المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةتفسير آية النور
التوضيح
هل بإمكان الموجودات أن تقود الإنسان الى حقيقة ذات الله؟ وماذا يقول الفيلسوف العربي إسحاق الكندي حول معرفة الله؟ وهل معرفة الله بواسطة العقل وحده ممكنة؟ وما هو رد العلامة الطهراني على الشيخ البهائي الذي يعتبر ان معرفة ذات الله مستحيلة وانها لا تتم الا بالوصول الى الأسماء والصفات الإلهية؟ ثم ما كان رأي الفيلسوف أفلاطون في المعرفة؟ وهل اعتبر ابن سينا أن الوصول الى ذات الله ممكن للجميع؟ وماهي شروط الوصول للمعرفة من وجهة نظر الشيخ السهرودي؟ وهل الوصول الى تمام المعرفة يتم بالآية الآفاقية أم الأنفسية؟ هذه مجموعة من الإشكالات التي طرحها العلامة السيد محمد حسين الطهراني قدس سره في المحاضرة السادسة من سلسلة تفسير آية النور.
هو العليم
آراء الفلاسفة والحكماء حول إمكان معرفة الله
تفسير آية النور
(المجلس السادس)
ألقاها:
العلامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
الله تعالى ظاهر في آيات الآفاق والأنفس ولكن الناس يشكّون في لقائه
مرّ معنا في الأسبوع الماضي أنّ الله العليّ الأعلى يسمّي جميع موجودات السماء والأرض ويطلق عليها أنّها آية؛ يعني: جميع هذه الموجودات هي آيةٌ لله، والآية بمعنى العلامة والمظهِر؛ يعني: من كلّ واحدٍ من هذه الموجودات يظهرُ الله، وهي مرآة تظهر وجه الله، وبدون استثناء فإنّ أيّ موجود هو مرآة يظهر الله.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ}.
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} أي في الموجودات الخارجة عن أنفسهم، {وَفِي أَنفُسِهِمْ} أي بواسطة طريق الباطن ونفوسهم، حَتَّى يَتَبَيَّنَ (ويتضح) لَهُمْ أَنَّهُ (هو) الْحَقُّ.
ثمّ بعد ذلك يقول: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ} أي مع وجود جميع هذه الموجودات الآفاقيّة والأنفسيّة والتي هي مرآة لله، بحيث يمكن للإنسان أنْ يرى الله من خلالها كيفما فتح عينه وفي أيّة جهة، فإنّ هؤلاء الناس شاكّون في لقاء الله {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ}.
هل بإمكان الموجودات أن تقود الإنسان إلى حقيقة ذات الله
جميع الموجودات مرآة الله، وكلّها تحاكي الله، وهذا مما لا شكّ فيه ولا تردّد، ولكن هل لهذه الموجودات أن تقودَ الإنسان إلى كنهِ ذاتِ الله؟ يعني تريه حقيقةَ كُنهِ ذاتِ الله؟ أم أنّها لا تقدرُ على ذلك، وإنّما تُظهرُ الله من نافذة صغيرة فقط؟ وتبيّن الله من جهةٍ خاصّة؟
ممّا لا شكّ فيه أنّ الموجودات مختلفة عن بعضها البعض؛ فبعض الموجودات كبير، والآخر صغير، وأحدها عقله وفير، والآخر ناقص، وواحدٌ قدرته هائلة، وآخرٌ قدرته ضعيفة، فالشمسُ تتفاوتُ مع الضوء الذي يضيئه الإنسان في الليل، وعلم جبرائيل يتفاوتُ مع علمِ تلكَ الذرّةِ التي يضعها الإنسان تحتَ المِجهر ليتمكّنَ من رؤيتها؛ فجميع هذه الموجودات واجهةٌ لله ومرآته، إلاّ أنّ كلّ واحد منها يرى الله من جهةٍ خاصّة وجانبٍ وأفقٍ ضيّق، ولا يظهره من جميع الجهات.
وهناك قاعدةٌ عند الحكماء تقول:
"العلمُ بالعلّة من خلال العلم بالمعلول علمٌ بها من جهة".
أي: العلم بالعلّة من طريق العلم بالمعلول هو علم بالعلّة ولكن ليس من جميع الجهات، لأنّ ذات وجودِ العلّة أوسعُ وأكبر وأقوى من وجود المعلول.. والمعلول في ظرف ذاته من حيث أنّه يمتلك سعةً ومحدوديّة خاصّة هو محدود بنفسه، ولا يستطيع أن يُظهرَ جميع جوانب العلّة، والنتيجة هي أنّ هذه الموجودات تُظهرُ الله، ولكنْ كلٌّ من حيثيّةٍ خاصّة.
فحينما ينظرُ الإنسان إلى النملة، فإنّها تُظهرُ الله، وهي تظهره واقعاً، لكن من جهةٍ خاصّة، كذلك الورقة المتّصلة بالشجرة كيفَ أنّها تتغذّى من الشجرة، وهو ما يدعو الإنسان إلى دراستها والتأمّل فيها؛ فهي في الحقيقة تُظهرُ الله ولكن من غير تلكَ الجهة التي تُظهرها النملة.. كذلك الصخور الصلبة والمعادن، والموجودات التي تمتلك قوى مختلفة، فهي تُظهر الله حتّى ولو كانت بقدرِ ذرّة صغيرة، فإنّها تُظهرُ الله من ناحية أخرى غير ما تظهره ذات الأرواح من الموجودات، فالإنسان يُظهر نوعاً، والحيوان يُظهرُ نوعاً آخر، وكلّ موجودٍ من موجودات العالم يُظهرُ حصّة خاصّة..
إذاً، إلى أيّ حدٍّ يكون الله كبيراً وواسعاً، بحيث تكون جميع الموجودات مُظهِرةً له، بل مهما نظرَ الإنسان إلى الموجودات محاولاً أنْ يرى الله من خلال مرآتها فإنّه لا يرتوي ولا يبلغ مراده! فكم هو كبير هذا الإله بحيث جعلَ كلّ ذلك مرآة لظهوره!
فمنذ ذلك الزمان ـ استعمال كلمة "زمان" هنا خطأ ولكنه تعبير تسامحيّ ـ الذي خلقَ الله فيه السماوات والأرض، حيث خلقَ الموجودات العقليّة، وأوجدَ العقل الأوّل، وأوجدَ عالم التجرّد، ثمّ أوجدَ عالم المادّة، حتّى أرجعَ كلّ الموجودات إلى ذاته وربطها بذاته، ففي جميع هذه المراحل، كانَ جميعُ ذلك مرآةً لجمال الله، من الذرّة الصغيرة إلى المجرّات، ومن الورقة الصغيرة على الشجرة إلى الأفلاك، فإنّ جميع ذلك مرايا تظهرُ جمال الله، وهي تقوم بإظهار الله وإبراز جماله، وعدد هذه المرايا هائل إلى الحدّ الذي لا يمكن حسابه وحصره، فلا يستطيع الإنسان أن يعدّها ولو كانت في لحظة واحدة! فكيفَ له أن يحسب جميع هذه المرايا من أوّل عالم الخلقة إلى الآخر ويشاهدها وينظر إليها!!
إذاً، إلى أيّ حدٍّ هو كبير هذا الإله؟! كم علمه هائلٌ! بحيث أنّ جميع العقلاء والعلماء، الأعمّ من الإنسان، وما يمتلكه الحيوان من العقل والشعور والملائكة والجنّ وسائر الموجودات الأخرى.. جميع هؤلاء يقومون بإظهار علم الله، كذلك قدرة الموجودات فإنّها تظهرُ قدرة الله، ومع ذلك فإنّ الإنسان لا يرتوي من نظره إلى هذه المرايا ومشاهدتها، فهو يريد أن يشاهدَ الله بواسطة مرآة أخرى، فهو يرى رونقاً آخراً وجمالاً مغايراً بواسطة تلك المرآة؛ ولذا فإنّ هذه المشاهدة لا تقف عند حدٍّ معيّن، حتّى الأنبياء والمرسلون لا يتعبون ولا يملّون من المشاهدة!!
فواحدٌ من الأسفار التي يقطعها الإنسان ـ أي بعد السير من الخلق إلى الحق، والسير في الحق بالحق، والسير من الحقّ إلى الخلق بالحقّ ـ هو السير في الخلقِ بالحقّ، يعني: يشاهد الإنسان ويتنقّل برؤيته في الموجودات ولكن بعينٍ إلهيّة، وهذا السير لا انتهاء له، لأنّ الله غير محدود، وهي مرحلة مشاهدة الجمال الذي يتلألأ من كلّ جانب، ويتمارى من كلّ ناحية، وهو غير محدود بحدٍّ معيّن.
الوصول إلى ذات الله عبر الموجودات غير ممكن لمحدوديتها
ولذا، فأيّ شخصٍ يريدُ أن يرى الله بواسطة هذه الآيات، لن يتمكّن من رؤية ذات الله، أفهلْ يمكنُ أن يظهرَ اللهُ من خلال هذه الموجودات المرآتيّة ذات المحدوديّة والسعة الضيّقة؟!
فالأنبياء يبيّنون ويُظهرون شيئاً، والعلماء يُظهرون قسماً آخر، الحكماء يُظهرون قسماً، والزهاد والعبّاد يُظهرون قسماً، أهل المعصية يُظهرون قسماً، وأهل الطاعة يبيّنون قسماً، الحيوانات تُظهرُ قسماً، الجمادات تُظهرُ قسماً، والملأ الأعلى وملائكة الله يبيّنون قسماً، والكلّ يبحثُ ويفتّشُ بدوره عن الله، ولا تصلُ يدهم إلى الذات، وجميعهم متحيّر مضطرب، لأنّهم يريدون أن يوصلوا أنفسهم من خلال هذه المرايا، والحال أنّه ليس للمرآة أنْ تُظهرَ وتكشفَ الكلّ، فهي إنّما تظهرُ جهةً من الجهات فقط.
خذوا مرآةً صغيرة مثلاً: بقدرِ عملة صغيرة، أو بقدرِ حبّة العدس وضعوها مقابل وجهكم، فكمْ يمكنها أنْ تُظهرَ من صورة وجهكم؟ لا يمكنها أنْ تبدي حافّة حاجب العين، فكيف لو أردنا أن نرى بواسطتها جميع العين؟! أو كلّ الأنف!! أو الأذن!! أو خلفَ الرأس!! أو أن تريَ جميع بدن الإنسان، حينئذٍ نحتاج إلى مرآة تعادل طول قامة الإنسان كي تستطيعَ أنْ تُظهرَه كلّه.
يمثّلون لذلك بمثال، يقولون: في يومِ من الأيّام أحضروا فيلاً من الهند هديّة لأحد الأشخاص ـ وأنتم تعلمون أنّ الفيل هو حيوانٌ ضخمٌ جدّاً ـ وأدخلوه المنزل ووضعوه في مكانٍ مُعتِمٍ، وأُذيعَ الخبر وبدأ الناس يتهافتون من كلّ النواحي المجاورة لرؤية هذا الفيل، فهم لم يروا فيلاً من قبل. والحرّاس يدلّون الناس على مكان الفيل كي يرَوه، وكان الفيل في مكان مظلِم، فلم يستطع الناس أن يشاهدوه ويروه بسبب الظلام، فشرعوا بملامسته وإمرار أيديهم عليه، وكلّ شخصٍ كانَ يلمس عضواً من أعضائه؛ فالأشخاص الذين لمسوا خرطوم الفيل، حينما خرجوا سألهم الناس: سيد! كيف هو الفيل؟ هل لمستم الفيل؟ فأجابوهم: بأنّ الفيل حيوانٌ يشبه الميزاب. بعضهم وضعوا يدهم على أذن الفيل، فسألوهم: كيف هو الفيل؟ أجابوا: مثل المروحة الكبيرة. وبعضهم لمسوه من جهة أقدامه الخلفيّة، فسألوهم: كيف هو الفيل؟ أجابوا: الفيل مثلُ أعمدة البناء، تماماً كالعامود الكبير. وبعضهم لمسوه من الأعلى، فسألوهم: كيف هو الفيل؟ فقالوا: إنّ الفيل مثل التخت الطري، وهكذا كلّ شخصٍ يصف الفيل من المكان الذي لمسه فيه، والحال أنّه ليس هناك شخص عرف حقيقة الفيل!! لأنّه هناك ظلام وعتمة، فهم في الظلمات..
كما لو وَقَفَ شخصٌ قدْ وُضِعُ مقابله العديد من المرايا، ألفُ مرآةٍ من تلك المرايا الصغيرة، فواحدةٌ عكست وجهه، وأخرى أظهرتْ أُذنه، والعين ظهرت في مرآة أخرى، والقدم في مرآةٍ، والشعر في مرآة، والظَّهْر في مرآة جميع هذه المرايا تقوم بإظهاره ولكن بشكل مجتزأ، فيأتي شخصٌ من الخارج ولا ينظرُ إلى ذاك الشخص الواقف، وإنّما يَنظرُ إلى المرايا، ثمّ يسألونه: أيّها السيّد! كيفَ هو شكلُ ذاك الشخص الواقف في الوسط؟ فيجيب قائلاً: هو إنسانٌ يشبه الأُذن، والشخصُ الذي يرى بواسطة المرآة بعضَ الذقن والشوارب دونَ البعض الآخر لأنّه لا يرى المرايا الأخرى فسوف يقول: هذا الشخص له شعر فقط، وشخصٌ آخر مقابله يقول: له عين فقط، وذاك الواقف في الخلف كذلك... فكلّ شخصٍ يصفُ صورة خاصّة.
أمّا ذاك الذي يتقدّم إلى الأمام وينظر ولكن ليس من خلال المرآة، فإنه يعاين نفس الشخص الواقف في الوسط ويحدّق به مباشرة، وعليه أن يكون قويّ النظر إلى الحدّ الذي يتمكّنُ معه من النظر إليه بشكل مباشر دون مرآة، فالنظر إلى هذا الشخص بدون مرآة صعب جدّاً !! فلا يمكنُ النظرُ إلى الشمس في وسط النهار، وإنّما ينظرُ إليها من خلال انعكاسها في الماء، وكلّ من يريد أن يرى الشمس عليه أن ينظر إلى الماء، لأنّ الماء يكسرُ مقداراً من النور ويخفّفه، لذلك يمكن للشمس أن تُرى بواسطة الماء.
والآن، لو تمكّنَ شخصٌ من رؤية الشمس نهاراً، أو لو تمكّنَ أحدٌ من رؤية ذاك الواقف في الوسط بدون مرآة، أو لو استطاع شخصٌ أن يضيء ضوءً ثمّ يرى الفيل، فلن يعود يعرّفه حينئذٍ بأنّه يشبه الميزاب!! أو أنّه أسطوانة البناء أو المروحة!! وإلاّ فأينَ الفيل من المروحة؟! وأين المناسبة بينهما؟ فليس الفيل عامود بناء، ولا ميزاباً.. وإنّما هو موجود آخر؛ فهو ذو نفس، وله غاية وأمنية، وله مبدأ، وله منتهى، وله غذاء خاصّ، و يتزوّج، ويتنفّس، ويغضب، وله عاطفة.. فأنّى للإنسان أن يدركَ جميع هذه الإحساسات والغرائز والصفات الكامنة فيه ثمّ يخبر عنها الآخرين بمجرّد إمرار يده على ظهر الفيل؟!
كلام الفيلسوف العربي يعقوب بن إسحاق الكندي حول محدودية معرفة الله
أحدُ الحكماء، وهو يعقوب بن إسحاق الكنديّ المعروف بـ "فيلسوف العرب"، ـ من الحكماء المتقدّمين، ولعله في القرن الثالث ـ له عبارة راقية جدّاً، يقول:
"إذا كانت العلّة متصلةً بنا مُفيضةً علينا وكنّا غيرَ متّصلين بها إلا من جهةٍ، فيمكنُ لنا ملاحظتها بقدرِ ما يمكنُ للمُفاضِ عليه أن يلاحظَ المفيضَ، فيجبُ ألا ننسبَ قدرَ إحاطتها بنا بقدر ملاحظتنا لها لأنّها أغزر وأوفر وأشد استغراقاً".
ومراده أنه إذا كانت علّة العلل ـ أيّ الله ـ متّصلة بنا ولها معيّة معنا، ويصلنا فيضها بلا واسطة على الدوام، وأنّنا متّصلون بالله دون أيّ واسطة وأنّنا نستفيض منه، لذلك فمن المسلّم أنّنا سنتمكّن من رؤيته حينئذٍ، ولكن إلى أيّ حدّ؟ إلى ذاك الحدّ الذي يستطيع المعلولُ والمخلوق أن يطّلعَ فيه على العلّة والخالق، فالموجود الذي يُفاضُ عليه يستطيع أن يتعرّف على علّته بالمقدار الذي تفيضُ به عليه، بهذا المقدار فقط، لذلك يجب أن لا ننسبَ إلى العلّة وإلى الله المقدار الذي ندركه ونلاحظه ونعلمه عنه، أي ذلك المقدار الذي لاحظناه ورأيناه وعرفناه، فلا نقول: إنّ الله محيطٌ بنا بهذا الحجم وبهذا المقدار، فهذا أمر خاطئ، لماذا؟ لأنّ لتلك العلّة فيضاناً وتدفّقاً أكثر من ذلك، وقدرته تعالى أكثر، وإحاطته ونفوذه أكبر، فلديه آلاف المعاليل الأخرى، وله مخلوقات أخرى، حينئذٍ نأتي نحن من خلال هذه النافذة - مخلوقيّتنا - الضيّقة ونريد أن نشاهده ونحيط به علماً!! فكيف نقول: إنّ عليّته بالنسبة لنا هي بهذا المقدار الذي شاهدناه؟!
وهذه عبارة متينة جدّاً، وقد أجاد في قوله هذا.
لأجل ذلك، فمن حيث أنّ الإنسان يريد أن يذهبَ إلى الله ويجده بواسطة تفكيره، فإنّه آيسٌ ويائس من نتيجة هذا الطريق، ولا يمكن أن نقتنص وننعمَ بذاك الإله بمجرّد مشاهدة هذه المرايا وهذه الموجودات، ولن يتمكّنَ أحدٌ من بلوغ هدفه وصيده!!
در آلاء فكر كردن شرط راه است | *** | ولي در ذات حقّ محض گناه است |
بُوَد در ذات حقّ انديشــه باطــل | *** | محال محض دان تحصيل حاصـل |
چو آيات است روشن گشته از ذات | *** | نگــردد ذات او روشــن ز آيات |
همـه عالم ز نــور اوســت پيـدا | *** | كجـا او گـردد از عالــم هــويدا |
نگنجــد نـور ذات انـدر مظاهـر | *** | كه سُبحات جلالش هست قاهــر |
رها كن عقـل را با عشـق ميباش | *** | كه تاب خور ندارد چشم خفّـاش |
درآن موضع كه نورِ حقّ دليل است | *** | چه جاي گفتگـوي جبرئيل است |
فرشـته گرچـه دارد قـرب درگـاه | *** | ولي او نگنجد در مقام لي مع الله |
چو نـور او ملَـك را پـر بســوزد | *** | خِـرد را جمـله پا و سـر بسـوزد |
حينما عجز جبرائيل عن الصعود إلى الأعلى، كان يقول لو حلّقت ورفرفت وارتفعت لاحترقت، فأنا موجود محدود، محدود بحدّ العلم، وإن شئتُ أن أخرج من هنا، فسوف تحترق جوانحي (والتي هي العلم)، لأنّ هناك عالم فوق العلم، فهناك كنه الذات.
أيّها العاقل!! إلى أين تريد أن تذهب؟! أفهل يمكن للإنسان أن يذهب بواسطة هذا العقل ويعرف الله؟! أو هل يمكنُ لفكره أن يجدَ الله؟! هل هذا ممكن؟!
كلام الشيخ البهائي في كتابه "الأربعين" حول مراتب معرفة الله تعالى
المرحوم الشيخ البهائي ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ ضمن كتابه "الأربعين" ـ وهو من الكتب النفيسة جدّاًـ ضمن شرح الحديث الثاني منه، له بيان رفيع جدّاً، حيث يقول أنّ المعرفة لله إنّما هي بحدود قدرة الإنسان، والإنسان إنّما يمكنه معرفة أسماء الله وصفاته، فيعرف أسماء الله وصفاته فقط، وأمّا كنه ذات الله، فهو خارج عن المقدور. ولذا نرى أنّ الملائكة المقرّبين والأنبياء المرسلين لم يصلوا إلى الذات الإلهيّة، ولم يعرفوا كنهها. وقد نقل عن النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم: ما عبدناك حقّ عبادتك، وما عرفناك حقّ معرفتك.
كذلك رُويَ في حديث آخر: إنّ الله تبارك وتعالى احتجب عن العقول كما احتجب عن الأبصار، وإنّ الملأ الأعلى يطلبونه كما تطلبونه أنتم.
لذلك فإنّ من يدّعي أنّه وصل إلى ذات الله وبلغ حقيقة الله وأدرك كنه الله، فـ "أحثُ التراب في فيه" بل "ضلّ وغوى وكذب وافترى"، فليس الأمر كذلك، وأما العلماء الذين وضعوا أقدامهم في مقام المعرفة بجدّ وثبات فإنّما كان مبلغ سيرهم أن وصلوا إلى الأسماء والصفات الإلهيّة، وشاهدوا الله من ناحية أسمائه وصفاته.
آنچه پيش تو غير از آن ره نيست | *** | غايت فهم تست الله نيست |
حسنا، يقول: بابا أفضل الدين كاشى :
گفتم همه مُلكِ حسن سـرمايه تست | *** | گفتا غلطـى ز ما نشـان نتـوان يافـت |
در آلاء فكر كردن شرط راه است | *** | از ما تو هر آنچه ديدهاي پاية تست |
ولنتجاوز عن ذلك، فيمكن القول: إنّه لا يمكننا الوصول إلى جميع أسماء الله وصفاته أيضاً، لماذا؟ لأنّ الطريق الذي يصل بنا إلى أسماء الله وصفاته هو صفاتنا نحن وأسماؤنا نحن؛ أي بواسطة هذه الصفات الكائنة فينا والتي هي على طرفي نقيض: الحسن والقبيح. وحينئذٍ ننسبُ الصفات الحسنة إلى الله، وذلك بعدَ تصفيتها وإزالة شوائب النقصان عنها؛ مثلاً: العلم والجهل الموجود فينا، ننسبه إلى الله ثمّ نستدرك ونقول: هو علمه أقوى..
ولكن كيف لنا أن ندرك الآلاف من الصفات الإلهيّة والتي هي غير موجودة عندنا أصلاً، حتّى أنّه لا يوجد ما يشابهها؟!
{وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً}
لذا يقول الإمام محمّد الباقر عليه السلام:
"كُلُّ مَا مَيَّزْتُمُوهُ بِأوْهَامِكُمْ فِي أَدَقِّ مَعَانِيهِ فَهُو مَخْلُوقٌ مِثْلُكُمْ، مَرْدُودٌ إلَيْكُمْ فَلَعَلَّ النَّمْلَ الصِّغَارَ تَتَوَهَّمُ أنَّ لِلَهِ زبَانِيَتَيْن فَإِنَّ ذَلِكَ كَمَالُهَا وَتَتَوَهَّمُ أنَّ عَدَمَهُمَا نُقْصَانٌ لِمَنْ لا يَتَّصِفُ بِهِمَا وَهَكَذَا حَالُ الْعُقَلاءِ فِيمَا يَصِفُونَ اللَهَ تَعَالَى بِهِ"
فالعقلاء إنّما يقومون بالتفكير من خلال تنظيم المقدّمة والتالي.. الصغرى.. الكبرى.. النتيجة.. فيريدون أن يستكشفوا الله بواسطة هذه الوسائل والروابط، ويحصلوا عليه بواسطة هذه المجهولات، فيصنعون إلهاً له قرن، لأنّهم يقولون: نحن نتمتّع بالعلم، فلا بدّ وأن يكون لله علم، ولدينا قدرة، فلا بدّ وأن يكون لله قدرة، وأمثال ذلك؛ ثمّ بعد التي واللتيّا وبعد الانتهاء من صياغة وصناعة هذا الإله الخالي عن الشوائب والنواقص والمصون من العيب، فإنّ هذا الإله مصنوعٌ ومخلوق أيضاً. هذا هو مضمون كلام الإمام محمّد الباقر عليه السلام.
يقول المرحوم الشيخ البهائيّ:
قال بعضُ المحقّقين ـ ويقصد به المحقّق الدوّاني ـ [والنقل بالمعنى وليس حرفيّاً]:
ما أروع هذا الكلام من الإمام وما أعجبه! وهو كلامٌ أنيقٌ دقيق صدر من مصدر التحقيق! ومعنى كلام الإمام هو: أنّ الإنسان الذي يريد أن يعرفَ ربّه إنّما يستطيع على قدْر قدرته، بما يتناسب مع القدرة البشريّة، فالإنسان يمكنه أن يصلَ إلى ربّه بواسطة هذه الصفات؛ يعني: بواسطة تلك الصفات التي أودعه إيّاها الله العليّ الأعلى في وجوده، لتكون هذه الصفات هي الطريق لمعرفة الله، وإذا سُلب الإنسان هذه الصفات فأنّى له أن يعرف الله بعد ذلك؟! مثلاً: أفرضوا أنّنا اقتلعنا العلم والقدرة والحياة من أحدِ الأشخاص، فسوف يصبحُ إنساناً جامداً، ولا يعود بإمكانه معرفة الله؛ إذن، طريقُ معرفة الله من خلال الصفة، فالإنسان المريد والحيّ والمتكلّم هو الذي يعرف الله، والإنسان ينظر إلى ما يمتلكه من الصفات، ثمّ يقرّ بأنّ لله مثل هذه الصفات ولكن بشكل أعلى وأقوى، مثلاً: الإنسان حيّ، قادر، عالم، مريد، متكلّم، سميع، بصير.. فيقول الإنسان: الله كذلك، غاية الأمر أنّ وجودنا قائم بالغير، ووجودنا ينشأ من ناحية وجود الله، أمّا الله: فهو واجب بالذات، ووجوده أعلى، وحياتنا محدودة، وأمّا حياة الله فهي غير محدودة، وعلمنا محدود، إلاّ أنّ علمَ الله ليس محدوداً، وقدرتنا محدودة وأمّا قدرة الله فغير محدودة، وهكذا...
وفي آخر المطاف، لا يمكننا أن نعرف الله ونتعرّف عليه بما هو خارج عن دائرة هذه الصفات، ولكن لعلّ للّهِ آلاف الآلاف من الصفات والتي نفتقدها نحن ولا نعرفها أصلاً ولا نشمّ رائحتها أصلاً!! فما لا يخطر على بالنا كيف لنا أن نعرف الله بواسطته؟! فلا نمتلك غير العلم والحياة والتكلّم والسمع والبصر والقدرة وأمثالها ممّا نعلم أنّها ثابتة لله، ولكن كيف لنا أن نطّلع ونتعرّف على الصفات التي لا تخطر على بالنا حتّى ولو بقينا نفكّر إلى يوم القيامة فلا طريق لنا إلى الوصول إليها، حيثُ أنّه لا شيءَ من تلك الصفات المذكورة في خِلقتنا ونظامنا الوجودي. هل التفتّم جيّداً؟
فلو ذكرتم الشمس للأعمى، ماذا يفهم؟ فمهما قلتم له: الشمس.. سوف لا يفهم شيئاً، لأنّ حاسة البصر معدومة من وجوده، مختفية، والعالم من ناحية المبصرات مقفل أمامه، لا يستطيع أن يدرك معنى النور ولا الشمس.
فلو لم يكن الله قد وضعَ فينا غير هذه الصفات التي ذكرت ممّا هو كائن عند الله، ولم يجعله فينا بعنوان النموذج، فمن أينَ لنا أن نعرفَ الله؟! هل يمكن ذلك إلاّ بواسطة هذه الصفات؟! فعلاوة على أنّنا لا يمكننا أن نطّلعَ على ذات الله، فإنّه لا يمكننا أن ندركَ كلَّ صفات الله أيضاً، فقط يمكننا أنْ نتعرّف على الصفات التي نمتلك نموذجاً منها. هذا هو (مضمون) كلام المحقّق الدواني.
ثمّ ينقلُ المرحوم الشيخ (البهائي) عبارة عن "الخواجة نصير الدين الطوسي" يذكر فيها أن مراتب المعرفة على أربعة أقسام؛ من باب المثال: تارة لا يكون الإنسان قد رأى طوال حياته في الدنيا ناراً أصلاً، ولا آثارها، إلاّ أنّهم قد أوضحوا له ذلك وبيّنوا له بأنّ النار أحد الموجودات التي تعدمُ كلّ ما تلاقيه وتتلفه ـ فهذه هي حقيقة النار ـ فهي تفني كلّ ما تصلُ إليه، وإذا اقتربت من شيء ولم تلامسه فإنّها تترك فيه أثراً، وأيّ شيء تأخذه من النار له نفس الأثر دون أدنى تفاوت، فشعلة السراج، لها نفس الأثر حيث إنّها تحرق كلّ ما يقترب منها، حتّى الحجر فإنّها تذيبه، وكذلك تتركُ تأثيراً خاصاً على كلّ ما تقترب منه، فالورقة إن اقتربت من النار تصبحُ صفراء اللون، ولو أخذتم هذه الشعلة وأشعلتم بها ألف سراج آخر فلا ينقص منها شيء ولا يخفّ إحراقها، هذا هو تعريف النار.
فقد وصفوا النار لهذه الطائفة من الناس، إلاّ أنّهم ما رأوها، فهم يعلمون بالنار ولكن بهذه الكيفيّة.
وبعضهم أعلى من ذلك، فمع كونهم لم يروا النار، إلاّ أنّهم عاينوا دخّانها، فرأوا الدخان يتصاعد من وراء الجدار، ولهذا الدخان خصوصيّات، فهو حارّ، هذه هي خصوصيّته، وحينئذٍ قالوا: لا يمكن لهذا الدخان أن ينشأ من تلقاء نفسه، حتماً، لا بدّ من أن يكون هناك موجودٌ يولّدُ هذا الدخان، فهو النار، فينتقلون من المعلول إلى العلة، أي يطّلعون على النار بواسطة الدخان.
فأمّا تلك الطبقة الأولى التي لم ترَ النار ولا الدخان أصلاً، وإنّما أخبرت عنها من خلال توصيفها فقط، فهو حال غالبيّة الناس الذين لم يتوصّلوا إلى ذات الله، ولا إلى صفاته، ولا إلى أسمائه، كما وأنّهم لم يعتقدوا بذلك من خلال الانتقال والاطلاع على العلة بواسطة المعلول؛ وإنّما قالوا: الله موجودٌ كذا وكذا، فقبلوا وأذعنوا وأصبحوا معتقدين بالله.
والقسم الثاني، هم الذين اطّلعوا على العلّة بواسطة المعلول، وانتقلوا من الدخان إلى النار، ومثالهم الحكماء الذين أثبتوا وجود الله بواسطة البراهين المنطقيّة والاستدلاليّة، وبرهنوا على كيفيّة الله وخصوصيّته. هذان هما القسمان الأولان.
الطائفة الثالثة، هم الذين رأوا النار، رأوها حينما تكون النار ملتهبة بحيث تضيء وتُدفئ ما حولها، فاقتربوا منها ولفحت حرارتها أبدانَهم، وصارت أبدانهم ساخنة منها. فهم قد عرفوا النار أكثر من الطائفة الثانية، ومثلهم كالمؤمنين الخلّص.. فإيمانهم عالٍ جدّاً، وقد اقتربوا بأنفسهم إلى الصفات والأسماء الإلهيّة، وأحرزوا نوعاً من الارتباط بالعالم الآخر.
وهناك طائفة أعلى من ذلك؛ هم الأفراد الذين اقتربوا من النار بحيث ألقوا أنفسهم في لهيبها فاحترقوا فيها وانصهروا بها وأصبحوا عينَ النار، فلم يبقَ شيءٌ من وجودهم. هؤلاء هم أهلُ الشهود وأهلُ الفناء الذين فعلت النار فيهم فعلها، فأفقدتهم ذاتهم ولم يبقَ شيءٌ لهم.
بالنسبة لذات الله فإنّ أولئك الذين عبروا عن ذاتهم وتخلّوا عن جميع الشوائب الوجوديّة، فهؤلاء بالقياس إلى الذات الإلهيّة لم يبقَ شيءٌ من وجودهم، فلم يبقَ أنانيّة لديهم، وهؤلاء يصلون إلى مرحلة الشهود، والتجلّيات الإلهيّة تأخذُ جميعَ آثارِ وجودهم وتذيبه وتفنيه.
إذاً، قد قسّمَ المرحومُ "الخواجة نصير الدين الطوسي" علم الناس إلى أربعة أنواع:
القسم الأوّل: هو العلوم العاديّة، القسم الثاني: من المعلول إلى العلّة وهو علم اليقين، القسم الثالث: عين القين، والقسم الرابع: عبارة عن مقام الشهود ويسمّى حقّ اليقين.
وعلى كلّ تقدير، فإنّ جميع هذه المراتب هي شهودٌ للأسماء والصفات، والإنسانُ يرى ربّه ولو من خلال نافذة صغيرة، فهو يريدُ أن يعرفَ ربّه من خلال هذا المنفذ الضيّق، فيستطيع أن يعرف ربّه بمقدار تلك النافذة الصغيرة. إلاّ أنّ الإنسان موجودٌ عجيب جدّاً، فهو يريد أن يتعرّف ويرى أكثر من ذلك، والأعجبُ من ذلك هو أنّ الإنسان يريدُ أن يرى الله بواسطة مرآة كلّ الموجودات، وهذه هي خصوصيّة الإنسان، فالإنسان شيء عجيب.
فتارة يريد هذا الإنسان أن يعرفَ الله بواسطة قواه الفكريّة، وهو ما صرّح به المرحوم الشيخ "بهاء الدين" و "الخواجة نصير الدين الطوسي" خلال الأقسام الثلاثة الأول، وكذلك المحقّق "الدوّاني"، أو "يعقوب بن إسحاق الكنديّ" فهو يصرّح بنفس هذا المطلب، ويقول: من المحتّم أنّه ليس للإنسان أن يتعرّف على العلّة بواسطة المعلول بما هو معلول إلاّ بذاك المقدار الكائن في المعلول، والذي يحاكي العلّة بحدود وجودها فقط، وليس له أكثر من ذلك، فالطريق مسدود، فلو أخذنا "فنجاناً " من الماء، فسوف لا يسعُ ماء السطل! ومهما أردتّم أن تضغطوه وتجبروه على الاتّساع فلن يقوى على ذلك، هل يمكن ذلك!! بالطبع لا، فما دام "الفنجانُ" "فنجاناً" لا يمكنه ذلك، وما دام ينطبق عليه اسم "فنجان" فلا يمكن ذلك، فالاسم موجود، وقد جعلَ هذا الاسم لأجل ظرفيّة محدودة أصغر من السطل؛ فلا يمكنُ إفراغُ ماءِ سطلٍ في "فنجان"، فهو غير ممكن..
كلام لأفلاطون الإلهي حول شموخ وعلوّ المعرفة
ولأفلاطون كلامٌ حول ذلك أيضاً ـ وأفلاطون هو أحدُ الحكماء الكبار الإلهيين، وله مدرسة الإشراق، وهو رجلٌ عظيم جدّاً، وقد وردَ في أخبار الأئمّة عليهم السلام تمجيدٌ بحقّ حكماء اليونان، فمع أنّهم ليسوا أنبياء، إلاّ أنّهم حكماء إلهيّون، كانوا شعوباً حرّة نزيهة؛ فسقراط كانَ شخصاً عظيماً.. وأفلاطون.. أرسطو.. فهؤلاء حكماء إلهيّون ـ حيث يقول أفلاطون:
"إنّ شاهقَ المعرفة أشمخُ من أن يطيرَ إليه كلّ طائرٍ، وسرادقات البصيرة أحجبُ من أن يقوم حوله كلّ سائرٍ " وهي جملة راقية جدّاً.
ومعناها: إنّ غصونَ معرفة الله عالية جدّاً، أعلى من أن ينالها أيّ طائر أو يتمكّن من أن يطير إليها، فلا يمكنُ لأي طائرٍ أن يعلو ويطير نحوها، هل يتمكّنُ الذباب من التحليق إلى شجرة "السنّار" ويجلس عليها؟! لا، فمكانه مقيّد بمقدار معيّنٍ من سطح الأرض، كذلك العصفور، فهو إنّما يستطيع أن يحلّق لعلوّ محدّد، وكذا الحمام يستطيع الطيران إلى علوّ محدّد، والصقر والعقاب يحلقون إلى أماكن أخرى.. فغصنُ المعرفة أعلى من أن يبلغه أيّ طائر، ليشرعَ بالطيران حسبَ رغبته وإرادته ويقتربَ من ذلك الغصن!! كذلك خيمة البصيرة وإدراك المعارف الإلهيّة، فهي أشدّ تستّراً واحتجاباً من أن يمكنُ السيرُ إليها لمن يشاء، وأن يتمكّن من أن يحومَ حول هذه الخيمة ويطّلع على خصوصيّاتها، فهي مختفية، ولا يقدر أيّ سائر من إيصال نفسه إليها.
قول ابن سينا: جلّ جناب الربّ أن يكون شريعة لكلّ وارد
ولابن سينا كتاب باسم "الإشارات" وهو على عشرة أقسام، ففي القسم التاسع "مقامات العارفين" يتكلّم عن أحوال العارفين، حيث استعرض الكثير من المطالب، وقد شرحها المرحوم "الخواجة نصير الدين الطوسيّ"، و كذلك لـ "فخر الدين الرازي" شرح عليها أيضاً، نعم شرح "الخواجة" جيدُ جدّاً حتماً، ولكن بالنسبة لشرحه القسم التاسع من هذا الكتاب لم يكن متميّزاً ولامعاً كما كان ينبغي، إذ أنّ القسم التاسع يستحقّ أن يُشرحَ بشكلٍ أفضل، وعلى كلّ تقدير هناك جملة في القسم التاسع من كتاب أبي علي حيث يقول:
"جلّ جناب الربّ أن يكون شريعة لكلّ واردٍ أو أن يطّلعَ عليه إلاّ واحدٌ بعد واحد".
الشريعة: هي الطريق الذي يجعل للنهر، حيث يذهب الناس لجلب الماء، فالأنهار الكبيرة مثل نهري دجلة والفرات، ونهر كارون، حيثُ لا يمكنُ للناس أن يأخذوا الماء ويغرفوا من النهر من أيّ طرف منه، فقد يكون النهر في بعض الأحيان أسفل من الأرض بعشرة أمتار، وبعض الأحيان يفيض الماء ويطفح إلى الأعلى، لذا، يعمدون لبناء منحدرٍ على جانب النهر، ويبنون له درجات كي يستطيع الناس من الذهاب إلى النهر وأخذ الماء منه والصعود عالياً، وهذا الطريق يسمّى "شريعة".
فيقول: إنّ جناب الله تبارك وتعالى أكبر وأجلّ من أن يكون شريعة لكلّ وارد؛ أيّ لأيّ شخصٍ يريد أن يصافحَ الله، فتصلَ يدُه إلى الله بسرعة، لأيّ شخصٍ يريد أن يكتبَ كتاباً يشرح فيه حقيقة الله ويبيّنها، فالعلماء الماديّون يبيّنون الله من جهةٍ خاصّة، والعلماء الإلهيّون يبيّنون الله من ناحية معيّنة، كلّ شخصٍ له مدرسة خاصّة، ومذهبٌ خاص، ففريق يبيّن الله هكذا، وبعضهم يعرّف الله على أنّه أعمى!! وآخر بصورة أصمّ!! وثالث يعرضه على أنّه جاهل، وبعضهم يجعله ميّتاً، وبعضهم يقول: في بعض الأحيان يكون حيّاً وفي البعض الآخر يكون ميّتاً، نعم هكذا نحن نعرّف الله وهكذا نبيّنه، فإلى أيّ حدٍّ نبيّنه؟!
قد تقدّم سابقاً قبل عدّة جلسات، أنّ أغلب الناس العاديّين يمتلكون عقيدة تفويضيّة، حيث يقولون: إنّ الله أعطانا قدرةً، ونحن نعمل على أساسها، فالقدرة أُعطيت لنا، والعلم وُهب لنا، مثل الساعة التي تعبّأُ ثمّ تعمل من تلقاء نفسها وترنُّ، كذلك نحنُ نعمل ونقوم بمهامنا، وهذا عين التفويض، وهو تهميش لله وإخراج له من دائرة الوجود، وهو مخالف لصريح الآيات القرآنيّة ومناقض للواقع والحقيقة؛ فالله موجودٌ مع كلّ موجود، وفي جميع الحالات {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} و {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} هكذا هو الله.
على كلّ تقدير يقول "ابن سينا": إنّ جناب الحقّ أعلى وأجلّ من أن يكون شريعة لكلّ وارد، فهل كلّ من يريد أن يقترب بنفسه إلى هذا المعدن ويحوم حول هذا الماء، فإنّه يمكنه ذلك بسهولة؟! لا، ليس كذلك؛ فهؤلاء الأفراد الذين يبلغون مرحلة المعرفة وتنكشف لهم الحقيقة واحداً بعدَ واحد، أي واحد منهم يمكنه أن يذهب ويصل إلى الماء ويضع يده عليها، وبعدَ أن يصل إلى الأعلى يأتي شخصٌ آخر، ثمّ بعد بلوغه القمّة يأتي آخر، وهكذا تتمّ المسألة.
كلام الشيخ شهاب الدين السهروردي في شروط الوصول للمعرفة
وللشيخ "شهاب الدين السهرورديّ" عبارة ـ الشيخ شهاب من حكماء الإسلام الكبار، ومن الإلهيّين، وله قدمٌ راسخة في العرفان، وهو من أهل الرياضات أيضاً، له كتاب باسم "حكمة الإشراق" يمثّل خلاصة مدرسته، ومدرسته مهمّة، وهو الحكيم المقتول، قتل بتهمة جرم التوحيد ـ يقول فيها:
"إنَّ الْفِكرَ صُورَةٌ قُدسِيَّةٌ يُتَلَبَّسُ بِهَا طالِبُ أريَحِيَّة، وَ نَوَاحِ القُدس دَارٌ لا يَطَؤُهَا الجَاهِلُونَ وَ حَرَامٌ عَلَى الأجسَادِ المُظلِمَةِ أن تَلِجَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَات، فَوَحِّدِ اللَه وَ أنتَ بِتَعظِيمِهِ مَلآن وَ اذْكُرهُ وَ أنتَ مِن ملابِسِ الأكوَانِ عُريان و لَو كانَت في الوُجودِ الشَّمسان لانطَمَسَتِ الأَركَان وَ أبَى النِّظَام أن يَكُونَ غَيرَ مَا كَان".
وقد فسّروا "الأريحيّة" في اللغة كما في أقرب الموارد أنّهم هم الأفراد ذوي البذل، وأهل السخاء، وأهل العطاء، الذين ينفقون من أموالهم، ويضيّفون الآخرين وأمثال ذلك، فحينما لا يستضيفون أحداً يشعرون وكأنّه هناك ضغط وثقل على صدورهم، وحينما يقومون بضيافة أحدٍ يشعرون بنشاط، وهؤلاء يقال لهم: "أَرْيحيّ" فهي حالة الخفّة والراحة التي تظهر وتبدو بعد البذل.
يقول أنّ للفكر ـ أي المعارف الإلهيّة ـ صورةً قدسيّة وملكوتيّة، بحيث أنّ الله العليّ الأعلى يعتني ويهتمّ بأولئك الأفراد الطالبين للأريحيّة؛ يعني: الذين يرومون إلى كسر قيود وجودهم، ويريدون أن تخلو ذواتهم من وجودهم، ويخلعوا لباسهم من هذا العالم المادّي، ويلقونَ جميع شوائب وجود ذاتهم، كي يردوا في حرم الله، ليفاضَ عليهم الفكرُ والمعارف الإلهيّة من ناحية الله.
و "نواحي القدس" هي المكان الذي يعيش فيه الطاهرون ويحيى فيه أهل التطهّر. فهناك المكان الذي لا يمكن أن يضع الجاهلون أقدامهم فيه، ومحرّم وممنوع على أهل المعصية أن يردوا ملكوتَ السماوات، فهم محجوبون عن ذلك وطريقهم إليه مسدود، قد أغلق أمامهم كسدّ "الاسكندر"، فلا يستطيعون أن يخطوا قدماً واحداً إلى ملكوت السماوات.
و "الأجساد المظلمة" تعني أهل المعصية والذنوب والهوى، وأهل الأنانيّة والتكبّر.
فإذا تريد أن تعرف الله فـ "وحّدِ الله"، أي قل: الله واحد، لا وجود في عالم الوجود غير الله، ولا تدّعي الألوهيّة في كلٍّ من الاسم والصفة والذات!!
و "أنتَ بِتَعظِيمِهِ مَلآن أو مَلَئان" لا بدّ وأن يكون وجودك مملوّاً بتعظيم الله من رأسك إلى أخمص قدميك؛ أي يجب أن يسبّحَ وجودك الله ويقدّسه، أي لا بدّ وأن تصبح ذِكراً للّه من رأسك إلى أخمص قدميك، واذكر الله في الحالة التي تكون قد تعرّيتَ عن لباس الكفر والاعتبارات والفكر النفعيّ والتحفّظات والآداب والرسوم الجاهليّة التي تمنعك عن طريق الله وتحرفك عنه، فينبغي عليك أن تخلعَ جميع ذلك، وتصبح عرياناً، حينئذٍ يمكنكَ أن تذكرَ الله، وإلاّ فأنتَ لم تذكرِ الله وإنّما تكون قد ذكرتَ نفسك.
عجيبٌ كيف يبيّن المسألة!! حسناً، هو يبيّن أنّ الإنسان يريد أن يجتاز هذه السبل بواسطة فكره ليجدَ الله، إلاّ أنّه يذهب ليجده فلا يجده!!
الوصول إلى تمام المعرفة إنّما تكون بالآية الأنفسيّة لا بالآية الآفاقيّة
إذاً، معرفة الله بواسطة التفكير هو نوع من الآيات الآفاقيّة، وليست آية أنفسيّة، فتارة يريد الإنسان أن يعرف الله بواسطة هذه الموجودات الخارجيّة، فهي معرفة وآية آفاقيّة، وتارة بواسطة ذهنه يريد أن يذهبَ إلى الله ويجده، كذلك هي آية آفاقيّة، وأمّا الآية الأنفسيّة فإنّها شيء آخر.
الآية الأنفسيّة تعني: أن لا يذهب الإنسان إلى ربّه ليجده بواسطة الفكر والتفكير، وإنّما يأتي عن طريق العبوديّة، فإنّه لا يمكن تحصيل الله من خلال التفكير، إلاّ أنّه بواسطة هذه الآية (الأنفسيّة) يمكن إحرازه والوصول إليه، فلا يمكن العثور على ذات الله بالاكتفاء بالتفكير؛ إذ هو بذلك إنّما يعرفُ من جانبٍ معيّن، لا أنّه يعرف بتمام حقيقته المسيطرة على جميع عالم الوجود، فالإنسان يدرك بفكره أنّ الله مسيطر عليه، ويفهم أنّ الله علّة لوجوده وخالقه، ولكن لا يمكنه أن يعاينَ أنّ الله خالق الأرضين والسماوات، فيرى الأرضين والسماوات من خلال الشهود، فلا تصبح مشهودة للإنسان بواسطة التفكير، وإنّما طريق ذلك هو معرفة النفس.