها المسكين ستّين سنة؛ لكن، كم ستُعمّر في ذلك العالم؟ زائد ما لانهاية (باعتباره عددًا جبريًّا)؛ فكم سيبلغ مقداره؟ فهنا ستّين سنة، وهناك زائد ما لانهاية (+∞)؛ وحينئذ، عليك أن تُضحّي بزائد ما لانهاية من السنوات، لأجل عشر سنوات من الاحترامات والاعتبارات؛ لأنّ الإنسان عادةً ما ينال هذه الأمور من سنّ الخمسين إلى الستّين؛ أ وليست هذه حماقة؟! أقسم لكم بروحي إنّها لحماقة! بل ولا توجد حماقة أعلى منها! ولهذا، على الإنسان أن يكون متيقّظًا منذ البداية، وعليه أن يكون منتبهًا من أوّل خطوة يُريد أن يخطوها، وحذِرًا عند كلّ نَفَس يصدر منه؛ وإلاّ، سيأتيه الشيطان بكلّ سهولة كما قلت لكم؛ فهذا العظيم خبير جدًّا بالطرق، وعالم بأساليب لن تخطر ببالي وبالكم أبدًا؛ فيأتي، ويأتي، ويأتي، إلى أن تكتشف فجأة بأنّك قد ابتليت [بذلك المرض]!
نرجو من العليّ القدير أن يحفظنا إن شاء تعالى من شرّ النفس الأمّارة، ومن موانع الطريق، ومن كلّ ما يُؤدّي إلى بُعد الطريق، ويُقلّل من قربنا، ويقطع اتّصالنا، ويقضي على حقيقة العبوديّة فينا، ويُضعفها، ويوهن جهة الفقر فينا، ويُجلّي فينا الأهواء، ويُجمّل في أعيننا أسباب الكثرات، ويُضعف في أعيننا وسائل الوصول إلى الحقّ والواقع؛ ولا يحجب تعالى عنّا هداية الأئمّة الأطهار وأولياء الدين، وعونهم؛ ولا يحرمنا في الدنيا من زيارة أهل البيت، وفي الآخرة من شفاعتهم؛ وأن يُعجّل في فرج إمام الزمان عليه السلام، ويجعلنا من منتظريه الحقيقيّين.. بالنبيّ وآله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد