المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةتفسير آية النور
التوضيح
هو العليم
ما هو معنى أن الله هو الظاهر و الباطن؟
تفسير آية النور
(المجلس التاسع)
ألقاها:
العلامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله نفسه الزكيّة
أعوذُ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الصلاة والسلام على سيدنا محمّد وآله الطيبين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى يوم الدين
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
تقدّم أنّ كلمة النّور تطلقُ على الشيء الظاهر في نفسه المُظهِرِ لغيره، لذلك يمكن لنا أن نطلق لفظة "نور" على الله إطلاقاً حقيقياً وواقعياً؛ لأنّ الله أصله وجود، وجميع الموجودات متحقّقة بوجود الله، فالله ظاهر وجميع الموجودات ظاهرة بظهوره، فظهور تمام الموجودات إنّما هو بظهور الله، لذلك في الدرجة الأولى يكون الله ـ على مستوى كينونيّة ذاته - هو الموجود وهو الظاهر، وفي الرتبة الثانية، تكون سائر الموجودات موجودة بوجوده وظاهرة بظهوره. لأجل ذلك، ينبغي أن تكون النظرة الأوليّة منصّبة على ذلك الموجود الحقيقي والوجود الواقعي والنور الحقيقي، وبعد ذلك يقعُ النظر على الموجودات الأخرى؛ لأنّ الظاهر في الدائرة العلمية هو الله، وكلّ ما سوى الله باطلٌ وفانٍ، ولا يعدو كون ظهوره بظهور الله.
فالعارف هو الذي لا يرى في العالم إلا الله ونور الله، وهذه المسألة واقعيّة وليست تخيّلية ولا مجرّد تفكير نظري.
لقد استعرضنا في الجلسات السابقة ضمن تفسير الآية المباركة أنّ الموجودات ـ سواء كانت آفاقيّة أم أنفسيّة ـ تدلّ على الله، وكلّ منها إنّما يُظهِرُ الله بمقدار سعته الوجوديّة، وهذه المسألة عجيبة جدّاً! عجيبة إلى الحدّ الذي تحيّرُ العقل.
النظرة التفصيليّة إلى الموجودات تثير الحيرة والدهشة
يمكنكم أن تنظروا نظرة إجماليّة؛ مثلاً: افرضوا أنّنا ننظرُ إلى هذه السجّادة المفروشة هنا، فنقول: كم هي سجّادة جميلة! لكنّنا غافلين عن مادّتها التي صنعت منها، ولا نلتفت إلى الخيوط الطوليّة والعرضية التي تشكّلت منها هذه السجّادة، وأيّ مغزلٍ حيكت به! فقد ظلّوا يعملون فيها من الصباح حتّى الغروب، يوصلون تلك الخيوط الدقيقة المنسوجة من الصوف والوبر، كذلك في اليوم التالي، ثمّ بعد غدٍ، مستمرين في العمل طوال عام كامل حتّى أصبحت سجّادة بهذا الشكل، لكنّنا حينما ننظر إليها بالنظر الإجماليّ السطحيّ نقول: هي سجّادة جميلة.
كذلك إنْ تنظروا إلى مكان فيه حفل مكتظّ بالناس، تقولون: هؤلاء أناس وشعوب، لهم عقل، ولهم إدراك، ولديهم فهم، ذوو شعور.. ولكن بشكل إجماليّ، وسطحيّ، إلا أنّنا لو تأمّلنا والتفتنا إلى تمام الأفراد الذين يتألّف منهم هذا الحشد الكبير، ولاحظناهم واحداً واحداً، سوف نتنبّه إلى أنّ ذاك الذي بَلَغَ من العمر أربعين، أو ذاك الذي بلغ عشرين أو خمسين سنة، كلّ هؤلاء لديهم علم، ولديهم قدرة، وهم يفهمون، ولديهم مهابة وجلالة قدر، فهم أصحاب وجاهة، وما حصلَ لديهم لم يكن عندهم من البداية، وإنّما اكتسبوه بشكلٍ تدريجيٍّ، وبشقّ الأنفس، فبذلوا الغالي والنفيس لتحصيل هذا العلم، ونعرف أنّ ذاك الشخص أدمى قلبه حتّى أصبح بطلاً قويّاً، وذاك أزهقَ روحه متحمّلاً الأسى حتّى حصلَ على الوجاهة، إلى أيّ حدّ تحمّل وذهب إلى المكتب، وحمل المحفظة تحت إبطه، وداس في الطين أو مشى على الثلج.. وتحت المطر.. في البرد وفي الحر.. فكان يجلسُ في حلقة الدرس ويتعلّم؛ باء طويلة.. ألف ممدودة.. سين طويلة.. حتّى بلغ رتبة من العلم وأصبحَ يجلسُ خلفَ الطاولة، ولم تكن تلك المعرفة والدراية لتأتيه دفعة واحدة، وإنّما تحمّل الكثير من المشقّات لتحصيلها.
فلو أرادَ أحدٌ أن يدرسَ إنساناً بلحاظ ما لديه من المعلومات، ثمّ يحلّل وجوده على هذا الأساس، ليُشرِفَ على ما يحتويه وجوده في جميع مجالاته، فسوف يجدُ أنّ كلّ قسمٍ من هذه الأقسام يحتاجُ إلى مجلّدات واسعة.
وأمّا من الناحية التكوينيّة، فإنّنا نرى أنّه يمتلك قدرة.. قلبه ينبض.. ومعدته تعمل.. وكليتيه تقوم بمهامهما.. كبده يعمل.. خلايا الدماغ تشتغل.. وبشكل عام تراه سالماً بحمد الله، ولكن ما معنى هذه السلامة؟ فهي تعني أنّ هناك الملايين من الخلايا الحيّة، الملايين من الخلايا الشاعِرة والعالِمة والمدرِكة، والموظّفة بوظيفتها الخاصّة بها، بحيث أنّها تبدأ من نقطة انطلاق ولها هدف تنتهي إليه، ولها قوّة جاذبة وقوّة دافعة.. قوّة ماسكة وقوّة مغذّية، هي تعملُ جميعاً متعاضدةً يداً بيد، خاضعة تحتَ ظلّ قوّة تسمّونها: "أنا" فكلّ شيء له مسؤوليّته وهدفه، ومشغول بعمله ونشاطه المخصوص به حتّى تمكّن من صنع هذا الإنسان.
وهكذا نحن أبناء البشر، حيث نقول: زيد، السيد حسن، مشهديّ، تقي، فلو أردنا أن نتدارس ونحلّل عينه التي ينظر بها، سوف نجد أنّ العمر كلّه لا يكفي لذلك؛ فما هي الأجهزة الفعّالة في العين؟ خصوصيّاتها، معايبها، مفاسدها، محاسنها، الآلام التي تصيبها، تحديد سبل العلاج، ارتباط العين مع سائر أعضاء البدن، أحاسيسها، انعكاس النور في العين، ما هي الطبقة العنبيّة؟ ما هي الطبقة الزلاليّة؟ ما هي الطبقة الزجاجيّة؟ نعم هذا بالنسبة إلى العينين! وكذلك الأذن، واللسان، والكلية، والقلب، فلو بذل أحدنا كلّ عمره ليدرسَ القلب ويتعرّف على جميع خصوصيّاته لما استطاع، هذا لو كان مجرّد دراسة! وأمّا لو قلنا له: تعالَ واصنع لنا خليّة من خلايا القلب، اخلقها لنا.. أفِض عليها المادّة الحياتيّة.. أوجِد الحياة في خليّة من خلايا القلب.. سيقول: نحن لا نستطيع إفاضة الحياة وإعطائها، فنحن لم ندرك سرّ الحياة بعد!!
هذا الإنسان مع جميع هذه الأجهزة وكلّ تلك الخصوصيّات، كانَ طفلاً في بطن أمّه، ثمّ وُهبتْ له هذه الأعضاء، وكان قبل ذلك مضغة، وقبلها عَلَقَة، وقبلها نُطفة، وهذه النطفة هي التي توجب الحمل عند المرأة.. حتى تضعَ حملها بعد تسعة أشهر.. فنقول: الحمد لله، قد وضعت حملها، فهل تعلمون أنّه في كلّ دقيقة، بل في كلّ ثانية وفي كلّ لحظة، تُطوى الآلاف من العوالم التي تعرض على هذا الطفل، وما يمرّ عليه من التغيّر والتبدّل؟! ففي كلّ لحظة يجتاز الطفل الآلاف من العوالم، ويتنقّل ضمن الآلاف من التغيّرات والتبدّلات، فالنطفة في كلّ دقيقة وفي كلّ ثانية أو ثالثة أو سادسة، لنا أن نقسّمها ونجزّئها إلى الملايين من الأقسام، حتّى نصل إلى الحدّ الذي لا يعود معه البشرُ قادراً على تقسيم ذاك المقدار من الزمان، غير أنّ العقل قادرٌ على الاستمرار في التقسيم، ليكون كلّ قسم زمانيّ يحتوي على عوالم من التغيّرات والتبدّلات، لنعرف حينئذ كيف أنّ هذه النطفة تتحرّك وتنمو وتسير، وكيف أنّها من خلال حركة خاصّة وسرعة معيّنة تطوي الآلاف من الدرجات ممّا هو أسرع من حركة الشمس والقمر؛ فهي تتجّه وتتحرّك من الجماديّة إلى الإنسانيّة.. وأيّة سرعة هي هذه السرعة؟! حيث تتبدّل في كلّ لحظة وتتحوّل حتّى تصبح دماً فيظهر فيها عينٌ وأذنٌ، وصار لها لسان، وأصبحت يداه تتحرك وهو في جوف أمّه، وقلبه يخفق، وبعد ذلك صار ذا شعور وإحساس.. يمتلك العقل.. ولديه إدراك.
{وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ}
قد أخرجكم الله من بطون أمّهاتكم لا تدركون شيئاً، ثمّ أعطاكم العقل والوعي والدراية حتى استطعت أن تقول: أنا إنسان.
هذا الإنسان هو ذلك الإنسان الذي رأيناه ضمن ذلك الحشد الكبير المؤلَّف من مائة ألف شخص، فنظرنا إليه نظرة عابرة وقلنا: هؤلاء عسكر مجتمعون، هؤلاء جماعة من الناس، ولكن ما إن دقّقنا النظر وتأمّلنا، وصرنا نتأمّل ونتبصّر بشكل دقيق، عرفنا أنّه هو تلك النطفة، ثمّ لو أراد أحدٌ أن يدرس النطفة، فلن يستطيع أن يخرج من دائرة النطفة ويعرف ما وراءها ويشخّص العوالم التي طوتها حتّى صارت نطفة، فذلك له حساب آخر.
فما هو ذلك؟ ما هي المسألة؟! هل النطفة سارت وتحرّكت من تلقاء نفسها؟! هل تتحرّك هذه الشجرة وتنمو من نفسها؟! هل يدفع العصفور نفسه بنفسه؟! هذه الحمامة حينما تبيضُ وتجلس على بيضها، ثمّ بعد أيّام قلائل تتحوّل إلى فراخ تبحث عن الحبوب.. فهل هو من نفسها؟! فهذه الحمامة مسكينة، وهي ضعيفة إلى الحدّ الذي يمكن لأيّ قطّة أنْ تمنعها من التقاط حبوبها! هذا هو كلّ ما تمتلكه من الشعور، والقدرة على النظر، والسمع، وحركة معدتها، وتمام خلاياها.. فتنام ليلاً في عشّها وتبقى خلاياها تنبض وتعمل وتنمو، وجميع بصيلات ريشها حيّة في حالة نموّ وتكامل، وفي تلك الليالي الحالكة حيث تكون الحمامة نائمة في عشّها مع فراخها، فإنّها وفراخها في حالة نمو دون توقّف، فلا القلب يتوقّف، ولا الكلية تتعطّل ولا الكبد، ولا يتوقّف هذا الموجود عن سيره وحركته لحظة واحدة!! فاحسبوا ذلك وطبقّوه على الحمام وبيضها، والدجاج والماعز، والحيوانات البريّة والبحرية والطيور، والإنسان، والجماد، وكلّ الكون والمكان، تكون النتيجة أن هذا العالم لا يتوقّف لحظة واحدة.
وإذا توقّف لحظة واحدة فهو الموت، لا ليس الموت!! لأنّ الموت رتبة من عالم الوجود، موجود في نفس "عالم الموت"، وله حركة ومبدأ.. وإنّما يعني العدم و"عالم المعدوم"، وأصلاً لا وجود للعالم حينئذ، إلاّ أنّنا لا نقدر على تصوّر ماذا يعنيه انعدام العالم، لأنّنا موجودون دائماً في عالم الوجود والكينونة، لا يمكننا تعقّل معنى العدم.
ونحن إذ نفتح أعيننا لنعاين عالم الآفاق وننظر إليه، سوف نعاينُ الله ونشاهدُه في كلّ أفق، وذلك بواسطة المرايا المتعدّدة، الكائنة في عالم المُلك والملكوت، لذلك لم نخرج عن دائرة الحكومة الإلهيّة لحظة واحدة إلاّ إذا تذوّقنا معنى العدم وأدركنا حقيقته! لأنّنا لو وقعنا في عالم العدم فهذا يعني أنّ أنفسنا موجودة في حال أنّها أدركت العدم، في حين أنّ كون "نفوسنا موجودة"، يعني أنّنا موجودون! وعليه فلا يمكننا إدراك معنى العدم.
نحن كائنون في الوجود بشكل دائم ننحدر منه، فإنْ نَنَمْ، نكون سائرين في الوجود، وإنْ نستيقظ فإنّنا في الوجود، إنْ ُنفكّر، فإنّنا نتحرّك في الوجود، وإنْ نرجع إلى أنفسنا، فنحن في الوجود، وإنْ نلتفت إلى الخارج... ونحيا فنحن موجودون، أو نموت فنحن موجودون. ومع أنّنا نشاهدُ هذه التغيّرات ونعاين تلك التبدّلات من صورة إلى صورة أخرى، ومن شكل إلى شكل آخر، إلاّ أنّ أصل الوجود ومحوريّته باقية وثابتة في تمام هذه الموجودات.
فمتى كنّا معدومين حتّى نستطيع تعقّل العدم؟! نعم، هناك معنى عن العدم ضعيف جدّاً نحسّ به، هو "عدم الملكة"، فنقول مثلاً: هذا المذياع ليس موجوداً هنا.. ولكن عدم وجوده هنا لا يعني عدمه بشكل مطلق، بل بشكل مقيّد، وإلاّ فالعدم المطلق لا معنى له أصلاً حتّى نستطيع تصوّره، ونعطيه حظّاً من الوجود، فما نتصوّره من العدم إنّما هو بنحو الاستخدام (بين العدم المطلق والعدم المقيّد) وهو مجرّد تصوّر عن العدم، وليس إدراكاً لحقيقة العدم ولا إشرافاً على معناه وإحضاراً له في وجودنا!
إذاً، حينما نفتح أعيننا نرى أنّ جميع هذه العوالم هي ظهورات لله، مع أنّنا نطلق عليها حسب النظر الإجمالي: سجادة، فَنَصِفُها أنّها سجادة جميلة، وننظر إلى الكتاب فنقول: مؤلّفه رجل دين متفقّه، وننظر إلى الإنسان فنقول: إنّ الذي خلق الإنسان هو الله القادر. وأمّا حينما ننظر إليه نظرة تفصيليّة، فسوف يثير الدهشة والتعجّب، فإذا نظر الإنسان إلى عقلاء العالم، ومفكري العالم، وعلماء العالم الرياضيين، أطباء العالم، فلاسفة العالم، إلى كلّ شخص له تخصّص في مجال معيّن.. سوف يقعُ في الحيرة والدهشة ويقول: إلهي! أنا متحيّر! فأيّة عظمة! وأيّة قدرة! وأيّة أبّهة هي هذه! أيّ كبرياء! أيّة عزّة! وإلى أيّ حدّ؟!
وفي النتيجة، نجد بعض الأنبياء يتيهون في الصحاري ويهجعون في الجبال و.. وهو أمرٌ غير عاديّ أبداً! فكانوا في أوّل سيرهم يستغرقون في مدارج التفكّر والتأمّل، حتّى ينسدّ الباب أمام فكرهم وتفكيرهم، حينئذٍ يركنون إلى قدرة أخرى ليستمدّوا منها، تلك القدرة هي طاقة الوجدان وقدرة القلب، لذلك كانوا يجوبون الصحاري والقفار، يمكثون في أماكن الخلوة، في الجبال، في الكهوف والمغاور حتّى يستمدّوا من تلك الطاقة وذاك المدد ويروا حقيقة هذا الموجود الظاهر في كلّ شيء.
الله تعالى محيط بجميع العوالم وله معيّة مع كلّ موجود
حسناً! ما هي هذه الموجودات؟! هل هي الله؟ فأين نجد الله؟ هلْ هو فوق السماء؟! لا، ليس هذا هو الإله، أو تحت الأرض؟! لا، فما هو الله؟ الله هو ذاك الموجود الحيّ والعالم والشاعر والقدير والمدرك، الموجود في كلّ الأماكن، موجود في هذه البيضة مع جميع خلاياها، وهذا لا يعني أنّ الخليّة هي الله!! بل هي مَظهَرٌ لله، يعني: إنّ لله معيّة معها، فللّه معيّة مع كلّ موجود.
فالإله الذي ندعوه ليس موجوداً في السماء، ولا نمدّ يدنا حين الدعاء لتصل إلى مكان السماء!! وإلا فالله تحت الأرض كذلك، وهو في المشرق، وفي المغرب، وهو مع كلّ موجود، فافتحْ عينيكَ وحدّق في كلّ ما يقع عليه ناظرك فإنّه في الرتبة الأولى هو الله، ثمّ في الرتبة الثانية هو ذاك الموجود، وهذا هو معنى واحديّة الله ووحدانيّته.
"الله" يعني: تلك الذات المُسْتَجْمِعَة لتمام صفات الجمال والمُسْتَجْمِعَة لجميع صفات الكمال، وهي الحقيقة التي تملأ كلّ العالم، وموجوديّة أيّ عالم هي من الله، والعلم والقدرة وتمام الصفات التي تظهر في الموجودات قاطبة وتبرز فيها، لها معيّة مع صفات الله، وليست منفصلة عنها ولا مغايرة لها.
وكم هو رائع وصف أمير المؤمنين عليه السلام:
"داخل في الأشياء لا بالممازجة، وخارج عنها لا بالمباينة، داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء، خارج عنها لا كخروج شيء عن شيء"
فالله ليس بجسم ليتداخل ويمتزج، كما وأنّه ليس جسماً حتّى يخرج وينفصل، فالجسم موجود متعيّن ومحدود وضعيف، وهو أحد ظهورات الله، فالقدرة والعلم وظهور الله له معيّة مع هذه الرتبة من الوجود، وكلّ موجود متقوّم في الرتبة الأولى بذات الله، دون ذاته، والنتيجة هي أنّ الله سبحانه قد أخذ جميع العوالم.
أيّ مكانٍ يمكنكم أن تجدوه دون أن يكون الله فيه؟! أين؟! بل أيّ مكان تنظرون إليه فهو وجود، حتّى هذا الفضاء هو وجود، وعليه لماذا لا نرى الله؟! لماذا يقولون إنّ الله مخفيّ؟! لماذا ينكرُ بعضهم وجود الله؟!
وفي صدد الجواب نقول: إنّ أصل إنكار الله أمرٌ خاطئ؛ لأنّك حيث تقول: أنا أنكر وجود الله، فهذه "أنا" تعني أنّني أنا موجود، وهو يعني أنّ الله موجود؛ لأنّه لو لم يكن الله موجوداً فأنا معدوم، فكل من يقول: أنا موجود، فإنّه قبل أن يتفوّه بكلامه هذا يكون قد أثبت وجود الله في الرتبة السابقة؛ لأنّ إنّيتي ووجودي قائمان بالله.
هذا هو معنى كون الله نوراً، ليس نوراً ماديّاً، وإنّما بمعنى كونه وجوداً وظهوراً، فهو ظاهرٌ أولاً وبالذات، وتمام ظهور الموجودات ظاهرة بظهوره.
الله تعالى من شدّة ظهوره وقربه مخفي
وعليه لماذا لا يقبل الله الرؤية؟! بل إنّه يُرى، من الذي قال إنّه لا يُرى! لكن الذي يطرح هنا أنّه: ما معنى الرؤية؟ فمشاهدة هذه البيضة تحتَ الدجاجة، أليستْ هي رؤية لله؟! وهذه الحبّة التي تنفلقُ وتتحوّل بعد عدّة أيّام إلى نبتة خضراء، أليس ذلك مشاهدة لله؟! نحن نقول: صار العشب أخضر، والقمح تحوّل إلى سنبلة.. لكنّنا هل ندري ما الذي يحدث في الداخل؟! أليس ذلك مشاهدة لله؟!
ثمّ نريد أنْ نحسّ ونشعرَ بالله بوجداننا، فالله من شدّة ظهوره مخفيّ، هو ظاهرٌ ظاهرٌ ظاهر، وقريبٌ قريبٌ قريب إلى الحدّ الذي صار قريباً جدّاً؛ بحيث كلّما نريد أن نقول لله إنّك قريب، لا نستطيع ذلك.
لماذا لا نستطيع قول ذلك؟ فالقريب هو الشيء الذي أتى من البعيد واقترب تدريجيّاً، وأمّا من كان قريباً من الأوّل إلى حدٍّ أنّه كان متّحداً مع الإنسان من أوّل الأمر، لا أنّهما كانا شيئان ثمّ اتحدا وصارا شيئاً واحداً، أيْ إنّ وجود الإنسان وقوام وجوده وأصله هو الله، ونحن إنّما وُجدنا ببركته ومنه، فهو قريب إلى الحدّ الذي أصبح إطلاق لفظ القرب عليه من باب المسامحة.
وعليه فكيف يمكننا أنْ نجده ونعثر عليه؟! كيف نكشف النقاب عنه؟! وإلى أيّ حدٍّ هو قريب؟! فلو كان قريباً من الإنسان بحيث تكون الفاصلة بينهما متراً واحداً، فيمكن حينئذٍ مشاهدته، أو نصف متر، وكذلك سنتيمتر واحد، أو ميلّيمتر أو ميكرونٍ واحد... ولكنه قريب إليّ بحيث يكون أقرب منّي إلى ذاتي! فأنا متقوّمٌ به وهو أسبق منّي، وهذا أمرٌ عجيب جدّاً!
{أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ}
ونحن حينما نفتح أعيننا وننظر ونشاهد الموجودات المحيطة بنا، فإنّ أوّل ما يواجه العين هو الموج الشعاعي المنعكس، وببركته نتمكّن من الرؤية، أليس كذلك؟! حسناً، لماذا لا نرى الأمواج المنعكسة نفسها؟! وإنّما نرى الأشياء!!
وما ذلك إلاّ لأنّ الموجَ المنعكسَ قريبٌ إلى حدٍّ أصبح متّحداً مع العين، والصورة التي تنعكس في العين إنّما هي بواسطة هذا الموج، لذلك حينما نفتح العين لا نرى هذا الموج الرابط بيننا وبين الأشياء، مع أنّه أقرب من الأشياء! فهذا النور المنعكس في العين والذي يصوّر الأشياء في العين سابق على نفس الصور المنتقلة إلى العين، ولكن لماذا لا نراه؟! وهذا ليس محلاً للشكّ والتردّد، أبداً! فكلّ شيء ينعكس في العين وترى العين صورته إنّما هو بواسطة الأمواج النوريّة، والحال أنّنا لا نرى الموج نفسه، وما ذلك إلا لشدّة القرب، فإلى أيّ حدّ هو قريب؟ هو قريب إلى حدٍّ أنّه أقرب من القرب نفسه! بحيث أنّه يمكننا عدّ استعمال لفظ القرب والقريب في ذلك مجازاً، لذلك يقولون: يا الله! يا أقربَ من كلّ قريب! ماذا يقولون كذلك؟ ماذا بيّن لنا الأنبياء عن ذلك؟ أفهل يوجد غير هذه الألفاظ في قاموس اللغة يمكنها أن تبيّن هذا المعنى؟! لذا يقولون: قريب.
وعليه، فنحن نتعامل في نهارنا وليلنا مع الله، بل إنّنا لسنا مع غير الله، أين يمكنكم أن تجدوا مكاناً لا يكون الله فيه؟! فعلى سفرة الطعام؛ قد جلس الله قبلكم.. في السرير؛ الله قبلكم.. حين الصلاة؛ الله سابق لكم.. في كلّ عمل هو سابق لكم، فمن أين يمكننا أن نعثر على مكانٍ لا يكون فيه؟!
يقولون: كانَ عند أحدِ العرفاء عدّة تلامذة، وكان يربيهم أخلاقيّاً وسلوكيّاً، وكان هناك أحدُ هؤلاء التلاميذ أصغر سنّاً من الباقين، فكان العارف يبدي له الكثير من الاحترام، إلاّ أنّ الباقين كانوا يشعرون بشيء من الحساسيّة في داخلهم لما كان أستاذهم يحترم هذا الصغير أكثر منهم، فأراد الأستاذ أن يمتحنهم ليفهموا أنّ سبب هذا الاحترام هو مستوى إدراك هذا الشخص ومعرفته، فقال لهم: كلّ من يريد أن يشارك في درسي غداً، عليه أن يذهب إلى مكانٍ خالٍ لا يراه فيه أحدٌ، ويأخذ معه دجاجة ويذبحها هناك ثمّ يأتي إلى الدرس، فقال الجميع: سمعاً وطاعة. فذهب الجميع، وذبح كلّ منهم دجاجة في مكانٍ لم يره فيه أحد، ثمّ أحضروها إلى المجلس، إلاّ أنّ ذاك التلميذ الذي كان أصغر سنّاً من الجميع لمْ يحضر، وهكذا لم يأت إلى عدّة أيّام حتّى مضتْ مدّة من الزمن، ثمّ أتى بعد ذلك وبيده دجاجة حيّة، فسأله الأستاذ: لمَ لمْ تذبح؟ فقال: كلّما كنتُ أذهبُ إلى مكانٍ لأذبحَ الدجاجة، كنتُ أرى أنّ الشرط الذي اشترطته غير متحقّق، فقلتَ: اذبح الدجاجة في مكان لا يراك فيه أحد، وإلى أيّ مكان كنتُ أذهبُ إليه كنت أرى أنّ الله موجود، لذلك أحضرت الدجاجة بيدي، فقال الأستاذ: هل رأيتم؟! إنّ سبب احترامي له هو فهمه وإدراكه، فوجدانه يقول: الله، إنْ تذهب إلى السماء فالله موجود، وفي الأرض الله، وفي المشرق الله، في المغرب الله، في البحر الله، في الهواء الله.
پر شد از قصّه تو لوحِ وجود | *** | نَبرَد قصّه تو دفتر دل |
دوش با بلبلان عالم غيب | *** | مى زد اين داستان، كبوترِ دل |
كه جهان پر توى است از رُخ دوست | *** | جمله كائنات سايه اوست |
وعليه، فأين هو المكان الخالي من الله حتّى نختار الذهاب إليه ونبحث فيه عن الله ونجده ونعثر عليه؟! فنحنُ إنّما نجدُ الليلَ لأنّه في مقابل النّهار، ونجد البياض لأنّه مقابل السواد، ونستبين النور لأنّه يقابل الظلمة، وندرك الماء لأنّ في مقابله الهواء، ولكنْ، من أينَ لنا أنْ نجدَ العدم المقابل للوجود؟! فنحن غارقون في الوجود!
وجودِ جمله اشياءِ به ضدّ است | *** | ولى حقّ را نه مانند ونه ضدّ است |
تماماً مثل السمكة، حيث إنّها تعيش في البحر من أوّل عمرها حتّى آخره، فمن ذاك الحين الذي تزوّجت والدتُها وانعقدت النطفة وتبدّلت إلى بيض في بطن أمّها.. كانت في الماء، كذلك حينما وضعتْ أمّها حملها كانت في الماء، كذلك كان نمّوها وكِبرها في الماء، فطافت وتفتّلت في هذا الجانب، وكان ذلك في الماء، وكذلك طافت في الجانب الآخر، وكان ماءً، حتّى وصلتْ هذه السمكة إلى سنّ الهرم، وكلّه ماء، إلاّ أنّها مع كلّ ذلك تقول: ما هو الماء؟! ... فالناس يقولون: الماء موجود، الماء مادّة وعنصرٌ حياتيّ، ولكن حينما سألت الأسماك عن الماء؟! اجتمعوا وعقدوا مؤتمراً وتظاهروا وتجمّعوا متضامنين يداً بيد.. ثمّ أتوا إلى ملِكِهم يطرحون عليه معضلتهم: ها نحن قد أشرفنا على الموت واقتربنا من ترك دار الدنيا دون أنْ نفهم معنى الماء؛ فالجميع يقولون: الماء مادّة حياتيّة، فمن المؤسف أنْ نغادر هذه الدنيا ولا نتذوّق من هذا الماء!! إلاّ أنّ ملكهم كانَ ذكيّاً حاذقاً، وكان قد مرّ بتجربة سابقة في يومٍ من الأيام، حيث كان الموجُ قدْ رماه على الشاطئ، ثمّ وُفقَ وعاد إلى الماء ثانية، إلاّ أنّه حينما كان ينظر وهو على الشاطئ، كانَ قد تنبّه إلى أنّه لا يوجد هناك ماء، وفهم معنى عدم الماء، وأدرك المعنى المقابل لمعنى الماء، فقال لهم: أنّى لي أنْ أخبركم وكيف يمكنني ذلك، إلاّ أنّي أدعوَ الله أنْ يرسل موجة تخرجكم من الماء إلى الشاطئ، وتسحبكم من الماء، وإلاّ فلن تستطيعوا إدراك معنى الماء! فالماء هو هذا الذي تعيشون فيه، هذا هو الماء، ولكن ما الذي فهمه السمك؟!
به دريائى شناور ماهيى بود | *** | كه فكرش را چو من كوتاهيى بود |
نه از صيّاد تشويشى كشيده | *** | ونه رنجى از شكنجِ دام ديده |
نه جان از تشنگى در اضطرابش | *** | نه دلسوؤان ز داغ آفتابش |
در اين انديشه روزى گشت بى تاب | *** | كه مى گويند: مردم آب، كو آب؟ |
كدام است آخر آنِ اكسير جان بخش | *** | كه باشد مرغ و ماهى را روان بخش؟ |
اگر يا ربّ متاع اين جهان است | *** | چرا يا ربّ ز چشم مانهان است؟ |
جُز آبش رد نظر شام و سحر نه | *** | در آب أسوده وَز آبش خبر نه |
مگر از شكرِ نعمت گشت غافل | *** | كه موج افكندش از دريا به ساحل |
فخرجت الأسماك إلى الشاطئ، لما كان دعاء السلطان قد استجيب (مثلاً).
بر او تابيد خورشيد جهان تاب | *** | فكند آتش به جانش دورى آب |
زبان از تشنگى بر لب فتادش | *** | به خاك افتاد وآب آمد بيادش |
ز دور آواز دريا چون شِنُفتى | *** | به روى خاك غلطيدى وگفتى |
كه اكنون يافتم آن كيميا چيست | *** | كه امّيد، هستيم بى او دمى نيست |
دريغا دانم امروزش بها من | *** | كه دستم كوته است او را ز دامن |
فإذا جاءنا موجٌ وأخرجنا من عالم الوجود إلى عالم العدم، حينئذٍ سوف نفهم ما هو معنى الله!! ولكن ما دمنا في عالم الوجود؛ أي نحن موجودون والله موجود، فلا نكون قد دخلنا في عالم العدم، بل إنّ كوننا نريد أن نصبحَ عدماً ونريد أن نكون عدماً، هو بذاته يعني أنّنا موجودون، فنحن لا يمكن أنْ نصبحَ عدماً؛ لأنّه لا وجود للعدم، فعالم الوجود مملوء بالوجود.
إذاً، بسبب شدّة ظهور الله وشدّة طاقته، وشدّة قربه.. أصبح مخفيّاً غير ظاهر، لذلك إنْ نسألْ: أينَ الله؟ عليك أن تجيب: أينَ لا يوجد الله؟!
يا من هو اختفى لفرط نوره | *** | الظاهر الباطن في ظهوره |
جميل ما قاله المرحوم الحاج السبزواري، وهو يعني: يا من هو مختفٍ لشدّةِ نورهِ، فأنتَ مع ظهورك مخفيّ، وأنتَ مع كونك مخفيٌّ ظاهر بيّن.
وهو مأخوذٌ من الآية الشريفة في القرآن المجيد: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
فالله هو الظاهر، والله هو الباطن، وكلّ ظهور هو ظهور الله، فحينما نريد الله لماذا نبحث عنه؟ فكلّ ظهور هو ظهور لله.
لماذا لا ندرك الله مع شدّة ظهوره؟
لماذا لا يُدرك إذاً؟
أولاً: هو يمكنُ أنْ يُدرَك، ولكن ندركُه في هذه المراتب التي نحن فيها، وأمّا بالنسبة للمراتب الأعلى، فلا بدّ وأنْ نقوّي عيوننا، وأمّا في هذه المراتب التي نحن فيها ندركه ونحنُ نغوص ليلاً ونهاراً في هذا العالم الذي نعيش فيه، إلاّ أنّنا نقول: أينَ الماء؟ أينَ الماء؟ تماماً كما تقول السمكة: أينَ الماء؟ أينَ الماء؟ فهي مشغولة بِابتلاعِ الماء، تبلع وتبلع.. تماماً كما نقول: نحن لا نرى الهواء، فالهواء الذي يقولون إنّ الإنسان يتنفّسه، أينَ هو؟ لماذا لا أرى هذا الهواء؟ واقعاً، هل ترون الهواء؟ ولإدراك كنهه لا بدّ وأن نمتلكَ عيناً أقوى وأدقّ.
وحينما تعتلي الشمسُ السماء في رابعة النهار، يسطعُ نورها على الأرض بشكلٍ عاموديّ، ونحنُ ننعمُ بأشعّتها، الحمد لله.. فالأرضُ مشرقة منيرة.. ولا يمكننا إنكار هذا النور الذي نراه، فنحن ندرك ونشعرُ بهذا النور، وكلّ ما نراه من مظاهر الجمال فهو بواسطة هذه الشمس!! لكنّه لا يمكننا إدراك الشمس نفسها، إلاّ أنْ نرقّي أعيننا، فلو نظرنا إلى قرص الشمس فسوف تحترق عيوننا، وليس معنى ذلك أنّ هناك حجاب أمام الشمس، فالشمس لا حجاب أمامها، ولا يوجد ظلّ ولا غيم، ولا هناك أمرٌ قدْ صُدِّرَ بأنْ يقف الجبل الفلاني أمامها ليحجب وصول نورها عن عين الإنسان؛ لا، ليس الأمر كذلك، فهي نورٌ ظاهرٌ وشديدٌ، إلاّ أنّ هيكليّة أعيننا غير مؤهّلة لإدراك ذاك الشعاع، فهي ضعيفة. وهذه هي حقيقة الأمر ليس إلاّ، فهل يمكننا حينئذٍ أن نُثنيَ رؤوسنا.. دون أنْ ننظر إلى الشمس.. ثمّ نشكّك ونقول: مَن الذي قال بأنّ هذا النور المنعكس على الأرض هو من الشمس؟! فلو كانت الشمس مشرقة في وَضح النهار دون أيّة حركة، ودون أيّ انتقال أو تغيير، بحيث أنّها ثابتة في مكان واحد بشكل دائم، بأن تكون أوّل الظهر وسط السماء، ثمّ بعد ساعة تبقى مكانها، ووقت الغروب كذلك تبقى ثابتة مكانها، وتظلّ على حالها في سائر أوقات الغروب والليل والنهار والصبح والظهر، فالشمس ثابتة لا تتحرّك ولا يختلف مكانها ولا مسافتها عن الأرض، فالطفل حينما يولد كانت الشمس فوق رأسه، وحينما صار عمره سنتين فهي مكانها كذلك، وحينما بلغ الخمسين ظلّت الشمس ثابتة فوقَ رأسه، وهكذا بقيت حتّى رحل عن الدنيا. لو كانت الشمس كذلك، فهل بإمكان أحدٍ مع هذا الحال أن يصدّق أنّ هناك ليلاً؟! يعني هل خلقَ الله الليل أم لا؟! هل يمكنه فهم ذلك؟! هل بإمكانه تصوّر معنى العتمة؟! هل يفهم معنى الظلمة؟! هل يَتفطّن أحد إلى أنّ مصدر هذا النور هو الشمس!! أيّ حكيم فيلسوف يستطيع أنْ يبرهنَ له أنّ النور مصدره الشمس؟! بل سوف يقول حينئذٍ: هذا النور نابع من الأرض.. إنّ النور من الأعشاب.. أو يظنّ أنّ النور يتشعشع من رؤوس الجبال.. فمع أنّ جميع هذا النور منبعثٌ من الشمس، إلاّ أنّه يتوهّم أن منشأ النور هو نفس المكان، وأنّ الأشياء تشعّ نوراً من ذاتها!! ولكن حينما تتحرّك الشمس من مكانها، ويبدأ الظلّ يظهر كما في الأماكن التي تكون الشمس عموديّة، أو يمتدّ ويتزايد كما في المناطق الأخرى، فحينئذ ينكشفُ بشكلٍ تدريجيّ أنّ مصدر النور ليس هو هذه الأشياء التي نراها، فالأرض ليس لها نور، ولا لأوراق الشجر نور، والدجاج الذي في وكره غير منير، وليس هناك نور يشع من سقف المنزل، وماء البحر ليس منيراً، كلّ هذه الأشياء ليست مشعّة للنور، وإنّما النور هو لتلك التي تُرسلُ النور، وها هي الآن حينما تحرّكت، قدْ حرّكت النور باتجاهها، وجلبته نحوها، وجعلت جميع الموجودات تحتَ ظلّها، وكلّما تحرّكتْ إلى الوراء فإنّ الظلّ يعلو ويرتفع، حتّى تبلغ الغروب، فحينئذٍ يرتفع الظلّ بشكل عالٍ جداً.
هل جلستمْ في الصحراء حين الغروب؟ حينما تميل الشمس إلى الأفول، حيث يمتدّ ظلّكم إلى جهة المشرق إلى ما لا نهاية، وحينما تغيب الشمس تحتَ الأفق، فحينئذٍ تحلّ العتمة، ونشعر بالظلمة، ونعرف معنى النور الذي افتقدناه الآن.. ونعرف أنّه كانَ شيئاً حسناً.. حيث كان بواسطة ذاك النور يعرف الإنسان رفيقه ويتعرّف عليه.. ويشخّص الدواء.. ويتعرّف على الطعام.. يعرف صديقه.. ويعرف عدوّه.. يتعرّف على الحيوان.. يتعرّف على الإنسان.. يميّز بين الحفرة والطريق السالم، أليس كذلك؟! وأمّا الآنْ، فقد حلّ الظلام، فأنتَ في ظلام الصحراء الدامس، إنْ يمسح بيده على الأرض، لا يعرف أدَوَاءٌ هنا أمْ سمّ؟ هذا عدوّه أم رفيقه؟ هل هذا طعام؟ ما هي هذه الموجودات؟ هذه الروائع الخلابة.. هذه الخُضار.. هذه الألوان.. فأينَ ذهبتْ وتلاشت حينما اختفت الشمس؟ إلى أينَ ذهبت الألوان؟ لون البلبل.. لون الكنار.. لماذا لا ترى ألوان الورود والأعشاب في الليل؟ فاللون للنّور، وحينما لا يوجد النور فلا لون، لأنّ العالم في الظلمة القاتمة، متى تُدركُ حقيقة هذا الكلام؟ تدركه حينما تأتي الشمس وتغيب، ويأتي الليل والنهار والنور والظلمة.. حينئذٍ ندرك أنّ النور مصدره الشمس، ولا يعود مجال للإنكار حينئذٍ، فأيّ طفلٍ تسأله: من أين يأتي الضوء؟ سوف يجيب: من الشمس، وإذا حاولت أن تسأله وتستوضح منه، فسوف يقول لك: هل أنتَ مصابٌ في عقلك؟! النور من الشمس، ولا شكّ ولا شبهة في ذلك، فلماذا يحلّ الظلام في الليل؟ لأنّه لا شمس حينئذٍ، وإن شاء الله تطلع الشمس ثانيةً، ويعود الجمال كما كان في العالم، أليس كذلك؟! ألا يقول الطفل كذلك؟!
اگر خورشيد، بر يك حال بودى | *** | شعاع او به يك منوال بودى |
كسـي دانـد كايـن پرتـو از اوست | *** | نكردي هيچ فرق از مغز تا پوست |
جهان جملـه، فروغ نـورِ حـق دان | *** | حـق اندر وي ز پيدائـيست پنهان |
چو نورِ حقّ ندارد نقل وتحويل | *** | نيايد اندر او تغيير وتبديل |
تو پندارى جهان خود هست دائم | *** | بذات خويشتن پيوسته قائم |
الوصول إلى الله يحتاج إلى تطهير القلب وتهذيب الباطن
وذلك للآيات الآفاقيّة، وأمّا إن أردتم ما هو أعلى من ذلك.. بحيث تريدون مشاهدة الشمس نفسها، فلا بدّ من معالجة العين، وليس هناك من سبيل آخر!!
والأفراد المعتقدون بوحدانيّة الله يعمدون إلى تطهير قلوبهم، فلا يعصون، ولا يبثّون الحقد.. ليسوا حسودين.. ولا بخلاء.. ليسوا عبيداً للمال ولا طالبين للجاه.. فهذه الصفات التي يستجمعها الإنسان، إنّما تؤدّي إلى انسداد روحه وتلاشي همّته.. حيثُ تجعلُه حبيساً مكبّلاً.. وحينما يتيه في سجنها لا يعود يتجاوز نظره عالمَ الكثرات، ومهما نظرَ وحدّقَ سوف يقع نظره عليها، فمحبّته إنّما تتعلّق بالموجودات المتعدّدة، يطلبُ المال.. ويطلب الجاه.. يكونُ حريصاً.. ويصبحُ بخيلاً.. ويكونُ قلبه معتماً مظلماً.. فقدْ بعُدَ عن نور الوجود؛ لأنّ نظره إنّما يقعُ على تلك الحفرة المظلمة.. فقد سُلبَ قوّة البصيرة.. وأصبحَ ضريراً معمِيَّ الباطن.. أو أنّ عينه الباطنيّة أصبحت رمداء.. أصبحت عينه سقيمة.. لا يقدرُ على الإبصار.. وصار كالخفّاش لا يقوى على الطيران في النهار.. فالطيور تحلّق وتطير!! إلاّ أنّ هذا المسكين لا يمكنه ذلك، بل عليه أن يقبعَ في وكره.. وحينما تغرب الشمس!! حينئذٍ يمكنه الطيران..
فهذا الإنسان الذي يحيكُ نظرَه ويقصره على تعيّن عالم الوجود وتقيّده، يجعل الأصالة للمادة، ويلتزم بأصالة الكثرة، ويبني عمله على أساس الثنائيّة والنفاق والنزاع والجور والظلم والخصام والتعدّي والعدوان، فإنّ قلبه متوجّه إلى ذاك التعيّن، وهو لا يقدر على رؤية الله، حتّى وإنْ كان في الماء!! كما كان الأمر بالنسبة إلى تلك السمكة، حيثُ لم تخرج من الماء، ولكن كيف بها لو كانت عمياء!! فهي حينئذٍ مع كونها في الماء إلاّ أنّها لا ترى.
ولو ابتعد الإنسان عن هذه الصفات وهجرها، فإنّ روحه تبدأ تتنشّط تدريجيّاً، وتنقى عينه وتصفى، وتتهاوى الحجب أمامه تدريجياً، ويشتدّ ويقوى حينئذٍ.
يقول البعض: إنّ بمقدورهم أنْ ينظروا إلى الشمس في النهار، وذلك بواسطة الاستفادة من بعض الأدوية لمدّة معيّنة وبطريقة خاصّة، فيتمكّنون من رؤية الشمس دون أنْ يتسبّب ذلك بأيّ أذىً في أعينهم، كذلك كان بعض المنجّمين السابقين يستطيعون رؤية عددٍ من النجوم، وذلك من خلال تقوية أعينهم ببعض الأدوية، وكانوا يراقبون النجوم كيف أنّ بعضها يمرّ أمام البعض الآخر فيحجبه عن الرؤية فيعرفون أنّه أقرب من ذاك، وكلّ ذلك كان في النهار! يرون النجوم في النهار!! إلاّ أنّ الأناس العاديين لا يمكنهم مشاهدة ذلك.
وقد أتى القرآن والأنبياء وقالوا: أيّها السيّد! عالج عينك الباطنيّة.. يمكنك حينئذٍ مشاهدة الشمس، ويمكنك أن ترى النجوم، فترى الأمور كما هي في الواقع، وتشاهد الباطن وتراه.
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فها نحن نرى الظاهر بحمد الله، ويجب علينا أن نرى الباطن أيضاً، فمتى يمكننا أن نشاهد الباطن؟! يمكننا ذلك حينما ينتقل نظرنا من الكثرة إلى الوحدة، يعني: لا يتوجّه إلى الموجودات بالنظر الاستقلاليّ، ولا يرى عالم الملك والملكوت بشكل مستقل، وإنّما يراها جميعاً قائمة بالله ومتقوّمة به، وهو إنّما يحصل بواسطة طهارة الأخلاق، ولا يحصل بمجرّد التفكّر والتعقّل والمطالعة، وإنّما يحتاج إلى تهذيب النفس والفهم والتحلّي بالأخلاق اللائقة والعبوديّة والتنظيم.. نعم على الإنسان أن يكون منظّماً.
حينئذٍ، يرى أنّه ليس لله حجاب، ولا ستار أمامه، فلله وجود ورحمة وخالقيّة ورازقيّة وعلم وحكمة وحياة وقدرة، فكلّ الصفات الحقيقيّة أو الصفات النسبيّة أو الإضافيّة إنّما تنشأ من ناحيته وتنبعث منه حتّى تملأَ جميع العوالم، في حين أنّه لم يخسر شيئاً من تلك الصفات والأسماء، كما ولمْ تكنْ لتمثّل ساتراً وحجاباً، فمن أيّ شيء ينشأ الحجاب والستار؟! ينشأ من قصور الإدراك وضعفه.
حجاب روى تو هم روى توست در همه حال | *** | نهان زچشم جهانى زبس كه پيدائى |
جمــال يـار نـدارد نقـــاب و پــــرده ولـي | *** | غبار ره بنشـان تا نظــر تواني كرد |
فحينما يأتي من بعيد نحو بيتِ السلطان.. وجفونه وعيونه ووجهه متّسخة بالتراب والغبار.. لن يستطيع مشاهدة المحبوب، وليس ذلك لوجود حجاب!! فلا حجاب هناك.. بل هو الغبار العالق على وجهه.. فليذهب إلى ساقية الماء ويغسل وجهه.. وليغتسل! وليتطهّر!!
شتشوئى كن وآنگاه به خرابات خرام | *** | تا نگردد زتو اين دير خراب آلوده |
وحينما تطهّر، صار بإمكانه مشاهدة معشوقه:
يـار نزديـكتـــر از مـن به مـــن اســت | *** | وين عجـبتر كـه مـن از وي دورم |
چه كـنم با كـه تـوان گفـت كه دوســت | *** | در ميــانِ مـن و مــن مهجــــورم |
يَا مَـنْ هُوَ اخْتَـفَى لِفَـرطِ نُـورِه | *** | الظَّاهِرُ البَاطِـنُ فِي ظُــهُورِهِ |
بِنُورِ وَجْـهِهِ اِسْتَـنَار كُـلُّ شَـيء | *** | وَ عِنـدَ نُـورِ وَجْهِهِ سِوَاهُ فَيْئ |
أَزِمَّـةُ الأُمُــورِ طُــرّاً بِيَــدِهِ | *** | وَ الكُـلُّ مُستَمِـدَّةٌ مِـن مَـدَدِه |
لقد أجادَ المرحوم الحاج السبزواريّ في اقتباسه من الآية الكريمة السابقة، وكذلك من خطبة أمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة:
اللَهُمَّ إِنَّكَ آنَسُ الآنِسينَ لأولِيائِكَ، وَأحضَرُهُم بالكِفايَةِ لِلْمُتِوَكِّلينَ عَلَيكَ، تُشاهِدُهُم في سَرائِرِهِم، وَتَطّلِعُ عَلَيهِم فِي ضَمائِرِهِم، وَتَعلَمُ مَبلَغَ بَصَائِرِهِم، فَأسَرارُهُمْ لَكَ مَكشُوفَة، وقلوبُهُم إِليكَ مَلهُوفَة، إِنْ أوْحَشَتْهُمُ الغُربَةُ آنَسَهُم ذِكرُكَ، وَإِن صُبَّت عَلَيهُم الْمَصَائبُ لجأوا إلى الاستِجَارَةِ بِكَ، عِلماً بِأَنّ أَزِمَّةَ الأُمُورِ بِيَدِكَ، وَمَصادِرَها عَن قَضائِك.
يعني: إنّ الله يعلم أنّ العلم والعرفان قد عُجِنَ في صميم قلوبهم، فهم يرون أنّ زمام كلّ أمرٍ بيدك، وكلّ قضاء إنّما يصدر من عندك.
فلأجل ذلك، أيّ فعل، أيّ اسم، أيّة صفة، أيّة حركة، وأيّ شيء موجود فهو من نور الله وتجلّيه.
كنّا قدْ أردنا أن نبيّن معنى الجمال والجلال في هذه الليلة، فما هي صفة الجمال؟ وما هي صفة الجلال؟ وما معنى الستر والحجاب؟ فما دام الله ظاهراً إلى هذا الحدّ، من أين يأتي هذا الحجاب؟ وما هي حقيقة الجمال والجلال؟ هل هناك صفة سلبية؟ وهل هناك صفة إيجابية؟ فقد امتدّ بحثنا فيما يتعلّق بظهور الله إلى حدّ لم يبق لنا مجال آخر، واقتربَ حلول شهر رمضان، ولا ندري ما إذا كنّا سنوفّق للحديث عن ذلك في ليالي شهر رمضان أم لا؟ فإنْ وُفقنا فسوف نستمرّ في هذه البحوث في لياليه، فيما يتعلّقُ بتفسير الآية المباركة، وإلا فبحول الله وقوّته نرجئه إلى الثلاثاء الواقع بعد شهر رمضان، إنْ كنّا من الأحياء ورُزقنا التوفيق.
فيا الله العليّ الأعلى، نسألك ببركة أوليائك، والعطاشى إلى سلوك سبيلك، والعاشقين لحريمك، والمولهين بمقام جمالك، والحيارى في حرمِ أمنك وأنسك، من الأنبياء والمرسلين والأئمّة والأولياء المقربين ...