35

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

8530
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةحقيقة العبودية

جلسات المجموعة(8 جلسة)

التوضيح

في هذه المحاضرة التي عقدها آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني قدّس الله تعالى نفسه الزكيّة لشرح حديث عنوان البصريّ، تحدّث سماحته بدايةً عن ضرورة استعمال الإنسان العلم لبلوغ أعلى مرتبة تقتضيها ذاتُه، ثمّ عرّج بعد ذلك على مسألة الفهم، حيث بيّن أوّلاً الفارق بين العلم والفهم، والذي يتلّخص في رضوخ النفس وإذعانها للحقّ؛ ثمّ تعرّض بعد ذلك لأهميّة هذه المسألة، وتحديدها لدرجة قرب الإنسان من الله تعالى، وكذلك للأخطار المترتّبة على عدم الالتزام بها؛ إلى جانب حديثه عن مسائل وقضايا أخرى ذات صلة بهذا الموضوع

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

  • شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٣٥

  •  

  • ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

2
  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم‌

  • بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم‌

  • وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي ‌القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد

  • وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين‌

  • لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء

  • وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم‌

  • إلَى يوم الدّين‌

  •  

  • قال مولانا الامام الصّادق عليه‌السّلام: «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه واستَفْهِمِ اللهَ يفْهِمْكَ».

  • علوّ المرتبة الإنسانيّة وفضلها على سائر الموجودات

  • لقد تبيّن إلى حدٍّ ما مرادُ الإمام الصادق عليه السلام من عبارة «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه»؛ وذلك بما يتناسب مع مستوى فهمنا القاصر والناقص؛ هذا، مع أنّ مراده القطعيّ في كافّة مراتب العلم، والحقيقة، وأسلوب الطلب لا يُمكن لأفكارنا وتخيّلاتنا وتوهّماتنا أن تناله أبدًا. ففي هذه العبارة، يقول الإمام عليه السلام: لِيكُن مرادك وهدفك من العلم استعماله؛ لكن، هل يُمكن للإنسان ألاّ يكون مراده من العلم استخدامه؟ أجل، يُمكن ذلك؛ ففي الكثير من الأحيان، قد يكتفي الإنسان ويسعد بالوضع الذي هو فيه؛ ولا يعُد يطلب أيّ شيء، ويقصر عن الطلب. ومن بين المسائل التي كان عظماء القوم وزعماؤهم يوصون بها فيما يرتبط بتربية تلامذتهم وبرامجهم السلوكيّة، ويعدّونها من أهم مراتب التزكية، وكيفيّة حركة الإنسان في اتّجاه الكمال: مسألة تركيز الإنسان على أعلى نقطة للكمال والرقيّ، وتشديد انتباهه إليها، وثباته عليها؛ إذ مهما اكتفى الإنسان بمستوى أقلّ من ذلك، فإنّه سيكون قد خسر، ولحقه الضرر؛ فحقيقة الذات الإنسانيّة عبارة عن وجود بحت، وبسيط، ومجرّد تجرّدًا تامًّا تَنَزَّل من الذات المقدّسة؛ والمرتبة الوجوديّة الإنسانيّة عبارة عن تلك الحقيقة المجرّدة لمرتبة الذات.. هل تعلمون ما الذي أريده قوله هنا؟ أريد القول: يحتلّ كلّ واحد من موجودات العالم ـ الخاضعة للقاعدة التكوينيّة التي تحكي عن السير النزوليّ لعالم الوجود ـ مرتبة معيّنة؛ فالملائكة تقع في مرتبة خاصّة من هذا النزول، والجنّ يقعون في مرتبة خاصّة من هذا النزول، وعالم الطبع يقع في مرتبة خاصّة، والحيوانات أيضًا تقع في مرتبة خاصّة؛ فجميع هذه الموجودات تحتلّ مرتبة أدنى من الذات؛ وذلك بحسب نوع الحدود التي تخضع لها الأسماء والصفات الإلهيّة الكلّية [أثناء ذلك النزول].

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

3
  • وأمّا مرتبة الإنسان، فهي مرتبة {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}۱، حيث يقول الباري تعالى هنا في حقّ الإنسان: لقد خلقتك من روحي؛ فلماذا لا نعثر في القرآن الكريم على مثل هذه العبارة في حقّ بقيّة الموجودات؟ لا في حقّ الملائكة، ولا الجنّ، ولا الحيوانات؟ {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} عبارة عن تلك الحقيقة المجرّدة للذات التي تقع قبل مرتبة الأسماء والصفات؛ ولا يجب علينا أن نتعامل مع هذه المسألة بالهزل؛ إذ هي السبب في قدرة الإنسان على الوصول إلى الفناء الذاتيّ، وعدم تمكّن بقيّة الموجودات من ذلك؛ لماذا؟ لأنّ ذلك من باب «كلُّ شيءٍ يرجعُ إلى أَصلِه»؛ ولهذا، فإنّ المرتبة الوجوديّة الإنسانيّة سيكون لها الاستعداد والقابليّة للفناء في ذات الباري تعالى؛ بينما لن يتسنّى ذلك للملائكة؛ لأنّ مرتبتها أدنى؛ والمرتبة الأدنى لا يُمكنها بلوغ المرتبة الأعلى، ولو بمقدار ميلمتر واحد، حيث تُشير عبارة لو دَنَوتُ أنْمُلَةً لَاحْتَرَقْتُ‌ إلى نفس تلك المرتبة؛ والتي لا تعني أنّها مقصّرة هنا من الناحية التكليفيّة؛ أي أنّ جبرائيل عليه السلام لا يُقصّر في تكاليفه وعباداته وامتثاله لأمر الله تعالى ونهيه بمختلف مراتبهما؛ فالملائكة لا تسقط في التقصير؛ لأنّها ممحّضة في عبوديّتها لله تعالى، وتُطيعه طاعة مطلقة؛ ولهذا، فإنّها تفضل على الإنسان كثيرًا من هذه الجهة؛ لأنّه يعبد الله تعالى أحيانًا، ويعصيه أحيانًا أخرى، وقد يُذنب، ويتوب، ويستغفر؛ لكنّ كلامنا هنا يقع في أنّ هذه الطاعة المطلقة وهذا الامتثال التامّ للملائكة لا يُساهمان في تخطّيها لمرتبتها الوجوديّة؛ والتي تكون محدودة بحدّ خاصّ، مهما كانت تلك الملائكة؛ وأمّا مرتبة الإنسان، فهي أعلى من مرتبتها؛ بمعنى أنّ المرتبة الوجوديّة للإنسان تقع في أفق أعلى من مرتبة الأسماء والصفات الإلهيّة؛ أي في مرتبة الذات؛ والسعة [الوجوديّة] التي تترتّب على هذا الأمر تتحدّد وتتقدّر بواسطة الأسماء والصفات الكلّية؛ وعليه، فإنّ المرتبة الوجوديّة للإنسان لا يُمكن أن تُضاهيها أيّة مرتبة من مراتب الأسماء والصفات؛ ويلزم من ذلك أنّه: إذا فرضنا أنّ الإنسان أصبح يمتلك قدرة مطلقة ـ ونحن الآن مضطرّون للرفع من مستوى الكلام ـ ، ويتوفّر على علم مطلق، وحياة مطلقة، وصار مجرى للجود والسخاء والرحمة الإلهيّة المطلقة، فإنّه لن يكون قد بلغ مرتبته الخاصّة بعدُ، ولن يكون قد وصل إلى تلك المرتبة الدقيقة التي تصدر منها كلّ هذه الأمور؛ ولهذا، فإنّ البرنامج السلوكيّ والدستور العمليّ الذي كان يأمر به العظماء تلامذتهم يتمثّل في الهمّة العالية؛ والتي يُراد منها بلوغُ تلك المرتبة التي لا يُتصوّر ما هو أعلى منها؛ فهذا الذي يُقال له: الهمّة العالية؛ فإذا كان الأمر بهذا النحو، فتفضّلوا: هذا هو الطريق، وهذا هو الاستعداد! وهنا يأتي المثل المشهور: «گر گدا كاهل بُوَد ...»٢.

    1. سورة الحجر، مقطع من الآية ٢٩.
    2. وتمام المثل: گر گدا كاهل بود تقصير صاحب خانه چيست؟! ومعناه: إن كان المستجدي كسولًا فما ذنب صاحب المنزل؟!

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

4
  • خطر الانبهار بالسلوك والطريق

  • فمراد الإمام الصادق عليه السلام من قوله لعنوان البصريّ «واطْلُبِ العِلمَ بِاستِعمالِه»: مهما كانت المرتبة التي وصلت إليها من العلم، لا تتوقّف؛ فلا تمكث في تلك المرتبة، بل تقدّم إلى التي تكون أرقى منها، وارتقِ إلى مرتبة أعلى، ولا تظنّ بأنّ المسألة قد انتهت هناك، بل عليك أن تستعمل هذا العلم للوصول إلى مرتبة أعلى؛ فلا تتوقّف في تلك المرتبة، وتكتفي بما توصّلت إليه؛ ولا ينبغي عليك أن تعتاد على تلك المكانة التي تحتلّها، بل كُن في حالة طلب على الدوام، وفي حالة استعمال لهذا العلم دائمًا. وقد أشرت سابقًا إلى أنّ إحدى الآفات التي يُواجهها ـ وللأسف ـ الأفراد الذين يضعون أقدامهم في طريق الله تعالى، ويطلبون الوصول إلى لقاء المحبوب، ويسعون لبلوغ الهدف المنشود أنّهم يظهرون في بداية الأمر الشوق والحرارة والعشق والحماسة؛ لكن، بعد انقضاء فترة من الزمان يتصوّرون أنّ المسألة قد انتهت بالنسبة إليهم، ولا يوجد شيء آخر.

  • وهذا الذي يُقال له الانبهار بالسلوك، والانبهار بالكمال، والانبهار بالطريق؛ أي: إنّ تلك القضيّة التي تطرّقنا إليها سابقًا ـ على ما يبدو ـ عند حديثنا عن مسألة الانبهار بالعلم تصدق بعينها على مسألة الانبهار بالسلوك، بحيث يصير الإنسان جافًّا، فيتوقّف بسبب ذلك عن الحركة، ويظنّ بأنّ الأمر قد انتهى بالنسبة إليه، وأنّه لم يعُد يفتقر لأيّ شيء، وأنّه وصل ولله الحمد للهدف المنشود؛ في حين أنّ هذه النقطة تُمثّل البداية فقط؛ إذ كلّما تذوّق الإنسان طعم العلم أكثر، يجب أن يزداد عطشه للاستمرار في طلبه. وبحقّ، فإنّ إحدى مصائبنا نحن البشر أنّه: حينما نخوض في الأمور الدنيويّة والمادّية، فإنّنا لا نقف عن الحركة والتقدّم فيها، مهما أمكننا ذلك، حيث يصدق هذا الأمر في العلوم والفنون المادّية المختلفة؛ لكن، ما إن نضع أقدامنا في طريق الله تعالى، حتّى ...؛ إذ من الواضح أنّ مسألة طريق الله تعالى مختلفة عن بقيّة المسائل؛ فكلّ خطوة يضعها الإنسان هنا [أي في الأمور المادّية] يكون بوسعه مشاهدة ثمرتها؛ ومن باب المثال، فإنّ كلّ تجربة يقوم بها الإنسان، يُمكنه أن يطّلع على نتيجتها في المختبر؛ ثمّ ينتقل من هذه التجربة إلى تجربة أخرى، ومن اكتشاف إلى اكتشاف آخر؛ وهكذا تسوقه هذه الأمور، وتُحرّكه، إلى أن يصل إلى نتيجة معيّنة؛ كأن يتوصّل إلى علاج أحد الأمراض؛ ثمّ ينطلق مرّة أخرى من هناك إلى مسألة أخرى؛ وهكذا... ؛ لكن، حينما يمشي الإنسان في طريق الله تعالى، فقد تحتجب الحقيقة عن ناظريه، ولا تتّضح لديه المسائل؛ وخلاصة القول أنّه لا يكون دائمًا في حالة مشاهدة ومكاشفة وأمثال ذلك؛ ولهذا، فإنّه يتّخذ أحد موقفين: إمّا أن يتوقّف عن الحركة بسبب هذه المشاهدات، أو بسبب عدمها؛ في حين أنّ الطريق إن كان صحيحًا، فإنّه على الإنسان أن يستمرّ فيه؛ وإن كان خاطئًا، فقد كان عليه ألاّ يسلكه منذ البداية؛ إذ لا يوجد أحد يوصي بسلوك الطريق الخاطيء؛ فهذا الذي يُقال عنه انبهار بالسلوك؛ ولا يخفى أنّ هناك كلام كثير بخصوص هذا الموضوع؛ ولعلّني تحدّثت عنه سابقًا؛ لكن، مع ذلك، فإنّني لم أحبّذ عدم التطرّق هنا إلى هذه المسألة التي كانت تُثير اهتمام المرحوم العلاّمة رضوان الله تعالى عليه كثيرًا، وكان يُنبّه عليها ويُذكّر بها طيلة حياته؛ وذلك قبل أن نصل إلى الفقرة التالية.

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

5
  • الفارق بين العلم والفهم

  • يقول الإمام الصادق عليه السلام «واستَفْهِمِ اللهَ يُفْهِمْكَ»؛ فما هو هذا الفهم الذي على الإنسان أن يطلبه من الله تعالى؟ أ وليس الفهم هو ذلك العلم بعينه؟! أ وليس الفهم يتساوى مع الإدراك؟! ولماذا يتوجّب على الإنسان طلب الفهم من الله تعالى؟ أ ولسنا نمتلك الفهم؟! أ وليس لدينا وعي؟! أ فهل نحن عاجزون عن فهم المسائل وإدراكها؟! أ فهل يفتقر الإنسان إلى هذه النعمة؟ فلماذا إذن يقول الإمام عليه لعنوان: عليك أن تطلب الفهم من الله تعالى؟ هذا، مع أنّ تلك العبارة هي هنا في حكم: «إن تَسْتَفْهِمِ اللهَ»؛ إذ بحسب ما درسنا في اللغة العربيّة، فإنّ «يُفهمك» مجزومة بإن المقدّرة.. هل هذا صحيح يا شيخ...؟! فقد نسينا نحن هذه القواعد؛ وينبغي أن تتذكرّوها أنتم عادةً باعتبار تدريسكم لهذه الموادّ؛ ولهذا، إذا ارتكبنا خطأ هنا، فنبّهونا إليه. فالمراد من تلك العبارة: إن تَسْتَفْهِمِ اللهَ يفهِمكَ‌، حيث إنّ الشرط فيها مقدّر؛ بمعنى أنّه: إذا قمت بهذا العمل، فإنّ الله تعالى سيستجيب لك، ويُفهمك بدوره. فالفهم يفترق عن العلم؛ فأنت تارةً تعلم بمسألة، وتارةً أخرى تفهمها؛ ولا يخفى أنّه قد تُستعمل هاتين الكلمتين في مكان بعضهما في اللغة الفارسيّة، بل يُحتمل ذلك حتّى في العربيّة؛ لكن، مع ذلك، فإنّ «الفهم» له معنى خاصّ في الفارسيّة والعربيّة وبقيّة اللغات؛ و«العلم» له معنى خاصّ آخر؛ فالعلم يعني أن يحلّ مفهوم في ذهنك، فتحكم عليه بأنّه صحيح؛ وأمّا الفهم، فيعني القبول بهذا المفهوم، ورضوخ النفس قباله. فتواضع الإنسان تجاه علمه بمسألة، وتصوّره لها، وتصديقه بها يُقال له فهم، ولا يُقال له علم. فالعلم عبارة عن مجرّد انكشاف؛ كأن ينكشف للإنسان أنّ المال الكذائيّ يرجع إلى زيد، وأنّه الآن في ملك يد غاصبة؛ فهو يعلم بهذه المسألة؛ وأمّا فهمها، فيتمثّل في الخضوع لها، والتواضع أمامها، والقبول بها من صميم قلبه؛ فهذا الذي يُقال له فهم؛ وهو معنى خاصّ للإدراك يلزم منه حصول استعداد في القلب وتهيّؤ في النفس. فقد يكون الإنسان عالمًا بمسألة ما، لكنّ نفسه غير مستعدّة لفهمها؛ ومن الممكن أن تكون مسألة نظير: إثنين زائد إثنين تُساوي أربعة واضحة بالنسبة إليه، لكن من دون أن يقبل بها، ويفهمها؛ بمعنى أنّ هذه المسألة لم تستقرّ في أعماق فهمه وقوّته الدرّاكة، بما يدفعه لترتيب الأثر عليها، حيث يحكي ذلك عن ضرورة حصول استعداد خاصّ في القلب؛ وهو الأمر الذي ينشأ منه جميع مشاكلنا. فإذا لم يكن الإنسان عالمًا بمسألة ما، فإنّ هناك طرقًا مختلفة لإثباتها له؛ غير أنّ كلامنا يقع في أنّ الإنسان قد يكون عالمًا بإحدى المسائل، لكنّه لا يخضع لها؛ فإن كانت المسألة واضحة وجليّة، لماذا لا يرضخ لها؟ لأنّ القلب ليس له استعداد للقبول بها.

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

6
  • إنّ مسألة الفهم تختلف عن مسألة العلم؛ فالذين كان على عهد رسول الله، ويُشكلون عليه، أ لم يكونوا على علم بأنّه نبيّ من الله تعالى؟ أقسم بالله العليّ العظيم أنّهم كانوا على علم بذلك {يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ}۱؛ فلماذا كانوا غير خاضعين له؟ لأنّهم كانوا مفتقرين للاستعداد اللازم، وقتلوا ذلك الاستعداد المكنون في أنفسهم؛ فقد كانوا يعلمون بأنّ للآيات القرآنيّة تأثيرًا خاصًّا في النفوس؛ ولهذا، وضعوا كمّية من القطن في المسجد الحرام، بحيث كلّ من أراد الدخول إليه، يُعطونه مقدارًا منه، ويطلبون منه أن يضعه في أذنيه، لكيلا يسمع كلام الرسول.. دعوهم يسمعوا! دعوهم يسمعوا، ليكون لهم الحقّ في الاختيار! ومن هنا، يتبيّن أنّ هؤلاء كانوا على علم [بالحقّ]؛ ولهذا، حينما كانوا يجتمعون فيما بينهم، كانوا يقول بعضهم لبعض: «ما أعجب الكلام الذي يتحدّث به! يا له من كلام!»؛ ولدينا آية قرآنيّة تتحدّث عن الوليد بن المغيرة وموقفه من كلام الرسول، وكلام الله تعالى، والقرآن المجيد، حيث جاء فيها: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ * فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}٢؛ فقد رجع إلى منزله، وبدأ يُفكّر في ذلك الكلام لمدّة أسبوع، واستشار مجموعة من الناس، فلم يجد بدًّا من الإذعان له؛ لكنّه في نهاية المطاف، قال: «إنّه سحر!»؛ بمعنى أنّه لم يجد مناصًا من أن يقول ذلك؛ فقال: سوف نأتي ونُعلن {إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ}؛ فذلك التأثير الذي يتركه القرآن في الناس يرجع إلى تأثير السحر؛ هذا، مع أنّه يعلم بأنّ تأثير ذلك الكلام سببه تأثير نفس القرآن؛ لكنّه ماذا يفعل؟ يلجأ للكتمان.

  • وعليه، فإنّ أهمّ مسألة بالنسبة إلينا هي أن نُحافظ على حالة الفهم والإذعان حيّة في نفوسنا؛ إذ إنّ طريق السعادة منحصر في ذلك؛ فمتى ما شعرنا بحالة من الطمأنينة وعدم التزلزل حين مواجهة الحقّ، فلنعلم بأنّ ذلك علامة على كمالنا، وصدقنا في الطريق، ووضوحنا في المسير؛ وكلّما شاهدنا في أنفسنا نوعًا من التثاقل حين مواجهة الحقّ؛ أينما كان ذلك، سواءً في المسائل العائليّة، أو الاجتماعيّة، أو في علاقتنا بالشريك، أو بالجار، فلنعلم بأنّ الأمر يحتاج إلى بحث وتأمّل؛ فمعيار القُرب من الله تعالى يتمثّل في طمأنينة الإنسان وعدم تزلزله، وعدم خوفه حين مواجهته للحقّ؛ بخلاف ما إذا شعر بنوع من الصعوبة هنا؛ ولا يخفى أنّ الإنسان قد يخوض كثيرًا في الحكم على المسائل الحادثة ما دامت لم تُصبه هو، ويقول: «علينا أن نقوم بهذا الفعل،...»؛ لكن، ما إن يصير لها ارتباط به، حتّى نجد بأنّ الأمر قد اختلف بالنسبة إليه، وبأنّ رؤيته صارت مغايرة.

    1. سوره البقرة، مقطع من الآية ۱٤٦.
    2. سورة المدّثر، الآيات ۱۸ إلى ٢٤.

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

7
  • ولنضرب مثالاً على ذلك: افرضوا أنّ لكم ابن، أو أخ، أو رفيق؛ وأنّكم لم تروا هذا الرفيق لمدّة طويلة، حيث يكون قد رحل، ولم يأتكم عنه أيّ خبر لمدّة عشرين أو ثلاثين سنة؛ ومهما بحثتم عنه، فإنّكم لم تعثروا عليه؛ فقد فُقد، وانقطعت أخباره بشكل تامّ، بل صرتم تحتملون بأنّه ارتحل عن هذا العالم؛ ووضعتم إعلانات هنا وهناك، وبحثتم عنه في كلّ مكان يخطر على بالكم، لكن من دون ثمرة؛ فلم تُسفر جهودكم عن أيّة نتيجة. وافرضوا من باب المثال ـ وأنا سأضرب مثالاً بسيطًا جدًّا ـ أنّكم تمشون ذات يوم بالسيّارة في الشارع، فصدمتكم سيّارة أخرى؛ فتنزلون، وتقولون: «لماذا تقود السيّارة بهذا النحو أيّها السيّد! لماذا لا تنظر أمامك؟ لماذا لا تنظر خلفك؟ يجب عليك الانتباه! وكذا... وعليك أداء الغرامة، فقد تضرّرت السيّارة بهذا الشكل!»؛ ونظير هذا الكلام المتعارف؛ لكن، ما إن تزداد المسألة حدّة، وتبدأ تخرج عن حالتها العادية، وتتحوّل على شجار، حتّى تلتفت فجأة إلى أنّ السائق هو نفس رفيقك الذي كنت تبحث عنه طوال ثلاثين سنة؛ وتراه بملامح وصفات خاصّة، فتقول له: «يا للعجب! هل أنت هو فعلاً؟!»؛ فتغضّ الطرف عن الحادثة التي وقعت، ومسألة الشجار، وطلب المال، ودعوتك له للذهاب إلى المحكمة، وتُعانقه، وتُقبّله، وتقول له: «فداك مالي، وسيّارتي، وحياتي، وعملي، و...»؛ وتبدأ بتقبيله، وتقول له: «أين كنت كلّ هذه الفترة؟»؛ فيقول لك: «لقد صدمت سيّارتك»؛ فتقول له: «فلتذهب السيّارة إلى الجحيم؛ فما الذي تقوله؟»؛ يا عزيزي! لقد كنت بنفسك تُريد أن تسوقه قبل دقيقتين إلى المحكمة ومركز الشرطة؛ وكانت لك رؤية أخرى مغايرة! هل رأيتم؟ فلدينا هنا شخص واحد، ووحدها الرؤية التي تغيّرت، والفكر هو الذي تبدّل؛ فتجد الإنسان يرى كلّ العالم جنّة؛ لكنّ رؤيته تتغيّر، فيصير كلّ العالم بالنسبة إليه جهنّم. فهذا هو معنى العرفان؛ أي أن يُصحّح الإنسان رؤيته للحوادث والوقائع؛ فهذه هي حقيقة المسألة؛ وحينئذ، سيُصبح كلّ شيء على ما يُرام. 

  • معيار القرب من الله تعالى: الخضوع للحقّ

  • إنّ حقيقة إدراك الإنسان لأيّة مسألة هو عبارة عن خضوعه للحقّ وخشوعه أمامه، بحيث يُؤدّي ذلك إلى تغيير رؤيته وفكره تجاه هذه المسألة. فمعيار القرب من الله تعالى لا يتمثّل في تكديس العلوم، بل في الصفاء والخلوص الذي يتحقّق في تلك المرتبة من الفهم، ويكمن في استعداد القلب وتهيّؤ النفس لأجل تلقّي الحقائق.. هذا هو المعيار. ففيما يخصّ ثورة سنة ألف وثلاثمائة وإثنين وأربعين التي بدأها المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، برفقة المرحوم السيّد الخمينيّ رضوان الله عليه، كان من ضمن الكلام الذي وجّهه المرحوم العلاّمة للسيّد الخمينيّ أن قال له: أيّها السيّد! لا ينبغي عليك أن تجعل مسألة الثورة والنهضة متمحورة حول العلماء والمشايخ، بل عليك أن تجعل المحوريّة فيها لنفس الإسلام، ولتلك الحقيقة التي بُعث على أساسها الأنبياء والنبيّ الخاتم والأئمّة عليهم السلام إلى هذا العالم، وعلى أساسها لجؤوا للتشريع والتربية؛ فهذا هو الأساس الذي ينبغي علينا أن نعتمده؛ والناس مختلفون في نسبتهم إلى هذا الطريق والمسار؛ فجميع الناس بشر، ولكلّ واحد منهم ضمير ووجدان وفطرة، ولكلّ واحد منهم مُدركات خاصّة؛ فمن أين لنا نعلم بأنّ قلب ونفس تلك المرأة ـ التي نشأت وكبرت ونمت في ظلّ تربية خاطئة، وصارت تعتمد في أعمالها على ثقافة سيّئة، وأصبحت معروفة في المجتمع بارتكابها للأفعال المشينة؛ كالغناء وأمثاله، والظهور بلباس عار على مرأى من الرجال، والقيام بمختلف الحركات؛ معتقدةً بأنّها تُمارس الفنّ ـ أدنى من حيث القُرب من الله تعالى، وتلقّي الحقّ، وصفاء الباطن من ذلك العالِم الذي انهمك في الدراسة، وبذل مجهودًا كبيرًا في ذلك؛ غير أنّ هذه الدروس لم تزده إلاّ بُعدًا من الله تعالى، ومن الأنانيّة، والغوص في التخيّلات والتصوّرات [الباطلة]، وطلب الوصول إلى المناصب الدنيويّة؟

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

8
  • فهذه هي رؤية العرفان؛ ففي الرؤية العرفانيّة، يُنظر إلى كافّة الناس من جهة الباطن والحقيقة، وليس من حيث الظاهر وتلك المعايير [الظاهريّة]؛ خلافًا لأهل الظاهر؛ والذين لا يُراد منهم غير المشايخ والعلماء، بل المراد منهم الذين يمتلكون رؤية ظاهريّة، سواء تعلّقت بالمسائل الاجتماعيّة وأمثالها، أو تعلّقت بالأمور التي يهتمّ بها علماء الدين، وكذلك الخوض في الشؤون الدينيّة وأمثال ذلك؛ فلا وجود لأيّ فارق هنا، حيث علينا أن ننظر إلى ذلك القلب الذي له استعداد لبلوغ الكمال، لكنّه يعيش في ظروف غير مناسبة، لنرى هل ذلك من تقصيره هو؟ أي: هل ذنبه هو؟ ولهذا، نرى لماذا كان العظماء والأنبياء والأئمّة موفّقين في دعوتهم للحقّ، بينما نحن لسنا كذلك؛ فلماذا نتحدّث بمثل كلامهم، لكنّنا غير موفّقين؟ لأنّنا نُعاني بأنفسنا من عدّة مشاكل؛ فتجدنا نتحدّث بمثل تلك الكلمات، لكن من دون أن تُحدث فينا أيّ تأثير؛ وحتّى إذا استمع إلينا الآخرون، فما هو سبب استماعهم إلينا؟ سببه أنّ تلك المسائل التي نتحدّث عنها ليست لنا؛ فنحن مجرّد متحدّثين؛ وأمّا تلك المسائل، فتكون صائبة؛ لأنّها صادرة من الرسول، أو الأئمّة. إنّ المسائل التي حدّثتكم بها لحدّ الآن ليست لي، بل سمعتها من العظماء، وطالعتها في الكتب؛ فهذه هي حقيقة الأمر! لكن، لماذا تجدني أتحدّث بمسألة معيّنة من دون أن أتأثّر بها، بينما تُؤثّر فيكم أنتم الذين تسمعونها منّي إن شاء الله تعالى؟ لماذا؟ لأنّكم لا تنظرون إليّ أنا، بل تنظرون إلى المسائل التي أتكلّم عنها، فترونها صحيحة؛ ولو كان هناك اختلاف، فهو اختلاف بين الناس [الذين ينقلونها]؛ فإن كانت هذه المسائل صحيحة، فما هو دخلي أنا بذلك؟ وإذا كنت أنقلها عن أحد العظماء أو الأئمّة، لماذا أنسبها إلى نفسي وأعتبرها صادرة منّي؟ هذه خيانة! وهنا، نكتشف بأنّ مسألة الفهم تختلف عن مسألة العلم؛ فتجد أحدهم ذا علم غزير، لكنّه يفتقر إلى الفهم، وقلبه مسدود: {خَتَمَ اللَّهُ عَلى‌ ... سَمْعِهِمْ وَعَلى‌ أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ}۱؛ فحينما يختم الله تعالى على القلب، ويضع حجابًا عليه، فإنّ هذا الحجاب يسدّ جميع منافذه، فيصير ذلك القلب ميّتًا، ولن يعود قلبًا بعد ذلك؛ فتجده يمتلك علمًا، لكنّه مفتقر للإذعان والقبول، وفهمه مُغلق؛ ولهذا، مع أنّ المسألة تكون واضحة بالنسبة إليه كالشمس في رائعة النهار، لكنّه لا يقبل بها.. لماذا؟ لأنّ قلبه مسدود؛ وقد أخبر الله تعالى نبيّه بهذا الأمر؛ وهذا عجيب جدًّا! إذ حينما ننظر في الآيات القرآنيّة، نرى عباراتها قد جاءت تنبئ عن الحقيقة والواقع؛ ففي إحدى المواضع، يقول الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى‌ وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ}٢؛ أي أنّها تتحدّث عن الذي يكون قلبه أعمى، حيث ورد في آية أخرى: {فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}٣؛ بمعنى أنّه: هذه الأعين ليست عمياء، فلا تقولوا عن أصحابها أنّهم عميٌ؛ لأنّهم فقدوا أداة الإبصار وحسب؛ وأمّا الأعمى الحقيقيّ، فهو الذي يعجز قلبُه عن فهم المسائل؛ فتجده يعلم، لكنّه لا يفهم؛ وقد سُلب الاستعداد، و[إمكانيّة] الترقّي؛ فلماذا صار بهذا النحو؟ لأنّه هو الذي رغب بذلك. وقد يؤول الأمر إلى درجة أن يقول الباري عزّ وجلّ لرسوله: {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى‌ وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}٤؛ أي: أنت تستطيع أن تشقّ القمر إلى نصفين، وتدفع الشجر لقول الشهادة، وتحضّ الحصى على النطق بالشهادة على رسالتك؛ فهذه أفعال يُمكنك القيام بها، لكنّك لا تستطيع إحياء القلب الميّت؛ {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}؛ فأنت غير قادر على هداية العمي، وإسماع كلامك للصمّ؛ متى ذلك؟ {إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}؛ فإذا أرادوا أن يُديروا وجوههم، فلن يكون بوسعك فعل أيّ شيء لهم.

    1. سورة البقرة، مقطع من الآية ۷.
    2. سورة الرّعد، الآية ۱٦.
    3. سورة الحجّ، الآية ٤٦.
    4. - سوره النَّمل( ٢۷)، آيه ۸۰ و ۸۱

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

9
  • آفة الاستدراج ودورها في انحراف الإنسان

  • إنّ حكايتنا برمّتها ترجع إلى هذه المسألة: إذا فقد القلب جهة استعداده وانفتاحه، فلن يعود بالإمكان فعل أيّ شيء.. {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا}؛ وقد كان المرحوم العلاّمة يتحدّث كثيرًا عن مسألة الاستدراج {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ}۱؛ والمراد منهم أولئك المكذّبون، وليس الذين يُخطئون عن جهل وعدم علم؛ فهؤلاء لا تثريب عليهم؛ لأنّ الإنسان خطّاء؛ وأمّا أولئك، فقد كانوا يُكذّبون؛ فالتكذيب يعني أن يكون الإنسان عالمًا، لكنّه يرفض، ويقول: لا؛ فهذا الذي يُقال له التكذيب. فإذا أقدم الإنسان على التكذيب مرّة واحدة، فإنّ حجابًا سيوضع على قلبه، ويصير استعداده للتكذيب أكبر؛ لكن، إذا توقّف، واستغفر، وتاب، واعترف لله تعالى بخطئه، وتراجع، وتدارك الأمر، فما الذي سيحصل؟ سيرجع إلى حالته الطبيعيّة؛ فباب التوحيد مفتوح، حيث لدينا رواية طالعتها قبل فترة طويلة، ويبدو أنّها عن أمير المؤمنين عليه السلام، ويقول فيها: إنَّ الله لا يفْتَحُ باب التّوبَة ويغلق باب المغفرة؛ والظاهر أنّها كانت بهذه العبارة٢؛ فإذا كان باب التوبة مفتوح أمامنا، فما هو حال المغفرة؟ سيكون بابها مفتوح أيضًا؛ فأحيانًا، قد يكون باب التوبة مسدود أيضًا، وفي هذه الحالة، سيكون الأمر قد انتهى؛ لكن، إن كان هذا الباب مفتوحًا، وكان باب العودة والإنابة مُشرَعًا، فإنّ باب المغفرة سيكون مشرعًا أيضًا.

  • فالاستدراج آفة كبيرة تُصيب الإنسان؛ فإذا أقدم على تكذيب ثانٍ، فإنّ استعداده سيزيد للقيام بتكذيب ثالث، وسيسهل الإنكار على القلب أكثر؛ ففي البداية، يصعب الأمر قليلاً على الإنسان؛ لماذا؟ لأنّه يكون لا زال في مرتبة الفطرة؛ والتي يُراد منها تلقّي الحقّ، والخضوع له، والترحيب بالصدق والنزاهة؛ فهذه هي مرتبة الفطرة؛ لكن، إذا أتى الإنسان، ووضع عليها ستارًا، وارتكب أوّل كذبة، فإنّ هذه الكذبة الأولى التي جاءت، وعارضت الفطرة ستُؤدّي إلى تسافل الإنسان، وتعقيد الأمور قليلاً بالنسبة إليه؛ ثمّ تأتي الكذبة الثانية، والثالثة، إلى أن يصل الأمر إلى أن يقول الله تعالى لرسوله: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ}؛ أي إنّك غير قادر على إنقاذ الأعمى؛ وحينئذ، ماذا ستكون هذه المرتبة؟ ستكون مرتبة «خَتَم الله»؛ فما الذي حصل هنا؟ ختم الله تعالى وطبع [على قلوبهم].. حسن جدًّا! إذا كنت لا ترغب، فهذا شأنك، لكنّنا من جهتنا سنختم عليك. فبمقتضى قانون التكوين، ونظام التربية والتشريع المترتّب عليه، فإنّ كلّ معصية يرتكبها الإنسان تؤدّي تكوينًا إلى إلقاء ستار عليه؛ وهنا، مع أنّ الستار قد وُضع، إلاّ أنّ طريق إزاحته مُتاح؛ لكنّك إذا لم تفعل ذلك، فإنّ الله تعالى سيقول هنا: سنتعامل معك طبقًا لقانون التكوين، ونُلقي عليك هذا الستار؛ وحينما يُوضع عليك، فإنّه سيحرمك من بعض الفيوضات بمقتضى قانون العلّية والمعلوليّة؛ أي: ما إن توضع النفس تحت ستار، فإنّ مجموعة من الجذبات والنفحات التي من شأنها أن تُفاض عليها ستنقطع عنها فجأة، شاءت النفس ذلك، أم أبته؛ وهذا نظير أن يكون لديكم جهاز لاقط ـ كالراديو مثلاً ـ يستقبل خمس أو ستّ أو أربع موجات، فتنزعون أحد الأزرار، فلا يعُد هذا الجهاز يستقبل موجة من تلك الموجات؛ فمع أنّها تأتي، وتصطدم بالجهاز، إلاّ أنّها لا تؤثّر فيه بعدما نزعتَ ذلك الزرّ. وبعد مرور فترة من الزمان، تُقرّرون نزع زرّ ثان، فينقطع استقبال مجموعة أخرى من الموجات؛ وبعد مرور أسبوع، تنزعون زرًّا ثالثًا؛ وهكذا، تنزعون عددًا من الأزرار الأخرى، فلا يعُد هذا الراديو والجهاز اللاقط يستقبل أيّ شيء، أو أنّه يستقبل، لكنّه لا ينقل لك أيّ شيء؛ لأنّ السلك سيكون قد انقطع؛ وحينئذ، لا تبقى فيه أيّة فائدة؛ ولهذا، تجدنا نتساءل أحيانًا في أنفسنا ونقول: لقد كنت سابقًا بذلك الشكل، فلماذا لست الآن كذلك؟!

    1. سورة الأعراف، الآية ۱۸٢.
    2. وردت هذه الرواية في كتاب بحار الأنوار، ج ٦، ص ٣۷ بالنحو الآتي: «مَا كَانَ اللَّهُ لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الشُّكْرِ، وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الزِّيَادَةِ، وَ لَا لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ الدُّعَاءِ، وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْإِجَابَةِ، وَ لَا لِيَفْتَحَ عَلَى عَبْدٍ بَابَ التَّوْبَةِ، وَ يُغْلِقَ عَنْهُ بَابَ الْمَغْفِرَةِ».

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

10
  • كان الشيخ مطهّري رحمة الله تعالى عليه يحكي عن أحدهم أنّه قال: حينما كنت في الحوزة العلميّة بقمّ، كنت أحضر أحد المجالس، وكان مجلسًا جيّدًا جدًّا، وتسوده معنويّات عالية، وتُطرح فيه مسائل جيّدة، بحيث كان جميع المشاركين يبدون رضاهم عنه؛ وبعد ذلك قال: كان خطيب ذلك المجلس يكتب المسائل التي يتحدّث عنها، ويُقرّرها بنفسه؛ وقد حضرت هذا المجلس لفترة طويلة، ثمّ انتقلت إلى طهران. وبعدما انقضت سنوات طويلة على هذه الحادثة، التقيت ذات يوم بذلك الخطيب الذي كنت أحضر مجالسه برفقة أصدقائي، فدار الحديث عن تلك الأيّام، والجلسات التي كانت تُعقد آنذاك، فقال لي: حينما أنظر إلى التقريرات التي دوّنتها في تلك الأيّام، لا أصدّق أبدًا أنّها لي، وأقول مرّة بعد مرّة: هل يُعقل أن أكون أنا الذي كتبتها؟! كيف يُمكن ذلك؟! هل التفتّم؟! فالمسألة هي بهذا النحو! لقد كان جميع العظماء والأولياء يُحذّرون من مسألة الاستدراج، إلى درجة أنّ هذه المسألة تُعدّ من أهمّ المسائل التي يتوجّب على سلاّك طريق الله تعالى مراعاتها، بحيث يكون لزامًا عليهم أن يقيسوا أنفسهم دائمًا على الماضي [ويقارنوا بين أحوالهم الفعليّة وأحوالهم السابقة].

  • ضرورة تحلّي الإنسان بالهدوء والطمأنينة حين مواجهته للحقّ

  • فعلى الإنسان أن يعيش حالة تامّة من الطمأنينة والهدوء حين مواجهته للحقّ، كيفما كان؛ فإذا حلّت هذه الطمأنينة، فإنّ الحقائق ستصطدم بقلبه بنحو صاف وواضح وشفّاف؛ وأمّا إذا افتقر الإنسان للطمأنينة، فإنّ المسائل المعوجّة والمنحرفة والمليئة بالإشكالات هي التي ستصطدم بقلبه.

  • كان المرحوم العلاّمة يقول: تختلف نفوس الناس من حيث تلقّيها للحقّ؛ فبعضها شفّاف وصاف؛ وحينما تُنقل لها مسألة ما، فإنّها تتلقّاها كما سمعتها.. بكلّ صفاء؛ وأمّا البعض الآخر منها، فليس بهذا النحو؛ هل لاحظتم بأنّ البعض يُركّز دائمًا على الجوانب السلبيّة للأمور؟ فتجد عند هؤلاء سهولة في سماع الكلام، لكن، حينما يُريدون نقله [للآخرين]، ترى بأنّ فهمهم مغاير تمامًا، وأنّهم فهموا شيئًا آخر منه، واستخرجوا منه الجوانب السلبيّة فقط، وأنّ تركيزهم منصبّ دائمًا على هذه الجهات، ولهم رؤية سلبيّة؛ وذلك لأنّ قلوبهم متداعية ومتهالكة.

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

11
  • ذات يوم، جاء شخصان عند المرحوم العلاّمة بسبب وقوع نزاع عائليّ بينهما، بحيث كان سيُؤدّي هذا النزاع إلى عواقب غير محمودة؛ فقال أحدهما: «ذهبنا عند المرحوم العلاّمة، فجلسنا، وكلّ واحد منّا يحمل "كرة" مليئة [بالإشكالات]، وينتظر المرحوم العلاّمة أن يبدأ بالسؤال عن حقيقة الأمر، حتّى يشرع في إطلاق رشّاش من الإشكالات التي تُدين الطرف الآخر»؛ فكان كلّ واحد منهما قد أجرى الاستعدادت اللازمة، وهيّأ ملفّه؛ فما إن يسأله المرحوم العلاّمة عن رأيه، حتّى يقول: يا سيّدي! إنّها تقوم بالأمر الكذائيّ، إنّها تُتعبني كثيرًا في البيت؛ فأخلاقها سيّئة، ولا تلتزم بالأدب، وكذا، ولا تُطيعني، بل تتمرّد عليّ، و... . وخلاصة القول، فقد عيّن كلّ واحد منهما خطّة مفصّلة؛ ثمّ قال بعد ذلك: «ما إن دخل علينا المرحوم العلاّمة، حتّى نظر إلينا، ودخل إلى غرفته، وقال: اذهبا، وارجعا غدًا! فلم يقل أيّ شيء، ولو كلمة واحدة، ولو: مرحبًا بكم، كيف حالكم؟ بل قال: تعالوا غدًا؛ فرجعنا من عنده خاليا الوفاض، وقد أُسقط بأيدينا، وبقينا في حيرة من أمرنا طيلة ذلك اليوم، ونحن نقول: ما الذي فعله بنا هذا السيّد؟! إنّه لم يهتمّ بنا بتاتًا! فما حقيقة ذلك التصرّف؟ لقد كان بأجمعه من باب التأديب، حيث أدّب بذلك كلاًّ من الرجل والمرأة.. اذهبا لحال سبيلكما! فذهبا، وقد صُدما قليلاً، فبدآ يُفكّران قليلاً، والتفتا نوعًا ما، وطفقت حرارتهما وحماستهما تنخفض تدريجيًّا؛ وحينما رجعا عنده في اليوم التالي، ذهبا مطأطآ الرأس، مع مراعاة شديدة للأدب والتواضع، وهما يقولان: «سنُطيعكم في كلّ ما تأمرون به!»؛ الآن فقط صلُح أمرهما! ولهذا، حينما جاء المرحوم العلاّمة، قال لهما: كيف حالكما؟ مرحبًا بكما! ولم يُحدّثهما بأيّ شيء آخر... ارجعا إلى بيتكما، فقد انحلّت المسألة! لاحظوا، فهو لم يتكلّم بأيّ شيء، واكتفى بالسؤال عن الأحوال فقط: هل أنتما بخير؟ ماذا تفعلان؟ كيف حالكما؟ حسن جدًّا، حدّثوني عن أوضاعكم؛ فقالا: لقد نسينا تمامًا ماذا حصل، وما الذي لم يحصل؛ فقمنا، وغادرنا المكان.

  • لماذا؟ لأنّ البارحة لم يكن هناك فهم، واليوم حلّ الفهم؛ والبارحة لم يكون هناك استعداد للتلقّي، واليوم حلّ هذا الاستعداد؛ والبارحة كانا يعيشا حالة المستحقّ، واليوم حالة المستجدي؛ فما أحسن بالإنسان أن يأتي عند الله بهذه الحالة! فعلينا ألاّ نأتيه تعالى بحالة المستحقّ؛ وذلك بأن نقول: إلهي! لقد قلت إنّك ستأخذنا [إلى المقامات العالية]، فعليك أن تأخذنا إلى هناك! لأنّه سيقول حينئذ: لا أريد أن آخذك، فإلى من تريد أن تشتكي؟! اذهب عند من تريد! فنحن لا نستحقّ من الله تعالى أيّ شيء؛ لأنّه سيقول حينئذ: لا أريد.. فإذا عثرت على من هو أكثر قدرة وسطوة من الله تعالى، فاذهب عنده! إنّ العبد الصالح هو الذي يذهب دائمًا عند الله تعالى بحالة من الذلّة والتواضع والاستجداء: إلهي، أنا لست بشيء؛ فإذا أعطيتني، فسأكون ممتنًّا لك؛ وإذا لم تُعطني، فأنا عبدك، ولا أستحقّ منك أيّ شيء؛ فإذا كنت لا أملك من نفسي شيئًا في أصل وجودي، فبطريق أولى، ألاّ أملك شيئًا فيما يخصّ الآثار المترتّبة على وجودي؛ فإذا كان الله تعالى قد وهب أحدهم شيئًا، فلأنّه جاءه بتضرّع؛ ولهذا، حذار أن نطلب شيئًا من الله تعالى من باب الاستحقاق؛ فإذا قلت: إلهي، مرّت ثلاث سنوات، ونحن في طريق السير والسلوك، لكنّنا لم نر شيئًا لحدّ الآن! فإنّه سيقول: ولِيَكُن ذلك، بل قد تبقى عشر سنوات أخرى من دون أن ترى شيئًا؛ أ فهل لكم في ذمّتي شيء؟!

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

12
  • ـ إلهي، أنت بنفسك قلت!

  • ـ إذا كنت قلته، فأنا أقول الآن: لا! فماذا عساك أن تفعل؟

  • أ فهل لنا في ذمّة الله تعالى شيء؟! لا يا عزيزي!

  • ـ إلهي، حظّنا تعيس، ونعيش في معاناة، ونحن مساكين، كما أنّنا عبادك؛ فإذا أعطيتنا، سنكون ممتنّين لك، ونشكرك؛ وإذا لم تُعطنا، فلن يمنعنا ذلك من التضرّع إليك.

  • فإذا صرنا بهذا النحو؛ ففي ذلك الحين، نسطيع القول: لقد حصل شيء ذو بال؛ وإلاّ، دعوني أقل لكم ولنفسي بكلّ صراحة: إذا لم يكن طلبُنا على هذه الشاكلة، فلن نجني أيّة فائدة؛ وحتّى لو عمّرنا ألف سنة، وكان لنا عمر نوح، فلن نتقدّم ولو بمقدار شعرة؛ ولهذا، علينا أن نُحقق في أنفسنا حالة الطلب والانقياد؛ فهذه هي المسألة المهمّة.

  • أ فهل كانت الأمور التي بيّنها سيّد الشهداء للأفراد الحاضرين في كربلاء غامضة بالنسبة إليهم؟! أ فهل كانت مستعصية على الفهم؟! وبحقّ، هل توجد مسائل أبده وأوضح وأسهل على الفهم من المسائل التي ذكرها الإمام الحسين في يوم عاشوراء؟ فقد كان عليه السلام يقول: هل حلّلت حرامًا؟ أو حرّمت حلالاً؟ ما الذي ارتكبته؟ فقولوا لي ما الذي فعلته، لكي تأتون، وتسعون للقيام بهذه الأمور؟ وحقيقةً، فإنّ الإنسان ينتابه العجب من بلوغ الناس هذا المستوى، بحيث تُعرض عليهم أبده المسائل، لكنّهم يظلّون واقفين من دون حراك! فهو يقول: هل حلّلت حرامًا؟ أ ولست ابن بنت نبيّكم؟! فأنتم تعرفون ذلك! وها أنتم تُشاهدون بأمّ أعينكم هؤلاء الأطفال والذراري الذين ينتسبون بأجمعهم إلى رسول الله؛ فأنا لم آت محمّلاً بالسلاح والرجال؛ وقد كنت متوجّهًا إلى اليمن، لكنّكم قطعتم عليّ الطريق؛ وعلاوةً على ذلك، فإنّكم أنتم الذين بعثتم إليّ بالرسائل؛ فأمر عليه السلام بإحضار كيس الرسائل، وأفرغه أمامهم، وقال: ما هو مصدر هذه الأربعة آلاف رسالة؟ أ فهل كتبتها بيدي أنا؟! أنتم الذين كتبتموها برمّتها؛ فَبِمَ تَسْتَحِلُونَ دَمِي؟ لكنّهم بقوا ينظرون هكذا من دون حراك! وفي ذلك الحين، قال عليه السلام: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}؛ فلم يعودوا يفهمون أبده المسائل. أ فهل يوجد ما هو أبده من ذلك؟! فبالله عليك يا عزيزي، أنا أريد أن أمسك بأيدي هؤلاء النسوة والأطفال، ونذهب إلى مكان ما، فلماذا تريد قتلي؟ لكنّهم لا يفهمون؛ فهذا هو القلب الميّت؛ أي أن يصل الإنسان إلى درجة يقول فيها عن الإثنين زائد الإثنين أنّها تُساوي ستّة، أو ثمانية؛ هذا، مع أنّه ليست هناك قضيّة أبده منها.. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}، وهذه مسألة مهمّة جدًّا؛ فلا ينبغي علينا أن نقول: «نحن بهذا النحو، وعلى هذه الشاكلة، [ولا يُمكننا القيام بتلك الأفعال]»؛ لأنّ المسألة موجودة بعينها الآن؛ أي أنّ مسألة كربلاء لم تكن في ذلك العصر فقط، بل إنّها متحقّقة في كلّ يوم؛ لماذا؟ لأنّ سيّد الشهداء حاضر في كلّ يوم، وحقيقته حيّة؛ فلا يُمكن لأيّ واحد أن يُقاس به؛ ولهذا، فإنّ جميع العبارات التي يُلقّب البعضُ فيها بحسين العصر، وحسين كذا، باطلة بأجمعها، ومخالفة للشرع؛ لأنّ سيّد الشهداء كان رجلاً واحدًا وحسب؛ ووحده فقط كان حقًّا مطلقًا، ومن عداه ممزوج بالباطل؛ ولهذا، لا يجب أن يُقاس به أيّ أحد. إنّ سيّد الشهداء حقّ مطلق وعصمة مطلقة؛ وبمقدار ما يقترب كلّ واحد من هذا الحقّ المطلق، ينال حظًّا أوفر، لكنّه لا يصير بذلك مثله؛ لأنّه حقّ مطلق. وفي مقابل هذا الحقّ المطلق، يوجد باطل مطلق؛ ولهذا، في كلّ يوم، يوجد يزيد، ويوجد سيّد الشهداء أيضًا؛ إذ إنّ الحقّ المطلق حاضر في كلّ يوم؛ فسيّد الشهداء موجود منذ زمان آدم، وإلى يوم القيامة؛ وكذلك الشأن بالنسبة للطرف المقابل؛ فكلاهما حاضر.. {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ}.

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

13
  • فعلى الإنسان أن يتحلّى دائمًا بالهدوء والطمأنينة حين مواجهته للحقّ؛ ومتى ما توصّل إلى نتيجة معاكسة، عليه أن يقول بكلّ صراحة: «ثبت لي عكس تلك المسألة، ومن الآن فصاعدًا، أنا أقول بالأمر الكذائيّ؛ فقد كان رأيي السابق بذلك النحو، ومن الآن فصاعدًا، صار بهذا الشكل»؛ ولا ينبغي عليه أن يقول: «إن غيّرت رأيي الآن، سيُقال لي: لماذا كنت ترى خلاف ذلك في السنة الماضية؟»؛ فإن خطرت على باله هذه الفكرة، فليعلم أنّ ذلك من الشيطان، وليضربه على يده، ويقل: «فليقولوا ذلك! أيّهما أكثر: ما ستحصل عليه من اعترافك، أم ما ستخسره من إنكارك؟»، أو يقول: «أيّ هذين الفعلين ستجني منه فائدة أكبر؟ تعال بنفسك، وأَجرِ هذه الصفقة!».

  • الرجل هو الذي يعترف بأخطائه!

  • ذات يوم، كان المرحوم الشيخ عبد الكريم الحائريّ يُلقي درسًا.. رحمة الله تعالى على جميع العظماء والعلماء والمتقدّمين؛ وقد كان المرحوم الآخوند ملاّ علي الهمدانيّ من تلامذته؛ وهو أيضًا من العظماء والعلماء، وكان بحقّ رجلاً فاضلاً وذا علم غزير؛ وفي أحد الأبحاث، طرح المرحوم الشيخ عبد الكريم مسألة، فأشكل عليها تلميذه ذاك، ومرّت تلك الجلسة في هذه المباحثة. وفي اليوم التالي، جاء المرحوم الشيخ عبد الكريم، وطرح رأيًا مخالفًا لرأيه بالأمس، وقال: «أجل، حينما رجعت البارحة، وأجريت مزيدًا من التحقيق بخصوص تلك المسألة ومختلف جوانبها، تبيّن لي أنّ المسألة التي طرحتها أمس كانت خاطئة، وأنّها بالنحو الكذائيّ»؛ وفي هذه الأثناء، قال له الآخونذ ملاّ علي: «أيّها السيّد! إنّ الرجل لا يُغيّر كلامه؛ وقد تحدّثت البارحة بكلام، فعليك أن تتشبّث به»؛ فأجابه قائلاً: «أنا رجل، لكنّني أغيّر كلامي»؛ فالرجل هو الذي يقول حينما يكتشف خطأه: «لقد أخطأت! فقد كان رأيي بشأن المسألة الكذائيّة بهذا النحو، وبعدما فكّرت فيها أكثر بالليل، تراجعت عن رأيي»؛ فما معنى: الرجل لا يُغيّر رأيه؟! فلو فرضنا أنّ كلام الرجل كان باطلاً، هل يجوز له أن يأتي اليوم، ويستمرّ عليه؟ فهذا لا يصحّ! رَحِمَ اللهُ المَاضين منَّا؛ فقد كان طريقهم طريق الصدق والحقّ؛ ولهذا، فإنّ الباري عزّ وجلّ سيُثيبهم بالمقدار ذاته.

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

14
  • على الإنسان أن يكون خاضعًا في مقابل الحقّ على الدوام، وعليه أن يرجو الله تعالى لكي يُبقي حالة الفهم هذه حيّةً في نفسه باستمرار، وليس حالة العلم والمعرفة؛ فقد تُطالعون مسألة ما في أحد الكتب، لكن، من دون أن تنتقش في قلوبكم؛ وذلك بسبب عدم إذعانكم بها، لكونكم تتوفّرون على بعض المصالح الشخصيّة التي لا تنسجم معها؛ ولهذا، فإنّ الشيطان يأتي هنا، وينأى بالإنسان عن تلك المسألة الحقّة، ويستمرّ في النأي به عنها، إلى أن يتعدّاها.

  • وتذكّرت الآن مسألة تنفعنا لإكمال البحث الذي ذكرنا فيه أنّ الإنسان عليه التعاطي دائمًا مع الحقّ بهدوء؛ وهي مسألة مختلفة عن تلك التي لعلّكم سمعتموها منّي سابقًا، وأشرت فيها إلى أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول: «أحيانًا، يشعر الإنسان بالمعاناة جرّاء تعامله مع الناس، ويُقاسي كثيرًا من هذه العلاقات»؛ وذلك لأنّه قال ذات يوم: «لقد ذكرت للشيخ مطهّري مسألة معيّنة، فصدّقني فيها، وقال: أجل يا سيّدي، صحيح، والأمر هو بهذا النحو، حيث قلت له: إنّني أشعر في علاقتي بالناس ـ وحالي هو هكذا حقيقة ـ بأنّهم إذا لجؤوا إلى شتم الإنسان ولعنه، سيكون أريح بالنسبة إليه من أن يأتون عنده، ويختلط بهم، ويجتمع معهم؛ فقال لي الشيخ مطهّري: أجل، أجل، يا سيّدي! إنّ المسألة بهذا النحو؛ وأنا أعاني بدوري منها»؛ كما قال المرحوم العلاّمة [الطهرانيّ] أيضًا: ذات يوم، قلت للعلاّمة الطباطبائيّ رحمة الله تعالى عليه: يا سيّدي! في البداية، يُؤمر الإنسان بالتقيّد بالمراقبة، وعدم الحديث مع الناس، وعدم مخالطتهم، وبتنظيم برنامج أعماله، وألاّ يُقيم مع الناس علاقات مرتكزة على تخيّلاتهم، و...؛ فيلتزم الإنسان بهذه الأعمال؛ وحينما يصل إلى مستوى يرتضي فيه حالة العزلة لنفسه، ويميل إلى حالة الانطواء على ذاته، والاهتمام بأشغاله الخاصّة، ويُغلق هذه الدائرة على نفسه، ويتأقلم مع هذه الأجواء، ولا يعُد يمتلك الرغبة [في مخالطة الناس]، ويحسم موقفه تمامًا من هذه المسألة، يأتيه أمر آخر يقول: عليك الآن أن تذهب عند الناس، وتتحدّث معهم، وتسعى لإرشادهم، وتأنس بهم، وتذهب إلى بيوتهم، وتُخالطهم. ثمّ قال [العلاّمة الطهراني رحمة الله تعالى عليه]: يا سيّدي! إنّه لأمر صعب جدًّا! فحرّك المرحوم العلاّمة [الطباطبائيّ] رأسه، وقال: أجل، أجل، إنّه لصعب جدًّا!

الفهم: تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به - تعريفه، أهمّيته، ونتائج عدم الالتزام به

15
  • ويبقى أنّ هذه المسألة تختلف عن المسألة التي أقصدها في حديثي؛ أي مسألة أن يكون الإنسان دائمًا مستعدًّا للاعتراف بالحقّ في مجال القضايا الاجتماعيّة ذات الصلة بالناس، وكذلك المسائل الداخليّة؛ فلا ينبغي عليه هنا أن ينغلق على ذاته، وينأى بنفسه، ويلوذ بالفرار؛ اللهمّ إلاّ إذا كان هناك تكليف في البين؛ فهذه مسألة أخرى؛ ولهذا، يقول الإمام الصادق عليه السلام لعنوان: إنّ الطريق الموصل للهدف المنشود يتمثّل في طلب الفهم من الله تعالى، وزيادته، حيث يُراد من هذا الفهم: حالة اعتدال القلب وطمأنينته وتسليمه في مقابل الحضرة الإلهيّة، حتّى يُفيض عليه الباري تعالى كلّ ما يريد؛ فإذا تحقّق الإنسان بهذه الحالة، سيُمكنه حينئذ أن يتحرّك؛ وأمّا إذا لم يتحقّق بها، فإنّ علمه لن يُساوي شروى نقير، ولو فاق علم الأوّلين والآخرين.

  • ندعو الله تعالى ونرجوه بتضرّع وخضوع، وليس من باب المنّة والاستحقاق، بل بحالة من الاستجداء، والعبوديّة، والاستعطاء، والفقر أن يُعدّ قلوبنا ويُهيّئها دائمًا لإدراك حقائقه، وألاّ يحرمنا من نبع فيضه ورحمته اللانهائيّ، ولو للحظة واحدة، وأن يُرضي عنّا قلب وليّ عالم الإمكان.. إمام زماننا أراواحُنا لتراب مقدمه الفداء، ولا يحرمنا في الدنيا والآخرة من زيارته وشفاعته.

  • اللَهمَّ صلِّ عَلى مُحمَّد وآل مُحمَّد