المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةتفسير آية النور
التوضيح
هو العليم
معرفة الله تبدأ من معرفة النفس
تفسير آية النور
(المجلس الثامن)
ألقاها:
العلامة آية الله الحاجّ السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
قال تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}
تقدّم أثناء الحديث في الأسبوع السابق أنّ الطريق إلى معرفة الله إنّما يتحققّ من خلال الآيات الآفاقيّة والآيات الأنفسيّة، وقد تقدّم الكلام مفصّلاً عن الآيات الآفاقيّة، أمّا فيما يتعلّق بالآيات الأنفسيّة فقد وعدنا أن نتوسّع في الكلام إلى حدّ ما.
معرفة النفس طريق الى معرفة الله
فالآيات الأنفسيّة تعني: ذات الإنسان، أي أن يعرف الإنسان الله من خلال ذاته، وهو طريق جيّدٌ جدّاً، بحيث أنّ الإنسان يعرفُ ربّه بواسطة نفسه وذاته، فيعرف نفسه حتّى يعرف ربّه.
فهل يمكن للإنسان أن يعرف ربّه بواسطة نفسه؟! نعم.. لأنّ الله أقرب إلى الإنسان من الإنسان نفسه، فلله معيّة مع وجود الإنسان، لأجل ذلك، تكون حقيقة وجود الإنسان مندكّة في ذات الله، وإنْ يحوم الإنسان حول وجود نفسه، ويستكشف نفسه، فسوف يجد الله، بذلك كانت معرفة الذات طريقاً للوصول إلى الله.
يقولون: إنّ الشخص الفلانيّ عارفٌ حكيم، يعني قد أحكمَ السيطرة على ذاته ونفسه، فنحن قلوبنا مشتّتة ضائعة، وهي مسلّطة علينا، فهي تستجلب الأفكار الغريبة والعجيبة وتدخلها في قلوبنا، وذلك بدون اختيار منّا، وأمّا العارف الذي جاهد نفسه وروّض قلبه إلى الحدّ الذي أصبحَ لا يدع طريقاً لدخول أيّ شيء من التخيّلات والمتاهات، فهو متسلّط على قلبه، وهذا يقال له: قويّ القلب، قويّ الضمير، فقويّ القلب هو الشخص الذي أشرفَ على معرفة نفسه ووجدَ ذاته، فالوصول إلى الذات ملازم لمعرفة الله.
جاءت إحدى نساء النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألته:
هل يعرف الإنسان ربّه؟
فقال لها النبيّ: من عرف نفسه عرف ربّه.
هذه الرواية نقلها المرحوم السيد المرتضى في كتاب "الغرر والدرر" المعروف بـ "الأمالي".
وهناك رواية أخرى ينقلها السيّد المرتضى في كتابه "الغرر والدرر"، من أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: أعلمكم بنفسه أعلمكم بربّه.
وقد سألوا الإمام الباقر أو الصادق عليه السلام (حسب الظاهر) عن رواية مرويّة عن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم، من أنّ النبيّ قال: اطلبوا العلم ولو بالصين فأيّ علمٍ هو هذا العلم الذي يطلبه الإنسان حتّى وإن كان في الصين؟ فأجاب الإمام: هو علم معرفة النفس فاطلبوه حتّى وإن كان في الصين، فمراد النبيّ من "اطلبوا العلم" هو ما كان من هذا النوع من العلوم، فعلم معرفة النفس مهمّ جدّاً.
هناك رواية تُنقلُ عن أمير المؤمنين عليه السلام وهي: من عرف نفسه عرف ربّه أو فقد عرف ربّه أو كلاهما، هذه الرواية رواها الآمدي في كتابه "الغرر والدرر" عن أمير المؤمنين، ونقلها الشيعة والسنّة كذلك عن النبيّ الأكرم بهذا الشكل: من عرف نفسه عرف ربّه.
وينبغي أن نحدّد معنى هذه الرواية أولاً، ثمّ بعد ذلك نبحث عمّا يتعلّق بها ويدور حولها.
"من عَرَفَ نفسه عرف ربّه"؛ "من عرف نفسه" هي الموضوع، "فقد عرف ربّه" هي المحمول، وحينئذٍ يكون من المحتوم أنهّ من توصّل إلى معرفة نفسه يكون قد حصلت لديه معرفة الله، لأنّ المحمول "فقد عرف ربّه" جاء مترتّباً على الموضوع "من عرف نفسه"، ومن الواضح أنّ المحمول لا ينفكّ عن موضوعه، فمعرفة الله ملازمة لمعرفة النفس، وهو إمّا لازم مساوي أو أعمّ، وعلى جميع الأحوال سوف تكون معرفة الله ملازمة لمعرفة النفس، تماماً كما نقول إنّ: "الإنسان ناطق"، فهي تعني أنّه لا يمكن أن نجدَ إنساناً غير ناطق، فللإنسان مقارنة مع الناطقيّة، والناطقيّة ملازمة للإنسان، فلا يُتصوّر أنّ أحداً يبلغ مرتبة معرفة نفسه ولا يكون قد وصلَ إلى معرفة ربّه، هذا من جهة.
ليس كل من عرف ربّه فقد عرف نفسه
ومن جهة أخرى، هل يمكن أن يصدق من عرف ربّه فقد عرف نفسه؟ لا؛ لأنّ المحمول أعمّ، أي هو لازم أعمّ، وحينما يكون لازماً أعمّاً، فمن الممكن أن يُتوصَّلَ إلى معرفة الله دون أن يكون ذلك بواسطة معرفة النفس، وذلك من خلال الآيات الآفاقيّة:
{سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي بإمكان الإنسان أن يعرف لله بواسطة الآيات الأنفسيّة كما يمكنه معرفته بواسطة الآيات الآفاقيّة.
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} ففي الأرض آياتٌ لأهل اليقين وكذلك في أنفسكم، إذاً هناك طريقان: طريق الآفاق وطريق الأنفس، ولا يمكننا القول: من عرف ربّه فقد عرف نفسه.
وبالإضافة إلى ذلك، فقد بيّن علماء "علم المنطق" أنّه حينما يثبتُ لدينا قضيّة معيّنة، بأن نرتّب المحمول على الموضوع ونحكم به عليه، ليس من الضروري أن يصدقُ عكسه بصورة كليّة وعلى الدوام، وإنّما يصدق على نحو الموجبة الجزئيّة، فعكس الموجبة الكليّة موجبة جزئيّة، وليس موجبة كليّة، فلا يمكننا أن نقول حينئذٍ: كلّ من عرف ربّه عرف نفسه.
ثمّ هل يمكننا أن نقول: من لم يعرف نفسه لم يعرف ربّه؟ كلاّ، لا يمكننا ذلك، إذ من الممكن أن يكون قد عرف الله من خلال الآيات الآفاقيّة والحال أنّه لم يعرف نفسه، نعم يمكننا أن نقول: من لم يعرف ربّه لم يعرف نفسه، وذلك بعكس النقيض.
حسناً التفتوا! حينما يكون الإنسان ناطقاً، فإنّ بإمكاننا أن نقول: كلّ من ليس بناطق ليس إنساناً، وذلك بعكس النقيض.
وكذلك كلّ قضيّة صادقة، فإنّ عكس نقيضها صادق أيضاً، فما هو عكس النقيض لقولنا: "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"؟ عكسُ نقيضها هو: من لم يعرف ربّه لم يعرف نفسه، أي من لم يعرف الله أصلاً، فإنّ من المحتوم به أنّه لم يعرف نفسه.
إلى هنا تلخّص لدينا عدّة أبحاث:
البحث الأوّل: هو أنّ الأفراد الذين يدّعون أنّهم توصّلوا إلى معرفة نفسهم والحال أنّهم لم يعرفوا الله، وذلك مثل الماديّين، وأرباب الملل وأصحاب المذاهب التي لا تعترف بالله وإنّما ينكرون وجوده، فهؤلاء لم يعرفوا أنفسهم أيضاً، فالمتخصّص بعلم النفس والمطّلع على خصوصيّاتها إن كان منكراً لله فهو يدلّ على عدم بلوغه رتبة العلم بالنفس، دون شكّ أو تردّد.
البحث الثاني: وهو ما ينبغي أن نقف عليه ونتأمّل فيه، هو أنّ عكس النقيض في قولنا: من لم يعرف ربّه لم يعرف نفسه، حيث إنّها عبارة عن عكس النقيض للقضيّة: من عرف نفسه فقد عرف ربّه، فقد ورد في القرآن الكريم فيما يتعلّق بالأشقياء {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} أي حينما نسوا الله، أنساهم الله أنفسهم، والنتيجة أنّهم نسوا أنفسهم، وهو معنى عكس نقيض القضية: من عرف نفسه فقد عرف ربّه.
وكلّ قضيّة صادقة فإنّ عكس نقضيها صادق أيضاً، فقولنا: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} أليس هي آية قرآنية؟! من المسلّم صدقها، فلو عكسنا بعكس النقيض ينتج: من عرف نفسه فقد عرف ربّه. أي إنّ عكس نقيض قضية: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} هو من لم ينسَ نفسه لم ينسَ ربّه، يعني: من عرف نفسه فقد عرف ربّه، أي من لم يغفل عن نفسه لم يغفل عن ربّه، بمعنى أنّ: من عرف نفسه فقد عرف ربّه.
"من عرف نفسه فقد عرف ربّه" عكس نقيضها هو: من لم ينس الله.. أي ذكر الله.. ما هو معنى الآية {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم}؟ يعني: من لم ينس نفسه لم ينس ربّه، وهو عكس نقيض "من عرف نفسه فقد عرف ربّه".
وبما أنّ {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُم أَنفُسَهُم} هي آية قرآنيّة، فإنّ عكس نقيضها يثبت قطعاً، وليس لأحدٍ أن يشكّك بصحّتها ويقول إنّها ليست رواية صحيحة، فحتّى لو لم نتفحّص السند، فإنّ متنها ثابت بواسطة الآية القرآنيّة، والنتيجة هي أنّ الطريق إلى معرفة الله يكون بواسطة معرفة النفس.
كلام صدر المتألهين حول معرفة النفس
كما وقد نبّه على ذلك المرحوم صدر المتألّهين ـ أعلى الله مقامه ـ في أوّل كتابه "المبدأ والمعاد". كتاب "المبدأ والمعاد" كتبه المرحوم صدر المتألّهين بعد كتاب الأسفار، وهو عمدة كتاب الأسفار وخلاصته، حيث يحتوي على العلمين: علم الإلهيات والآخر في الطبيعيّات، وتدور طبيعيّاته حول خصوص النفس، وقد كتبه لتبيين الارتباط القائم بين النفس وذات الحقّ تعالى، حيث يقول في مقدّمة هذا الكتاب:
"فَإنَّ مَعرفةَ النّفس وأحوالَها أمُّ الحكمةِ وَأصلُ السَّعادةِ وَلاَ يَصِلُ إلَى دَرَجَةِ أَحَدٍ مِن الحُكَمَاء مَن لاَ يُدرِكُ تَجَرُّدَهَا وبَقَائَهَا عَلَى اليَقِين كَإخوَانِ جالينُوس وإِن ظَنَّهُمُ الجَاهِلُونَ حكيماً وكَيفَ صَارَ الرَّجُلُ مَوثُوقًا بِهِ فِي مَعرِفَةِ شَيءٍ مِنَ الأَشياءِ بَعدَ مَا جَهِلَ بِنفسه كَمَا قال أَرَسطَو طاليس: إنَّ مَن عَجَزَ عَن مَعرفةِ نفسِهِ فَأَخلَقُ بِأَن يَعْجَزَ عَن مَعرفةِ خالِقِه فَإِنَّ مَعرفتَها ذاتاً وصِفَةً وأَفعَالاً مِرقَاةٌ إِلى مَعرفَةِ بَارِئِها ذَاتاً وصِفَةً وأَفعَالاً لأنّها خُلِقَتْ عَلى مِثالِهِ فَمَن لاَ يَعرِفُ علمَ نفسِهِ لاَ يَعرِفُ علمَ بَارئِهِ".
أيّ: إنّ معرفة النفس وأحوال النفس هي أمّ الحِكم وأصل السعادة، ومن لم يدرك تجرّد نفسه وبقائها ولم يتيقّن بهذه الحقيقة، لا يمكنه أن يبلغَ رتبة أيٍّ من الحكماء، كما في إخوان جالينوس، حيث كان من الحكماء الذين شكّوا في تجرّد النفس، ولذلك يقول: ينبغي أن لا نعدّ جالينوس في عداد الحكماء أصلاً، حتّى وإن جعله الجاهلون في دائرة الحكماء، فكيف يمكن لنا أن نثقَ بعلوم أحدٍ ونركن إلى معرفته بشيء من الأشياء والحال أنّه جاهل بنفسه؟! وذلك كما يقول أرسطو: من كان عاجزاً عن معرفة نفسه فهو عن معرفة خالقه أعجز؛ لماذا؟ لأنّ معرفة النفس ذاتاً وصفةً وأفعالاً هي بمثابة السُلَّم للوصول إلى معرفة الله البارئ تعالى ذاتاً وصفةً وأفعالاً، لأنّ النفس قد خُلقتْ على مثال الله، فمن لا علم له بنفسه، لا علم له ببارئه وخالقه وربّه.
اي شده در نهــاد خود عاجــز | *** | كي شناسي خداي را هرگز |
تو كه در علم خود زبون باشي | *** | عارف كِردگار چون باشي؟ |
ثمّ يقول الملاّ صدرا بعد ذلك:
"وَبِالحَدِيثِ المَروِيّ عَن سَيّدِ الأَولياء: مَن عَرَفَ نَفسَهُ فَقَد عَرَفَ رَبَّه، إِيماءٌ إلى هذا المعنى؛ يعني: مَن لَم يَعْرِف نَفسَهُ لَم يَعرِف رَبَّهُ؛ وقولُهُ تَعَالى فِي ذِكرِ الأَشقِياءِ البُعَداء عَن رَحمَتِهِ: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} بِمَنزِلَةِ عَكسِ نَقِيضٍ لِتِلكَ القَضِيَّة، إذ تَعلِيقُهُ جَلَّ وعَلا، نِسيانَ النَّفس بِنِسيَانِ رَبِّها، تَنبِيهٌ لِلمُستبصِرِ الذَّكيِّ عَن تَعَلُّقِ تَذَكُّرِهِ بِتذكُّرِهَا ومَعرِفَتِهِ بِمَعرِفَتِهَا.
وقيلَ كان مَكتُوباً على بَعضِ الهَياكِلِ المُشَيَّدةِ فِي قَديمِ الزَّمان: ما نَزَلَ كتابٌ مِن السّماءِ إِلاَّ وفيه: يا انسان! إِعرِفْ نفسَكَ تَعرِفْ رَبَّكَ".
وقَريبٌ مِن هذا ما نَقَلَه الشيخُ الرّئيس في بعضِ رسائِلِه:
"مِن أَنَّ الأَوَائِلَ كَانُوا مُكَلَّفِين بالخَوْضِ فِي مَعرِفة النَّفس لِوَحيٍ هَبَطَ عَلَيهِم بِبَعضِ الهَيَاكِل يَقُول: يا إنسانُ! إِعرِف نفسَكَ تَعرِف رَبَّك.
وفِي الحكمة العَتِيقَة مَن عَرَفَ ذَاتَهُ تَأَلَّهَ أَي: صارَ عالِماً رَبّانياً فانِياً عَن ذاتِهِ مُستَغرقًا فِي شُهودِ الجمالِ الأَوَّل وجلاله.
وبِالجُملَة فِي مَعرِفَةِ النَّفس تَيَسُّرُ الظَّفَرِ بالمَقصودِ والوُصول إِلى المَعبودِ والإرتِقَاءُ مِن هُبُوطِ الأَشبَاح إِلى شَرَفِ الأَروَاحِ والصُّعُودِ مِن حَضِيضِ السَّافِلِين إِلى أَوجِ العَالينَ ومُعَاينَةِ جَمَالِ الأَحَدِي والفَوزِ بِالشُّهودِ السَّرمَدِي {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
فالآية القرآنيّة تصرّح بأنّ الفناء إنّما هو من حظّ الذين يجاهدون أنفسهم، وأنّ العجز والخزي والخسران من نصيب من أرخى العنان لنفسه وكان مراوغاً مكّاراً".
حسناً! هذا هو كلامُ حكيمِ الشرق المرحوم صدر المتألّهين في مقدّمة كتاب المبدأ والمعاد.
معرفة النفس وحقيقتها نقلاً عن بحار الأنوار.
كذلك ينقل المرحوم المجلسي ـ رضوان الله عليه ـ هذا الحديث في الجزء الرابع عشر من بحار الأنوار تحت فصل "حقيقة النفس" في الصفحة ٤۱٥ حيث قال:
قوله عليه السلام "منْ عَرَفَ نفسه فقدْ عَرَفَ ربّه" قال بعض العلماء: الروح لطيفة لاهوتية في صفة ناسوتية، دالة من عشرة أوجه على وحدانية وربانية:
لما حركت الهيكل ودبرته علمنا أنّه للعالم من محرّك ومدبّر.
دلت وحدتها على وحدته.
دلّ تحريكها للجسد على قدرته.
دلّ اطلاعها على ما في الجسد على علمه.
دلّ استواؤها إلى الأعضاء على استوائه إلى خلقه.
دلّ عدم العلم بكيفيتها على عدم الإحاطة به.
دلّ عدم العلم بمحلّها من الجسد على عدم أينيّته.
دلّ عدم مسّها على امتناع مسّه.
دلّ عدم إبصارها على استحالة رؤيته.
ولم تكن هذه العبارة من المجلسيّ نفسه، بل ينقلها عن بعض العلماء، ومحصّل هذه الفقرات هو أنّه: كما أنّه لا يمكن للإنسان أن يدركَ كنه الروح ويعرف كيفيّتها ولا يمكنه معرفة مكان الروح، وأنّه عاجزٌ عن ملامستها ورؤيتها، فكذلك الأمر بالنسبة لله، فإنّه لا يمكنه معرفة محلّ الله والذهاب إليه، والوصول إلى مقام لقائه ومشاهدته، والعلم بإنّية الله وحقيقته والاطلاع على ذلك.. هذا هو محصّل قول بعض العلماء.
الردّ على من قال أنّ معرفة الله مستحيلة لأنّه لا يمكن معرفة النفس
لأجل ذلك ذهبَ بعضهم إلى أنّ رواية "من عرف نفسه فقد عرف ربّه" إنّما تدلّ على استحالة معرفة الله، وذلك لأنّ معرفة النفس مستحيلة فمعرفة الله كذلك، فالرواية تقرّر هذه المعادلة وهي أنّ من يستطيع أن يعرف نفسه يعرف ربّه، والحال أنّ الإنسان لا يمكنه معرفة نفسه، والنتيجة هي أنّه لا يمكنه معرفة ربّه.
فجعلوا معنى الرواية مقلوباً وبشكل معاكس، وادّعوا أنّ الرواية تعلّق الأمر على شيء محال، لتقرنَ بين استحالة معرفة الذات واستحالة معرفة الله، أي ما دُمتَ لا تستطيع أن تعرف نفسك، فاعلم أنّك لن تعرفَ ربّك، فلا تتعب نفسك وتسعى وراء معرفة الله..
لقد حملوا الرواية على هذا المعنى.
وهو كلام خاطئ، وما هو الدليل على خطئه؟ الدليل هو ما سبقَ ذكره من أنّ قولنا: من عرف نفسه فقد عرف ربّه إنّما هي عكس النقيض لقوله تعالى {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} وما دامت هي آية قرآنيّة فهي قضيّة واقعيّة حقيقيّة وصادقة، ولابدّ وأن يكون عكس نقيضها صادقاً أيضاً، فعكس نقيض {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} هو: من لا ينسى نفسه لا ينسى ربّه، أيّ من عرف نفسه فقد عرف ربّه، فهو ليس من باب التعليق على المحال حينئذٍ، بل المراد هو نفس متن القضيّة، هذا أولاً.
الروايات المتضافرة والتي تحثّ على معرفة النفس وأنها أنفع المعارف
وثانياً: إنّ هناك روايات عديدة تدلّ على إمكانيّة معرفة الإنسان لنفسه، وأنّه أمرٌ مطلوب ومرغوب فيه، فالعظماء قد وصلوا إلى رتبة معرفة النفس، وهناك تأكيد وحثٌّ أكيد على بلوغ معرفة النفس، كما في تلك الروايات التي نقلناها عن كتاب "الغرر والدرر" للآمديّ "وكتاب "الغرر والدرر" للمرحوم السّيد المرتضى، فهي تدلّ على ضرورة أن يسعى الإنسان نحو معرفة نفسه.
ويبيّن المرحوم العلامة الطباطبائي ـ مدّ ظلّه العالي ـ في الجزء السابع من القرآن المجيد في سورة المائدة، في ذيل الآية: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ} وذلك في المجلّد السادس، بعد أن يعترفَ بأنّ الآية {نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} هي عكس نقيض "من عرف نفسه فقد عرف ربّه"، ينقل عدّة روايات عن كتاب "الغرر والدرر" للآمدي تدلّ على هذا المضمون.
كذلك ينقل عن كتاب "الغرر والدرر" أنّ أمير المؤمنين قال: "المعرفة بالنفس أنفع المعرفتين" فهناك معرفتان؛ وحسب الظاهر هما المعرفة الآفاقيّة والمعرفة الأنفسيّة، فيريد الإمام أن يقول: إنّ أنفع هاتين المعرفتين للإنسان معرفة النفس.
لِمَ تكون أنفع؟
يمكن أن يكون لهذا الوجه؛ وهو أن نقول: إنّ معرفة الله بواسطة الآيات الآفاقيّة لا تقترن مع تهذيب النفس ولا تحثّ الإنسان على تربية نفسه، تماماً كما يتفّق للكثير من العلماء الذين تأمّلوا وفَكّروا في الآيات الآفاقيّة، وبلغوا رتبة العلم بها، إلاّ أنّهم لم يتوجّهوا إلى تهذيب أنفسهم ولم يعتنوا بذلك. فمن الممكن أن يعرف الإنسان ربّه بواسطة الآيات الآفاقيّة ثمّ يشرع في تربية نفسه عقيب ذلك، وأمّا من يسلك معرفة النفس، ويعرفَ ربّه بواسطة معرفة نفسه، فهو متّصلٌ بمنبع الطهارة وملامسٌ لها، لأنّه لابدّ له وأن يطهّر ذاته أثناء تدرّجه في معرفة نفسه وارتقائه درجةً درجة، فلكي يتمكّن من تحصيل المعرفة، لا بدّ من أن ينخلع عن الرذائل ويهجرها، ويبتعد عن الأخلاق الفاسدة، وإلاّ فسوف لن يستطيع معرفة نفسه، فطريق معرفة الذات هو طريق تزكية النفس، ولذلك قال الإمام: "أنفع" أي فائدته أكثر، لأنّه يوجب تزكية النفس.
كما ويمكن أن يكون لذلك وجهٌ آخر؛ وهو أن نقول: إنّ السبب في قوله عليه السلام: "أنفع المعرفتين" هو أنّ معرفة الله من خلال الآيات الآفاقيّة إنّما تكون بواسطة البرهان والاستدلال، وترتيب القياس، خلافاً لمعرفة الله من خلال النفس، فهي تحصل بالشهود والوجدان، وهي معرفة محلّها القلب، فهي حالّة في الروح، لذلك كانت "أنفع المعرفتين"، ولعلّه هو مراد الإمام..
وهناك رواية أخرى ينقلها كذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام من أنّ: "العارف من عرف نفسه فأعتقها ونزّهها عن كلّ ما يبعّدها" يعني: أن يحرّر الإنسان نفسه وذاته من أسرِ الهوى وعبوديّة الشهوات.
وكذلك هذه الرواية حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام: "أعظمُ الجهل جهلُ الإنسانِ أمرَ نفسه".
وقد جاء في رواية أخرى: "أعظمُ الحكمة معرفةُ الإنسانِ نفسَه".
على ماذا تدلّ هذه الرواية؟ إنّها تحثّ نحو معرفة النفس.
وفي رواية أخرى: "أكثرُ الناس معرفةً لنفسه أخوفهم لربّه" وهو معنى الآية الشريفة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِن عِبَادِهِ العُلَمَاء}.
وفي رواية أخرى، يقول فيها أمير المؤمنين عليه السلام: "أفضل العقل معرفة المرء بنفسه، فمن عرف نفسه عقِل، ومن جهلها ضلّ".
كذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "عجبتُ لمن يُنشِدُ ضالّتَه وقد أَضَلَّ نَفسَه فلا يَطلِبُها!".
كذلك في رواية أخرى: "كيف يعرفُ غيرَه من يجهلُ نفسَه؟!" فالطريق الأوّل هو معرفة الإنسان نفسه.
كذلك رويَ عن أمير المؤمنين: "كفى بالمرء معرفةً أن يعرفَ نفسه، وكفى بالمرء جهلاَ أن يجهلَ نفسه"[۱٩].
كذلك قال: "من عرف نفسه تجرّد" أي تجرّد عن علائق الدنيا، أو بمعنى المجرّد عن كلّ شيء، وذلك لما كان قد جرّدَ نيّته وأخلص عمله لوجه لله العليّ الأعلى، فقد أخلص لله في عمله وصفاته وذاته، وأودعَ كلّ ذلك عند الله.
كذلك رُويَ عن أمير المؤمنين عليه السلام: "من عَرَفَ نفسَه جاهدَها ومن جهِلَ نَفسه أَهملَها"[٢۱] أي من يعرف نفسه فإنّه يجاهدها ويحافظ عليها ويحفظها، وأما من يجهل نفسه فإنّه يتركها ويخلّي سبيلها ويرخي لها العنان.
وكذلك قال: "من عرف نفسه جلّ أمره"، أي من عرف نفسه فإنّ شأنه يعلو ويرتفع.
وكذلك قال: "من عرف نفسه كان لغيره أعرف ومن جهل نفسه كان بغيره أجهل".
وكذلك قال: "من عرف نفسه فقد انتهى إلى غاية كلّ معرفة وعِلم" أي إنّ علمَ معرفة النفس مشتملٌ على كلّ العلوم، وإليه تنتهي غاية المعرفة ونهاية جميع العلوم.
ورويَ أيضاً: "من لم يعرف نفسه بَعُدَ عن سبيل النجاة وخبطَ في الضلال والجهالات".
وكذلك رُويَ عنه عليه السلام أنّه قال: "معرفة النفس أنفع المعارف".
كذلك قال: "نالَ الفوزَ الأكبرَ من ظفرَ بمعرفة النفس".
وكذلك قال: "لا تجهل نفسك! فإنّ الجاهلَ معرفة نفسه جاهلٌ بكلّ شيء".
نقلنا جميعَ هذه الروايات عن تفسير الميزان، من الجزء السادس ضمن تفسير سورة المائدة ذيل الآية الخامسة بعد المئة، حيث يذكرها العلاّمة الطباطبائي ـ مدّ ظلّه العالي ـ نَقلاً منه ـ مدّ الله ظلالَه السامية ـ عن "الغرر والدرر" للآمدي.
حسناً، لو رجعتم إلى ضميركم ووجدانكم؛ فعلى أيّ شيء تدلّ هذه الروايات المتضافرة؟ هل هي تفيد أنّ معرفة الإنسان لنفسه بما أنّها مستحيلة، فإنّ معرفة الله مستحيلة كذلك؟! هل هي تعلّق الأمر على المحال بحيث أنّها تنهى عن التوجه إلى معرفة الله لأنّك لا يمكنك معرفة نفسك؟! أم أنّ كلّ هذه الروايات بصوت واحد تقول: إنّ العلم بالنفس هو أنفعُ العلوم، وأعظم العلوم، وأعلى العلوم، فهو غاية العلوم والمعارف، ونهاية كمال الإنسان؟! في الواقع هي روايات ترغّب في معرفة النفس وتشوّق وتحثّ نحوها..
فمعرفة النفس تعني: أنّ الله العليّ الأعلى متّصلٌ بذات الإنسان، وأنّ وجود الإنسان مندكّ وفانٍ في الذات الإلهيّة، وإن يكتشف الإنسان أنّ ذاته مندكّة وفانية في ذات الله، ويطّلع على أنّ وجوده عدمٌ محض، وأنّ هذا العدم المحض مندكٌّ في الوجود المحض لله، حينئذٍ يصل إلى الوجود الإلهي ويبلغ مقام الفناء في الذات الإلهيّة.
لأجل ذلك، تعتبر هذه من الروايات العجيبة والمطالب الغريبة التي صدرت عن الأئمّة عليهم السلام، والتي تتناول مسألة معرفة النفس ومعرفة الله، وأيّ نِعَمٍ ينالها الإنسان إن عرف الله.. وأيّ فوزٍ يفوز به إن أدرك ذلك..
فضل معرفة الله
ينقل المرحوم الملاّ محسن الفيض الكاشانيّ ـ رضوان الله عليه ـ في المجلّد الأوّل من كتاب "الوافي" الصفحة الثانية والأربعين، عن "الكافي" لمؤلفه محمّد بن يعقوب الكلينيّ، بإسناده عن جميل بن درّاج عن حضرة الإمام الصادق عليه السلام، حيث يقول الإمام:
"لو يعلمُ الناس ما في فضل معرفة الله تعالى، ما مدّوا أعينهم إلى ما متِّعَ به الأعداء من زهرة الحياة الدنيا ونعيمها، وكانت دنياهم أقلّ عندهم ممّا يطؤونه بأرجلهم ولنعّموا بمعرفة الله تعالى، وتلذّذوا بها تلذّذ من لم يزل في روضات الجنان مع أولياء الله".
يبيّن الإمام عليه السلام أن لو يعلم الناس ما تشتمل عليه معرفة الله من الفضل والفائدة واللذّة، ويدركون أيّ فوزٍ هو وأية سعادة؟ سوف لا يندهشون ولا يتعجّبون ممّا مُتّعَ به الأعداء من المتاع والمال والنِّعم التي أدركوها، من ذهب الدنيا وحليّها وزينتها، وسائر النعم الدنيويّة، فلا ينبهرون ولا يغترّون بها، ولا يتمنّون نوالها ونيلها، فلو يطّلعون على ما لمعرفة الله من الفضل تصبح الدنيا حقيرة في أعينهم، لا قيمة لها، ولداسوها بأرجلهم ووضعوها تحت أقدامهم، ولتنعّموا حينئذٍ بمعرفة الله.. وتلذّذوا بما يُفاضُ عليهم من اللذائذ من ناحية معرفة الله، ويصبح حالهم تماماً كمن يتنعّم في روضات الجنّة، يرتعُ مع أولياء الله ويحادثهم ويتكلّم معهم.
إنّ معرفة الله أُنسٌ من كلّ وحشةٍ، وصاحبٌ من كلّ وحدة، ونورٌ من كلّ ظلمة، وقوّةٌ من كلّ ضعفٍ، وشفاءٌ من كلّ سُقم.
وبعد ذلك يقول الإمام: "قد كانَ قبلكم قومُ يُقتلون ويُحرقونَ ويُنشرون بالمناشير وتضيق عليهم الأرض بما رحبت، فما يردّهم عمّا هم عليه شيءٌ ممّا هم فيه، من غيرِ تِرّةٍ وَتَروا من فعلَ ذلك بهم، ولا أذىً، بل ما نقموا منهم إلاّ أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد".
أي: أيّها الناس! إنّ هناك قومٌ قبلكم موحّدون، كانَ الناس يقتلونهم ويحرقونهم ويقطّعونهم إرباً إرباً.. حتّى تضيق صدورهم من ذلك ويرون أن لا ملجأ لهم ولا مهرب في هذه الدنيا.. ورغم ذلك لم يكونوا ليتراجعوا عن إيمانهم، ولا ليتقهقروا عن مقامهم ومنزلتهم.. فيصيبهم كلَّ ذلك مع أنّهم لم يكن قد صَدَرَ منهم أيّ ظلمٍ نحو أولئك الذين يُنزلون بهم العذاب والأذى، ولم يكونوا يكيدون لهم ولا يقابلوهم بما يوجب الحقدَ والحسد، ولم يصدر منهم أيّ مكروه اتجاههم ولا أذيّة، ليكون لهم عذراً في تعذيبهم وأذيّتهم، فكانوا يقتلونهم بدون أيّ ظلمٍ اقترفوه، ولا حقد، ولا أيّة مكافأة أو مواجهة وأذيّة، فكلّ جرمهم هو أنّهم مسلمون ومؤمنون بالله ويعبدون الله، فكانوا يقطّعونهم قطعة قطعة، ويقتّلونهم ويحرقونهم.. يطعنونهم بالسكاكين والخناجر وينشّرونهم بالمناشير إرباً إرباً، إلاّ أنّهم مع كلّ ذلك، كانوا مع أنبيائهم ثابتي القدم.. راسخين في معرفتهم بالله.. محافظين على دينهم.. حيثُ كان يُقالُ لهم: إنّ جريمتكم هي إيمانكم بالله العزيز الحميد، وهو الذي أوجبَ لكم كلّ هذا العذاب.
فسلوا ربّكم درجاتهم، واصبروا على نوائب دهركم تدركوا سعيَهم.
هذه هي معرفة الله، فمعرفة الله العليّ الأعلى تشتمل على جميع هذه اللذات، بحيث لو جُمعت كلّ لذائذ الدنيا وضُمّت إلى بعضها البعض، لمَا كانت تعادلُ لذّةً واحدةً من اللذات الإلهيّة، فكلّ الملذّات الدنيويّة من الجمال والكمال والنعم والمجوهرات.. والأطعمة والأشربة التي خلقها الله العليّ الأعلى للإنسان.. ولذائذ الجمال، والتمتّع بالأنغام الموسيقيّة، والأنس بالعطور.. لو جمعنا كلّ ذلك، فإنّه لا يساوي لحظة من لحظات العارف حينما يشاهد محبوبه وربّه؛ وطريق ذلك هو تزكية النفس.
ينقل المرحوم المجلسي ـ أعلى الله مقامه الشريف ـ في كتاب "البحار" في المجلّد الخامس عشر، في القسم الثاني من الأخلاقيّات، عن "مصباح الشريعة" أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: طلبُ العلم فريضةٌ على كلّ مسلمٍ ومسلمة، وهو علم النفس.
ثمّ يقول بعد ذلك: قال الصادق عليه السلام:
طوبى لِعَبدٍ جَاهَدَ نَفسَهُ وهَوَاهُ، ومَن هَزَمَ جُندَ هَوَاهُ ظَفَرَ بِرِضَا اللَهِ، ومَن جَاوَزَ عَقلُهُ [نفسَه] الأَمَّارَةَ بِالسَّوءِ بِالجُهدِ والاستِكانَةِ والخُضُوعِ عَلَى بِساطِ خِدمَةِ اللَهِ فَقَد فَازَ فَوزاً عظيماً، ولا حِجَابَ أَعظَمُ وأوحَشُ بينَ العَبدِ وبينَ الرَّبِّ مِن النَّفسِ والهَوى، ولَيسَ لِقَتلِهِمَا فِي قَطْعِهِمَا سِلاحٌ وآلةٌ مثلُ الافتِقارِ إِلَى اللَهِ والخُشُوعِ والجُوعِ والظَّمَأ بالنّهارِ والسَّهَرِ بالَّليلِ. إلى أَن قال: وكان رسولُ اللَه صَلّى اللَهُ عَلَيه وآلِهِ وسَلَّم يُصَلِّي حَتّى يَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ ويَقُولُ أفَلا أَكُونُ عَبداً شَكُوراً؟! أَرادَ أَن يَعتَبِرَ بِهِ أُمَّتُهُ فَلا تَغفَلُوا عَن الاجتِهَادِ والتَّعَبُّدِ والرِّيَاضَة بحالٍ؛ أَلاَ! وإِنَّكَ لَو وَجَدتَ حَلاوةَ عبادَةِ اللَهِ وَرَأَيتَ بَرَكَاتِها واستَضَأْتَ بِنُورِهَا لَم تَصبِر عَنهَا سَاعَةً واحدَةً وَلَو قُطِّعْتَ إِرباً إِربًا، فَمَا أَعرَضَ مَن أَعرَضَ عَنهَا إِلاَّ بِحِرمَانِ فَوائِدِ السَّبقِ مِن العِصمَةِ والتّوفِيق.
لأجل ذلك فإنّ طريق معرفة الله هو معرفة النفس، ومعرفة النفس إنّما تتحقّق بالتزكية، فيصلح الإنسان نفسه بالتزكية والتهذيب والأخلاق.
{قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا} فالفلاح والفوز لمن هذّبَ نفسه، والشقاء والخسران لمن يخدع نفسه.
{لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}
أيّها المؤمنون! أصلحوا أنفسكم! توجّهوا إلى ذاتكم قبلَ أن تشرعوا بإصلاح الآخرين.
وحينما تنكبّون على إصلاح أنفسكم، تستطيعون حينئذٍ أن تُصلحوا الناس، ولا يمكن أن يتمّ ذلك مع كونكم ضالّين تائهين ثمّ تشرعون بإصلاح الناس! فتشرعون بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. تسألون وتتفحّصون: لمَ اتفقَ هذا؟! لماذا حصلَ كذلك؟! فمادام لم يعرف نفسه ولم يصلحها، كيف يمكنه أن يصلح الناس حينئذٍ؟! فالآية تصرّح بأنّ طريق إصلاح الآخرين إنّما يبدأ بإصلاح النفس، وأنّ من أصلح نفسه وهذّبها هو الذي يمكنه إصلاح الآخرين وإلا فلن يتمكّن من ذلك.
حسناً، فعلى أثرِ إصلاح الإنسان نفسه وذاته، سوف تزول من نفسه آثار الإعجاب بالذات، وتزول شوائب الاستكبار، ويفهم الإنسان أنّه موجود فقير.. محتاج.. عاجز.. ميّت.. ويعرف أنّ هذا النور الذي يشعّ أمامَه، والقدرة التي هي لديه، والعلم الذي له، والحياة التي يتمتّع بها، وهذا الوجود المتحقق به... يعلم أنّ كلّ ذلك ليس له، وإنّما هو لله. إذاً، من يقف على هذه الحقيقة ويبلغ كنهها، سوف يدرك الله ويصل إلى الله، وهو معنى معرفة النفس الملازمة لمعرفة الربّ.
افرضوا أنّه الآن يكون نهاراً؛ الشمس مرتفعة وسط السماء، وقد أضاءت الصحاري والبوادي.. والجبال.. الغيوم.. سطوح المنازل وحدائقها.. البحار.. البحيرات.. وأصبحت الأرض مشرقةً نيّرة، فحينئذٍ نسأل: من أينَ أتى هذا النور؟ فيجيب الجبل: هذا النور منّي وهو لي، وتقول الشجرة: النور لي، ويجيب البحر والبحيرة والنهر: النور لي، فلو لم تغرب الشمس وتصطحب النور وتأخذه معها، ويحلّ الظلام والعتمة.. كيف يمكنهم أن يلتفتوا إلى أنّ هذا النور والضوء ليس ضوء الأرض؟! فهم يتوهمّون أنّ هذا النور هو نور الأرض ذاتها، ويتخيّلون أن الأرض مشعّة ومولّدة للنور، وأنّ الجبل منير، وأنّ أوراق الأشجار مولّدة للنور، وأنّ البلبل الواقف على غصن الشجرة مصدّر للنور، يحسبون أنّ كلّ ذلك منير.. والفحم.. والحجر الأسود القاطم يتصوّرونه مشعّاً ومضيئاً.. فكلّ ذلك يدّعي أنّه مضيء بذاته، ولكن ما إن تغرب الشمس وتُغيِّب النورَ معها، فالأرض التي كانت تدّعي أنّ النور لها، تعضّ على أناملها حسرةً وتقول: عجباً!! قد تلاشى نوري وذهب ضوئي.. وتقول البحيرة: قد خَفَتَ ضوئي، ويقول الإنسان: قد ذهب نوري، فالعالم بأسره غارقٌ في الظلمات.. وحينئذٍ، ينكشفُ كذبُ ادّعاء من يدّعي أنّ النور له.. أليس صحيحاً؟! جميع ما بحوزة الكائنات من النور هو لله.. كذلك الحياة.. العلم.. القدرة.. جميع ذلك لله، هو الذي يعطي وهو الذي يأخذ.
الإنسان المستجمع للقدرات المتعدّدة، فهذه القدرات.. وتلك العلوم.. وجميع تلك الصناعات والحرَف.. ومع كلّ هذا الاقتدار إلاّ أنّه يقول: هذا لي أنا...
عزيزي! أنتَ كنتَ نطفة.. كنتَ صفرَ اليدين.. وكنتَ عدماً قبلَ النطفة ولم يكن لديك أيّ شيء أبداً!
وإنّه لأمرٌ عجيب! واقعاً عجيب! فهذه النطفة تتحوّل إلى إنسانٍ عالمٍ، قادرٍ، ذي شعور، يمتلك الصناعات المختلفة، ويحوز على العلوم المختلفة، فالناس تتعجّب من ذلك، والحال أنّ جميع ذلك ليس له، وإنّما هو لله، فهناك نورٌ ألقيَ عليه.. وقد تحرّك النور إليه وسرى فيه، حتّى تشكّل على هيئة علم، وحازَ على هويّةٍ وتشخُّص وجوديّ خاص، وحصلَ على قدرة واقتدار، ثمّ يعود هذا النور لينحسر ويخفت، ويصبح هذا الشخص العالم جاهلاً، وهذا الشخص الفاضل يصير عاجزاً، وهذا السيّد السليم المزاج عليلاً، وفلانٌ الذي كان حيّاً يصبحُ ميّتاً، فيكتبون على هويّته الشخصيّة أنّه متوَفَّى وميّت، وفلاناً الذي كان يمشي على سطح الأرض قد أصبح تحتها، وذاك الذي كان بدنه من اللحم والعظم قد أصبح تراباً ورماداً.
حسناً، أين هي تلك القدرة؟! أينَ هو ذلك العلم؟! أين هي تلك الحياة؟! تماماً مثل نور الشمس!! فحينما تغرب الشمس تأخذ النور معها، كذلك هو يسحب النور معه، ويأخذ القدرة معه، حينئذٍ، كلّ أولئك الذين يدّعون أنّ القدرة والنور والعلم والحياة هي لأنفسهم يعضّون على أناملهم حسرةً وتأسّفاً.
فالعلم هو معرفة الإنسان بنفسه، ليفهم أنّه ليس شيئاً من تلقاء نفسه، ويعلم أنّ هذه القدرة التي تتألّق هي قدرة الله، حتّى ما يتمتّع به جبرائيل والأنبياء وتمام الموجودات! فالنبي الذي كان يشير إلى القمر ويفلقه نصفين قد فعل ذلك بقدرة الله! ولذا فإنّ الله يأخذ هذه القدرة من النبيّ، وحينما يكون على فراش الموت في حال نزع روحه فلا قدرة لديه ولا يقوَى على دفع ذبابة عن جبينه، لماذا؟ لأنّ القدرة لله وليست له.. فهي لله.. هو أعطى.. وهو أخذ.. وكلّ قدرةٍ أعطاها لأيٍّ من الموجودات إنّما هي له.. وأيّ نور أعطاه لهم.. وأيّ علم.. وأية حياةٍ.. كلّ ذلك هو لله؛ وما إن يسلبُ منهم ذلك يصبحوا صفر اليدين، فنراه يعطي ويأخذ؛ فإذا: {لِّمَنِ المُلكُ اليَومَ لِلَّهِ الوَاحِدِ القَهَّارِ} أي لمن القدرة والسلطنة والعظمة؟ هي لله الواحد القهّار.
وعليه، فعلم معرفة الإنسان بنفسه يعنى: أن تسلّم النفسُ ذاتَها وتتخلّى عن ذاتها وتقول: العلم ليس علمي وليس لي، والقدرة ليست لي، والحياة ليست لي ولا هي ملكي، والوجود ليس وجودي ولا هو لي، إذن، لمن هذا الوجود؟! هي جميعا لله تعالى.