المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةتفسير آية النور
التوضيح
هو العليم
الأدلة القرآنية على إثبات لقاء الله ورؤيته
تفسير آية النور المجلس الخامس
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
النور هو الشيء الذي يعرّفه بـ ظاهرٌ في حدّ نفسه وبه يظهر غيره، وحيثُ أنه الله قائم بذاته في حدّ نفسه وظاهر، وبقيّة الموجودات أنها هي ظاهرة، كما أنّ الله هو حقيقة.
استدلال العلاّمة الطهرانيّ على إمكانية لقاء الله بطريقين جديدين لم يطرحا من قبل
كنا قد أتينا على ذكر مطالب من القرآن الكريم والروايات، تدلُّ على أنّ الإنسان يمكن أن يصل إلى لقاء الله تعالى، وأنّ ذلك هو أعلى درجات مقام الإنسان، وأنّ خلقَ الإنسان أيضًا لم يكن إلاّ لأجل معرفة الله تعالى، وأنّ المعرفة الحقيقية ليست سوى اللقاء والوصول. وقد برهنّا على ذلك في الأسبوع الماضي بطرق متعددة وذلك بالاستفادة من القرآن والأخبار، وفي هذه الليلة أيضًا نودّ أنْ نثبتَ إمكانيّة وصول الإنسان إلى شرف لقاء الله والتشرف برؤيته، ولكن بطريقين آخرين، وهذان الطريقان ممّا عثرتُ عليه بنفسي ولمْ أجد أحداً من المفسرين حاول أنْ يثبت لقاء الله من خلالهما.
والآن التفتوا جيداً!
الطريق الأول من خلال الآيات القرآنية التي تحصر الصفات الحسنى والكمالية بالله تعالى
الطريق الأوّل: الآيات القرآنية التي تحصرُ الصفات الحسنى والكماليّة بالله تعالى، أي تقول مثلاً: في عالم الوجود، العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والحكمة والخبرة هي كلها فقط لله تعالى منحصرة به. والآن لنرَ، كيفَ يمكن أن نقرّر المطلب ونبيّنه؟
هناك في القرآن الكريم آية تقول:{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}فـ{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} تعني أنه لا يوجد أيّ إله غير هذا الإله، وتحصر الألوهيّة والعبودية في الله تعالى، أي إنّها تقول: المعبود هو الله فقط، في حال أنّنّا نرى الناس في الدنيا يعبدون آلهة مختلفة: بعضهم يعبد البقر، وبعضهم النجوم، وبعضهم الأصنام، وبعضهم يعبد أباه، والآخر يعبد أهواءه... فهؤلاء الأفراد الذين يعبدون آلهة من دون الله هم كثيرون جداً،
إذنْ، لماذا يقول الله:{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ}؟
قال بعض المفسرين: ليس المقصود من{لاَ إِلَـهَ}أنّه لا يوجد أيّ إله يُعبدُ غيرُ الله، وإنّما المقصود أنّه لا يوجد إله ومعبود بالحق غير الله، فسائر المعبودات إنّما هي معبوداتٌ بالباطل. إذنْ، المقصود هو لا معبودَ بالحق غير الله.
ولكن إذا قيل لهؤلاء المفسرين: لا وجود لقيد "بالحق" في الآية بل هي مطلقة{لاَ إِلَـهَ}فماذا يجيبون؟!
في الواقع الآية تقول: {لاَ إِلَـهَ}فعلى ماذا يدل ذلك؟
هو يعني أنّ كلّ هذه المعبودات التي اتخذتموها لأنفسكم وجعلتموها في مقابل الله "غير الله" هي كلها ليست في حقيقتها سوى تجلّ لله تعالى، فنفس الصنم والأب والأم والنجم والشمس والقمر الذين اتخذتموهم آلهةً في مقابل الله، حقيقتهم انهم تجلّ لله تعالى، إذن لا وجود لمعبود غير الله.
كلّ من توجّه إلى معبودٍ من المعبودات فإنّما يتوجّه في الحقيقة إلى الله ويبحث عنه، وكل معبودٍ يُعبدُ ففي الحقيقة إنّ الله هو ذلك المعبود، غاية الأمر أنّ عينَ العابد كانت في هذه الدنيا عمياء، وقد قيّدتْ الله في مرآة محدودة، وهنا يكمن ذنبه وشركه، فقد قُيّدَ اللهَ في الشمس والقمر وأمثالهما، ولو ارتفع هذا التقييد وظهرتْ الحقيقة فسيتضّح أنّ حقيقة نفس هذه الشمس وهذا القمر ليست شيئاً سوى الله. ولذلك يوم القيامة حيث يرتفع الحجاب وتتبين الحقائق جلية، فإنّ الكثير من المشركين يقولون: إلهنا {َّمْ نَكُن نَّدْعُو مِن قَبْلُ شَيْئاً}.
نعم تدل آيات القرآن على هذا المعنى، أي القرآن يقول: إنّهم كانوا في الدنيا من المشركين الذين عبدوا غيرَ الله، غيرَ أنّهم في الآخرة يقولون ويعترفون بأنّهم لم يكونوا يعبدون غير الله. هناك حيث كُشفَ الغطاء، يفهمون أنّ حقيقةَ ما كانوا يعبدونه ليست سوى الله.
إذنْ، معنى {اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ} أنّ كلّ عابدٍ مهما يعبدُ، فإنّه يعبدُ الله، والذنب الأوحد إنّما ينشأ بسبب تقييد الله وتحديده بحدٍّ معيّن. فلماذا يقيّد الإنسان الله سبحانه؟! ارفع هذا التقييد، فإنّ حقيقة جميع الأشياء وحقيقة الحقائق هي ذات الله المقدسة.
{اللّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلمة {الْحَيُّ} ليست صفة للضمير {هُوَ} وإنّما هي خبر ثانٍ للمبتدأ لفظ الجلالة {اللّهُ}، أيّ الله الحيّ، وكذلك {الْقَيُّومُ } خبر ثالث: الله القيوم.
ما معنى: الله الحي؟
إنّها تعني: أنّ الله تعالى هو الحي فقط.
التفتوا جيداً! نحن عندما ندرس كتاب "المطوّل"، لكي يفيدنا هنا في هذا المقام...
عندما نقول: "هو البطل المحامي"، ففي المثال الذي ندرسه هناك ـ في المطوّل ـ فإنّ الألف واللام في "البطل" للجنس أيّ إنّه هو الشجاع فقط، جنس الشجاعة منحصرٌ فيه، كأنه لا وجود لغيره في عالم الشجاعة.
كذلك قولنا: (الله الحي) فإنّ الألف واللام لكلمة "الحي" للجنس أيضاً، يعني الله حيّ وفقط، جنس الحياة منحصر بذات الله، وجنس الحيّ هو الله.
(القيوم) يعني جنس القيّوم الذي تقوم به كلّ الموجودات هو الله تعالى.
في نفس الوقت نحن نرى في هذه الدنيا أنواعاً كثيرة من الحياة والأحياء: فالدجاج حيّ، الحمام حي، العصافير، الذباب، البعوض، الأسماك البحريّة، الإنسان، الملائكة، الجنّ... فما معنى هذه الأنواع من الحياة؟ وما معنى هذه الأحياء؟ والحال أنّ الله يقول - كما تقدم - أنّ الحياة منحصرة فيه؟!
معنى ذلك أيّها الأخوة: إنّ ما لديهم من الحياة ليست حياتهم، بل هي حياة الله، هناك موجود واحد في العالم حيّ وهو الله، وهذه الحياة عند غيره استعارة ومجاز. أنت المجنون تقول: لزيد إنّه حي، تقول لعمر حيّ ! في الحقيقة عمرٌ ميّت، زيدٌ ميّت، ليس هناك من حيّ مع حياة الله، وهذه الحياة الموجودة عندهم هيَ حياة الله.
إذنْ، وجوده قد استوعبَ كلّ الموجودات، فهي ببركة وجوده تحيى وتتحرّك. وهذه الحياة هي حياته، افتح عينكَ لترى أنّ وجودَ الله وحياته قد شملَ كلّ الموجودات، وأن لا حياة لموجود معه، بل هي حياة مستعارة.
إذن، الله حيّ وكل موجود تراه وتنظر إليه على أنّه حيّ فإنّك في الواقع تشاهد أنّ الله هو الحيّ، لأنّ الله هو الحيّ ولا حياة لغيره.
وماذا تُبيّنُ لنا الآية أيضاً؟
(القيّوم) القيّوم هو الذي يقوم به كلّ موجود، وهذا الموجود القيّوم هو الله.
مثلاً: هذه المروحة التي تدور في السقف هي قائمة في السقف، وهذا السقف قائم بالجدران، وهذا الشخص الذي يجلس هنا ويتكئ على الجدار هو قائم به، وهذا الطفل الذي يتّكئ على ركبة هذا الشخص هو قائم به، بالنتيجة كلّ شخص قائم في شيء ما.
ونحن من خلال قيامنا بأنفسنا إنّما نقوم بالحق، لأنّ القيوم على جميع الموجودات هو الحقّ. إذن، هذه الموجودات ليست مستقلة ولا قائمة على أقدام أنفسها. ذلك القيّوم الذي يرتبط به كلّ هذا القيام هو الله. إذن، لا يوجد في العالم أكثر من قيّوم واحد. وكلّ ما تصورناه قيّوماً يجب أن نرمي به بعيداً، ذلك القيّوم هو الله.
افتح عينك لترَ أنّ جميع الموجودات قائمة به. تماماً كما قال النبي يوسف لصاحبيّ السجن: {أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي: أرباب من البشر متفرقون ومشتتون ومختلفوا الآراء تعتمدون عليهم وتلجؤون إليهم طالبين منهم ما تريدون خيرٌ أم الله الواحد القهار؟! الذي بواسطة قهره وسيطرة جلاله اندكّت الموجودات كلّها في عظمته وجلاله، فهو إله واحد فقط ذو الجلال والإكرام، أولئك خيرٌ أم هذا؟ إذن لا قيوم في العالم إلا الله، ولا حيّ إلا الله.
من جهة أخرى لدينا في أبواب الأذكار: الحمد لله، وفي القرآن المجيد في كثير من المواضع {الحمد لله} إلاّ أنّه في موضع واحد ورد: {لله الحمد}؛ هنا أيضا الألف واللام للجنس، وهو حملٌ إخباريّ معرّف بالألف واللام على المبتدأ، أو أنّه مبتدأ معرفٌ بألف ولام ممّا يفيد الحصر. {الحمد لله} يعني أنّ جنس الحمد منحصر بالله تعالى.
الحمد يعني المدح والثناء والتمجيد. فالإنسان يقوم بالكثير من المدح والثناء للموجودات، نحن مشغولون ليلاً نهاراً بالمدح والثناء والتمجيد، حيث نقول: يا لهذا الهواء الربيعي! يا له من نسيم منعش! ما أجمل هذه الشمس! ما أروع هذا العلم الذي تبتهج له القلوب! ما أروع ذلك القمر المشعّ في الليل! ما أجمل شجرة السرو هذه! ويا لهذا الماء الزلال! يجلسُ الإنسان قرب الجدول ويرمي بنظره إلى تلك المناظر الخلابة من الجبال فيأخذ بتمجيدها... جمال الإنسان وكماله، طول الحسناء، طول شجرة السرو، العين الواسعة كعين الغزال، الكمال العلمي: فلان يمتلك ذلك الفنّ، يا له من إنسان جيد، يا له من كامل!!! في النهاية كلّ ذلك تمجيد نحن نقوم به.
يضع الإنسان أمامه دجاجة ويأخذ بالتأمّل فيها: كيف هو منقارها؟ وكيف معدتها؟ وكبدها ورجلها؟ كيف تصيح؟ وكيف هم فراخها؟ هذا كلّه حمد، كلّ هذا الحمد الذي نقوم به هو لله تعالى.
تضعون أمامكم باقة من الورد، تقولون: ما هذا الورد؟! كم هو جميل؟! ما أجمل رائحته؟! كم تبدو خلاّبة هذه الورود المزركشة بين الأغصان الخضراء؟! كم يضفي على الرائي من النضارة؟! يا له من شيء جميل؟! هذه التمجيدات هي لله تعالى.
لا تقل: ما أجمل الورد! وإنّما قل: ما أجمل الله! كذلك لا تقل: ما أجمل الإنسان! بل قل: ما أجمل الله! فهذا التمجيد له، يا له من جبل! يا له من ماء! يا له من جمال خلاّب! يا له من عِلْم منوّر للقلب! يا له من قمر منير! جميع هذه المحاسن منحصرة بالله تعالى، والله هو الجميل فقط. فإذن، قوله تعالى: {قُلِ الحَمدُ لله} يعني: أنْ لا موجود يليق بالحمد غيره، فالذي يستحقّ الحمد بالذات هو الله، وفي النهاية هو الذي أعطى هذه الموجودات رونقها، وأمّا العميُ فإنّهم يرون أنّ هذا الرونق من نفس الموجودات لذلك يمدحونها. هذه العين يجب أنْ تبدّل لترى الرونقَ من صاحب الجمال الذي هو الله، فتمجّده وتحمده، وهكذا يكون {الحمد لله} و {لله الحمد}. وأمّا الأفراد فإنّهم فاقدون للمعرفة والبصيرة، لا يدركون هذا المعنى، يرون
الموجودات مستقلة، وإنّما يتوجّهون بالحمد إليها مباشرة، لذا يقول الله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون} أي: قل إنّ جميع مراتب الحمد مختصّة بالله ولكنّ أكثر الناس لا يفهمون ذلك.
إنّهم يتخيلون أنّ زيداً هو الذي شفا أطفالهم، وأنّ البنّاء هو الذي بنى هذا المبنى، وأنّ الماء هو الذي أحيى أكبادهم الحرّى وأرواها، فهم يتخيّلون ذلك ولا يأتون على ألسنتهم بذكر لله تعالى.
{أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون} أكثرهم لا يرون نور الوجود في جميع الموجودات، لا يرون الله نوراً، لا يرون الله ظاهراً، لا يرون ظهور الموجودات به، فهم {لا يَعْقِلُون}،{أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُون} أمّا أولئك الذين وصلوا إلى مقام المعرفة فإنهم يرون كلّ شيء من الله.
من جملة الآيات القرآنية هذه الآية: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فهؤلاء الذين يدخلون الجنة، فالحجب مرتفعة، وعيون الباطن مبصرة تدركُ الحقائقَ هناك فيسبّحون الله. وقولهم: { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ}؛ اللهمّ أنت منزّه، أنتَ مقدّس من كلّ صفات القبح والنقص ومن كلّ الأشياء التي هي أدنى من مقام سبُّوحيّتك وقدّوسيّتك، أنتَ أعلى وأجلّ من كلّ ذلك، والتحية التي يحيّونَ بعضَهم بها هي السلام الذي يصلهم من الله تعالى.
{وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} ما هو آخر قولهم؟ {أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي تمام مراتب الحمد مختصّة بالله تعالى. أي إنّ الظهورات التي كانتْ في عالم الدنيا وتلك التي كانت في عالم البرزخ وفي عالم القيامة من حورِ العين والعسل والرضوان الإلهي، جميع الخصوصيات، وأرواح الأنبياء وأرواح الملائكة، كلّ هذه الظهورات هي ظهورات الله، الحور العين ظهور الله، الملائكة ظهور الله، الأنبياء ظهور الله، ولا شيء غير الله، وكلّ هذه المحامد منحصرة به. {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ} يعني: آخر دعوى أهل الجنة {أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. فالتفتوا وانتبهوا! لا تنسوا هذا واحتفظوا به!
إذنْ، الحمد أيضاً من مختصات الله. عندما تمدح الوردة فأنت تمدح الله، إذن افتح عينك لترَ الله، فإنّه لا وجود للوردة أصلاً، ولا شيء يستحق الحمد غير الله، إذن أنت عندما تمدح الوردة إنّما ترى الله وتمدحه، فلماذا تنكرُ الله في نفس الوقت الذي تراه فيه وتمدحه؟!
ومن جملة الآيات أيضاً، قوله تعالى: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} الذي يحصر العلم والقدرة به تعالى، ومنها قوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} الذي يحصر العلم والحكمة به تعالى، ومنها قوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} و {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} الذي يحصر السمع والبصر بذاته، ومنها قوله: {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي إنه تعالى هو الذي يحلّ العقد والمعضلات وهو العليم.
فكلّ هذه الآذان، وكلّ هذه الأعين، وكلّ هذه القدرات، وكل هذه العلوم التي وجدت عند البشر، وجميع هؤلاء العلماء الذين جاؤوا إلى الدنيا ومضَوا تاركين ذخائراً من العلوم، فهذه العلوم موضوعة كلّها في صندوق صغير مغلق، وهي مختصة بالله، ولا يمكن لموجود أنْ يدّعي ويقول: أنا السميع، أنا البصير، فالسميع والبصير هو الله، ألا تؤدي هذه الآيات معنى الحصر؟!
ويعتبر ذلك من مختصات الشريعة الإسلامية المقدسة، ومن مختصات القرآن الكريم، وهو ما لا نراه في أيٍّ من مذاهبِ فلاسفة الدنيا ومدارسهم، ولا في أيّ كتاب من الكتب السماوية، فلا نجد في سائر الملل أثراً لذلك حتى الإلهية، فهل يقولون: {الحمد لله}؟؟ كلا! فهم يقولون: حمداً لله، أو الله مستحقّ للحمد، الله سميع كذلك... إلاّ أنّ كلّ ذلك غير قولنا: إنّ جميع مراتب السمع وجميع مراتب الحمد لها اختصاص بالله. فهذا الذكرُ من مختصات النبيّ الأكرم الذي فتح نافذته أمام وجه الأمّة، وليس هناك أيّة أمّة ولا مذهب يمتلك مثل هذا النوع من الذكر، وكم هو عال ورفيع!
هذا هو لقاء الله في النتيجة، يعني أيّها العزيز! افتح عينك على عالم الوجود، فكلّ من تسمعه وكلّ من تراه، وكلّ من له علم، وكلّ من له قدرة، وكلّ من له حياة، وكلّ موجود أنت تمجّدُه وتمدحه، وكلّ موجود أنت تعبدُه، كلّ هذا حقيقته هي الله.
لا تحوّل نظرك إلى هذه المظاهر وتلك التجلّيات، ولكن ارمِ ببصرك إلى الذات المتجلية التي تختص بالحياة!! فالحياة له في النهاية!
إذنْ، هذه الآيات صريحة الدلالة على أنّه في عالم الوجودِ وجودٌ واحدٌ فقط مستقل بالذات، وهو الله، وجميعُ الصفات والأسماء التي تملأ العالم، سواء الأسماء الكلية أم الجزئية، هي أسماؤه، ولا شيء خارجٌ عن نطاق قدرته وعلمه وحياته وحكمته وكبريائه.
هذا أحد طرق الاستدلال. التفتوا إليه جيداً! واعمِلوا فيه دقّتكم! فتلك الآيات، مهمّة للغاية.
الطريق الآخر من خلال آيات الله الآفاقية والأنفسية التي هي مظاهر لله تعالى
وهناك طريق آخر للاستدلال وهو: أنّ القرآن المجيد يُعدُّ جميعَ الموجودات، من الموجودات الأرضيّة والسماويّة، ذوات النفوس وغيرها، يُعدُّها جميعاً آيات، ويقول: إنّها آيات الله.
سأوضّح لكم في البداية معنى الآية لنرى ماذا يريد القرآن أنْ يقول، وعلى أيّ معنى يريد أنْ يطلعنا عندما يسمّي هذه الموجودات كلّها باسم "الآية ". فالآية تعني العلامة والمشير.
أمّا العلامة، فإنّ الشيء الذي تنظرون إليه في هذا العالم على أنّه علامة، هو الشيء الذي له جهتان: جهة ذاتية، وجهة علامتيّة آيتيّة أي بالنسبة إلى الغير. أليس كذلك؟! فاللافتة التي تجعلونها عند باب الدار لتدلّ على أنّ هناك مجلس عزاء، هذه اللافتة لها جهة ذاتية استقلالية وهي التي تتمثل بكونها خضراء اللون، خشبها كذا... قدْ عُلّقت في ذلك الموضع من الجدار وكُتبَ عليها كذا وكذا.. سواء كُتبَ عليها بالحبرِ أم طُرزت بالخيوط.. هذه مثلاً هي الجهات الخصوصية الذاتية للاّفتة.
الجهة الثانية هي الجهة الآيتيّة، أي إنّها تشيرُ إلى انعقاد مجلسٍ في هذا البيت وأنّ الناس مدعوّون إليه. إذنْ، فيها جهة آيتيّة، أليس كذلك؟
أمّا الشيء الذي لا يكون له جهة ذاتيّة على الإطلاق، وليس له إلا جهة يدلّ فيها على الغير فهذا هو الآية المحضة. مثلاً، افرضوا أنّ لدينا نظّارة ننظرُ بواسطتها، فهذه أيضاً لها جهة ذاتية وأخرى آيتيّة. ما هي جهتها الذاتية؟ هي أنّ زجاجها أبيض، دائريّ أو مستطيل الشكل، صنعَ في مصنع معين... هذه هي الجهة الذاتية فيها، وأمّا الجهة الآيتيّة: فهي أنّها تُظهر الغير وتحاكيه فقط، فإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى ذات النظّارة فسوف لن يرى بواسطتها أيّ شيء، مثلاً إذا أراد أن يتأمّل النظّارة وتحديد نوعيّة زجاجها هل فيه تموّج أم لا؟ أين صنعت؟ كيف شكلها؟ فسوف لا يرى شيئاً أصلاً، وأمّا عندما يضعها على عينيه ولا يلتفت إلى زجاجها، فحينها بواسطة نفس هذا الزجاج يتمكن من رؤية الغير، وسوف يرى جميع الموجودات بواسطتها. هذه هي جهة الحكاية والإراءة، وهي حيثيّة الآيتيّة، أي جهة الإظهار والإبراز.
فالماء الصافي أيضا كذلك، حاولْ أنْ تقِف قربَ حوضٍ أو مسبح ماؤه صاف هادئ لا تموّج فيه، فانّك سترى صورةَ جميعِ الأشجار المحيطة بهذا المسبح أو الحوض، وصورة القمر والشمس والنجوم وحتى صورتك أنت، وكذلك الأشخاص الذين يقفون إلى جانب الحوض، أليس كذلك؟ هذا من جهة الإراءة، أي إنّ هذا الحوض يُظهرُ شيئاً غيرَه. أمّا لو كان للماء ذاتية، أي كان يُظهرُ نفسه، كأن يكون فيه موج مثلاً أو يكون فيه تلوث، فعندما يكون كذلك لا يعود قادراً على أنْ يظهر غيره ولا تنعكس الصوَّرُ فيه.
المرآة كذلك، لها جهة ذاتية هي أنّها من زجاج، ولها وزن بضع كيلوغرامات، ظهرُها مطليّ بالزئبق.. هذه هي خصوصيات المرآة الذاتية. ولها جهة أخرى هي أنّها تُظهرُ الغير. وكلّما كانت جهة الذاتية أقل ـ في نظر الرائي ـ كانت جهة الإراءة للغير أفضل.
بعض المرايا لون زجاجها أخضر أو أصفر، تظهرُ وجه الناظرِ فيها أخضراً أو أصفراً. وبعض المرايا فيها تموّجات، وعندما ينظر المرء فيها يرى وجهه متموجاً، إذا حرّك وجهه أمام المرآة يرى أنّه تارة يكون كبيراً وأخرى يصغر، تبدو إحدى عينيه صغيرة والأخرى تبدو كبيرة، يرى جبينه تارة يرتفع وحاجبه ينزل، أمّا لو كان لدينا مرآة ليس فيها أي تموج، ولكن عليها بعض الخدوش، فإذا نظرتم إلى وجوهكم في تلك المرآة فإنّها ستبدو وكأنّ فيها خدشاً، ثم إذا حرّفتم تلك المرآة بحيث يكون الخدش مقابل الجبهة فترون الخدش على جبهتكم، وإذا نقلتم المرآة إلى هذا الطرف ينتقل الخدش إليه، هذا مع أنه لم يصبكم أي خدش، ولكن المرآة هي المخدوشة، ولأنها بهذا الشكل الذي لا يمكنها معه أنْ تعكس صورة وجوهكم فإنها تظهر ذلك الشيء فيكم. ولو كان لدينا مرآة قد حفر في ظهرها بمقدار الخال ونظرتم فيها فإنّكم سترون خالاً أو قرحة في وجوهكم مع أنه في الواقع ليس فيها شيء من ذلك، المرآة هي ذات خال وذات قرحة، ولكن وجوهكم تبدو من خلالها مجروحة موشَّمة أيضاً.
المرآة الجيدة هي المرآة التي ليس فيها شيء من ذلك، و جهة الذاتية فيها قليلة بحيث لا تُبدي شيئاً من نفسها. فعندما تنظرون في المرآة لا ترون شيئاً غير أنفسكم، فهي تُبدي صورَكم أنتم، هكذا تكون المرآة وهكذا تكون الآية، إذن، هذا هو معنى الآية: فالآية تعني العلامة فقط دون إضافة شيء آخر.
القرآن الكريم يبيّن أنّ جميع الموجودات هي آية لله تعالى
القرآن المجيد يقول أنّ جميع هذه الموجودات هي آية لله تعالى. ماذا يعني هذا؟ يعني إنّها مرآة الله المشيرة إليه.
وهذا من مختصات القرآن الكريم، وعجيب جداً أنْ يعدّ القرآن جميع هذه الخصوصيات محصورة بالذات المقدسة لرب العالمين، وجميعها آية، هذا غريب جداً!! فهو يحصرها بذات الله ويسميها جميعاً آية.
مثلاً، يقول بالنسبة لعيسى ابن مريم وأمّه:
{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} قد جعلْنا عيسى ابنَ مريم وأمَّه آيةَ الله، وقد رفعناهما وجعلناهما في مكانٍ مُحكم ومرتفع وحسن..
الآن عيسى ابن مريم وأمّه آية لله، ما معنى ذلك؟ يعني: أنّ عيسى ابن مريم لا استقلالية ذاتية له، وأمّه كذلك، فـ عيسى بجميع جوانب وجوده ليس سوى مَظهراً لله وكذلك مريم، إذن عندما تنظر إلى عيسى عليك أن ترى الله. كذلك الأمر عندما تنظر إلى مريم، فلا وجود لمريم، بل انظر إلى الله! هذه هي الآية. إذا كانت مريم تُظهر نفسها وذاتَها وإنّيتها، فسوف لن تكون آية، وإذا كان عيسى كذلك فهو ليس بآية. ولكن الله يقول: نحن جعلنا عيسى وأمّه آية، جعلناهما مرآةً، فخذ هذه المرآة بيدك، ماذا سترى بواسطتها؟ لا شيءَ سوى الله.
ويقول: جعلتُهم آيةً لي، ولمْ أجعل عيسى آيةً للقمر ولا للأرض ولا للحكومة أو للمجتمع، لا! بل جعلناه آيةً لنا، فكلّ ذلك أيضاً آية ومرآة لنا.
في سورة يس نقرأ:
{وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} نحن جعلنا الأرض لهم آية، فمنَ الآيات التي جُعلتْ لهم نفس هذه الأرض الميتة، كيف نحييها؟ وكيف تنبعثُ الحياةُ منها؟ كيف تنبت الأشجار
فيها؟ وكيف تخرج الأعشاب والزهور فيصير العالم مليئاً بالنشاط؟ ما هذا؟ كلّ ذلك يقوم بعملية الإشارة إلى الله، وهذه الأرض وهذه النباتات وهذا الموت وهذه الحياة التي تخرج من الأرض الميتة كل ذلك آيات الله تعالى.
{وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} أي ومن الآيات التي جعلناها لهم، ذلك الليل الذي نخرج الأرض منه ونسلخها منه كما نسلخ الجلد.
{وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ومن الآيات التي جعلناها لهم، أنّا نحملهم ونسير بهم بواسطة تلك السفن المليئة بالركاب والمشحونة بالبضائع. وهذه آيات الله، هذه السفينة التي تجري فوق مياه البحر وتقوم بالإعلان عن الله تعالى، افتح عينك! انظر إلى الفلك! ولكن إيّاك أن ترى فيها فلكاً أبداً! بل عليك أن ترى فيها الله! القِ بنظرك إلى الليل والنهار ولكن لا تلحظ الليل والنهار بلْ عاين فيهما الله!
تأمّل في هذه الأرض الميتة التي نحن نحييها ونخرج منها الأعشاب وشاهد الله تعالى!
في سورة آل عمران:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ}
وفي سورة البقرة نقرأ:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاء فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخِّرِ بَيْنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}
ما أروع هذه الآية! فهي تثير العجب!! وما أوضح ما تبيّن به المطلب! تقول: إنّ في خلق السموات والأرض والاختلاف الذي يقع بين الليل والنهار ـ فيكون النهار في بعض الأوقات أقصر من الليل، والليل أطول، وفي أوقات أخرى يكون العكس، وفي مختلف أرجاء الدنيا يشاهد في كلّ نقطة من نقاط الأرض هذا الاختلاف بنحو خاص بها ـ وفي السفن التي تسير فوق الماء بالناس والبضائع والأموال التجارية وتجول الدنيا من طرف إلى آخر بواسطة الرياح، فهذه بأجمعها آيات.
كذلك مياه الرحمة التي نُنزلها من السماء مطراً، قطرةً قطرة، لا أنّنا نفتح باب السماء دفعة واحدة ونجريه فوق رؤوس الناس كنهر "كرج"!! وإنّما هذه المياه ننشرها قطرةً قطرة مطراً يُحيي الأرض بعد أن كانت ميتةً، وبواسطته نخلقُ لكم ونبثّ في الأرض من كلّ دابة، حتى أنّ خلقتكم وخلقة كلّ الحيوانات والطيور والأسماك والنباتات والجمادات إنّما هي بواسطة هذا الماء، توجد وتحيى به، وكلّ ذلك آيات لله.
وهذه الغيوم المسخّرة بين السماء والأرض وتتحرك بأمر ربها من مكان إلى آخر، وهذه الرياح التي تهبّ من هنا وهناك لتلطّف الأرض وتبرّدها وتجعلها ملائمة للحياة، وتلقّح الأشجار وتقوم بوظائف أخرى عديدة، هذه كلّها آيات وعلامات { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} لأولئك الذين يستعملون عقولهم فيرونها آيات!
أمّا الذين لا يُعملون عقولهم، لا ينسبون اختلاف الليل والنهار إلى الله، ولا يعدّونه آية لله، يغفلون أصلاً عن خلقة السماوات والأرض والأمطار والرياح والسحاب المسخّر وحركة السفن، يقولون: هذه السفن التي تجري فوق البحر إنّما تجري بقوة البخار ـ التي اكتشفها بابن ـ وبقوة الإنسان الخاصة كما كان يقول قارون: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي جميع هذه الأموال التي حصلتُ عليها إنّما هي بعلمي أنا، ما دخل الله بذلك؟ فلماذا أُنفق؟ فهم لا يرَونَ ذلك من الله، أمّا أهل العقل والدراية، يرَونَ جميع ذلك آية لله.
ماذا تعني الآية؟ يعني أنّهم يرون الله دون هذه المظاهر، لأنّه لو أراد الإنسان أنْ يرى هذه المظاهر فسوف لن يرى الله، فلو كانتْ هذه الأمور أشياء تحاكي نفسها فسوف لا تقدر على محاكاة الله وإراءته، لأنّها لا تعود آية!! وإنّما تكون آيةً حينما تحاكي الله وتظهره، فجميع ذلك مظهرٌ للّه، فحينما يسرحُ الإنسان في مركبٍ داخل البحر، فيلامس الهواء العليل، ويشاهد الغيوم المسخّرة بين السماء والأرض،
ويعاين ذاك المطر الهاطل من السماء، وجميع هذه الأصناف وأنواع المخلوقات المعمّرة، والأشجار والأعشاب التي تنبتُ وتخضرّ، فهذه الليالي وهذه الأيام وهذه السماء، كلّ ذلك يحاكي الله ويُظهره، فجميع ذلك آية لله.
كذلك يقول الله العليّ الأعلى في سورة الروم:
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}
من آيات الله أنْ جعلكم أزواجاً، هذه الأزواج؛ فالنساء هم من أنفسكم، لكي يكونوا سكناً لكم، فالرجل الذي لا امرأة له لا سكون له ولا راحة، {لِّتَسْكُنُوا} أي هنّ سكنٌ لكم، ألمْ يأتِ في القرآن المجيد مصدر السكون؟! والعجيب هو أنّه آية لله، فقبل إجراء العقد بين الرجل والمرأة لا يكون هناك أيّ شيء من المودّة والعلاقة بينهما، فبمجرد أنْ يقع العقد تظهر المودّة والعلاقة، وتظهر الصداقة بينهما، هذه الصداقة هي صداقة الله، وليس صداقتهما، والعجيب أنّ صيغة الطلاق حينما تقع فكذلك ينفكّان عن بعضهما البعض، فتذهب تلك المودّة والرحمة، فهي لمن؟ هي لله.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي كلّ ذلك يشير إلى الله. هذه المرأة هي مرآة تعكس الله. هذا الرجل هو مرآة تعكس الله.
الرجل ينظر إلى المرأة فيرى فيها الله، وهي تنظر إليه فترى فيه الله، {عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ} كما وإنّ القرآن يبيّن أحوال أهل الجنّة، فإنّ من أهمّ اللذائذ جلوسهم على الأرائك والسرر، بعضهم في قبال البعض الآخر، هؤلاء ينظرون إلى أولئك، وأولئك ينظرن إلى هؤلاء فهم يتبادلون النظرات، ويتمتّعون بهذه النظرات إلى درجة لا يحبّ أحدهم أن يحيد ببصره عن وجه الآخر، أي إنّه ينظر إليه، والحال أنّ تلك التجلّيات الإلهيّة تظهرُ دائماً في وجوده وهي التي يُدركها ذلك الناظر، أي إنّه يرى الله؛ إذنْ وبناء عليه، فالمرأة إحدى آيات الله.
{وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ}
أي من آيات الله، خلقُ السماوات والأرض واختلاف الوجوه والألوان واللغات والألسنة.
ابحثوا بين جميع الناس هل تجدون شخصين على هيئة واحدة، هل تجدون شخصين أعينهما متطابقة؟ نعم قد نجد اثنين متشابهين لا متطابقين؛ هل يمكن أن تعثروا على شخصين ذوي رأسين متطابقين؟ أو أنْ تكون أذنهما على هيئة واحدة؟ يقول أحد الأطباء: لا يمكن أنْ يوجد اثنان من البشر على نحوٍ يكون فكّاهما على نمط واحد، وهو غير منحصر في زماننا نحن فقط، وإنّما منذ آدم أبي البشر حتّى يوم القيامة، فلا يمكن أن يوجد اثنان بالأعين نفسها من جميع الجهات، وكذلك الآذان، ولا يمكن أن يوجد اثنان بالجلد نفسه، وبالأظفار نفسها، وشعرة واحدة من كلّ واحد منهما لا يمكن أن تشابه شعرة واحدة من الآخر؛ وأنا أقول شيئا آخر: حتّى في خلية واحدة من بدنيهما لا يمكن أن يتماثلا. خذوا خلية من هذا البدن وخلية من ذاك، ففي كلّ هذه الأزمان منذ آدم وحتى القيامة، لا يمكن أنْ تكونا على صورة واحدة؛ بل حتى الخليتان من جسد واحد كذلك الأمر، وهذا لأنّ الله العلي الأعلى واحد، وتجلّيه واحدٌ، ولا تكرار في التجلّي، وكلّ تجلّ هو مَظهرٌ له مشير إليه، كلّ موجود من الموجودات هو مظهر له. واقعاً نفس هذا الاختلاف في الألسنة والصُّوَر هو من آيات الله؛ الأصوات تختلف، ابنتان متولدتان من أمّ واحدة لكلّ منهما نغم خاص بها، شكلٌ خاص، قامة خاصّة، وجه خاصّ. أو أخوان توأمان، يولدا من أمّهما مختلفي الصوت، كلّ واحدٍ على هيئة وكيفيّة خاصّة وله خصوصياته رغم أنّهما متشابهين، ولكن ذرات وجودهما بأسرها مختلفة فيما بينها.
{وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ} أي من آيات الله أنّكم تنامون في الليل، وتنامون في النهار، وتطلبون رزق الله، فأنتم ترون الله بواسطة هذه المرآة، وأنتم ترون الله بواسطة هذا النوم.
{وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} من آيات الله هذه الرياح التي يرسلها بعنوان أنّها بشارة، ولتتذوّقوا من رحمة الله.
{وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي هذه الشمس وهذا القمر في الليل والنهار، هما آية لله، فهذه آية في النهار، وذاك آية في الليل، وهما آية يُظهران الله، فحينما تنظرون إلى القمر ترون الله! وعندما تشاهدون الشمس فإنّكم تنظرون إلى الله، وإن تروا الليل وتشاهدوه فأنتم ترون الله، كذلك حينما ترون النهار فإنّكم ترون الله.
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} أي من آيات الله هذه السفن التي تمخرُ عباب البحر كالجبل الشاهق، تنزلق على صفحات الماء كالجبل، إذا شاهدتموها من بعيد تخالونها جبلاً، والحال أنّها ليست جبلاً، هي سفينة تقتربُ من بعيد، لذلك تظنّها في الوهلة الأولى أنّها جبل متحرّك، ثمّ ينكشف لك أنّها ليس جبلاً، بل هي سفينة كالجبل، جبل يتحرّك على ظهر الماء، جميع ذرّات هذا المركب آية الله؛ فإذنْ، كلّ ذلك هو الله، ما معنى أنّ جميع ذلك هو الله؟ يعني أنّه آية، فهي ليست آية لشيء خاصّ، كما وليست آية لإظهار ذاتها!! فجميع ذلك آية لإظهار الله.
فإذن، كلّ من ينظر إلى شيء من هذه الموجودات فإنّه ينظر إلى الله، وهو قد شاهد الله، فلقاء الله من خلال ذلك أوضح، وهو سهل للغاية، فهو سهل إلى الحدّ الذي يجعل الإنسان لا يرى غيرَ الله، فالشخص الذي ينكر وجود الله مع وجود هذه الآيات، ويقول: لا أثر لله! فهو ينطبق عليه: عميتْ عينٌ لا تراكَ عليها رقيباً، فعينه عمياء.
رحمَ الله الحاجّ المرحوم الحاجّ هادي الأبهري، كان يقول: كانَ هناك إسكافٌ معروف يصلح النعال في أبهر، كان هذا الإسكاف يصلح الأحذية ويخيط خرق الأحذية أيضاً، ولكن كان قلبه نيّراً، فكان له سرّ وعلاقة عميقة مع الله، مناجاة، حالات، وكذا.. فذات يوم جاءه أحد المعمّمين في أبهر وقال له دون أيّة مبالاة: ماذا تقول أنت؟! يمكن للإنسان أنْ يرى الله!! بواسطة هذه العين يمكنه رؤية الله؟! فوضعَ الإسكاف إصبعيه في عيني ذاك المعمّم وقال: هاتان العينان اللتان لا تريان الله هما عينان زجاجيّتان وليستا عينان حقيقيّتين، فهاتان الزجاجتان التي هما بدل عينيك لا يمكن أن تريا الله، وإلاّ فمن يمتلك عيناً فإنّه يرى الله؛ {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي العيون لا تعمى وإنّما الذي يعمى هو العين التي في القلب، حينئذٍ لا يعود بإمكانه أن يرى الله.
وعلى كلّ تقدير، هناك آية عجيبة في القرآن المجيد تقول:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} يعني: سوف نريهم آياتنا بسرعة وبشكل قطعي وسنظهرها لهم، وذلك في نحوين: في الآفاق، أي ما هو خارج عن وجود ذاتهم، من الجبل والباب والصحراء واليابسة والخضار والماء والشمس والقمر والمراكب والهواء والغيوم واختلاف الليل والنهار والنساء والرجال والبلابل والحيوانات ـ سواء المواشي أم المفترسة ـ والأسماك والبحر وطيور الهواء... جميع ذلك آيات الله ومرايا قد نصبناها لإراءة الله، فالآية تعني: المرآة، وجميع هذه الموجودات مرآة لله، وكلّ شخصٍ يستعين بمرآة ويشاهد من خلالها، ولكنْ عليكم أن تفكّروا بهذه المسألة وهي: أنّه إلى أيّ حدّ قدْ أظهرَ الله نفسه من خلال هذه الآيات؟! فمن الطبيعي أنّ كلّ واحدة من هذه الآيات التي نرى الله من خلالها هي مرآة، فنحن لمْ نُعطَى مرآةً واحدةً، وإنّما أُعطيَ لكلّ شخصٍ في كلّ لحظةٍ المليارات من المرايا، والتي يرى بواسطة كلّ واحدة منها ناحية من الله، ويستطيع أنْ يتشرّف بلقاء الله بواسطة كلّ واحدة منها، ولكنْ هذا فيما لو لم ينظر إلى ذاك الموجود بنفسه ولا يراه، وإنّما يرى الآية، ويلحظه كمرآة، كما هو الحال عندما تذهبون إلى المحلّ الذي يبيع المرايا، فتحملون المرآة وتتفحصونها وتنظرون إليها لأنّكم تريدوها
بنفسها، حينئذٍ سوف لا تلتفتون إلى صورتكم المنعكسة فيها، وأمّا لو أردتم أن تنظروا إلى أنفسكم، فحينئذٍ سوف تُعرضون عن النظر إلى المرآة نفسها، ولا تتوجّهون إلى الآية نفسها، وإنّما تنظرون من خلالها وبواسطتها نظرةً آيتيّة ومرآتيّة.
وكذلك انظروا على أساس هذه النظرة إلى سائر الموجودات! فحينما تنظرون إلى زيد لا تشاهدوا زيداً! وإنّما انظروا إلى الله من خلاله، كذلك حينما تنظرون إلى عمرو أو تنظرون إلى الشجرة أو ترون البلبل أو تنظرون إلى الماء، فلتروا الله في كلّ ذلك، لأنّ كلّ ذلك مظاهر، يعني هي محلّ ظهور الله، يعني هي ليستْ شيئاً من نفسها، وإنّما هي ظهور الله، فهي "مَجلى" بمعنى: محلّ تجلّي الله، وهي لا شيئيّة لها من ذاتها وإنّما هي مَظَهرٌ لله. فهذا حينما يراك وينظر إليك فإنّه لا يرى شيئاً غير الله، وهذا هو معنى قوله تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}.
السير التكاملي عن طريق التفكر بالنفس يوصل الى الهدف بشكل أسرع
ما معنى "الأنفس"؟ "الأنفس" تعني: أن تشاهد نفسك وتنظر إليها، أي تعال من الخارج وادخل في نفسك، فذات النفس هي آية من آيات الله، هي آية كبيرة بل وأكبر آية، حتّى أنّ الكثير ملتزمون بأنّ آية النفس هي الأهمّ بالنسبة لسائر آيات الله، وأنّ الذين يرومون السير التكاملي عن طريق التفكّر بالنفس والتوجّه إليها، يصلون إلى هدفهم بشكل أسرع، لأنّهم يسيرون من خلال المرآة الأكبر، والتي هي توأمٌ مع ذات الإنسان، وأقربُ إليه من كلّ الأشياء، فيريدون أن يشاهدوا الله بواسطة هذه المرآة الواسعة.
فنحن نُظهرُ الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة حتّى يتّضحَ لهم أنّه هو الحقّ دون غيره، كم هو لطيف هذا الكلام؛ يعني أنّه لو تنظرون إلى وجود جميع هذه الموجودات بشكلٍ مستقلٍّ فإنّها باطلٌ بأجمعها، والله هو الحقّ فقط، ففي جميع العوالم {أَنَّهُ الْحَقُّ} أي: الله دون غيره، فالله هو الحيّ، الله العليم، الله الحكيم، الله الخبير.. والله هو القدير، وليس لشيء من هذه الموجودات أثرٌ من هذه الأسماء والصفات.
{أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي: إنّ لله اطّلاع وهيمنة وسيطرة، وكلّ الموجودات في قبضة الله ومشهودة له، وفي محضره؛ فهي في محضره تكويناً ووجوداً ومندكّة في ذاته {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ} فلا ينبغي أن يكون للإنسان شكّ في الله، كما ينبغي أن لا يكون لديه شكّ في لقاء الله، لأنّ جميع هذه الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة إنّما هي مظهرٌ لله، ولكن واقعهم: {إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ} فهؤلاء الناس في شكّ، يشكّون في إمكانيّة لقاء الله وإمكانيّة رؤيته، عجيب كيفُ أنّ هذه الآية {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ} قد وقعتْ بعد قوله {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ}. يعني: إنّ إظهارنا وإراءتنا للآيات الآفاقيّة والأنفسيّة، بل نفس الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة إنّما هي لأجل لقاء الله، فجميع هذه الآيات هي لقاء الله، إلاّ أنّ هؤلاء الناس {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ} أي فليعلموا! أنّ الله محيط بكلّ بشيء، فأيّ شيء يمكن أن تسمّوه شيئاً فإنّ الله محيطٌ بوجوده وأسمائه وصفاته، وحقيقة ذاك الشيء مندكّة في أسماء الله وصفاته، يعني هو الله.
لأجل ذلك، فإنّ هذه الآية إحدى الآيات القرآنيّة العجيبة جدّاً، وهي مشتملة على جهاتٍ عديدة تستحقّ البحث، وينبغي التدقيق فيها، فإنّها تثبت لقاء الله بالنسبة لنا بشكلّ جيّد، كذلك الآيات الأخرى التي بينّاها وذكرناها خلال توضيحنا معنى الآيتيّة.
توجّه الإنسان الى آيات الله بنظرة استقلالية لا بنظرة آيتية يمنعه من رؤية الله
وبناءً عليه، فإنّ هناك آيات في عالم الوجود تظهرُ الله، إلاّ أنّ توجّه الإنسان الى هذه الآيات من خلال نظرة استقلاليّة وعدم النظر اليها بنظرةٍ آيتيّة ومرآتيّة، سوف يمنعه من رؤية الله، فإذا لم ينظر الإنسان إلى هذا الماء أو هذه الشجرة أو هذا الجبل نظرةً آيتيّة، فبالطبع سوف لن يرى الله، وبذلك يكون قد سدّ الطريق لرؤية الله.
كما أنّ القرآن يقول: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أيّ إنّ ذلك آيةّ ولكنّ أكثر الناس لم يؤمنوا، أي لم يروا ولم ينظروا إلى ذلك نظرةً آيتيّة، بل رأوه على نحو الاستقلال، فينبغي أن يروه كآية، حينئذٍ سوف يرون الله، ولكنّ الأكثريّة لم يروا. هذه الآية قد جاءت في القرآن الكريم على لسان الكثير من الأنبياء الذين كانوا يدعون قومهم، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ} أي الأكثريّة لم يؤمنوا..
{وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} بمعنى أنّهم لم ينظروا إلى الآية كآية.
{وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي ما تأتيهم آية من آيات الله لتوجّهَهم نحو رؤية الله ومشاهدته من خلالها، إلا وكانوا يُعرِضون عنها، يعني: كانوا ينظرون إليها نظرةً استقلاليّة، لا نظرةً آيتيّة!!
{وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} أي كم هناك من الآيات الكثيرة في السموات والأرض، ومع أنّهم يرونها جميعاً، إلاّ أنّهم يعرضون وينصرفون عنها، يعني ماذا يفعلون؟ يعني: لا ينظرون إلى هذا النبي نظرة آيتيّة، ولا يرون السماء آية، ولا ينظرون الى الأرض وسائر هذه الخصوصيّات، نظرة آيتيّة، وإلاّ فلو توجّهوا إليها بنظرة آيتيّة فسوف يرون الله؛ ولكنّهم لا يرونها آية، بل ينظرون بالنظر الاستقلالي، لذلك فسوف لا تكون هذه الآيات سبباً للقاء الله، لأجل ذلك فهم يرون الله وينكرونه!! فقد جلسوا على مائدة الله وأنكروا.. فقاموا بكفران النعمة.. وأمّا أولئك أصحاب القلوب المنوّرة بنور التوحيد، الذين نوَّرَ الله العليّ الأعلى قلوبهم بسبب العبادات والطاعات، فهؤلاء على العكس، يرونَ الله من خلال هذه الآيات.
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} هذه الآيات التي تلوناها هذه الليلة كانت تتعلّق ببعض الأنبياء السالفين الذين هم من ذريّة النبي إبراهيم وإسرائيل، إلى أنْ يقول: {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} أي أولئك الذين اجتبيناهم وانتخبناهم و {هَدَيْنَا} أي هديناهم، فإنّ في هؤلاء بعض من كانَ إذا تُتلى عليه آيات الله {خَرُّوا سُجَّداً} أي كانوا يقعون على الأرض ويخرّون على وجوههم سجّداً وبكيّاً. يعني كانوا يرون الله من خلال هذه الآيات التي كانت تُتلى عليهم، وكانوا يستشعرون بالعظمة الإلهيّة، وكانوا يرون جلال الله وكبريائه، لذلك كانوا يقعون ساجدين. فإذن، كانوا يلحظون من هذه الآيات جهة آيتيّتها، ويرونها كعلامة ودليل يدلّ على الله، وإلاّ فنفس الآية لا تؤدّي إلى البكاء من ناحية وجودها الاستقلالي، وإنّما من ناحية وجودها المرآتي.
النبي صلى الله عليه وآله يرى "الآية الكبرى" ليلة المعراج
على كلّ تقدير، هذه الآيات القرآنيّة تبيّن أنّ جميع الموجودات آيةٌ ومَظهرٌ لله، وفيما يتعلّق بالنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم حول ليلة المعراج يقول: {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} أي إنّ الله قد أرى النبيّ الأكرم الآية الكبرى، يعني تلك الآية التي هي أكبر من سائر الآيات، وذلك لأنّ جميع الموجودات هي مرايا، إلا أنّ المرايا تختلفُ عن بعضها البعض، فلو حملتم مرآةً صغيرة في يدكم، سوف
لا ترون من خلالها أكثر من أسنانكم، ولو كانت أكبرَ لأرتكم فمكم، ثمّ لو كانتْ أكبر لأبانتْ كلّ الوجه، والمرآة الأكبرُ من ذلك تُري جميعَ البدن، فهي مرآة تامّة في الظهور، ثمّ تصوّروا أنّ هناك مرآةً نضعها أمامكم ترونَ بواسطتها ما في داخل بدنكم؛ فترون الخلايا وكيفيّة جريان الدم ونبضات القلب، ثمّ تخيّلوا أنّ هناك مرآة أمامكم تقرؤون بواسطتها كيفيّة تفكيركم، وتحاكي ما لديكم من العلوم والقدرة والشجاعة وما شاكل ذلك، فالمرايا تختلف عن بعضها البعض، لذلك فإنّ كلّ عالم الوجود هو مرآة:
أي إنّ الشمس حاكية لجمال الله، ولكنْ هناك مرآة كلّ شيء فيها مشهود وجليّ، ألا وهي المرآة الكبرى.
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بلغَ ذلك المقام الذي أظهر الله له تلك الآية الكبرى وأراه إيّاها، يعني: قدْ اندكّ وجوده وانمحى في الاسم الأعظم وفي التجلّي الأوّل، فأراه المرآة الإلهيّة في مقام الأحديّة ومن نقطة نظر مقام الواحديّة؛ يعني: ذات الله المقدّسة، وهو قد فني فيها، وأصبحَ متحقّقاً في اسم الواحديّة في مقام البقاء، هذا الاسم الذي تندكّ فيه جميع الموجودات وتفنى فيه كلّ هذه الآيات، فمن خصوصيّة هذه المرآة أنّها من جهةٍ تُري الذات وتظهرها ومن جهةٍ أخرى فإنّ جميع المرايا وكلّ تلك الآيات مندكّة في هذا الاسم، فهي آية عجيبة {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى}.
حسناً.. هذه الليلة قد استدللنا على امكانيّة لقاء الله بواسطة هذين الطريقين المصرَّح بهما في القرآن المجيد؛ أحدهما من ناحية الآيات، تلك الآيات الدالّة على انحصار السمع والبصر والعلم والقدرة وغيرها في الذات المقدّسة لله، والتي على الإنسان أنْ يسعى بالتدريج للوصول إليها والتحقّق فيها بحول الله وقوّته، وذلك بواسطة العلم والعمل ليبلغَ مرحلة لا يعود يرى الجنبة الذاتية لهذه الآيات وإنّما ينكشف له بواسطتها الجانب الإلهي.
حقّ بين نظرى بايد، تا روى تو را بيند | *** | چشمى كه بوَد خود بين، كى روى تو را بيند |
فبالمقدار الذي ينحسر النظر الاستقلالي فسوف يقوى النظر إلى الله ويزيد، وكلّما ازداد النظر إلى الجهة الاستقلاليّة فإنّه الجنبة الآيتيّة سوف تضعف وتنحسر، ولا يعود الإنسان يرى الله، فلو أخذتَ مرآة سالمة ثمّ وضعت يدك عليها أو خرّبتها، أو تمسح الزئبق من خلفها وتجرحها وما شابه ذلك، فسوف تُظهرُ هذه المرآة تلك الخطوط المتعاكسة إلى الحدّ الذي تخاف أنتَ من صورة نفسك! فترمي بها على الأرض وتكسرها، والحال أنّه لا يوجد مرآة أخرى، هكذا حال الإنسان من أثر المعصية، فإنّ جنبة الرؤية الذاتية والاستكبار والاستقلال تزداد عنده إلى الحدّ الذي لا يستطيع معه أنْ يرى الله، وعلى العكس من ذلك فيما إذا تقدّم في خطى الطاعة، فإنّ نظره الاستقلالي ينحسر، ويرى الله.
درآ در وادى ايمن كه ناگاه | *** | درختى گويد ات إنّي أنا الله |
محقّق را كه وحدت در شهود است | *** | نخستين نظره بر نور وجود است |
دلى كز معرفت نور وصفا ديد | *** | ز هر چيزى كه ديد أوّل خدا ديد |
جهان جمله فروغ نور حقّ دان | *** | حقّ اندر وى ز پيدائيست پنهان |
رمد دارد دو چشم اهل ظاهر | *** | كه از ظاهر نبيند جز مظاهر |
زهى نادان كه او خورشيد تابان | *** | به نور شمع جويد در بيابان |
عَلَم چون برفرازد شاه پرخوار | *** | چراغ آنجا نمايد چون شب تار |
فرشته گرچه دارد قرب درگاه | *** | نگنجد در مقام لي "مع الله" |
چو نور او ملك را پر بسوزد | *** | خِرَد را جمله پا وسر بسوزد |