المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
التوضيح
قام سماحة آية الله العلاّمة مُدّ ظلّه العالي في هذا الكتاب ـ ضمن بيانه لعشرة إشكالات مهمة من إشكالالت مقالة (بسط وقبض نظرية الشريعة) للدكتور عبد الكريم سروش ـ بالإجابة على أحسن وجهٍ وأتقنه على الانتقادات الواردة في هذه المقالة على حجيّة القرآن وخلوده وعلى جميع مقدّسات العالم وحقائقه.
وكان هذا الكتاب في الأصل يشكّل القسم الأعظم من المجلّد الثاني لكتاب (نور ملكوت القرآن)، وسيُطبع مستقلاً دون تصرّف نظراً لأهمية الموضوع، وبناءً على اقتراح بعض العلماء، ولتسهيل أمر تناوله من قبل الأساتذة وطلبة الجامعات والمحققين، فيُهدى إلى من ينشدون سبيل الحقيقة وسُبل السلام.
المقدّمة
أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَ صلّى الله على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَ آلهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرِينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيَامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
اختصت الأجزاء الأربعة من كتاب «نور ملكوت قرآن»، من سلسلة انوار الملكوت ببحوث تفصيليّة في موضوع خلود القرآن الكريم و ابديّة مطالبه و مضامينه الى يوم القيامة. فقد تناولت هذه الأجزاء البحث في الآيات القرآنيّة الكريمة و انطباقها و مسايرتها للأزمنة و الأمكنة المختلفة، و كونها الترياق الشافي و الدواء الناجع للعلل و الأمراض و الجراح، و الماء المعين الزلال الهانئ لعطاشى البشريّة المحترقين المنقطعين؛ و تناولت الحديث عن بعض الآيات الكريمة و فصّلت امر تطبيقها، و اشارت الى طريق العلاج الوارد في مضامينها.
و اختص الجزء الثاني كما جاء في مقدِّمته بمناقشة دور القرآن و موقعه باعتباره كتاباً سماويّاً يبحث في الاصول المسلّمه الإلهيّة بصورة عامّة، و لذلك فقد ناقش و نقد بعض الأفهام الخاطئة للآيات القرآنية الكريمه و استغرق حدود ثلث الكتاب الأوّل امر الردّ على كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان)، و الردّ على الطبعة الأوّلى من كتاب «راه طى شده» (=الطريق المطويّ)، و الردّ على تفسير «پرتوى از قرآن» (=إشعاع من القرآن)، و الردّ على كتاب «دانش و ارزش» (=العِلْمُ و القِيَم)، و الردّ
على كتاب «تكامل در قرآن» (=التكامل في القرآن)، حيث ورد في الكتب المذكورة مطالب تخالف النظريّات و الآراء القيّمة لُاستاذنا الأكرم العلامة آية الله السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ تغمده الله برحمته، و جرى مناقشة تلك الآراء و بيان بطلانها، كما جرى بيان اتقان و احكام و متانة نظرية سماحة الاستا ذ الفقيد العلّامة الطباطبائيّ.
و استغرق ثُلثَي الكتاب الباقيين امر إبطال و تفنيد كلام الدكتور عبدالكريم سروش في مقالته «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=بسط و قبض نظريّة الشريعة)، حيث جرى تقسيم الإشكالات المهمّة في المقالة الى عشرة إشكالات، نوقش كلّ واحد منها و بُيّنت علل بطلانه و تزييفه.
و بطبيعة الحال، فقد كانت هذه الإشكالات العشرة هي الإشكالات المهمّة في المقاله السالفة الذكر، أمّا باقي الإشكالات الواردة فيها، و التي تلي هذه الإشكالات في الأهميّة فقد أعرضنا عن ذكرها.
و كانت المقالة المذكورة قد نشرت في مجلة «كيهان فرهنگي» العدد ٥۰ و العدد ٥٢، و كان هذا الحقّير قد ناقش هذه المقالة و ر دّ عليها في الجزء الثاني من كتاب «نور ملكوت قرآن» و كان للردّ المذكور وقعٌ حسن في المدارس العلميّة، فقد قام بعض مسؤولي جامعة مشهد على سبيل المثال باستنساخ صفحات من الكتاب المذكور، و ألصقوها على جدران الجامعه و داخل قاعاتها ليطالعها الطلاب الجامعيّون، ثمّ إنّ بعض الأصدقاء الأحبّة و الأعزّة أكّد على ضرورة طبعها تحت عنوان مستقلّ إلّا أنّ الحقّير كان يتعلّل ببعض الجهات.۱
و حصل قبل فترة و جيزة أنّ أحد الإخوة النجفيّين المعظّمين و الأصدقاء القدامى المكرّمين زيد في عمره الشريف، و هو من المحققين و الفلاسفة المشهورين في العالم، أرسل إلينا رسالة شفويّة حملها جارنا الحاجّ السيّد مجتبى بنيهاشمي زيد توفيقه، قال فيها إنّه قدم إلى مدينه مشهد لزيارة المرقد المطهّر لثامن الأئمّة عليه أفضل الصلاة و السلام و إنّه يرغب في الالتقاء بي، فبحث عدّة أيّام عن عنوان منزلي، فلمّا عثر عليه لم يقدّر له لقائي.
قال: و أنّا الآن مجبر على العودة إلى النجف، فأبلغوه نيابةً عنّي بأنّ المطالب التي أوردها في الردّ على مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» «= بسط و قبض نظريّة الشريعة» تعدّ من أتقن و أفضل الردود التي قيلت و الّفت بل التي يمكن تاليفها في هذا المجال، و لذلك فإنّ من الواجب عليه أن يستخرج الردّ على المقالة المذكورة، فينشره على نطاق واسع، و يجعله في متناول أيدي الأساتذة و طلبة الجامعات و طلبة العلم، ليستفيدوا من مطالبه.
و استجابة مني لهذه الرسالة الكريمة الحكيمة التي بعثها هذا الحبيب اللبيب، فها أنا اقدّم للطبع الردّ المذكور مستقلًّا تحت عنوان «نگرشى بر مقاله بسط و قبض تئوريك شريعت» (=نظرة على مقالة بسط و قبض نظرية الشريعة)، و أهديه الى طلاب الحقيقة و روّاد سبل السلام. {وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.}
العبد الحقّير الفقير الراجي رحمة الربّ القدير
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
في مشهد المقدّسة
الثالث عشر من شهر محرّم الحرام ۱٤۱٥ هجريّة قمريّة
نَظْرَةٌ عَلَى مَقَالَةِ بَسْط وَ قَبْض نَظَرِيَّة الشَّرِيعَة
أعُوذُ باللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَ صلّى الله على سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَ آلهِ الطَّيِّبينَ الطَّاهِرِينَ
وَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائِهِمْ أجْمَعِينَ مِنَ الآنَ إلَى قِيَامِ يَوْمِ الدِّينِ
وَ لَا حَوْلَ وَ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
قَالَ اللهُ الحَكِيمُ في كِتَابهِ الكَرِيمِ:
{وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ.}۱
و قد كان النصف الأوّل لهذا الآية:
{وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاء}.
يستفاد من ذيل هذه الآية المباركة أنّ القرآن الكريم هو الموضّح و المبيّن لكلّ شيء، و أنّه يمثّل بصورة مطلقة الهداية و الرحمة و البشرى للمسلمين الحقيقييّن الذين اتخذوا الإسلام ديناً و نظاماً، و صدّقوا بنبوّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم أكرم الأنبياء من الأوّلين و الآخرين و الشاهد عليهم أجمعين، و آمنوا بهذا الكتاب السماويّ:
القرآن.
نشرت إحدى المجلّات أخيراً مقالة باسم «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=بسط و قبض نظريّة الشريعة)، و عُنونت على أنّها «نظرية تكامل معرفت ديني» (=نظرية تكامل المعرفة الدينيّة).۱
و نشير فيما يلي إلى الأخطاء و العثرات الجمّة التي نرى أنّ المقالة المذكورة قد احتشدت بها:
الاشْكَال الأوّل: أصالة و أبديّة الدين الإلهيّ، و محدوديّة الفهم البشريّ
الإشكال الأوّل: على الرغم من تكرار الكاتب في عدّة مواضع أنّ الشريعة كالطبيعة ثابتة لا تتغيّر، و أنّ ما يخضع للتغيير هو فهم الإنسان لهما، و أنّ تغيير الفهم الحاصل وفق ضرورات البيئة و نشوء العلوم و التفاعل سلباً و إيجاباً بين المعلومات السابقة و الظواهر الفعليّة، هو أمر حتميّ لا يمكن اجتنابه؛ لكنّه مع ذلك يستنتج في مقام التفصيل و البيان أنّ مجموعة معارف الإنسان في أيّ عصر، من فهم العلوم الحديثة و الاكتشافات المبتكرة و الفلسفات العصريّة، ينبغي أن تكون ميزان و معيار فهم الإنسان للقرآن و السنّة، و أنّ ما فهمه و استنبطه الفقهاء و المفسّرون و المحدِّثون فصار عماد عملهم يجب تحديثه وفق الاسلوب المعاصر، ليخرج باسلوب يقرّه العصر، مواكب للمدارس و الاتّجاهات العصريّة التي تعرض نتائج علومها و تحقيقاتها.
و حاصل الأمر فإنّ على العالم و المفسّر و الفقيه أن لا يتّكل على أمر تعبّديّ أبداً، فيراعي في علمه و تفسيره و فتواه احتمال المراحل العالية و المنازل السامية التي لم ينلها، أو يضع القرآن و السنّة و الإسلام على محور الامور التعبّديّة؛ فما اعتمد عليه العلم العصريّ ينبغي أن يصبح هو المرتكز لهذا الامور، فذاك هو الاسلوب الوحيد الكفيل بتقدّم الفقه و العلم.۱
و بناء على هذا المنحى فلن يكون لدينا ثمّة قرآن و لا سنّة، و لا فقه و لا تفسير، فإذا تقرّر إقحام العلوم البشريّة المتغيّرة في الغايات (من العقائد و الأفكار و الأخلاق و العمل) فسنكون قد سلبنا إلى الأبد من الدين و الشريعة ثباتهما، و مهما زعمنا بأنّنا نعتبر الدين و الشريعة محترمة و ثابتة، فإنّنا سنكون من الناحية العلميّة قد وضعنا مفاتحها بأيدينا، فصرنا نحاول عند ظهور أيّ قانون و نظريّة أن نفسّرها و نقحم مستلزمات العصر في ثبات المذهب و أصالته، و في الحقيقة فإنّنا سنكون قد دققنا المسمار ليس في نعش الإسلام وحده، بل في نعوش جميع الشرائع.
العلوم التجربيّة لا يمكنها القضاء على التعبّد
و السرّ في ذلك أنّ العلوم البشريّة مهما سمت و علت و تكاملت فهي محدودة و مقيّدة، إذ يمكن أن يأتي علم أعلى منها و أسمى فيهدم اليوم ما بناه بالأمس.
و الشاهد على هذا أنّ جميع العلوم التي تعاقبت الواحد تلو الآخر، قد نسخ كلٌّ منها العلم الذي سبقه؛ كلُّ علم له مريدوه الذين يعتقدون أوان ظهوره و بزوغ نجمه أن لا علم أعلى منه و أسمى، و يعجز من أراد إلزامهم و إقناعهم بغير ذلك، لأنّه بذاته لم يصل إلى علم أعلى منه و أرقي؛ أمّا حين
يُشرف نجم ذلك العلم على الغروب ليتوارى خلف الافق، و يظهر العلم الجديد الناسخ له، فإنّ القديم سيعدّ في المسائل البالية الخرافيّة حتى عند أصحابه و أنصاره.
فالإلكترون الذي يعدّ اليوم من بديهيّات علم الكيمياء و الفيزياء هو من علومنا و شؤوننا نحن، و في يومنا هذا لا في غدنا.
و غداً حين يتوصّل البشر إلى اكتشاف أدقّ و أعمق، فينكر أصل تركيب الذرّات بهذه الكيفيّة، و يزيح الستار لنا بالتجربة و الاختبار عن عجائب أخرى من الذرّة، عندها سنضحك على أفكار يومنا المنصرم، و نسخر من يقين و برهان و إصرار أمسنا الغابر.
إ نّ الدين و الشريعة الإلهيّة الحقّة جاءت من عند الله تعالى بأصالتها و واقعيّتها، و يقيناً أنّ تعبّديّاتها تفوق أوامرها و نواهيها البديهيّة بآلاف المرّات؛ و ليس للدين معنى غير نزوله من جانب العلم المطلق على الإنسان و البشر ذي العلم النسبيّ، و المرتقي يوماً بعد آخر من درجة القابليّة إلى الفعليّة، و سيبقى البشر في هذا المستوى مهما استعان بالعلوم و المعارف التجريبيّة؛ من ميكانيك و فيزياء و طبيعيّات، و من علم النفس و علم الاجتماع و علوم طبقات الأرض و النبات و الحيوان، و علم الحياة و الكيمياء المعدنيّة و الآليّة، و الهيئة و غيرها؛ قاصراً عن أن ينال بيده عالم الربوبيّة، أو يحيط بأسرار الخلقة و خفاياها التي لا تحصى و المحيطة به من كلّ جانب، و أن يزيح التعبّد عنه جانباً، إلّا أن نقول إنّنا قد فهمنا العالم المطلق و اكتشفنا سرّه و لغزه، و هو قول جزاف خاطئ.
فجميع حكماء الأمس و اليوم ما لبثوا غارقين في البحث الجادّ، لكنهم يعترفون في الوقت نفسه بأنّ أيديهم لم تغترف من العلم شيئاً، و أنّهم بعدُ لم يرتووا من بحور الأسرار و العلوم قطرة!
إ نّ أوّل الأشياء التي تنكرها العلوم التجريبيّة الحاليّة هو وجود الملائكة و وجود الجنّ، فهم ينكرونها لجهلهم بها و عدم توصّلهم لإدراكها، فيقولون: إنّنا لا نصدّق بشيء لا نراه و لا نحسّه، فإذا ما وُفّقت هذه العلوم التجريبيّة غداً لرؤيّة الملائكة و الشياطين فيومئذٍ سيحصل لهؤلاء اليقين و الإقرار.
الايمان بالغيب و بملائكة العالم العلوي شرط التقوى و الفلاح
أمّا الحكماء الإلهيّون و الربّانيون المطّلعون على الحقّائق و الأسرار، و العارفون بحريم قدس و أمان الله، فلهم بيانات كالشمس الساطعة عن وجود الملائكة و أشكالهم و شمائلهم و وظائفهم و تكاليفهم، و عن وجود الجنّ و أشكالهم و أصنافهم، كلّ ذلك اعتماداً و متابعة لآيات القرآن النازلة من المطّلع على الغيب بخفيّه و جليّه.
أفهل فقدنا رشدنا كي نعرض عن هذه الحقّائق صفحاً و نقول بأنّنا لا نعترف بالجنّ، لأنّ علم معرفة الجنّ لم يقرّر بعد في مناهج جامعات أُوروبّا و أمريكا؟!
إ نّ التوغّل و التعمّق في العلوم المادّيّة إلى الحدّ الذي تعتبر المادّة عنده مع جميع آثارها و خواصّها المدهشة أزليّة أبديّة، و من ثمّ إنكار العالم العلويّ و الملائكة و النور المطلق للخالق العالم الحكيم الواحد ذ ي الشعور المسيّر للعالم تحت هيمنته و إرادته و مشيئته الواحدة المباشرة، ليس إلّا عبادة للمادّة و عكوفاً في محرابها؛ و عند الفلاسفة المادّيّين مدرسة في هذا الاتّجاه.
و لقد كرّر الطبيعيّون السابقون، و يكرّر الماديّون اليوم هذه المقولة عبر مدرستهم و اتّجاههم الفكريّ مقابل الإلهيّين.
لكنّ القرآن، و هو الكتاب الحكيم المحكم، و لسان الخالق الناطق الحكيم بلا واسطة، يعتبر الإيمان بالغيب شرطاً لليقين و الفلاح:
{الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ، وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ} (الفِناء الأبديّ و العالم العلويّ، و الجنّة و النار، و نتيجة الأعمال، و المثول في موقف القيامة، و الوقوف في محضر الحضرة الأبديّة، و طلوع جمال الحقّ و جلاله، و الملائكة و الحور، و ملائكة العذاب، و ...) {هُمْ يُوقِنُونَ ، أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.۱
فقد عدّ صراحة في هذه الآيات الإيمانَ بالغيب و العالم العلويّ و الآخرة و التعبّد المحض بما أنزل الله تعالى شرط السعادة الأبديّة، و عدّ بعدها مباشرة من لا يؤمنون بالغيب و بما أنزل الله كفّاراً، و حكم عليهم بالختم على القلوب و الأسماع، و بالغشاوة و الحجاب على الأبصار، و توعّدهم بالعذاب الأليم:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ ، خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ}.٢
و كذلك فإنّ القرآن الكريم يعدّ من البرّ: الإيمان بالملائكة و العالم العلويّ، أي الإيمان بيوم الجزاء:
{لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ}.٣
و يعتبر إتقان و إحكام الكتاب الإلهيّ في خلوده و أبديّته، فمعانيه و مفاهيمه تبقى راسخة لا يزعزعها هبوب رياح الإلحاد و الكفر، و لا عواصف الزندقة و الشبهة، و يبقى في منأى عن عبث أيدي الملحدين أ ن تغيّر فيه و تهدم، و عن أن يستطيع الغبار المتكاثف و سُحُب النفوس الشيطانيّة الحالكة و وسوسة الإنس أن تنثر على طلعته المشعّة المنيرة هباء النسخ و البطلان.
فمعنى التصرّف في معاني الآيات القرآنيّة و رفع اليد عن ظهورها بلا قرينة يقينيّة نقليّة أو عقليّة هو الاجتهاد في أُصول الدين، لا الاجتهاد في فروعه.۱
فالاجتهاد في اصول الدين خطأ، و الاجتهاد في فروع الدين ينبغي
أن لا يتخطّى الموازين الشرعيّة التي يختصّ بحملها الفقهاء.
أمّا التصرّف في مفاهيم الآيات القرآنيّة على أساس مناهج البحث و طرقه، و على أساس مفاهيم الإحياء و النهضة التي تستشمّ من المقالة المذكورة، فليس فقط نسخاً للقرآن، بل هو مسخ للقرآن.
الإشكال الثاني: عظمة و تقدّم العلوم الإسلاميّة على العلوم الحديثة
والإشكال الثاني: إنّ الفلسفة القديمة في نظر صاحب المقالة منزوية معزولة، قد نسختها الفلسفة الحديثة، حيث وصف الأخيرة بأنّها مفتاح طريق السعادة البشريّة إلى جادّة الرقيّ و التكامل.
و نجد لزاماً قبل البحث و الدخول في صلب الموضوع و التعمّق فيه البحث في مواضع الخطأ و مواقع الهفوات، أن نذكّر بهذه النكتة:
إ نّ إطلاق لفظ القديم و الحديث على أيّ فلسفة أو علم أو دين أو اتّجاه أو مدرسة يعبّر عن النيّة بوأد القديم منذ الخطوة الاوّلى، و لتوجيه السامع نحو هذا الحديث مهما كان.
و هذا الاسلوب من أنجح أسلحة الاستعمار و أكثرها فعّاليّة، فهو يحاول منذ الوهلة الاولى باستعمال عنوان القديم و القِدَم، المتضمّن لمعاني التهرّؤ و الرثاثة، أن يخطر ذلك المعنى و المحتوى و يرسّخه في ذهن السامع، ليبعد القديم عنه إلى الأبد و يُهيل عليه تراب النسيان، لئلّا يدور في خلده يوماً حتى مجرّد الرغبة في رؤيته و التطلّع لمنظره الظاهريّ الخارجيّ.
العلوم والمعارف الإسلاميّة لن تندرس
و نلحظ تسميتهم مدارس طلبة العلوم الدينيّة و المعارف الإسلاميّة بالقديمة، و الجامعات السائرة على المنهج و الاسلوب الاوروبّيّ بالحديثة، فيكونون بعملهم هذا قد مهّدوا للقضاء على العلم و المعرفة و الدين و الحقيقة و الشرف و الإنسانيّة و الرسول و الإمام و الملك و الحديث و القرآن؛ و روّجوا
في المقابل للمادّيّة و أُبهتها و مظاهرها الخلّابة، و صادقوا على كيفيّة تنشئة الجيل الجديد ليكونوا عبيداً و أسرى للثقافة المنحطّة و الأخلاق المشؤومة لُامم اليهود و النصارى من الشرق و الغرب.
أ ي إنهم بقولهم إنّ هذه الدراسة حديثة و تلك قديمة قد قطعوا نصف الطريق، بل ثُلثيه وصولًا إلى أهدافهم المشؤومة الشرّيرة. فالله سبحانه أقدم من كلّ قديم، و هو أجدّد من كلّ جديد، يستوي عنده القِدَم و الحداثة، فهو موجود دوماً، و حيّ و عالم و محيط دوماً، لأنّ له أصالة و ثباتاً، يقابلهما زوال و اضمحلال ما سواه.
إ نّ نبيّ الإسلام، و دراسة القرآن، و البحث في التأريخ الإسلاميّ، و الفلسفة و العلوم الإسلاميّة، و حكمة الإسلام و عرفانه، وصولًا إلى جميع الفنون المتفرّعة عن شريعته المقدّسة، من علم التفسير و علم الحديث، و حتى العلوم التمهيديّة كالمنطق و العربيّة و الأدب العربيّ الذي يسلّط الضوء على لسان و لغة هذا النبيّ العظيم و هذه الآية الإلهيّة العظمى، هي كلّها حديثة ذات غضارة و نضارة، أشبه ببرعم غضّ فتح للتوّ أكمامه في جُنينة الورد ذي العبير الفوّاح، تتأبّى القدم و الاندراس.
أمّا تلك العلوم التي تبحث أصالة عن المادّة أو تؤول إلى التوسّع المادّيّ و المأكل الجيّد و الاجترار الجيّد، الخاوية من آثار الإنسانيّة و الكمال و الحكمة الإلهيّة و العرفان الإلهيّ، فهي من المخلّفات و البقايا العتيقة المندرسة للُامم و الأقوام الهمجيّة و إنسان الغاب الحيوانيّ الذي تلبّس بالطراز الحديث، فصارت وحشيّته و همجيّته القديمة حديثة.
فهم يسقون شبابنا الصاعد باسم المدنيّة و التكامل نفس الوساوس و الأفكار الشيطانيّة، و يضعون في رقابهم نير العبوديّة (عبوديّة النفس)، و يحرمونهم من جميع مزايا الإنسانيّة باسم و عنوان جديد و ضمن قالب
و أُسلوب حديثَين.۱
و ينبغي لهذا الأمر أن تُستبدل كلمة قديم التي استعملت للفلسفة و المدارس بكلمة أصيل.
و أمّا إشكالنا و بحثنا في اعتبارهم الفلسفة قديمة معزولة منزوية، فهو إ نّ علم الفلسفة الذي يُدعى بالحكمة و يُدعى صاحبه بالفيلسوف و الحكيم، من أشرف العلوم التي حصل عليها الإنسان في تأريخ البشريّة إلى الآن من بين جميع العلوم، لأنّه علم بناء الإنسان ضمن قدرات البشر و طاقاته.
آيات القرآن الكريم ترغّب البشر في تعلّم الحكمة
و لقد جاء ذكر الحكمة في موارد عديدة من القرآن الكريم، وصف فيها الباري تعالى شأنه نبيّه الكريم في مقام امتداحه له بأنّه يعلّم الناس الحكمة:
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.٢
و نلحظ هنا أنّ الله سبحانه يعدّ تعليم علم الحكمة وظيفة و واجب نبيّه الكريم، و جليّ أنّ هذه الحكمة غير القرآن، لأنّها وردت قسيماً لكلمة الكتاب و معطوفة عليها؛ و أنّه يعتبر الناس قبل البعثة في ضلال مبين لافتقادهم علم الحكمة و الرشد و التكامل الإنسانيّ.
و يذكر كذلك دعاء إبراهيم و إسماعيل عليهما السلام خلال بناء الكعبة أ ن:
{رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}.۱
و بعد ذلك يدعو الأب و الابن صاحبا الشأن العظيم و عبدا الله المخلصان ربّهما بهذا الدعاء:
{رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.٢
و نرى هنا أنّ أفضل دعاء و ابتهال لهذين النبيّين الجليلين (في ذلك الظرف الخطير و تلك اللحظات العظيمة في بناء الكعبة و رفع جدار قِبلة المشتاقين لسلوك طريق المحبوب، و من شدّهم الوجد للقاء المعشوق، و المتلهّفين لاجتياز المادّيّات الملوّثة للطبيعة فانشغلوا بقطع الدنيا و هم فيها إلى ماورائها من عوالم) هو أن يبعث في هؤلاء القوم نبيّ آخر الزمان:
محمّد بن عبد الله ليعلّمهم الكتاب و الحكمة، فيخرجهم من زُمرة البهيميّة، و يربيهم و يهديهم للتكامل و لبلوغ أوج كمال الإنسانيّة.
فكم هو قيم جليل عِلم الحكمة ليدعو به إبراهيم و إسماعيل واضعا الحجر الأوّل في بناء التوحيد و شريعة الإسلام المقدّسة، ليكون من نصيب الثمرة الوحيدة التي تمخّض عنها عالم الوجود، و ثمرة فؤادهما الذي تمثّلت فيه أرقى و أسمى نماذج الحياة.
ثمّ يقول تعالى بعد ذلك بلا فصل:
{وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}.۱
و يُستكشف من هذه الآية أوّلًا: أنّ السفهاء و المتخلّفين فقط هم الذين يُعرضون و يرغبون عن ملّة إبراهيم و سنّته.
و ثانياً: حسب قاعدة عكس النقيض، فإنّ: كُلُّ مَنْ لَمْ يَسْفَهُ نَفْسَهُ،
يَرْغَبُ في مِلَّةِ إبْرَاهِيمَ، أي أنّ: كُلّ عَاقِلٍ يَرغَبُ في مِلَّتهِ.
و وفقاً للمنطق القرآنيّ فإنّ الحكماء و الفلاسفة الإلهيّين الذين تبعوا هذا النهج و السنّة هم العقلاء، أمّا المعرضون عن الحكمة فهم السفهاء الجهلة.
احترام الإسلام لحكماء اليونان و نزول سورة لقمان
و لقد مُنح علم الحكمة سوى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم للكثير من الأنبياء الإلهيّين، كداود عليهالسلام۱، و عيسى ابن مريم عليه السلام،٢ بل يستفاد من إحدى الآيات الشريفة أنّ الحكمة قد وهبت لجميع الأنبياء عليهم السلام؛٣ مضافاً إلى أنّ الله سبحانه يؤتي علم الحكمة لعباده المصطفين و المباركين الذين هم مورد لطفه و مشيئته، و قد عدّ ذلك من الخير الكثير:
{يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً}.٤
و قد أورد الله سبحانه اسم أحد حكماء اليونان في القرآن و أنزل سورةً باسمه يذكر فيها كثيراً من كلماته و مواعظه و أحاديثه الحكميّة كدرس و قدوة خالدة للبشريّة.
و هذا الرجل هو لُقْمَان، و سميّت السورة القرآنيّة باسمه: سورة «لُقْمَان»:
{وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}.۱
و في سورة الإسراء حيث يعدّد سبع عشرة آية في التوحيد و في الحدّ الأعلى من مكارم الأخلاق، يقول بعدها مباشرة:
{ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً}.٢
و مع أنّ كلمة الحكمة التي استعملت في هذه الآيات و نظائرها لم تكن لتعني خصوص الحكمة اليونانيّة، و ذلك أوّلًا: باعتبار أنّ الحكمة وردت بمعناها الكّلّي و العامّ، و هو بمعنى علم معرفة الإنسان، و موقعه من خالقه، و علاقته بالعالم و بالآخرين، و مراتب علاقة الجسم و روحه و التأثير المتبادل بينها، و برنامج ضمان خير الإنسان و سعادته المطلقة، أي أنّه فُسّر بعبارة موجزة بالعلم بحقائق الأشياء حسب إمكان البشر و قدرتهم.
و ثانياً: أنّ الفلسفة و الحكمة اليونانيّة التي رُغّب فيها متكفّلة ببيان هذه المطالب، ممّا يمكن اعتبار أنّ هناك ارتباطاً وثيقاً لحقيقة الحكمة مع الحكمة اليونانيّة، و قد جاء في الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت مدح الحكماء الإلهيّين اليونانيّين و الثناء عليهم.
وقوف الفلاسفة الالهيين اليونان في وجه الماديّين
و في الحقيقة، فإنّ لهم الحقّ و الفضل العظيم على المجتمع البشريّ و عالم الإنسانيّة و الموحّدين و أصحاب الفضائل و المكارم، فقد نهض العلماء العظام المرموقون الموحّدون في اليونان في وقت طغت فيه فلسفة السوفسطائيّين و بثّت الشكّ في كلّ أمر بديهيّ، و ساقت البشريّة إلى عالم
الموهومات و التفكّك، و انتشرت و طغت فيه فلسفة الكلبيّين و أدّت إلى نهب أموال الناس و أطعمتهم، فقام هؤلاءء العلماء اليونانيّون الموحّدون العظماء فشمّروا عن هممهم و أنجبوا بالمجاهدات العظيمة و تشكيل حلقات الدرس و المدارس التوحيديّة على أساس البرهان و الشهود التلامذة العظماء، و هزموا الاتّجاه المادّيّ في اليونان بالرغم من كلّ المشاكل و المصائب و الشدائد التي صُبّت عليهم و استلزمتها مجاهداتهم.
فقد ابتدع المادّيّون تبعاً لأبيقور (أبيكور) فلسفة هي أساس المذهب الحسّيّ، قالوا فيها إنّ سعادة الإنسان تكمن في لذّاته النفسيّة التي لا يمنع منها إلّا الحياء و العفّة و نظائرها من الأوهام التي أثقل الإنسان بها نفسه و سمّاها بالفضائل، لذا يلزم الإنسان أن يتخلّص من هذه الفضائل لينال سعادته، و هكذا صار، فكان هؤلاء كّما عرفوا بوجود وليمة و مأدبة انقضّوا عليها فالتهموا و نهبوا كلّ الطعام الموجود.
و كان تحمل هذا الأمر صعباً على أشراف اليونان، الذين عزّ عليهم أ ن تُنتهب أمام أعينهم المآدب التي أعدّوها لضيوفهم، و لم يروا بدّاً من استئجار أفراد خاصّين في منازلهم يقفون متأهّبين و النعال في أيديهم لينهالوا بها ضرباً على رؤوس هؤلاء.
و كان الفلاسفة المادّيّون، و من بينهم أبيقور نفسه، إذا أحسّوا أنّ النعال ستنهال عليهم لجأوا إلى الهرب، و إلّا فإنّهم كانوا يهجمون فينهبون و لا يدعون لصاحب البيت شيئاً.
و كان أُسلوب الكلبيين هو هذه الطريقة المادّيّة المحضة و الإلحاد الصرف، الذي يرتضيه الشخص الملحد و لا يتعدّاه قيد أُنملة، لأنّ هذه الفلسفة لا ترى معنى للحسن و القُبح و الحلال و الحرام، فلا زاجر و لا رادع للنفس عمّا تشتهيه و تطمع فيه، و هذه هي الفلسفة الشيوعيّة.
و إذا ما لاحظ الإنسان أنّهم يستنكفون عن بعض الأعمال الوضيعة، أ و يستعملون عبارة الحياء و العفّة في كلامهم، فهم إمّا أ ن يلفظونها نفاقاً و رياءً و تظاهراً، أو أن يكون ذلك من رواسب بعض التعاليم الدينيّة الممتزجة في نفوسهم، مضافاً إليها عدم وضوح مستلزمات نهجهم و فكرهم لديهم بالقدر الكافي.۱
و لقد قام سقراط الحكيم، و تلميذه العظيم أفلاطون الحكيم، و تلميذ تلميذه: أرسطو أو أرَسْطاطاليس في تدوينهم علم المنطق و الحكمة بهدم أُسس و كيان فلسفة المادّيّين و آثارها، فدوّنوا فلسفة الإلهيّين على أساس الحقّ و الواقع، و استدلّوا على احتياج عالم الطبيعة إلى ربّ ذي شعور حكيم و حيّ و أزلي و أبديّ و قادر، هو مسبّب الأسباب و علّة العلل، و بنوا حكمتهم على أساس مكارم الأخلاق و الفضيلة و عالم ما وراء الطبيعة الذي بُرهِن عليه في البرهان الأرسطيّ و في المشاهدات الإشراقيّة الأفلاطونيّة.
و قد جرى تدريس كتب أفلاطون و أرسطو في أُوروبّا، ثمّ قام روجر بيكون و من بعده فرنسيس بيكون في نهايات القرون الوسطى (القرون الثالث عشر و الرابع عشر و الخامس عشر ميلاديّ) و من بعدهم ديكارت في القرن السابع عشر الميلاديّ، بهدم أساس الفلسفة الأرسطيّة، و استمرّ ذلك لغاية المائتي سنة الأخيرة عند ظهور نيوتن، ثمّ تبعه أينيشتين في عالم الفيزياء، حيث انصرف اتّجاه عامّة الناس عن التوحيد و المعارف و الأخلاق و الفضائل، و عاد إلى المادّيّة و حياة التجمّل و امتطاء الشهوات و عدم إدراك
أبعاد الشخصيّة الإنسانيّة، و انتهى العمل بتلك المدرسة فلم يعد يرى في أُ وروبّا و أمريكا اليوم فيلسوف إلهيّ يقوم بتعليم و تنشئة تلامذة أخلاقيّين ملتزمين، أو بتدريس كتب أفلاطون و أرسطو؛ و هو خسارة بل فاجعة كبرى حلّت بتلك الامم، كما أنّ التيار الفلسفيّ الإلهيّ في الغرب، المسمّى بالفلسفة التومانيّة،۱ و الفلسفة التومانيّة الحديثة، و وجود شخصَين معاصرَين أحدهما فيلسوف و يدعى كابلستون و الآخر مؤرّخ للفلسفة و يدعى جيلسون و كلاهما قسّيس متأله ينتمي إلى الفلسفة التومانيّة، لا يمكنه بمفرده الوقوف أمام مئات المناهج الفلسفية المادّيّة و التجربيّة، بحكم أنّ النادر كالمعدوم، لأنّها في ضعفها أمام كثرة المدارس المادّيّة بحيث لا يمكن عدّها في الحساب. و صار الإنسان الذي كان يتحرّى شخصيّته في اتّباع التعاليم المنقذة للمسيح على نبينا و آله و عليهالسلام، يحثّ الخطى مسرعاً تجاه التمدّن الآليّ و علوم الميكانيك و الطبيعة، بشكل نسي معه نفسه و شخصيّته و إنسانيّته و شرفه و عزّته، فلم يتمتّع بالدنيا، بل صار كالآلة و الأداة المسخّرة بيدِ الميكانيك، و هذه هي عاقبة ترك تدريس الحكمة اليونانيّة في أُوروبّا.
مقولة كارل حول أضرار المدنيّة الجديدة على البشريّة
يقول الدكتور الكسيس كارل في مقدّمة كتابه «انسان موجود ناشناخته» (=الإنسان ذلك المجهول):
فليس في مقدور الإنسان الاستمرار في متابعة التمدّن الآليّ في الطريق الذي سلكه، لأنّه يؤدّي إلى الانحطاط، فلقد بهرته علوم المادّة بجمالها حتى سلبت عقله و شغفت لبه، و صار جسمه و روحه يخضعان لقوانين معقّدة هي أشبه بقوانين عالم النجوم التي لا تتغيّر و لا تتبدّل،
و لا يمكنه تخطّيها بدون التعرّض لخطرها و أضرارها.
لذا فإنّ من الضروريّ التعرّف على العلائق التي تربط الإنسان قهراً بالعالم و بأمثاله من البشر، و التعرّف على الروابط بين أنسجته و روحه.
و في الحقيقة فإنّه ينبغي أن يُقدَّم الإنسان على كلّ شيء آخر، لأنّ جمال التمدّن سيزول بانحطاط الإنسان، بل و حتى عظمة عالم النجوم، و قد أُلّف هذا الكتاب من أجل هذا الأمر.۱
و كان فردريك كودر الذي شمل نظره الصائب أُوروبّا عبوراً من أمريكا، هو الباعث و المحرّك لتأليف هذا الكتاب.
و بكلّ تأكيد فإنّ كثيراً من الامم ستسير في الطريق الذي خطّته و بدأته أمريكا الشماليّة، لأنّ جميع الممالك قد قبلت بروح المدنيّة
الصناعيّة و طرقها بلا تبصّر، و ستواجه إنجلترا أو روسيا، ألمانيا أو فرنسا نفس المخاطر التي تواجهها أمريكا حاليّاً.
ينبغي لاهتمام الإنسانيّة و توجّهها أن يتحوّل عن الآلة و المادّة إِلَى جسم الإنسان و روحه، و أن يُعطَف على الكيفيّات البدنيّة و المعنويّة التي بدونها لن يكون للآلات و لعالم نيوتن و أينيشتين من وجود.
إنّنا نفهم تدريجيّاً ضعف تمدّننا، و هناك الكثير ممّن يتمنّون اليوم النجاة و الخلاص من قيود أسر المجتمع الحالي، و هم الذين ألّف هذا الكتاب من أجلهم، و كذلك من أجل المفكّرين المتطرّفين الذين يعتقدون ليس فقط بوجوب إحداث تغييرات في الشؤون السياسيّة و الاقتصاديّة، بل بوجوب انقلاب و تغيير جذريّ في أُصول المدنيّة الصناعيّة، و يتمنّون طريقاً آخر للرقيّ الإنسانيّ.۱
و كان مستر فرنكل و هو من رجالات الإنجليز يتأسّف على إلغاء تدريس الفلسفة اليونانيّة في أُوروبّا، فيقول:
بالرغم من أنّ المتأخّرين عنّا قد بلغوا الذروة في العلوم و الصناعات، لكنهم لم يصلوا إلى عُشر ما وصل إليه اليونانيّون، لذا فلو كانت تلك الكتب باقية إلى اليوم، و أُضيفت علوم اليونان إلى علوم الناس الحاليّة، فستصبح دنيا اليوم جنّة لا يمكن أن نجد فيها شبراً واحداً إلّا و هو معمور بأنواع العلوم و الفضائل.٢
لقد عاش أفلاطون قبل بعثة عيسى ابن مريم على نبينا و آله و عليه
السلام بخمسمائة عام، و قد نُسب إليه افتراءً أنّه قال: إنّ شريعة عيسى وُضعت لضعفاء العقول، لكنّي و قد لمستُ الحقيقة لن أخضع لهذا الشريعة؛ فقد عاش كما ذكرنا قبل بعثة السيّد المسيح، و كان أُستاذاً لأرسطو، و كان أرسطو بدوره أُستاذاً و وزيراً للإسكندر المقدونيّ، الذي دُوِّن عصره في صفحات التأريخ.
و كان لأفلاطون حكمة الإشراق، و كان يرأس سلسلة الرواقيّين، و كان يحصل له كشف الحقّائق و المعارف الإلهيّة بالرياضات و المجاهدات الباطنيّة عن طريق تصفية الباطن، في حين كان أرسطو تلميذ إفلاطون يمتلك حكمة المشّائين، و لم يكن ليعتني بالباطن أو يعتمد عليه أبداً، بل أسّس المسائل الحكميّة من وجهة نظر البرهان فقط.
و قد بنى الإسكندر بعد فتحه بلاد المشرق ميناء الإسكندريّة في مصر و أسّس فيها مدرسة قام تلامذة إفلاطون بالتدريس فيها، فدُعيت طريقتهم بالطريقة الأفلاطونيّة الجديدة لضمّها بعض قوانين أفلاطون إلى جنب بعض الإضافات الجديدة الأخرى، حيث بقي هذا المذهب إلى زمن فتح الإسكندريّة على يد المسلمين زمن عمر ثمّ انهار بعد ذلك، و كان أحد كبار هذا المذهب يدعى ثاميطورس و قد أسلم و دُعي بعدها باسم يحيى النحويّ.
أمّا كتاب الاثُولوجيا،۱ و هو كتاب مختصر و نافع، فقد ألّف على أساس الحكمة الإشراقيّة من قبل أفلوطين أحد أتباع هذا المذهب، و نسبه
البعض خطأً إلى أرسطو.
و قد تُرجمت كتب اليونان في الطبّ و الفلسفة و الهيئة و الهندسة إلى العربيّة زمن الإمامَين الرضا و الجواد عليهما السلام من قبل حُنين العباديّ، و قد حرّر ثابت بن قُرَّة أُصول أقليدس، و كان أوّل من هذّبه و حلّ مشكلاته و معضلاته. و بالرغم من ترجمة هذه الكتب إلى العربيّة من قبل الخلفاء العبّاسيّين و بأمرهم، ولكن لا يوجد هناك أيّ دليل على أنّ ذلك قد حصل من أجل معارضة الأئمّة عليهم السلام.
ذلك أنّ الطبّ و الفلسفة و الهندسة و أمثالها من العلوم لا تخلو فقط من معارضة مدرسة أهل البيت، بل إنّها كانت موافقة لها، فالبرهان و المنطق يوضّحان بصورة أفضل الأقوال الحقّة لأئمّة الدين، و لم يكن مدّعاهم خاطئاً ليخشوا و يقلقوا من المنطق و القياس.
و كان جمع من تلامذة الإمام الصادق عليهالسلام، أمثال محمّد بن النُّعمان المعروف بالأحْوَل و مؤمن الطاق و هِشام بن الحَكَم من أهل الجدل و البرهان، و الحاصل من دراسة حياة هشام بن الحكم على وجه خاصّ أنّه قد عرف الفلسفة و درسها؛ و كان هؤلاء يصرّون بتوظيف منطقهم و برهانهم القويّ القويم على إشاعة مدرسة الولاية و إثبات حقّانيّتها.
جمع صدر المتالهين بين العقل و الشرع والشهود
و لقد بقيت حكمة المشّائين و كتب أرسطو تدرّس بشكل مستمرّ في المدارس و المساجد حتى ألّف المعلم الثاني: الفارابي، و الشيخ الرئيس ابن سينا كتباً مستقلّة في الفلسفة، و ظهر علماء، جيلًا بعد جيل و عصراً بعد عصر، من أمثال ابن فَهد، و ابن مسكويه، و ابن رُشد، و الخواجة نصير الدين الطوسيّ،۱ و ميرفندرسك، و الميرداماد الذين أوضحوا و بينوا
...۱
خجسته رهنمونى ذو فنونى | *** | كه در هر فنّ بود چون مرد يك فنّ |
في كُلِّ فَنٍّ بَارِعُّ كَأَنّهُ | *** | لَمْ يَتَّخِذْ سَوَاء إلَّا فَنَّهُ |
وَ يَا عَجَباً مِنِّي احَاوِلُ وَصْفَهُ | *** | وَ قَدْ فَنِيَتْ فيهِ القَرَاطِيسُ وَ الصُّحُفُ |
كتاب فضل ترا آب بحر كافى نيست | *** | كهتركنى سر انگشت و صفحه بشماري |
عالم الإسلام و التوحيد و النبوّة و الإمامة و المعاد و الأخلاق و مكارم الفضائل بنور معارفهم في تفسير القرآن و بيان حقائقه العلميّة و الفلسفيّة، حتى وصل الأمر إلى أفضل الحكماء و أشرف الفلاسفة الأقدمين من المتقدّمين و المتأخّرين، صاحب مدرسة الإشراق وحائز معارف المشّائين، الجامع بين العرفان و البرهان، و بين صفاء الباطن و قوّة البرهان و المنطق:
صدر المتألهين الشيرازيّ أَعْلَى اللهُ دَرَجَتَهُ وَ جَزَاهُ اللهُ عَنِ الإسْلَامِ وَ المسْلِمِينَ وَ عَنِ التَّفَقُّهِ وَ التَّفَكُّرِ وَ العِلْمِ خَيْرَ جَزَاءِ المُعَلِّمِينَ.
فقد عاش عمراً في الزهد و العرفان مع ذكائه و مواهبه الفريدة و نبوغه الذاتيّ المكتسب؛ جمع في أُسلوبه بين مدرسة المشّائين و الإشراقيّين و أهل التفسير و الحديث، و خطى خطواته في ساحة المجاهدة و الشهود مع احترامه و إكرامه لصاحب الشريعة و القرآن و مقام الولاية الكبرى لحلّ
المعضلات من الروايات، و التفسير المشكل من الآيات، و للوصول إلى أعلى درجات اليقين و الورود إلى مقام الصدّيقين، محلّقاً بجناحَي العلم و العمل، فحلّ مسائل الفلسفة ببرهانه المتين، و أضاف خمسمائة مسألة مبتكرة على مسائل الحكمة اليونانيّة التي لم تتجاوز اصولها المائتي مسألة، فأوصل مسائل الحكمة إلى سبعمائة مسألة.
وجوب إحياء تدريس «الأسفار الأربعة» في الحوزات العلميّة
و لقد هدم صدر المتألّهين أُصول الفلسفة اليونانيّة و صار بنفسه موسّساً لفلسفة جديدة و معجون يلائم الطبع من حكم الفطرة و حكم العقل و حكم الشرع، صاغه بفكره الصائب من بين آلاف الكتب في الفلسفة و الحديث و التفسير، فسقى منه عشّاق العرفان، و مشتاقي الاستدلال و البرهان، و المتلهّفين من المتشرّعين و أهل الإيمان، ثمّ ألّف العديد من الكتب التي كان من أهمّها كتاب «الأسفار الأربعة»، فبعث حياة جديدة في العلم و البرهان، و في اليقين و العرفان، و في الشرع و الإيقان، و صار ملجأً و مأوى للحكماء الصادقين في دفع وردّ شبهات المنكرين و الملحدين من المادّيّين و الزنادقة و المنحرفين عن الولاية المطلقة الكلّيّة؛ و سنداً و ناصراً للقرآن بحيث أضحى الجميع في السنين الأربعمائة الأخيرة يجلسون إلى مائدته و يرتوون من شرابه المعين، و يستنشقون من بركات أنفاسه القدسيّة و رحمات كتبه المؤلّفة السنيّة.۱
صدرا جاهت گرفت باج از گردون | *** | اقرار به بندگيت كرد افلاطون |
در مكتب تحقيق نيايد چون تو | *** | يك سر ز گريبان طبيعت بيرون |
افلاطون زمان استاد عالم | *** | كه با او دل نيارد ياد عالم |
جهان فضل را مهد دل افروز | *** | شب جهل از فروغش طلعت روز |
چو او در مُلك دانش صدر گرديد | *** | هلال دانه دانش بدر گرديد |
به يمن نسبت او خاك شيراز | *** | بهاى خون صد يونان دهد باز |
نيارد مثل او در دانش و هوش | *** | فلك گو تا أبد ميگرد و ميكوش |
آنانكه ره دوست گزيدند همه | *** | در كوى شهادت آرميدند همه |
در معركة دو كون، فتح از عشق است | *** | هر چند سپاه او شهيدند همه |
و لا زال هذا الكتاب رائجاً مستعملًا في الحوزات المقدّسة العلمية لطلبة العلوم الدينيّة، و ما برح هذا السِّفر العظيم و الرسالة المبينة التي ترتكز على أصالة التوحيد، تبحث و تدرّس و يزداد رونقها يوماً بعد يوم بحمد الله و منه، حيث تُظهِر عقم الفلسفة الغربيّة الخاوية برغم أنف أنصار المدرسة
المادّيّة و أتباع الزندقة و المبهورين بفلسفة الغرب. فالحوزات العلميّة منهمكة بتدريس هذا الكتاب، سواء في النجف الأشرف، أم في بلدة قم الطيّبة، أم في دار العلم إصفهان، أم في المشهد الرضوي المقدّس و سائر أمكنة العلم و مراكز المعرفة، ممّا بهر الخفافيش من معاندي الإسلام!
ألا يحزّ في النفس أن نتمنّى زوال بحث و تدريس هذا السِّفر الجليل في الحوزات العلميّة تحت مبرّر الفلسفة القديمة،۱ و نتشدّق بالحديث عن العالم الفارغ لبيكون و الفلسفة الخاوية لكانت و ديكارت؟! أو نبحث عن العون في ملاقحة الفقه مع الفلسفة الجديدة من أفكار فرويد و برتراند راسل؟! فنجيز عمل اللواط و نهج قوم لوط الذين يندى لذكر قبائحهم جبين البشريّة؟! أو نتابع مجلس الأعيان الإنجليزيّ فنوقّع علناً على شرعيّة
اللواط؟
ألَا ترتوي مقالة «بسط و قبض نظريّة الشريعة» من ذاك النبع؟
أفهل يتمخّض دخول الفلسفة الحديثة في الحوزة العلميّة، و إلغاء تدريس الفلسفة المانحة للحياة و السعادة و حصاد ألف سنة من أفكار علماء مثل ابن سينا و الفارابيّ و الميرداماد في القالب الفكريّ البِكر الفريد للملّا صدرا الشيرازيّ عن غير هذه النتيجة؟
لقد قال المرحوم آية الحقّ و سند الفلاسفة الحكيم الأعظم آية الله المفخّم الحاجّ الميرزا مهدي الاشتيانيّ أعلى الله درجته، و كان فيلسوفاً عظيماً و نابغة في الحكمة و الفلسفة عند عودته إلى طهران بعد سفره للمعالجة و إجراء عمليّة جراحيّة في ألمانيا: حين رقدتُ في المستشفى في ألمانيا جاء جميع الفلاسفة هناك لرؤيتي بسبب شهرتي لديهم، و قد بحثتُ معهم في أُصول مسائل الفلسفة، فشاهدتُ حقّاً أنّ معلوماتهم تقلّ عن معلومات أحد الطلبة المبتدئين في حوزاتنا.۱
القول بعدم الاحتياج للعلوم العقليّة، كقول عمر: «حسبُنا كتاب الله»
أمّا قول القائلين بأنّنا لا نحتاج إلى العلوم العقليّة و الحكمة، و أنّنا نستفيد ممّا ورد من العلوم العقليّة في أخبار الأئمّة عليهم السلام، أمّا سوى ذلك فلا حاجة لنا به؛ فيماثل كلام عمر حين كتب إلى عمرو بن العاص حاكمه في مصر:
وَ أمَّا الكُتُبُ التي ذَكَرْتَهَا، فَإنْ كَانَ فِيهَا مَا وَافَقَ كِتَابَ اللهِ، فَفي كِتَابِ اللهِ عَنْهُ غِنَى. وَ إنْ كَانَ فيهَا مَا يُخَالِفُ كِتَابَ اللهِ، فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ.
فَتَقَدَّمْ بِإعْدَامِهَا؛ فَشَرَعَ عَمْرُو بْنُ العَاص في تَفْرِيقِهَا عَلَى حَمَّامَاتِ الإسْكَنْدَرِيَّةِ وَ إحْرَاقِهَا في مَوَاقِدِهَا.۱
فهذه المقولة بمثابة سدّ باب التحقيق و التدقيق و نشر علوم و ثقافة الدنيا و الآخرة، و هي ذات قول عمر: حَسْبُنَا كِتَابُ اللهِ.
فلو لم يكن هناك مفسّر و حارس للقرآن كالعترة، فإنّه سيصبح وسيلة لكلّ جانٍ جائر يحتجّ و يستشهد بآيات القرآن على حكومته الجائرة؛ و كذا الأمر في فهم روايات الأئمّة عليهم السلام باعتبارها ليست في مرتبة واحدة، و لاستناد الكثير منها إلى علوم دقيقة عقليّة، فإن لم تجرِ الاستعانة بالعلوم العقليّة في حلّ تلك الدقائق و المعارف العظيمة، فإنّ عاقبتها ستكون الجمود على الظواهر، نظير التشبيه و التعطيل و التجسيم و الجبر و التفويض، أو كالشيخيّة و الأخباريّين في فهمهم المعاني السخيفة و المتدنّية من كتاب الله، و استنباطهم المفاهيم السطحيّة التافهة من الروايات، و حاشاه و حاشاهم عن مثل ذلك.
الاهتمام البالغ لحوزة النجف بتدريس الفلسفة والعرفان
لقد كتب آية الله الشهيد الحاجّ السيّد محمّد علي القاضي الطباطبائيّ رضوان الله عليه في تعليقة له على كتاب «الفِرْدُوسُ الأعْلي» لآية الله المعظّم الحاجّ الشيخ محمّد الحسين كاشف الغطاء عدّة مطالب
في مقدّمتها نوردها هنا لأهمّيّتها:
كانت جامعة النجف في كلّ الأزمنة مركزاً للبحوث و التحقيقات العلميّة و الفلسفيّة و الذبّ عن حريم الإسلام المقدّس: و ليعلم إخواننا بالقطع و اليقين أنّ من نيات أعداء الدين وخصماء المذهب من الامم الأجنبيّة و من مكايدهم الممقوتة، هدم أساس هذه الجامعة و محوها و إبادة مجدها و عظمتها و حطّها عن مقامها الشامخ في عالم التشيّع و نسف حضارتها العلميّة و نزعاتها الدينيّة، و لهم السعي البليغ في تهيئة أسباب ضعفها و سقوطها و اضمحلالها و إرجاع الناس إلى غيرها و ترغيبهم إلى سواها في أمر التقليد و الفتوى، و تحكيم الجمود على أفرادها و سوقهم إلى نبذ أغلب العلوم إلى ورائهم ظهريّاً، و الاكتفاء ببعض العلوم التي لا يكفي في قلع أساس الأباطيل و الأضاليل و قمع جرثومة الزندقة و الإلحاد، كما فعلوا ذلك كله بالنسبة إليها بعد أوائل هذا القرن، شاهدنا ذلك في السنين الأخيرة و في أثر ذلك توقّف جمع من الأساتذة في هذه الجامعة عن دراسة بعض العلوم، وَ صَارَ هَذَا الأمْرُ مِنَ الجِنَايَاتِ التي لَا يَسُدُّهَا شَيءٌ إلَّا التَّيَقُّظُ وَ سَدُّ هَذِهِ الثُّلْمَةِ بِالحُرِّيَّةِ التَّامَّةِ في تَحْصِيلِ العُلُومِ بِشَتَّى أَنْوَاعِهَا.۱
و يقول المرحوم كاشف الغطاء في هذا الكتاب:
وَ الظَّاهِرُ بَلِ اليَقِينُ أنَّ أَقْوَى المُسَاعِدَاتِ وَ أَعَدَّ الأسْبَابِ وَ المُوجِبَاتِ لِلْوُصُولِ إلَى مَقَاصِدِ امَنَاءِ الوَحْيِ وَ كَلِمَاتِ الأنْبِيَاءِ وَ الأوْصِيَاءِ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ إنَّمَا هُوَ فَهُمُ كَلِمَاتِ الحُكَمَاءِ المُتَشَرِّعِينَ.۱
و قد كتبتُ رسالة مختصرة لم تطبع حتى الآن في وجوب الاهتمام بتعلم الحكمة و العرفان، دوّنتُ فيها أسماء جمع كثير من جهابذة العلماء و أساطين الفقاهة الشيعيّة من صدر الإسلام إلى الآن ممّن كان لهم اهتمام
أكيد بعلم الفلسفة و العرفان، و كانوا بالرغم من حيازتهم مقامات عالية في الفقه و الحديث يعدّون من المدرّسين الأجلاء لهذه العلوم.۱
عبارات مقالة «بسط و قبض نظريّة الشريعة» في رفض الفلسفة
و يلزم الآن، و قد بانت الضرورة الأكيدة لتدريس و تعلّم الحكمة المتعالية و الفلسفة السامية، و تحصيل العرفان، و الارتباط بعالم الربوبيّة عالم ماوراء الطبيعة، و لقاء الحضرة الأحديّة، و لزوم المشاهدة و المعاينة و البرهان اليقينيّ على ربط القديم بالحادث، و إحاطة و هيمنة الله الخالق الحكيم العليم، في الحوزات العلميّة المقدّسة التي تمثّل جامعات بناء الإنسان و تربية البشر، و مدرسة لتعليم القرآن و تعلّمه، و إشاعة روح و سرّ النبيّ و مقام الولاية؛ يلزمنا أن ننقل نصّ عبارات من كاتب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=بسط و قبض نظريّة الشريعة) لتتّضح أكثر فأكثر مواضع الخطأ و مكامن الاشتباه فيها مضافاً الى ما ذكر، فقد قال:
هل يمكن الاعتقاد بعلم النفس القديم و الاعتماد على تلقينه و تكراره في الوقت الحاضر مع إهمال الطبيعيّات الحديثة (أي علوم وظائف الأعظاء و الأنسجة و الكيمياء الحيويّة و الأجنّة و ...)؟
هل يمكن تعريف موجود غير مادّيّ بدون معرفةٍ أفضل للمادّة؟
إ نّ كلّ القدرات التي كُشفت حاليّاً في المادّة و أنواع تركيباتها تدعونا لفهم جديد للُامور غير المادّيّة، و نتساءل: ألم يكن تضخيم القدماء لمسائل ما وراء الطبيعة في الحقيقة نابعاً من جهلهم؟
و يمكن التوسّع أكثر في هذا السؤال، فنسأل: ما الذي حصل هذه الأيّام فدعا حوزات العلوم الدينيّة إلى إخراج الطبيعيّات القديمة في تكتم و هدوء من ساحة الفلسفة و الغاء تدريسها، و القبول إلى حدّ ما، بالعلوم الحديثة، لكنّ غياب علوم الطبيعة القديمة تلك لم يضرّ ما
بعد الطبيعة و لم يحزنها بشيء؟!
أفيمكن فكّ ارتباط إلهيّات الفلسفة مع الطبيعيّات بشكل كامل، كي تبقى الإلهيّات محتفظة بهيئتها و قوامها السابق؟
أفلم تكن مسائل ما بعد الطبيعة قد صُممت ليمكنها ضمّ تلك الطبيعيّات و احتوائها داخلها؟
أو هل ولد و نشأ هذان الاثنان بلا ارتباط و تناسب بينهما؟
أَوَ هَلْ يمكن اليوم أن يُقبل بالطبيعيّات الحديثة (العلوم التجريبيّة الحديثة) مع ترك الفلسفة محفوظةً يجري تدريسها بدون أن تمسّها يد؟
لقد كانت تلك الإلهيّات هي الموجّه و المكمّل و المبرّر لتلك الطبيعيّات، و كان بناء المعرفة الشامخ ذاك ذا طابقين لا غرفتين، أفيمكن لانهيار أحد الطابقين أن يترك الآخر بلا ضرر أو تأثّر؟
إ نّ الاضطراب و التشويش المشاهَد هذه الأيّام في كلمات أعلام الدين في رفع تعارض العلوم البشريّة مع معارف الوحي، ناشئ من أ نّ علمي المعرفة و الطبيعة القديمين لم يخليا مكانهما بشكل كامل لعلمي المعرفة و الطبيعة الحديثين، و لا يزال علم الكلام الإسلاميّ و فهم الشريعة غير منسجمين بعدُ مع المعارف الجديدة، و لم يحتلّا بعدُ موقعهما المناسب في الهندسة الجديدة للمعرفة. لذا نجد العلماء المسلمين يجهدون أنفسهم، اعتماداً على علم المعرفة القديم (بدون لحاظ ظرائف الأبحاث الجديدة في الفلسفة و أُسلوب المعرفة العلميّة) ليحكموا على المكتسبات العلميّة الجديدة و يَزِنُوا معارضتها أو موافقتها للمعارف الدينيّة.۱
حتّى يصل إلى القول:
و يجب الإذعان أ نّ شيئاً لم يبق على سابق عهده، لا أدبنا، و لا فلسفتنا، و لا كلامنا، و لا عرفاننا، فلقد وقع فيها جميعاً البسط و القبض، فمن أين يتأتى الادّعاء بأنّ فهم الشريعة يمكنه أن يبقى في منأى عن رياح التغيير، و أن لا يتضرّر أو يربح في معاملته معها أخذاً أو عطاءً؟۱
إلى قوله:
و لهذا السبب فإنّ فلسفتنا لما وراء الطبيعة، و قد انعزلت منذ القدم بعيداً عن المعرفة العلميّة الطبيعيّة، لم تتضرّر بنفسها و تتضاءل، بل إ نّ الفلاسفة هم الذين تضرّروا لهذا السبب، فلم يقدّر لهم أن يروا وجه الفلسفة كما ينبغي أن يكون عليه و ضّاءً مشرقاً.٢
إلى قوله:
و لا نظنّ أيضاً أنّه يمكن تصديق أنّ علم النجوم القديم قد انفصل عن الفلسفة و أنّ فلسفة ما وراء الطبيعة بقيت على حالها، إذ أنّ تلك الفلسفة صممت لتضمّ علم النجوم ضمنها، و إ نّ الانقلاب و التحوّل الكامل لهذا العنصر و لعناصر أخرى غيره مع بقاء الإطار السابق سالماً أمرٌ لا يقرّه العقل و لا يتحمّله.
لقد بدت علائم تحوّل ما وراء الطبيعة، و على الفلاسفة اليقظين أن يكونوا جادّين في النظر إليها، و عليهم أن يَزِنُوا منظومة المعرفة الفلسفيّة من جديد، فالمعرفة التجريبيّة في العصر الجديد قد جاءت متحدية داعية للمنازلة، أمّا ما وراء الطبيعة فليس لها فلسفة علميّة موزونة و راسخة، و هي لا تستمدّ العون من بحث المعرفة، فهي بمجموعة من الأقوال المتناثرة أشبه منها بمنظومة متّسقة من الآراء
المرتبطة ببعضها.۱
لا علاقة ببحث الالهيّات و فلسفة ماوراء الطبيعة ببحث الطبيعيّات
و يُقال في الإجابة على هذه المطالب: ينبغي القول ردّاً على جميع هذه الاحتمالات و الإشكالات التي وردت بصورة استفهام في المجموعة المذكورة بأنّها ليست إلّا مطالب لا دليل لها، و مدّعى خالياً من البرهان، و خطابة نظّمت بلا مطالعة و تحقيق، و شعراً قيل بلا فهم و لا تدقيق.
فأوّلًا: ما هي علاقة فلسفة ما وراء الطبيعة و الإلهيّات بالمعنى العامّ و الخاصّ بالفلسفة و العلم الطبيعيّ؟
ينبغي أن يكون ارتباط العلوم فيما بينها أو عدم ارتباطها إمّا في الموضوع أو في الحكم، و بعبارة أشمل: من جهة المسائل أو من جهة الغاية و الهدف.
أ نّ الحكمة الإلهيّة و فلسفة ما وراء الطبيعة لا ترتبط أبداً في أيّ من هذه الجهات مع المسائل الطبيعيّة الواردة في العلوم التجريبيّة مع ملاحظة توسّعها.
فهناك في الحكمة الإلهيّة البحث عن العلّة و المعلول، و التقدّم و التأخّر، و الوحدة و الكثرة، و الوجود و الماهيّة، و الجوهر و العرض و أمثال ذلك، و البحث في إثبات القادر الحيّ الأزليّ الأبديّ السرمديّ الشاعر الحكيم العليم القدير المختار ذي المشيئة و الإرادة، من الطرق المختلفة لإبطال الدور و التسلسل، و عينيّة العلّة مع المعلول في الوجود و اختلافها حسب التنازل و التصاعد و غيرها.
أمّا الطبيعيّات، فيبحث فيها عن الحركة و الزمان و المكان و المادّة و القوّة و تكوّن الأرض و السماء و الأنهار و الأشجار و الأحجار و الشمس
و القمر، و عن ظهور المعادن، و عن بدن الإنسان، و الطبّ و الهيئة و النجوم و مسائل الفيزياء و الكيمياء و أمثالها.
فقولوا لنا: أهناك اشتراك بين هذين العِلمين في موضع معيّن، ليسبّب ضمور أحدها تضخّم الآخر و نموّه؟ في الموضوعات، أو الأحكام، أو الغايات؟!
إ نّ الحكمة الإلهيّة و فلسفة ما وراء الطبيعة تقوم بإثبات معيّة الذات القدسيّة للحيّ المتعال مع جميع الموجودات، و تشاهد تجلّي الله العالم القدير في جميع الأشياء، و تبرهن على ربط الحادث بالقديم، و تبحث في إثبات العلل المتوسّطة كالمثل الأفلاطونيّة مثلًا، أو بتعبير القرآن عن الملائكة المجرّدة فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً،۱ سواء في ذلك دارت الأرض حول الشمس، أم دارت الشمس حول الأرض، و سواء كان القمر من أقمار الأرض و توابعها، أم من المجموعة الشمسيّة، و سواء تكوّن بدن الإنسان من الأخلاط الأربعة (الصفراء، السوداء، البلغم، الدم) أم من موادّ سمّيت بمسمّيات أخرى، أم كانت حقيقتها خارجة أيضاً عن هذه الأربعة (كالاوكسجين و الهيدروجين و النتروجين و الكلور و الفسفور و غيرها)، و لا فرق عندئذٍ اعتبرت العناصر البسيطة منحصرةً في أربعة لا تتجاوزها (التراب، الهواء، النار، و الماء)، أم اعتبرت البسائط متجاوزة لمائة و عشرين، و قِسْ عليه فَعْلَلَ و تَفَعْلَلَ.
و لقد كان عبدة المادّة في فلسفة الطبيعيّين يقولون: إنّ جميع هذه العناصر الأربعة، و الأخلاط الأربعة، و الأفلاك لا معلولًا و لا علّة حيّة أزليّة، و هم الآن يقولون: إنّ العناصر البسيطة، و حركة الإلكترونات، و هذا
الدوران للعالم الدوّار، و حركة الأمواج، و النور و الكهربائيّة ليست معلومة بعلّة أزليّة حيّة.
و كان المادّيّون في كلا العصرَين ينكرون الصانع العليم القدير، بينما كان الإلهيّون في المقابل على نهج واحد يثبتون الصانع العليم القدير في كلا العصرَين.
فحيثما يبدأ البحث الإلهيّ في الفلسفة عن الماهيّة و الوجود، فماذا يضير أن نطلق اسم الماهيّة على الجسم و العناصر التي تتشكّل منه، أو على الموجودات الحيّة الناشئة من الكيمياء الحياتيّة مثلًا؟ فالماهيّة تمتلك في كلّ الأحوال معنى يقابل معنى الوجود، و لا يمكن انكار هذا الكلام وردّه.
و لو قلنا بأصالة الوجود فسيكون البحث واحداً عن كلا الطريقين، في الطبيعيّات: الطبيعيّات القديمة أو العلوم التجريبيّة الحاليّة؛ و لو قلنا بأصالة الماهيّة، فسيكون البحث في كلا الطريقين واحداً أيضاً، و لا فرق هناك أبداً.
و لهذا فإنّ الكلام في أنّ إزالة بحث الطبيعيّات القديمة سيوجد خللًا في بحث الفلسفة الميتافيزيقيّة (ما وراء الطبيعة) هو قول مهزوز تماماً و ليس له ما يعضده و يسنده.
فلسفة ماوراء الطبيعة قائمة على أساس القواعد المنطقيّة الثابتة
و يرجع ذلك إلى أنّ الإلهيّات قد وضعت على أساس قواعد منطقيّة يتكفّل علم الميزان بصحّتها و استقامتها؛ و علم الميزان كالقواعد الرياضيّة ثابت لا تغيّر فيه، و لا يمكن إنكار القياسات الاقترانيّة و الاستثنائيّة، و إفادة الأشكال الأربعة بشروطها الخاصّة، و ترتيب الصغرى و الكبرى؛ فيبقى المطلب في فلسفة ماوراء الطبيعة غير مقبول ما لم يصل إلى مرحلة البرهان، فالخطابة و الجدل و الشعر و المغالطة و جميع المسائل التي شكّلت إحدى مقدّماتها من هذه مِثل الامور غير مقبولة، و النتيجة تتبع أخسّ
المقدّمتين، و ينبغي لمقدّمتي القياس أن تكونا مبرهنتين.
و لقد وضعوا لهذا الأمر المهمّ علم المنطق، و كَتَب ابن سينا منطق «الشفاء» الباهر، و ألّف الخواجة نصير الدين الطوسيّ كتاب «أساس الاقتباس»، ذلك الكتاب الضخم في المنطق، و لا تزال دراسة علم المنطق جارية و معهودة في الحوزات العلميّة حتى يومنا هذا.
أمّا الطبيعيّات فهي بجميع شؤونها و جميع فروع مسائلها، من الطبّ و النجوم و الهيئة، و مسائل الأرض و السماء، غير مرتكزة و غير معتمدة على البرهان، بل تعدّ مسائلها استقرائيّة، حيث استبدلوا أخيراً كلمة الاستقراء بالتجربة. و لقد بيّن العلماء و أكثروا: أنّ المسائل الاستقرائيّة لا تورث القطع و اليقين، بل هي مسائل ظنّيّة تماثل المسائل الحدسيّة و الفرضيّة الحاليّة، عدا الاستقراء التامّ الذي يورث العلم و اليقين.
فنسبة المسائل الطبيعيّة الاستقرائيّة إلى الإلهيّات البرهانيّة، كنسبة فرضيّة حركات الأفلاك و التداوير المفروضة، و ثبوت السيّارات داخل جرمها، و فرضيّة حركة السيّارات في مداراتها الخاصّة بلا فلك قد سمّرت في جُرمه، إلى نتيجة حسابات عالم رياضيّ و منجم مختصّ قاس و أجرى بصورة دقيقة حساب حركة و زمان أوج و انحطاط الشمس أو ما شاء من سيّارات، و زمن خسوف القمر و كسوف الشمس وفق القواعد الرياضيّة.
فحسابات المنجّم و العالم في الهيئة واحدة في كلّ الصور و الحالات، لأنّها استندت إلى قواعد رياضيّة ثابتة و غير متغيّرة، سواء أخذنا الأرض كمركز للعالم حسب هيئة بطليموس و اعتبرنا الشمس و جميع الثوابت و السيّارات تدور حولها، أم اعتبرنا الشمس مركزاً و السيّارات و الأرض تدور حولها حسب هيئة كوبرنيك.
فمع أنّ هاتين الفرضيّتين مختلفتان بالطبع، لكنهما لا تؤثّران أبداً
على نتيجة حسابات المنجم، لأنّ الاهتمام الرئيسيّ للمنجم و نظره ليس لحركة هذه أو تلك، بل بمقارنة البُعد و القُرب، و هو أمر لا اختلاف فيه و لا تفاوت.
فلو كانت الفاصلة بيننا و بينكم مائة فرسخ، و كان لابدّ لنا من طيّ خمسين ساعة لنصل إلى بعضنا، فما الفرق للمحاسب الذي سيجري الحساب فيقول إنّ كلّ فرسخين ينبغي طيّهما في ساعة واحدة، أن نكون نحن ثابتين و أنتم المتحرّكون نحونا، أو تكونوا أنتم الثابتين و نحن المتحرّكون نحوكم، فالأساس هو صحّة المحاسبة و صوابها، لا حركة هذا و سكون ذاك؛ فإنّ (۸) مضروبة في (٢) تساوي (۱٦)؛ و (٢) مضروبة في (۸) تساوي (۱٦) أيضاً.
فمسألتا الضرب هاتان مع اختلافهما في المحتوى، أي في المضروب و المضروب فيه، و بيانهما لمعنيين و كيفيّتين، لكنّ نتيجة الضرب واحدة.
كان هذا مثالًا لنعلم أنّ مسائل الإلهيّات أيضاً غير قابلة للتغيّر و التبدّل، لأنّها كالقواعد الرياضيّة و المثلّثات معتمدة على أساس البرهان، أمّا الطبيعيّات فتغيّرها ممكن و وارد طبقاً للفرضيّات المتفاوتة و تبعاً للاكتشافات المختلفة.
و من هنا فليست مسائل ما وراء الطبيعة مع الطبيعيّات كبناء ذي طابقين أو غرفتين، بل كبناء خرسانيّ مسلح محكم و متين مقابل بناء منفصل آخر يُقابله.
الاعتراض على المقالة في فصلها بين وظائف الطبيعة و ماوراء الطبيعة
و لربّما خُيّل لكاتب المقالة أنّ مسائل ما وراء الطبيعة و أحكامها و وظائف مهامّها، وصولًا إلى الله الواحد القهّار، في معزل عن مسائل الطبيعة، بمعنى أ نّ أيّ أثر نعبره للمادّة و الطبيعة لن يكون لعالم ما وراء
ذلك و آثار عالم الطبيعة منحصرة بآثار لا يد للطبيعة فيها، لذا فإنّ هزال و تضخّم الطبيعة و المادّة هو على العكس من العالم الذي وراءها، أي عالم الحياة؛ أي أنّ هزال الطبيعة يستتبع ضخامة عالم الحياة، و ضخامة عالم الحياة يستلزم هزال عالم الطبيعة.
و هذا التصوّر خاطئ و مخالف لُاصول التوحيد و مباين لمنطق القرآن و البرهان، و ما نُسب في كتاب «راه طى شده» (=الطريق المطويّ) إلى الموحّدين و القائلين بعالم الحياة من الفلاسفة خطأ و مجانبة للصواب، إلّا إذا كان مراد الكاتب من الفلاسفة علماء الغرب الذين لم يتذوّقوا طعم التوحيد.
فتبعاً للحكمة المتعالية فإنّ جميع أفعال المادّة و الطبيعة هي أعمال ما وراءها، فلا يمكن وجود ذرّة واحدة و آثارها و لوازمها في جميع عالم المادّة إلّا و هي تحت سيطرة و هيمنة عالم الروح، و إحاطة و معيّة عالم ما وراءها؛ و تفكيك الأعمال الطبيعيّة و غير الطبيعيّة، و القول بقطب مستقلّ لكلّ منهما هو خلاف برهان التوحيد.
و لعلّه ظنّ أنّ المراد من عالم النفس: الروح، و ما وراء الطبيعة:
الملائكة، و أخيراً فإنّ قدرة الواحد العليم الحكيم هي تلك الظاهرة الحاصلة من المادّة و نتيجة جهاز حركة المادّة في عالم الطبيعة، أو النظام المتقن المتين الذي جرى علم الطبيعة على أساسه منذ الأزل في مسير واحد و نهج مستقيم بلا أدنى تخلّف، و سيبقى في جريانه على هذا المنوال أيضاً حتى الأبد؛ و بالطبع فتبعاً لهذا التصوّر فإنّ ضعف الطبيعة يستلزم ضعف هذا المعنى، و قوّتها تستوجب قوّة هذه الحقيقة، و لذا فإنّ تضخّم و هزال المادّة سيوجب تضخّم و هزال ما وراءها مباشرة في معادلة مستقيمة طرديّة لا عكسيّة.
و هذا التصوّر هو تصوّر خاطئ أيضاً، لأنّ إتقان النظام و الحياة الواحدة الحاكمة على العالمين، و على جميع عالم الوجود، من فعل الربّ تعالى، لا نفس ذاته القدسيّة.
ففوق هذا الفعل، و هذا النظام الواحد المتين الراسخ الحاكم على العالم، هناك ذات بسيطة و مجرّدة و واحد و قهّار و عليم و قدير ابتدع هذا العالم بإرادته الأزليّة، و أداره و يديره، و يُفيض عليه، ليس فقط في ابتداء الخلق، بل كلّ لحظة و إلى الأبد؛ فإحاطته به ليست إحاطة علميّة فقط، بل له معيّة معه في وجوده و ذاته، و جميع هذا العالم هو عِلمه الحضوريّ.
فالإله المتحرّك الجاري الذي له كلّ يوم ظهور و تجلٍّ جديد في المادّة ليس هو الله، بل مأمور و محكوم لحكم الله تعالى.
و ثانياً: إنّ علم الطبيعيّات لم يُلْغَ تدريسه في الحوزات العلميّة، فهم الآن يدرسون مع الإلهيّات مباحث الطبيعيّات أيضاً، و لقد كان علماء الإسلام الحقيقيّون هم واضعي الحجر الأساس للمدنيّة الغربية، و امتلكوا في جميع الفنون الطبيعيّة المقام الشامخ الذي لا نشاهد له نظيراً و شبيهاً في الغرب.
علماء الإسلام هم أبرز العلماء، و آباء العلوم الطبيعيّة
فأمّا بشأن علم الكيمياء: فهم يقولون اليوم إنّ اختلاف الأجسام و العناصر المادّيّة، كالحديد و الذهب و الكاربون و الاوكسجين عن بعضها مسبّب عن اختلاف عدد الإلكترونات الدائرة حول النواة، و مرتبط بكيفيّة ترتيبها أيضاً، فإذا أمكننا أن نغير هذا النظام في مادّة ما إلى نظام مادّة أخرى فسنكون قد أوجدنا تلك المادّة الثانية؛ و من جهة أخرى فإنّه يمكن إطلاق أشعة إكس و الطيف الضوئيّ نتيجة تغيير الترتيب الإلكترونيّ.
و قد أجرى رجلان إنجليزيّان هما والتون و كاسرافت هذا العمل لأوّل مرّة بشأن عنصر الليثيوم فقاما بتحويله إلى عنصر الهيليوم.
و قد وصل قدماؤنا إلى مراحل أبعد من هذه، و لم يزل العلم الحديث عاجزاً عن الوصول إلى اكتشافاتهم؛ فلقد اعتبروا الفلزّات قابلة للحياة و ممتلكة لنوع من الحياة و الموت (و الفعّاليّة)، و قالوا بإمكان توليدها المثل، فسعوا على هذا الأساس إلى تبديل بعض الفلّزات إلى فلزّات أخرى و خاصّة إلى الذهب. و لم يختصّ هذا التفكير بالمسلمين فقط، بل بقيت آثاره من قديم الأيّام من زمن أفلاطون.۱
و النتيجة المستحصلة من هذه النظريّة هي أنّ الكيميائيّين و المحقّقين قد سعوا في مجال التحقيق. فقاموا في أبحاثهم باختراعات و اكتشافات و اختبارات كثيرة، و ظهر في هذا العلم أمثال جابر بن حيّان المعروف بالصوفي و هو أحد تلامذة الإمام جعفر الصادق عليهالسلام،٢
كلام عبدالحليم الجندي حول تأسيس الإمام الصادق للعلوم الإسلاميّة (ت)
...۱
جابر بن حيّان و ذوالنون المصريّ و الرازيّ مؤسّسو علم الكيمياء (ت)
و ذو النون المصريّ، و أبو زكريّا الرازيّ۱ و غيرهم.
و قد اكتشف أبو زكريّا الرازيّ الكحول الذي يدعونه اليوم بنفس الاسمALCOHOL) من تقطير الموادّ السكّرية و النشاء، و فتح كما تعلمون بكشفه لهذه المادّة فصلًا جديداً في الطبّ و الصيدلة.
و اكتشف كذلك جوهر الكبريت أي حامض الكبريتيك من تجزئة الزاج الأخضر أي كبريتات الحديد المتبلورة؛ و تعلمون أنّ هذه المادّة صارت أُمّ الصنائع، و سميّت بزيت الزاج و امّ الصنائع.٢
و لقد حصل علماؤنا بأجهزة التقطير القرع والإنبيق و بأحجار الكلس
على الكثير من الموادّ الكيميائيّة من قبيل نترات الفضّة (حجر جهنم) و كلوريد الزئبق المشبّع، و الپوتاس، و أملاح النُّشادِر، و جوهر الملح (حامض الهيدرو كلوريك)، و الملح، وكاربونات الصوديوم (القلياء)، و الأنتيمون و عشرات الموادّ الأخرى التي تعدّ في الكيمياء الحاليّة من الاسس و الموادّ المهمّة.۱
و قد عدّوا عند اكتشافهم لهذه الموادّ أنّ صنع الفضّة و الذهب أمر ممكن، و قد كتب محمّد بن زكريا الرازيّ كتاباً باسم: «إ نّ صناعة الكيمياء
إلى الوجوب أقربُ منها إلى الامتناع».
يقول ابن جُلجل في «طبقات الأطبّاء و الحكماء»: لقد أجرى محمّد بن زكريّا الرازيّ تحقيقات في صناعة الكيمياء، و ألّف أربع عشرة مقالة في علم الكيمياء.
و يشاهد في فهرس مصنّفات الرازيّ اسم ثلاثة كتب ر دّ فيها على عقيدة يعقوب بن إسحاق الكنديّ۱ في بطلان صنعة الكيمياء.
و كان للكثير من المتصوّفة اشتغال بهذا العمل، حيث يتكرّر ذكر أسماء: جابر بن حيّان٢ و ذي النون، و الجنيد البغداديّ، و محيي الدين عربي، و شمس التبريزيّ، و جلال الدين الروميّ، و السيّد نعمة الله ولي، و نور علي شاه.
هذه هي عظمة و تقدّم علم الكيمياء أحد فروع الطبيعيّات.
و بالطبع فإنّ هذا العلم: علم الكيمياء هو عبارة عن تركيب موادّ خاصّة في شروط خاصّة لصناعة الذهب. و أما الإكسير الذي يقال له أيضاً: الكبريت الأحمر، فهو علم يحصل به على شيء يمكنه تبديل النحاس و الفضّة بالمسّ إلى ذهب، و هو أهم كثيراً من الكيمياء.
بروز أبي ريحان البيرونيّ في مسائل الفيزياء و الهيّة و النجوم
أمّا بشأن علم الفيزياء: فقد برع العلماء و المفكّرون المسلمون في
هذا الفنّ و برزوا في كثير من مجالاته، سواءً ما تعلّق بحسابات جرّ الأثقال، أم بأبحاث النور و انكسار الأشعّة و المرايا، أم في كثير من الصناعات المعتمدة على القوانين الفيزيائيّة.
فاكتشافات أبي ريحان البيرونيّ في الفلكيّات و الرياضيّات و الميكانيك و الهيدروستاتيك (ضغط و توازن السوائل)، و ارتفاع مياه الينابيع و الفوّارات، و قياس محيط الأرض بالطريقة التي دعاها الغربيّون بقاعدة البيرونيّ، و اختراعه لبعض أنواع الاصطرلاب، و الكتب التي ألّفها في الآلات الفلكيّة، و النجوم المذنّبة، و الظواهر الجوّيّة، و المدّ و الجزر، و إيجاد الوزن الخاصّ للأجسام، و الحدس بحركة الأرض، و احتمال وجود قارّة أخرى في سائر نقاط الربع المسكون كقارّة أمريكا، و كثير آخر من أمثال هذه المسائل، تعدّ بأجمعها من المسائل المهمّة التي وُضعت عليها علوم الفيزياء و الرياضيّات الحاليّة.
و قد جاء في مقدّمة كتاب «التفهيم لأوائل صناعة التنجيم» أنّ أبا ريحان قد اخترع ميزاناً جديداً لتعيين الوزن و الحجم الخاصّ للأجسام دعاه بميزان أبي ريحان، و عين بواسطته الوزن الخاصّ (النوعيّ) لعدد من الأجسام في حدود ۱٦ فقرة يُطابق آخر ما وصلت إلى تحقيقات العلماء الحاليّين. و كان ميزان أبي ريحان في نظر أهل الفنّ و الخبرة أدقّ من ميزان أرخميدس.
و هناك رسالة مذكورة في فهرس مؤلّفاته في النسبة بين الفلزّات و الجواهر المعدنيّة كتبها بالفارسيّة؛ و قد عيّن بشكل خاصّ في كتاب «الجماهِر» الوزن الخاصّ (النوعيّ) للفلزّات و لبعض الأحجار الكريمة.۱
بحوث أبي ريحان البيروني حول الآبار الارتوازيّة
البئر الارتوازيّة:
و قد أورد في «نامة دانشوران» (=رسالة الحكماء) أنّ هناك بعض المطالب المذكورة في كتاب «الآثار الباقية» لأبي ريحان أُقيم على أُسسها و نظمها في كتب حكماء أُوروبّا، و ذكر من جملتها شروحاً لارتفاع الماء من بعض العيون ذكره بعينه الحكيم الطبيعيّ المسيو زله في باب «پى آرت زين». و سنورد بعد انتهاء مسائل و مطالب أبي ريحان تلك المسألة و سائر المسائل و قواعد رسم الخرائط المعهودة عند حكماء أُوروبّا، ليتّضح أنّ أبا ريحان كان له توارد خواطر مع أغلب حكمائهم، أو أنّهم ظفروا بمؤلّفاته فاقتبسوا تلك القواعد منه.۱
يقول في «الآثار الباقية»: تنقسم المياه التي تتجمع في قعر البئر إلى قسمين: منها ما يترشّح أحياناً من أطراف البئر و يتجمع، فيكون سطح تلك المادّة مع سطح الماء المجتمع في مستوى واحد، و هذا القسم لا يمكن بأيّ تدبير أن يرتفع إلى الأعلى، لأنّ الفتور و الضعف الذي فيه لا يتلائم مع ذلك القصد.
و يحدث أحياناً أن يفور الماء في قعر البئر بقوّة لأنّ منبعه و مادّته مرتفعة ينحدر منها بشدّة و يخرج من المنافذ، و هذا القسم يمكن رفعه بالآلات العاديّة المعهودة مثل الفوّارات العالية و الأنابيب، للقدر الذي يصبح فيه أعلى ارتفاع لماء الفوّارة موازياً و مساوياً لسطح المادّة الأصلي، و هذا الماء قد يصل أحياناً إلى مستوى القلعة و المنارة.
و قال أبو ريحان في ذيل ذلك المطلب أيضاً: و لقد حصل كثيراً في اليمن، عند حفرهم الآبار، أن ينتهوا في حفرهم إلى صخرة، فيعرف قوم تلك الديار، حسب فراستهم في هذا الأمر، من صوت الصخرة كمّيّة الماء المخزون في تلك المنطقة، فيعمدون بما في أيديهم من الآلات إلى إيجاد ثقب ضيّق في تلك الصخرة، فإن فار منها الماء بسلامة قاموا بتوسعة ذلك
المجرى، و إن شوهد في الماء آثار الطغيان عمدوا إلى ذلك الثقب فسدّوه بالتراب و الجير لئلّا ينبعث منه سيل مهيب.
و هناك بحيرة واقعة في أعلى جبل بين مدينتي طوس و أبر شهر تدعى ببحيرة برزود، يبلغ محيطها مائة فرسخ، لا يظهر في مائها الجزر و المدّ الذي يظهر في مياه البحار الأخرى، و ذلك لأنّ مستوى المخزن المائيّ الذي يمدّها يوازي سطح البحيرة، أو أنّه يرتفع عنه، لكنّ مقدار الماء الذي يجفّ بالتبخر الحاصل من أشعة الشمس يعادل المقدار الوارد من المنبع، لذا انعدمت الزيادة فيه أو النقصان.
حتّى يصل إلى القول:
و قد أورد الحكيم المسيو زله في كتابه في علم الطبيعة بشأن بئر جرْنل۱ الواقعة في باريس فصلًا مشبعاً، و ذكر في بيان علله و أسبابه الطبيعيّة شرحاً يوافق تحقيقات أبي ريحان تماماً.
و على كلّ حال فإنّ تلك البئر تقع في منطقة باريس بعمق خمسمائة و ثمانية و أربعين متراً، و يرتفع ماؤها عن الأرض بواسطة أنابيب ارتفاعها ثمانية و ثلاثون متراً.
و لقد كان بحر الخزر مورد حيرة حكماء أُوروبّا، إذ تصبّ فيه كلّ تلك الأنهار في حين ليس هنا من ممرّ و مخرج للماء منه، لذا فقد اعتقدوا إلى ما قبل مائتي سنة٢ أنّ للبحر المذكور مجريين سفليّين، أحدهما تحت
كرجستان و القفقاس، و الآخر من جهة ممالك إيران و هوانق، فما يرد فيه من تلك الأنهار يذهب في المجرى الأوّل إلى البحر الأسود، و في الثاني إلى الخليج الفارسيّ، و لولا ذلك فإنّ طغيان الماء الناتج من تجمع الأنهار العظيمة سيغطّي سواحل إيران و حاج طرخان، بل سيغطّي خوارزم و جميع آسيا.
من كشوف أبي ريحان: قانون خاصّيّة الأواني المستطرفة
لكنّهم قالوا في مسألة ذلك البحر؛ استناداً إلى علوم الكيمياء و الطبيعة التي تكاملت منذ التأريخ المذكور إلى الآن؛ بنفس القول الذي نقلناه عن الاستاذ أبي ريحان، و تيقّنوا أنّ الكمّيّة التي تجفّ من المياه بأشعّة الشمس تعادل الكمّيّة الواردة في ذلك البحر، و قد أمعن جمع من المهندسين الروس في التحقيق و البحث بشأن هذه المسألة خاصّة، فاستنبطوا بعد تتبّع زائد ما يطابق رأي أبي ريحان الذي ذكره في «الآثار الباقية».۱
و يعرف كشف أبي ريحان هذا اليوم في الفيزياء بقانون خاصّيّة الأواني المستطرقة.
و قد كان لأبي ريحان تحقيقات عميقة أيضاً بشأن حركة النور و الصوت، و أنّ حركة الصوت أبطأ من النور.٢
و من بين المسائل الفيزيائيّة التي يدين بها الاوروبّيّون للمسلمين مسائل النور و المرايا، و من أرقى الكتب التي دوّنت في هذا الموضوع كتاب «تنقيح المناظر لذوي الأبصار و البصائر» تأليف العلّامة كمال الدين أبي الحسن الفارسيّ، كتبه قبل سبعمائة سنة، و هو كتاب في جزءين
يقرب من ألف صفحة.۱
و أمّا بشأن علم النجوم و الهيئة، فإنّ علماء الهيئة الحقّيقيّن بالرغم من عدم امتلاكهم لوسائل العمل و مستلزماته، و افتقارهم إلى المنظار (التلسكوب)، قد عملوا في حساب قواعد حركات السيّارات و قربها و بعدها و أماكنها و مواضعها في الفلك، و تعيين أماكن الثوابت و السيّارات و صناعة الكرات الفضائيّة و الاسطرلابات و الخرائط الجوّيّة و الأرضيّة، فأوصلوا البحث في هذه العلوم طبق القواعد الرياضيّة الدقيقة و الحسابات الاستدلاليّة و الجبر و المقابلة و المثلثات و قواعد الظلّ و الظلّ تمام و الجيب و الجيب تمام إلى ما لا يتصوّر فوقه.
نبوغ أبي ريحان في الفلكيات و علم النجوم
فلقد كتب أبو ريحان البيرونيّ و كان متخصّصاً في علم الفلك ماهراً فيه حتى لكأنّ السماء في قبضة يده كتاب «قانون المسعوديّ» في ثلاثة أجزاء، و كتاب «في تحقيق ما للهند من مقولة في العقل أو مرذولة»، و هو حاصل أربعين سنة من السفر و التوقّف في الهند، و كتاب «التفهيم في أوائل صناعة التنجيم»، و «الآثار الباقية»، و كتباً و رسائلًا جمّة ذُكرت
أسماؤها في عداد مؤلّفاته، ففاق بألف ضعف الاوروبّيّين الذين شاهدوا و رصدوا مراكز النجوم بالنواظر المكبّرة؛ في جهوده و نتائج فكره البِكر التي قدّمها إلى دنيا العلم و العلماء.
يقول في «نامة دانشوران ناصرى» (=رسالة العلماء الناصريّين):
لقد حاز (البيرونيّ) مقاماً سامياً في أنواع الصناعات و فنون الرياضة و أصناف العلوم، و اتّفق فضلاء العالم و سلّموا على أنّه في مسائل النجوم متفرّد كالشمس، لم ير له نظير، و لم يطرق الأسماع اسماً لصنوٍ له في منزلته أو شبيه، فهو في الحقيقة درّة يتيمة انطوت على الكمالات و الفضائل.۱ و ٢
حتّى يصل إلى القول:
و يتّضح من كتاب «الاستيعاب في صنعة الاسطرلاب» و سائر مؤلّفاته، إنّ ذلك الاستاذ الكامل كما تسلّم تفوّقه في المعقول و المنقول، و اشتهرت مهارته في المحسوسات و المصنوعات، فإنّه وصل في إبداع الصنائع العمليّة إلى حيث تركت مهارته في اختراع طبقات الأفلاك و خرائط النجوم عدّة صفحات بالغ في إيضاحها، حتى كأنّ الألواح الفلكيّة قد اندمجت في صفحات خياله، و الصور الثمان و الأربعين قد ارتسمت في لوح صدره.
و عموماً فقد كان في جودة الذهن و حُسن القريحة لدرجة كان يشرع معها بنفسه بالابتكار في صناعات الخرائط و الآثار الجغرافيّة، و قد ابتدع عدّة قواعد ظلّ الاوروبّيّون يجلّون واضعها كلّما شاهدوها و طالعوها،
كذلك فإنّ أغلب خرائطهم في هذا العصر مبتنية و مرتكزة على الاصول و القوانين التي ابتكرها.۱
كيفيّة تسطيح سطح الكرة الأرضيّة في الخرائط الجغرافيّة المستوية
هي من بنات أفكار و إبداعات ذلك الفاضل المتفرّد، و قد أوجد قوانين و أطلق مسمّيات لبعض المسائل الطريفة و المطالب الدقيقة بحس قريحته و فكره البعيد الثاقب بسبب فقدان الوسائل و نقص الآلات لديه، و يرى مَنْ تأمّلها بعين الإنصاف مدى علميّته و قدر فضله؛ و من بينها الاصول و الضوابط التي أوردها في مطاوي مؤلّفاته في تسطيح الكرة الأرضيّة و رسم الخرائط الجغرافيّة، و بالرغم من أنّ حكماء أُوروبّا قد أوصلوها لتوفّر الأسباب و تهيّؤ الأدوات إلى أعلى درجات الكمال، لكنّهم كلّما سمعوا هذه العبارات و شاهدوا هذه الإشارات كانوا يجلّونه و يعتبرونه لائقاً لكلّ ثناء حسب قاعدة الفَضْلُ لِلْمتَقَدِّمِ.
و لأجل الإيضاح المحض لتلك الرموز، و كشف تلك الكنوز، فسنورد حاصل ما ذكره في «الآثار الباقية» في باب رسم الخرائط الجغرافيّة ... ثمّ يشرع ببيان كيفيّة تسطيح الكرة الأرضيّة الذي أورده في «الآثار الباقية»، و ذلك في ثلاث صفحات كاملة.۱
أبوريحان لم يعتقد بكون الأرض ساكنة
و كان أبو ريحان؛ خلافاً لجميع المتقدّمين القائلين بسكون الأرض حسب هيئة بطليموس؛ ذا قريحة جيّدة في مسألة حركة الأرض، يعلم مَن تأمّل فيها أنّ له في اختيار ذلك المذهب و الطريقة كمال الرغبة، فيقول في كتاب «الاستيعاب في عمل الاسطرلاب الزورقيّ»:
وَ قَدْ رَأَيْتُ لأبِي السَّعِيدِ السَّجْزِيّ اسْطُرْلَاباً مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ بَسِيطٍ، غَيْرَ مُرَكَّبٍ مِنْ شِمَالِيّ وَ جُنُوبِيّ؛ سَمَّاهُ الزَّوْرَقِيّ.
فَاسْتَحْسَنْتُهُ جِدَّاً لِاخْتِرَاعِهِ إيَّاهُ عَلَى أَصْلٍ قَائِمٍ بِذَاتِهِ مُسْتَخْرَجٍ مِمَّا يَعْتَقِدُهُ بَعضُ النَّاسِ مِنْ أنَّ الحَرَكَةَ المَرْئِيَّةَ مِنَ الأرْضِ دُونَ الفَلَكِ.
وَ لَعَمْرِي هُوَ شُبْهَةٌ عَسِرَةُ التَّحْلِيلِ؛ صَعِبَةُ المَحْقِ؛ لَيْسَ لِلْمُعَوِّلِينَ عَلَى الخُطُوطِ المَسَاحِيَّةِ مِنْ نَقْضِهَا شَئٌ. أَعْنِي بِهِمْ المُهَنْدِسِينَ وَ عُلَمَاءَ الهَيْئَةِ.
عَلَى أنَّ الحَرَكَةَ سَوَاءً كَانَتْ لِلأرْضِ أَمْ كَانَتْ لِلسَّمَاءِ؛ فَإنَّهَا في كِلْتَا الحَالَتَيْنِ غَيْرُ قَادِحَةٍ في صِنَاعَاتِهِمْ. بَلْ إنْ أَمْكَنَ نَقْضُ هَذَا الاعْتِقَادِ وَ تحْلِيلُ الشُّبْهَةِ فَذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى الطَّبِيعِيِّينَ مِنَ الفَلَاسِفَةِ.۱
و قد بحث أبو ريحان في مشكلة حركة الأرض أيضاً في كتاب «تحقيق ما للهند».٢
اكتشافات أبي ريحان الجديدة فى المسائل الرياضية و الهيّة
استخراج جيب الدرجة الواحدة:
يعدّ استخراج جيب الدرجة الواحدة من المسائل الرياضيّة الدقيقة التي لم يوفّق العلماء الذين سبقوا أبا ريحان لكشفها؛ و كان أبو ريحان أوّل العلماء الذين وفّقوا لذلك، حيث أورد شرحها في الباب الرابع من المقالة الثالثة في «قانون المسعوديّ» ج ۱، ص ٢٩٢، فقد طرح من عنده ابتداءً اثنتي عشرة مقدّمة، أي إثنتا عشرة قضيّة رياضيّة، و برهن عليها، ثمّ استنتج مقصوده و استنبطه منها.
و كان لإثنين من معاصري أبي ريحان من أعاظم علماء الرياضيّات؛ أحدهما أبو سهل بيزن بن رستم كوهى و الآخر أبو الجود محمّد بن ليث
السمرقنديّ؛ جهود و محاولات في هذا الشأن، لكنّها لم تثمر شيئاً.۱
و هناك مسائل أخرى كان للبيرونيّ نظره الخاصّ فيها قام بنفسه بقياسها وفق الحسابات الرياضيّة الدقيقة و الأرصاد، مثل قياس مساحة محيط الكرة الأرضيّة و قطرها، و مسارات الكواكب، و القاعدة النجوميّة لتسوية البيوت، و الطول و العرض الجغرافيّ، و جهة قِبلة المدن؛ و قاعدة جديدة لاكتشاف جهة القِبلة و بناء محراب المساجد؛ و رصد الميل الكلّيّ و الميل الأعظم؛ و الحركة الخاصّة الوسطيّة للشمس، و حركة أوج الشمس؛ و المقدار الدوريّ لحركة الثوابت؛ و كثير من المسائل الأخرى التي يطول المقام بشرحها واحدة فواحدة،٢ و قد ذكر البيرونيّ هذه المسائل بالتفصيل في «قانون المسعوديّ» و «تحديد نهايات الأماكن» و «الآثار الباقية»، و «كتاب الجماهِر».٣
...۱
الخواجة نصير الدين الطوسى: مدوّن الزيج الإلخانى
و من بين علماء الهيئة و الرياضيّات و النجوم الذي يدين لعلمه و فضله و كماله جميع أصحاب التقاويم و الحسابات من زمنه حتى يومنا هذا، و يشيرون إليه في أغلب الكتب بألقاب: أفضل المتكلّمين، سلطان الحكماء و المحقّقين، استاذ البشر، علّامة البشر، العقل الحادي عشر:
العلّامة الخواجة نصير الدين محمّد بن محمّد بن الحسن الطوسيّ،۱ فإنّه بتأسيس مرصد مراغة، و جمعه علماء الرياضيّات و فضلائها و هيئة العلماء و المتخصّصين من الطراز الأوّل لمدّة ستّ عشرة سنة، فقد قام بترتيب و تدوين الزيج الإيلخانيّ. ثمّ ألّف بعده أحد معاونيه في تنظيم الزيج،٢ اسمه غياث الدين جمشيد الكاشانيّ كتاباً في إكمال الزيج الإيلخانيّ للخواجة الذي ظلّ ناقصاً، و سماه بالزيج الخاقانيّ.
و قد كتب الخواجة في خاتمة عمل الرصد كتاب الزيج الإيلخانيّ
باسم هولاكوخان، و أضاف إليه عدّة جداول لم تكن في الأزياج السابقة، فحاز لهذا السبب اعتباراً أكمل.
و قد ترجم و نشر مؤرّخو أُوروبّا أيضاً؛ حسب النقل المعتبر؛ سنة ألف و ثلاث و ستين للهجرة التي توافق سنة ألف و ستمائة و اثنين و خمسين ميلاديّة في مدينة لندن جدولًا لعرض البلاد و طولها اعتماداً على هذا الزيج الإيلخانيّ.۱ و ٢
...۱
...۱
...۱
و من بين كتب الخواجة نصير الدين الطوسيّ في علم السماء كتاب «التذكرة النصيريّة في الهيئة»، و هو كتاب مختصر إلّا أنّه جامع لمسائل هذا الفنّ، و من الشروح المشهورة على هذا الكتاب شرح الفاضل شمس الدين محمّد بن أحمد الحفريّ أحد تلامذة سعد الدين، و هو شرح ممزوج سمّاه «التكملة»، و فرغ من تأليفه في شهر محرّم الحرام لسنة ٩٣٢ هجريّة.۱
و يعدّ علم الهيئة أيضاً من العلوم التي يجري تدريسها في الحوزات العلميّة، و كان العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه أُستاذاً في هذا الفنّ و قادراً على استخراج التقويم، و قد حضرتُ دورة في علم الهيئة في محضره المبارك.
تقدم المسلمين فى علوم الطب و الصيدلة
وأمّا علم الطبّ و الصيدلة
فيكفي في عظمة تدريسه و تعليمه
و شهرته أنّ الطبّ كان حتى هذه الأواخر منحصراً إمّا حسب طبّ خمسة اليونانيّ، أو حسب طبّ أبي زكريّا الرازيّ؛ و لم ننسَ بعدُ ما كان لدينا من حكماء و أطبّاء متبصّرين، حاذقين، خبيرين و مشهورين في كلّ مدينة و محلّة و شارع، من المشتغلين بمعالجة الأمراض حسب نظام مشخّص و طريقة معيّنة، تبعاً لكتب الأدوية مثل «قرابادين الكبير» و سائر الكتب المتخصّصة في هذا الشأن، و ذلك بالأدوية اليونانيّة، حسب نوع المرض المشخّص، أي بالعقاقير و الأدوية العشبيّة و تعديل المزاج بالمنضج ثمّ المسهل.
الطب القديم، و كتاب «القانون» لابن سينا
و كان كتاب «القانون» لابن سينا، من الكتب المعروفة التي ينبغي مطالعتها في هذا المجال؛ و كان لكلّ أُستاذ مضافاً إلى ذلك طريقته الخاصّة في العلاج و تلامذة خاصّون يقوم بتعليمهم و تدريسهم كتاباً آخر وفق المنهج الذي اختطّه، يُضاف إلى ذلك مجيئه بالتلاميذ من أوّل العمل إلى مطبه و إراءتهم عملًا أنواع و أقسام الأمراض و طرق معالجتها و مقدار الدواء الموصوف لكلّ حالة؛ و قد بقي كتاب «القانون» يدرّس حتى هذه الأواخر لتلامذة الطبّ في أُوروبّا.
فوائد علم الطب القديم، و أضرار الطب الحالى
و لقد تغيّر الاسلوب اليوم، فجعلوا الأدوية عبارة عن موادّ كيميائيّة ذات صيغ و تركيبات خاصّة، و صيروها بشكل أقراص أو حُقَن، لتكون سهلة الحمل و النقل، و للاستفادة منها بالمقادير المعيّنة حسب الحاجة من جهة، و لتكون أدوية جاهزة يمكن إيصالها أفضل و أسرع ليد المريض، و لتكون أكثر انسجاماً مع وضع التقدّم التَّقنيّ الحاكم على الدنيا حاليّاً من جهة ثانية، و ليمكن من جهة ثالثة تجزئة العقاقير للتخلّص من الموادّ المضرّة و السمّيّة الموجودة فيها و الحصول على الدواء الخاصّ المطلوب بتركيب و خلط الموادّ النافعة لعدّة أنواع من الأدوية. و على الرغم من امتلاك
هذه الطريقة للمنافع العديدة، إلّا أنّ لها أضرارها أيضاً.
أوّلًا: لأنّ الأدوية الصناعيّة تفسد و يعروها التلف بسرعة، و ينبغي اتخاذ تدابير خاصّة للمحافظة عليها من التلف لمدّة معيّنة، و تلك التدابير التي تتّخذ للدواء إمّا بواسطة عمل كيميائيّ أو عمل فيزيائيّ لن تبقى بدون تأثير في بدن المريض، حيث يسبّب الترسّب التدريجيّ للموادّ الضارّة وردّ فعل خلايا البدن لورودها سَوْق البدن تدريجيّاً للضعف؛ في حين أنّ الأدوية الطبيعيّة و الأعشاب الطبّيّة خالية من الضرر، و لا يعروها الفساد، و التلف و تبقى مدّة طويلة.
و ثانياً: استعمال زرق الحقّن أي إدخال موادّ خارجيّة دفعةً واحدة في شريان القلب أو العضلة يسبّب إيجاد ردّ فعل سلبيّ، إذ ينبغي لعموم الأغذية و الأدوية أن تدخل البدن من المجاري الطبيعيّة، كالمعدة و الرئة.
و ثالثاً: فإنّ هذه المركّبات هي أدوية توصف لجميع أنحاء العالم، بما فيها من مناطق باردة و حارّة و معتدلة، و لكلّ أنواع الأمزجة و لكلّ الأقوام بصفاتهم و أنواعهم المتباينة، فكما أنّ ملاحظة وضع الماء و الهواء و البيئة الجغرافيّة مؤثّرة في أصل صحّة الإنسان و طبيعته، فهي كذلك مؤثّرة في كيفيّة المعالجة و تعيين نوع الدواء.
و على هذا الأساس يقول ابن سينا في كتاب «القانون»: وَ كُلٌّ يُدَاوَي عَلَى نَبْتِ بَلَدِهِ.
أي ينبغي معالجة كلّ مريض بالأعشاب التي تنمو في بلده، لا بأعشاب بلد آخر.
و هذا الأمر قد جرت رعايته في الطبّ القديم، و كانت الأدوية التي يصفها الحكماء عبارة عن جذور العقاقير أو الأعشاب التي تؤخذ غالباً من نفس البلد أو البلاد المجاورة.
و رابعاً: إنّ تلك الأدوية العشبيّة هي موادّ معلومة و مجرّبة، فهي تؤخذ من النباتات أو الحيوانات المحلّلة كزيت السمك، أمّا الأدوية الكيميائيّة الحاليّة التي تُجلب من بلاد الإفرنج، فلا ضابط و لا قيود هناك في عمليّة انتخابها.
فهم هناك يعدّون الكلب و الخنزير و الضفدع و السرطان البحريّ و الأفعى و السحلية و العقرب و كلّ ما يتصوّره الإنسان محلّلة، فيأكلونه و يستخرجون أدويتهم منه ما صلح لذلك، من زيت سمك محرّم، أو معدّة و كبد خنزير، و من غدّة بنكرياس كثير من الحيوانات المحرّمة، أو حتى من عصارة فضلات الكلب.۱
فحقن التستوفيرون (Testowiron) التي يصفونها لبعض أنواع الضعف الجنسيّ يستخرجونها من خصية القرد، لذا تكون غالية القيمة، كذلك فهم يعدّون الكحول و الخمر حلالًا، و يعدّونه في الصيدلة كأحد الموادّ الرئيسيّة. أمّا الشرع الإسلاميّ المقدّس، فحين يعتبر هذه الموادّ حراماً، فليس ذلك فقط للأمر التعبّديّ، بل للأضرار الجسميّة و الروحيّة التي تنطوي عليها أيضاً. لذا نشاهد أنّ هذا النوع من المعالجات بالموادّ الكيميائيّة و تركيبات الموادّ الصناعيّة غير الطبيعيّة تخفِّض بشكل عامّ معدّل العمر الطبيعيّ للإنسان؛ أي أنّ تناول هذه الموادّ ينطوي على إدخال سموم و موادّ ضارّة إلى البدن، بالرغم من عدم تسبيبها للموت السريع الآنيّ دفعةً واحدة، إلّا أنّها تسبّب نوعاً من الموت البطيء التدريجيّ؛ و يقال إنّ هذا النوع من الأدوية و المعالجات يخفِّض معدّل الأعمار الطبيعيّة بما يقرب من عشر سنوات.
يقول الدكتور الكسيس كارل: و يجب من جهة أخرى أن نسأل أنفسنا: ألا يسبّب انخفاض إصابات الأطفال و الشباب و وفيّاتهم إشكالًا جديداً؟ فالأطفال العاجزين و المعوّقين تجري حمايتهم في المدينة الحديثة فلا يجري انتخاب الأصلح كما كان يحصل في السابق. و إنّ أحداً لا يعلم أين سيؤول مستقبل نسل تجري حماية موجوداته العليلة و الناقصة بواسطة الموازين الطبّيّة و الصحّيّة.
لكنّنا نواجه أمامنا مسألة معضلة أخرى يجب أن نجد لها حلّا سريعاً:
ففي الوقت الذي تزول فيه شيئاً فشيئاً أمراض الالتهابات كالجدري و الحصبة و الخناق و السلّ و الطاعون و الإسهال المعديّ للأطفال و غير ذلك من الأمراض، ممّا يقلّل من ميزان الخسارة في الأطفال، فإنّنا نلاحظ في المقابل أنّ عدد المصابين بالأمراض النفسيّة يزداد يوماً بعد آخر.
ففي بعض المناطق يزيد عدد المرضى المجانين في مستشفيات الأمراض العقليّة حتى على عدد جميع المرضى الآخرين الذين تجري معالجتهم. و مضافاً إلى ذلك فإنّه ينبغي الاهتمام بمسألة زيادة الاختلالات و الأعراض العصبيّة، التي هي بنفسها أحد الأسباب الرئيسيّة لكآبة الأفراد و تشتّت العائلات، و التي تمثّل خطراً على مستقبل البشريّة و المدنيّة أهمّ بكثير من أمراض الالتهابات التي يخصّص الطبّ الحاليّ كلّ هذا الوقت و الجهد لدراستها و مكافحتها.۱
و الأمر اليوم شبيه أيضاً بالقرن السابق، فالرجل الذي عمره (٤٥) سنة لا يمتلك الأمل الكبير في أن يصل إلى سنّ ال (۸۰) سنة، و مع أنّ متوسّط عمر الأفراد قد زاد بكثير على السابق إلّا أنّه يحتمل أن تكون الأعمار قد قصرت.٢
و تبعاً لهذا الأمر فإنّ الكثير من العلماء و الأجلاء يتأسّفون لاندثار الطبّ اليونانيّ، فليس لدينا حاليّاً من أُولئك الاطبّاء في إيران إلّا واحد أو
اثنان،۱ و سيضيع بذهابهم تعليم هذا النوع من الطبّ و تتشتّت علومه، فقد آل أمر هذه الطبابة بيد العطّارين و باعة الأعشاب الذين لا شأن لهم بالطبابة و لا مهارة لديهم، و لا تعود مراجعتهم على المريض المبتلى إلّا بالأذى و الخطر.
و يقال: إنّ هناك بعض الأطبّاء في ألمانيا يقومون بمعالجة المرضى حسب نهج الطبّ اليونانيّ فقط، و إنّ لهم صيدليّات خاصّة تباع فيها الأدوية التقليديّة القديمة و العقاقير، و تصرف فيها و صفاتهم الطبّيّة، فيضع أصحاب هذه الصيدليّات لافتات في واجهتها كُتب فيها:Herbalist Medcine Shop .
لكنّ الأمر يختلف في أمريكا، فهناك توجد دكاكين تباع فيها الموادّ الغذائيّة الصحّيّة فقط، مثل ال «آب نبات»٢ و الأعشاب و العقاقير و الأقراص و الأدوية التي لايحتاج استعمالها إلى و صفة طبيب، و تعلو واجهاتها لافتات: (محل الموادّ الغذائيّة الصحّيّة)Health Food Shop ٣
و نحن الآن بانتظار ظهور طبابة و أطبّاء بهذه الكيفيّة، يمتلكون
التخصّص و المهارة في ذلك الفنّ، مضافاً إلى المزايا الإيجابيّة النافعة للطبّ العصريّ، كالعمليّات الجراحيّة و غيرها.
و يقال إنّ الطبّ الحديث يقوم على ثلاثة أركان: ابن سينا، العمليّات الجراحيّة، الترياق.
و مع امتلاكنا بحمد الله و منه هذه الأركان الثلاثة، فإنّ بإمكاننا تأسيس دراسة الطبّ العالي الذي يمتلك ميزات الطبّ الحديث و يفتقد أضراره، ليمكن معالجة المرضى بالنحو الأحسن أوّلًا، و ليتمّ تخصّص الأطبّاء و نيلهم المهارة بشكل أفضل ثانياً.
آثار الأجهزه الطبّيّة الحديثة فى انخفاض مهارة الطبيب
و من أضرار الطبّ الحالي هو عدم تنميته لمهارة الأطبّاء الذين يقوم بتخريجهم؛ إذ لم يدع استعمال ميزان الحرارة (Thermometer) مجالًا للطبيب لأخذ نبض المريض و معرفة كيفيّة ضرباته التي كان الطبّ القديم يقسّمها إلى (٣٢) نوعاً من الضربات، يشخّص الأطبّاء من كيفيّة كلّ نوع من الضربات مرضاً خاصّاً في المريض المبتلى.
و وصل الأمر إلى الحدّ الذي تمّ أخيراً اختراع جهاز يمكن بواسطته تشخيص الغدّة الواقعة في الرأس فوراً و تعيين محلّها، فيقوم معاونو الطبيب بهذا العمل قبل معاينة الطبيب، فيقدّمون المريض إلى الطبيب و بمعيّته وصف للغدّة و كيفيّتها. و بالرغم من مزيّة هذا العمل إلّا أنّ قوّة الابتكار و البحث و كيفيّة تشخيص الغدّة و العثور عليها من الطرق المتعدّدة التي يسلكها الأطبّاء عادةً لذلك، ستنتفي بهذا العمل. و خلاصة الأمر أنّه كلّما اتّسعت دائرة اختراع و اكتشاف مثل هذه الأجهزة و الوسائل لتشخيص الأمراض، هبط معها بنسبة معكوسة قابليّة الأطبّاء و مهارتهم، و هذا الأمر بنفسه من الآفات التي تواجه الطبّ الحديث، لأنّه لا يربي أطبّاء حاذقين متمرّسين في تشخيص الأمراض، بل يجعل الأطبّاء أشبه بالمأمورين في
ماكنة فيزيائيّة أو محرّك كهربائيّ لاستبدال المسامير اللولبيّة (البراغي) و الصامولات.
كانت هذه هي الإجابة على الإشكال الثاني لمقولة صاحب المقالة، بسطنا القول فيها مجبرين لتتّضح أطرافها و جوانبها، من أجل بيان عظمة علم الحكمة و الفلسفة الإسلاميّة أوّلًا، و البرهنة على حقارة الفلسفة الحديثة بما فيها من إلهيّاتها و طبيعيّاتها أمام تلك الفلسفة ثانياً.
الإشكَال الثَّالِث: أساس الحوزات العلميّة قائمٌ على القرآن و العرفان
و كان الإشكال الثالث هو: إظهار المؤلّف الأسف لعدم تدريس الدروس الحديثة و العلوم التجريبيّة في الحوزات العلميّة، و عدم وجود تخصّص لدى الطلبة و الفقهاء و الفضلاء في علوم الطبيعة و العلوم البشريّة الحديثة كما ينبغي.
و نورد هنا نصّ مقولته لتّتضح جوانب الإشكال فيها جيّداً:
لا يتكوّن أيّ فهم دينيّ بمعزل عن نظرة كونيّة دينيّة و مستقلّة مُسبقة، و لا يبقى أيّ فهم دينيّ أيضاً على وضعه السابق عند تغيّر تلك النظرة الكونيّة، لذا فإن أعطت فتوى العرب رائحة العرب، و أعطت فتوى العجم رائحة العجم، فلا عجب في ذلك.
و معنى هذا الكلام أنّه بدون الاجتهاد في الاصول (و بالمعنى الأعمّ في علم الكلام و معرفة العالم و ...) فإنّ الاجتهاد في الفروع لن يكون متيسّراً أو ناجحاً و مفيداً. فالإنسان لا يمكنه النظر (و لا ينظر) في الدين بدون أن يكون له مبنى و فلسفة نظريّة، و لن يعود النظر بنفع بدون تنقيح للمنظر؛ و ما لم يُفتح باب التحوّل و التغيّر في المبادئ، فستبقى المسائل في منأى عن التغيير.
و لهذه الجهة فإنّ الإعراض، بل الجفاء الذي أولته و توليه حوزاتنا الدينيّة العلميّة للعلوم و المعارف الجديدة مثير للأسف و ليس له أبداً ما يبرّره، بحيث يتّخذ الدفاع معه عن الدين لون الدفاع عن النظرة الكونيّة و العلوم الإنسانيّة القديمة.
لكأنّ الدين لا ينمو و لا يبقى في غير تلك الجغرافية المعيّنة،
فلا وزن لعلم التأريخ (و هو المدخل، بل الأساس لدراسة العلوم
الإنسانيّة) ليتّخذ مقام الصدارة، و لا شيء هناك من علم الطبيعة و العلوم
الإنسانيّة و علم الاجتماع و علوم المعرفة الحديثة، بل لا زالوا يدرسون
حتّى يومنا هذا علم الأخلاق المعتمد على علم النفس القديم.۱
و يلزم قبل الإجابة عليه أن نورد نصّ كلام أُستاذنا الأكرم العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه، الذي أورده في كتابه النفيس «قرآن در اسلام» (=القرآن في الإسلام)، ثمّ نشرع في البحث:
القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي يساوي بين الحياة الإنسانيّة السعيدة و الحياة الفطريّة النزيهة أوّلًا، و هو بعكس جميع المناهج يجمع بين البرنامج الدينيّ و برنامج الحياة ثانياً؛ فله رأيه الخاصّ في جميع شؤون الفرد و المجتمع، و يصدر تعاليمه بما ينسجم مع النظرة الواقعيّة (معرفة الله تعالى النظرة الكونيّة)، و في الحقيقة فإنّه يودع الأفراد بيدِ العالم، و العالم بيد الأفراد، و يودعهما معاً بيد الله سبحانه.٢
و نشرع الآن في جوابه و الردّ عليه بالتفصيل:
ينبغي العلم أوّلًا: ما هو المراد من العلم الذي جرى التأكيد و الترغيب على تعلّمه في الإسلام و القرآن و الروايات المستفيضة، بل المتواترة في سنّة رسول الله و أئمّة الهدى عليهم صلوات الله؟
و ثانياً: على أيّ أساس من أُسس التعليم و التربية وُضعت رسالة الحوزات العلميّة الدينيّة و واجباتها؟
و ثالثاً: ما هو الهدف الغائيّ لمثل هذه الحوزات؟ و ما هي المزايا
و الخصوصيّات التي ينبغي توفّرها في الأفراد الذين يتخرّجون منها؟
و بعبارة أخرى: ما هو انتظار و توقّع القرآن، و رسول الله، و إمام الزمان عجّل الله فرجه الشريف، و المسلمين الذين يدفعون بعرق الجبين و كدّ اليمين نفقات الحوزة من مصارف سهم الإمام؟۱
ما هو العلم الذى أوصى الإسلام باكتسابه؟
أمّا البحث عن المسألة الأوّلى و هي المراد من العلم الذي عُدّ من أهمّ الفرائض، و الذي أكّد عليه رسول الله إلى ذلك الحدّ، فقال لربيبه الوحيد و وصيّه بلا فصل و خليفته في الأرض: يَا عَلِيّ! إذَا رَ أيْتَ النَّاسَ يَتَقَرَّبُونَ إلَى خَالِقِهمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ، تَقَرَّبْ إلَيْهِ بِأنْوَاعِ العَقْلِ تَسْبِقْهُمْ!٢
هل المراد منه العلوم الحديثة: كالفيزياء و الكيمياء و الطبيعيّات و الرياضيّات و الطبّ و الطبّ البيطريّ و الزراعة و تربية الدواجن، أم المراد
منه علم خاصّ حثّ عليه و أكّد على تعلّمه؟
وجوب تحصيل العلوم الأهم و ترك العلوم المهمّة لضرورات ضيق
ممّا لا ريب فيه أنّ دائرة العلوم قد اتّسعت إلى حدّ كبير وهائل، و أنّ فرصة تعلّمها و اكتسابها من قِبل الإنسان ضئيلة و محدودة جدّاً؛ فلو صرف الإنسان جميع عمره في اكتساب فنٍّ واحد، للدرجة التي يطّلع فيها عليه تحقيقا و يصبح أُستاذاً أخصّائيّاً فيه، فلا ضامن له في وصوله للإحاطة التامّة بجميع أطرافه و جوانبه و دقائقه، فضلًا عن أن يحاول التخصّص في فنّين أو أكثر.
لذا فإنّ على الإنسان أن يوازن بين مدّة عمره الصالحة للتعلّم، و بين احتياجه من ذلك العلم النافع الذي يرغب في اكتسابه، فيصرف الساعات و الأيّام في تعلّمه ليحصل على الغاية التي يتوخّاها.۱
أمّا لو جدّ الإنسان و اجتهد، فاكتسب بالمشاقّ و المتاعب و السهر العلومَ المختلفة التي لا تنفعه، فلن يكون نصيبه إلّا الوبال و الخسران و الندم، فتكون حاله كمن قضى العمر ببناء البيوت و العمارات الكثيرة على أمل أن يُعمَّر، و كلما فرغ من عمارة لم يستفد منها و لم يسكن فيها، بل تدفعه شدّة الأمل و الحرص إلى بناء بناية أخرى، حتى يأتيه الموت فجأة فيخطفه، لَا مَالًا حَمَلَ وَ لَا بِنَاءً نَقَلَ.٢
مَا حَوَى العِلْمَ جَمِيعاً أَحَدٌ | *** | لَا وَ لَوْ مَارَسَهُ أَلْفَ سَنَة |
إنَّمَا العِلْمُ بَعِيداً غَوْرُهُ | *** | فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَه |
و هكذا هو شأن هذا الرجل الذي تعلّم العلم لكنّه رحل عن الدنيا و لم يجن إلّا الضرر و الخسران، فلقد أضاع بإرادته و اختياره عمره الشريف الذي يعدّ أثمن رأسمال له، و خسر حياته الحاضرة بلا عوض، و كان في هذا الدنيا التي تعدّ محلّ اكتساب العلم النافع و تحصيل العقل الكامل و التجرّد الخالص مسربلًا بمسكنة العلم، صفر اليدين من الكمالات النفسيّة، حتى رُحّل عنها حائراً ذليلًا، و سيق إلى سرادق النور بأعين عمياء و آذان صمّاء.
لاخَيْرٍ في عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ
و لذلك كان خاتم الرسل، النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يستعيذ بالله من علومٍ غير نافعة كهذه، فيدعو ربّه و يسأل حاجته من ساحة قُدسه: اللَهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ.۱
و قد أشار معجزة رسول الله الباقية (القرآن الكريم) إلى هذه النكتة الدقيقة و نبّهنا إليها، حيث يقول:
{فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ}.۱
و يقول سيّد الوصيّين أمير المؤمنين عليهالسلام:
العِلْمُ كَثِيرٌ فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ.٢
و يقول أيضاً في وصيّته للإمام الحسن عليهالسلام:
فَإنَّ خَيْرَ القَوْلِ مَا نَفَعَ. وَ اعْلَمْ أَنَّهُ لَا خَيْرَ في عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ؛ وَ لَا يُنْتَفَعُ بِعِلْمٍ لَا يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ.٣
و للراغب الأصفهانيّ كلام في هذا المقام يستحقّ المدح، فهو يقول:
مَن كان قصده الوصول إلى جوار الله و التوجّه نحوه، كما قال تعالى:
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}؛۱ و كما أشار إليه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم بقوله: سَافِرُوا تَغْنَمُوا؛ فحقّه أن يجعل أنواع العلوم كزادٍ موضوع في منازل السفر، فيتناول من كلّ منزل قدر البُلغة، و لا يعرج على تفصّيه و استغراق ما فيه، فإنّه لو قضى الإنسان جميع عمره في فنّ واحد لم يدرك قعره و لم يسبر غوره.٢
و يقول كذلك: العِلْمُ أَكْثَرُ مِنْ أنْ يُحْوَى، فَخُذُوا مِنْ كُلِّ شَيءٍ أَحْسَنَهُ!٣
وَ قِيلَ: حَلِّ طَبْعَكَ بِالعُيُونِ وَ القَفْرِ؛ فَالشَّجَرَةُ لَا يَشِينُهَا قِلَّةُ الحَمْلِ إذَا كَانَتْ ثَمَرَتُهَا نَافِعَةً.٤
وَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: العِلْمُ كَثِيرٌ فَارْعَوْا أَحْسَنَهُ؛ أَمَا سَمِعْتُمْ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: {فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ؟}٥
قَالَ الشَّاعِرُ:
قَالُوا: خُذِ العَيْنَ مِنْ كُلٍّ فَقُلْتُ لَهُمْ | *** | في العَيْنِ فَضْلٌ وَ لَكِنَّ نَاظِرَ العَيْنِ أَفْضَلُ۱ |
و قيل كذلك: قِيلَ: ازْدِحَامُ العِلْمِ في السَّمْعِ مَضَلَّةٌ لِلْفَهْمِ.
وَ قِيلَ: إذَا رَأَيْتُمْ رَجُلًا يُرِيدُ تَعَلُّمَ أَنْوَاعِ العُلُومِ فَدَاوُوهُ.٢
وَ قِيلَ: مَنْ رَامَ أنْ يَنْتَحِلَ فُنُونَ العِلْمِ اسْتَخَفَّ بِنَحِيزَتِهِ وَ وَقَفَ النَّاسَ عَلَى غَمِيزَتِهِ؛ قَالَ الشَّاعِرُ:
تَعَلَّمْتَ حتى مِنْ كِلَابٍ عَواءَهَا | *** | لَعَمْرِي لَقَدْ أسْرَفْتَ في طَلَبِ العِلْمِ٣ |
و من العجب أنّ نفس هذا المطلب قد نقل عن أينشتين، و ليس معلوماً أكان ذلك مجرّد توارد خواطر، أم أنّ أينشتين قد نقل عن كتاب الراغب؟
يقول أينشتين: إنّ الإفراط في القراءة يسلب قوّة الابتكار من العقل بعد بلوغ سنّ معيّنة؛ فمن أفرط في القراءة و أقلّ من اعتماده على فكره،
فإنّ فكره سيصاب بالخمول و العجز.۱
و قد أورد ابن أبي الحديد في آخر «شرح نهج البلاغة» كلمات قصاراً لأمير المؤمنين عليه السلام غير تلك التي في «النهج»، من جملتها:
٦۰ - العُمْرُ أَقْصَرُ مِنْ أنْ تَعَلَّمَ كُلَّ مَا يَحْسُنُ بِكَ عِلْمُهُ: فَتَعَلَّمِ الأهَمَّ فَالأهَمَّ.٢
و نلحظ أنّ الإمام عليهالسلام ينبّه على مطلب أسمى و أدقّ، و هو أنّ على الإنسان أن لا يضنّ و يبخل بعمره عن إهداره في اكتساب العلوم غير النافعة فحسب، بل عليه أيضاً مراعاة الأهمّيّة في سعيه لاكتساب العلوم المقبولة النافعة، فيقدّم الأهمّ على المهمّ حسب الأولويّة.
أي أن يقلّل الاشتغال بالامور الدنيويّة ليحصل على حصّة و سهم أكبر لتحصيل العلوم الاخرويّة و المعنويّة و الروحيّة.
و قد حكي في «سفينة البحار» مقولة بديعة عن بعض الأفاضل:
قال الله تعالى: {ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.
وَ الفِكْرَةُ مَتَى تَوَزَّعَتْ تَكُونُ كَجَدْوَلٍ تَفَرَّقَ مَاؤُهُ. فيَنْشَفُهُ الجَوُّ وَ تَشْرَبُهُ الأرْضُ فَلَا يَقَعُ بِهِ نَفْعٌ، وَ إذَا جُمِعَ بَلَغَ بِهِ المَزْرَعُ فَانْتَفَعَ بِهِ.٣
و علينا الآن أن نرى أيّ علم نافع من هذه العلوم رُغبّ في اكتسابه، و شُجّع على تعلّمه من قبل الشارع الأكرم فعدّ من أهمها؟ أيّ علم قال عنه
رسول الله: اطْلُبُوا العِلمَ مِنَ المَهْدِ إلَى اللَّحَدِ.۱
ذاك الذي قال عنه رسول الله: اطْلُبُوا العِلْمَ وَ لَوْ بِالصِّينِ.٢
و فرضَ طلبه على الناس بقوله: طَلَبُ العِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ.٣
المراد من العلم النافع، و العلم الذى يرغب به الشارع
روى محمّد بن يعقوب الكلينيّ عن محمّد بن الحسن و عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن محمّد بن عيسى، عن عُبيد الله بن عبد الله الدهقان، عن دُرُسْت الواسطيّ، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن أبي الحسن موسى الكاظم عليهالسلام أنّه قال:
دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ [وَ آلِهِ] وَ سَلَّمَ المَسْجِدَ؛ فَإذَا جَمَاعَةٌ قَدْ أَطَافُوا بِرَجُلٍ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقِيلَ: عَلَّامَةٌ. فَقَالَ: وَ مَا العَلَّامةُ؟!
فَقَالُوا لَهُ: أَعْلَمُ النَّاسِ بِأَنْسَابِ العَرَبِ وَ وَقَائِعِهَا، وَ أَيَّامِ الجَاهِلِيَّةِ
وَ الأشْعَارِ العَرَبيَّةِ.
قَالَ: فَقَالَ النَّبيّ صلّى الله عَليهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ: ذَاكَ عِلْمٌ لَا يَضُرُّ مَنْ جَهِلَهُ، وَ لَا يَنْفَعُ مَنْ عَلِمَهُ.
ثُمَّ قَالَ النَّبيّ صلّى الله عَليهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ: إنَّمَا العِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ، أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ؛ وَ مَا خَلَاهنَّ فَهُوَ فَضْلٌ.۱
و يقول المجلسيّ رضوان الله عليه في «مرآة العقول» في شرح هذا الحديث: قوله صلّى الله عليه و آله مَا هَذَا؟. و لم يقل: مَنْ هَذَا تحقيراً أو إهانةً أو تأديباً له.
و قوله صلّى الله عليه وآله: وَ مَا العَلَامَةُ؟ أي ما حقيقة علمه الذي به اتّصف بكونه علّامة؟ و هو أيّ نوع من أنواع العلّامة؟ و التنوّع باعتبار أنواع صفة العلم، و الحاصل: ما معنى العلّامة الذي قُلتم و أطلقتم عليه؟
ثمّ يشرع المجلسيّ في شرح معنى هذه الامور الثلاثة، و يقول في حاصلها: ... أو أنّ المراد بالآية المحكمة البراهين العقليّة المستنبطة من القرآن على أُصول الدين، فإنها محكمة لا تزول بالشكوك و الشبهات؛
و بالفريضة ساير الأحكام الواجبة، و بالسنّة الأحكام المستحبّة، سواء أخذنا من القرآن أو من غيره، لأنّها محكمة تقابل المتشابه؛ و يقال للآية محكمة إذا كانت واضحة الدلالة على المراد و لا تحتاج في دلالتها إلى تأويل، فالعقائد و الاصول التي تتّصف بهذه الصفة تكون محكمة و راسخة؛ و أمّا العلّة في وصف الفريضة بالعادلة، لأنّها أُخذت من الكتاب و السُّنّة بلا إفراط و لا تفريط.۱
فالمراد من هذه العبارات هو العلم بعقائد الدين و أُصوله الحاصلة باليقين، و العلم بالواجبات و الفرائض، و العلم بالمستحبّات، و ما خلا هذه العلوم الثلاثة ففضل و زيادة لا حاجة إليها.
اشرف العلوم و افضلها، علم معرفة الله تعالى
فالعلم بأُصول الدين و التوحيد و المعارف الإلهيّة يوجب حياة النفس الإنسانيّة، و العلم بالواجبات و المستحبّات بما فيها من العبادات و المعاملات و الإيقاعات و الأحكام و السياسات يوجب العمل الصحيح لإيصال الإنسان للمعارف الحقيقيّة، و هو أمر ضروريّ لكلّ بشر.
أمّا أصناف العلوم التي ينبغي ألّا نعدّها علوماً فهي الفنون التي دعتها الرواية فضلًا و زيادة، لا فضيلةً، إذ الفضيلة تتضمّن قدراً من الكمال.
و هذا العلم الواجب هو الذي اعتبره القرآن الكريم الغاية من خلق السماوات السبع و الأرضين السبع و تنزل أمر الله بينهنّ: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً}.۱
و هو العلم النافع الذي عدّه أمير المؤمنين عليهالسلام في خطبة همّام من جملة صفات المتّقين: و وقفوا أسماعهم على العلم النافع لهم.٢
و يستنتج ممّا قيل أنّ أشرف العلوم هو علم بناء الإنسان. وَ قَدِ اتَّفَقَ العُلَمَاءُ أنَّ شَرَفَ كُلِّ عِلْم بِشَرَفِ المعْلُومِ. وَكلُّ عِلْمٍ يَكُونُ مَعْلُومُهُ أَشْرَفُ
المَعْلُومَاتِ يَكُونُ ذَلِكَ العِلْمُ أَشْرَفَ العُلُومِ. فَأَشْرَفُ العُلُومِ العِلْمُ الإلَهِيّ لأنّهُ مَعْلُومَهُ وَ هُوَ اللهُ أَشْرَفُ المَوْجُودَاتِ.
يقول الخواجه شمس الدين محمّد حافظ الشيرازيّ:
اى دل به هرزه، دانش و عمرت به باد رفت | *** | صد مايه داشتى و نكردى كفايتى۱ |
و يقول الخواجة الحكيم ميرفندرسكي في قصيدته الحكميّة المعروفة:
هر چه بيرون است از ذاتت نيايد سودمند | *** | خويش را كن ساز اگر امروز اگر فرداستي٢ |
و ما أبدع بيان الحكيم السنائيّ حين يقول:
اى هواهاى تو هوى أنگيز | *** | وى خدايان تو خدا آزار٣ |
ره رها كردهاى از آنى گم | *** | عزّ ندانستهاى از آنى خوار |
علم كز تو تورا نه بستاند | *** | جهل از آن علم به بود صد بار |
غول باشد نه عالم آنكه ازو | *** | بشنوى گفت و نشنوى كردار |
دِه بود آن نه دِل كه اندر وى | *** | گاو و خر باشد و ضياع و عقار |
كى در آيد فرشته تا نكنى | *** | سگ ز در دور و صورت از ديوار؟ |
أفسرى كان نه دين نهد بر سر | *** | خواهَش أفسر شمار و خواه أفسار |
قائد و سائقِ صراط الله | *** | به ز قرآن مدان و به ز أخبار۱ |
و كم هو جميل و وافٍ و متسامٍ شعر العارف الروميّ الملّا جلال الدين البلخيّ حيث يقول:
او ز حيوانها فزونتر جان كند | *** | در جهان باريك كاريها كند |
مكر و تلبيسى كه او تاند تنيد | *** | آن ز حيوان دگر نايد پديد |
جامههاى زركشى را بافتن | *** | دُرّها از قعر دريا يافتن |
خرده كاريهاى علم هندسه | *** | يا نجوم و علم و طبّ و فلسفه |
كان تعلّق با همين دنييستش | *** | ره به هفتم آسمان بر نيستش |
اين همه علم بناى آخور است | *** | كه عِمادِ بود گاو و اشتر است |
بهر استبقاى حيوان چند روز | *** | نام آن كردند اين گيجان رموز۱ |
علم راه حقّ و علم منزلش | *** | صاحب دل داند آن را با دلش۱ |
فالعلوم الطبيعيّة و المعارف التجريبيّة تعُدّ لهذا السبب جزءاً من العلوم الدنيويّة لا العلوم الإنسانيّة، إذ ليس من شأنها صياغة الإنسان بالرغم من كون بعضها مفيداً للبشر، لأنّ هذه الفائدة تنحصر في بدنه و طبيعته، شأنها شأن العلوم التي تمتلكها الحيوانات فتستفيد منها لإدامة حياتها. فكلّ حيوان يعلم ماذا ينبغي أن يأكل، و ماذا ينبغي له أن يصطاد، و كيف يتوارى عن أعدائه، و كيف يتناسل للحفاظ على بقاء نوعه.
فهذه العلوم ليست علوماً عقليّة، بل هي علوم حسّيّة مدبّرها القوى الخياليّة الموجودة في جميع الحيوانات. و الإنسان الذي ينحصر همّه وسعيه في الحصول على العلاقات المادّيّة و حلّ المسائل الرياضيّة و التحقيق المعمّق في الفيزياء و الكيمياء و الفيزياء الكيميائيّة و علوم الحياة و الاجتماع و الطبّ، من أجل تأمين صحّته و المحافظة على سلامة بدنه، فيجول لأجلها البلدان و يطوي القارّات، و يذهب إلى الجامعات فيستفيد من علومها و مكتباتها؛ إنّما يسعى وراء العلوم الخياليّة التي تشاركه الحيوانات في امتلاكها؛ و إنّ تغيير مستوى هذه العلوم لدى الإنسان لن يغيّر حقيقته و لن يميّزه عن صفّ الحيوانات.٢
و باعتبار أنّ هدف و غاية هذه العلوم ليس كمال الإنسان و نفسه الناطقة، فيمكن تسميتها جميعاً بعلوم البطن و المعلف،۱ كما صرّح ذلك مولانا في الأبيات السابقة؛ و يقول كذلك:
علمهاى أهل حس شد پوزبند | *** | تا نگيرد شير ز آن علم بلند٢ |
و قد أثار الإعجاب حقّاً في هذا البيت لما فيه من حسن بيان و طراوة
و جزالة معنى، فأعطى الموضوع حقّه بشكل رائع.
يقول: كما أنّهم يضعون على فم العجل و صغار الأغنام كمّامة تمنعها رضاع أُمّهاتها، فإنّ العلوم التي يكتسبها الناس لأجل الدنيا، و التي لا أثر لها في تكامل ورقيّ أنفسهم، و لا في تحرير البشر من رقّ عبوديّة المادّة و الطبيعة، و سَوقه إلى العالم الواسع الفسيح للتجرّد و التقرّب و عرفان المعبود، هي كذلك كمّامات وضعت على الأفكار و الآراء و العقول لتحدها و تمنعها و تكبحها عن الانطلاق و الاستفادة من المعارف الحقيقيّة و العلوم السرمديّة، و ارتضاع ماء الحياة المعنويّة و لبن العلوم الحقيقيّة، و تصدّها عن الانكباب حتى الارتواء على ثدي علوم العالم العلويّ التي تتكفّل ببناء الإنسان و تربية البشريّة.
التوسّع فى العلوم التجريبيّة بدون الارتباط بالله فى ضرر البشرية
و حريّ هنا ذرف الدموع على الحظّ التعس لأمثال لافوازيه و نيوتن و أينشتين و من جاراهم، و على جميع أتباع مدرسته و مادحيه؛ البكاء عليهم فيم صرفوا أعمارهم و أهدروها، و أيّ نفع من الإنسانيّة اكتسبوه؟
و مضافاً إلى ذلك فلم يقدّر لهذه الاكتشافات أن تعود على الإنسانيّة بنفع، بل كانت سبباً لإيقاع الضرر بها؛ فلم ينسَ أهالي طهران بعد تلك الأصوات المهيبة المفزعة، و الخرائب و الحرائق و اهتزاز الأرض تحت أقدامهم لأكثر من شهر جرّاء الصواريخ التي صبّها عليهم النظام العراقيّ، و التي بلغ عددها المائتي صاروخ!!
فما الذي مثّلته هذه الصواريخ غير قانون لافوازيه و القانون الأوّل الثرموديناميكيّ، و الحسابات الدقيقة لجاذبيّة نيوتن، و تصحيح نسبيّة أينشتين؟
لقد أظهر أينشتين أسفه على ما اخترعه في آخر سنيّ حياته في المؤتمر الذي كُرّس لتعظيمه في أمريكا، و قال: لم يكن ليخطر ببالي
أ نّ الدول الظالمة ستسيء الاستفادة من هذا الاكتشاف إلى هذا الحدّ، فيستخدمون من فلق الذرّة في الصواريخ العابرة للقارّات و يسحقون بها المرأة و الطفل و الرجل العجوز، فيدفنونهم تحت أطنان الأنقاض، و يجعلونهم طعمة للحرائق.
لقد كانت هذه النتائج السيّئة هى الأشياء التي تحقّقت في حياته، ناهيك عمّا تحقّق بعد وفاته.۱
باش تا صبح دولتت بدمد | *** | كاين هنوز از نتايج سحر است٢ |
كارل: رجال العلم يجهلون ابتداءً ما ستؤول اليه ابحاثهم
و نرى من المناسب أن نورد مطلباً نقلًا عن الدكتور كارِل، هذا الرجل الأجنبيّ المسيحيّ الملتزم الذي لازم الصواب في الكثير من المطالب، فهو يرى رأى العين أنّ هذه المدنيّة العجيبة لم تقدّم من هديّة للمجتمع البشريّ إلَّا المتاعب و المشكلات و إهدار الطاقات الإنسانيّة؛ يقول:
لو كان غاليلو٣، و نيوتن٤، و لافوازية٥، قد صرفوا قواهم الفكريّة في المطالعة بشأن بدن الإنسان و روحه، فلربّما اختلفت دنيانا اليوم عن أمسها.
يجهل رجال العلم و أتباع طريق الفكر ما ستؤول اليه أبحاثهم ابتداءً، و ما هي النتائج التي سيحصلون عليها، و ما يسوقهم في مسيرتهم هو الصدفة و التعقّل و بعض وضوح البصيرة.
لكأنّ كلًّا منهم له عالمه الخاصّ الذي يُدار بقوانينه الخاصّة، فهم يرون أحياناً بوضوح المسائل التي تبدو لغيرهم غامضة عويصة.
و عموماً فقد جاءت اكتشافاتهم دون أيّ تصوّر مسبق لعواقبها و نتائجها، و لكنّ النتائج هي التي عكست صورتها عمليّاً على المدنيّة الحديثة.
لقد اخترنا و انتقينا من بين الاكتشافات العلميّة الكثيرة، لكنّنا لم نُعنَ في اختيارنا أو نلحظ المصالح السامية للإنسانيّة، بل تبعنا فقط منحدر رغباتنا و هوسنا، و كان همنا الدائميّ الربح الأوفر بالجهد الأقلّ و السرعة في العمل و تلوّن الحياة و تنوّعها.۱
نعم. كانت هذه المطالب في شأن العلم و حقيقته، و الفرق بين العلم و الفنّ، و بين العلوم الحقيقيّة و التصوّرات الحسّيّة و الوهميّة و الخياليّة؛ و عظمة العلم الحقّيقيّ و حقارة العلوم و التصوّرات الحسّيّة و الوهميّة و الخياليّة. و قيمة الإسلام و القرآن في العلوم الأصيلة لا العلوم الحسّيّة و الخياليّة.
علّة تشكيل الحوزات العلميّة: الوصول للأهداف القرآنية السامية
و أمّا المطلب الثاني، و هو الأساس الذي شكّلت عليه الحوزات العلميّة الدينيّة، فالمقصود بالحوزة العلميّة: الدراسة العلميّة و العمليّة للقرآن الكريم، و فهم القرآن و العمل به.
و لتحقّق هذا الهدف يجب اكتساب علوم المعارف بالمستوى الرفيع، و اكتساب العقائد و الأخلاق بالمستوى الجيّد اللائق؛ و ينبغي وصولًا لذلك الاستعانة بعلم تفسير القرآن، و الحديث، و الدراية، و الرجال. إنّ سبيل الوصول للعلم الصحيح و العمل الصحيح هو علم الفقه، و من لوازمه علم الاصول و الكلام و الحكمة و العرفان؛ و لا تحقّق هذه المعاني إلّا حين يكون لدينا فهم و اطّلاع كامل و صحيح على لسان القرآن و لسان النبيّ الأكرم و أوصيائه الكرام عليهم الصلاة و السلام، و الوقوف على السيرة و السنّة و الاسلوب العلميّ و العلميّ لهم. لذا، ينبغي أن نمتلك اطّلاعاً واسعاً على علوم العربيّة و آدابها من الصرف و النحو و اللغة و الاشتقاق و المعاني و البيان و البديع و المحاورات النثريّة و الشعريّة، و عن سيرتها و تأريخها.
و هذه الفروع السابقة بأجمعها مهمّة جدّاً، و لابدّ أن يلمّ بها المرء
جميعها بشكل جيّد ليمكنه الوصول إلى الاجتهاد الصحيح، و إلّا فالنتيجة تتبع أخسّ المقدّمتين، و سيصبح عملًا مقلِّداً بالرغم من ادّعائه الاجتهاد.
لقد كان لكلِّ واحد من علمائنا الأجلّاء من صدر الإسلام و حتى يومنا هذا مقامه في عالم العقل و العلم و الدراية، فقد نشأوا في هذه الحوزات و أناروا مساحات واسعة بأنوارهم، سواء في حياتهم أو بعد مماتهم.
ولكي يصبح الطالب عالماً أو أخصّائيّاً في العلوم التي ذكرناها، فعليه بالجدّ الدؤوب. و على ذي الفهم و القابليّة و الذكاء الجيّد و القوى الفكريّة و الذاكرة الجيّدة أن يقضي عمراً لينال هذه الدرجة بشغف و رغبة و قّادة للتعلّم، و بالصبر و الثبات أمام المشكلات، و بالتوجّه إلى الله تعالى و الاستعانة بفيوضاته الربّانيّة. على الطالب أن يحلّق بجناحَي العلم و العمل و يسمو على الدنيا الدنيّة الفانية، و أن يخنق في المهد حبّ الرئاسة و السيادة و الاستعلاء في كيانه، و أن يدير ظهره لجميع الاعتباريّات و التعيّنات المانعة من وصول الغاية، ليصل بحول الله و قوّته لتلك التطلّعات. على أ نّ أفراداً قلائل فقط من بين عشرات و مئات الطلبة سيمكنهم طيّ هذا الطريق إلى نهايته و الفوز بالجامعيّة و الكمال.
و ينبغي كذلك لمدارس العلوم الدينيّة أن تكون بعيدة عن الضوضاء و الصخب و جَلَبة الأسواق و طلّاب الدنيا، و بعيدة عن مظاهر الحياة و ظواهرها و ترفها و عن النزوع إلى الراحة و قضاء الوقت، ليتيسّر للطلبة أجواء دراسيّة مناسبة. و قد اختاروا لهذه الأسباب مدن النجف الأشرف وكربلاء المقدّسة و الكاظميّة و سامراء و مشهد المقدّسة و قم المقدّسة لتُقام فيها مثل هذه المدارس، و سعوا أن تكون قريبة من الصحن المطهّر ليمكن للطلبة، بقربهم من المركز المعنويّ و الروحيّ، أن يستمدّوا الفيض منه
بنحو أفضل.
و في الحقيقة، فإنّ من يسعى لتكون دراسته أساسيّة و أُصوليّة متينة، سوف لن يمتلك في اليوم الكامل فراغاً لخمس دقائق يُطالع فيها الكتب الخارجة عن متن الدروس أو ينشغل بأعمال أخرى، و إلّا صار درسه سطحيّاً و مهزوزاً غير أصيل.
لذا فلن يعود أمر إدخال دروس جديدة في الحوزة العلميّة أو ضمّ الفلسفة الغربيّة إلى الحكمة الإسلاميّة الأصيلة إلّا بالضرر و الفساد. فمن أين يتأتى لهذا الطالب الذي لا يكاد وقته يسعه لدروس المتن، أن يهتمّ بهذه الدروس الإضافيّة؟! الدروس التي صيغت على أساس التخيّلات و التصوّرات مقابل الأفكار الحقّة الواقعيّة، و التي لا تمتلك من المعنويّات إلّا قليلًا؟ و سيبقى الطالب في هذه الحال لا ظهراً أبقى و لا أرضاً قطع، و ستؤول علومه حفظاً سطحيّاً لا ثراء فيه؛ و عندها ستعجز الحوزات عن إنجاب العلماء المحقّقين، و عن تربية و تنشئة الأساطين، كما هي الحال فعلًا في الجامعات، التي نرى عدم تنشئتها للمحقّقين من ذوي الخبرة و البصيرة، فأيّة خسارة عظيمة هذه! و أنّ كبار المحقّقين المقتدرين، الذين كان كلٌّ منهم مفخرة من مفاخر الإسلام، و ممّن سطعت أنوارهم في عالم التشيّع في الفترة الأخيرة، كالشيخ جواد البلاغيّ النجفيّ، و السيّد شرف الدين من جبل عامل، و السيّد محسن العاملي، و العلّامة الشيخ عبد الحسين الأمينيّ، و العلّامة الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ، و المحدث الكبير الشيخ عبّاس القمّيّ، و سماحة أُستاذنا آية الله العلمة الطباطبائيّ قدّس الله أسرارهم جميعاً، قد كانوا ممّن تربّوا في هذه الحوزات، و كانوا أصحاب نظر و تحقيق في الفنون و العلوم التي برعوا فيها.
و كان العلّامة الطباطبائيّ محقّقاً عظيماً و صاحب نظر في الفقه
و التفسير و الفلسفة، و كان يناقش آراء السابقين و يحقّق فيها، ثمّ يبدي نظره الخاصّ. و كان ينظر الى كتاب «الحكمة المتعالية» للملّا صدرا باحترام و إجلال، لكنّه مع كلّ ذلك كان يرفض بعض ما فيه و يبدي رأيه تجاهه.
أمّا أساتذة الجامعات الذين انصرفوا إلى ترجمة كتب الأجانب لتدريسها للطلاب، فهل شاهدتم فيهم أُستاذاً قد أجرى تحقيقا في تلك المطالب، و توصّل إلى اكتشاف ما؟ و هل شاهدتم فيهم من كان له في مجال الطبّ رأياً خاصّاً يخالف آراء تلك الكتب؟ أو هل شاهدتم أحداً يبدي رأيه في الفيزياء بخصوص قاعدة نيوتن للجاذبيّة؟ أو يعترض على آراء أينشتين؟
أو يتوصّل إلى اكتشاف بديع أو اختراع جديد في العلوم الطبيعيّة و الحياتيّة؟ أبداً، أبداً! فليس في الجامعات من حديث عن اكتشاف أو اختراع جديد أو متابعة لهذه الامور، بل ينحصر الكلام في قاعات الدرس في بيان اختراعات الأجانب و اكتشافاتهم و الحديث عنها يوميّاً.
لا نريد أن نقول: إنّ إيران خالية من النبوغ و التحقيق، فهي مشحونة بذلك أكثر من غيرها، ألم يكن أمثال أبي ريحان البيرونيّ و زكريّا الرازيّ و ابن سينا و العلّامة الطباطبائيّ إيرانيّين؟ بل نريد القول بأنّ الاستعمار المتأهّب لا يريد للجامعات أن تربّي طلبة محقّقين، و لذلك فقد وضع أُسلوب تعليم و تعلّم و تربية الأساتذة في الجامعات الأجنبيّة على نحو لا يربّي محقّقين ذوي نظر مستقلّ، و لهذا السبب، فقد اكتفى بهذه الدروس السطحيّة المحفوظة التي تعتمد على ترجمة الكتب الأجنبيّة.
لقد عمد الاستعمار من أجل دحر حركة العلم و التحقيق إلى فتح الجامعات في مقابل المدارس العلميّة، و عمد في محاولته لاقتلاع جذور التحقيق إلى إغلاق المدارس العلميّة من جهة، و إلى إشغال طلبة الجامعات بحفظ الصيغ و كتابة الكرّاسات على أيدي أساتذة غير متخصّصين، بهدف
الحصول على الشهادة الجامعيّة لا أكثر، و قد أُسّس أمثال كلّيّات الآداب و الإلهيّات و الفلسفة و معهد التعليم العالي بهدف تخريب الحوزات وصولًا إلى صرف الشباب عنها، و السيطرة الفكريّة عليهم و تغذيتهم بالأفكار المنحرفة تحت غطاء الفلسفة و الأدب الإيرانيّ، و سَوق أفكارهم بعيداً عن أصالة القرآن و الإسلام و توجيهها إلى النزعات القوميّة و الوطنيّة و حبّ إيران باسم مواجهة العرب، و الذي ليس هو في الواقع إلّا مواجهة الإسلام.
و لقد أسّسوا كلّيّة باسم كلّيّة الوعظ و الخطابة لتخريج علماء تابعين للنظام مؤتمرين بأمره، ثمّ سمّوها كلّيّة المعقول و المنقول، و منعوا الكلامَ من على المنابر لغير علماء هذه الكلّيّة، ثمّ رأوا انتفاء الحاجة إلى المعقول و المنقول بعد تشكيل كلّيّة الإلهيّات و الفلسفة فعمدوا إلى إلغائها.
فماذا ينتظر من كلّيّة الإلهيّات و الفلسفة حين يُسمح لأساتذتها بالتدريس و إن كانوا من الشيوعيّين و الاشتراكيّين و الماركسيّين؟ فالشرط الوحيد الذي كان يشترط في هؤلاء المدرّسين أن لا يكونوا مسلمين حقيقيّين ملتزمين!
و ندرك هنا جيّداً كلام المرحوم السيّد حسن المدرّس رحمة الله عليه حين سأله المرحوم آية الله البروجرديّ رضوان الله عليه: ما الذي ينبغي عَلَيّ عمله لتكون خدمتي للدين مؤثّرة؟
فأجابه و هو يرفع سبّابتي يديه إلى الأعلى ثمّ ينزلهما إلى الأسفل مراراً: اصنع طلبة! فالاستعمار لا يخشى من أيّة قوّة، و لكن يخشى هؤلاء الطلبة ذوي القامات المنتصبة.
و لقد أظهر التأريخ بجلاء أنّ المعاهدات الاستعماريّة و الامتيازات و الاتّفاقات المجحفة التي كانت في صالح أعداء الإسلام و في ضرر الشعب الإيرانيّ المسلم، من زمن الاستعمار الإنجليزيّ ثمّ الأمريكيّ، سواء في
العهد القاجاريّ أم في النظام البهلويّ، كلّها قد أمضاها و مرّرها دعاة الثقافة من المتربّين في الغرب، و المهندسون و الأطبّاء المبهورون بأضواء الغرب و مباهج الكفر؛ أَوَ رأيتم أنّ واحداً منها قد نفّذ على يد عالم دينيّ؟!
و نفهم جيّداً؛ من هذه الامور؛ السبب في الخراب الذي كان يتسرّب زمن الطاغوت إلى المدارس الدينيّة فتغلق غرفها، أو تصبح أقساماً داخليّة لطلبة الجامعات، أو مخازناً لأمتعة الدكاكين المجاورة للمدرسة، أو حتى محلًّا للأزبال و القمامة.
لقد أسقط جمال عبد الناصر الحكم الملكيّ للملكَين فؤاد و فاروق، وهيمن على مصر و أخضعها لنفوذه، فكانت باكورة أعماله أنّه بنى في جوار الجامع الأزهر كلّيّة باسم جامعة الأزهر بطراز حديث و جميل ذات طوابق متعدّدة، و شجّع الطلّاب على الانتماء إليها، و أضاف دروس الفيزياء و الكيمياء و اللغة الإنجليزيّة و غيرها من الدروس الحديثة إليها. و سمح فوق ذلك للطالبات بالانتماء إليها، فجعل صفوفها مختلطة للجنسَين؛ في حين بقي في المقابل الجامع الأزهر الواسع على حاله، إذ لم يكن في الوسع تخريبه باعتباره بأجمعه من الآثار القديمة، لكنّ عبد الناصر ببنائه جامعة الأزهر (كلّيّة الأزهر) هذه قد أمات كيان جامع الأزهر و جعله مجرّد أثر من الآثار القديمة.
فلقد استخدموا منصّة الخطابة في هذه الجامعة الحديثة بدلًا من المنبر، و كان لديهم صالات و قاعات دراسيّة مجهّزة حديثة بدل المسقّفات الدراسيّة.
و كان هذا ما يتمنّاه الاستعمار و يسعى إليه، و هذا هو الاسلوب المقبول و المرضيّ لديه، فلقد أُزيح القرآن جانباً وفق هذه الخطّة بشكل واضح و علنيّ، و حلّت الفيزياء و الكيمياء و اللغة الإنجليزيّة محلّ بعض
الدروس التفسيريّة و الحديثيّة.
لقد وضع غلادستون رئيس وزراء بريطانيا الإنجليزيّ اليهوديّ ذوالنزعة الصهيونيّة، الذي بعث الروح في الاستعمار الإنجليزيّ، القرآن بقوّة على منصّة الخطابة في مجلس الأعيان في غضب، و قال: ما دام هذا القرآن موجوداً في أيدي المسلمين فلن يستطيع الاستعمار الإنجليزيّ السيطرة على البلاد الإسلاميّة، و لا أن يكون نفسه في أمان.۱
فالقضاء على القرآن ليس بإحراقه أو إغراقه، و لم يفعل ذلك الإنجليز و تحاشوه، بل بعزله عن التأثير بعدم تعلّمه و تعليمه، و إهمال تلاوته، و عدم الرجوع إلى تفسيره، و ترك العمل بأحكامه، و لقد وفّقوا في هذا العمل أيّما توفيق، و أزاحوا القرآن خارجاً عن ساحة العمل و التأثير.
فإذا ما شاهدنا اليوم أنّ هناك في الحوزات مثلًا قدراً من الإغراق الزائد في دراسة أبحاث الاصول، فينبغي أن نستبدل بعض ذلك بدرس التفسير، و درس «نهج البلاغة»، و درس المعارف العالية بشكل رسميّ منتظم، لا أن نستبدله بعلوم الحياة و الطبيعة و اللغة الأجنبيّة؛ إذ إنّ علينا أن
نكون متمرّسين في العربيّة للحدّ الذي تصبح فيه كأنّها لغتنا الامّ؛ و على هذا فكم هو جميل أن نضع درساً للبحث و التدقيق في لغات القرآن و «نهج البلاغة»، و نخرج القرآن إلى حيّز العمل، فهذه هي الطريقة المثلى للرقيّ و التكامل. و إلَّا نكون قد فعلنا كما فعل عبد الناصر حين بني جامعة الأزهر، و بدأ تدريس الطلبة الفيزياء و الكيمياء في صفوف مختلطة، و هو بعينه ما كان يطمح إليه غلادستون، و لو كنّا عنه غافلين.
ماذا تنتظر الحوزة العلميّة من اساتذتها و القائمين عليإدارتها
و أمّا المطلب الثالث، و هو: ماذا تنتظر الحوزة العلميّة من الخرّيجين و المجتهدين و الأساتذة و القائمين على إدارتها؟ و ما الذي ينبغي أن يكون عليه نهجهم و مستواهم العلميّ و العمليّ، ليمكنهم النهوض بأعباء هذه المسؤوليّة الخطيرة؟
و الجواب على هذا السؤال يسير غير عسير، لأنّ انتظار الناس من بائع الخضر أن لا يعرض الخضر التالفة الفاسدة للبيع، و أن يأتيهم بها طريّة سالمة؛ و توقّعهم من الشرطة أن تعيّن لحفظ أعراض الناس و أموالهم الحرّاس النشطين المتديّنين الواعين ... و هكذا.
فهم يتوقّعون كذلك من الحوزة التي تمثّل الروحانيّات و المعنويّات و الحافظة لحياة و أعراض و أموال الناس و كرامتهم، و دينهم و دنياهم، في بلد مسلم ينهل شعبه من معين مدرسة التشيّع؛ أن تخرّج طلباً لائقين نزيهين ينعكس في سيمائهم مظهر القرآن و علائم روح رسول الله، و تتلألأ وجوههم من إشراق أنوار أئمّة الهدى، طلبةً يمكنهم في زمن الغيبة هذا، حيث حُرم عامّة الناس من الاتّصال بإمام زمانهم المعصوم، أن يعملوا في حدودهم بذلك النهج و يقدّمونه للناس؛ طلبةً قادرين على أن يبيّنوا للناس المعارف الحقيقيّة الإلهيّة، و أن يكونوا مربّيهم و قادتهم في الأخلاق و العمل في طريق الوصول إلى قمّة التوحيد و أعلى ذروة كمال الشخصيّة
الإنسانيّة؛ طلبةً يمكنهم إدارة دين الناس و دنياهم، ليس فقط من الناحية الظاهريّة، بل بفهمهم لوجهة نظر الولاية الباطنيّة و إرشادهم الناس على ضوء هُداها.
ينتظر الناس أن تقدّم لهم الحوزة أُناساً يمكنهم فهم العلم الذي وصفه رسول الله بأنّه: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ أوْ فَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ أوْ سُنَّةٌ قَائِمَةٌ على النحو الأحسن و الأكمل، ثمّ يقومون في المرتبة الثانية بتوسيع شعاع وجودهم فيقودوا معظم الطبقات من أتباعهم، بعيداً عن الغش و الغلّ، في موكب تلفّه السعادة و الظفر و العافية و النصر، ضاحكين مستبشرين، إلى الجنّةالتي وُعد المتّقون؛ فيكونوا قد عمروا دنياهم و آخرتهم.
و ينتظر الناس أن يكون هؤلاء أمينين مأمونين، مضحّين متفانين، متجرّدين عن العلائق مع غير الله عزّ و جلّ، يلفّهم سكون حرم العزّ و الوقار، و ينهض بهم النظر الثاقب و الهمّة العالية، شكورين صابرين، قانعين متواضعين، شجعان سمحاء، طووا مراحل العلم و مدارجه من فقه و أُصول و حكمة و فلسفة و تفسير و حديث و تأريخ و غيرها، و تتلمذوا زمناً في المعارج العمليّة و العرفان الإلهيّ على يد أُستاذ موحّد فاهم واصل كامل، و تربّوا السنين الطوال في رعايته، فجمعوا بين الحكمة النظريّة و العرفان العمليّ، و صاروا في الفقه خبيرين بصيرين، و اطّلعوا الاطّلاع التامّ على سيرة رسول الله و نهج أئمّة الدين، و فهموا كتاب الله و قرآنه الكريم، و عرفوا شأن نزول آياته و تفسيرها، و حفظوا كلّ آياته أو معظمها.
أفيجوز لمن يعتبر نفسه إماماً في دين الله و دليلًا على الطريق إليه، أن يكون فاقداً لمعرفة الله، فيقول إنّ المعرفة إنّما هي المعرفة الإجماليّة بأنّ الله واحد و كفى! فما تلك الّا معرفة العجائز.
إ نّ إمامنا الصادق عليهالسلام لم يقل هكذا؛
لابد للعلوم الدينية أن تصب فى عرفان الله لتُضاء بنور الله
فقد ورد في «الوافي»
عن «الكافي» عن محمّد بن سالم بن أبي سلمة، عن أحمد بن ريّان، عن أبيه، عن جميل بن دُرّاج، عن أبي عبد الله الصادق عليهالسلام:
قَالَ: لَوْ يَعْلَمُ النَّاسُ مَا في فَضْلِ مَعْرِفَةِ اللهِ تَعَالى، مَا مَدُّوا أَعْيُنَهُمْ إِلَى مَا مُتِّعَ به الأعْدَاءُ مِنْ زَهْرَةِ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَ نَعِيمِهَا، وَ كَانَتْ دُنْيَاهُمْ أَقَلَّ عِندَهُمْ مِمَّا يَطَؤُونَهُ بِأَرْجُلِهِمْ، وَ لَنُعِّمُوا بِمعْرِفَةِ اللهِ تَعَالَى، وَ تَلَذَّذُوا بِهَا تَلَذُّذَ مَنْ لَمْ يَزَلْ في رَوْضَاتِ الجِنَانِ مَعَ أَوْلِيَاءِ اللهِ.
إنَّ مَعْرِفَةَ اللهِ انْسٌ مِنْ كُلِّ وَحْشَةٍ؛ وَ صَاحِبٌ مِنْ كُلِّ وَحْدَةٍ؛ وَ نُورٌ مِنْ كُلِّ ظُلْمَةٍ؛ وَ قُوَّةٌ مِنْ كُلِّ ضَعْفٍ، وَ شِفَاءٌ مِنْ كُلِّ سُقْمٍ.
ثُمَّ قَالَ: قَدْ كَانَ قَبْلَكُمْ قَوْمٌ يُقْتَلُونَ، وَ يُحْرَقُونَ، وَ يُنْشَرُونَ بِالمَنَاشِيرِ، وَ تَضِيقُ عَلَيْهمْ الأرْضُ بِرُحْبِهَا، فَمَا يَرُدُّهُمْ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ شَيءٌ مِمَّا هُمْ فيهِ، مِنْ غَيْرِ تِرَةٍ وَ تَرُوا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ، وَ لَا أَذَى مِمَّا نَقَمُوا مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا باللهِ العَزِيزِ الحَمِيدِ.
فَسَلُوا رَبَّكُمْ دَرَجَاتِهِمْ! وَ اصْبِرُوا عَلَى نَوَائِبِ دَهْرِكُمْ تُدْرِكُوا سَعْيَهُمْ!۱
و نلحظ في هذه الرواية كيف يبيّن الإمام عليهالسلام همّة و ثبات العرفاء بالله، و كيف يدعو تلاميذه إلى الاستقامة و الصبر حفاظاً على العلم و الإيمان و معرفة الله.
هؤلاء هم الذين تعاقبوا في الأزمنة السالفة، و كانوا بطلوع و إشراق أنوار الحقّ و صفاته في قلوبهم حفظةً لدين الله و شريعته، و حماةً لقرآنه و كتابه.
خلق را چون آب دان صاف و زلال | *** | اندر او تابان صفاتِ ذو الجلال |
علمشان و عدلشان و لطفشان | *** | چون ستارة چرخ در آب روان |
قرنها بگذشت و اين قرن نويست | *** | ماه آن ماهست و آب آن آب نيست |
عدل آن عدلست و فضل آن فضل هم | *** | ليك مستبدل شد آن قرن و امم |
قرنها بر قرنها رفت اى همام | *** | وين معانى بر قرار و بردوام |
آب مُبْدَل شد در اين جو چند بار | *** | عكس آن خورشيد دائم برقرار |
جهان مرآت حسن شاهد ماست | *** | فَشَاهِدِ وَجْهَهُ في كُلِّ مِرْءَاتِ۱ |
و ها هو اليوم سيل طلبة العلوم الدينيّة يتدفّق على الحوزات العلميّة من كلّ صوب و حدب، فإنّهم ينبغي أن يحسّوا في قرارة أنفسهم و أعماق وجودهم و يلمسوا حقيقة أنّ العلوم الدينيّة إن اتخذت وسيلةً للعيش و نُظر إليها كثروة دنيويّة فقط، فإنّها لن تختلف عن سائر الحرف و الفنون، أمّا فيما لو اتخذت طريقاً إلى الله و عرفانه، و للتحقيق عن سرّ عالم الكون و نيل العلوم الحقّة الحقيقيّة فإنّ الله الرحيم سيمطر فيض رحمته عليهم، و يملأ قلوبهم بأنوار جماله و جلاله المتلألئة.
قال مولانا في الدفتر الثاني من «المثنوي»:
هر كجا دردى دوا آنجا رود | *** | هر كجا فقرى نوا آنجا رود |
هر كجا مشكل جواب آنجا رود | *** | هر كجا پستى است آب آنجا رود |
آب كم جو تشنگى آور بدست | *** | تا بجوشد آبت از بالا و پست |
تا سَقَاهُمْ رَبُّهُمْ آيد خطاب | *** | تشنه باشد اللهُ أَعْلَمْ بِالصَّواب۱ |
و قال أيضاً في الدفتر الثالث مع تكرار الأبيات الثلاثة الاوّلى:
هر چه روئيد از پى محتاج رُست | *** | تا بيابد طالبى چيزى كه جُست |
حقّ تعالى كاين سماوات آفريد | *** | از براى رفع حاجات آفريد |
هر كه جويا شد بيابد عاقبت | *** | مايهاش درد است واصل مرحمت |
هر كجا دردى دوا آنجا رود | *** | هر كجا فقرى نوا آنجا رود |
هر كجا مشكل جواب آنجا رود | *** | هر كجا پستى است آب آنجا رود |
آب كم جو تشنگى آور بدست | *** | تا بجوشد آبت از بالا و پست۱ |
و كم هو جميل و معبّر تعبير السنائى الحكيم عليه الرحمة و الرضوان حين صاغ هذا الواقع في قالب النظم:
دل آنكس كه گشت بر تن شاه | *** | بود آسوده ملك ازو و سپاه٢ |
بد بود تن چه دل تباه بود | *** | ظلم لشكر ز ضعف شاه بود |
اين چنين پر خلل دلى كه تو راست | *** | دد و ديوند با تو زين دل راست |
پاره گوشت نام دل كردى | *** | دل تحقيق را بحل كردى |
اينكه دل نام كردهاى به مجاز | *** | رو به پيش سگان كوى انداز |
از تن و نفس و عقل و جان بگذر | *** | در ره او دلى بدست آور |
آنچنان دل كه وقت پيچاپيچ | *** | اندرو جز خدا نيابى هيچ۱ |
و لهذا الأمر فقد عدّت أحاديث كثيرة العلم منحصراً بالعلم الحقيقيّ المستقرّ في القلب و الملازم للعمل.
و جاء في «مصباح الشريعة» قَالَ الصَّادِقُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: لَا يَحِلُّ الفُتْيَا لِمَنْ لَا يَسْتَفْتِي مِنَ اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ بِصَفَاءِ سِرِّهِ؛ وَ إخْلَاصِ عَمَلِهِ؛ وَ عَلَانِيَتِهِ؛ وَ بُرْهَانٍ مِنْ رَبِّهِ في كُلِّ حَالٍ. لأنَّ مَنْ أَفْتَى فَقَدْ حَكَمَ؛ وَ الحُكْمُ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإذْنٍ مِنَ اللهِ وَ بُرهَانِهِ. وَ مَنْ حَكَمَ بِخَبَرٍ (بَالخَبَرِ خ ل) بِلَا مُعَايَنَةٍ فَهُوَ
جَاهِلٌ مَأخُوذٌ بِجَهْلِهِ، وَ مَأثُومٌ بِحُكْمِهِ.
قَالَ النَّبيّ صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ: أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى اللهِ عَزَّ وَ جَلَّ.
أَوَ لَا يَعْلَمُ المُفْتِي أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يَدْخُلُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَ هُوَ الجَائِزُ (الحَائِرُ خ ل) بَيْنَ الجَنَّةِ وَ النَّارِ.۱
الفقهاء الذين يجمعون علم الظاهر و الباطن هم معلّمو الحوزات
إ نّ فقهاءً كهؤلاء يجمعون بين علم الظاهر و الباطن، و بين العلم و العمل، هم الذين ينبغي أن يعلموا و ينشّئوا الطلبة و الحوزات، فهم يكتسبون العلم الحقيقيّ من جانب الربّ تعالى فيعكسونه على المتعلّمين؛ و هم القائمون ليلًا في محراب العبادة، و الصافّون الأقدام في الدعاء و التضرّع و التعظيم لمقام الربّ المعبود، قلوبهم مجذوبة للجذوات الإلهيّة و السبحات الربّانيّة، فهم يفيضون نهاراً ما اكتسبوه في المحراب ليلًا، و يسبحون في هذا العالم الواسع و يفيضون فيوضاتهم إلى العالم:
{إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا ، إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا}.۱
هذا السبع الذي تمنح فيه و تنفق و تفيض ممّا مُنحته ليلاً في محراب
عبادتك.
العلم المجازى كالميزاب المفتوح و العلم الحقيقى كماء الحياة
لذا فإنّ الاجتهاد القائم على القواعد فقط هو اجتهاد شكليّ ليس إلّا، و اجتهاد كهذا أشبه بالميزاب منه بماء الحياة، فلو فُرض أن جرى فيه الماء و انساب، و اتّفق مطابقة الحكم للواقع، فإنه لن يكون إلّا وعاءً و وسيلة لعبور ماء الحياة و تدفّقه؛ و لو قدّر لا سمح الله أن كُسر هذا الميزاب أو أصابه العيب و الخلل، لأدّى ذلك إلى أضرار و مفاسد لا تحصى. يقول مولانا في الدفتر الخامس لل «مثنوي»:
علم چون در نور حقّ پرورده شد | *** | پس زعلمت نور يابد قوم لُدّ |
هر چه گوئى باشد آنهم نور پاك | *** | كاسمان هرگز نبارد سنگ و خاك |
آسمان شو ابر شو باران ببار | *** | ناودان بارش كند نبود بكار |
آب اندر ناودان عاريّتى است | *** | آب أندر ابر و دريا فطرتى است |
فكر و انديشه است مثل ناودان | *** | وحى مكشوفست ابر و آسمان |
آب باران، باغ صد رنگ آورد | *** | ناودان همسايه در جنگ آورد۱ |
و يقول كذلك في الدفتر الثاني:
علم تقليدى بود بهر فروخت | *** | چون بيابد مشترى خوش بر فروخت |
مشترى علم تحقيقى حق است | *** | دائماً بازار او با رونق است |
لب ببسته مست در بيع و شرى | *** | مشترى بيحد كه اللهُ اشتَرَى |
درس آدم را فرشته مشترى | *** | محرم درسش نه ديو است و پرى |
آدَم أنْبِئْهُمْ بأَسْمَا درس گو | *** | شرح كن أسرار حق را مو به مو۱ |
روايات حول اصحاب العلوم الظاهريه و المجازية
و قد وردت رواية عجيبة عن الصادق عليهالسلام توجب الحذر و التيقّظ حقّاً:
في «الوافي» عن «الكافي»، عن محمّد، عن ابن عيسى، عن ابن فضّال، عن عليّ بن عقبة، عن عُمَر، عن أبي عبد الله عليهالسلام، قال
الراوي:
قَالَ لَنَا ذَاتَ يَوْمٍ: تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يُخْطِئُ بِلَامٍ وَ لَا وَ اوٍ خَطِيباً مِسْقَعاً۱ وَ لَقَلْبُهُ أَشَدُّ ظُلْمَةً مِنَ الَّليَلِ المُظْلِمِ، وَ تَجِدُ الرَّجُلَ لَا يَسْتَطِيعُ تَعْبِيراً عَمَّا في قَلْبِهِ بِلِسَانِهِ وَ قَلْبُهُ يَزْهَرُ كَمَا يَزْهَرُ المِصْبَاحُ.٢
روي في «أُصول الكافي» ج ٢، ص ٢۱٤ بإسناده عن ابن أُذَينة، عن الإمام جعفر الصادق عليهالسلام قال: إ نَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَ قَوْماً لِلْحَقِّ فَإِذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ الحقّ قَبِلَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ؛ وَ إذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ البَاطِلِ أَنْكَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ. وَ خَلَقَ قَوْمَاً لِغَيْرِ ذَلِكَ فَإذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ الحَقِّ أَنكَرَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ؛ وَ إذَا مَرَّ بِهِمُ البَابُ مِنَ البَاطِلِ قَبِلَتْهُ قُلُوبُهُمْ وَ إنْ كَانُوا لَا يَعْرِفُونَهُ.
و لقد كان لمرحوم صدر المتألهين قدّس الله سرّه يئنّ و يتألّم من أفراد كهؤلاء، من الأنانيّين و عبدة الدنيا و طلّاب الرئاسة، فيقول:
وَ العَجَبُ أَنَّهُ مَعَ البَلَاءِ كُلِّهِ وَ الدَّاعِ جُلِّهِ تَمَنَّى نَفْسُهُ العَثُورَ وَ تُدَلِّيهِ بِحَبْلِ الغُرُورِ أنَّ فيمَا يَفْعَلُهُ مُرِيدُ وَجْهِ اللهِ؛ وَ مُذِيعُ شَرْعِ رَسُولِ اللهِ؛ وَ نَاشِرُ عِلْمِ دِين اللهِ؛ وَ القَائِمُ بِكِفَايَةِ طُلَّابِ العِلْمِ مِنْ عِبَادِ اللهِ.
وَ لَمْ يَكُنْ ضُحْكَةً لِلشَّيْطَانِ وَ سُخْرَةً لأعْوَانِ السُّلْطَانِ؛ لَعَلِمَ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ أنَّ فَسَادَ الزَّمَانِ لَا سَبَبَ لَهُ إلَّا كَثْرَةُ أَمْثَالِ اولَئِكَ الفُقَهَاءِ المُحَدَّثِينَ المُحْدِثِينَ في هَذِهِ الأوَانِ، الَّذِينَ يَأكُلُونَ مَا يَجِدُونَ مِنَ الحَلَالِ وَ الحَرَامِ،
وَ يُفْسِدُونَ عَقَائِدَ العَوَامِّ بِاسْتِجْرَائِهِمْ عَلَى المَعَاصِي اقْتِدَاءً بِهِم وَ اقْتِفَاءً لآثَارِهِمْ، فَنَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الغُرُورِ وَ العَمَى فَإنَّهُ الدَّاءُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ دَوَاءٌ.۱
و قد برهنتُ في مباحث الاجتهاد و التقليد على أنّ من الشروط الحتميّة للإفتاء و الحكم، العدول عن الجزئيّة و الارتباط و التعلّق بالكلّيّة، و أنّ هذا الشرط لا يتحقّق إلا بتخطّي عالم النفس و معرفة حضرة الربّ تعالى. و قد أوردتُ في بحث ضمنيّ مسألة ولاية الفقيه بشكل مجمل في كتاب «الرسالة البديعة في تفسير آية: {الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ}؛ و هذا المعنى مشهود في حديث «نهج البلاغة» و خطاب أمير المؤمنين عليه السلام لكميل، و في رسالته عليهالسلام إلى مالك الأشتر و شواهد أخرى جرى ذكرها هناك؛ لكنّ البحث المفصّل عن هذه المسألة يحتاج إلى كتاب مستقلّ في الاجتهاد و التقليد، و شروط المفتي و الحاكم، و هو منوط بمجال أوسع و توفيق أكثر و استعانة بحول الخالق المتعال و قوّته.٢
{لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}.٣
لطائف الاشارات فى اشعار حافظ الشيرازى الغزلية
و للخواجة حافظ الشيرازيّ غزل في هذا المقام يحوي عالماً من
لطائف الإشارات:
مرا به رندى و عشق آن فَضُول عيب كند | *** | كه اعتراض بر اسرار علم غيب كند |
كمال سرّ محبّت ببين نه نقص گناه | *** | كه هر كه بى هنر افتد نظر به عيب كند |
ز عطر حور بهشت آن نَفَس برآيد بوى | *** | كه خاك ميكدة ما عبير جَيب كند |
چنان بزد ره اسلام اسلام غمزة ساقى | *** | كه اجتناب ز صَهْبا مگر صُهَيب كند |
كليد گنج سعادت قبول اهل دلست | *** | مبادكس كه در اين نكته شكّ و ريب كند |
شبان وادى أيمن گهى رسد به مراد | *** | كه چند سال به جان خدمت شعيب كند۱ |
زديده خون بچكاند فسانة حافظ | *** | چون ياد وقت و زمان شباب و شيب كند۱ |
الإشْكَال الرَّابِع: إعراض دعاة الانفتاح عن المباني الإسلاميّة لتأثّرهم بالثقافة الأجنبيّة
والإشكال الرابع على صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=بسط و قبض نظريّة الشريعة)، أي نظريّة تكامل المعرفة الدينيّة، هو أنّه قد اعتبر ضعف اهتمام الناس بالدين بعد النهضة الدستوريّة ناشئ من ضعف الاقتصاد المدوّن و الفقه و الحكمة، التي تراجعت أمام هجوم سيل الثقافة الغربيّة، و لم يكن لدى العلماء و الفلاسفة و كتبهم شيئاً مهمّاً يُعتنى به، لذا فقد دُهش الناس لتلك المدنيّة و تبعوها مبهورين مسحورين؛ و يقول:
إ نّ علينا أن لا نبتعد عن الإنصاف فنعترف أنّ جمعاً من المثقّفين الجدد من دعاة الانفتاح، الذين كانت لهم في تأريخنا المعاصر آراؤهم القاسية بالنسبة للدين، لم يكن ذلك عداءً منهم له و حقداً منهم عليه؛ و لكنّ السبب يكمن في صورة الدين التي عُرضت عليهم و التي افتقدت الملاحة و الجمال و الجاذبيّة.
ففي أوان النهضة الدستوريّة تدفّق سيل المعارف الغربيّة على ديارنا، و ملأت فلسفتهم و علومهم و حقوقهم و سياستهم أذهان الشباب و المتلهّفين، و كانت الدهشة المهيبة و الحيرة تلفّ الجميع، و الانهزام النفسيّ و الاستسلام و الخضوع يلقّن للنفوس؛ و كان هيكل الفكر الدينيّ في ذلك الوقت مبتلى بالمحن و الأمراض الكثيرة، و لم يكن ليمتلك إلّا عدّة آداب فقهيّة، فبأيّ شيء يا ترى كان يمكنه اجتذاب قلوب العقلاء و الأذكياء نحوه؟ لا اقتصاد مدوّن له، و لا سياسة مدوّنة،
و لا حكمة بإمكانها وضع الحلول للمشاكل، و لا تحقيق نافع مجدٍ.
فكيف نتوقّع من المشتغلين بالحكمة و الآداب أن يعرضوا عن الأفكار المنمّقة التي خلط فيها الإفرنج حقّاً و باطلًا، و أن يتمسّكوا بعدّة من الآراء المضطربة غير المتّسقة، و بالأدب الصارم الجاف؟
لم تكن تلك مؤامرة تأريخيّة، و لا مقتضى وجود موهوم اسمه الغرب، بل كانت نتيجة حتميّة لمواجهة الأقوياء المقتدرين مع الضعفاء العاجزين.۱
جواب صاحب مقالة البسط و القبض، قول مؤلف كتاب «الطريق المطوى»
و الإجابة على هذا القول هي عين المطلب الذي أورده المهندس مهدي بازركان في كتاب «راه طى شده» (=الطريق المطويّ)، فقد قال:
و هناك مطلب يرد في هامش البحث الأصليّ و يشكّل بنفسه موضوعاً يستحقّ المطالعة و التأمّل على حدة؛ و هو تأثير خصائص المذهب المسيحيّ في أُسلوب تفكير و طريقة انتقاد المعاصرين من مخالفي المذاهب.
و بالطبع فإنّ أغلب ما ينشر في بلدنا ضدّ الفكر الدينيّ ممّا يمتلك وجهة علميّة، فإنّما هو ترجمة مباشرة أو اقتباس غير مباشر من كتابات و مقالات الاوروبّيّين.
فلو تأمّلتم بعناية في هذه الانتقادات للاحظتم أنّها تهاجم صراحةً أو تلميحاً الديانة المسيحيّة و رجال الدين المسيحيّين، و أنّها لا تتعدّى ذلك، فبعض هؤلاء المنتقدين لا يمتلك أيّ معلومات عن الإسلام، أو أنّه يتجنّب إقحامه في هجومه و انتقاده، و البعض الآخر لم يتناوله بالنقد إلّا قليلًا،
بالشكل الذي تبقى فيه هذه الانتقادات و المطالعات ناقصة تماماً و غير مجدية من وجهة نظر التحقيق الكامل.
و لكنّنا بخلافهم نعتبر عيسى عليهالسلام و تعاليمه مبعوثَين من جانب الله عزّ و جلّ، و أنّ رسولنا كان {مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ}؛۱ و لكن باعتبار تدرّج الأديان وفق السير التكامليّ للبشريّة، فإنّ على البشر كذلك أن يتابعوا السير التكامليّ للأنبياء عليهم السلام.
كما أنّ كثيراً من الانتقادات التي يوجّهها المنتقدون إلى الأديان قد استندت إلى التحريفات التي تسرّبت إلى الديانة المسيحيّة بمرور الزمن، و لفقدان النسخة الأصلية للإنجيل، أو للثغرات و النقائص فيها و التي عالجها الإسلام بالنحو الأفضل و الأكمل و وضَع لها الحلول الناجعة.
فلو امتلك هؤلاء المخالفون للدين التعمّق الكافي في الإسلام، و التحقيق الصحيح في شؤونه؛ و لو انفكّ الاوروبّيّون عن عبادة القديم و امتلكوا الانفتاح و التبصّر في الدين كما امتلكوا الانفتاح و التقدّم في باقي شؤون حياتهم، لصاروا مسلمين مجدّدين، و لتحولّت الانتقادات حتماً إلى شكل آخر، و لصار للدنيا وجهاً غير ما هي عليه اليوم.٢
و هذا الكلام متين لا يرقى إليه الشكّ، فتأريخ النهضة الدستوريّة و الوقائع التي حصلت بعدها إلى بداية الثورة الإسلاميّة و تشكيل الحكومة
الإسلاميّة، مشهود أمامنا لا يلوح فيه إلّا السيطرة الثقافية و العسكريّة و السياسيّة و الاقتصاديّة الفارغة للغرب على الإسلام. فلقد كان دعاة الثقافة و الانفتاح المبهورون بالغرب هم أُولئك الذين كانت لهم علاقات مباشرة بالغرب، و هم الذين كانوا يقدحون زناد الإلحاد و الابتعاد عن الدين و ينفخون في ناره لتستعر، و لقد سجّل التأريخ أسماء هؤلاء و أحوالهم و نهجهم واحداً بعد واحد.
و لقد كانت الثقافة الغربيّة تُنشر بين الناس بالقوّة، بالسياط و الحراب و الحبس و التعذيب و الإعدام، لكنّ الشعب بإسلامه الفطريّ لم يؤثر الغيّ على الهدى، فلم تتعدّ هذه الثقافة عن كونها ظواهر قشريّة خارجيّة، و لقد حافظ الشعب المسلم على ديانته مع تحمله لكلّ أنواع الحرمان الاجتماعيّ، و كان على وعي كامل بدسائس و شيطنة و خيانة دعاة الانفتاح العملاء هؤلاء، مدركاً لطرق نفوذ تلك الثقافة التي لم تكن لتضمّ غير الألفاظ الفارغة الخاوية؛ و لم تعقب تلك الحركات و المشاريع إلّا الخسران و الدمار، و اتّضح بحمد الله قيام أساس السياسة الأجنبية على المكر و الحيلة و الكذب و البهتان، و على استحلال إتلاف النفوس البريئة من أجل تحقيق أهداف الأجانب و منافعهم.
و لقد كان لدينا في بداية النهضة الدستوريّة اقتصاد متين يستند إلى فقه و مكاسب الشيخ مرتضى الأنصاريّ بدورته الكاملة في المعاملات و الشامل لأدقّ و أعمق المسائل الاقتصاديّة؛ و كان لدينا فقه متين أيضاً، فقد تشكّلت الحوزات العلميّة الدراسيّة و انتشرت الكتب الفقهيّة المؤلّفة من قبل تلامذة الشيخ الأنصاريّ في النجف و سامرّاء، من أمثال آية الله الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازيّ و الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ، و الحاجّ الميرزا محمّد حسن النائينيّ و غيرهم، و لقد بلغ
تدريس الحكمة الحدّ الأعلى على يد أساتذة كالميرزا أبي الحسن جلوة الأصفهانيّ، و الآقا ميرزا طاهر التنكابنيّ، و الحاجّ الميرزا محمّد حسن الأشتيانيّ، حيث كان كلّ واحد من هؤلاء العلماء الذين عاصروا تلك المرحلة عالماً محقّقاً و لا زالت آثار هؤلاء العظماء موجودة الآن بين أيدينا، يعجز دعاة التجديد الفعليّين عن فهمها و إدراك مسائلها المطروحة.
إ نّ حقيقة الأمر هي أنّ المتلاعبين بالسياسة من الأجانب قد عملوا بمعونة و ألاعيب و معاضدة دعاة التجدّد و الانفتاح من المنبوذين و المتنكّرين لوطنهم و شعبهم، على فتح أبواب البلد أمام رياح الوباء الصفراء العفنة الهابّة من الغرب، لتنشر عفونتها بين الناس، فعمّ الوباء و الخراب، و قضى الجميع عصراً قاتماً مظلماً.
و حين نقارن الآن الفقه و الاقتصاد و الحكمة و الأدب الإسلاميّ مع القوانين المنتزعة من فلسفتهم و أدبهم، نشاهد ضحالة و تفاهة مدرستهم جليّة لكلّ ذي عينين.
الإشْكَال الخامِس: المجاز و الاستعارة فى القرآن، عين الصدق و البلاغة
الإشكال الخامس: هو أنّه لم يفرّق بين الكلام المجازيّ و الكلام الكاذب، فتخيّل الكلام المجازيّ الذي ورد كثيراً في القرآن الكريم من جنس الكذب، ثمّ استعصى عليه درك بعض الآيات القرآنيّة و مفاهيمها الصحيحة المتسامية؛ فقال: ينبغي إمّا أن لا نقبل بمجازات القرآن، أو أن نوسّع من معنى عدم ورود الباطل في القرآن و كونه فصلًا ليس بالهزل إلى الحدّ الذي لا يتنافى فيه مع هذه المجازات، ليمكن الإيمان بقرآن يحوي مجازاً و كذباً في الحقيقة كهذا.
و تثير هذه العبارات العجب و الاستغراب، لإنبائها بالعجز عن إدراك مطالب بسيطة و أوّليّة دارجة بين الطلبة.
و نجد من الأفضل أن نورد نصّ عباراته لبيان نقاط ضعفها و تزييفها، ثمّ نشرع بالإجابة عليها؛ يقول:
و يكفي لمن يعتبر في علم الكلام أنّ المجاز و الكناية غير جائزة في كلام الباري، أن يرى الآخرة مليئة بالولدان الهرمين: يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (المزّمّل)؛ و يشاهد الدنيا مليئة بالجدران ذات الإرادة:
فَوَجَدَا فيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَ (الكهف)؛ و يكفي لمن يعتبره جائزاً أن لايعدّ وجودها في القرآن باطلًا و لا هزلًا و لا لغواً، وهي منطقاً من جنس الكذب، و أن يؤمن في الوقت نفسه بمقولة: لَا يَأتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنَ يَدَيْهِ، وَ إِنَّهُ لَقُولٌ فَصْلٌ ، وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ.۱
بحث بشأن المعنّيين الحقيقى و المجازى، و الصدق و الكذب
و الإجابة على ذلك: أنّ الكذب عبارة عن الإخبار عن شيء يخالف الواقع من دون نصب قرينة على مخالفة هذا الخبر للواقع؛ كأن يقول شخص مثلًا: جاء زيد، و لم يكن قد جاء بعد، أو: لم يأتِ زيد، و كان قد أتى فعلًا.
و المجاز عبارة عن استعمال لفظ في خلاف المعنى المفهوم و المعهود عرفاً، مع نصب قرينة على أنّ هذا الاستعمال غير المعهود كان لجهة من الجهات؛ كأن يقول شخص مثلًا: رأيتُ أسداً منهمكاً برمي السهام، و مقصوده من لفظ الأسد ليس الأسد المفترس و الحيوان الصحراويّ، بل الرجل الشجاع الذي عبر عنه لشجاعته بالأسد، و ذكر قرينة في كلامه لهذا الاستعمال، و هي عنوان الرمي، فمعلوم أنّ الأسد الصحراويّ لا يرمي السهام، بل الرجل الشجاع هو الذي يفعل ذلك.
و مثل هذه الاستعمالات صحيحة جدّاً، بل هي أبلغ و أفضل في إيصال مراد المتكلم بواسطة استعمال اللفظ في معناه الثانويّ، للعلاقة الموجودة بين المعنى المتعارف و المعنى الفعليّ الاستعماليّ؛ و يقال لمثل هذا الاستعمال: الاستعمال المجازيّ؛ و العلاقة و وجه الارتباط بين المعنيين كثيرة و متعدّدة، كعلاقة الإشراف، و التشبيه، و الاستلزام، و سائر الأنواع و العلاقات و الروابط التي أوصلوها في بعض كتب البيان إلى خمس و عشرين علاقة،۱ في حين يعتقد البعض أنّ هذه العلاقات غير محدودة، و أنّ ملاكها انتخاب و اختيار المتكلّم الذي استعمل على أساس ذوقه العرفيّ لفظاً له معنى خاصّ
من جهة الوضع اللغويّ أو الوضع النَّقْلي، في معنى مغاير مع حفظ هذه الرابطة، أو مع نصب قرينة على هذا الاستعمال.
و لا يختصّ استعمال اللفظ المجازيّ بالعربيّة دون غيرها، لكنّه أكثر انتشاراً في اللغات التي تكون دائرة معاني مفرداتها و اشتقاقاتها أكبر، و فصاحتها و بلاغتها أقوى، كما هو في العربيّة.
و لا ترقى جميع لغات الدنيا إلى العربيّة في اتّساع اللغة و مصادر الاشتقاق، و في لطف قريحة الكلام، و الفصاحة التامّة و البلاغة الكاملة، و قول الشعر بداهة، و بيان المعاني الكثيرة و المطالب المحتشدة و النكات الدقيقة بأوجز عبارة و أقلّ بيان.
و يرجع أصل اللغات السائدة و جذورها إلى أصلين: العربيّة و اللاتينيّة، و العربيّة أحكمهما و أمتنهما. كما أنّ بيان المراد و المقصود بالرعاية الدقيقة للنكات الأدبيّة، من الحقّائق و المجازات و التمثيلات و التشبيهات و الاستعارات دليل على كمال تلك اللغة و قوّتها، و في مقولة:
إِ نَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا إشارة إلى هذه النكتة.
و لقد نزل القرآن الكريم: الكلام الإلهيّ المعجز، الذي يمثّل المعجزة الباقية لرسول الله إلى يوم القيامة، بلسان العرب، أي بأكمل و أتمّ و أوسع و أبلغ الألسنة و اللغات، فهو قائد قافلة البشريّة بدقائقه البليغة، و مجازاته و استعاراته.
على أنّ اتّساع اللغة و آدابها، و استعمال المجازات و الاستعارات المختلفة۱ توجب اتّساع الفهم وحدّة الذكاء و نموّ الذهن، فما يشاهد في ذكاء
و فراسة و حضور البديهة و الخاطر في عرب الصحاري و البوادي الجافّة اللاهبة، لا يشاهد مثله في أرقى الامم المتمدّنة، و لا في سكنة المدن
الآخرين، و تأريخ العرب شاهد على صدق كلامنا.
و لم يحصل هذا إلّا بانتشار العربيّة التي يتقنها العرب الأصليّين من سكنة البوادي الذين هم أفضل من سكنة المدن في هذا المجال، لذا فقد خشي على ضياع أُصول و جذور هذه اللغة بعد ظهور الإسلام و الفتوحات الإسلاميّة التي أدّت إلى اندماج و اختلاط أقوام و شعوب غير عربيّة، كالأعاجم و النبط، مع العرب، فأمر خلفاء بني أُميّة و بني العبّاس جماعات بالتطواف الدائم على سكنة البوادي و الصحاري و أخذ أُصول اللغة و علامات المجاز و الكناية و الاستعارة عنهم. و قد ألِّفَتْ الكتب في تدوين علم النحو؛ بعد بيان أُصوله من قبل مولى الموحدّين أمير المؤمنين عليه السلام لأبي الأسود الدؤليّ؛ من قبل أمثال الخليل و سيبويه و يعقوب ابن السكِّيت.
فكتاب «العين» للخليل هو من أهمّ كتب اللغة المعتبرة التي يستفاد منها إلى يومنا هذا.
و «الكتاب» لسيبويه، من أنفس الكتب التي لم يؤلّف مثلها حتى الآن في نزاهتها و شمولها.
و مع أنّ كتباً كثيرة قد ألّفت و دوّنت بعد ذلك، و كان بعضها إنصافاً أكثر تحقيقا و أقرب للواقع و أكثر بعثاً على الاطمئنان، كـ «المصباح المنير» و «صحاح اللغة» و «لسان العرب»، و لكنّ «الكتاب» لسيبويه (في النحو) و كتاب «العين» للخليل (في اللغة) ظلّا يتربّعان على مقام الصدارة لكلّ الكتب.
و يُعدّ المجيء بالقصد و المرام بلفظ المجاز من أفضل أنواع الكلام و المحاورة، لذا فقد قالوا: كَلَامُ البُلَغَاءِ مَشْحُونٌ بِالمُجَازَاتِ.
و قد زاد استعمال لفظ المجاز بحيث ساوى في اتّساعه استعمال اللفظ
الحقيقيّ في معناه؛ و قد كتب الزَّمَخْشَرِيّ لهذا السبب كتاباً في اللغة سمّاه «أَسَاسُ البَلَاغَة»، يتكفّل بتمييز و تشخيص المعاني الحقيقيّة عن المجازيّة، و نُظِّم حسب ترتيب الحروف الهجائيّة لكلّ مادّة، فهو يشرع بعدّ المعاني الحقيقيّة لها، ثمّ يعدّد تحت عنوان: و من المجاز جميع المعاني المجازيّة الواردة في كلام العرب و الأمثلة و الأشعار و القرآن الكريم.
كلمات أعلام المحقّقين حول مجازات القرآن
و قد صرفت هذه اللطافة و العظمة لدقائق الاستعارة و المجاز عبد الله ابن المقَفَّع الإيرانيّ الذي تمرّس في العربيّة و برز حتى عُدّ في سعة علمه و اطّلاعه على آداب العربيّة فرداً لا نظير له عن عزمه على معارضة القرآن، و مرّغت أنفه في تراب الذلّ و الهوان.
فقد عزم مع جمع من أصحابه على معارضة القرآن، فراحوا يطالعون آياته، فوقعت أبصارهم على هذه الآيات:
{وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.۱
فقالوا لأنفسهم: ليس هذا بكلام بشر؛ و انصرفوا عن عزمهم.
و من الواضح البيّن أنّ هذه النكات الدقيقة، و استعمال ألفاظ الكناية و المجاز و الاستعارة هي التي سمت بالقرآن في أُفق متعالٍ تعجز الأفهام عن السموّ إليه، و تتصاغر عن مقابلته و معارضته.
يقول السكّاكيّ في مقدّمة كتاب «مفتاح العلوم»: ثُمَّ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ عَلَى حِبِيِبِهِ مُحَمَّدٍ البَشِيرِ النَّذِيرِ، بِالكِتَابِ العَرَبيّ المُنِيرِ، الشَّاهِدِ لِصِدْقِ دَعْوَاهُ بِكَمَالِ بَلَاغَتِهِ، المُعْجِزِ لِدَهْمَاءِ المَصَاقِعِ عَنْ إيَرادِ مُعَارَضَتِهِ، إعْجَازاً أَخْرَسَ شِقْشِقَةَ كُلِّ مِنْطِيقٍ، وَ أَظْلَمَ طُرُقَ المُعَارَضَةِ فَمَا وَضَحَ إلَيْهَا وَجْهُ طَرِيقٍ، حتى أَعْرَضُوا عَنِ المُعَارَضَةِ بِالحُرُوفِ، إلَى المُقَارَعَةِ بِالسُّيُوفِ، وَ عَنِ المُقَاوَلَةِ بِاللِّسَانِ، إلَى المُقَاتَلَةِ بِالسِّنَانِ، بَغْياً مِنْهُمْ وَ حَسَداً، وَ عِنَاداً وَ لَدَداً.۱
و هو كلام صائب في معرفة القرآن من هذا الرجل العالم بالأدب و العربيّة، فقد مرّ على مجيء القرآن حتى اليوم ألف و أربعمائة سنة، و هذا الكتاب بأيدي البشر يصرخ تحدّياً أن يأتي أحد بمثله؛ و كان أيسر لأعداء الإسلام و أقلّ مؤونة و جهداً لو جلسوا في البيوت الآمنة و الجامعات التي تناطح السحاب، و قبعوا في الكنائس و الصوامع و غيرها من المعابد المخالفة للإسلام، فدعوا اليهود من حفظة التلمود، و النصارى المدافعين عن مذهب المسيحيّة، فعملوا كتاباً يماثل القرآن أو حتى سورة كسوره، و لو استغرق ذلك منهم قرناً من الزمن، أو قرنين، أو ألفاً من السنين؛ لكنّهم عدلوا عن هذا الطريق السهل اليسير و تنكّبوا عنه، و توسّلوا بالحرب و القتل و النهب و الإغارة على المسلمين.
و ليست الحروب الصليبيّة إلّا أُنموذج لذلك، و كلّ هذا القتل الفجيع الذي يمارسه اليهود و المسيحيّون اليوم بحقّ المسلمين إلّا نماذج أُخر.
فلماذا تنكّبوا عن الطريق الأسهل؟ أي المجيء بمثل للقرآن؟ و من هنا فقد كان القرآن معجزة، و هو اليوم معجزة، و هو غداً معجزة أيضاً.
هذا القرآن معجزة لأنّه يُوصف بأنّه مليء بالمجازات التي انتظمت بين آياته من أوّله إلى آخره، إلى الحدّ الذي دفع السيّد الرَّضيّ رحمةالله عليه جامع «نهج البلاغة» لتأليف كتاب مستقلّ في مجازَات القرآن جمع فيه كلّ الآيات التي استُعملت في المجاز، و أوضح فيه النكات البديعة في استعمال هذه المجازات. و قد ألّف السيّد الرضيّ كذلك كتاباً مستقلًّا في مجازات الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم دعاه بـ «المجازات النبويّة».
فاستعمال الكلمة المجازيّة جائز في اللغة، لأنّه أبلغ في إيصال المعنى من استعمال الكلمة الحقيقيّة، و لذا فقد قيل: الكِنَايَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّصْرِيحِ، وَ المَجَازُ أَبْلَغُ مِنَ الحَقِيقَةِ، وَالاسْتِعَارَةُ أَبْلَغُ مِنَ التَّشْبِيهِ.۱
و يتّضح ممّا قيل أنّ الاستعارة و المجاز ليسا كذباً، بل عين الحقيقة و الصدق و الصواب، فلا طريق فيهما للكذب و البطلان، و لا يمكن لأحد توهم الكذب و البطلان فيهما. يقول السكّاكيّ إمام المحقّقين في الأدب في «مفتاح العلوم»:
وَ الاسْتِعَارَةُ لِبِنَاءِ الدَّعْوَى فيهَا عَلَى التَّأْوِيلِ تُفَارِقُ الدَّعْوَى البَاطِلَةَ، فَإنَّ صَاحِبَهَا يَتَبَرَّا عَنِ التَّأْوِيلِ. وَ تُفَارِقُ الكِذْبَ بِنَصْبِ القَرِينَةِ المَانِعَةِ عَنْ
إجْرَاءِ الكَلَامِ عَلَى ظَاهِرِهِ، فَإنَّ الكَذَّابَ لَا يَنْصِبُ دَلِيلًا عَلَى خِلَافِ زَعْمِهِ؛ وَ أَنَّى يَنْصِبُ وَ هُوَ لِتَرْوِيجِ مَا يَقُولُ رَاكِبٌ كُلَّ صَعْبٍ وَ ذَلُولٍ؟۱
و هو عائد للمعنى الكّليّ للكذب و المجاز بالتفصيل الذي ذكر، ممّا ينفي أيّ مجال لشبهة.
نسبة الحقيقة و المجاز مع الصدق و الكذب: فى العموم و الخصوص من وجه واحد
و يمكن بعبارة منطقيّة القول إنّ النسبة بين الحقيقة و المجاز، و بين الصدق و الكذب هي عموم و خصوص من وجه، يعني: ۱ يمكن أن يكون الكلام حقيقة و صدقاً، كأن تقول: جاء الأمير، و تقصد بالأمير نفس الأمير لا وزيره أو و كيله، و يكون الأمير قد جاء حقّاً.
٢ و يمكن أن يكون الكلام حقيقة و كذباً، كأن تقول: جاء الأمير؛ و يكون مرادك بالأمير نفس الأمير لا وزيره، لكنّ الأمير لم يكن قد جاء بعد.
٣ و يمكن أن يكون الكلام مجازاً و صدقاً، كقولك: جاء الأمير؛ و قصدك بالأمير وزيره لا نفسه، و يكون الوزير قد جاء فعلًا.
٤ و يمكن أن يكون الكلام مجازاً و كذباً، كقولك جاء الأمير، و قصدك بالأمير وزيره لا نفسه، لكنّ الوزير لم يكن قد جاء بعد.
و ينبغي بالطبع نصب قرينة لفظيّة كلاميّة في الحالتين الثالثة و الرابعة، أي في الاستعمال المجازيّ بصورتيه الصادقة و الكاذبة على إرادتك بلفظ الأمير وزيره، أي على صرفك اللفظ عن معناه الظاهريّ.
لقد اتّضح معنى المجاز جيّداً، و علمنا أنّ القرآن الكريم مليء بالمجازات و الاستعارات التي هي في الحقيقة مجازات أيضاً؛ و أنّ آية:
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ}،٢ و آية: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ
وَ لا مِنْ خَلْفِهِ}۱ راسختان رسوخ الجبل لا تتزعزعان؛ و أنّ مجيء المجاز و الاستعارة في القرآن عين الصواب لا الباطل، و عين الجدّ و الأحكام لا الهزل؛ فلا حقّ للمتعلّم في علم الكلام أن يتمرّد كما يشاء و يظهر النظر بلا تفكير أو ملاحظة للغة و المحاورة، و بلا حفظ لظهورات القرآن، و بلا أساس و دليل يستند عليه، فيعلن كما يحلو له قبوله لهذا القسم و رفضه لذاك، فالقرآن ثابت و راسخ و محكم، تترافق معانية الحقيقيّة و استعاراته و تتشاكل و تتعاضد، و كلها حقّ و صدق.
و على المرء أن يتعرّف على «معالم الاصول» و «المطوّل» للتفتازانيّ كحدّ أدنى ليفهم معنى المجاز و لا يضعه في قالب الكذب و ينسب الكذب إلى الله سبحانه.
و أمّا آية: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً}.٢
فلا مجاز هناك أبداً، بل جعلُ الولدان شيباً كناية عن شدّة ذلك اليوم.
نعم، نسبة الاتّقاء إلى «يوم» مجاز عقليّ، و المراد هو اتّقاء العذاب الواقع في ذلك اليوم، لا نفس اليوم.
و أمّا آية: {فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ}.٣
فنسبة الإرادة إلى الجدار مجاز، و قد ذكره الزمخشريّ أيضاً في «أساس البلاغة».٤
و كما بيّنّا مفصّلًا فإنّ معنى المجاز خلاف المعنى الحقيقيّ، فإرادة
الجدار هنا إرادة لا كإرادة الإنسان، بل جاءت بمعنى إشرافه على السقوط، و هذه الكلمة يُعَبر بها في كثير من الموارد التي يكون فيها الفعل على و شك التحقّق و الوقوع.
شواهد السكاكى فى استعمال الأفعال فى المعانى المجازية
يقول السكّاكيّ: و من أمثلة المجاز قوله تعالى: {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ}؛۱ استُعملت {قَرَأْتَ} مكان أرَدْتَ القِرَاءَة، لكون القراءة مسبّبة عن إرادتها استعمالًا مجازيّاً بقرينة الفاء في فَاسْتَعِذْ، و السنّة المستفيضة بتقديم الاستعاذة. و لا تلتفت إلى من يؤخّر الاستعاذة فذلك ل (ضِيق العَطَن).
و قوله: {وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ}،٢ في موضع أرَادَ نِدَاءَ رَبِّهِ، بقرينة: فَقَالَ رَبِّ.
و قوله تعالى: {وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها}،٣ في موضع أرَدْنَا هَلَاكَهَا، بقرينة قوله بعدها: {فَجاءَها بَأْسُنا}، و البأس الإهلاك.
و كذلك من أمثلة المجاز، قوله: {وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها}،٤ في موضع أرَدْنَا هَلَاكَهَا، بقرينة {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ}، أي عن معاصيهم للخذلان.
و منه: {ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ}،٥ أي أردنا إهلاكها، إذ معنى الآية: كلّ قرية أردنا إهلاكها لم يؤمن أحد منهم، أفهؤلاء يؤمنون؟
و ما أدلّ نظم الكلام على الوعيد بالإهلاك. أما ترى الإنكار في جملة
{أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ}؟ لا يقع في المحز إلّا بتقدير و نحن على أن نهلكهم؛ و إنّما حملت الامتناع من أخذ قَرَأتَ في الآية المباركة {فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} على المعنى الحقيقيّ على ضيق العطن، لأنّه متى جرى فيما هو أبعد جرياً مستفيضاً يكاد يريك من إذا تكلّم بخلافه كمن صلّى لغير قبلة. أليس كلّ أحد يقول للحفّار: ضَيِّقْ فَمَ الرَّكِيَّةِ، و عليه فقس.
و التضييق كما يشهد لك عقلك الراجح هو التغيير من السعة إلى الضيق، و لا سعة هناك، إنّما الذي هناك هو مجرّد تجويز أن يريد الحفّار التوسعة فينزل مجوّز مراده منزلة الواقع، ثمّ يأمره بتغييره إلى الضيق، أما يجب أن يكون في الأقرب أجرى و أجرى، و أمثال ذلك ممّا تعدّى الكلمة بمعونة القرينة عن معناها الأصليّ إلى غيره لتعلّق بينهما.۱
لقد توسّعنا في الإجابة عن هذا الإشكال مع إمكان الردّ المختصر عليه، من أجل أن يتّضح الأساس الفكريّ و القيمة العلميّة لأدعياء الفلسفة في جامعاتنا من المتربّين في أُوروبّا، الذين يسعون بهذا المستوى من المعلومات السير في «بسط و قبض نظريّة الشريعة» و يجتهدون في أحكامها، و يستبدلون المعاني القويمة للقرآن الكريم بالمفاهيم السطحيّة و المبتذلة.
الإشْكَال السَّادِسْ: تخطّي ظواهر القرآن إسقاطٌ لحجّيّته
الإشكال السادس: تأييده لُاسلوب المرحوم الطالقانيّ في تفسير الآية الكريمة:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.۱
لأنّه اعتبر آكلي الربا في هذه الآية المباركة كالمجانين و المصروعين يقومون و يسقطون متخبّطين، فعبّر عن {يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ} بالجنون.
و كان المرحوم الطالقانيّ قد اعتبر مسّ الشيطان تمثيلًا عن الصرع و باقي الاختلالات العصبيّة و النفسيّة.
و قد نقل صاحب مقالة «بسط و قبض ...» عبارته، ثمّ نقل ردّ العلّامة الطباطبائيّ عليها؛ لكنّه مع ادّعائه أنّ كلامه في المقام يستند إلى وجهة نظر المعرفة، و أنّه لا يتطرّق إلى تعيين حقّانيّة أو بطلان رأي هذا المفسّر أو ذاك، و لا بيان أنّ المعرفة الدينيّة تطابق رأي هذا المفسّر أو ذاك،٢ لكنّه في
بيانه و تمجيده لعبارة المرحوم الطالقانيّ و انتقاده للعلّامة الطباطبائيّ قد أظهر تأييده لذلك الاسلوب في التفسير.
و سنورد في معرض الردّ عين عباراته لبيان موارد الإشكال و الاشتباه في ذلك الاسلوب، ثمّ نشرع بنقدها و الردّ عليها، فقد قال:
تفسير كاتب المقالة و توجيهه لعبارة «يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ المَسِّ»
د: جاء في الآية ٢۷٥ من سورة البقرة: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ}؛ حيث اعتبر المرحوم الطالقانيّ في تفسيره «پرتوى از قرآن» (=إشعاع من القرآن) {الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ}۱ هو تمثيل المرض الصرع و الاختلالات العصبيّة و النفسيّة الأخرى، إذ إنّ العرب كانوا ينسبون هذه الأمراض إلى مسّ الجنّ، و يقال بالفارسيّة لذلك «ديوانه» أي المصاب بالجنّ.
و قد قال بعض المفسّرين الجدد إنّ مسّ الشيطان ربّما كان إشارة إلى الجرثومة (الميكروب) التي تنفذ إلى المراكز العصبيّة، و ربمّا كان إشارة إلى منشأ الوسوسة و إثارة الأوهام و التخيّلات ذلك.٢
و نسأل: لماذا أورد المرحوم الطالقانيّ احتمالات كهذه في تفسير هذه الآية؟ أو ليس للجنون إثر مسّ الشيطان معنى صريحاً و صحيحاً؟ فما الذي أجبره على القول إنّ القرآن قد تكلّم هنا بلسان الأعراب، و تماشى متساهلًا مع أوهامهم و عقائدهم و خرافاتهم؟ و لم استعان بالعلم الحديث فأشار إلى تأثير الجراثيم (الميكروبات)؟
لا شكّ و لا ريب أنّ هناك علّة واحدة لكلّ هذه الامور، و هي انسجام و تزامن فهمه و ثقافته الدينيّة مع الفهم و الثقافة العصريّة؛ فكيف
يمكن لمن يعتقد أنّ الصرع أو الجنون مسبّب عن دلائل مادّيّة (طفيليّة أو دوائيّة أو مخّيّة أو إرثيّة ...) أن يتجاهل عقيدته هذه و يعارضها؟
فأمّا أن يفسّر الشيطان بمعنى الجرثومة (الميكروب)، أو أن يقول إنّ هذه الأقوال كانت زمن نزول الوحي لمماشاة ثقافة الأعراب من عبدة الخرافات و الشعوذة.
لكنّ قولًا كهذا كما أوضحنا يكشف عن استراتيجيّة معيّنة و لا ينحصر في الاطر و الحدود الضيّقة؛ فإنّ عليه لهذا أن يُعيد النظر أيضاً في معنى الصدق، الكذب، الجدّ، الهزل، الحسن و القبح. فيعتبر وجود هذه المعاني في القرآن رغم منافاتها للواقع جدّيّاً و صادقاً و حسناً.
و عليه أيضاً أن يوسّع مفهوم «نزول القرآن بلسان قوم» و يستبدله بمفهوم «نزوله وفق ثقافة قوم»، أي توسعة معنى «عربيّة» القرآن؛ و أن يجيز أيضاً استخدام هذا الاسلوب في القصص التأريخيّة و المطالب العلميّة القرآنيّة الأخرى، فيرفع كلّ تعارض ظاهريّ يجده مع المكتشفات البشريّة المتقنة بهذا الاسلوب.
و عليه أن لا يعدّ هذا الأمر نقصاً في الدين، بل أن يعتبر الاستعانة بالكذب و الخرافات جائزاً كلّما وجب ذلك لأداء القصد و بيان الغرض، وفي الحقيقة فإنّ المرحوم الطالقانيّ قد نحى هذا المنحنى في تفسيره لبعض القصص القرآنيّة؛ أي أنّ أمثال هذا التفسير الذي أورده لهذه الآية لا تصدر إلّا عن افتراضات كهذه، فإن لم نُضف لها تلك المبادئ فإنّها لن تفيد تلكم المعاني، و بالطبع فإنّها كانت آراءً تفسيريّة مخلصة لا قصد فيها لتحريف كتاب الله العزيز.
كما ينبغي ملاحظة خلو عمله من التأويل، بل انصبّ على إعطاء قاعدة لحلّ المشكلات التفسيريّة عند التعارض مع الواقع، و تلك القاعدة و الأصل هي: أنّ القرآن كما ورد بلسان العرب فقد جاء في قالب ثقافة العرب و عقائدهم (الصحيحة أو الخرافيّة)، لذا
فلا ينبغي علينا البحث عن المعنى الصحيح و الدقيق لأجزائه، بل يجب الأخذ بالقصد و الغرض منه بشكل مجمل، بغضّ النظر عن انطباق الآيات بحذافيرها مع الحقيقة و الواقع.
حتى يصل إلى القول:
إ نّ أُسلوب و نهج المرحوم الطالقانيّ مقبول و متّبع عند بعض المفسّرين من أهل السنّة.۱
و ينقسم إشكالنا على كلامه إلى عدّة جهات:
الجهة الاوّلى: إذا ما قال لنا طبيب ما: إنّ تمام أنواع الجنون مسبّبة عن العلل المادّيّة، بالشكل الذي لا تأثير معه للجنّ في أيّ من جهات تلك النفوس؛ أفيجب علينا أن نأخذ كلامه فنقبله على علّاته بلا تحقيق و بلا بحث، مهما استلزم مخالفة ظاهر آية من كلام الله المجيد؟ أم أنّ ذلك لا ينبغي علينا لضعف هذا المنطق و عدم سلامته!
أوّلًا: لم يدّعِ أيّ طبيب حتى الآن أنّ جميع أنواع الجنون لها علل و أسباب طبيعيّة و جرثوميّة (ميكروبيّة)؛ و ما ادّعي في هذا المجال انحصر في بعض أنواع الجنون لا جميعها.
و ثانياً: هل تعتبر الاكتشافات الطبّيّة العلل الطبيعيّة للجنون منافية لتأثير و مسّ نفوس الشياطين؟ أو أنّ منتهى إدراك الطبّ في البحث عن هذا السبب يقف عند هذا الحدّ؟ و أنّى له القدرة على نفي أسباب لا يحيط بها علمه و معرفته، و الادّعاء أنّ غير هذه العلل من الأسباب و العوامل و الشروط الأخرى ليست مؤثّرة أبداً في ظهور الجنون؟
إ نّ الآية المباركة مورد البحث {كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ
الْمَسِ} تُوَضِّح إجمالًا أنّ بعض أنواع الجنون تنشأ بمسّ الشيطان، أي إ نّ للنفوس الشرّيرة من طائفة الجنّ تأثيراً في النفوس الضعيفة المستعدّة من طائفة الإنسان، فتسوقها للانحراف عن سلوك طريق الاعتدال إلى القيام بالحركات المضطربة غير المنسجمة في الأقوال و الأفعال؛ هذا هو مفاد ظاهر الآية الشريفة.
صاحب تفسير «المنار» ينكر تأثير الجن فى مرض الصرع
و لقد رفض الشيخ محمّد عَبْدُه في تفسير «المنار» ظاهر الآية هذا لمجرّد أنّ هذا الأمر مستحيل، فالعلوم الحديثة ترفض تأثير الجنّ في الجنون؛ و قد سار المفسّرون الآخرون على هذا النهج فتابعوه في رأيه و قوله.
فهو يقول: ثمّ إنّ التشبيه مبنيّ على أنّ المصروع الذي يُعَبَّر عنه بالممسوس يتخبّطه الشيطان، أي أنّه يصرع بمسّ الشيطان له، و هو ما كان معروفاً عند العرب و جارياً في كلامهم مجرى المثل. قال البيضاويّ في التشبيه:
و هو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، و الخَبْط ضرب على غير اتّساق كَخَبْطِ العَشْواء.
و تبعه أبو السُّعود كعادته فذكر عبارته بنصّها في تفسيره.
فالآية على هذا لا تثبت أنّ الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقةً و لا تنفي ذلك. و في المسألة خلاف بين العلماء:
أنكر المعتزلة و بعض أهل السنّة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة. و قال بعضهم إنّ سبب الصرع مسّ الشيطان كما هو ظاهر التشبيه، و إن لم يكن نصّاً فيه.
و قد ثبت عند أطبّاء هذا العصر أنّ الصرع من الأمراض العصبيّة التي
تعالج كأمثالها بالعقاقير۱ و غيرها من طرق العلاج الحديثة. و قد يعالج بعضها بالأوهام،٢ و هذا ليس برهاناً قطعيّاً على أنّ هذه المخلوقات الخفيّة التي يعبر عنها بالجنّ يستحيل أن يكون لها نوع اتّصال بالناس المستعدّين للصرع، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال.
و المتكلّمون يقولون: إنّ الجنّ أجسام حيّة خفيّة لا تُرَى، و قد قلنا في تفسير «المنار» غير مرّة إنّه يصحّ أن يُقال إنّ الأجسام الحيّة الخفيّة التي عرفت في هذا العصر بواسطة النظّارات المكبرة و تسمّى بالميكروبات يصحّ أن تكون نوعاً من الجنّ، و قد ثبت أنّها علل لأكثر الأمراض. قلنا ذلك في تأويل ما ورد من أنّ الطاعون من وَخْزِ٣ الجنّ.
على أنّنا نحن المسلمين لسنا في حاجة إلى النزاع فيما أثبته العلم و قرّره الأطبّاء، أو إضافة شيء إليه ممّا لا دليل في العلم عليه لأجل تصحيح بعض الروايات الآحاديّة، فنحمد الله تعالى أنّ القرآن أرفع من أن يعارضه العلم.٤
ردّ العلّامة الطباطبائيّ على أنّ إسناد جنون العبد الى الله: محلّ إشكال
و قد قال العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في تفسير هذه الآية: إنّ التشبيه في قوله{يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ} لا يخلو من إشعار
بجواز تحقّق ذلك في مورد الجنون في الجملة، فإنّ الآية و إن لم تدلّ على أ نّ كلّ جنون هو من مسّ الشيطان، لكنّها لا تخلو عن إشعار بأنّ من الجنون ما هو بمسّ الشيطان، و كذلك الآية و إن لم تدلّ على أنّ هذا المسّ من فعل إبليس نفسه، فإنّ الشيطان بمعنى الشرّير يُطلق على إبليس و على شرار الجنّ و شرار الإنس، و إبليس من الجنّ،۱ فالمتيقّن من إشعار الآية أنّ للجنّ شأناً في بعض الممسوسين إن لم يكن في كلّهم.
و ما ذكره بعض المفسّرين أنّ هذا التشبيه من قبيل المجاراة مع عامّة الناس في بعض اعتقاداتهم الفاسدة، حيث كان اعتقادهم بتصّرف الجنّ في المجانين، و لا ضير في ذلك لأنّه مجرّد تشبيه خالٍ عن الحكم حتى يكون خطأً غير مطابق للواقع، فحقيقة معنى الآية: أنّ هولإ الآكلين للربا حالهم حال المجنون الذي يتخبّطه الشيطان من المسّ؛ و أمّا كون الجنون مستنداً إلى مسّ الشيطان فأمر غير ممكن، لأنّ الله سبحانه أعدل من أن يسلّط الشيطان على عقل عبده أو على عبده المؤمن. و هذا القول بتمامه محلّ للإشكال:
فأوّلًا: أنّه تعالى أجلّ من أن يستند في كلامه إلى الباطل و لغو القول بأيّ نحوٍ كان من الاستناد إلّا مع بيان بطلانه وردّه على قائله، و قد قال تعالى في وصف كلامه:
{وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ}.۱
و قال تعالى:
{إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ}.٢
و ثانياً: قولهم إنّ استناد الجنون إلى تصرّف الشيطان بإذهاب العقل ينافي عدله تعالى، ففيه أنّ الإشكال بعينه مقلوب عليهم في إسنادهم ذهاب العقل إلى الأسباب الطبيعيّة، فإنّها أيضاً مستندة بالآخرة إلى الله تعالى مع إذهابها العقل.
و ثالثاً: على أنّه في الحقيقة ليس في ذهاب العقل بإذهاب الله إيّاه إشكال، لأنّ التكليف يرتفع حينئذٍ بارتفاع الموضوع، و إنّما الإشكال في أن ينحرف الإدراك العقليّ عن مجرى الحقّ و سنن الاستقامة مع بقاء موضوع العقل على حاله، كأن يشاهد الإنسان العاقل الحسن قبيحاً و بالعكس، أو يرى الحقّ باطلًا و بالعكس جزافاً بتصرّفٍ من الشيطان.
فهذا هو الذي لا يجوز نسبته إلى الله تعالى، و أمّا ذهاب القوّة المميّزة و فساد حكمها تبعاً لذهاب نفسها فلا محذور فيه سواء أُسند إلى الطبيعة أم إلى الشيطان.
و رابعاً: على أنّ استناد الجنون إلى الشيطان ليس على نحو الاستقامة و من غير واسطة، بل الأسباب الطبيعيّة كاختلال الأعصاب و الآفة الدماغيّة أسباب قريبة وراءها الشيطان، كما أنّ نوع الكرامات تستند إلى الملك مع تخلّل الأسباب الطبيعيّة في البين.
و قد ورد نظير ذلك فيما حكاه الله عن أيّوب عليه السلام، إذ قال:
{أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ}.۱
و إذ قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ}.٢
و الضُّرُّ هو المرض و له أسباب طبيعيّة ظاهرة في البدن، فنسب ما به من المرض المستند إلى أسبابه الطبيعيّة إلى الشيطان.
و هذا و ما يشبهه من الآراء المادّيّة التي دبّت في أذهان عدّة من أهل البحث من حيث لم يشعروا بها، حيث إنّ أصحاب المادّة لمّا سمعوا الإلهيّين يسندون الحوادث إلى الله سبحانه، أو يسندون بعضها إلى الروح أو الملَك أو الشيطان، اشتبه عليهم الأمر فحسبوا أنّ ذلك إبطال للعلل الطبيعيّة و إقامة لما وراء الطبيعة مقامها، و لم يفقهوا أنّ المراد به تعليل في طول تعليل لا في عرض تعليل، و قد مرّت الإشارة إلى ذلك في المباحث السابقة مراراً.٣
كان هذا حاصل المطالب الواردة في «تفسير الميزان» و التي مثّلت حقّاً جواباً كافياً و شافياً لذلك الاحتمال غير الوجيه.
كلام مؤلف «روح المعانى» بشأن مسّ الشيطان قريب من نظر العلّامة
كما إنّ من بين المفسّرين الذين كان لهم قبله بحث مفيد عن تخبّط المجنون من مسّ الشيطان، السيّد محمود الآلوسيّ البغداديّ في تفسير «روح المعاني»، حيث قارب قوله قول العلّامة إلى حدّ كبير، فهو يقول:
المسّ أي الجنون، يقال: مَسَّ الرَّجُلَ فَهُوَ مَمْسُوسٌ إذا جُنّ، و أصله اللمس باليد، و سمّي به لأنّ الشيطان قد يمسّ الرجل و أخلاطه مستعدّة للفساد فتفسد و يحدث الجنون. و هذا لا ينافي ما ذكره الأطبّاء من أنّ ذلك
س
من غلبة مرّة السوداء،۱ لأنّ ما ذكروه سبب قريب و ما تشير إليه الآية سبب بعيد، و علّيّة مسّ الشيطان للجنون ليست مُطَّرِدة و لا منعكسة، فقد يحصل مسّ و لا يحصل جنون، كما إذا كان المزاج قويّاً، و قد يحصل جنون و لم يحصل مسّ، كما إذا فسد المزاج من دون عروض أجنبيّ، و الجنون الحاصل بالمسّ قد يقع أحياناً، و له عند أهله الحاذقين أمارات يعرفونه بها، و قد يدخل في بعض الأجساد على بعض الكيفيّات ريح متعفّن تعلّقت به روح خبيثة تناسبه فيحدث الجنون أيضاً على أتمّ وجه، و ربّما استولى ذلك البخار على الحواسّ و عطّلها، و استقلّت تلك الروح الخبيثة بالتصرّف فتتكلم و تبطش و تسعى بآلات ذلك الشخص الذي قامت به من غير شعور للشخص بشيء من ذلك أصلًا.
و هذا كالمشاهد المحسوس الذي يكاد يعدّ منكره مكابراً منكراً للمشاهدات.
استشهادات صاحب «روح المعانى» على تخبّط الشّيطان و مسّ
و قال المعْتَزِلَةُ و القَفَّالُ من الشافعيّة: إنّ كون الصرع و الجنون من الشيطان باطل، لأنّه لا يقدر على ذلك، كما قال تعالى حكاية عنه: {وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ}،٢ فالآية واردة هنا على ما يزعمه العرب و يعتقدونه من أنّ الشيطان يخبط الإنسان فيصرع، و أنّ الجّنيّ يمسّه فيختلط عقله و ليس لذلك حقيقة؛ و ليس بشيء، بل هو من تخبّط الشيطان بقائله و من زعمه المردود بقاطعيّة أدلّة الشرع، فقد ورد: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إلَّا يَمَسُّهُ
الشَّيْطَانُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً.
و في بعض طرق الروايات: إلَّا طَعَنَ الشَّيْطَانُ في خَاصِرَتِهِ، وَ مِنْ ذَلِكَ يَسْتَهِلُّ صَارِخاً. إلَّا مَرْيَمَ وَ ابْنَهَا لِقَوْلِ امِّهَا: {وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ}.۱
و قوله صلّى الله عليه [و آله] و سلّم: كُفُّوا صِبْيَانَكُمْ أَوَّلَ العِشَاءِ، فَإنَّهُ وَقْتُ انْتِشَارِ الشَّيَاطِينِ.
و قد ورد في حديث المفقود الذي اختطفته الشياطين وردّته في زمان رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه حدث من شأنه معهم قال: فَجَاءَنِي طَائِرٌ كَأَنَّهُ جَمَلٌ قَبَعْثَرَي فَاحْتَمَلَنِي عَلَى خَافيةٍ مِنْ خَوافيهِ.٢
إلى غير ذلك من الآثار، و في كتاب «لَقَط المرجان في أَحكام الجانّ» كثير منها.
و اعتقاد السلف و أهل السنّة أنّ ما دلّت عليه (الآية) أُمور حقيقيّة واقعة كما أخبر الشرع عنها، و التزام تأويلها كلّها يستلزم خبطاً طويلًا لايميل إليه إلّا المعتزلة و من حذا حذوهم، و بذلك و نحوه خرجوا عن قواعد الشرع القويم، {فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.٣
و أمّا الآية التي ذكروها في معرض الاستدلال على مدّعاهم فلا تدلّ عليه، إذ السلطان المنفيّ فيها إنّما هو القهر و الإلجاء إلى متابعته، لا التعرّض للإيذاء و التصدّي لمّا يحصل بسببه الهلاك؛ و من تتبّع الأخبار
النبويّة وجد الكثير منها قاطعاً بجواز وقوع ذلك من الشيطان، بل وقوعه بالفعل.
و خبر: الطَّاعُونُ مِنْ وَخْزِ أعْدَائِكُمُ الجِنِّ صريح في ذلك، و قد حمله بعض مشايخنا المتأخّرين على نحو ما حملنا عليه مسألة التخبّط و المسّ، حيث قال: إنّ الهواء إذا تعفّن تعفّناً خاصّاً مستعداً للخلط و التكوين، تنفرز منه و تنحاز أجزاء سمّيّة باقية على هوائيّتها أو منقلبة بأجزاء ناريّة محرقّة، فيتعلّق بها روح خبيثة تناسبها في الشرارة و ذلك نوع من الجنّ، فإنّها على ما عرف في الكلام أجسام حيّة لا ترى، إمّا الغالب عليها الهوائيّة أو الناريّة، و لها أنواع عقلاء و غير عقلاء، تتوالد و تتكوّن، فإذا نزل واحد منها طبعاً أو إرادة على شخص أو نفذ في منافذه، أو ضرب و طعن نفسه به يحصل فيه بحسب ما في ذلك الشرّ من القوّة السميّة و ما في الشخص من الاستعداد للتأثّر منه كما هو مقتضى الأسباب العاديّة في المسبّبات ألم شديد مهلك غالباً مظهر للدماميل و البثرات في الأكثر لسبب إفساده للمزاج المستعدّ، و بهذا يحصل الجمع بين الأقوال في هذا الباب، و هو تحقيق حسن لم نجده لغيره؛ كما لم نجد ما حقّقناه في شأن المسّ لأحد سوانا.۱
و على كلّ حال، فطبقاً لمنطق القرآن الكريم و البحوث العقليّة في دورة معارف الإسلام و الحكمة المتعاليّة، فإنّ كلّ المعلومات في عالم الطبع و المادّة مستندة إلى علّة في العالم الذي وراءها، وصولًا إلى علّة العلل و مسبّب الأسباب.
فالعلل الأعلى لا تبطل عمل المعلولات الأوطأ، بل هي حاكمة عليها،
و تلك العلل نفسها هي الموجدة و المظهرة للعلل الطبيعيّة، و الآية الكريمة:
{فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}۱ شاهد صادق لهذا الادّعاء.
و لقد برهنّا هذا الأمر بحول الله و قوّته في دورة العلوم و المعارف الإسلاميّة، قسم «معرفة المعاد»، الجزء الثالث، المجلس السابع عشر؛ و أوضحنا أنّ التعبير عن الجنّ بالجرثومة (الميكروب) ناشئ عن عدم التفقّه و التعمّق في المسائل العلميّة.
القرآن يقول: للإنس و الجن شعور و إنهما قابلان للخطاب و التفهيم
الجهة الثانية من جهات الإشكال: إ نّ مسألة وجود الجنّ مسألة ثابتة لا تردّد فيها طبقاً للآيات القرآنيّة و الشواهد الخارجيّة، فقد قسّم القرآن الكريم المكلّفين إلى مجموعتين و فئتين: الإنس و الجنّ، و كان خطابه موجّهاً لكليهما معاً، كالآية: {يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}.٢
و مثل آية: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}.٣
و آية: {وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ}.٤
فالقرآن الكريم يعتبر الإنسان و الجنّ موجودَين مادّيَّين يمتلكان الشعور و الإدراك، و قابلين للأمر و النهي، و اعتبرهما في جنب بعضهما
قابلين للخطاب و المفاهمة، خلق الربّ المتعال أوّلهما من الطين و ثانيهما من النار:
{خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ، وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ ، فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}.۱
و تبعاً لذلك فأصل خلق الجنّ من النار و الغازات غير المرئيّة، و له نزوع إلى الأعلى، في حين أنّ أصل خلق الإنسان من الطين المرئيّ، و نزوعه إلى الأسفل. و لهاتين المجموعتين نبيّ إنسيّ مشترك هو خاتم الأنبياء محمّد بْن عَبْدِ اللهِ صلّى الله عليه و آله و سلّم، فهو نبيّ للجنّ، كما هو نبيّ للإنس:
{وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ ، قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ، يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ ، وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ}.٢
جميع أفراد الجان مكفلون كالإنسان، جزاء عملهم الجنة و النار
و هناك سورة في القرآن الكريم باسم سورة الجنّ جرى فيها الحديث بشكل مفصّل عن إيمان الجنّ برسول الله و انقسامهم إلى مجموعتين:
صالحة و طالحة، مسلمة و متعدّية قاسطة، ثمّ بيان الثواب و العقاب الاخروي الذي ينتظرهم. و تحوي هذه السورة على دقائق بديعة و شرح
حال الجنّ، إذ يأمر الله سبحانه نبيّه أن:
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً ، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً ، وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً ، وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً ، وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً ، وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً ، وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً ، وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً ، وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً ، وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً ، وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً ، وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً ، وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً ، وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً ، وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً ، وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ، لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً ، وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً ، وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً}.۱
أمّا بشأن إمكان معاشرة و اختلاط أفراد طائفتي الجنّ و الإنس ببعضهم ظاهراً أو باطناً، و إعانة بعضهم بعضاً في الإيمان و الكفر، و بإجمال: أن يكون لهم تأثير على بعضهم البعض مع حفظ إرادة و اختيار كلّ من هذين الطائفتين، فقد وردت بذلك آيات من القرآن الكريم في أنّ
الله سبحانه يجمع يوم الجزاء طائفتي الإنس و الجنّ فيتم الحجّة عليهما أنّهما قد تنكّبتا عن جادّة الصواب و تبعا بعضهما بلا إجبار و إلزام، بالرغم من إرساله الرسل و الأنبياء إليهما لإنذارهما، فآل عاقبة أمرهما إلى الخسران و العذاب؛ فيقول:
{وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ، وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ ، يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ، ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ ، وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.۱
فالله سبحانه يكلّف جميع أفراد الإنسان و الجانّ و يثيبهم حسب ذلك التكليف، أو يسوقهم إثر تجرّيهم و معصيتهم و إتمامه الحجّة عليهم إلى جهنم؛ فهو يعدهم العذاب الأليم و الخسران في عاقبة الأمر:
{أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ}.٢
{وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ
الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ}.۱
{وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ}.٢
{وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ}.٣
{وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ}.٤
{وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ ، سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ، إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ}.٥
فمن تأمّل أدنى تأمّل في هذه الآيات أدرك أنّ الجنّ خُلقوا مساوين للإنسان، فهم في التكليف و المؤاخذة و الاختيار و الإرادة و الثواب و العقاب و السَوْق إلى الجنّة أو الهوي في جهنم على حدٍّ سواء. و بالطبع فإنّ وجودهم أضعف من الإنسان، كما أنّ أفراد الإنسان أنفسهم يتفاوتون بينهم قوّة و ضعفاً.
و باعتبار تفوّق الإنسان في القوّة على الجنّ، فقد كان نبيّ الجنّ من طائفة الإنس، لا من أنفسهم؛ فالآية المذكورة {أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} تعني: رسل من جنس المادّة و الطبيعة، مقابل الملائكة الذين هم موجودات ملكوتية. فهؤلاء الأنبياء كانوا من جنس البشر؛ و البشر و الجنّ متجانسان، أي من مادّة و طبيعة واحدة؛ فالقول إنّ هؤلاء الأنبياء كانوا من جنس الجنّ هو قول صحيح و صائب.
و قد قال العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه الزكيّة: و لقد سئل عن هذا الأمر من الجنّ أنفسهم: «ألم يأتكم رسل منكم»؟ أي من جنسكم، فقالوا في الإجابة: إنّ أنبياءنا من الإنس، و إنّا آمنّا بخاتمة الرسالات و أقررنا بالنبيّ خاتماً للرسل.
أفليس من المضحك و المثير للسخرية مع وجود هذه المطالب و هذه الآيات الجليّة أن يقول امرئ: إنّ الجنّ في القرآن بمعنى الميكروب. أو إ نّ بعض أنواعهم ميكروبات؟ ذلك لأنّ الميكروب موجود حيّ و صغير و خفي. أفهل يحشر الله سبحانه هذه الميكروبات فيحاسبها و يعذّبها؟ أو أنّها تُلقى في جهنم مع البشر رديفاً لهم؟ أو كانت هذه الميكروبات هي التي تشرّفت بالحضور عند رسول الله في مكّة فآمنت به، و حكى الله سبحانه أقوالهم في قرآنه؟ فمحلّ نزول الجنّ في مكّة معين معروف، و قد سمّي بمسجد الجنّ، يقع قرب المسجد الحرام في شارع المسجد الحرام، حيث يستحبّ للحجّاج الذهاب إليه و الصلاة فيه ركعتين.
قال لي يوماً أحد المطّلعين في أحد مجالس طهران: أيّها السيّد! إنّ هؤلاء الأمريكان هم الجانّ أنفسهم، و إنّ من معجزات القرآن الكريم إخباره عن اكتشاف قارّة أمريكا؛ لأنّ الجنّ معناه الموجود الخفيّ الحيّ، و الأمريكان كانوا حتماً أحياء عند نزول القرآن و مخفيّين عن نظر جميع أفراد البشر.
فأجبته: إنّ الجنّ مقابل الإنس و عدله و مساويه، و هذه الحقيقة مشهورة في الخطابات القرآنيّة التي تعدّ الجنّ مع الإنس و ليس ضمنهم، و إنّ جميع أفراد البشر و جدوا من أصل واحد هو آدم و زوجه، تبعاً للآية الكريمة الصريحة: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ
واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً}.۱
فحيثما وجد البشر فهو إنسان من ولد آدم لا من الجنّ؛ لذا فإنّ جميع الرجال و النساء على ظهر البسيطة هم من آدم و حوّاء، و لا دخل للجنّ في هذا النسل، فالإنسان الإفريقيّ و الأمريكيّ و العنصر الأحمر هم كلّهم من طائفة الإنسان، و الإنسان غير الجنّ.
ينبغى لمفسر القرآن أن يكون عالما بلسان القرآن
و أمثال هؤلاء الأفراد الذين يقحمون أنفسهم في التفسير بدون أن يمتلكوا معرفة بالمنطق القرآنيّ، فيحاولون تفسير القرآن وفق علومهم و مدركاتهم، ستظهر منهم نظائر هذه المطالب، فيدعون الميكروب شيطاناً و قصص القرآن تمثيلًا؛ و في الحقيقة فإنّهم سيعرضون أساطير و حكايات وهميّة من نسج خيالهم، و حاشا من كلامه العالي، الذي قال عنه: {إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ، وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}؛٢ أن يسقط إلى هذا الحدّ في المطالب السطحيّة و التخيّلات الوهميّة.
و لو فهم هؤلاء المفسّرون آية واحدة فقط من القرآن: {وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}، لمّا حاولوا إلى آخر حياتهم أن يتعرّضوا للتفسير و يقتحموا ميدانه. و حين يدرك الإنسان ضحالة علمه، فإنه لن يتعرّض للمطالب القرآنيّة السامية و الراقية التي تقصر الأفكار عن بلوغها، و يسلك طريق البحث و التنقيب إلى آخر عمره ليتّضح الأمر لديه بدرجة كافية؛ لا أن يكرّر على الدوام هذه الصيغة المحفوظة التي استظهرها الجميع: إنّ العلم لايؤيّد هذا الأمر! إنّ التجربة لم تثبت ذلك! إنّ علم وظائف الأحياء و علوم الحياة لم تفعل كذا و كذا ... إلى آخره. فما علاقة علم وظائف
الأعضاء و علوم الحياة بكشف الجنّ و الشيطان، أو برؤية الملائكة؟
إ نّ إدراك هذه الامور له طريق آخر ما لم يسلكه الإنسان فلاحقّ له في التدخّل و إظهار النظر، و هذا الأمر من الواضحات، إذ إنّ فروع العلوم كثيرة و متشعّبة، و كلّ منها يختصّ بموضوع معيّن، فاستخدام علم وظائف الأعضاء في الورود في علم كشف الحقّائق و المخفيّات بما فيها الموجودات الملكوتيّة الرحمانيّة و الموجودات الجنيّة الشيطانيّة و السعي بتلك الأدوات و الوسائل للعثور على حلول لمسائل هذه العلوم، هو كالوصول إلى تركستان لمن كان يحثّ الخطى قاصداً مكّة!
لا ندّعي بوجوب حيازة المفسّر لروحٍ ملكوتيّة، و لا نبغي ألّا يفسّر القرآن أحد. لكنّنا نقول: ينبغي للمفسّر أن يلمّ بمعاني و مصطلحات القرآن، فيفسّر القرآن كما يريد القرآن، و بلسان القرآن، حتى لو لم يكن المفسّر مسلماً، بل مسيحيّاً أو يهوديّاً، فالمهمّ في الأمر أن لا يتخطّى في تفسير القرآن المنطق القرآنيّ و الرؤية القرآنيّة، فيقول ما قاله القرآن بغضّ التنظر عن اعتقاده الشخصيّ.
و من أكبر الهفوات التي ارتكبها الشيخ محمّد عبده في تفسير «المنار»، قلّة اهتمامه و عنايته في تفسيره بالحقّائق و الامور المعنويّة و أُسس العالم العلويّ و خلقة موجودات ما وراء هذا العالم، في حين عنى و اهتمّ في المقابل بأُسس و علائق العلوم المادّيّة و التقدّم الطبيعيّ.
فهذا المنطق لا يمنح الروح البشريّة الارتواء، و لا يخمد عطشها الملتهب، لأنّ البشر مرتبط و متعلّق بعالم الغيب، فبدنه في عالم الشهادة لكنّ روحه و سرّه و وجدانه في عالم الملكوت، فلا يمكن إرضاءه و إشغاله بهذه العلوم الفانية البشريّة. لكنّ تفسير «الميزان» على معلّمه آلاف التحيّة و الثناء و الرحمة الإلهيّة الموصولة، قد فتح هذا الباب في التفسير، فاعتبر
أ نّ الولاية هي حقيقة معاني القرآن، و قدّم العرفان على أنّه الطريق الوحيد للوصول إلى سرّ الملكوت. و قد استفاد في هذا التفسير من سنّة النبيّ الأكرم في إشباعه الأرواح الغرثى، و إروائه المتعطّشين للمعارف في دعوته إلى الله و وحدته الحقّة الحقيقيّة، و إلى عالم الروح و الملكوت، و إلى الوصول إلى مقام الولاية، و التزوّد من كلا عالمي الملك و الملكوت.
شهرة العلامة الطباطبائى فى البلدان العربية تفوق شهرته فى إيران
لذا فقد لوحظ: أنّ تفسير العلّامة الطباطبائي قدّس الله سرّه الزكيّ قد حاز هذه الأيّام في مصر و لبنان و بعض البلاد الأخرى هذه الشهرة الفائقة؛ و مع أنّ مؤلّف «المنار» سنيّ المذهب و من أهل تلك البلاد و الديار أي مصر لكنّ المعلّمين و خِرِّيجي المعاهد و الجامعات المصريّين و اللبنانيّين قد شغفوا بتفسير «الميزان» إلى الحدّ الذي لم نكن لنتصوّره.
لقد ذهبتُ خلال حلولي في مدينة مشهد المقدّسة لزيارة أحد علماء النجف الأشرف المقيمين حاليّاً في قم بعد تشرّفه بالقدوم للزيارة؛ و ذلك بعد مدّة قصيرة من كتابتي لرسالة «مهر تابان» (=الشمس الساطعة) تخليداً لُاستاذنا العلّامة، حيث طُبعت تلك الرسالة بسرعة؛ و كان مجلس ذلك العالم يضمّ جمعاً من أولاده و أصهاره، فتطرّق الحديث إلى رحلة العلّامة، و كان الحاضرون يدلون بأقوالهم، فسألني أحد أصهار هذا العالم، و كان من مواليد النجف و من أصل عربيّ من أحفاد المرحوم الصدر: ألم تكتبوا هذه الرسالة بالعربيّة؟ فلقد كان حريّاً أن تُكتب بتلك اللغة.
فأجبته: لقد كان العلّامة من المتكلّمين بالفارسيّة، و إيران بلده و موطنه. و قد ألِّف هذا الكتاب للتعريف بأحواله، و من الواضح أنّ شهرة العلّامة في إيران أكثر من غيرها.
قال: إنّكم على خطأ، فللعلّامة في البلاد العربيّة شهرة تفوق عشرات المرّات شهرته في إيران؛ فأساتذة الجامعات و أهل الفنّ و الاطّلاع، و حتى
طلبة الجامعات يعتمدون على الدوام على تفسير «الميزان»، فالكلّ يعتبر «الميزان» مصدراً أصيلًا للتحقيق، في حين تراجعت جانباً تفاسير «المنار» و «في ظلال القرآن» و أمثالها.
و كان يقول: لقد كنتُ بنفسي مقيماً هناك، و لمستُ هذا الأمر عن كثب.
فقلتُ: ليس في الأمر من مشكلة، إذ يمكن لبعض أهل الخبرة ممّن لهم إلمام كامل بالعربيّة أن يترجم هذا الكتاب إليها ليتّضح لهم أيضاً الاسلوب الأخلاقيّ و السلوك الأدبيّ لهذا الفقيد السعيد و علوّ همته و إخلاصه. رَحمةُ اللهِ عَلَيْهِ مَا بَقِيَتِ السَّمَاوَاتُ وَ الأرَضُونَ.
كما أنّ مسألة تأثير الجنّ في النفوس البشريّة من الأهميّة بحيث بين الله المتعال في قرآنه الكريم من باب سنّته القطعيّة في مسألة دعوة الأنبياء و المرسلين جَعْلَه أعداءً لهم من طائفة الإنس ليعاكسوا مسيرة الدعوة و يعرقلوا تبليغ الرسالات الإلهيّة و يختلقوا المشكلات و العقبات أمامها، و أنّه تعالى يجعل أيضاً أعداءً من طائفة الجنّ لمثل هذا الأمر، فيعاضدون الأعداء الإنسيّين في إيجاد الموانع و العقبات أمام سبيل دعوة الأنبياء و إبلاغهم رسالات الله؛ كلّ ذلك لتكون دعوة الأنبياء مقرونة بالجد و الجهد، محفوفة بالمشقّة و المجاهدة و التعب:
{وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ ، وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ}.۱
الاعتصام بالله من شر وساوس الجن و الإنس
فينبغي للإنسان لهذا الأمر أن يستعيذ بالله تعالى من شرّ شياطين الجنّ، كما يستعيذ به من شياطين الإنس.
فالشيطان بمعنى الموجود الشرّير، و ليس كلّ الجنّ شياطيناً، كما ليس كلّ الإنس شياطيناً؛ و الشيطان الجنيّ هو ذلك الجنيّ الكافر غير المسلم، الذي من دأبه الفساد و الشرّ و الشيطنة، كما أنّ من دأب الشيطان الإنسيّ، أي الإنسان غير المسلم، الإضرار و الإعاثة في الأرض فساداً.
فشياطين الجنّ تأنس بشياطين الإنس و تصحبها، كما أنّ مسلمي الجنّ هم في صدد إعانة و مساعدة مسلمي الإنس.
و يتمثّل عمل شياطين الإنس في الوسوسة الظاهريّة و الخارجيّة للإنسان، فهم يغرّونه و يحرفونه بكلامهم المعسول عن الصراط المستقيم، و يسوقونه إلى أهدافهم و غاياتهم الفاسدة التي تعقب الخسران و الندامة.
في حين يوسوس شياطين الجنّ إلى الإنسان من باطنه و داخله، فيوردون عليه الخواطر السيّئة و الأفكار الجاهلة و الآراء الكاسدة الفاسدة، ليبعثوه على ارتكاب الأعمال الشرّيرة و الخبيثة و يزيّنون له ذلك.
و الوسوسة هي حديث النفس بما ليس من مصلحة الإنسان فعله، بل بما يحيد به عن الاستقامة و النهج القويم.
و قد ورد في سورة الناس أنّ على الإنسان أن يستعيذ بالله و يحتمي به و يلتجئ إليه من هذه الوساوس التي يسوقها إليه كلّ من الجنّ و الإنس:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ، مَلِكِ النَّاسِ ، إِلهِ النَّاسِ ، مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ ، الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ ، مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}.۱
و قد نزل جبرائيل بهذه السورة مع سورة الفَلَق على رسول الله من قبل الله سبحانه، و ذلك حين حمّ الحسنان عليهما السلام و مرضا، لتُقرأ عليهما فيشفيان.
و معروف أنّ هاتين السورتين لم يضمّهما مصحف ابن مسعود، فهكذا ورد عن أهل البيت عليهم السلام، لأنّ ابن مسعود كان يعتقد أنّهما تعويذتان نزل بهما جبرائيل من السماء ليعوّذ بهما الحسنان، و لقد عُلَّقتا عليهما و قُرِأَتا فشفيا؛ أمّا الآخرون غير ابن مسعود فقد عدّوهما من سور القرآن.
و المراد بالمعوّذتين بصيغة اسم الفاعل سورتا {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ}، و تتضمّن الاستعاذة بالله من كلّ شرّ روحيّ و وساوس باطنيّة؛ و سورة {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} و تتضمّن الاستعاذة بالله من كلّ شرّ بدنيّ و جسميّ و دنيويّ.
و قد روى المجلسيّ رضوان الله عليه عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه كان يقرأ آية الكُرْسِيّ حين يأوي إلى فراشه، و يقول: إنّ جبرائيل جاءني فقال: يَا مُحَمَّدُ! إنَّ عِفْرِيتاً مِنَ الجِنّ يَكِيدُكَ في مَنَامِكَ؛ فَعَلَيْكَ بِآيَةِ الكُرْسِيّ.۱
و لقد أردنا أن نكتفي في هذه البحوث بآيات القرآن لتكون حجّة قاطعة على منكري وجود الجنّ و تأثيراتهم السيّئة، و إلّا فإنّ الروايات المستفيضة من الشيعة و السنّة قد فاقت حدّ الإحصاء، و يحتاج البحث فيها إلى كتاب مستقلّ.
أمّا من جهة المشاهدة الخارجيّة للجنّ، فلا نتطرّق إلى نقل ما جاء في
الكتب و التواريخ من حكايات، بل نكتفي فقط بنقل عدّة فقرات من مشاهدات قد حصلت في زماننا منقولة عمّن يوثق بكلامهم.
فضمن بيان أنّ تقسيم الآية المباركة: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ في مربّعات إلى الحروف الأبجديّة مفيد لدفع الجنّ عن الأفراد المبتلين بالجنّ، قال الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف:
لقد تطرّق الحديث يوماً في مجلسٍ ما و كنتُ حاضراً هناك أسمع و أُشاهد إلى موضوع أنّ الجنّ هل يستطيعون الدخول من الأبواب المقفلة، أو أن يستخرجوا أشياء من صناديق مقفلة أم لا؟ فقال أحد الحاضرين ممّن يدّعي تسخير الجنّ: نعم! يستطيع الجنّ أن يخرجوا الأشياء من الصناديق المغلقة و المقفلة.
و كان في ذلك المجلس صندوق كبير لحفظ الملابس موضوعاً في زاوية الغرفة، وُضعت فيه صرر الملابس، فجيء به إلى وسط الغرفة، و أُحكم إقفاله بأقفال متينة عديدة، و فوق ذلك فقد جلس رجل ثقيل ضخم الجثّة فوق ذلك الصندوق.
و فجأةً شاهدنا عياناً أنّ صرر الملابس منضودة جميعاً على الأرض خارج الصندوق، فدهشنا لذلك. ثمّ نهض ذلك الرجل الضخم ذو البنية القويّة من على الصندوق، و فُتحت الاقفال و رُفع غطاء صندوق الملابس فرأيناه خالياً من صرر الملابس!
قصة إجضار الجن من قبل السيد البحرينى فى محضر العلامة
و قال العلّامة أيضاً: جاءني يوماً السيّد نور الدين (ولده الأصغر) حين كنتُ في طهران فقال: أبي العزيز! إنّ البحرينيّ موجود في طهران حاليّاً، أفتريدون أن أجيئكم به على الفور؟
و كان السيّد البحرينيّ أحد الأفراد المعروفين و المشهورين بإحضار الجنّ، و من المتبحّرين في علم الأبجد و حساب المربّعات.
قلتُ: لا مانع من ذلك.
فذهب السيّد نور الدين و عاد بعد ساعة أو ساعتين و بصحبته السيّد البحرينيّ، فجلس في المجلس، ثمّ جيء بعباءة و وضع طرفي العباءة في يديّ، و أمسك طرفيها الآخرين بيديه، و كانت العباءة مرتفعة عن الأرض و نحن نمسك بها بحوالي شبرين.
ثمّ قام بإحضار الجانّ على هذه الحالة، فتصاعدت ولولة و همهمة شديدة تحت العباءة، و كانت العباءة تهتزّ بشدّة تكاد معها أن تفلت من أيدينا، و كنت أُمسك بها بقوّة، فرأيتُ تحت العباءة مخلوقات شبيهة بالآدميّين قصار القامة لا تتجاوز قاماتهم الشبرين مزدحمين بأعداد كبيرة يتحرّكون و يذهبون و يجيئون. و لقد شاهدتُ بكمال الفراسة أنّ هذا المنظر كان خالياً من خداع الأعين و الأجواء المفتعلة، كلّا بالتأكيد، فلقد كان أمراً ذا وقوع خارجيّ مائة في المائة.
و في هذه الحال فقد رسم السيّد البحرينيّ مربّعاً ذا اثنين و ثلاثين قسماً، و لم أكن قد سمعتُ أو شاهدتُ قبلًا مربّعاً كهذا، لأنّ سير المربّعات أربعة في أربعة، أو خمسة في خمسة، و مهما تصاعدت كمربّع مائة في مائة فهي على هذا المنوال؛ لكنّ مربّعاً ذا اثنين و ثلاثين قسماً غير موجود في أيّ كتاب. و كان السيّد البحرينيّ يطرح عَلَيّ أسئلة و يسجّلها ثمّ يجيب عليها، فأجاب عن بعض مشكلاتنا التي لم يطّلع عليها أحد بإجابات صحيحة و صادقة جميعها.
و لقد امتلكني العجب ذلك اليوم كثيراً؛ تماماً كحالي حين أحضر الأديب۱ و كان من تلامذة أخي السيّد محمّد حسن روح المرحوم
القاضي رحمةالله عليه و سأله عنّي فأجاب: إنّ سلوكه مقبول وجيّد، و العيب الوحيد الذي فيه أنّ أباه غير راضٍ عنه و يقول إنّه لم يُشركه معه في ثواب التفسير الذي كتبه.
و حين كتب إلى أخي هذا المطلب من تبريز، قلتُ في نفسي: إنّني لم أكن أرى لنفسي ثواباً من التفسير كي أُهديه لأبي، فيا إلهي! إن كنتَ بلطفك قدّرتَ لي ثواباً على هذا التفسير فاجعله من نصيب والديّ فقد أهديتهما ثوابه بأجمعه.
ثمّ وصلتني رسالة أخرى بعد عدّة أيّام من أخي يقول فيها: إنّه حين أحضر روح المرحوم القاضي، قال له: الآن رضي أب السيّد محمّدحسين عنه، فهو سعيد لمشاركته إيّاه في الثواب. و لم يكن لأحد خبر عن إهداء الثواب هذا.
مشاهدة آثار الجن فى مشهد المقدسة من قبل آية الله الشيخ الدامغانى
و لقد قال آية الله الحاجّ الشيخ محمّد رضا مهدوي الدامغانيّ دامت بركاته، و هو من علماء مدينة مشهد المقدّسة البارزين: لقد غضب يوماً المرحوم الحاجّ الشيخ حسن علي نخودكي الأصفهانيّ أعلى الله مقامه الشريف على أحد تلامذته و هو المرحوم السيّد أبو الحسن حافظيّان إثر خطأ و اشتباه ارتكبه في أمر ما.
فقال المرحوم الشيخ له: إمّا أن استعيد منك إجازة إعمال جميع الأشياء التي أعطيتكها، أو أن أُبعدك من هنا.
فرضي المرحوم حافظيّان بالإبعاد؛ فقال له الشيخ: ينبغي عليك الذهاب عشر سنين إلى الهند، على أن لا تقدم خلالها إلى مشهد مطلقاً، ثمّ
تبقى هناك بعدها خمس عشرة سنة أخرى يحقّ لك فيها التردّد المحدود على مشهد، ثمّ إن شئت بعدها المجيء إلى مشهد و الإقامة فعلتَ.
و قد ذهب المرحوم حافظيّان إلى الهند عشر سنين، ثمّ كان بعد ذلك يتشرّف بزيارة مشهد بين مدّة و أُخري؛ و اتّفق أن حدثت قصّة خلال إحدى سفراته إلى مشهد تدخّل بنفسه في حلها، و قد شهدتُ تلك القضيّة بنفسي.
فلقد جاء يوماً أحد أهالي المنبر في كرمانشاه، و اسمه المرحوم صَدْر، و هو مقيم في مشهد منذ سنوات قلائل؛ جاء إلى والدي المرحوم آيةالله الحاجّ الشيخ محمّد كاظم الدامغانيّ رحمة الله عليه و قال: إنّ الجانّ يؤذوننا في المنزل كثيراً، فهم يثيرون الصخب و لا يدعوننا ننام بسلام، إذ يوقظوننا بضجيجهم، فنشاهد بكرة البئر تدور و الماء يخرج من البئر ثمّ يُسكب فيه ثانية، لكنّنا لا نشاهد أحداً، و كلّ ما نشاهده حركة البكرة و دورانها.
فقال المرحوم أبي: أرغبُ كثيراً أن أُشاهد بأُمّ عيني بعض هذه الأعمال التي يعملونها. فإن عملوا هذه المرة شيئاً ممّا يمكن مشاهدته، فتعال و أخبرنا.
و قد جاء المرحوم صدر إلى منزلنا يوماً فقال: لقد جاؤوا وفتحوا غطاء صندوق الملابس وأخرجوا الملابس جميعاً و علّقوها على جدار الغرفة.
فذهب المرحوم والدي إلى هناك و كنت بمعيّته، فشاهدنا أنّهم ألصقوا الملابس بصورة غير منتظمة بالحائط، و كانت الملابس معلّقة على الحائط بلا مسمار أو شيء يمسك بها، فما إن نمسّ أحدها إلّا و يسقط إلى الأرض.
و كان هذا المشهد غريباً و محيراً، و كان ذاك لأبي أمراً لم يعهده و لم يره من قبل. و قد نقل المرحوم والدي هذه القضيّة إلى المرحوم حافظيّان و كان عندها في مشهد فأصدر أمراً أو فعل شيئاً ما كفّ بعده الجانّ عن التعرّض للمرحوم صدر بأيّ أذى.
حجيّة الظهورات القرآنية وفق الأساس العقلائى غير قابلة للتشكيك
الجهة الثالثة من جهات الإشكال هي: هل يمكن تفسير القرآن و بيان معانيه وفق المعاني التي يرتضيها الإنسان و يستحسنها، أو ينبغي أن يخضع التفسير لضوابط و قواعد معيّنة بحيث يُعدّ في حال تخطّيها و عدم رعايتها تفسيراً خاطئاً سقيماً؟
إ نّ القرآن الكريم يمتلك كما في سائر الكتب السماويّة و غير السماويّة ذات اللغات المختلفة ألفاظاً و كلمات تحكي عن معانٍ خاصّة و معيّنة، فما لم ترد قرينة قطعيّة على عدم إرادة تلك المعاني، فينبغي القول بإنّ المراد بالكلام هو تلك المعاني الأوّلية المتبادرة، سواء كانت دلالة الألفاظ على معانيها دلالة تخصيصيّة أم بالوضع التخصّصيّ.
و بعبارة أخرى، فإنّ كلّ كلمة تمتلك عند نطقها دلالة على معنى خاصّ، و هو ما يدعى بالظهور؛ بحيث ينبغي حمل الكلمات على مفاهيمها الظاهريّة ما دام القائل لم ينصب قرينة لفظيّة أو بالإشارة و الكناية أو قرينة خارجيّة على أنّ المراد من هذه الكلمات معانٍ أخرى غير تلك المتبادرة.
و يدعى هذا البحث ببحث حجّيّة الظواهر، و يُبحث مفصّلًا في عِلمي أُصول الفقه و البيان. و حاصل الأمر: أنّ الكلمات و الألفاظ في أيّ لغة كانت عربيّة، عبريّة، فارسيّة أو أجنبيّة تمتلك حجّيّة في المحاورات و المعاملات و الإقرارات و المحاكمات و غيرها، و تبعاً لهذه الظهورات يقوم حاكم المحكمة بالاستدلال على المدّعي، فيحكم لصالح المحكوم له، و ضدّ المحكوم عليه. فإذا ادّعى امرئ مرّةً أنّ قصده لميكن هذا المعنى
اللغويّ الوضعيّ، بل كان شيئاً آخر، فإنّ الحاكم و المحكمة، و التاجر و الزارع و الناكح و من معهم ممّن لهم علاقة بالشؤون و العلاقات الاجتماعيّة المرتبطة بالمكالمات و المحاورات، سيردّون كلامه و يرفضونه، و سيعملون وفق أساس إرادة المعنى الظاهريّ في تفهيم المراد و القصد.
و لا اختلاف في هذه المسألة أكان هناك مخاطب في الألفاظ و الكلمات الواردة في قالب جمل و عبارات أم لم يكن، أو كانت العبارات موجّهة لشخص حاضر أم غائب، حتى أنّ حجّيّة الظهورات لا تتغير من لغة إلى أخرى، و من المفاهمة إلى المشاهدة. و حتى الكلمة الفارسيّة التي يكتبها شخص تركيّ في إحدى المجلّات التركيّة تكون حجّة هناك ما دامت تشير الى معنى في اللغة التركيّة أيضاً.
و قد تحمل على هذا الأساس أهل اللغة الأتعاب و المشاقّ في تدوين كتب اللغة، و في الفصل بين المعاني الظاهريّة و المعاني الأخرى. و يستدلّ في المحاكم بكتب اللغة هذه المنتزعة من الفهم العُرفيّ، و بالأقوال المتبادلة، و المخاصمات، و الشكايات و المنازعات بأدقّ الأساليب لتعيين المقاصد و المراد في العقود و غيرها.
و للقرآن الكريم، استناداً على هذا الأساس، ظهورات تعدّ حجّة، حيث يبيّن الباري تعالى مقاصده و مراده بهذه الظهورات، فإذا أراد أحياناً بكلماته مراداً و مقصوداً آخر، فإنّه ينصب قرينة لذلك لئلّا يختلّ أساس المفاهمة و المكالمة. و بغير ذلك فستنتفي الفائدة من إرسال الرسل و إنزال الكتب، و سينهار صرح الكلام و ترويج الدين و هداية البشريّة، و ستضمحلّ آثار الحياة على هذه البسيطة.
فحجّيّة القرآن الكريم تستند على أساس حجّيّة الظهورات؛ أي لو أُعطي للبشر الإذن في عدم حمل الكلمات على معانيها و مرادها الظاهر
المتبادر، فلن تتلاشى عظمة القرآن فقط، بل إنّه سيصبح رديفاً لأبسط و أتفه الكتب المعهودة، و سيكون مثل كتب الأساطير و القصص الخرافيّة كـ «ألف ليلة و ليلة» و غيرها، على الرغم من كونه أسمى الكتب التي نزلت على أساس حجّيّة الظهورات من الملأ الأعلى إلى عالم الاعتبار.
فاعتبار الشيطان و الجنّ في القرآن الكريم بمعنى الجرثومة «الميكروب» يعدّ من أوضح و أجلى التخطّيات لهذا الأساس العامّ، و من أوضح مصاديق التفسير بالرأي المنهيّ عنه بشدّة على لسان رسولالله و أئمّة أهل البيت عليهم السلام.
الروايات الواردة فى عدم جواز التفسير بالرأى فاقت حد التواتر
فقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم: من فسر القرآن برأيه، فليتبوأ مقعده من النار.۱
و في حديث نبويّ آخر: من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار.٢
و في حديث نبويّ ثالث: من فسر القرآن برأيه، فقد افترى على الله الكذب.٣
و في حديث نبويّ رابع عامّيّ: من فسر القرآن برأيه فأصاب، فقد أخطأ.٤
و روي عن رسول الله و أوصيائه الأئمّة الطاهرين:
إِ نَّ تَفْسِيرَ القُرْآنِ لَا يَجُوزُ إلَّا بِالأثَرِ الصَّحِيحِ وَ النَّصِّ الصَّرِيحِ.۱
و كذلك فقد روي عن «تفسير العيّاشيّ» عن الإمام الصادق عليه السلام، قال:
مَنْ فَسَّرَ القُرْآنَ بِرَأيِهِ إنْ أَصَابَ لَمْ يُؤْجَرْ؛ وَ إنْ أخْطَأَ فَهُوَ أبْعَدُ مِنَ السَّمَاءِ.٢
و روي عن الإمام الرضا عليهالسلام عن أبيه، عن أبائه، عن أمير المؤمنين عليهم السلام؛ قَالَ:
قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عَلَيه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ: إنَّ اللهَ عَزَّ وَ جَلَّ قَالَ في الحَدِيثِ القُدْسِيّ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ فَسَّرَ كَلَامِي بِرَأيِهِ. وَ مَا عَرَفَنِي مَنْ شَبَّهَنِي بِخَلْقِي، وَ مَا عَلَى دِينِي مَنِ اسْتَعْمَلَ القِياسَ في دِينِي».٣
و ورد في «تفسير الإمام العسكريّ عليهالسلام» ضمن حديث عن رسولالله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قَالَ: أَتَدْرُونَ مَتَى يَتَوَفَّرُ عَلَى المُسْتمِعِ وَ القَارِى هَذِهِ المَثُوبَاتِ العَظِيمَةِ؟ إذَا لَمْ يَقُلْ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ، وَ لَمْ يَجْفُ عَنْهُ، وَ لَمْ يَسْتَأكُلْ بِهِ، وَ لَمْ يُرَاءِ بِهِ.
وَ قَالَ: عَلَيْكُمْ بِالقُرْآنِ فَإنَّهُ الشَّافِعُ النَّافِعُ وَ الدَّوَاءُ المُبَارَكُ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ. وَ نَجَاةٌ لِمَنِ اتَّبَعَهُ.
ثُمَّ قَالَ: أَتَدْرُونَ مَنِ المُتَمَسِّكُ بِهِ الَّذِي بِتَمَسُّكِهِ يَنَالُ هَذَا الشَّرَفَ العَظِيمَ؟ هُوَ الَّذِي يَأخُذُ القُرْآنَ وَ تَأوِيلَهُ عَنَّا أهْلَ البَيْتِ وَ عَنْ وَ سَائِطِنَا
السُّفَرَاءِ عَنَّا إِلَى شِيعَتِنَا، لَا عَنْ آ رَاءِ المُجَادِلِينَ.
فَأمَّا مَنْ قَالَ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ، فَإنِ اتَّفَقَ لَهُ مُصَادَفَةُ صَوَابٍ فَقَدْ جَهِلَ في أخْذِهِ عَنْ غَيْرِ أهْلِهِ، وَ إنْ أخْطَأَ القَائِلُ في القُرْآنِ بِرَأيِهِ فَقَدْ تَبَوَّأ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ.۱
يقول المرحوم أُستاذ الفقهاء و المجتهدين الشيخ مرتضى الانصاريّ في كتاب أُصوله «الوسائل»: إنّ الاخبار و الروايات الواردة في هذا الباب بالقدر الذي ادّعى مؤلّف «وسائل الشيعة» آية الله الشيخ الحرّ العامليّ رضوان الله عليه تجاوزها عن حدّ التواتر.٢
الجهة الرابعة من الإشكال هي: هل ستنتهي المسألة بعدم الاعتراف بالجنّ و تخبّط الشيطان في مسألة آكلي الربا و تأويل ذلك بمرض الصرع و الميكروب إلى هذا الحدّ، أم أنّها ستعمّ جميع الأشياء غير المرئيّة و غير المسموعة التي لا تتمكّن العلوم التجربيّة و الطبيعيّة و الطبّيّة من إثباتها، كالملائكة و الروح، و وسائط العالم العلويّ، وصولًا إلى الجنّة و الجحيم و الميزان و الصراط و الموقف و الحشر و النشر و ذات الخالق المقدّسة؟
فإن قالوا: إنّهم يتوقّفون فلا يعمّمون ذلك و لا يتعدّونه إلى غيره، نقول: بأيّ دليل لا تعمّمون ذلك مع اتحاد الملاك و المعيار و مناط عدم القبول في جميع هذه المسائل، و هو عدم إثباتها من قبل العلوم التجربيّة؟!
و إن قالوا بأنّهم لا يتوقّفون، بل يعمّمون ذلك على جميع المسائل، فإنّنا لن نستطيع في تلك الحال إدراك الفرق بين هذه المدرسة التي تدّعي الإيمان بالله مع المدرسة المادّيّة. أيكفي في ذلك مجرّد القول بوجود إله،
ذلك الإله الموهوم؟!
و حاصل الإشكال هو: أنّ روح هذه النظريّة في اعتبار الشيطان و الجنّ ميكروباً يستمدّ جذوره من نفس مدرسة المادّيّين و الطبيعيّين الملحدين و منكري الروح و التجرّد، ذلك الاتّجاه الذي نسجوا شراكه و ألقوه بين أفراد البشر منذ عدّة آلاف من السنين.
فالإيمان بالغيب۱ و بالملائكة٢ و ما شابههما ممّا ورد في القرآن الكريم له موضوعيّة قائمة في أساس الإسلام، كما أن مسألة الموت و البرزخ و القيامة و الحياة الخالدة في الجنّة أو الجحيم، و مسائلة و مكالمة أهل جهنّم مع أهل الجنّة، و الحور و القصور، و رضوان، و النار و دركاتها، و ملائكة الغضب و أمثال ذلك ممّا يشكّل معظم آيات القرآن، إنّما يمثّل صميم عقائدنا، فإن آل الأمر إلى مساواة ذلك كلّه بالتمثيلات الذهنيّة و التوجيهات التخيّليّة، فما الفرق إذَن بين هذه الاصول و الاسس الواقعيّة المسلمة مع أفكار المتمرّدين و المرتدّين من الطبيعيّين و المادّيّين الذين أعرضوا صفحاً عن جميع الاسس، فلم يؤمنوا إلّا بالمادّة و البطن و الفرج و الشبع و إطفاء الشهوات و إعمال الغضب و اتّباع القوى الوهميّة و التخيّلات
و التصوّرات التي جعلوها في رأس برنامج عملهم؟
الحكمة و العرفان و الشرع كلها من معين واحد، و تدل على أمر
لقد أجابت الفلسفة العالية و الحكمة المتعالية و الذوقيّات و الوجدانيّات العرفانيّة في مدرسة العقل و الإحساس عن جميع هذه المسائل، و أبانت عن كلام الصادع بالشريعة، الناضح من قلبه المنزّه و جبلّته المنيرة بالبرهان و العيان و المشاهدة كالشمس الساطعة في رابعة النهار. فالشرع و العقل و المشاهدة قد توحّدت اليوم في اعتمادها على الأساس القويم الذي اختطّه ذلك الرجل الفريد الملكوتيّ، و الإنسان الجبروتيّ، و البشر اللاهوتيّ، الذي وضع رأسه في حريم الأمن و الأمان الأقدس الإلهيّ، و قدمه على فرق عالم الناسوت و الطبيعة، أي مَحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ وَ خُلَفَاؤُهُ الحَقِيقِيُّونَ الاثْنَا عَشَر الذين حُفظت أقوالهم و أفعالهم و سُطِّرت في ثنايا الكتب. فالفلسفة مقرونة بالعرفان، و كلاهما مؤيّد و مسدّد لشرعنا القويم، نحن الجهلة و العميان عن نشأة المادّة و المزاج هذه، و عن عالم الوجود و الفساد هذا، و هما دليلنا و رائدنا إلى الحرم الأصليّ و الموطن الخالد، و الوصول إلى مقام عزّ الحضرة الأحديّة و علوّ السرمديّة.
إلهِي! هَبْ لِي كَمَالَ الانْقِطَاعِ إِلَيْكَ وَ أنِرْ أبْصَارَ قُلُوبِنَا بِضِيَاءِ نَظَرِهَا إِلَيْكَ حتى تَخْرِقَ أبْصَارُ القُلُوبِ حُجُبَ النُّورِ فَتَصِلَ إِلَى مَعْدِنِ العَظَمَةِ وَ تَصِير أرْوَاحُنَا مَعَلَّقَةً بِعِزِّ قُدْسِكَ.۱
كانت هذه الجهات الأربع هي الجهات المختلفة التي أوردناها لتوضيح الإشكال السادس على صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=بسط و قبض نظريّة الشريعة).
و ينبغي العلم أنّ صاحب المقالة لم يُقدم في مقالته على نفي هذه الامور بصورة مباشرة، و أنّ ما أورده بعنوان الاسلوب التفسيريّ للمرحوم الطالقانيّ و مقارنته بالاسلوب التفسيريّ للمرحوم العلّامة الطباطبائيّ كان في الحقيقة صغرى القياس القائل: إذا تفاوتت المقدّمات العلميّة للمفسّر و معلوماته عن العلوم التجربيّة أو العلوم العقليّة، و تفاوت لذلك فهمه للكلام الإلهيّ؛ لذا ينبغي القول أن ليس هناك من معنى للفهم الواحد و الثابت و الصحيح للقرآن و المتون الدينيّة. و هذا يمثّل أخطر فقرات كلامه و أشدّها تخريباً: أن ينكر الفهم الصحيح للدين بدليل اختلاف الأفهام؛ بيد أنّه لمّا كان في نفس الوقت، و ضمن هذا الاستنتاج الخاطئ، يقوم بتأييد وجهة تفسير المرحوم الطالقانيّ، فلزم إيراد هذه الانتقادات لإبطال هذا النهج من التفسير.
الإشْكَال السَّابِعْ: برهان العلّامة الطباطبائيّ في استناد العلل الطبيعيّة إلى العللّ المجرّدة
الإشكال السابع: عدم إدراكه و استيعابه لمقولة الاستاذ آيةالله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف في سرّ اتخاذ العلل الطوليّة من جانب ربّ العزّة تعالى لإيجاد الامور الخارجيّة و الحوادث الكونيّة، في إثبات عدم تنافي إسناد الجنون إلى بعض الامور الطبيعيّة المحسوسة و إلى بعض الامور الخفيّة.
فقد بيّن الاستاذ العلّامة في هذا المجال أعلى المطالب الفلسفيّة و العرفانيّة و القرآنيّة، أي وجود سلسلة العلل الطوليّة بين الذات القدسيّة للحضرة الأحديّة أي الواحد الأحد، ذاتاً و صفةً و بين الموجودات و الحادثات الكثيرة و المختلفة لهذا العالم، و قدّم حلّا لهذا الإشكال يتعذّر بدونه حلّ مسألة كيفيّة نشأة الكثرة من الوحدة، و الحادث من القديم، و المادّيّ من المجرّد، و الطبيعيّ من النور المحض.
فهذه كتب العلم و الفلسفة قديمها و جديدها في متناول أيدينا، كلها قد عجزت و تعثّرت في كيفيّة حدوث الحادث من المجرّد، و الاستناد إلى العلّة البسيطة، اللهمّ إلّا تلك الكتب التي نهجت نهج العلّامة و اختطّت أُسلوبه.
فالمادّيّون الذين عجزوا عن الجمع بين علّتين مادّيّة و معنويّة، أراحوا أنفسهم تماماً و تنصّلوا من قبول إله قادر قاهر عليم حكيم مختار
مريد، و أنكروا وجود الخالق العليم.
أمّا الإلهيّون فانقسموا مدارس و اتّجاهات مختلفة، فمنهم من أنكر العلل المعنويّة و حصر العامل بهذه العلل المادّيّة، و منهم من أنكرو العلل المادّيّة و اعتبر أنّ العلل المعنويّة فقط هي المؤثّرة في العالم.
و بقي أُولئك القائلون بالعلل الطبيعيّة و العلل المعنويّة كليهما عاجزين عن بيان كيفيّة ارتباطهما و تأثيرهما على بعضهما، فبقيت مطالبهم مشتّتة و متفرّقة، لم يقدّموا نهجاً قويماً و لا سبيلًا متيناً عارياً عن التناقض في القول أو التهافت في الاستدلال.
أمّا القول بالعلل المادّيّة التي توجبها الضرورة و المشاهدة، و القول بتبعيّتها للعلل المعنويّة تبعاً لضرورة البرهان و ضرورة الكشف بالعيان، وصولًا إلى الواحد الحيّ القيّوم الذي هو نفسه المبدئ و المنشئ و المعيد و المعاد، فهو أشبه بالماء الصافي الزلال البارد الهنيء الذي ينساب في حرّ تموز اللاهب على الأكباد الحرّى للباحثين عن وادي الرواء و كأس المعرفة، يحلّ جميع الإشكالات، و يبرهن بداهةً على الأشياء التي تبدو بعيدة عن التحقّق.
فهو من جهة يوافق على سلسلة العلّيّة بقوامها و استحكامها هذا و يعتقد بصحّتها، و من جهة أخرى يستدلّ و يبرهن على وحدة علّة العلل بتمام معنى الكلمة، سواء الوحدة في الذات أم في الصفات، أم في الأفعال.
لذا، فإنّ القول بسلسلة العلل الطوليّة له ما يدعمه من الناحية الفلسفيّة و العرفانيّة و القرآنيّة، و هو الحلّ الأمثل لعقد المشكلات المستعصية و المسائل الغامضة العسيرة في باب الكلام و الحكمة، و لا مفرّ للشخص الباحث و لا مناص له من قبوله و التسليم به روحاً و قلباً كي يمكنه الوصول للحقائق.
فإن نحن فصلنا بين تأثير الدواء و تأثير الميكروب و بين العلل الطبيعيّة، فسنكون قد جانبنا الصواب، و إن نحن أنكرنا تأثير الله سبحانه فيهما، فسنكون قد جانبنا الصواب أيضاً. أمّا لو قلنا بأنّ تأثير الدواء و الميكروب من الله سبحانه، لصار منطقنا سليماً صائباً، سواء اعتبرنا بين الميكروب و الدواء و بين الله سبحانه واسطة مثل ملائكة الرحمة أو جانّ النقمة أم لم نعتبر. فالمهمّ في الأمر هو الاعتراف بطوليّة العلل، لأنّنا حين نعتقد بذلك فإن مسألة الملائكة و الجانّ ستثبت هي الأخرى و تصبح مسألة مقبولة.
و لكن لعدم إدراك صاحب المقالة لروح هذا المطلب، فقد أشكل على العلّامة إسناده بعض أنواع الصرع إلى الميكروب، و في نفس الوقت إلى الشيطان أيضاً. و يلزمنا إيضاحاً للأمر أن نورد عين كلامه ثمّ نتطرّق إلى مناقشته، فقد قال:
اشكال صاحب المقالة على قول الأستاذ العلامة الطباطبائى قدس سره
و مضافاً إلى ذلك، فقد قال المرحوم الطباطبائيّ: أوّلًا: إنّ القدر المتيقّن من دلالة الآية هو أنّ بعض أنواع الجنون على الأقلّ مسبّب عن مسّ الجنّ. و ثانياً: إنّ إسناد الجنون و نسبته إلى علل معيّنة كمسّ الشيطان لا يستلزم إبطال العلل الطبيعيّة، بل إنّ تلك العلل غير الطبيعيّة أعلى و في طول العلل الطبيعيّة، لا في عرضها.
و نلحظ كيف حُلّت مشكلة التعارض مع العلم الطبيعيّ بالتوسّل بعدّة قواعد فلسفيّة، و هي أوّلًا: أنّ أساس العلّيّة جارٍ في العالم، و ثانياً: أنّنا نمتلك عللًا طوليّة متدرّجة، و ثالثاً: أنّ العلل غير المادّيّة لاتحلّ محلّ العلل المادّيّة و الطبيعيّة، و أنّ الفعل يمكن أن يستند في آن واحد لكليهما. لذا يجب فهم الآية بالشكل الذي لا تعطي فيه معنى نفي العلل الطبيعيّة أو المسّ المادّيّ و المباشر للشيطان.
و هو معنى جديد و بالطبع معنى عميق متعال، لكنّه يمثّل فهماً
تحقّق في ضوء تلك الاسس الفلسفيّة (التي كانت من بين معتقدات العلّامة الطباطبائيّ و ليست أبداً من ضرورات الدين)؛ لكنّ نفي العلّيّة في العالم (على الأقلّ بأُسلوب الأشاعرة) أو عدم القبول بالعلّيّة الطوليّة، و اعتبارها أمراً لا يمكن إدراكه و تصوّره أصلًا، و كذلك القول بالتدخّل المباشر للموجودات المادّيّة في العالم (كما يرى الكثير من المتكلّمين)، أو عدم القول بالموجودات المادّيّة و المفارقة، و اعتبار الروح و إبليس و الملَك خلافاً للحكماء مادّة لطيفة (كما يرى الكثير من المتكلّمين و المحدّثين)، كلّ هذه الامور تؤدّي إلى عدم إعطاء الآية معنى كما أراده المرحوم الطباطبائيّ.۱
و قوله هذا مخدوش من عدّة جهات:
الجهة الاوّلى: أنّه مع تصريحه و اعترافه أنّ تعليل العلّامة هذا هو معنى عميق متعال، أي أنّه لم يستطع الردّ عليه من جهة فنّ الاستدلال، لكنّه يقول بأنّه كان من إيحاءات ذهن العلّامة و ليس من ضروريّات الدين، لأنّ الأشاعرة و الكثير من المتكلّمين و المحدّثين لا يقبلون به.
و ينبغي أن نسأل أوّلًا: أيتوجّب أن يكون ما يصوغه الشخص الحكيم و المحقّق في قالب البرهان، و يستدلّ عليه إثباتاً مقبولًا سائغاً للجميع، و لو كانت مقدّماتهم الاستدلاليّة فاسدة و مخدوشة؟ أكان يتوجّب أن لا يكون هناك مخالف لمّا برهن عليه ابن سينا أو الخواجة نصيرالدين أو صدرالمتألهين في باب الإلهيّات؟ أكان يتوجّب أن يقضي على جميع المادّيّين و الطبيعيّين في العالم؟ أم أنّ علينا حين نرى حاليّاً وجود الكثير من أصناف المادّيّين أن نقول بأنّ مقدّمات برهان أُولئك الحكماء من أهل
التوحيد كانت خاطئة، و إنّ ذلك يستتبع أن يكون أصل الاعتقاد بوحدة الحقّ تعالى أمر خاطئ؟!
و حين نقول إنّ الحقّ في الولاية كان لأمير المؤمنين عليه السلام، أفتستلزم واقعيّة هذا الأمر أن لا يكون هناك مخالف لهذه المسألة؟ أفإن علمنا أنّ أبا بكر و عمر و أتباعهما لم يقبلوا بهذا الأمر في زمن حياة رسولالله، فإنّ علينا أن نقول إنّ أصل الولاية و الخلافة و الإمامة أمر مخدوش؟!
و إذا قلنا: إنّ النبيّ الأكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان آخر الأنبياء المرسلين بالوحي المنزل من قبل ربّ العزّة؛ أفيمكننا القول إنّ هذا الكلام سيكون مقبولًا إذا قبل به جميع اليهود و النصارى، و بما أنّهم لم يقبلوا به فعلًا، و بما أنّ هناك ملايين من البشر المعادين للإسلام في العالم. إذنّ، الإسلام ليس آخر الأديان؟! و بأنّ نبينا الأكرم ليس خاتم الرسل؟!
و أساساً، فما معنى أن يقول امرئ بأنّ الكلام مهما كان هو صحيح حين يقبل به الجميع فعلًا؟ فهذا الكلام غلط و خاطئ بتمام معنى الكلمة، بل يكون الكلام صحيحاً حين يكون قابلًا للقبول، و يكون قد صُبّ على أساس المقدّمات البرهانيّة و الأوّليّات و المسلّمات و البديهيّات. إذ سيكون حينداك صحيحاً و متيناً، سواء قبله أحد بالفعل أم لم يقبل به.
و لقد كان هناك كلام صحيح كثير في هذا العالم لم يقبل به أحد، لأنّ القبول ينبغي أن يحصل عن حسن عقيدة و صفاء نفس السامع و إدراكه و تعقّله لذلك المطلب، و إلّا فإنّه سيرفضه.
أكانت صحيحة تلك الأقوال و الآراء التي أبداها الأشاعرة و الكثير من المتكلّمين و المحدثّين في هذا الباب و دوّنوها في كتبهم؟
لقد كان سيّد الشهداء عليهالسلام على الحقّ، و لو طيف برأسه من بلد إلى بلد، أو وضع في محفل يزيد فاحتسى عنده الخمر، أو ألِّف في يومنا هذا في المملكة العربيّة السعوديّة كتاب باسم «حقائق أميرالمؤمنين يزيد» فدُرِّس في المدارس!
و من هنا، فإن الكلام الراسخ و الصحيح هو القائم على أساس من البرهان القويم و البيّنة الإلهيّة، فهذه المقدّمات البرهانيّة تلزم البشر بالقبول و تدينه في محكمة العدل الإلهيّ، و لا علاقة في الأمر بالقبول أو عدم القبول الفعليّ. و حين يبيّن العلّامة مطلباً فيثبت فيه العلل الطوليّة المادّيّة و المجرّدة وصولًا إلى الحضرة الأحديّة، و ينشئ هذا المطلب على أُسس البرهان و على أساس الاستفادة من صريح الآيات القرآنيّة المباركة، و يُظهر كالشمس ضرورة هذه الحقيقة، فإنّ قوله راسخ و متين و قول سواه فاسد مهزوز، أشعرياً كان أم متكلّماً أم محدّثاً، و سواء كان مثل كانْت أم مثل ديكارت.
لقد سار جميع الفلاسفة السابقين على هذا النهج: أن يرتّبوا تبعاً للنتائج الفكريّة التي يتوصّلون إليها مقدّمات معيّنة، و يؤلِّفوا في ذلك الكتب، فيقدّم كلّ منهم مطلباً على هذا الأساس، و للمخالف أن يشكّك فقط في مقدّماته البرهانيّة، أو أن يردّها إن قدر على ذلك، لا أن يتوقّف خلف متراس الجهل، فيعلن عدم قبوله.
القرآن يقول بالعلل الطبيعية للحوادث، و يعتبرها راجعة الى الله تعالى
الجهة الثانية: لقد أثبت العلّامة في تفسيره مفصّلًا سلسلة العلل المادّيّة و ارتباطها بالعلل المجرّدة المعنويّة و النوريّة، و انتهاءها أخيراً إلى ذات الحقّ القدسيّة؛ فالقول بطوليّة العلل هي من ضروريّات برهانه المتين و دليله القويم.
و قد أوضح هذه الحقيقة بشكل ساطع في الجزء الأوّل من تفسير
«الميزان»، ضمن مقالة بشأن معنى المعجزة و كيفيّة تأثيرها في أبحاث سبعة، و أورد على ذلك شواهد من آيات القرآن لم تبقِ مجالًا للشكّ؛۱ فلم ندّعِ في هذه الحالة بأنّ القول بالعلل الطوليّة ليس من ضروريّات الدين؟ أو هناك أساس للدين غير الكتاب الإلهيّ؟
و إذا اتّضح هذا المعنى بربط و تفسير آيات القرآن، أفلا يكون بعدُ من ضروريّات الدين؟!
يقول القرآن بوجود أسباب و علل للحوادث الطبيعيّة، و يقرّ قانون العلّيّة العامّ، كما أنّ العقل يثبت هذا المعنى، و التجربة تشير إلى أنّ أيّ احتراق أينما حصل فلابدّ من علّة تسبّبه، سواء كانت تلك العلّة حركة أم احتكاكاً أم غير ذلك. لذا، فالكلّيّة و عدم تخلّفها من أحكام العلّيّة و المعلوليّة و لوازمها.
و لقد أفصح القرآن الكريم عن روابط العلّيّة المادّيّة في أقواله و في سياق بيانه و أُسلوبه في مسائل الحياة و الموت و الرزق، و نزول المطر و نشوء العشب و الزرع و الشجر، و جريان الماء، و في جميع الحوادث السماويّة و الأرضيّة، و لو أنّه أسند تلك الروابط في الخاتمة على أساس مسألة التوحيد إلى الله المتعال.
كما فعل في آية: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ}.۱
و كآية: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ}.٢
حتّى أنّه يصرّح في موضعين من القرآن بأنّ هذه الفُلك التي تحملكم على الماء بُنيت على هيئة جُعل فيها مقدّمها حادّاً قاطعاً ليمكنه بذلك شقّ الماء في سيره و جريانه في البحر؛ و قد استخدم هذا النوع من الهياكل للسفن و الطائرات تقليداً لُاسلوب خلقة الطيور التي يمكنها شقّ طريقها في الجوّ بسرعة لقلّة سطح تماسّها مع الهواء عند حركتها.
أي أنّ تأثير و دخل ماخرة٣ (أي طراز و هيئة مقدّمة السفينة) يوجب حركة السفينة بيسر، فلم يكن القرآن الكريم ليدع بيان هذه العلّيّة أيضاً.
لقد جاء لفظ مواخر؛ أي جمع ماخرة؛ في موضعين من القرآن الكريم أوّلهما في سورة النحل: {وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.٤
و ثانيهما في سورة فاطر: {وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}.٥
حتّى أنّه بين العلّة في خلق الجبال في أنّها كالأوتاد تثبّت الأرض
و تمسكها عن التلاشي و الانهيار و الميَدان:
{أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً ، وَ الْجِبالَ أَوْتاداً}.۱
{وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.٢
القرآن يعتبر العلل الطبيعية تحت العلل المجردة، و مستندة اليها
كان هذا كلّه راجعاً لتصريح القرآن الكريم بشأن العلل الطبيعيّة و المادّيّة، أمّا بشأن العلل المجرّدة و ما وراء عالم المادّة و الطبيعة، كوجود الملائكة الذين يمثّلون واسطة الفيض من جانب الحقّ تعالى في تدبيرات جميع أُمور عالم الخلق، فآيات القرآن واضحة في ذلك و بيّنة يمكن عدّها من ضروريّات هذا الكتاب السماويّ، فسورة فاطر المباركة تبدأ بهذه الآية:
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.٣
القرآن يعتبر الملائكة واسطة التدبير بين الله و عالم الخلق
الملائكة جمع مَلَك، و هم عبارة عن موجودات خلقها الله سبحانه و جعلها وسائطاً بينه و بين هذا العالم المشهود، و أوكل إليها تدبير أُمور العالم التكوينيّة و التشريعيّة.
{وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.٤
و عبارة جَاعِلِ الملَئِكَةِ رُسُلًا بملاحظة أنّ الملائكة جمع محلي بالألف و اللام تبيّن أنّ جميع أفراد و مجاميع الملائكة هم رسل و وسائط بين الخالق و خلقه في إجراء الأوامر التي تعهد إليهم، سواء في ذلك الأوامر التكوينيّة أم التشريعيّة.
و على هذا، فلا موجب لتخصيص الآية بالملائكة النازلين على الأنبياء عليهم السلام و الحاملين للوحي بخصوص الأحكام و الشريعة؛ إذ مضافاً إلى إطلاق لفظ رُسُل، فإنّ لدينا آيات في القرآن الكريم عبّرت عن الرسل و الوسائط بين الله و خلقه بغير تعبير الملائكة، مثل آية:
{حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ}.۱
و آية: {إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ}.٢
و آية: {وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ}.٣
و أجْنِحَة جمع جَنَاح، و هو من الطائر بمنزلة اليد من الإنسان، ليتوسّل به إلى التحليق في السماء و النزول إلى الأرض و الطيران من مكانٍ لآخر. و بناء على هذا، فإنّ الملائكة مجهّزة بقوى و خصوصيّات كالطائر الذي يحرّك جناحيه، و هي كذلك تحلّق من السماء إلى الأرض و تنتقل من مكان لآخر بواسطة هذه القوى و الاجنحة.
و قد سماه القرآن جناحاً لترتّب القصد و الغاية من الجناح عليه، و هو الوصول للهدف و الغاية؛ فلا يلزم أن يكون من سنخ جناح الطير ذا ريش
و زغب، إذ لا يستوجب مجرّد إطلاق لفظ جناح عليه أكثر من ذلك، و نظيره في ذلك كلمات: العَرْش و الكُرْسِيّ و اللَّوْح و القَلَم و أمثالها الكثيرة في القرآن الكريم.
و معنى {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ} أنّ بعض أصنافها مجهّز بقوّتين و قدرتين من الحقّ تعالى، و بعض بثلاث قوى و بعض بأربع. و قوله بعد ذلك بلا فصل {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ} مُشعر بحسب السياق أنّ بعض أصناف الملائكة مجهّز بأكثر من أربع قوى بما أراد الله لهم.
و للُاستاذ آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف بيان في ذيل تفسير هذه الآية الكريمة المباركة بعنوان: كَلَامٌ في المَلَائِكَةِ نجد من المناسب إيراده هنا:
تكرّر ذكر الملائكة في القرآن الكريم، و لم يذكر منهم بالتسمية إلّا جِبرِيل و مِيكَال؛ و ما عداهما مذكور بالوصف، ك مَلَكُ الْمَوْتِ، و الكِرَامِ الكَاتِبينَ و السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَة، و الرَّقِيب، و العَتِيد و غير ذلك.
جميع الأمور و الحوادث هى تحت نظر و تدبير الملائكة بأمر الله
و الذي ذكره الله سبحانه في كلامه و تشايعه الأحاديث السابقة من صفاتهم و أعمالهم هو أوّلًا: إنّهم موجودات مكرمون، هم وسائط بينه تعالى و بين العالم المشهود، فما من حادثة أو واقعة صغيرة أو كبيرة إلّا و للملائكة فيها شأن و عليها ملك موكّل أو ملائكة موكّلون بحسب ما فيها من الجهة أو الجهات، و ليس لهم في ذلك شأن إلّا إجراء الأمر الإلهيّ في مجراه أو تقريره في مستقرّه، كما قال تعالى: {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}.۱
و ثانياً: إنّهم لا يعصون الله فيما أمرهم به فليست لهم نفسيّة مستقلّة
ذات إرادة مستقلّة تريد شيئاً غير ما أراد الله سبحانه، فلا يستقلّون بعمل و لا يغيرون أمراً حملهم الله إيّاه بتحريف أو زيادة أو نقصان، قال تعالى:
{لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}.۱
و ثالثاً: إنّ الملائكة على كثرتهم على مراتب مختلفة علوّاً و دنوّاً، فبعضهم فوق بعض، و بعضهم دون بعض، فمنهم آمر مطاع، و منهم مأمور مطيع لأمره، و الأمر منهم آمر بأمر الله حامل له الى المأمور، و المأمور مأمور بأمر الله مطيع له، فليس لهم من أنفسهم شئ البتة، قال تعالى:
{وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}.٢
و قال: {مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}.٣
و قال: {قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ}.٤
و رابعاً: إنّهم غير مغلوبين، لأنّهم إنّما يعملون بأمر الله و إرادته: {وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ}.٥
و قد قال الله سبحانه: {وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ}.٦
و قال: {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}.۷
و من هنا، يظهر أنّ الملائكة موجودات منزهة في وجودهم عن المادّة الجسمانيّة التي هي في معرض الزوال و الفساد و التغيّر، و من شأنها
الاستكمال التدريجيّ الذي تتوجّه به إلى غايتها، و ربّما صادفت الموانع و الآفات فحرمت الغاية و بطلت دون البلوغ إليها.
و من هنا يظهر أنّ ما ورد في الروايات من صور الملائكة و أشكالهم و هيئاتهم الجسمانيّة إنّما هو بيان تمثّلاتهم و ظهوراتهم للواصفين من الأنبياء و الأئمّة عليهم السلام، و ليس من التصوّر و التشكّل في شيء.
ففرقٌ بين التمثّل و التشكّل، فتمثّل الملك إنساناً هو ظهوره لمن يشاهده في صورة الإنسان، فهو في ظرف المشاهدة و الإدراك ذو صورة الإنسان و شكله، و في نفسه و الخارج من ظرف الإدراك ملك ذو صورة ملكيّة.
و هذا بخلاف التشكّل و التصوّر، فإنّه لو تشكّل بشكل الإنسان و تصوّر بصورته صار إنساناً في نفسه من غير فرق بين ظرف الإدراك و الخارج عنه، فهو إنسان في العين و الذهن معاً. و قد تقدّم كلام في معنى التمثّل في تفسير سورة مريم.
و لقد صدّق الله سبحانه ما تقدّم من معنى التمثّل في قوله في قصّة المسيح و مريم:
{فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا}.۱
و أمّا ما شاع من الألسن:
أَ نَّ المَلَكَ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَتَشَكَّلُ بِأشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ إلَّا الكَلْبَ وَ الخِنزيرَ؛ وَ الجِنُّ جِسْمٌ لَطِيفٌ يَتَشَكَّلُ بِأشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ حتى الكَلْبِ وَ الخِنْزِيرِ.
فممّا لا دليل عليه من عقل و لا نقل من كتاب أو سُنّة معتبرة؛ و أمّا ما
ادّعاه بعضهم من إجماع المسلمين على ذلك، فمضافاً إلى منعه لا دليل على حجّيّته في أمثال هذه المسائل الاعتقاديّة.۱
القرآن الكريم ينسب الى الملائكة تدبير الأمور
و لقد أقسم الله سبحانه في مواضع من القرآن الكريم بالملائكة المأمورين بإنجاز وظائف خاصّة، كما فعل في الآيات الأوائل من سورة النازعات:
{وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً.}٢
و نلحظ في هذه الآيات أنّ الله تعالى قد بيّن أنّ تدبير جميع أُمور هذا العالم المشاهد المحسوس يحصل بواسطة هذه الملائكة، فجميع هذه الصفات من النزع و النشط و السبح و السبق و التدبير هي لنوع معيّن من الملائكة الذين ينزلون من ساحة الحقّ تعالى، فيكون شأنهم و مهمّتهم في مقامهم تدبير و إدارة أُمور هذا العالم.
تفسير «النَّازِعَاتِ غَرْقَا» و أصناف الملائكة الموكلين بشئوون
و مع أنّ معنى النَّازِعَات و النَّاشِطَاتِ و السَّابِحَاتِ و السَّابِقَاتِ سيبدو لنا في الوهلة الاوّلى غير واضح و لا مشخصّ، و مع أنّ المفسّرين قد ذكروا لها في تفاسيرهم معانٍ مختلفة، إلّا أنّنا نستطيع إزالة الإبهام و الغموض عن الآية و اكتشاف معناها بوضوح حين نلحظ أُسساً ثلاثة مهمّة:
الأوّل: وضوح معنى المدبرات أمرا، أي الملائكة المدبّرين للحوادث و الوقائع.
و الثاني: بلحاظ ارتباط المعنى و المراد بين هذه الطوائف و المجاميع الخمس التي بينت صفاتها في الآية.
و الثالث: بلحاظ إلفاء التفريعيّة الدالّة على التراخي في بداية {فَالْمُدَبِّراتِ و فَالسَّابِقاتِ}، و عدم الإتيان بها في بداية المجاميع الثلاث التي سبقتها، أي {النَّازِعاتِ و النَّاشِطاتِ و السَّابِحاتِ}.
و بيان ذلك أنّ فاء التفريع وردت في {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً} فدلّت على تفرّع صفة التدبير من صفة السبق، و هكذا الأمر في {فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً} التي جاءت مع فاء التفريع الدالّة على تفرّع صفة السبق على صفة السَّبح و السرعة.
و نفهم من ذلك أنّ هناك مجانسة خاصّة بين المعاني المقصودة من هذه الآيات الثلاث، لأنّها تقول: {السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}؛ و مفادها هو تدبيرها الامور بعد أن سبقت إليها، و كان سبقها بعد أن سبحت و أسرعت إليها في وقت النزول.
و عليه فإنّ مفاد السَّابِحَاتِ و السَّابِقَاتِ هي نفس الملائكة الْمُدَبِّرَاتِ التي و صفت بهذه الصفات بلحاظ كيفيّة نزولها لتنفيذ ما أُوكل إليها من تدبير الامور.
و يمكن بنظرة أوسع اعتبار مجموع هذه الآيات الثلاث موافقاً لمفهوم الآية الشريفة القائلة:
{لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ}.۱
فالملائكة المأمورون بتدبير الامور للأشياء و الحوادث ينزلون، في حالٍ تكون معه أسباب و علل تلك الأشياء و الحوادث قد تجمّعت و تصارعت بينها للتأثير في وجودها و عدمها، و في بقائها و زوالها و في أحوالها المختلفة، لكنّ الملك المأمور بتدبير الأمر المبرم المحتوم الإلهيّ المتعلّق
بها ينزل بسرعة فيسبق بقيّة الأسباب و يتم ذلك السبب المقتضى تبعاً للإرادة و القضاء الإلهيّ، كي يتحقّق في النهاية ما في قضاء الحقّ تعالى و أمره المحتوم.
و الآن و قد استبان المراد من هذه الآيات الثلاث المشيرة إلى سرعة الملائكة في نزولها لتنفيذ مهمّاتها، و سبقها في تدبيرها، فينبغي حمل آيَتي: {وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً} على نزعها و خروجها من موقف الخطاب إلى مهمّتها و تدبير أمرها.
فنزوعها هو شروعها في الحركة و النزول إلى هدفها و غايتها، المتحقّق بشدّة و جديّة، و نشطها: خروجها من ذلك الموقف، كما أنّ سبحها هو سرعتها بعد الخروج، و يعقبه سبقها لتنفيذ الأمر، أي تدبيره بإذن الحقّ تعالى.
و على هذا، فإنّ هذه الآيات الخمس تمثّل قسم الحقّ تعالى بالصفات المختلفة التي تتلبّس بها الملائكة لتدبير أمر من أُمور هذا العالم المشهود، من شروع نزولها إلى انتهاء أمر التدبير.
و أمّا إطلاق التدبير في هذه الآية و عدم تقييده بشيء، فمُشعر بأنّ المراد هو جميع أقسام التدبيرات في هذا العالم؛ و «أمْرًا» إمّا تمييز أو مفعول للمدبّرات. أي أنّ الملائكة مدبّرة للأمر أو لهجة الأمر، و مطلق التدبير هو الشأن المطلق للملائكة، و لذا فإنّ المراد من {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً} ينبغي أن يكون مطلق الملائكة.
أمّا التعبير عن الملائكة بصيغة التأنيث (في قوله: {وَ النَّازِعاتِ} فلا إشكال فيه، لأنّ موصوفها عنوان جماعة و تأنيثها لفظيّ، و يمكن أن يكون باعتبار الروح التي تنزل الملائكة معها، كما في قوله:
{يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ}.۱
و قوله: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ.}٢
و لهذه الآيات مشابهة تامّة بالآيات الأوائل من سورة الصافّات:
{وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً.}
و بالآيات الأوائل من سورة المرسلات: {وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً}، التي كانت هي الأخرى في مجال بيان أوصاف الملائكة المأمورين بأمر الله سبحانه و الذين هم في مقام الامتثال و الطاعة، باختلاف أنّها تتحدث فقط عن الملائكة الحاملين للوحي، بينما كانت الآيات مورد البحث في مجال وصف مطلق الملائكة المدبّرة لُامور العالم، الذين يتّصفون في تدبيرهم بإذن الله بتلك الصفات التي جرى ذكرها.
و حاصل البحث هو أنّه يمكن انطباق الصفات التي أقسم الله سبحانه بها في آيات سورة النازعات على صفات الملائكة في سعيهم و حركتهم و امتثالهم لأوامر ساحة العزّ القدسيّة للباري، الصادرة إليهم و المتعلّقة بهم في تدبير أُمور هذا العالم المشهود، ليقوموا بإذن الحقّ تعالى بتدبيرها.
و لسماحة آية الله العلّامة كلام في ذيل تفسير هذه الآيات تحت عنوان: كَلَامٌ في أ نَّ المَلَائِكَةَ وَسَائِطٌ في التَّدْبِير، نورده هنا للمناسبة:
الملائكة وسائط بينه تعالى و بين الأشياء بدءاً و عوداً على ما يعطيه القرآن الكريم، بمعنى أنّهم أسباب للحوادث فوق الأسباب المادّيّة في
العالم المشهود قبل حلول الموت و الانتقال إلى نشأة الآخرة و بعده.
أمّا في العود، أعني حال ظهور آيات الموت، و قبض الروح، و إجراء السؤال، و ثواب القبر و عذابه، و إماتة الكلّ بنفخ الصور، و إحيائهم بذلك، و الحشر، و إعطاء الكتاب، و وضع الموازين، و الحساب، و السوق إلى الجنّة و النار، فوساطتهم فيها غنيّة عن البيان، و الآيات الدالّة على ذلك كثيرة لاحاجة إلى إيرادها، و الأخبار المأثورة فيها عن النبيّ الأكرم و أئمّة أهل البيت عليهم السلام فوق حدّ الإحصاء. و كذا وساطتهم في مرحلة التشريع من النزول بالوحي و دفع الشياطين عن المداخلة فيه، و تسديد النبيّ و تأييد المؤمنين و تطهيرهم بالاستغفار.
وجود الملائكة له عنوان الواسطه بين الله و الخلق
و أمّا وساطتهم في تدبير الامور في هذه النشأة، فيدلّ عليها ما في مفتتح هذه السورة من إطلاق قوله: {وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً ، وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ، وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً ، فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً ، فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً} بما تقدّم من البيان.
و كذا قوله تعالى: {جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ} الواردة في سورة فاطر، الظاهر بإطلاقه على ما تقدّم من تفسيره في أنّهم خُلقوا و شأنهم أن يتوسّطوا بينه تعالى و بين خلقه، و يرسَلوا لإنفاذ أمره الذي يستفاد من قوله تعالى في صفتهم: {بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ ، لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}،۱ و قوله: {يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ}،٢ و في جعل الجناح لهم إشارة إلى هذه الحقيقة.
فلا شغل للملائكة إلّا التوسّط بينه تعالى و بين خلقه بإنفاذ أمره فيهم،
و ليس ذلك على سبيل الاتّفاق بأن يجري الله سبحانه أمراً بأيديهم ثمّ يجري مثله لا بتوسيطهم، فلا اختلاف و لا تخلّف في سنّته تعالى: {إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ}؛۱ و قال: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.٢
و من الوساطة كون بعضهم فوق بعض مقاماً، و أمر العالي السافل بشيء من التدبير، فإنه في الحقيقة توسّط من المتبوع بينه تعالى و بين تابعه في إيصال أمر الله تعالى، كتوسّط ملك الموت في أمر بعض أعوانه بقبض روح من الأرواح، قال تعالى حاكياً عن الملائكة:
{وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}.٣
و قال: {مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}.٤
و قال: حتى {إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ}.٥
و لا ينافي هذا الذي ذُكر من توسّطهم بينه تعالى و بين الحوادث، أعني كونهم أسباباً تستند إليها الحوادث استناد الحوادث إلى أسبابها القريبة المادّيّة، فإنّ السببيّة طوليّة لا عرضيّة، أي أنّ السبب القريب سبب للحادث، و السبب البعيد سبب للسبب.
الملائكة هم واسطة محضه، و ليس لديهم ايّ استقلال فى العمل
كما لا ينافي توسّطهم و استناد الحوادث إليهم استناد الحوادث إليه تعالى و كونه هو السبب الوحيد لها جميعاً على ما يقتضيه توحيد الربوبيّة، فإنّ السببية طوليّة كما سمعت لا عرضيّة، و لا يزيد استناد الحوادث إلى
الملائكة استنادها إلى أسبابها الطبيعيّة القريبة، و قد صدّق القرآن الكريم استناد الحوادث إلى الحوادث الطبيعيّة كما صدّق استنادها إلى الملائكة.
و ليس لشيء من الأسباب استقلال قباله تعالى حتى ينقطع عنه، فيمنع ذلك استناد ما استند إليه إلى الله سبحانه ما يقول به الوثنيّة من تفويضه تعالى تدبير الأمر إلى الملائكة المقرّبين، فالتوحيد القرآنيّ بنفي الاستقلال عن كلّ شيء من كلّ جهة:
لَا يَمْلِكُونَ لأنفُسِهِمْ نَفْعًا وَ لَا ضَرًّا وَ لَا مَوْتًا وَ لَا حَياةً وَ لَا نُشُورًا.۱
فمثل الأشياء في استنادها إلى أسبابها المترتّبة القريبة و البعيدة و انتهائها إلى الله سبحانه بوجهٍ بعيد كالكتابة التي يكتبها الإنسان بيده و بالقلم. فللكتابة استناد إلى القلم، ثمّ إلى اليد التي توسّلت إلى الكتابة بالقلم، و إلى الإنسان الذي توسّل إليها باليد و بالقلم، و السبب بحقيقة معناه هو الإنسان المستقلّ بالسببيّة من غير أن ينافي سببيّته استناد الكتابة بوجه إلى اليد و إلى القلم.
و لا منافاة أيضاً بين ما تقدّم أنّ شأن الملائكة هو التوسّط في التدبير و بين ما يظهر من كلامه تعالى أنّ بعضهم أو جميعهم مداومون على عبادته تعالى و تسبيحه و السجود له، كقوله:
{وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ}.٢
و قوله: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ}.۱
و ذلك لجواز أن تكون عبادتهم و سجودهم و تسبيحهم عين عملهم في التدبير و امتثالهم الأمر الصادر عن ساحة العزّة بالتوسّط، كما ربّما يومي قوله تعالى:
{وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ}.٢
وظائف و شؤون الملائكة السماويّين فى تعبيرات القرآن الكريم
كانت هذه أُمور راجعة إلى تفسير الآيات الأوائل لسورة النازعات و بيان وظيفة و شأنيّة الملائكة الموكّلين بتمام الامور، و أمّا بشأن خصوص الملائكة الموكّلين بأمر الوحي و بيان صفات و كيفيّة إلقاء الوحي، فقد ورد قسم الله تعالى بهم في موضعَين من القرآن الكريم غير المواضع السابقة:
أوّلهما: في ابتداء سورة الصافّات حيث يقول:
{وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا ، فَالزَّاجِراتِ زَجْراً ، فَالتَّالِياتِ ذِكْراً ، إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ}.٣
و هذه الآيات التي وردت بالقسم هي أوّل الآيات الواردة بالقسم في القرآن الكريم، و يحتمل أن يكون المراد بهذه الطوائف الثلاث المذكورة طوائف الملائكة الذين ينزلون بالوحي على النبيّ الأكرم، و المأمورون بتأمين طريق الوحي و حفظه مصوناً، و دفع الشياطين عن المداخلة في
الوحي، ثمّ إيصاله إمّا إلى مطلق الأنبياء أو إلى خصوص محمّدبن عبدالله صلّى الله عليه و آله و سلّم، كما يستفاد من قوله تعالى:
{عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً ، إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً ، لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً}.۱
و عليه، فسيكون معنى الآيات مورد البحث: أُقسم بالملائكة الذين يصفّون في طريق الوحي صفّاً، فبالذين يزجرون الشياطين و يمنعونهم عن المداخلة في الوحي بعد صفّهم صفّاً، فبالذين يقومون بعد زجر الشياطين و طردهم بتلاوة الذكر على الأنبياء أو بتلاوة القرآن على خاتم الأنبياء.
و يؤيّد هذا التفسير تعبيره عنه بالتلاوة، و يؤيّده أيضاً ما ورد في هذه السورة بعد هذه الآيات من رمي الشياطين بالشهاب الثاقب.
و لا ينافي نزول القرآن بواسطة هؤلاء الملائكة المتعدّدين نزوله بواسطة جبرائيل وحده في قوله: قُلْ {مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ}.٢
و قوله: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ ، عَلى قَلْبِكَ}.٣
لأنّ هذه الصنوف من الملائكة إنّما هم أعوان جبرائيل في إنزال القرآن، فنزولهم به في الحقيقة هو نزوله. و قد قال تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ ، مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ ، كِرامٍ بَرَرَةٍ}.٤
و قال أيضاً: {وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ ، وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ.}۱
و قال حكاية عنهم: {وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ}.٢
فنوع و أُسلوب نزول القرآن بوساطة الملائكة و بوساطة جبرائيل كالتوفّي و قبض الأرواح الذي ينسب أحياناً إلى الملائكة، كما في قوله تعالى: حتى {إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا}.٣
و ينسب أحياناً إلى مَلَك الموت و هو رئيسهم، في قوله تعالى:
{قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.٤
و ثانيهما: في بداية سورة المرسلات، فيقول:
{وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً ، فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً ، وَ النَّاشِراتِ نَشْراً ، فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ، فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً ، عُذْراً أَوْ نُذْراً ، إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ}.٥
و يظهر من هذه الآيات أيضاً؛ لوضوح معنى {فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً} و هو تلقين الوحي، و لتفرّعه بفاء التفريع على {فَالْفارِقاتِ فَرْقاً} من الفصل و التمييز، و هذه بدورها مترتّبة بفاء التفريع على {وَ النَّاشِراتِ نَشْراً} من البسط و النشر؛ على أنّ هذه الصفات الثلاث هي صفات مجموعة واحدة من الملائكة النازلين بالوحي على النبيّ أو على الأنبياء.
و لقرينة اتحاد السياق بين جميع الآيات فإنّ المراد من المرسلات عرفاً و العاصفات عصفاً هذه المجموعة أيضاً. فهم يرسلون في الوهلة
الاوّلى جماعات متتابعة، فيسرعون في سيرهم و حركتهم، فينشرون الصحف و يبسطونها، و يفرقون بين الحقّ و الباطل، و يقرؤون الصحف المكرمة الإلهيّة على الرسول الأكرم أو على الرسل و يلقونها عليهم.
و لهذا، فإنّ محطّ و متعلّق القسم خصوص ملائكة الوحي الذين يتّصفون بهذه الصفات الخمس.
أمّا الآيات التي وردت في القرآن الكريم في غير موارد القسم لبيان الأعمال المختلفة للملائكة فكثيرة، منها ما ورد في سورة آل عمران مثلًا في ذكر الملائكة الثلاثة آلاف الذين نزلوا في غزوة بدر الكبرى لنصرة المسلمين و إمدادهم، و التي بيّنت أنّه في حال صبر المسلمين و تقواهم فإنّ خمسة آلاف ملك سينزلون عليهم:
{إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ ، بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ ، وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}.۱
و لا منافاة بين نزول و نصرة الملائكة الثلاثة آلاف في هذه الآية مع نزول ألف ملك منهم كما ورد في سورة الأنفال، لأنّ نزول الألف ملك هنا قد قيّد بلفظ مُرْدِفِينَ، أي ألف ملك يردفهم ملائكة آخرون، و هي دلالة على أنّ الملائكة نزلوا في غزوة بدر على هيئة مجموعة من ألف ملك في الوهلة الاوّلى، أردفهم بعدهم الألفان الآخران؛ أمّا تعبير سورة الأنفال فقد كان:
{إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ ، وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.۱
و كذلك فقد ورد في قضيّة إفشاء حفصة بنت عمر السرّ الذي أوصاها رسولالله بكتمانه، فباحت به إلى عائشة، ثمّ أفشتاه كلاهما، فكانتا عاصيتين لأمر الرسول، أن هدّدهما القرآن إن تظاهرا على الرسول فإنّ الله و جبرائيل و أمير المؤمنين سيحميانه و ينصرانه عليهما، و الملائكة بعد ذلك مُعين في هذا الأمر:
{إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ}.٢
و قد ثبت وجود الملائكة ذوي النفوس المجرّدة بالأدلّة العقليّة، فالمثل الأفلاطونيّة التي أحياها المرحوم صدر المتألّهين قدّس الله سرّه و أثبت وجودها إنّما هي ملائكة {فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً}.
اختلاف كيفية تمثل الملائكة باختلاف الأذهان
يرى أهل الكشف و الشهود الملائكة، بصورتهم التمثّليّة، لأنّ الملائكة كما ذكرنا مخلوقات مجرّدة لا يمكنها التلبّس بلباس المادّة، خلافاً للجنّ و الشيطان اللذان هما موجودان مادّيّان ناريّان لهما شكل و صورة، فهؤلاء الجنّ متشكّلون، أما أُولئك الملائكة فمتمثّلون، أي أنّهم يظهرون في القوى الذهنيّة للإنسان بصورة مناسبة.
و لقد أحاطت حقيقة جبرائيل، ذلك الموجود المجرّد النورانيّ، حين ظهر لرسول الله على تلك الصورة، بمشرق العالم و غربه، لكنّه كان يتمثّل
أحياناً بصورة دِحْيَة الكَلْبيّ، فكان رسول الله يراه في تلك الحال على حقيقته، و الآخرون يرونه و يتخيّلونه دحية، في حين أنّه لم يكن دحية بل متمثّلًا بمثال و صورة دحية في أنظار الناظرين.
يقول ابن الفارض المصريّ العارف الجليل:
وَهَا دِحْيَةٌ وَ افَى الأمِينَ نَبِيَّنَا | *** | بِصُورَتِهِ في بَدْءِ وَحْيِ النُّبُوَّةِ |
أجِبْرِيلُ قُلْ لِي: كَانَ دِحْيَةَ إذْ بَدَا | *** | لِمُهْدِيالهُدَى في هَيْئَةٍ بَشَرِيَّةِ |
وَ في عِلْمِهِ عَنْ حَاضِرِيهِ مَزِيَّةٌ | *** | بِمَاهِيَّةِ المَرْئِيّ مِنْ غَيْرِ مِرْيَةِ |
يَرَى مَلَكاً يُوحِي إِلَيْهِ وَ غَيرهُ | *** | يَرَى رَجُلًا يُدْعَى لَدَيْهِ بِصُحْبَةِ۱ |
الجهة الثالثة: قوله بكلّ بساطة أن لا لزوم لتكلّف الإنسان في رفضه لآراء العلّامة الطباطبائيّ، لأنّ للعلّامة أُصولًا مفروضة و مسلّمة لهذا المدّعي يكفي لردّها أن يرفض الإنسان كما فعل كَانْت أُسس ما وراء الطبيعة، و حينئذٍ سينهار بناؤه و يتداعى.
و كانت عين عباراته هي:
و نضيف إلى ذلك بأنّ مسلّمات العلّامة الطباطبائيّ ليست هذه الاصول المعدودة المشهورة بأيّ وجه من الوجوه، فقد افترض أيضاً أُسساً في علم المعرفة، مثل أنّ الإنسان يمكنه خلافاً لرأي كانْت أن يقيم فلسفة ما وراء الطبيعة، و أن يُثبت فيها آراءً بالقطع و اليقين، و أنّ رأي ما وراء الطبيعة يمثّل معنى و ليس بلا معنى كما يزعم فلاسفة المذهب التحليليّ الجدد و على هذا يكفي أن يتبنّى الشخص آراء كانْت، أو حتى أقلّ من ذلك بأن يتبع مدرسة أهل الحديث، لتنهار مبانيه و تسقط، و يتّضح من هذه النماذج و الأمثلة جيّداً مزج الآراء الخارجيّة بما فيها الفلسفيّة و التجريبيّة مع الآراء الدينيّة، و تركيب
هذين الاثنين لإنشاء فهم جديد.۱
و الجواب على هذه المقولة هو أنّ التعامل مع المطالب و الآراء الفلسفيّة قبولًا أو رفضاً يختلف عن التعامل مع المأكولات و المشروبات التي قد يسيغ المرء أحياناً نوعاً منها، و قد يختار نوعاً آخر أحياناً أخرى.
فالحكيم يرتّب مقدّمات معيّنة على أساس المنطق القويم و البرهان المتين ليحصل على نتيجة ما، فيلزم العالم و يجبره على قبول رأيه و استنتاجه؛ فما علاقة كانْت و ديكارت بهذا الأمر؟! و ما علاقة الجهل و العمى حين يتعلّق الأمر بالعلم و البصيرة؟! و ما فائدة نسج الخرافات و الأباطيل أمام سطوع شمس العقل و الدراية؟!
و على مخالفي مقولة الحكيم أن يخرجوا ما لديهم في جعبتهم من دفاع، و ما يخبّئون في أكمام أرديتهم من ردود لإبطال مقدّمات برهانه، أي إبطال صغرى المسألة أو كُبراها، أو التشكيك في قياسه الاستثنائيّ، فالغلبة ستكون لهم إن تمكّنوا من ذلك، و لا اعتراض لأحد في الأمر، كانْت أم غيره.
أمّا عند العجز عن التشكيك في الاصول العقليّة و المقدّمات البرهانيّة المسلّمة للحكيم، فما الذي يمكن أن ينطوي عليه الحديث عن هذا أو ذاك، و أتباع رأي هذه المدرسة أو تلك، غير الإقرار بالجهل و الإغراء به؟!
الإشْكَال الثَّامِنْ: منطق القرآن هو حجّيّة العقل و اليقينلا الفرضيّات الوهميّة
الإشكال الثامن على صاحب المقالة هو قوله: ينبغي اتّباع ما ورد في كتب عصرنا الحاضر باسم العلم، و الذي ابتُني على أساس الفرضيّات و النظريّات و طائفة من الامور اليقينيّة، و اعتباره من المسلّمات، و لو خالف ظاهر القرآن الكريم، فإنّ العلم الذي هو في حال تحوّل و تغيّر دائميّ يستتبع تحوّل و تغيّر المعارف و الاستنباطات من الدين؛ خلافاً لنظرية پيردوئم الفيلسوف و الفيزيائيّ الفرنسيّ الذي يعتبر الفرضيّات العلميّة وسائل لتنظيم الحوادث، و يسمّى علمه صراحةً بالعلم اليقينيّ الإيجابيّ، و قد بنى نظريّته بحيث إنّ الفرضيّات العلميّة لاحظّ لها في إظهار الواقع، بل تنحصر في كونها أساليب لتنظيم و تنسيق الحوادث و جعلها قابلة للمحاسبات.
ثمّ انتقد العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في إظهاره ميلًا لهذا الاتّجاه في مقاطع من آرائه التفسيريّة، و اعتباره حفظ ظواهر الكتاب مستلزماً لاعتبار بعض الفرضيّات العلميّة كوسائل.
ثمّ قال:
إ نّ الإنسان ما لم يدوّن و ينقّح معارفه (و علومه الإنسانيّة و معرفته للعالم)، و ينزه نفسه عن المخالفة غير المبرّرة، فإنه لن يمتلك معرفة دينيّة عميقة ذات متانة و صلابة كافية.
و فوق هذا، فإنّ هذه المعارف البشريّة السيّالة ستجبر المعرفة
الدينيّة أن تتوائم معها في السيلان و الجريان.
و لقد كتب في تفسير مطلع سورة النساء، {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً}: أنّ ظاهر الآية القريب من النصّ هو أنّ النسل الموجود من الإنسان ينتهي إلى آدم و زوجته، لم يشاركهما فيه غيرهما.
ثمّ ينقل نظريّة القائلين بالأنواع، و يضيف: أنّ هذه الفرضيّة قد افترضت لتبرير و توجيه ما يلحق بهذه الأنواع من الخواصّ و الآثار لاتطوّر ذواتها، من غير قيام دليل عليها بالخصوص و نفي ما عداها، فإنّ التجارب لم تتناول فرداً من أفراد هذه الأنواع تحوّل إلى فرد من نوع آخر، كتحوّل قرد إلى إنسان، و إنّما تتناول بعض هذه الأنواع من حيث خواصّها و لوازمها و أعراضها.
و لهذا السبب، فإنّ الهدف من تلك الفرضيّة التي لم يقم دليل قطعيّ عليها هو توجيه و تبرير المسائل الخاصّة و المنحصرة بها. لذا فإنّ قول القرآن الكريم بأنّ الإنسان نوع مستقلّ عن سائر الأنواع غير معارض بأيّ كلام علميّ.۱
ثمّ يقول:
قارنوا كلام المرحوم الطباطبائيّ بكلام داروين حين يعتبر فرضيّته لدلائل خاصّة كالقدرة مثلًا على تنظيم الظواهر و ظهور النماذج البديعة و غير المنتظرة فرضيّة معتبرة و مدعومة، و في اعتباره تحوّل الأنواع أمراً نظريّاً علميّاً. و لاحظوا كذلك معيار العلّامة الطباطبائيّ حين يطلب مشاهدته رأي العين تحوّل قرد إلى إنسان لتصحّ عنده تلك النظريّة و تحوز رتبتها العلميّة، أي أنّه في النهاية ينهي المطلب و يجعله معتمداً على فلسفة العلم أو علم المعرفة.
ثمّ يقول:
و ليس واضحاً لي هل عمل المرحوم الطباطبائيّ على بسط نظره و تنميته في مجال امتحان و اختبار الفرضيّات العلميّة و رفضها أو قبولها، أم لا؟۱ أوَ حَقّاً أنّه يعد شرط صدق النظريّات في كلّ مكان أن تشاهد مصاديقها النظريّة بشكل مباشر أم لا؟ أوَ هل أقام بنفسه معرفة صحيحة و منقّحة أم لا؟ أوَ هل يعتقد بهذا الرأي كذلك في باب نظريّة كوبرنيك مثلًا، فيطالب برؤية حركة الأرض حول الشمس، أو بمشاهدة سكون الشمس، وإلّا فإنه لن يقبل بها؟ أوَ يطالب في الكيمياء بمشاهدة جزيء كلوريد الصوديوم أو البنزين مباشرة؟
أوَ يعتبر المشاهدة بالاستعانة بالآلات مشاهدة أيضاً أم لا؟
(كالمشاهدة من خلال الميكروسكوب أو التلسكوب). أوَ يعتبر الوسائل و الأدوات امتداداً للحواسّ البشريّة فقط أم يعدّها نظريّات مجسمة؟ و هل يعدّ المشاهدة بلا نظريّة، و غير المسبوقة بفرضيّة ما أمراً ميسّراً أم لا؟
مهما كان الجواب فمن المسلّم أنّه ما لم يقدّم جواباً إجماليّاً أو تفصيليّاً لهذه الاسئلة فإنّ ذلك الحكم في باب فرضيّة التكامل و التطوّر، ذلك المعيار لاختيار النظريّات العلميّة سيبقى ناقصاً غير كافٍ.٢
النظريات التى لم تثبت بعد بالأدلة المتقنة، هى فرضيّات لا قوانين
لقد أجبنا في هذا الكتاب على هذه المقولة بالنقوض و الإيرادات
التي أوردناها على كتاب «خلقت انسان» (=خلق الإنسان)، و برهنّا هناك أنّ مسألة تغيّر و تطوّر الأنواع لا تعدو عن كونها فرضيّة ليس إلّا، و لا يمكن تسميتها قانوناً. فالأفراد الذين يدلون بآرائهم في هذه القضيّة يستدلّون على وجوب التطوّر و التبدّل بوجود التكامل في الأنواع، و لا يملكون لقولهم هذا من برهان إلّا لفظ يجب. إنّ الاستقراء الناقص الذي أُجري على الأنواع فأثبت وجود التكامل فيها لا علاقة له بمسألة تغيّر الأنواع و تبدّلها، فلا يمكن إثبات هذا الحكم بثبوت ذاك، و لا يمكن من ترتيب المقدّمات الظنّيّة الاستقرائيّة في الأنواع استخلاص نتيجة كلّيّة لجميع الأنواع، و حتى لتغيرها و تطوّرها، فكلمات داروين و أقواله مخدوشة.
و قد ألِّفت الكتب في مهاجمته و مهاجمة نظريّته، و قد انحسر اليوم اعتبار هذا الكلام و قيمته في محافل العلم، فلم يعد أحد يلقي إليه بالًا.
و علينا حين نلحظ ظهور القرآن الكريم القريب من النصّ على أنّ ولادة جميع أفراد البشر من آدم شخصيّ واحد و زوجته، أن لا نرفع اليد عن هذا الظهور لمجرّد الحدس و التخمين.
لقد نهى القرآن الكريم عن العمل بالظنّ، فلا يحقّ للإنسان إلّا أن يسلك طريق العلم و القطع و اليقين. فأيّ دليل قطعيّ و يقينيّ قد قُدّم على اتّصال البشر بالقرد؟!
لقد تصوّر داروين أنّ ذلك الاتّصال كان عن طريق القرد، و قد ردّ مقولته القائلون بتبدّل الأنواع لدلائل كثيرة، و صاروا يقولون بوجود حلقة مفقودة، فهم عنها يبحثون.
أمّا القائلون بثبات الأنواع فيرفضون مطلقاً مسألة التبدّل و التغير، و يعدّونه منحصراً في داخل الأنواع، لا تغيّر نوع إلى آخر، أو تغيّر ماهيّة و تطوّرها إلى ماهيّة أخرى.
فأيّ دليل يقينيّ و علميّ و تجربيّ أُقيم في علوم الحياة على قاطعيّة تغيّر الأنواع؟!
إ نّ الحكيم و العالم لا يتكلّم إلّا عن طريق العلم، تاركاً المحتملات في بوتقة الاحتمال و في بقعة الإمكان. و قد كان كلام العلّامة في باب تغيّر الأنواع من أعلى الأحكام و النتائج التي ينبغي أن تستحصل، لأنّه يقول:
لم يقم هناك دليل علميّ لتغيّر الأنواع فيثبت الأمر باليقين و المشاهدة، فيبقى إذَن احتمال الرأي الآخر المقابل لهذا الكلام على قوّته و اعتباره، و لا يمكن رفع اليد عن ظاهر القرآن بدون حجّة عقليّة.
و لم يكن المقصود بالمشاهدة الرؤية، كي يحاول بزيادة الأمثلة و التشكيك رفضاً أو قبولًا افتعال أجواء معيّنة و توسعة ساحة المغالطة؛ بل كان المقصود بها اليقين و القطع، فالجميع يعلم أنّ المراد من مشاهدة التركيبات الكيميائيّة هو الفعل و الانفعال الحاصل بين شيئين ليحصل و ينتج منهما شيء ثالث، و المراد من مشاهدة حركة الأرض قاطعيّة ذلك على أساس قانون البندول و تجربة فوكو، لا الإحساس بحركتها شأن حركة مهد الطفل.
كانت هذه إجاباتنا على افتراض مجيء لفظ الرؤية أو المشاهدة في عبارة العلّامة قدّس الله نفسه، مع أنّ الأمر لم يكن كذلك، بل هو تحريف ظاهر واضح من صاحب المقالة لكلام العلّامة، فلقد كانت عباراته في تفسير «الميزان» لَمْ يَتَنَاوَل، و لا ربط لها بمعنى و مفهوم العلم و المشاهدة و الرؤية، و أعمّ و أشمل في معناها.
و ممّا يُثير العجب الشديد أن يقول صاحب المقالة في انتقاده لكلمات العلّامة كما ذكرنا: «إنّ الإنسان ما لم يدوّن و ينقّح معارفه (و علومه الإنسانيّة و معرفته للعالم) و ينزه نفسه عن المخالفة غير المبرّرة، فإنه
لن يمتلك معرفة دينيّة عميقة ذات متانة و صلابة كافية». فما هذه الجرأة و الوقاحة في أن يمنح امرئ نفسه الحقّ لمجرّد اكتسابه حظّاً من هذا الحبك المتشابك الذي يدعونه بالعلوم الإنسانيّة و علم المعرفة في أن ينسب أُسطوانة العلم و الحكمة و الفضيلة الفريدة و مرجع المعارف الدينيّة في القرون الأخيرة باعتراف المؤالف و المخالف معاً إلى الضحالة و عدم الصلابة في المعرفة الدينيّة؟ إن هي إلّا الرذالة و السخافة و الدناءة.
هزارمرتبة شستن دهن به مشك و گلاب | *** | هنوز نام تو بردن كمال بى ادبى است۱ |
إ نّ القطع و اليقين حجّة في ذاته و نفسه، و حجّيّته غير قابلة للجعل، لا إثباتاً و لا نفياً، أي لا يمكن إعطاؤه الحجّيّة أو سلب الحجّيّة عنه. و تسمية القطع و اليقين بالحجّة ينطوي على مسامحة، لأنّ الحجّة تقال للشيء الباعث على اليقين و القطع بالمطلوب، فلا يمكن إطلاقها على نفس القطع و اليقين.
أمّا حجّيّة الأدلّة الظنّيّة، فباعتبار وقوعها في طريق الدليل القطعيّ و اليقينيّ و انتهائها إليه، و إلّا فإنّ كلّ ظنّ و حدس لا يمتلك حجّيّة بنفسه.
العقل حجة قبل الشرع، و لله تعالى حجّتان
أمّا اتّباع العلم و اليقين فهو ممّا يأمر به العقل قبل الشرع: {وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}،٢ و هي حقيقة فطريّة وجدانية، و عقليّة فكريّة، و إيمانية شرعيّة، خرقت طبقات الظلام كالشمس الساطعة، و تخلّصت من حجب الأوهام و الخيالات و الحدس و الظنّ، و كانت في سطوعها في سماء
العقل و المعرفة البشريّة لألف و أربعمائة سنة هادياً و مرشداً، و دليلًا قاطعاً، و سنداً حيّاً، و شاهداً صادقاً على حقّانيّة القرآن.
فحجّيّة العقل سابقة على حجّيّة الشرع، لأنّ الشرع إنّما يثبت بالعقل، و الشخص المجنون الذي لا عقل له لا تكليف له؛ فإن لم يكن هناك حكم عقليّ على وجوب اتّباع النبيّ و الإمام، فكيف ستثبت حجّيّة أقوالهم؟
و أمّا القول بحجّيّة الشرع اعتماداً على الشرع فيستلزم الدور و التسلسل، فكيف سيمكن في غياب العقل تمييز رسول الله عن مسيلمة الكذّاب، أو تشخيص نبيّ إلهيّ عن مدّعٍ للنبوّة؟
لا ريب أنّ للعقل حكم المصباح الذي يمكن للإنسان أن يبصر بنوره جميع الأشياء، و يهتدي به إلى حلّ جميع المجهولات، و من بينها وجوب اتّباع الكتاب السماويّ و النبيّ و الإمام الحقيقيّين، لذا فإنّ اتّباع الإمام كان بواسطة العقل و هديه.
الروايات الواردة فى تقدّم العقل على الشرع
يروي محمّد بن يعقوب الكُلينيّ في كتاب «الكافي» بسنده المتّصل عن أبي يعقوب البغداديّ أنّه قال: قَالَ ابْنُ السِّكَّيتِ۱ لأبي
الحسَنِ۱ عَلَيه السَّلَامُ: لِمَاذَا بَعَثَ اللهُ موسى بْنُ عِمْرَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالعَصَا وَ يَدِهِ البَيْضَاءِ وَ آلَةِ السِّحْرِ؟! وَ بَعَثَ عيسى بِآلَةِ الطِّبِّ؟ وَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ عَلَى جَمِيعِ الأنْبياءِ بِالكَلَامِ وَ الخُطَبِ؟!
فَقَالَ أبُوالحَسَنِ عَلَيه السَّلَامُ: إنَّ اللهَ لَمَّا بَعَثَ موسى عَلَيه السَّلَامُ كَانَ الغَالِبُ عَلَى أهْلِ عَصْرِهِ السِّحْرَ، فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ في وُسْعِهِمْ مِثْلُهُ، وَ مَا أبْطَلَ بِهِ سِحْرَهُمْ، وَ أثْبَتَ بِهِ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
وَ إنَّ اللهَ بَعَثَ عيسى عَلَيْهِ السَّلَامُ في وَقْتٍ قَدْ ظَهَرَتْ فيهِ الزَّمَانَاتُ وَ احْتَاجَ النَّاسُ إلَى الطِّبِّ، فَأتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ بِمَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ مِثْلُهُ، وَ بِمَا أحْيَي لَهُمُ المَوْتَى، وَ أبَرَأ الأكْمَهَ وَ الأبْرَصَ بِإذْنِ اللهِ وَ أثْبَتَ بِهِ الحُجَّةَ عَلَيْهِمْ.
وَ إنَّ اللهَ بَعَثَ مُحَمَّداً صلّى الله عَلَيْهِ وَ آلِهِ في وَقْتٍ كَانَ الغَالِبُ عَلَى أهْلِ عَصْرِهِ الخُطَبَ وَ الكَلَامَ وَ أظُنُّهُ قَالَ: الشِّعْرَ فَأَتَاهُمْ مِنْ عِنْدِ اللهِ مِنْ مَوَاعِظِهِ وَ حِكَمِهِ مَا أبْطَلَ بِهِ قَوْلَهُمْ وَ أثْبَتَ بِهِ الحٌجَّةَ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: قَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: تَاللهِ؛ مَا رَأَيْتُ مِثْلَكَ قَطُّ! فَمَا الحُجَّةُ عَلَى الخَلْقِ اليَوْمَ؟!
قَالَ: فَقَالَ عَلَيه السَّلَامُ: العَقْلُ يُعْرَفُ به الصَّادِقُ عَلَى اللهِ فَيُصَدِّقُهُ؛ وَ الكَاذِبُ عَلَى اللهِ فَيُكَذِّبُهُ.
قَالَ: فَقَالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: هَذَا وَ اللهِ هُوَ الجَوَابُ.٢
و للمحقّق الفيض الكاشانيّ كلام في ذيل هذا الحديث المبارك بشأن معنى العقل الذي جعله الإمام عليهالسلام حجّة، قال:
«في كلام الإمام عليهالسلام تنبيّه على ترقّي الاستعدادات و تلطّف القرائح في هذه الامّة، حتى استغنوا بعقولهم عن مشاهدة المعجزات المحسوسة، فإنّ الإيمان بالمعجزة دين اللئام و منهج العوامّ، و أهل البصيرة لايقنعون إلّا بانشراح الصدر بنور اليقين:
{أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ}.۱ كمن أحاطته قساوة قلبه و أخذته في الظلمة النفسانيّة؟!.
فالإنسان الصادق الذي تكون دلالته و حكايته من الله و للّه صادقة يمكن تشخيصه بالعقل، لأنّه بالعقل يمكن أن يُفهم علمه بكتاب الله و مراعاته له و تمسّكه بالسنّة و حفظه لها، و الكاذب على الله يمكن كذلك تشخيص جهله بكتاب الله و تركه له و مخالفته للسنّة و عدم مبالاته بها.
قال في «الاحتجاج»: و قد ضمّن الرضا٢ صلوات الله عليه في كلامه هذا أنّ العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل الله يلتجي المكلّف إليه في ما اشتبه عليه من أمر الشريعة، صاحب دلالة تدلّ على صدقه عليه تعالى، يتوصّل المكلّف إلى معرفته بالعقل، و لولاه لمّا عُرف الصادق من الكاذب، فهو حجّة الله على الخلق أوّلًا».٣
فالإمام عليهالسلام لم يكن ليريد في هذا الحديث الأفهام بأن حجّة الله اليوم هي العقل لا الإمام و النبيّ، و أنّ حجّته في الأزمنة السابقة
المصحوبة بالمعجزات كانت الأنبياء لا العقل، لأنّ تلك المعجزات أيضاً لم تكن لتثمر شيئاً لولا وجود العقل.
أمّا في هذا الزمان فإنّ العقل لا يكفي لوحده، إذ لولا وجود صادق من جانب الله تعالى، فإنّ الإنسان سيعجز بعقله عن معرفة مَن سيتبع و بمن سيقتدي.
لذا فإنّ أمس و اليوم كلاهما بحاجة إلى حجّة، كما يحتاجان العقل، ذلك العقل الذي أمكن لابن السكِّيت أن يدرك أنّ الهادي عليهالسلام هو الإمام الصادق، و أنّ المتوكّل هو الإمام الكاذب الزائف.
فلقد دعاه الإمام في تلك العبارات بأحلى بيان و أقوى برهان إلى الاعتقاد بإمامته عن طريق أدِلَّة قِيَاساتُهَا مَعَهَا، و هي: أنّ لك عقلًا! فاكتشف بعقلك الطريق! و مَيِّز به القائد من السارق، و الدليل الهادي من قاطع الطريق! ثمّ تَحَرَّكْ معه و اتَّبِعْهُ! و كان للإمام إشارة هنا إلى أنّ عقول الناس اليوم من القوّة ممّا لا حاجة معه لمعجزة، فقد كانت المعجزة لأصحاب الأبصار، أمّا أصحاب العقول و البصائر فيكتشفون قائدهم و إمامهم بانشراح الصدر و نور اليقين، فلا يَدَعُونَ ملازمته حتى ينالوا مقصودهم و يتوصّلوا إلى غايتهم.
و قد روى المرحوم الكلينيّ في «الكافي» كذلك، بسنده المتّصل عن ابن أبي يعفور، عن مولى لبني شيبان، عن أبي جعفر محمّد الباقر عليه السلام قال: إذَا قَامَ قَائِمُنَا وَضَعَ اللهُ يَدَهَ عَلَى رُؤوُسِ العِبَادِ فَجَمَعَ بِهَا عُقُولَهُمْ، وَ كَمُلَتْ بِهِ أحْلَامَهُمْ.۱
العقل هو الحجّة الأولى بين الله و العباد
كما روى الكلينيّ بسنده المتّصل عن عبد الله بن سنان، عن الإمام
الصادق عليهالسلام قال: حُجَّةُ اللهِ عَلَى العِبَادِ النَّبيّ؛ وَ الحُجَّةُ فيمَا بَيْنَ العِبَادِ وَ بَيْنَ اللهِ العَقْلُ.۱
يقول المحقّق الفيض في بيان و شرح هذا الحديث: يعني ما يقطع به عذرهم في تركهم لمّا يتوصّلون إلى سعادتهم و فيه نجاتهم هو النبيّ بعد تصديقهم بالله سبحانه، و ما يقطع به عذرهم في تركهم لمعرفة الله سبحانه و التصديق به قبل ذلك هو العقل.
و لمّا كانت الحجّة في الأوّل موصلة لهم إلى شيء آخر غير الله، أعني سعادتهم، و كانوا معتقدين لإلهيّته سبحانه، أضاف الحجّة إلى الله تعالى حجّة الله، و أورد لفظ عَلَى، و لمّا كانت الحجّة في الثانية موصلة لهم إليه تعالى، و كانوا غير معتقدين بعد لإلهيّته، و هي قد تكون حجّة لهم و قد تكون حجّة عليهم لاختلاف مراتب عقولهم، قال: فيما بينهم و بين الله.
ثمّ أورد شرحاً لُاستاذه في المعقول: صدر المتألّهين الشيرازيّ طيّبالله مضجعه، محصّله: إنّ الناس أمّا أهل بصيرة و أمّا أهل حجاب، و الحجّة لله عليهم إمّا ظاهرة و إمّا باطنة؛ و يكفي لأهل الحجاب الحجّة الظاهرة، إذ لا باطل لهم، لأنّهم عميان القلوب لا يبصرون بباطنهم شيئاً، لهم قلوب لا يفقهون بها، فالحجّة عليهم هو النبيّ مع معجزته، و هي الحجّة الظاهرة.
و أمّا أهل البصيرة فالحجّة الظاهرة عليهم هو النبيّ، و الباطنة هو العقل المكتسب ممّا استفادوا من النبيّ.
ثمّ يقول: هذا تحقيق حسن الّا انّ إرادته من الحديث بعيدة.٢
رواية قيّمة للإمام موسى بن جعفر عليه السلام فى حجّيّة العقل
و من بين الأحاديث في باب حجّيّة العقل و أفضليّته، رواية جليلة و نفيسة رواها في «الكافي» بسنده المتّصل عن هشام بن الحكم، عن أبيالحسن موسى بن جعفر عليهما السلام، تضمّ مطالب قيّمة و معارف عالية و دقائق و إشارات و لطائف تليق أن يؤلّف لكشف نكاتها العميقة كتاب مستقلّ، و باعتبارها مفصّلة فإنّنا نكتفي هنا بعدّة فقرات منها:
قَالَ عَلَيه السَّلَامُ: يَا هِشَامُ! إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى بَشَّرَ أهْلَ العَقْلِ وَ الفَهْمِ في كِتَابِهِ، فَقَالَ: {فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ}.۱
يَا هِشَامُ! إنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَ تَعَالَى أكْمَلَ لِلنَّاسِ الحُجَجَ بِالعُقُولِ، وَ نَصَرَ النَّبِيِّين بِالبَيَانِ، وَ دَلَّهٌمْ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ بِالأدِلَّةِ.
يَا هِشَامُ! إنَّ العَقْلَ مَعَ العِلْمِ. فَقَالَ: {وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ}.٢
يَا هِشَامُ! إنَّ لُقْمَانَ قَالَ لِابْنِهِ: تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أعْقَلَ النَّاسِ، وَ إنَّ الكَيِّسَ لَدَى الحَقِّ يَسِيرٌ.
يَا بُنيّ! إنَّ الدُّنْيَا بِحْرٌ عَمِيقٌ قَدْ غَرِقَ فيهِ عَالَمٌ كَثِير، فَلْتَكُنْ سَفينَتُكَ فيهَا تَقْوَى اللهِ، وَ حَشْوُهَا الإيمَانَ، وَ شِرَاعُهَا التَّوَكُّلَ، وَ قَيِّمُهَا العَقْلَ، وَ دَلِيلُهَا العِلْمَ، وَ سُكَّانُهَا الصَّبْرَ.
يَا هِشَامُ! مَا بَعَثَ اللهُ أنْبِيَاءَهُ وَ رُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهِ إلَّا لِيَعْقِلُوا عَنِ اللهِ! فَأَحْسَنُهُمُ اسْتِجَابَةً أحْسَنُهُمْ مَعْرِفَةً؛ وَ أعْلَمُهُمْ بِأمْرِ اللهِ أحْسَنُهُمْ عَقْلًا.
وَ أكْمَلُهُمْ عَقْلًا أرْفَعُهُمْ دَرَجَةً في الدُّنْيَا وَ الآخِرَةِ.
يَا هِشَامُ! إنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَيْنِ: حُجَّةً ظَاهِرَةً وَ حُجَّةً بَاطِنَةً.
فَأمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الأنْبِيَاءُ وَ الأئِمَّةُ؛ وَ أمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.
يَا هِشَامُ! الصَّبْرُ عَلَى الوَاحْدَةِ عَلَامَةُ قُوَّةِ العَقْلِ، فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ اعْتَزَلَ أهْلَ الدُّنْيَا وَ الرَّاغِبينَ فيهَا وَ رَغِبَ فيمَا عِنْدَ اللهِ، وَ كَانَ اللهُ انْسَهُ في الوَحْشَةِ، وَ صَاحِبَهُ في الوَحْدَةِ، وَ غِنَاهُ في العِيلَةِ، وَ مُعِزَّهُ مِنْ غَيْرِ عَشِيرَةٍ.
يَا هِشَامُ! كَانَ أمِيرُ المُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَقُولُ: مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيءٍ أفْضَلَ مِنَ العَقْلِ، وَ مَا تَمَّ عَقْلُ امْرِئٍ حتى يَكُونَ فيهِ خِصَالٌ شَتَّى: الكُفْرُ و الشَّرُّ مِنْهُ مَأمُونَانِ، وَ الرُّشْدُ وَ الخَيْرُ مِنْهُ مَأمُولَانِ، وَ فَضْلُ مَالِهِ مَبْذُولٌ، وَ فَضْلُ قَوْلِهِ مَكْفُوفٌ، نَصِيبُهُ مِنَ الدُّنْيَا القُوتُ، لَا يَشْبَعُ مِنَ العِلْمِ دَهْرَهُ، الذُّلُّ أحَبُّ إِلَيْهِ مَعَ اللهِ مِنَ العِزِّ مَعَ غَيْرهِ، و التَّوَاضُعُ أحَبُّ إِلَيْهِ مِنَ الشَّرَفِ.
يَسْتَكْثِرُ قَلِيلَ المعْرُوفِ مِنْ غَيْرهِ، وَ يَسْتَقِلُّ كَثِيرَ المُعْرُوفِ مِنْ نَفْسِهِ، وَ يَرَى النَّاسَ كُلَّهُمْ خَيْراً مِنْهُ؛ وَ أنَّهُ شَرَّهُمْ في نَفْسِهِ وَ هُوَ تَمَامُ الأمْرِ.
يَا هِشَامُ! لَا دِينَ لِمَنْ لَا مُرُوَّةَ لَهُ، وَ لَا مُرُوَّةَ لِمَنْ لَا عَقْلَ لَهُ.۱
شرح فقرات من الحديث المروى عن الكاظم عليه السلام بشأن العقل
يقول المحقّق الفيض الكاشاني في شرح و بيان فقرة تَوَاضَعْ لِلْحَقِّ تَكُنْ أعْقَلَ النَّاسِ:
أي تواضع مع الناس للحق سبحانه لا لغرض آخر، فإنّ مَن تواضع لله رفعه الله، كما ورد في الحديث.
أو نقول: التواضع للحق هو الإقرار به و الطاعة له و الانقياد، كما هو مقتضى العقل.
و قال أُستاذنا (صدر المتألهين الشيرازيّ قدّس الله سرّه): هو أن
لا يرى العبد لنفسه وجوداً و لا حولًا و لا قوّة إلّا بالحقّ تعالى و حوله و قوّته، فيرى أن لا حول و لا قوّة له و لا لغيره إلّا بالله.
و ورد في الحديث النبويّ: مَنْ تَوَاضَعَ لِلّهِ رَفَعَهُ اللهُ؛ فإذا فنى و خرج عن نفسه بالموت الإراديّ قبل الموت الطبيعيّ يكون باقياً بالله.
ثمّ قال الملّا صدرا: و هو المراد بقوله: تَكُنْ أعْقَلَ النَّاس، فإنّ أعقل الناس هم الأنبياء و الأوّلياء ثمّ الأمثل فالأمثل.۱
و قال في شرح و بيان فقرة: فَمَنْ عَقَلَ عَنِ اللهِ اعْتَزَلَ أهْلَ الدُّنْيَا وَ الرَّاغِبينَ فيهَا: بلغ عقله إلى حدّ يأخذ العلم عن الله من غير تعليم بشر في كلّ أمر.
و معنى الاعتزال عن الدنيا و أبناء الدنيا: إذ لم يبقَ له رغبة في الدنيا و أهلها، و إنّما يرغب فيما عند الله من الخيرات الحقيقيّة و الأنوار الإلهيّة و الإشراقات العقليّة و الابتهاجات الذوقيّة و السكينات الروحيّة.
و في شرح و بيان فقرة: مَا عُبِدَ اللهُ بِشَيءٍ أفْضَلَ مِنَ العَقْلِ، قال: أي أفضل ما يتقرّب به العبد إلى الله هو تكميل العقل باكتساب العلوم الحقيقيّة الاخرويّة و المعارف اليقينيّة الباقية المأخوذة من الله سبحانه دون غيره من الطاعات و العبادات البدنيّة و الماليّة و النفسيّة، كما ورد عن النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم: يَا عَلِيّ! إذا تَقَرَّبَ النَّاسُ إِلَى خَالِقِهِمْ بِأنْوَاعِ البِرِّ، فَتَقَرَّبْ أنْتَ إِلَيْهِ بِالعَقْلِ حتى تَسْبِقَهُمْ.٢
نعم، حين نرى أنّ دين الإسلام القويم قائم على أساس العقل، و أنّ الآيات القرآنيّة تدعونا إلى العقل و التعقّل، و أنّ هذه الأحاديث المعتبرة من رسول الله و آله الميامين جاءت لتدعو إلى العقل؛ و حين نعلم أنّ للعقل حجّيّة قبل الشرع، و أنّه أحد حجّتي الله و برهانيه الصادقَين، و أنّ هذا العقل يدعونا للعلم و اليقين؛ و أنّ القرآن الكريم ينهانا عن أُسلوب الظنّ و عن أيّ منهاج للحدس لا ينتهي بالقطع و اليقين، فكيف يمكننا مع هذا كلّه أن نتمسّك بفرضيّة تفتقر إلى الأساس العلميّ، و لم تصاغ على أساس من البرهان و اليقين، و لم تكتسب حجّة يقينيّة و شهوداً وجدانيّاً، فنرفع لأجلها يدنا عن ظاهر الكلام الإلهيّ و الكتاب السماويّ؟!
إ نّ الحكيم و العالم لن يُذعن لمثل هذه التصوّرات و هذه الاختبارات، و لن يخضع أمام نَضْد عدّة تماثيل و عظام مزوّرة و عدّة من الفسائل الطبيعيّة الناقصة و ذات الدلالة المبهمة الغامضة، فهو لا يبيع المحكمات بالمتشابهات.
أمّا أتباع الظواهر الذين تمركزت عقولهم في عيونهم، فيحكمون فوراً بمجرّد التفرّج على عدّة فسائل لا تحكي إلّا التغيّر و التكامل داخل الأنواع على قضيّة أشمل و مطلب أوسع، فيقولون: الآن و قد ثبت التطوّر
و الرشد و التغيّر داخل الأنواع، فإنّ علينا أن نعتبره أساساً عامّاً كلّيّاً فنعدّيه إلى تغيّر الأنواع و تغيراتها الخارجيّة، و نعتبر جميع الأنواع من أصل واحد و جرثومة واحدة.
بأيّ علّة؟ و بأيّ مناط؟ و بأيّ برهان؟
أيحمل قائل هذا الكلام في جعبته شيئاً غير خلط و مزج المطالب الحدسيّة و الوهميّة و غير الاستقراء الناقص؟ فليقدّمه و ليشر إليه.
الإشْكَال التَّاسِعْ: الفطرة طريق الكمال التكوينيّ والأحكام الفطريّة تُوصِل للكمال
الإشكال التاسع على صاحب المقالة: هو عدم فهمه لمعنى الفطرة و فطريّة الأحكام، حيث أشكل تبعاً لذلك على العلّامة قدّس الله نفسه الشريفة بشأن عدم منافاة تزويج أولاد آدم أبي البشر و بناته للفطرة، ثمّ أورد مطلباً منه شفعه بأمثلة غير صحيحة من عنده، فأدغمها في كلام العلّامة و نسبها خطاً إليه، ثمّ أنهى كلامه بعد شرح مختصر.
و نجد أنفسنا مجبرين إيضاحاً لحقيقة الأمر على إيراد عين عبارته، ثمّ الإشارة إلى نقاط مغالطته و مواضع مكابرته الشاعريّة.
يقول:
مضافاً إلى ذلك فإنه يضع نفسه بقبوله كون آدم و زوجه أباً و أمّاً لجميع نوع البشر أمام سؤال عسير: هل تزوّج أولاد و بنات آدم فيما بينهم؟ حيث أجاب على ذلك بالإيجاب.
ثمّ أجاب بالنفي على السؤال الآخر: أو لا يتعارض زواج الأخ و الاخت مع الفطرة؟
و أورد كشاهد على تأييد عدم تعارض زواج الاخت و الأخ للفطرة قصصاً منقولة عن الإيرانيّين القدماء، و عن أعمال بعض الاوروبّيّين المعاصرين.
و نُعرض من جديد عن نفس الأسئلة و الأجوبة، و نلحظ فقط مستلزمات الكلام الأوّل، فقد رأى في معرض دفاعه عن وجهة نظره الأوّلي لزوم عرض ملاكٍ ما في باب موافقة الفطرة و معارضتها يثير
بنفسه أسئلة جديدة و يستلزم أجوبة جديدة، و يشيد بشكل عامّ فهماً دينيّاً جديداً.
فلا جرم أنّ شرب الخمر، و الزنا، و اللواط، و الربا التي كانت سائدة و رائجة في الأقوام السابقة كما هي رائجة عند الاوروبّيّين المعاصرين، هي في نظره من الامور التي لا تخالف الفطرة، بل إنّها بحدّ ذاتها ليست حسنةً و لا قبيحة، و لا معنى لأن تحلّل في شريعة ما و تحرّم في أخرى. و لا جرم أنّ الدين و خاصّة الدين الإسلاميّ الذي يمثّل في نظره طريقاً لإيصال الفرد و المجتمع لكماله اللائق جميع أحكامه فطريّة بهذا المعنى،۱ سيكتسب وجهاً و مظهراً آخر، و سيتّضح أنّ كثيراً من أحكام الدين الإسلاميّ يمكن أن تكون بشكل آخر مع احتفاظها بفطريّتها.
و هذه كلها نوع من المعرفة الدينيّة تتناسب مع نوع المعرفة الإنسانيّة و معرفة العالم، أي إنّ المفسّر ما لم يكن له إدراك و فهم خاصّ عن الإنسان و العالم، و عن مفهوم الحسن و القبح، و عن الاحتياجات الإنسانيّة، فإنّه لن يستطيع الحكم أنّ زواج الاخت و الأخ فطريّ أحياناً و غير فطريّ أحياناً أخرى، أو أنّه أمر لا فطريّ و لا غير فطريّ.
و يتّضح من جديد أنّ موافقة أحكام الدين للفطرة أمر لايمكن إثباته بالتجربة، كما لا يمكن نفيه بالتجربة، لأنّ زواج الاخت و الأخ و هو أمر اعتباريّ لا حقيقيّ كان في بدء خلق الإنسان مجازاً و مشروعاً في نظره، لأنّ غرض الشارع و مصلحة العالم كانت في تكثير نسل الإنسان، و أمّا الآن و قد انتفت هذه المصلحة فقد حُرِّم هذا الزواج.
إ نّ هذا الكلام يمنع بشكل كامل أمر إثباتنا لفطريّة الأحكام الشرعيّة أوّلًا، و باعتبار عدم معرفتنا لغرض الشارع من جعل الحكم
الفلانيّ فإنّ بإمكاننا أن نعتبر أيّ حكم موافقاً للفطرة، لذا فإنّ الفطريّة و غيرالفطريّة ستفقد عمليّاً قيمتها الاستدلاليّة و روح معرفتها و إدراكها.
و ثانياً فلابدّ لإظهار ذلك النظر من أن نُنشئ نظريّة أخلاقيّة خاصّة تقول بعدم وجود اعتبار لحسن الأفعال و قبحها، و إنّ جوانب العلاقات الفرديّة و الاجتماعيّة (العلاقات الجنسيّة و علاقات الحكم و ...) ليست بذاتها حسنة و لا قبيحة.
بل إنّ لحسنها و قبحها معنى و منشأ آخر، فيمكن أحياناً أن يصبح عمل ما لمصلحة معيّنة (كتكثير النسل) مشروعاً، و أن يصبح ممنوعاً أحياناً أُخري؛ و حين يكون هذا الأمر جائزاً في زواج الاخت و الأخ، فَلم لا يكون جائزاً في الموارد الأخرى؟! (و في الحقيقة فإنّ نظر المرحوم الطباطبائيّ في باب الأخلاق هو نفس هذه العقيدة، حيث أوردها بوضوح في المقالة السادسة۱ من كتابه «أُصول فلسفه و روش رئاليسم» (=أسس الفلسفة و المذهب الواقعيّ).
و قد توسّل جماعة من المفسّرين تجنّباً لهذه الصعوبات بأحاديث تحكي تزويج ابني آدم بجنيّة و حوريّة».٢
و علينا بياناً لمواضع خطأ صاحب المقالة أن نورد بحثاً عن الفطرة و معناها، ثمّ نعمد إلى ذكر الاشتباهات.
معنى كون أحكام الدين الإسلامى المقدس فطرية
فلدينا في القرآن الكريم آية صريحة وواضحة تكشف عن أنّ الإنسان قد خُلق على أساس الفطرة، و تُعدّ الدين الإسلاميّ المبيّن ديناً قائماً على أساس الفطرة:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}،
{مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.۱
تفسير آية: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}
قال العلّامة الطباطبائي في تفسير هذه الآيات:
الفطرة بناء نوع من الفطر بمعنى الإيجاد و الإبداع، و فِطْرَتَ اللهِ منصوب على الإغراء، أي الْزَمِ الفطرة، ففيه إشارة إلى أنّ هذا الدين الذي يجب إقامة الوجه له هو الذي تهتف به الخلقة و تهدي إليه الفطرة الإلهيّة التي لا تبديل لها.
و ذلك أنّه ليس الدين إلّا سنّة الحياة و السبيل التي يجب على الإنسان أن يسلكها حتى يسعد في حياته، فلا غاية للإنسان يتبعها إلّا السعادة، و قد هدى كلّ نوع من أنواع الخليقة إلى السعادة التي هي بغية حياته بفطرته و نوع خلقته، و جهّز في وجوده بما يناسب غايته من التجهيز.
قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}.٢
و قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى}.٣
فالإنسان كسائر الأنواع المخلوقة مفطور بفطرة تهديه إلى تتميم نواقصه و رفع حوائجه، و تهتف له بما ينفعه و ما يضرّه في حياته، قال تعالى:
{وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها}.٤
و هو مع ذلك مجهز بما يتمّ له به ما يجب له أن يقصده من العمل،
قال تعالى:
{ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}.۱
فللإنسان فطرة خاصّة تهديه إلى سنّة خاصّة في الحياة و سبيل معيّنة ذات غاية مشخّصة ليس له إلّا أن يسلكها خاصّة، و هو قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}.
و ليس الإنسان العائش في هذه النشأة إلّا نوعاً واحداً لا يختلف ما ينفعه و ما يضرّه بالنظر إلى هذه البُنية المؤلّفة من روح و بدن، فما للإنسان من جهة أنّه إنسان إلّا سعادة واحدة و شقاء واحد، فمن الضروريّ حينئذٍ أن يكون تجاه عمله سنّة واحدة ثابتة يهديه إليها هادٍ واحد ثابت، وليكن ذاك الهادي هو الفطرة و نوع الخلقة، و لذلك عقّب قوله: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} بقوله: {لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ.}
فلو اختلفت سعادة الإنسان باختلاف أفراده، لم ينعقد مجتمع واحد صالح يضمن سعادة الأفراد المجتمعين.
و لو اختلفت السعادة باختلاف الأقطار التي تعيش فيها الامم المختلفة، بمعنى أن يكون الأساس الواحد للسنّة الاجتماعيّة أعني الدين هو ما يقتضيه حكم المنطقة، كان الإنسان أنواعاً مختلفة باختلاف الأقطار.
و لو اختلفت السعادة باختلاف الأزمنة، بمعنى أن تكون الأعصار و القرون هي الأساس الوحيد للسنّة الدينيّة، اختلفت نوعيّة كلّ قرن وجيل مع من ورثوا من آبائهم أو أخلفوا من أبنائهم، و لم يسر الاجتماع الإنسانيّ سير التكامل، و لم تكن الإنسانيّة متوجّهة من النقص إلى الكمال، إذ
لايتحقّق النقص و الكمال إلّا مع أمر مشترك ثابت محفوظ بينهما.
و ليس المراد بهذا إنكار أن يكون لاختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة بعض التأثير في انتظام السنّة الدينيّة في الجملة، بل إثبات أنّ الأساس للسنّة الدينيّة هو البنية الإنسانيّة التي هي حقيقة واحدة ثابتة مشتركة بين الأفراد، فللإنسانيّة سنّة واحدة ثابتة بثبات أساسها الذي هو الإنسان، و هي التي تدير رحى الإنسانيّة مع ما يلحق بها من السنن الجزئيّة المختلفة باختلاف الأفراد أو الأمكنة أو الأزمنة.
و هذا هو الذي يشير إلى قوله بعد: {ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ}.
و سنزيد المقام إيضاحاً في بحث مستقلّ إن شاء الله تعالى.۱
تفسير العلامة الطباطبائى لمراحل الفطرة من السنة الدينية
ثمّ يقول في فصل مستقلّ تحت عنوان: كَلَامٌ في معنى كَوْنِ الدِّينِ فِطْرِيَّاً في فُصُولٍ:
۱- إذا تأمّلنا هذه الأنواع الموجودة التي تتكوّن و تتكامل تدريجاً، سواء كانت ذوات حياة و شعور كأنواع الحيوان، أم ذات حياة فقط كأنواع النبات، أو ميِّتة غير ذي حياة كسائر الأنواع الطبيعيّة على ما يظهر لنا وجدنا كلّ نوع منها يسير في وجوده سيراً تكوينياً معيناً ذا مراحل مختلفة بعضها قبل بعض، و بعضها بعد بعض، يرد النوع في كلّ منها بعد المرور بالبعض الذي قبله و قبل الوصول إلى ما بعده، و لا يزال يستكمل بطيّ هذه المنازل حتى ينتهي إلى آخرها و هو نهاية كماله.
نجد هذه المراتب المطويّة بحركة النوع يلازم كلّ منها مقامه الخاصّ به لايستقدم و لا يستأخر من لدن حركة النوع في وجوده إلى أن تنتهي إلى
كماله، فبينها رابطة تكوينيّة يربط بها بعض المراتب ببعض بحيث لا يتجافى و لا ينتقل إلى غير مكانه، و من هنا يستنتج أنّ للنوع غاية تكوينيّة يتوجّه إليها من أوّل وجوده حتى يبلغها.
فالجوزة الواحدة مثلًا إذا استقرّت في الأرض استقراراً يهيّؤها للنموّ على اجتماع ممّا يتوقّف عليه النموّ من العلل و الشرائط، كالرطوبة و الحرارة و غيرهما، أخذ لبها في النموّ و شقّ القشر و شرع في ازدياد من أقطار جسمه، و لم يزل يزيد و ينمو حتى يصل إلى حدّ يعود فيه شجرة قويّة خضراء مثمرة.
و لا يختلف حاله في مسيره هذا التكوينيّ و هو في أوّل وجوده قاصداً قصداً تكوينيّاً إلى غايته التكوينيّة التي هي مرتبة الشجرة الكاملة المثمرة.
و كذا الواحد من نوع الحيوان، كالواحدة من الضأن مثلًا، لا نشكّ في أنّها في أوّل تكوّنها جنيناً متوجّهة إلى غايتها النوعيّة التي هي مرتبة الضأنة الكاملة التي لها خواصّها، فلا تضلّ عن سبيلها التكوينيّة الخاصّة بها إلى سبيل غيرها، و لا تنسى غايتها يوماً فتسير إلى غاية غيرها كغاية الفيلة مثلًا أو غاية شجرة الجوز مثلًا، فكلّ نوع من الأنواع التكوينيّة له مسير خاصّ في استكمال الوجود ذو مراتب خاصّة مترتّبة بعضها على بعض تنتهي إلى مرتبة هي غاية النوع ذاتاً، يطلبها طلباً تكوينيّاً بحركته التكوينيّة، و النوع في وجوده مجهّز بما هو وسيلة حركته و بلوغه إلى غايته.
و هذا التوجّه التكوينيّ لاستناده إلى الله يسمّى هداية عامّة إلهيّة، و هي كما عرفت لا تضلّ و لا تخطئ في تسيير كلّ نوع مسيره التكوينيّ و سوقه إلى غايته الوجوديّة بالاستكمال التدريجيّ، و بإعمال قوّته و أدواته
التي جهّز بها لتسهيل مسيره إلى غايته.
قال تعالى: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى}.۱
و قال: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى ، وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى ، وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى ، فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى}.٢
٢- نوع الإنسان غير مستثنى من كلّيّة الحكم المذكور، أعني شمول الهداية العامّة له، فنحن نعلم أنّ النطفة الإنسانيّة من حين تشرع في التكوّن متوجّهة إلى مرتبة إنسان تامّ كامل له آثاره و خواصّه، قد قطع في مسيره مراحل الجنينيّة و الطفوليّة و المراهقة و الشباب و الكهولة و الشيب.
غير أنّ الإنسان يفارق سائر الأنواع الحيوانيّة و النباتيّة و غيرها فيما نعلم في أمر، و هو أنّه لِسعة حاجته التكوينيّة و كثرة نواقصه الوجوديّة لايقدر على تتميم نواقصه الوجوديّة و رفع حوائجه الحيويّة وحده، بمعنى أ نّ الواحد من الإنسان لا تتمّ له حياته الإنسانيّة و هو وحده، بل يحتاج إلى اجتماع منزليّ، ثمّ اجتماع مدنيّ يجتمع فيه مع غيره بالازدواج و التعاون و التعاضد، فيسعى الكلّ بجميع قواهم التي جهّزوا بها للكلّ، ثمّ يقسّم الحاصل من عملهم بين الكلّ فيذهب كلّ بنصيبه على قدر زنته الاجتماعيّة.
و هذه المدنيّة ليست بطبيعيّة للإنسان، بمعنى أن ينبعث إليه من ناحية طبيعته الإنسانيّة ابتداءً، بل له طبيعة مستخدمة لغيره لنفع نفسه ما وجد إليه سبيلًا.
فهو يستخدم الامور الطبيعيّة ثمّ أقسام النبات و الحيوان في سبيل مقاصده الحيويّة، فهو باستخدام فرد مثله أو أفراد أمثاله أجراً، لكنّه يجد
سائر الأفراد أمثاله في الأميال و المقاصد و في الجهازات و القوى، فيضطرّ إلى المسالمة و أن يسلّم لهم حقوقاً مثل ما يراه لنفسه.
و ينتهي هذا التضارب بين المنافع أن يشارك البعض البعض في العمل التعاونيّ، ثمّ يقسم الحاصل من الأعمال بين الجميع و يعطى منه لكلّ ما يستحقّه.
و كيف كان، فالمجتمع الإنسانيّ لا يتمّ انعقاده و لا يعمّر إلّا بأُصول علميّة و قوانين اجتماعيّة يحترمها الكلّ، و حافظ يحفظها من الضيعة، و يجريها في المجتمع، و عند ذلك تطيب لهم العيشة و تشرف عليهم السعادة.
أمّا الاصول العلميّة، فهي معرفته إجمالًا بما عليه نشأة الوجود من الحقيقة، و ما عليه الإنسان من حيث البداية و النهاية، فإنّ المذاهب المختلفة مؤثّرة في خصوص السنن المعمول بها في المجتمعات، فالمعتقدون في الإنسان أنّه مادّيّ ليس له من الحياة إلّا الحياة المعجلّة المؤجّلة بالموت، و أن ليس في دار الوجود إلّا السبب المادّيّ الكائن الفاسد، ينظّمون سنن اجتماعهم بحيث تؤدّيهم إلى اللذائذ المحسوسة و الكمالات المادّيّة ما وراءها شيء.
و المعتقدون بصانع وراء المادّة كالوثنيّة يبنون سننهم و قوانينهم على إرضاء الآلهة ليسعدوهم في حياتهم الدنيويّة.
و المعتقدون بالمبدأ و المعاد يبنون حياتهم على أساس يسعدهم في الحياة الدينويّة ثمّ في الحياة المؤبّدة التي بعد الموت، فصور الحياة الاجتماعيّة تختلف باختلاف الاصول الاعتقاديّة في حقيقة العالم و الإنسان الذي هو جزء من أجزائه.
و أمّا القوانين و السنن الاجتماعيّة، فلولا وجود قوانين و سنن مشتركة
يحترمها المجتمعون جميعهم أو أكثرهم و يتسلّمونها، تفرّق الجمع و انحلّ المجتمع.
و هذه السنن و القوانين قضايا كلّيّة عمليّة صورها: يجب أن يفعل كذا عند كذا أو يحرم أو يجوز، و هي أيّاماً كانت معتبرة في العمل لغايات مُصلحة للاجتماع و المجتمع تترتّب عليها تسمّى مصالح الأعمال و مفاسدها.
٣- قد عرفت أنّ الإنسان إنّما ينال ما قدر له من كمال و سعادة بعقد مجتمع صالح تحكم فيه سنن و قوانين صالحة تضمن بلوغه و نيله سعادته التي تليق به، و هذه السعادة أمر أو أُمور كماليّة تكوينيّة تلحق الإنسان الناقص الذي هو أيضاً موجود تكوينيّ، فتجعله إنساناً كاملًا في نوعه تامّاً في وجوده.
فهذه السنن و القوانين و هي قضايا عمليّة و اعتباريّة واقعة بين نقص الإنسان و كماله، متوسطة كالعبرة بين المنزلتين، و هي كما عرفت تابعة للمصالح التي هي كمال أو كمالات إنسانيّة، و هذه الكمالات أُمور حقيقيّة مسانخة ملائمة للنواقص التي هي مصاديق حوائج الإنسان الحقيقيّة.
فحوائج الإنسان الحقيقيّة هي التي وضعت هذه القضايا العمليّة و اعتبرت هذه النواميس الاعتباريّة، و المراد بالحوائج هي ما تطلبه النفس الإنسانيّة بأميالها و عزائمها، و يصدّقه العقل الذي هو القوّة الوحيدة التي تميّز بين الخير و النافع و بين الشرّ و الضارّ، دون ما تطلبه الأهواء النفسانيّة ممّا لا يصدّقه العقل، فإنه كمال حيوانيّ غير إنسانيّ.
فأُصول هذه السنن و القوانين يجب أن تكون الحوائج الحقيقيّة التي هي بحسب الواقع حوائج لا بحسب تشخيص الأهواء النفسانيّة.
و قد عرفت أنّ الصنع و الإيجاد قد جهّز كلّ نوع من الأنواع و منها الإنسان من القوى و الأدوات بما يرتفع بفعّاليّته حوائجه و يسلك به سبيل الكمال، و منه يستنتج أنّ للجهازات التكوينيّة التي جهّز بها الإنسان اقتضاءات للقضايا العمليّة المسماة بالسنن و القوانين، التي بالعمل بها يستقرّ الإنسان في مقر كماله مثل السنن و القوانين الراجعة إلى التغذّي المعتبرة بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التغذّي، و الراجعة إلى النكاح بما أنّ الإنسان مجهّز بجهاز التوالد و التناسل.
الفطرة، و الإسلام، و دين الله، و سبيل الله عند العلامة الطباطبائى
فتبيّن أنّ من الواجب أن يتخذ الدين أي الاصول العلميّة و السنن و القوانين العمليّة التي تضمن باتخاذها و العمل بها سعادة الإنسان الحقيقيّة من اقتضاءات الخلقة الإنسانيّة و ينطبق التشريع على الفطرة و التكوين، و هذا هو المراد بكون الدين فطريّاً، و هو قوله تعالى:
{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ}.
٤- قد عرفت معنى كون الدين فطريّاً، فالإسلام يسمّى دين الفطرة لمّا أن الفطرة الإنسانيّة تقتضيه و تهدي إليه.
و يسمى إسلاماً، لمّا أنّ فيه تسليم العبد لإرادة الله سبحانه منه، و مصداق الإرادة و هي صفة الفعل لا صفة الذات تجمع العلل المؤلّفة من خصوص خلقة الإنسان و ما يحتف به من مقتضيات الكون العامّ على اقتضاء الفعل أو الترك.
قال تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}.۱
و يسمى دين الله، لأنّه الذي يريده الله من عباده من فعل أو ترك،
بما مرّ من معنى الإرادة.
و يسمى سبيل الله، لمّا أنّه السبيل التي أرادها الله أن يسلكها الإنسان لتنتهي به إلى كماله و سعادته، قال تعالى:
{الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً}.۱
و أمّا أنّ الدين الحقّ يجب أن يؤخذ من طريق الوحي و النبوّة و لا يكفي فيه العقل، فقد تقدّم بيانه في مباحث النبوّة و غيرها من مباحث الكتاب.٢
و يتّضح جيّداً و بشكل مفصّل ممّا أوردناه من تفسير «الميزان» أنّ مراد العلّامة قدّس الله سرّه من فطرة الإنسان هو البنية الوجوديّة بما يشمل الجسم و الروح و ذلك الطريق و المسير الذي يوصله إلى غاية الخلقة و هدفها من الكمال المنشود و السعادة المطلقة.
و المراد بدين الفطرة تلك القواعد و الأحكام المؤثّرة في سير الإنسان باتّجاه سعادته و كماله، و هذه القواعد و القوانين و السنن بالرغم من أنّها أصبحت معتبرة باعتبار الشارع المقدّس، لكنّها كانت قائمة على أساس منطق العقل و وصول الإنسان إلى درجة الإنسانيّة، لا على أساس منطق الحسّ و الشهوة الذي يهبط به إلى مرتبة الحيوانيّة و البهيميّة.
إ نّ السعادة للإنسان أمر حقيقيّ، و هذه السنن الفطريّة التي هي أُمور اعتباريّة، توجب حركته و سيره إلى مقام الكمال الحقيقيّ، فإذا ما انحرفت تلك السنن أحياناً في اعتبارها، فإنّ تلك السعادة الحقيقيّة و الكمال المنشود لن يكونا من نصيبه.
و مع أنّ أحكام الشرع و قوانينه التي وضعت على أساس الفطرة هي أحكام اعتباريّة وضعها منوط باعتبار الشارع، لكنّه اعتبار لا يتخطّى قيد شعرة مكانه الواقعيّ و الحقّيقيّ، و قد استمدّ اعتباره هذا على أساس الاحتياجات التكوينيّة للإنسان و إيصاله إلى أعلى درجات الكمال الحقّيقيّ و الوجوديّ، فلا معنى على هذا لأن يكون أمرٌ ما حلالًا في شريعة معيّنة و حراماً في أخرى.
فالزواج و النكاح مثلًا هو أمر فطريّ أمضاه الشرع و أقرّه، و انسجم التشريع فيه مع التكوين.
اللواط مخالف لفطرة الإنسان و محرم فى جميع الشرائع
في حين أنّ العلاقة الجنسيّة بين الجنس الواحد أمر غير فطريّ، حرّمه الشرع و عين له العقوبة الصارمة، و نجد أنّ أمر التشريع و هو الحرمة قد انطبق على التكوين و هو المنع:
{وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.۱
{وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ، أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}.٢
{وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ ، أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ}.٣
فاللواط و هو العلاقة الجنسيّة بين جنس الرجال يوجب قطع سبيل الزواج، و يستتبع المقت، و العدوان و الإسراف، لذا فقد عُدّ ممنوعاً و حراماً و قبيحاً في هذه الآيات، و لا اختصاص لهذا الأمر بشريعة دون أخرى، لأنّه مخالف لمسيرة التكوين و لمصالح الفرد و المجتمع، و مخالف للسنّة الإنسانيّة و القانون الفطريّ و الإلهيّ، لذا فقد اعتبر الشارع المقدّس حرمته عامّة و مطلقة في كلّ مكان و زمان و في كلّ شريعة.
و هذا العمل ينطوي على قدر من القُبح بحيث الذي تمتنع منه الحيوانات، إذ لايُشاهد مثيله في أحد منها، حتى القرد يهرب منه و يشمئزّ و ينفر، و ينبغي هنا ملاحظة درجة قبح و وقاحة لوردات مجلس الأعيان الإنجليزيّ الذين يعتقد رئيسهم حسب نظريّة داروين أنّه من نسل القرد في إعلانهم إباحة فعل قوم لوط الشنيع هذا، بحيث لم يُعهد عن الأقوام التي سبقت قوم لوط أن دنّسوا أنفسهم به؛ هذا المجلس الذي يفضّل الآراء المرفوضة لبرتراند راسل الذي سقط من المسيحيّة إلى حضيض الإلحاد، وآراء فرويد اليهوديّ على تعاليم السيّد المسيح على نبينا و آله و عليه السلام، فيصدر مصادقته على قانون اللواط، ثمّ ينهمكون بارتكابه في مجالسهم و محافلهم المنكرة. قَبَّحَهُمُ اللهُ وَ مَا عَمِلُوا وَ مَا اسْتَنُّوا، وَ لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذي بَنُوا قَاطِعاً لِنَسْلِهِمْ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
سنة التكوين و الفطرة تمنعان ايّ اتصال جنسى بغير الزواج
إ نّ فطرة الإنسان تستدعي زواج الرجل و المرأة اللذين ينجذبان إلى بعضهما وفق السنّة الإلهيّة المودعة في وجودهما، كما ينجذب قطبا الكهربائيّة الموجب و السالب أو مركزا الفعل و الانفعال لبعضهما، فتنعقد بالشرارة الإلهيّة النطفة في الرحم، و ينشأ منها إنسان هو خليفة الله فيطأ بقدمه ساحة الوجود.
فقولوا بربّكم وفق أيّة سنّة، و على أساس أيّة خاصّيّة يتمّ جماع
الرجال للرجال، أو النساء للنساء؟ غير أن يشبها اجتماع قطبين موجبين أو قطبين سالبين، أو اجتماع نوعين للفاعليّة المحضة أو نوعين للقابليّة المحضة؟ و أيّ شيء سيوجب غير البُعد و الابتعاد عن بعضهما، و غير تسبيب النفور و الضجر و الملل و المفاسد و الأضرار الجانبيّة التي لا تعدّ و لا تحصى؟
و قد قال آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله نفسه في المقالة السادسة من «أُصول الفلسفة» تحت عنوان «الفطرة الإنسانيّة حكم يتكوّن بإلهام الطبيعة»:
٤ إنّ حرّيّة الإنسان باعتبارها موهبة طبيعيّة هي في حدود هداية الطبيعة، و بالطبع فإنّ هداية الطبيعة مرتبطة بالتجهيزات التي تمتلكها البُنية النوعيّة. و على هذا فإنّ هداية الطبيعة (الأحكام الفطريّة) ستحدد بالأعمال التي تنسجم مع أشكال و تركيبات التجهيزات البدنيّة.
فنحن لا نجيز مثلًا أيّة رغبات جنسيّة تتمّ بغير طريق الزواج (سواء كانت بين رجل و رجل، امرأة و امرأة، رجل و امرأة من غير طريق الزواج إنسان مع غير الإنسان، إنسان مع نفسه، تناسل من طريق غير طريق الزواج).
و لن نشجّع التربية الاشتراكيّة للأطفال، و إلغاء النسب و الوراثة، و إبطال الاصول و الأعراق و غير ذلك، لأنّ البنية المرتبطة بالزواج و التربية تتعارض مع هذه المسائل.۱
و يتّضح من هذا البيان مدى الخطأ الفاحش الذي ارتكبه مَنْ عدّ
الوطء مباحاً، كما فعل أتباع المالكيّة تبعاً لرأي إمامهم مالك بن أنس، و كيف انغمروا في ورطة مهلكة لمخالفتهم سنّة التكوين و الفطرة من جهة، و حكم الكتاب و الشريعة من جهة أخرى.
و قد نقل أحد الأحبّة و الأعزّة من العلماء الأعلام لا يزال فعلًا على قيد الحياة أنّه تباحث في المدينة المنوّرة مع بعض مشايخ المالكيّة بشأن هذا الموضوع (أي وطء الغلام).
فاحتجّ بأنّ للآية الشريفة: {وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ}۱ دلالة عليه.
فقلت: إنّ الغلام خارج عن مدلول هذه الآية بالإجماع.
أجاب: الإجماع لكم، أمّا نحن فلا إجماع عندنا! انتهت مقولته.
أقول: إن قيل: إنّ أزواج جمع زوج بمعنى القرين، فهو يشمل كلا الزوج و الزوجة؛ فإن تمسّكنا على هذا بإطلاق {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ}، فسوف لا يكون ثمة إشكال في و طء النساء من قبل الغلمان الذين في ملك يمينهنّ؛ و لأنّ هذا الأمر يخالفُ بشكلٍ مسلّم عقائد الجميع حتى
المالكيّة فإنّنا نقول: إنّ وطء الرجال للغلمان خارج بنفسه من الإطلاق بهذه الكيفيّة.
و نقول إنّ آية {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ}، و آية {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} تختصّ من جهة العبارة و الخطاب بالرجال، مع أنّها تشمل من جهة الملاك الرجل و المرأة.
لذا فإنّ هذه الجملة الاستئنافيّة {إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} استثناء خاصّ بالرجال لا بالنساء. و يمكن لهذا أن تقول المالكيّة إ نّ استثناء {ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} في هذه الآية المتعلّقة بالرجال استثناء مطلق يشمل الجارية و الغلام. و أمّا في الإجماع المنعقد على تساوي النساء و الرجال في الأحكام و في الخطابات فإنّ {ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} جارية أو غلاماً ليس خارجاً من الاستثناء بشكل مطلق، و حرام على المرأة المجامعة مع ما ملك يمينها من جوار أو غلمان، و أمّا فقرة {إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ} فهي باقية على عموميّتها بشأن النساء فقط، فوطء النساء من قبل أزواجهنّ حلال.
لذا فإنّ ما قلناه من التمسّك بالإجماع على حرمة و طء الغلام و تخصيص آية {ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ} لذلك لا يكفي لردّ المالكيّة الذين يرفضون الإجماع.
و هناك في ردّهم الآيات التي ذكرناها بشأن قوم لوط، و التي تعلن بأعلى نداء و بيان بأنّ جماع الرجل للرجل فاحشة و منكر بشكل مطلق، سواء كان الغلام غلامه هو أم غلام غيره: {إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ... وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ}.
و سينفي عنوان المنكر و الفاحشة مع النهي الشديد و المنع الأكيد من هذا العمل أيّ مجال لشبهة و إشكال في حرمة وطء الغلام.
القبح و الوقاحة فى وطء النساء فى غير محل التوالد و التناسل
و يتّضح من هذا البيان أنّ مجامعة الرجال للنساء من غير طريق
النكاح المعهود هو الآخر عمل قبيح جدّاً.
أي أنّ جماعهنّ في الدُّبر لا في القُبُلِ، و هو المحلّ المعهود للنكاح و طريق التناسل و التكاثر، محلّ إشكال، و فقهاؤنا ما بين قائل بالحرمة أو قائل بالكراهة الشديدة الأكيدة المغلّظة التي تلي الحرمة و تقاربها في ميزانها و درجتها.
و قد ورد في رواية عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّه قال: مَحَاشُّ النِّسَاءِ عَلَى امَّتِي حَرَامٌ.۱
و قد أرود السيوطيّ و ابن كثير في تفسيريهما أنّ أحمد بن حنبل، و عبدبن حميد، و الترمذيّ، و النسائيّ، و أبا يعلي، و ابن جرير، و ابن المنذر، و ابن أبي حاتم، و ابن حبّان، و الطبرانيّ، و الخرائطيّ في «مساوئ الأخلاق»، و البيهقيّ في «السنن»، و الضياء في «المختارة»، رووا عن ابن عبّاس أنّه قال:
جَاءَ عُمَرُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيْهِ [و آلِهِ] وَ سَلَّمَ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ؛ هَلَكْتُ!
قال: و ما أهلكك؟!
قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي اللَّيْلَةَ! فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ شَيْئاً، فَاوحَى اللهُ إِلَى رَسُولِهِ هذِهِ الآيَةَ:
{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}.۱
يقول: أقْبِلْ وَ أدْبِرْ وَ اتَّقِ الدُّبُرَ وَ الحَيْضَةَ.٢
و رووا كذلك عن أحمد بن حنبل، عن ابن عبّاس أنّ جماعة من الأنصار أتوا النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم فسألوه فنزلت هذه الآية:
{نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقال رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
إئْتِهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ إذَا كَانَ في الفَرْجِ.٣
و بغضّ النظر عن الشرع و الشريعة، فإنّ مضار جماع النساء في الدبر قد ثبت في الطبّ أيضاً.٤
يقول الميرزا محمّد حكيم (ملك الأطبّاء): و من بين أنواع الجماع الذي ينبغي الاحتراز عنه اللواط بالنساء، فقد وجد بالتجربة أنّ أولاد شخص كهذا سيبتلون بالعلّة المعروفة،٥ و هناك جملة من الحكايات
و الأخبار الطبّيّة في هذا الباب، ذكرها في هذه الرسالة مستوجب للإطالة.۱
و بغضّ النظر عن هذا كلّه، فإنّ مسائل العلاقات الجنسيّة بين الجنس الواحد، و شيوع هذا الفعل الشنيع اليوم في بلاد أُوروبّا و أمريكا المتقدّمة قد أوجد الأمراض المهلكة للحدّ الذي سبب هستيريا أولياء أمُورهم؛ و لينبغي حقّاً تسمية هؤلاء بوحوش العالم، و تسمية تلك البقاع ببِرْكَةِ السِّبَاعِ أو حديقة الحيوانات.
فعدا أمراض السفلس و السيلان و أشباههما، فإنّ مرض الإيدز قد خيم على الجميع كالغيوم السوداء المهولة و كالغول المهيب المفزع، و أنذر الجميع بالموت المحتّم.
هذا الميكروب الخطر الذي لم يستطيعوا حتى الآن اكتشاف مصل مضادّ له لتطعيم الناس به، يبدأ فعّاليّته حال دخوله البدن، و تعجز كريّات الدم البيضاء عن مقاومته، لذا فهو يضعها على حافّة الموت و الهلاك خلال مدّة و جيزة.
و طبقاً لإحصائيّة أحد التقارير، فإنّ من كلّ ٩٥% حالة المرض الإيدز وجدت في مجاميع ستّ، فإنّ ٢/۷٢% منها كانت خاصّة بالرجال الذين لهم علاقات جنسيّة مع نفس جنسهم أو مع الجنسين كليهما نجمت من اللواط أو من عقد علاقات جنسيّة مع أزواج متعدّدة. و كانت المجاميع الخمس الباقية المسبّبة عن الاعتياد و نقل الدم و أمثالها ترجع أيضاً إلى خصوص مسألة اللواط.٢
فها هي مردودات البناء الشامخ للمدنيّة و الثقافة الجديدة و صرحها المشيد، فقد أعادت هؤلاء المساكين إلى مستوى أوطأ من قوم لوط، و مرّغتهم في مستنقع الرذيلة و الدناءة.
الغيرة على العرض و المحافظة على النساء و الحجاب من الأحكام الأولية
و مع أنّ الزنا ليس كاللواط في مجانبة سبيل البذر و التناسل و لهذا السبب فإنّ عقوبته أخفّ من حدّ اللواط لكنّه مع ذلك يمتلك قبحاً فطريّاً بلحاظ حفظ النسب و الأوّلاد، و تبعاً للغيرة التي و هبها الله للرجال على عرضهم و ناموسهم. و قد حُرّم الزنا في جميع الشرائع، بل إنّه كان يعدّ من الامور الشنيعة و القبيحة عند الأقوام الهمجيّين و الصحراويّين قبل التشريع، بل حتى عند المادّيّين و الطبيعيّين من منكري الخالق و منكري الوحي و النبوّة و الشرائع.
{وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا}.۱
و قد بلغ قبح هذا العمل حدّاً بحيث قرنه الباري في قرآنه بقتل النفس المحترمة:
{وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ}.٢
و بحيث جُعل رديفاً للشرك بالله و السرقة التي كان رسول الله يبايع النساء أواخر زمان الهجرة بشرط اجتنابها، فيقبل منهنّ إسلامهنّ بهذه الشروط:
{يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ
بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.۱
كذلك فإنّ قبح هذا العمل و وقاحته كانت للحدّ الذي عُبر عنه في كثير من الآيات القرآنيّة بالفاحشة و الفحشاء.
فيقول بشأن يوسف النبيّ الذي آثر السجن على الزنا مع زُليخا امرأة عزيز مصر:
{كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ}.٢
{وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ}.٣
{وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ}.٤
و نلحظ هنا أنّ مشركي العرب كانوا ينسبون الأمر بالزنا إلى الله سبحانه، و ربّما كان معناه إرادة السنّة التكوينيّة، حيث ردّ الباري قولهم، و بيّن أن: ليس هناك من عمل قبيح و فاحشة وزِناً يصبح عملًا فطريّاً و سنّة إلهيّة.
إ نّ شعور الغيرة على الانثى و حفظها و صونها من عبث العابثين و عن مسّ أيادي السوء أمر ملحوظ و مشاهد في كثير من الحيوانات التي يصل بها الأمر إلى إيثار الموت و التضحية بالروح حفظاً للناموس. فالديك مثلًا له عشق و علاقة حميمة بأُنثاه، فهو يقاتل و يُقتل من أجل منع تعدّي ديك
آخر على بيته و حرمه، في حين يمتاز الخنزير من بين الوحوش بفقدانه الغيرة على أُنثاه، فيقال إنّه إن شاء مجامعة أُنثاه فإنّه يصوّت بصوته فيدعو باقي الخنازير إليها، حتى يجامعها قبله سبع مرّات خنازير آخرون، ثمّ يشرع نفسه في مجامعتها. و لذا فقد حُرّم لحم الخنزير، إذ إنّ الآثار النفسيّة و الروحيّة للخنزير تنتقل بتناول لحمه إلى الشخص الآكل.
و هكذا فإنّ أحد الأسباب المهمّة لفقدان الاوروبّيّين و الأمريكان للغيرة هو تناولهم لحوم الخنازير، حيث تنتقل هذه الروحيّة مع انتقال خلايا بدن الخنزير إلى أبدانهم، فيبدأ مفعولها بالظهور آنيّاً، ثمّ يصبح إثر التكرار و المداومة على الأكل ملكةً عندهم تستأصل الغيرة و الحميّة من نفوسهم.
لكنّ الرجال المسلمين و المؤمنين يصونون نساءهم في ستر الحجاب تبعاً لتعاليم القرآن، كي لا تلحظها نظرات الخيانة و التطفّل، و لئلّا تتناثر أزهار حياتهنّ و عفّتهنّ و عصمتهنّ و تقواهنّ أو تتلاشى في مهبّ عواصف الشهوات.
أبيات الوافى العراقى فى غيرة الرجال و حجاب النساء
و قد أجاد الشاعر الوافي العراقيّ في شعره العفيف عند وصف فوائد غيرة الرجال و حجاب النساء:
معنى ناموس چيست؟ روى نهان داشتن | *** | پردة عفّت زدن، عالم جان داشتن۱ |
عصمت و ناموس ما، به مسلك هوشمند | *** | گنج بود گنج را به كه نهان داشتن |
اى كه تو را آرزوست به كشف ناموس خويش | *** | پرده درى نارواست، پردگيان داشتن |
مگر كمى از وحوش، نگر به سوى طيور | *** | پند بگير از خروس ز ماكيان داشتن |
حافظ شيرين لبان، مقنعة عصمت است | *** | تلخ بود بى نقاب، روى زنان داشتن |
قصة ناموس و غير، چه برق با خرمن است | *** | خرمن خود را مخواه برقِ يمان داشتن |
تا نگمارى نظر، دل نكند آرزو | *** | گرسنه چشميدهد، ديده به نان داشتن |
آينة بى حجاب، به طبع گيرد غبار | *** | خوش بود آئينه را پرده بر آن داشتن۱ |
منع تماشاچيان، گر نكند باغبان | *** | مى نتواند به باغ نخل روان داشتن |
گر بگشائى درى ز خانه بر مفلسان | *** | دگر مدار اين اميد، به خانه خوان داشتن |
غنچه به باغ ايمن است تا بود اندرحجاب | *** | آفت جان و دل است چهره عيان داشتن |
مرد و زن اجنبى، چه آتش و پنبه است | *** | جمع به يكجا دو ضدّ، نميتوان داشتن |
كشف حجاب زنان، بارى باشد گران | *** | دور ز غيرت بود، بار گران داشتن |
كمانِ ابرو متاب، خدنگ مژگان بپوش | *** | نيست به دوران شاه، تير و كمان داشتن |
وافى اگر گشته پير، طبعى دارد جوان | *** | خوش است پيرانه سر، طبعجوان داشتن۱ |
أمّا السادة الذين يعتبرون أنفسهم من نسل القرود، فقد أرخوا لجام الشهوات، و سخروا بالنكاح المشروع، و سعوا إلى إيجاد العلاقات الجنسيّة مع كلّ رجل و امرأة، لكنّهم جهلوا أنّ هذه الحيوان البريء (القرد) من أهل الغيرة و له سُنّة زواج و حسّ غيرة في حفظ أُنثاه و حراستها، لذا ينبغي اعتبارهم أكثر و ضاعة و رذالة من القرد، فالقرد البريء يأنف أن ينسب إليه أراذل كهؤلاء، فهم الذين تصدق عليهم حقّاً الآية الكريمة:
{أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ}.۱
يقول الدميريّ في «حياة الحيوان» عن القرد: وَ يَأخُذُ نَفْسَهُ بِالزَّوَاجِ وَ الغَيْرَةِ عَلَى الإنَاثِ.٢
شرب الخمر يخالف حكم الفطرة و العقل المستقل و الشرع القويم
كما أنّ استعمال الخمر و المسكر رجس أيضاً و من عمل الشيطان، فكيف يمكن أن يكون حلالًا في شريعة ما و حراماً في أخرى؟!
أيمكن إباحة المسكرات التي تزيل العقل، فتجعل الإنسان في صفّ المجانين؟!
إ نّ الناس يفضّلون الابتلاء بأشدّ الأمراض كالسلّ و السرطان و البرص و الجذام و العمى و الشلل على الإصابة بالجنون، فإنسانيّة الإنسان بعقله لا بشيء آخر، و الإنسان بلا عقل أسفل و أرذل من جميع الحيوانات و الوحوش.
كما أنّ تأثير المسكر على الإنسان هو سوقه إيّاه للجنون، فما الفرق
بين الجنون الدائميّ و الجنون المؤقّت؟
أفيمكن في هذه الحالة اعتبار المسكر خارجاً عن شروط الحليّة و الحرمة؟ أو الحكم بحلّيّته؟
لقد قلنا إنّ الأحكام الفطريّة هي الأحكام التي تعدّ واسطة لنيل الكمال، و سير الإنسان إلى أعلى درجات الإنسانيّة؛ أفشرب الخمر له ميزة كهذه؟ أو هل يسير السكّير دوماً في طريق مدارج و معارج الكمال؟
أ وَ يطوي الطريق المطلوب للكمال رجل مخمور لا يفرّق بين زوجته و أُخته و أُمّه، فيشاركهنّ فراشه؟
أَ وَ يَعدّ الرجل المخمور الذي يقذف طفله حال غضبه من الشرفة إلى ساحة المنزل إنساناً؟
أيعدّ إنساناً الرجل السكران الذي تكتنفه الخيالات المشوّهة و المموّهة، فيتخبّط في عالم الأوهام و الخيالات، بحيث يتصوّر قلم الكتابة نخلة عالية، و ساقية الماء بحراً يباباً؟
كلّا بالطبع، فشرب الخمر من أسوأ المسائل المعاكسة للفطرة و السنّة الآدميّة، فهو يهوي بالإنسان و يحرمه من جميع المزايا و الحظوظ.
أيعقل أنّ السيّد المسيح على نبينا و آله و عليه الصلاة و السلام قد قام بتحليل هذه المادّة الخبيثة و هذا الشيطان الرجيم؟
إ نّ أغلب المسيحيّين بما فيهم الكاثوليك و البروتستانت يحتسون الخمر و يعتبرونها دم عيسى!
فيا للعجب! كم يحتوي بدن السيّد المسيح من الدم بحيث ينقضي على صعوده إلى السماء بما يقرب من ألفي سنة و لا زال نصارى العالم يحتسون من دمه فلا ينفد و لا ينضب؟!
كلّا و حاشا، فلا السيّد المسيح شرب الخمر، و لا أُمّة المصطفاة،
و لا حُلّلت الخمر في كتاب الإنجيل السماويّ، و لا أجاز المسيح لحوارييه شربها يوماً.
لقد أبطل المرمنيّون و هم أمريكيّو الأصل من غير المهاجرين و المقيمين هناك؛ و الساكنون في ولاية إتازونا أساس الكاثوليك و البروتستانت، و قالوا بحرمة الخمر و شربها، و عدّوا من الخطأ نسبة السيّد المسيح إلى شرب الخمر، فقد كان يشرب عصير العنب، فأساءوا بعد ذلك الاستفادة من هذا العمل فنسبوا إليه شرب الخمر.
تشير الآيات القرآنيّة بصراحة و بألفاظ و عبارات واضحة إلى أنّ شرب الخمر من الخبائث، و أنّها رجس من عمل إبليس و تلبيسه على الناس، أشاعها بينهم لإيقاع العداوة و البغضاء بينهم، و لصدّهم عن ذكر الله و الصلاة و التضرّع لمقام عزّه و قطع طريق العبوديّة للخالق.
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ، إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ، وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ}.۱
أكل الربا من المصاديق الواضحة للأحكام المخالفة للفطرة
و يعدّ الربا من المصاديق و الأحكام المعاكسة للفطرة بشكل واضح و بيّن، و يتضمّن معناه الاستفادة المجّانيّة و بلا عوض من جهود الناس و أتعابهم، فهو في الحقيقة يمثّل استخدام الشخص المظلوم و تسخيره لخدمة الشخص الظالم المتجاوز، فالشخص المرابي يأخذ فائدة مقابل لا شيء، إذ عند استرداده القرض الذي أقرضه، فما معنى أخذه الزيادة
عليه؟! خلافاً للبيع و الشراء اللذين يمثّلان حصول منفعة أزاء عمل معين، و في الحقيقة فإنّهما يمثّلان حصول منفعة مقابل صرف عمر بذله البائع في تهيئة الاجناس المعيّنة و عرضها.
و نلحظ لهذا أنّ الشخص المشتري لا يحسّ بالقلق و الضجر بالفطرة و الوجدان حين يشتري شيئاً مع علمه بأنّ البائع ينتفع ببيعه منه، على العكس من الشخص المستقرض الذي يحسّ بالضجر و الملل و القلق تجاه الزيادة التي يتقاضاها منه المقرض، فكأنّما قَرَعَتْهُ قارعة أو ألمّ به خطب، و لو كانت الزيادة طفيفة و تافهة، و هذا لا يحصل إلّا بإحساس الشخص المقترض عند سداده للزيادة بإجباره على ذلك و قهره عليه، لا فرق في هذا الأمر وفق أيّ مذهب و نظام تمّ؛ و هو معنى كون جميع أقسام الربا و تصريف النقود و فوائد البنوك أمراً غير فطريّ، بل معاكساً للفطرة، و لو كانت الفائدة المستحصلة في أدنى مراتبها.
لقد حوّل مرابو العالم و البنوك الدنيا إلى سوق للاستثمار و الاستعمار و الاستهلاك و الاستعباد، و هو أقسى و أشدّ ألف مرّة ممّا كان يحصل في زمن الرقّ و العبوديّة و شراء و بيع الغلمان و الجواري، فذاك كان يحصل لفئة و طبقة خاصّة و في موارد معيّنة محدودة، و هذا يمثّل ابتلاع جميع العالم و مصادرة جهود الشيخ و الشابّ و الرجل و المرأة و الأمر و المأمور و الرئيس و المرؤوس و صاحب العمل و الموظّف بلقمة واحدة.
و قد وردت حرمة الربا في القرآن الكريم بشكل أكيد و مشدّد، و بعبارات حادّة و تمثيلات و تشبيهات عجيبة:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ
وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ ، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ ، يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ ، وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ، وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ}.۱
شرح قيّم للعلّامة الطباطبائى قدّس الله نفسه بشأن الربا و آية الربا
و للعلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه بحوث نفيسة و قيّمة بشأن هذه الآيات نشير هنا إلى بعضها:
لقد شدّد الله سبحانه في هذه الآيات في أمر الربا بما لم يشدّد بمثله في شيء من فروع الدين إلّا في تولّي أعداء الدين، فإنّ التشديد فيه يضاهي تشديد الربا، و أمّا سائر الكبائر فإنّ القرآن و إن أعلن مخالفتها و شدّد القول فيها، فإنّ لحن القول في تحريمها دون ما في هذين الأمرين، حتى الزنا و شرب الخمر و القمار و الظلم و ما هو أعظم منها كقتل النفس التي حرّمالله و الفساد، فجميع ذلك دون الربا و تولّي أعداء الدين.
و ليس ذلك إلّا لأنّ تلك المعاصي لا تتعدّى الفرد أو الأفراد في بسط آثارها المشؤومة، و لا تسري إلّا إلى بعض جهات النفوس، و لا تحكم إلّا في الأعمال و الأفعال، بخلاف هاتين المعصيتين فإنّ لهما من سوء التأثير ما ينهدم به بنيان الدين و يعفي أثره، و يفسد به نظام حياة النوع، و يضرب الستر على الفطرة الإنسانيّة و يسقط حكمها فيصير نسياً منسيّاً على ما
سيتّضح إن شاء الله العزيز بعض الاتّضاح.
و قد صدّق جريان التأريخ كتاب الله فيما كان يشدّد في أمرهما، حيث أهبطت المداهنة و التولي و التحابّ و التمائل إلى أعداء الدين الامم الإسلاميّة في مهبط من الهلكة صاروا فيها نهباً منهوباً لغيرهم: لا يملكون مالًا و لا عرضاً و لا نفساً، و لا يستحقّون موتاً و لا حياةً، فلا يؤذن لهم فيموتوا، و لا يغمض عنهم فيستفيدوا من موهبة الحياة، و هجرهم الدين، و ارتحلت عنهم عامّة الفضائل.
و حيث ساق أكل الربا إلى ادّخار الكنوز و تراكم الثروة و السؤدد، فجرّ ذلك إلى الحروب العالميّة العامّة، و انقسام الناس إلى قسمي المثري السعيد و المعدم الشقيّ، و بان البين، فكان بلوي يدكدك الجبال، و يزلزل الأرض، و يهدّد الإنسانيّة بالانهدام، و الدنيا بالخراب، {ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى}.۱ و سيظهر لك إن شاء الله تعالى أنّ ما ذكره الله تعالى من أمر الربا و تولي أعداء الدين من ملاحم القرآن الكريم.٢
لطائف الآيات الواردة فى حرمة الربا فى نظر العلامة الطباطبائى
و اعلم أنّ أمر الآية عجيب، فإنّ قوله تعالى: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ} مع ما يشتمل عليه من التسهيل و التشديد حكم غير خاصّ بالربا، بل عامّ يشمل جميع الكبائر الموبقة، و القوم قد قصروا في البحث عن معناها، حيث اقتصروا بالبحث عن مورد الربا خاصّة من حيث العفو عمّا سلف منه، و رجوع الأمر إلى الله فيمن انتهى، و خلود العذاب لمن عاد
إليه بعد مجيء الموعظة، هذا كله مع ما تراه مع العموم في الآية.
إذا علمتَ، هذا ظهر لك أنّ قوله: {فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} لايفيد إلّا معنى مبهماً يتعين بتعين المعصية التي جاء فيها الموعظة و يختلف باختلافها، فالمعنى:
أ نّ من انتهى عن موعظة جاءته، فالذي تقدّم منه من المعصية، سواء كان في حقوق الله أم في حقوق الناس فإنّه لا يؤاخذ بعينها، لكنّه لا يوجب تخلّصه من تبعاته أيضاً كما تخلّص من أصله من حيث صدوره، بل أمره فيه إلى الله، إن شاء وضع فيها تبعة، كقضاء الصلاة الفائتة و الصوم المنقوض و موارد الحدود و التعزيرات وردّ المال المحفوظ المأخوذ غصباً أو ربا و غير ذلك مع العفو عن أصل الجرائم بالتوبة و الانتهاء، و إن شاء عفى عن الذنب و لم يضع عليه تبعة بعد التوبة، كالمشرك إذا تاب عن شركه و من عصى بنحو شرب الخمر و اللهو فيما بينه و بين الله و نحو ذلك.
فإنّ قوله: {فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى} مطلق يشمل الكافرين و المؤمنين في أوّل التشريع و غيرهم من التابعين و أهل الأعصار اللاحقة.۱
و من هنا يظهر أنّ المراد من مجيء الموعظة بلوغ الحكم الذي شرّعه الله تعالى، و من الانتهاء التوبة و ترك الفعل المنهي عنه انتهاءً عن نهيه تعالى، و من كون ما سلف لهم عدم انعطاف الحكم و شموله لمّا قبل زمان بلوغه، و من قوله: {فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ} أنّه لا يتحتم عليهم العذاب الخالد الذي يدلّ عليه قوله: {وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}، فهم منتفعون فيما أسلفوا بالتخلّص من هذه المهلكة، و يبقى عليهم أنّ أمرهم إلى الله فربّما أطلقهم في بعض الأحكام، و ربّما وضع
عليهم ما يتدارك به ما فوّتوه.۱
{يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ}: المحق نقصان الشيء حالًا بعد حال، و وقوعه في طريق الفناء و الزوال تدريجاً؛ و الإرباء الإنماء، و الأثيم الحامل للإثم، و قد مرّ معنى الإثم.
و قد قوبل في الآية بين إرْبَاءِ الصَّدَقَاتِ وَ مَحْقِ الرِّبَا، و قد تقدّم أنّ إرباء الصدقات و إنماءها لا يختصّ بالآخرة، بل هي خاصّة لها عامّة تشمل الدنيا كما تشمل الآخرة، فمحق الربا أيضاً كذلك لا محالة. ٢
قوله تعالى: {وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} تعليل لمحق الربا بوجه كلّيّ، و المعنى أن آكل الربا كثير الكفر لكفره بنعم كثيرة من نعم الله لستره على الطرق الفطريّة في الحياة الإنسانيّة، و هي طرق المعاملات الفطريّة، و كفره بأحكام كثيرة في العبادات و المعاملات المشروعة، فإنّه بصرف مال الربا في مأكله و مشربه و ملبسه و مسكنه يبطل كثيراً من عباداته بفقدان شرائط مأخوذة فيها، و باستعماله فيما بيده من المال الربويّ يبطل كثيراً من معاملاته، و يضمن غيره، و يغصب مال غيره في موارد كثيرة، و باستعمال الطمع و الحرص في أموال و الخشونة و القسوة في استيفاء ما يعدّه لنفسه حقّاً يفسد كثيراً من أُصول الأخلاق و الفضائل و فروعها، و هو أثيم مستقرّ في نفسه الإثم فالله سبحانه لا يحبه لان {اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}.٢
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}؛ خطاب للمؤمنين و أمر لهم بتقوى الله و هو توطئة لمّا يتعقّبه من الأمر بقوله {وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا}، و هو يدلّ على أنّه كان من
المؤمنين في عهد نزول الآيات مَنْ يأخذ الربا و له بقايا منه في ذمّة الناس من الربا فأُمِرَ بتركها، و هدّد في ذلك بما سيأتي من قوله:
{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ}.۱
و قوله: {وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
و مع أنّ الآية مطلقة غير مقيّدة، لكنّها منطبقة على مورد الربا، فإنهم (أي أعراب الجاهليّة) كانوا إذا حلّ أجل الدَّين يطالبونه من المدين، فيقول المدين لغريمه: زد في أجلي كذا مدّة أزيدك في الثمن بنسبة كذا، و الآية تنهى عن هذه الزيادة الربويّة و تأمر بالإنظار.٢
كان هذا بحثنا عن الفطرة و أحكام الفطرة و انطباق الأحكام الشرعيّة و السنن الإلهيّة و منهاج الشرائع و سيرة الأنبياء عليها؛ و علمنا أنّ الفطرة هي المسار التكويني لكلّ فرد من أفراد الإنسان (الذي هو موجود حقيقيّ واقعيّ) إلى كماله المنشود الذي هو الآخر أمر حقيقيّ، و أنّ الأحكام التي وضعت لإيصال الإنسان إلى هذا الكمال تدعى بالأحكام الفطريّة، و أنّ هذه الأحكام عبارة عن المسائل التي جُعلت من قبل الخالق العليم الحكيم و الخبير بالبنية الوجوديّة و المسير التكامليّ و الهدف الغائيّ للإنسان؛ و معنى الجعل الإلهيّ هو الاعتبار الإلهيّ. فهذه الامور الاعتباريّة هي الواسطة بين مبدأ الإنسان و بين كماله و غايته. فالعبد الخاضع لله يمكنه بتنفيذ هذه الأحكام و الأوامر و تطبيقها إيصال نفسه إلى أعلى ذروة الكمال و الارتقاء بها إلى أوج الإنسانيّة.
فهذه الأحكام التي تمّ اعتبارها بإرادة الله و نظره فاقت في إحكامها و متانتها كلّ أمر آخر، و كانت أكثر توفيقاً و نجاحاً في إيصال الإنسان إلى الهدف الأصليّ للخلقة، لأنّها تنطبق مع حكم العقل و حكم الشهود و الوجدان. و معنى الاعتبار أنّ المعْتَبر و هو الله سبحانه قد قرّرها و عيّنها بلحاظ الهيكل البُنيويّ و القوى المادّيّة و الطبيعيّة، و برعاية الامور النفسيّة و الروحيّة للإنسان، بعيداً عن ذرّة من الحقّد و الحسد و إعمال الغرض و لحاظ النفع الشخصيّ و الفائدة الذاتيّة، فقد حُسبت جميع المصالح و المفاسد، و أسباب النجاة و الفوز و عوامل الهلاك و الشقاء، بأدقّ الحسابات و أعمقها و أكملها، ثمّ جُعل الحكم تبعاً لهذه النظرة؛ أشبه بطبيب حاذق يعاين مرض المريض و يطالعه و يناقش جوانبه و سوابقه و لواحقه، و يجري المقارنات، و يراعي الظروف الزمانيّة و المكانيّة و الامور الوراثيّة، ثمّ يعتبر بعد تشخيص المرض دواءً له. فهذا الاعتبار يقابل الحقيقة، أي يقابل الخارج و الخارجيّة، أي حكم و نظر.
فنظر الطبيب هو نظر الشخص المعتبر، و هو الذي يعتبر الأدوية الفلانيّة في وصفة الدواء التي يعطيها للمريض.
ثمّ إنّ المريض الذي يمثّل مرضه أمراً حقيقيّاً، يعمل بالنظريّة الاعتباريّة للطبيب، فيستعمل الدواء و يشفى في النتيجة، و الشفاء بدوره أمر حقيقيّ.
و من ثمّ فإنّ اعتبار نظريّة الطبيب، أي تقييم هذا الدواء وفق نظره، هو أمر صحيح و كامل جدّاً ليس فوقه شيء، إذ يستحيل أن يصف الطبيب في هذه الحال دواءً خلافاً لنظريّته بخصوص هذا المريض، كأن يصف مثلًا دواءً يعاكسه، و إلّا لدفع بالمريض إلى حافّة الهلاك، و لمّا سمِّي آنذاك بالطبيب، بل وجب تسميته بالقاتل و المفسد و الجاني.
فالطبيب يقضي عمره في الدراسة و التحصيل و إجراء التجارب ليكون ماهراً في فنّه، و ليؤيّد بنظره هذا الاعتبار بشكل صحيح، فلا يمكنه تخطّي هذا الاعتبار القائم به مائة في المائة أو تجاوزه. لذا، فإنّ قضاء عمر في مشقّة الدراسة و التعلّم و التعليم، و السهر في خفارة المستشفيات و هي كلها أُمور حقيقيّة كان من أجل حصول و إيجاد هذا الأمر الاعتباريّ.
أمّا اعتبار الخالق الحكيم فهو من الصحّة و الصواب و مطابقة المراد، بحيث ينبغي القول حقّاً إنّه يفضل آلافاً من الحقّائق، لأنّه مفتاح جميع أنواع السعادة و كمال الحظّ.
و لقد بيّن العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله سرّه الشريف هذه الحقّائق مفصّلًا في المقالة السادسة من «أُصول فلسفة و روش رئاليسم» (=أُسس الفلسفة و المذهب الواقعيّ)؛ كما بيّن بكمال الدقّة هذه الحقيقة في تفسير الآية المباركة المتعلّقة بالفطرة على النحو الذي أوردناه. و العجب هنا من صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» (=بسط و قبض نظريّة الشريعة) الذي يبدو أنّه عدّ الاعتبار أمراً زائداً عابراً لاملاك له و لا قيمة، و هو أشبه ما يكون عنده بنسج الخيالات، و اعتبره مدفوعاً بهواه من الامور التي لا أساس لها و لا مناط، و وضعه ردفاً للُامور الواهية، ثمّ انتقد سماحة العلّامة و ذكر مطالباً و أُموراً لا تليق بساحة كاتب و لا مقامه.۱
بيان بعض مسائل الفطرة و الأحكام المتعمدة عليها
و نجد أنفسنا مجبرين على أن نذكّر بعدّة تنبيهات من أجل بيان بعض مسائل الفطرة و الأحكام المعتمدة عليها.
التنبيه الأوّل: هل نحن قادرون على اكتشاف جزئيّات أحكام الفطرة
من غير طريق الشرع و الشريعة؟
الجواب منفي بالطبع، أي أنّه لا إمكان مطلقاً في الوصول إلى أحكام الفطرة لعامّة البشر بدون الاتّصال بالوحي و مرحلة النبوّة.
و علّة ذلك كما ذكرنا أنّ أحكام الفطرة وضعت على أساس الاحتياجات الحقيقيّة للإنسان، و ليس هناك غير علّام الغيوب من مطّلع على البواطن و السرائر و الغرائز، و خبير بالسبل الموصلة إلى الهدف الغائيّ لخلق الإنسان، و عليم بالبناء البدنيّ و المادّيّ و النظام الروحيّ و النفسيّ له، ليمكنه جعل حكم يحفظ مصلحة الآدميّ المطلقة من جميع الجهات؛ فمهما ارتفعت درجات الأفراد من دون الله العلميّة، و ارتقت مراتب الحكمة فيهم، إلّا أنّهم لن يحيطوا مع ذلك بجميع جوانب الإنسان:
{وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}.۱
و في المثال الذي أوردناه عن علم الطبّ و المريض، فإنّ علي و المريض مهما كانت درجته العلميّة مراجعة الطبيب و العمل بوصفة الدواء، و اتّباع تعاليمه بلا مناقشة، و ذلك باعتبار جهل المريض لفنّ الطبّ، و لأنّ الطبيب حسب فرضنا حاذق ماهر، لذا فإنّ مفاد حكم الفطرة و حكم العقل و حكم الشرع يقول:
{فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.٢
و ينبغي على المريض أن يلتزم بالتعبّد المحض مقابل أقوال الطبيب، و إلّا فإنّ تخطّيها و تجاوزها سيعدّ تمرّداً و اتّباعاً للرأي الشخصيّ و مستلزماً للهلاك، و هو أحد مصاديق الانتحار، و معلوم أنّ الانتحار حرام عقلًا و شرعاً،
لذا فإنّ رأي الطبيب صحيح و رأي المريض خطأ.
و الأمر في الامور الشرعيّة كما هو في أمر الطبيب الحاذق العارف ببواطن أُمور البدن و تركيبه و أفعاله وردود فعله، و خواصّ الدم، و تركيب السمّ و الترياق، و أخيراً فهو مطّلع على مجموع حالات المريض و كيفيّة تأثير الدواء؛ فالشارع المقدّس مطّلع بأحسن وجه و أكمل طريق على جميع الأحوال المادّيّة و الروحيّة للمريض و كيفيّة معيشته و حياته و عافيته المطلقة، و صحّة و سلامة نفسه، و تمتّعه بجميع المواهب الإلهيّة و الاستعدادات الفطريّة، و كيفيّة جعلها فعّالة في جميع الشؤون الفرديّة و الاجتماعيّة. و الإيصال إلى ساحة قدس الحبيب على الإطلاق و الفناء في ذاته المقدّسة. لذا، ينبغي متابعة النبيّ و وصيّه، و اتّباع الإمام الحيّ، و إلّا فإنّ المخاطر ستواجه البشر بشكل حتميّ و قطعيّ، و سينزل بنا بسبب عدم التمسّك بميثاق النبوّة و حبلها ما نزل بالمجتمعات الكبيرة و الامم المتمدّنة في عالمنا الحاضر، فقد كانوا سعداء جذلين مبهورين بأضواء الدنيا الزائفة، مشغولين كالأطفال بالتفرّج على صندوق العجائب، فخسروا بلا مقابل جميع مزاياهم الأخلاقيّة و الروحيّة و سجاياهم الفطريّة و غرائزهم الموهوبة من قبل الله، بل خسروا حتى صحّة المزاج الطبيعيّ و هدوء البال و راحة الفكر، فلم يربحوا في مقامرتهم هذه، بل كانوا هم الأخسرين، و على قول إقبال الباكستانيّ:
دل و دين باختهاى تا هنر آموختهاى | *** | آه از اين دُرّ گرانمايه كه درباختهاي۱ |
و يتّضح من هذا البيان أنّ ما ذكره بعض دعاة التجدّد المبهورون بالغرب في معنى خاتميّة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم من: «أن العلوم البشريّة اليوم في حالة تزايد و تكامل، لذا فلا حاجة للبشر إلى نبيّ، لأنّ البشر يستطيع بقواه العقليّة و بحوثه العلميّة أن يدير أُموره بلا واسطة للرسول»، و هو قول سخيف لا اعتبار له.
عدم قدرة عامة البشر للوصول إلى جزئيات أحكام الفطرة
و ينبغي العلم أنّ مرادنا بعدم قدرة العقل على اكتشاف الأحكام الفطريّة كما أشرنا قبلًا، هو عدم قدرته على اكتشاف جزئيّات و تفاصيل الأحكام، و لا يمكن قبول الادّعاء بأنّ البشر يمكنه بعقله استخراج و استنباط الأحكام الفطريّة، إذ هو قول جزاف. أمّا في الاسس و الأحكام الكلّيّة التي يتوافق البشر عليها، كحسن الإحسان إلى المحسن، و حسن الإيثار، و الإنفاق على الغير في الموارد الصحيحة، أو قبح الكذب المضرّ و حسن الصدق النافع، و حسن العدالة و قبح الظلم، و كغريزة النزوع إلى المبدأ، و سائر الأحكام من هذا القبيل، فهي أحكام فطريّة يمكن إدراكها، بل إنّها من أوّل الأشياء التي يصل إليها العقل و يدركها، لأنّ الفطرة إن اعتُبرت بمعنى كيفيّة الخلق و البنية الوجوديّة الخاصّة للإنسان، فإنّ أُسسها عموماً ستكون قابلة لإدراك البشر وجداناً في بعض مواردها، و لو كانت هذه الاسس و الاصول جملةً غير قابلة لإدراك البشر و فهمهم فإنّ ذلك يؤدّي إلى نفي الغرض، و سيصبح الادّعاء بأنّ أحكام الدين فطريّة أمراً لا معنى له، لأنّ الأحكام ستكون ما يأمر به الدين و يقوله، و هذا يستلزم الدور.
الفطرة هى ما طابق العقل الإنسانى دون العقل الحيواني
التنبيه الثاني: و كما صرّح آية الله العلّامة قدّس الله نفسه، فإنّ المراد بأحكام الفطرة هي الأحكام المطابقة للعقل، أي العقل الإنسانيّ من حيث هو إنسان، لا العقل الحيوانيّ.
فالعقل الحيوانيّ عبارة عمّا يشترك به الإنسان مع الحيوانات، و الشعور المرتبط بالحواسّ الظاهريّة و القوى الخياليّة الداعي لاتّباع اللذائذ البهيميّة و الشهوات، و تحقيق الرغبات المادّيّة، و نيل الرياسة، و جمع الحطام الدنيويّ، و حسّ التفوّق و التظاهر، و عبادة الذات، و حبّ الظهور و الجاه و أمثالها، و واضح أنّ هذا الشعور و الإدراك لا يصل بالإنسان إلى مقام الإنسانيّة، بل يجعله في مرتبة الحيوانات و اجناسها التي هي أعلى من النباتات و الجمادات.
أمّا العقل الإنسانيّ الذي يصوغ الفرد إنساناً، فهو عبارة عن العبوديّة المحضة و المطلقة مقابل الخالق الحكيم العليم، و الانقياد و الإطاعة الصرفة بلحاظ مقام العبوديّة مقابل عظمة و مقام ربوبيّة ذلك الخلّاق الخبير. كما أنّ حبّ الوصول إلى ذات ذلك المبدأ الأزلي و الأبديّ، و شوق و عشق لقاء الجمال السرمديّ و الفناء في ذاته الأحديّة جلّ و عزّ، و تكميل القوة العاقلة و العاملة و الإيثار و التضحية و الفتوّة و المروءة و الصبر و التحمّل و الإنفاق و الخيرات و أعمال البرّ المطلوبة هي التي تفصل الإنسان عن وجوده المعار و المجاز و تلحقه بالوجود الأبديّ و الحقّيقيّ.
فهذه و أشباهها من صفات الأنبياء العظام و الأئمّة المعصومين و الأوّلياء المقرّبين هي الهدف الأصلي و الغائيّ للإنسان. و بهذا اللحاظ فإنّ أحكام الفطرة هي الأحكام التي ينبغي تشريعها و تدوينها لهذا النهج من السير و السلوك، لا الأحكام التي يجعلها و يدوّنها و يتوصّل إليها عقل الإنسان المادّيّ و الشهوانيّ بما هو حيوان، إذ لا يمكن اعتبار هذا النمط من الأحكام و السنن سنناً فطريّة و أحكاماً حقيقيّة.
و من هنا، فإنّ الإنسان محتاج دوماً للاتّصال بالشرع و الشريعة و منهل الولاية و معدن حكمة النبوّة، لا ملجأ له و لا علاج غيرها، و لا طريق
له غير نهجها و طريقها.
أمّا إذا اعتبرت أحكام الفطرة على أنّها الأحكام التي تتوصّل إليها العقول البشريّة، فإنّ ضرورة الشريعة ستنتهي حينذاك، و سيرجع جميع الناس إلى عقولهم فيعملون بمقتضاها، و هذا ما يساوق نسخ الشريعة، و نسخ القرآن، و نسخ النبوّة، و نسخ الولاية، و نسخ معنى إمامة و ولاية الإمام الحيّ.
و هيهات هيهات أن تكون يد البشر القاصرة قد نالت ذلك أو تناله، و حريّ بنا أن نبعد هذه الأفكار الساذجة عن أذهاننا و أن لا نتطرّق إليها، و نزجر هذه الأفكار الشيطانية فلا ننخدع بها، و علينا أن لا نتخطّى ما رُسم لنا من مقام و حدود، و أن ننهل دوماً من معين الإمام الحيّ. الحجّة ابن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه، فنروي أكبادنا الظمأي و قلوبنا الحرّى، و أن نعدّ أنفسنا بالعمل بشرعه و شريعته و نهجه و سيرته للتكامل و الوصول للهدف المنشود، حينذاك يصبح أحدنا إنساناً يصدق عليه أنّ عالم الوجود و الشمس و القمر و خلق الأرض مسخّر لأجله.
التنبيه الثالث: بشأن قاعدتي الملازمة المبحوثتين في علم أُصول الفقه:
الاوّلى: كُلُّ مَا حَكَمَ بِهِ الشَّرْعُ حَكَمَ بهِ العَقْلُ.
الثانية: عكسها: كُلُّ مَا حَكَمَ بهِ العَقْلُ حَكَمَ بهِ الشَّرْعُ.
فهل هاتان القاعدتان أو إحداهما صحيحة بشكل عامّ و كلي، أم أنّ هذه الملازمة غير تامّة؟
يمكن الحصول على إجابة هذا السؤال ممّا ذكرناه من انطباق حكم الفطرة مع حكم العقل الإنسانيّ و الحكم الشرعيّ، لأنّه إن أريد من كلمة العقل في هاتين القاعدتين هذه العقول النظريّة العامّة التي يمتلكها عامّة
البشر، فيستخدمونها لتنسيق أُمورهم البيتيّة و تنظيم مجتمعهم و مدنيّتهم، فلن يكون صحيحاً بشكل كلّيّ أيّاً من هاتين الملازمتين، لأنّنا نرى في كثير من الموارد أنّ للعقلاء حكماً ما لكنّ الشرع يورد خلافه، كما في المعاملات الربويّة و أُسس معاملات البنوك، و كالتلقيح و الحمل بحقن نطفة رجل أجنبيّ في رحم امرأة لا يربطها به عقد شرعيّ، و مثل تبنّي طفل أجنبيّ و إصدار شهادة الجنسيّة له و معاملته معاملة الابن الحقّيقيّ في جميع المراتب، و كثير من أمثال هذه المسائل، في حين يمتلك الشرع و جهة نظر مخالفة كلّيّاً.
أمّا إن كان المراد من كلمة العقل نفس العقل الإنسانيّ الحقّيقيّ الموجود للأنبياء و الأئمّة بلحاظ الجانب الملكوتيّ و العلويّ للإنسان، لا بلحاظ حيوانيّته و بهيميّته، و حيث إنّ العَقْلُ مَا عُبِدَ بهِ الرَّحْمنُ وَ اكْتُسِبَ بهِ الجِنَانُ؛۱ فإنّ كلا القاعدتين و الملازمتين ستكون صحيحة، إذ ليس هناك من حكم عقليّ فطريّ إلّا و هناك حكم شرعيّ يطابقه و يوافقه، و العكس صحيح، و هذا هو معنى أنّ دين الإسلام هو دين الفطرة ، {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}.٢
الأحكام الاضطرارية فطرية كما فى الأحكام الأخرى
التنبيّه الرابع: يشاهد في بعض الموارد أنّ هناك لموضوع أو متعلّق واحد حكمين مختلفين، كالوجوب و الحرمة، كما في موارد الاضطرار
مثلًا، حيث يصبح الحرام حلالًا: مَا مِن شَيْءٍ حَرَّمَهُ اللهُ إلَّا وَ قَدْ أحَلَّهُ عِنْدَ الاضْطِرَارِ إِلَيْهِ.۱
كأكل لحم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ذبيحة غير المسلمين المحرّم في الحالات العاديّة، لكنّه يصبح حلالًا عند الاضطرار:
{إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.۱
و نلحظ في هذه الآيات و نظائرها أنّ الله سبحانه جعل حكمَين مختلفين لموضوع و متعلّق واحد، الحكم الأوّل في حال عدم الاضطرار و هو الحرمة، و الحكم الثانويّ حال الاضطرار و هو الإباحة و الجواز، فأيّ حكم من هذين الحكمين يا تُرى يطابق الفطرة؟
لقد عرفنا أنّ المراد بالحكم الفطريّ ليس ذلك الحكم التابع لأهوائنا و مشتهياتنا النفسيّة و رغباتنا الأوّلية، بل هو الحكم الذي يمثّل الواسطة للوصول إلى الغاية و الهدف المنشود من الخلقة. و على هذا، فإنّ حكم المحاربة و الدفاع و الجهاد سيكون فطريّاً، لأنّه يقود الإنسان إلى الكمال المطلوب و سعادة الدنيا و الآخرة و الوصول إلى عزّ الإنسانيّة، و كذلك فإنّ صيام أيّام الصيف الحارّ و قيام ليالي الشتاء البارد، و الحجّ و العمرة في تلك البلاد الحارّة القاحلة ستكون كلها فطريّة، لأنّها توصل الإنسان إلى الكمال الحقيقيّ، و لو لم يرغب بها الطبع الأوّليّ للإنسان و لم يرتضها في قرارة نفسه، أو أجراها على نحو الإكراه. و سنعرف في هذه الحال أنّ قسمي الحكم الاضطراريّ و غير الاضطراريّ مطابقان لحكم الفطرة، لأنّ كلّا منهما حسب دوره و ظرفه الخاصّ يتكفّل بإيصال الإنسان إلى كماله و سعادته.
أمّا عند الاختيار و انتفاء القحط و المجاعة و وفور أنواع الأغذية
المحلّلة، فمن الواضح أنّ أكل لحم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أُهلّ لغيرالله به أمر مخالف للفطرة، لأضراره المادّيّة و الجسميّة من جهة، و لأضراره الروحيّة و المعنويّة من جهة أخرى. و لذلك فإنّ حكم الفطرة ينطبق مع الشرع.
و أمّا في حال الاضطرار، فباعتبار أنّ حياة الإنسان ستكون منوطة بالتناول من الأغذية المحرّمة بمقدار رفع الضرورة، فإنّ من البديهيّ الحتميّ أن يكون ذلك جائزاً في الشريعة الكاملة، لأنّ الأكل بمقدار سدّ الرمق موجب لبقاء الحياة و حفظها، و بقاء الحياة مع تناول هذه الموادّ المحرّمة أفضل و أولى من استقبال الموت بتركها، لذا فحكم الفطرة المجعول و المعتبر على أساس المصالح و المفاسد الواقعيّة يتطابق هنا أيضاً مع حكم الشرع.
و نجد في بعض الموارد أنّ الأحكام الخمسة: الوجوب، الاستحباب، الإباحة، الكراهة و الحرمة تُجعل جميعاً لمتعلّق واحد، كما في النكاح و الزواج مثلًا الذي هو في حدّ ذاته أمر و سنّة مستحبّة.
أمّا حين تغلب الشهوة و ينتفي السبيل المشروع لإشباع الغريزة، و مع خوف الوقوع في التهلكة و الضرر و الإصابة بالأمراض الجسميّة أو النفسيّة، فإنّ هذه الامور تجعل النكاح يصبح أمراً واجباً.
و في الموارد التي يتزاحم فيها النكاح مع أمر واجب أهمّ، كتحصيل المعارف الإسلاميّة و أُصول العقائد، أو تمريض أُمّ عجوز ضعيفة لا تقوى بنفسها على إنجاز أعمالها الضروريّة و أمثال ذلك، فإنّ الزواج سيكون حراماً في هذه الصورة.
فإن تساوت الجهات الراجحة و المرجوحة صار النكاح مباحاً.
فإن زادت الجهات المرجوحة على الراجحة صار مكروهاً، كما في
حال شابّ لم تغلب عليه شهوته، مشغول بتحصيل المعارف الدينيّة و تعلّم القرآن و الأخبار و الفقه و التفسير و الحكمة و العرفان، فهذا الشابّ إذا أقدم على الزواج سيمكنه الاستمرار في دروسه و تحصيله، لكنّه شاء أم أبى سيتعرّض إلى وقفة و نكسة و فتور في اكتساب كمالاته المعنويّة، ففي هذه الحال ستكون الأوّلويّة في ترك النكاح.
جميع الأحكام الأولية و الثانوية الاضطرارية هى من احكام الفطرة
و كان القصد من إيراد هذا الكلام أنّ جميع الأحكام الخمسة في موضوع النكاح هذا هي أحكام فطريّة ليس هناك بينها من تنافٍ و لا تعارض، و ينبغي الدقّة التامّة في كلّ متعلّق خاصّ تمهيداً لاستخراج الحكم الفطريّ و الشرعيّ.
و يمكن تلخيص ما ذكرناه بما يلي:
۱- أنّ الفطرة بمعنى الخلقة الأوّليّة و البنية الوجوديّة للإنسان؛ و إنّ الإسلام قائم على أساس هذه الفطرة التي يصدر العقل الإنسانيّ المستقلّ و غيرالمشوب بشوائب الهوى و الهوس أحكامه المطابقة لها.
٢- أنّ العقول العاديّة للناس، القائمة على أساس المصالح المتدنيّة للحياة و العيش هي في مرتبة الشعور الحيوانيّ، و باعتبار اشتراكها مع الحيوانات في التفكير بالمصلحة و الانتفاع و دفع الضرر و قضاء الحاجات الشهويّة و الغضبية و الوهميّة، فهي عاجزة عن كشف الأحكام الأصيلة للبشر بما هو بشر و إنسان، لذا فهي غير قادرة على استخراج الأحكام من الفطرة، و محتاجة إلى نبيّ و وليّ أمر معصوم قد تعدّى حدود ذاته و ارتبط بالكلّيّة و صدر عن منهل العرفان و التشريع، و لولا ذلك لمّا كانت الحاجة إلى التكليف و القانون الإلهيّ، و لأمكن للناس إدارة أُمورهم و تسييرها بالرجوع إلى هذه الأفكار و الاكتشافات و الاعتماد على علومهم المادّيّة و الطبيعيّة و التجربيّة.
٣- إنّ الكثير من الأحكام التي تبدو بحسب النظر الابتدائيّ غير منافية للفطرة، كنكاح أُخت الزوجة، و أُمّها، و محرّمات الرضاع، و بنت أُخت الزوجة و بنت أخيها بدون إذنها، و ترك الجهاد (لا الدفاع) و غيرها؛ قد نهى الشرع المقدّس عنها لكونها بلحاظ النظرة الأصيلة منافية للفطرة لعدم وقوعها في طريق المصالح العالية، بل لإيجابها سدّ طريق تكامل الإنسان و منعها طيّه للمدارج المعنويّة.
٤- إنّ الأحكام الاضطراريّة و الإكراهيّة و الضروريّة و الاستثنائيّة هي كالأحكام الأوّليّة من أحكام الإسلام و مطابقة للفطرة. و على هذا، فإنّنا لا نجد في الإسلام أيّ قانون عامّ أو خاصّ، كلّيّ أو جزئيّ، جنسيّ أو شخصيّ، إلّا و كان موافقاً للفطرة و مؤدّياً بالنتيجة إلى رشد و رقيّ و فاعليّة القوى و القابليّات المودعة في البنية الوجوديّة و الحيويّة للإنسان.
الفرق بين حقيقة العلم و الأخلاق
التنبيّه الخامس: ذكر صاحب مقالة «بسط و قبض» في كتاب مستقلّ آخر له باسم «دانش و أرزش پژوهشى در ارتباط علم و أخلاق» في كلامه عن الفرق بين العلم و الأخلاق، بأنّ العلم عبارة عن القضايا الخارجيّة التي يصحّ إطلاق الصدق و الكذب عليها، و الأخلاق عبارة عن الامور الاعتباريّة التي لا ارتباط لها بالخارج أبداً، و قال:
مواضيع كتاب «دانش و أرزش» (العلم و القيم)
الأخلاق العلميّة أيضاً من أبناء هذه الرؤية الحديثة لمشركي عبدة العلم.
حتّى يصل إلى القول:
فحين نعلم أنّ إشعاعات الموادّ المشعّة تسبّب السرطان (علم)، ثمّ نعلم أنّ علينا الحذر منها (أخلاق).
و حين نعلم أنّ سحق الغرائز و كبتها يحطّم الشخصيّة و يسبّب نشوء العُقد (علم)، ثمّ ندرك أنّ علينا أن لا نميت الغرائز و نوجد العُقد (أخلاق).
و حين نتعرّف على البناء الكيميائيّ و الآثار الصيدلانيّة و الحيويّة لدواء معين (علم)، ثمّ يمكننا أن نقرّر استخدام ذلك الدواء أم عدم استخدامه.
و حين نناقش و نحلّل بما لا يقبل الخطأ الهيكل الفاسد و الظالم الغاصب لنظام اجتماعيّ معين (معرفة)، ثمّ نشعر بالمسؤوليّة تجاه إسقاط ذلك النظام (أخلاق).
فهذه الأمثلة و مئات أخرى من قبيلها تظهر بوضوح أنّ العلم هو الذي يلد الأخلاق، و أنّ الفكر هو الذي يخلق القيم، و أنّ المعرفة هي التي توجد الالتزام.۱
... علينا في البداية التعرّف باختصار على العلم و الأخلاق، فالعلم يعني التوصيف و الأخلاق تعني التكليف. العلم يعني معرفة الواقعيّات و الأخلاق تعني معرفة القيم. في العلم يدور الكلام عن الطبيعة، و في الأخلاق عن الفضيلة.
في عهدة العلم أن يبحث كيف وجد و كيف لم يوجد، و في عهدة الأخلاق أن تناقش ماذا يجب عمله، و ماذا يجب اجتنابه؛ فمجموعة المعارف التي تصف بنحو جزئيّ أو كلّيّ كيفيّة الوجودات تُدعى علماً.
... أمّا القوانين الأخلاقيّة فهي جميع القوانين التي تقوم بتقييم الأشياء و الامور الخارجيّة، أو تتحدّث بنحو جزئيّ أو كلّيّ عن يجب و لا يجب أو الداعية لإقدام و تصرّف معين ...٢
إ نّ تقييم الأشياء و تعيين جيّدها من رديئها ليس في الحقيقة معزولًا عن يجب و لا يجب، و بمعنى آخر هما شيء واحد. فالعمل
الذي نقول إنّه يجب ألّا يُعمل، فإنّنا قد قلنا بتعبير آخر إنّ عمله سيّيء، و كذا الأمر بالنسبة إلى المورد الجيّد الذي يجب عمله و عليه، فلا يخلو أبداً أيّ قانون أخلاقيّ من نوع من التقييم و التقدير، على العكس من القوانين العلميّة التي تتجنّب دوماً بوعي مسألة التقييم، و تكتفي ببيان كيفيّة وجود أو عدم وجود الظاهرة المعيّنة.۱
إ نّ كشف و إبطال المغالطة الكامنة في الاستدلال و الفكر الأخلاقيّ العلميّ يمثّل أحد الإنجازات البشريّة العظيمة و القيّمة، و تكتسب هذه المسألة أهمّيّتها بلحاظ إمكان استخدامها كمعيار لتقييم و قياس متانة و أصالة الإيديولوجيّات؛ فكلّما كانت إحدى المدارس و الاتّجاهات العلميّة مصونة من وسوسة هذه المغالطة، كلّما كانت أكثر أصالة و إتقاناً و تكاملًا، و كلّما سقطت المدرسة أكثر في شباك هذه الشبهة فإنّها ستصبح بنفس النسبة عديمة الثبات، ضئيلة الأهمّيّة.٢
إ نّ الاعتباريّات هي المفاهيم التي يفترضها و يتخذها الشخص لأجل ضرورات العيش بمساعدة العواطف و الرغبات الباطنيّة.
و الحقّائق هي المفاهيم التي يكتشفها العقل بالنظر في الواقع الخارجيّ للأشياء و في روابطها و علائقها، فهذان النوعان من المفاهيم لا يتولّد أحدهما من الآخر، و بعبارة أخرى: لا يمكن الوصول من الكشف إلى الفرض.
فدوران القمر حول الأرض هو من كشوف العقل، و مقولة إنّ قلب الإنسان السليم ينبض ۷۰ مرّة في الدقيقة ليست فرضاً و تعاقداً، و على هذا فهي لا تتغيّر بالاستحسان و عدم الاستحسان، و بالقبول أو عدم القبول، و بوجود شخص ما أو عدم وجوده.
فنحن إن شئنا أم أبينا، و قبلنا أم رفضنا، و وُجدنا أم لم نوجد،
فإنّ القمر كوكب يدور حول الأرض.
أمّا بشأن الفرضيّات و العقود فالأمر مختلف، فحين ندعو الميكروب سيّئاً، فليس ذلك مستقلّا بأيّ وجه عن رغباتنا و استحساننا و وجودنا. فأوّلًا: لو لم يكن هناك وجود لأيّ إنسان لما اتّصفت الميكروبات بصفة السوء، فالبشر الذين يرغبون في البقاء هم الذين ينعتون الميكروبات التي تمنع بقاءهم بالسيّئة، و إلّا فإنّ الميكروبات في حدّ ذاتها و بقطع النظر عن البشر هي ميكروبات فقط، لا جيّدة و لا سيّئة.
و ثانياً: أنّ هذه الميكروبات تصبح جيّدة بالنسبة لنا أحياناً، إذ في حال فتك الميكروبات الوبائيّة بأعدائنا فرضاً، فإنّها لن تكون سيّئة أبداً.۱
و بتعبير آخر: لا يمكن بأيّ وجه إثبات حسن شيء أو قبحه باستخدام سلسلة براهين منطقيّة، كما لا يمكن بهذا الدليل إثبات وجوب عمل شيء أو عدم وجوبه بأي برهان منطقيّ.
و في نهاية هذا القسم، فإنّ هيوم يذكر نكتة مهمّة نقلها عنه و اقتبسها بعده فلاسفة آخرون و صارت ملهمة لكثير من التحقيقات المنطقيّة:
... و نرى فجأة بكمال العجب بدل الاسلوب المعهود من إضافة قضايا تشتمل على «وجود» و «عدم»، فإنّ جميع القضايا تصبح فجأة ذات «يجب» و «لا يجب»، على الرغم من عدم التفات أحد الى هذا التغيير.
... و سيمنحنا الفرصة لنرى جيّداً أنّ الخير و الشرّ و الفضيلة و الرذيلة لم تُبنَ على أساس العلائق و الروابط بين الأشياء، و ليست
مشمولة للإدراكات العقليّة.۱
و لم تتكرّر فكرة هيوم المكثّفة هذه إلّا في أوائل القرن العشرين على لسان فيلسوف آخر.
فقد نشر جي اي مور الحكيم الإنجليزي سنة ۱٩۰٣ م كتابه ذائع الصيت باسم «مباني الأخلاق»، و قام في كتابه بتحليل دقيق و مفصّل لمفهوم «الحسن» وعدّه مفهوماً بسيطاً لا يتجزّأ و لا يُعرّف.
و قد استخدم في هذا الكتاب اصطلاح «مغالطة دعاة الطبيعة» لأوّل مرّة، و كان الغرض منه كما سيأتي فيما بعد نفس تلك المغالطة الكامنة في جميع أنواع الأخلاق العلميّة.٢
و كان كانْت، الفيلسوف الألمانيّ و المعارض الشهير لجميع أنواع الميتافيزيقيّة، قد دعي كتابه المشهور في نقد ما وراء الطبيعة «مقدّمة على كلّ فلسفة ميتافيزيقيّة مستقبليّة تدّعي العلميّة». و ذكر مور أيضاً في مقدّمة كتابه أنّ هدفه الأصليّ من كتابه أن يكون مقدّمة «لأيّ نوع من الأخلاق المستقبلية تدّعي العلميّة».٣
و يتكرّر هذا الخطأ اليوم من قِبل الكثيرين، و لقد سمع الكاتب كثيراً و شاهد بنفسه أنّ جمعاً من المفكّرين المشتغلين بالبحث في أمر فلسفة الأخلاق يظنّون أنّ المسألة الأساسيّة في فلسفة الأخلاق أن يجدوا بنحو من الأنحاء شيئاً مطلوباً و محبوباً بذاته لا باعتباره وسيلة و كأنّ جميع الصعوبات و المشاكل ستنهار بالعثور على هذا المحبوب النهائيّ، و كأنّ جميع الألغاز ستنحلّ بإشراق جمال ذلك المحبوب، و سيتّضح مرّة واحدة ما هي الوظيفة و التكليف؟ و ما العمل الذي ينبغي؟ و عن أيّ شيء ينبغي البحث؟ و ما هو معيار الجيّد و السيّئ؟
و ما هو منشأ القيم و الموازين؟
لكنّ هذا ليس إلّا خطأً و خيالًا، فالعثور على المطلوب النهائيّ شيء، و إرادة أنّ ذلك المطلوب ينبغي طلبه و ابتغاءه شيء آخر، فأحدهما توصيف و الآخر تكليف، الأوّل هو وظيفة العلم (بالمعنى الواسع)، و الثاني وظيفة الأخلاق، و جعل هذين الاثنين واحداً يمثّل خطأ الأخلاق العلميّة الذي لا يُغتفر.
و خلاصة الكلام أنّ مقولتي «الناس يبحثون عن مطلوبهم» و «المطلوب ينبغي لزوماً أن يُطلب» متفاوتان بشكل كامل، فالاوّلى توصيفيّة و الثانيّة تكليفيّة.۱
و كان السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ الحكيم و المفسّر المعاصر في بلاد الشرق هو أوّل الحكماء الذين عملوا بإيحاء من أنفسهم على طرح حلّ مسألة الإدراكات الاعتباريّة و علاقتها بالإدراكات الحقيقيّة، و لقد خطا خطواته في هذا الوادي مفكّراً مستنتجاً دون أيّة إشارة إلى آراء حكماء الغرب أو الاستعانة بها في هذا المجال.
و يمكن العثور على بحثه التفصيلي بهذا الشأن في المقالة السادسة من سلسلة مقالات فلسفية نُشرت بأجمعها تحت عنوان «أُصول فلسفة و روش رئاليسم».٢
و هذا النوع من الإدراكات له اختلاف جوهريّ مع الإدراكات الحقيقيّة، فهي أفكار تنطبق على الواقع و حاكية عن صفات موجود واقعيّ و خارجيّ، فلا هي تُستحدث وفق رغباتنا و لا تتغيّر بتغيّرها».٣
... و حين يكون الأمر كذلك و توجد هذه الهوّة الواسعة التي لا يمكن ملؤها بين الأفكار التصوّريّة و الأفكار الحقيقيّة، فإنّ علينا
عندئذٍ أن لا ننتظر وجود ارتباط منطقيّ بين هذين النوعين من الإدراك، أو الوصول من أحدهما إلى الآخر. أو حسب التوضيح الوارد في المقالة:
و لأنّ هذه الإدراكات و المعاني هي وليدة عوامل الإحساس، فليس لها علاقة توليديّة مع الإدراكات و العلوم الحقيقيّة، و باصطلاح المنطق، فلا يمكن بالبرهان إثبات تصديق شعريّ. و في هذه الحالة، فلن تصدق بعض أقسام المعاني الحقيقيّة في مورد هذه المعاني الوهميّة، مثل: بديهيّ و نظريّ و ضروريّ و محال و ممكن.۱
و بعبارةٍ أخرى: لا يمكن إثبات إدراك اعتباريّ من الإدراكات الحقيقيّة، و لا العكس، و لا يمكن أيضاً الاعتماد على التشبيه لإثبات حكم حقيقيّ.
و في تصوّرنا فإنّ هذه النكتة عظيمة الأهميّة، فهي تزيح الستار عن مغالطات ضخمة و واسعة كثيراً ما تستلفت النظر في أغلب الاستدلالات المتسامحة، و خاصّة في البحوث الاجتماعيّة و السياسيّة.٢
و بعد بحث التمثيلات و الاستعارات، و بيان الانفكاك المنطقيّ بينها و بين الإدراكات الحقيقيّة، يصل البحث إلى «الوجوب».
فمؤلّف «روش رئاليسم» (=المذهب الواقعيّ) يعتقد أن لابدّ لكلّ اعتبار من الانتهاء و الختم بحقيقة معيّنة، و علينا أن نبحث في الحقّائق عن أصل جميع التصوّرات. و على هذا، فإنّ الوجوبات الأخلاقية (الاعتباريّة) تستمدّ نشأتها في نظره من الوجوبات الحقيقيّة و الفلسفيّة؛ فإذا ما رأينا في مكان ما وجوباً اعتباريّاً و أخلاقيّاً، فإنّ علينا أن نوقن بأنه يستند إلى وجوب و ضرورة واقعيّة موجودة في مكان
آخر، فهذان الوجوبان مرتبطان يلد ثانيهما أوّلهما.
و الضرورة الفلسفيّة هي الضرورة القائمة بين العلّة و المعلول، فمع حضور العلّة التامّة فإنّ وجود المعلول سيصبح ضروريّاً لا تخلّف فيه. أمّا الضرورات الأخلاقيّة فتتجلى في الوجوبات الأخلاقيّة، فهي توصي بشيء ما أو تحرّمه بصورة الأمر و النهي.۱
و حسب نظر المقالة مورد البحث أي المقالة السادسة من «أُصول فلسفه» فإنّ الإنسان أيضاً (كسائر أنواع الموجودات الطبيعيّة التي تقوم بسلسلة من الأعمال في داخلها مع الاتّصال بخارجها من شمس و هواء و أرض حفظاً على دوام معيشتها و بقاء حياتها)، يتناول الطعام للوصول إلى الشبع، لكنّه يعتبر الحصول على المال ضروريّاً للحصول على الطعام، و يعتبر العمل ضروريّاً للحصول على المال، و يعتبر مراجعة أصحاب الأعمال ضروريّاً للعمل، و ... فهو لهذا يقرّر في نفسه بوعي: يجب أن أذهب إلى صاحب العمل.
و «يجب» هذه التي هي إدراك ذهنيّ واسطة لوصول الموجود الحيّ إلى هدفه (كالشبع مثلًا)، و هكذا الأمر بشأن أيّ هدف آخر وأيّ وجوب آخر.
و عليه فإنّ الاحتياجات الطبيعيّة لأعضائنا و قوانا ستوجد فينا وجوبات بتوظيفها و عينا و شعورنا ليمكن بمساعدتها تأمين احتياجاتها تلك. إنّ العلاقة بين الغذاء و الشبع علاقة جبريّة و ضروريّة، أي أنّ تناول الغذاء سيوجد تلقائيّاً و بحكم قانون العلّة و المعلول إحساس الشبع، أمّا العلاقة بين الشبع و مراجعة صاحب العمل فليست علاقة جبريّة، و لكن لانّ جهاز إدراكنا التابع لبنيتنا الطبيعيّة يميّز وجوباً جبريّاً بين الغذاء و الشبع، فهو يقوم بصياغة وجوب اعتباريّ من هذه الملازمة الحقيقيّة (و هو لزوم مراجعة صاحب العمل)، ليردّ إيجاباً
على إحساسه الباطنيّ و هو طلب الشبع.۱
... و سنورد هنا جزءاً فقط من إيضاحات هذه المقالة حول اعتبار أساس الاستخدام:
نحن نقول إنّ الإنسان يريد الحصول على نفعه من الجميع تبعاً لهداية الطبيعة و التكوين (اعتبار الاستخدام)، و يريد من أجل نفعه نفعَ الجميع (اعتبار المجتمع)، و يريد العدل الاجتماعيّ لنفع الجميع (اعتبار حسن العدالة و قبح الظلم)، و نتيجة للفطرة الإنسانيّة فإنّ الحكم الذي يكوّنه بإلهام الطبيعة و التكوين يمثّل حكماً عامّاً لا ينطوي على حقد خاصّ على الطبقة الراقية، و لا عداء خاصّ مع الطبقة السفلى.
بل إنّه تبع في ذلك طائعاً حكم الطبيعة و التكوين في الاختلاف الطبقيّ للقرائح و الاستعدادات، و راغباً تبعاً للُاسس الثلاثة المذكورة أن يحلّ كلّ واحد في محله و مكانه المناسب.
فالهداية الطبيعيّة (الأحكام الفطريّة) ستتحدد بالأعمال التي تتوافق مع أشكال و تركيبات الأجهزة البدنيّة، فنحن مثلًا لا نجيز لهذا الجهة إشباع الرغبات الجنسيّة عن غير طريق الزواج (كعلاقة رجل و رجل، امرأة و امرأة، رجل و امرأة عن غير طريق الزواج، إنسان مع غير الإنسان، إنسان مع نفسه، التناسل عن غير طريق الزواج).
و لن نمتدح التربية الاشتراكيّة للأطفال، و إلغاء النسب و الوراثة، و إبطال العرق و العنصر؛ ذلك لأنّ النظام المرتبط بالزواج و التربية لنيتلائم مع هذه الامور.٢
هذا ما أورده صاحب كتاب «دانش و أرزش» في بيان و شرح عبارات العلّامة قدّس الله سرّه، ثمّ شرع بعدها في انتقادها و الإيراد عليها:
إشكال صاحب كتاب «دانش و أرزش» على كلام العلامة الطباطبائى
و مع احترامنا العميق لحضرة المؤلّف المحترم لهذه المقالة،
فإنّنا لا نوافقه على جميع آرائه في مجال الاعتبارات الأخلاقيّة، فنحن نعتقد كما سنوضّح أنّه لم يفرّق كما يبدو بين نوعين من «الوجوب»، فوصل في النهاية بسبب عدم التفكيك هذا إلى نوع من الأخلاق العلميّة المحضة.
رد صاحب المقالة على العلامة فى الخلط بين معنى الوجود و الوجوب
ثمّ يقول بعد شرحٍ مختصر:
و أمّا الاستفادة الفلسفيّة و الأخلاقيّة، فقد كان جميع سعي المقالة المذكورة هو إظهار أنّ كلّ «وجوب» معلول لاقتضاء القوى الفعّالة الطبيعيّة و التكوينيّة للإنسان، و حين يثبت هذا فكأنّما سيثبت تلقائيّاً أنّه يجب العمل بذلك «الوجوب»؛ و بعبارة أخرى أنّ «الوجوبات» التي تستمدّ نشأتها من مقتضى البنية الطبيعيّة هي «وجوبات» و أحكام طبيعيّة و فطريّة تحمل سند جوازها و وجوبها معها بلا حاجة إلى أيّ دليل و برهان.
أي أنّه حالما يتّضح أنّ حكماً ما حكم فطريّ، فلن يمكن عندئذٍ السؤال عن حسنه و قبحه، لأنّ أيّ حكم فطريّ هو في ذاته جيّد و حسن، و هنا يكمن حسب تصوّرنا «الخلْط» المدمّر.
ذلك لأنّه لو افترضنا أنّنا حصلنا على مقتضى بنيتنا الطبيعيّة أي على حكم فطريّ فيبقى مع ذلك السؤال مطروحاً: لماذا ينبغي العمل بمقتضى البنية الطبيعيّة؟ و لم تكون الأحكام الفطريّة واجبة و ينبغي اتّباعها؟ من أين يأتي يا ترى هذا الوجوب الثاني؟
و يتّضح هنا أنّنا نملك نوعين من «الوجوب»، فإن لم يكن لدينا إيمان بـ «وجوب» ابتدائيّ و أساسيّ، فإنّنا لن نتمكن من صنع أيّ وجوب أخلاقيّ آخر.۱
... و أصعب من هذا و أعقد، مسألة العثور على الأحكام الفطريّة، فحسب أيّ معيار و ضابط يمكن القول إنّ حكماً ما فطريّ أم
لا؟ و خاصّةً إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار مسألة تصاعد حياة الكائنات الحيّة و اعتبارنا أنّها في حالة تغير جسمي و نفسيّ دائم، حيث سيصعب علينا بل سيستحيل التمييز بينها و معرفة أيّ عضو فيها أساسيّ و أيّها غير أساسيّ، و مقتضى أيّة قوّة ينبغي أن نأخذ بنظر الاعتبار؟ و أيّها ينبغي اعتبارها في طريقها إلى الزوال؟۱
... و تُظهر الاختلافات و النزاعات الحاصلة حول الأحكام الفطريّة، و المشاقّ العظيمة في تعيين الحدّ و الضابط للأحكام و إمكان الاستفادات غيرالصحيحة باسم الفطرة درجة الضعف و الركاكة التي سيكون عليها إصدار الحكم اعتماداً على مباني الأحكام الفطريّة.٢
... و نكرّر قولنا السابق في أنّ هناك مقابل كلّ واقع خارجيّ معين موقفين و نوعَين من الخيار يمكن اتخاذهما، رفضه أو قبوله؛ و أنّ نفس الواقع الخارجيّ لا يعين مطلقاً نوع ذلك الخيار، خلافاً لوجهة نظر المؤلّف المحترم للمذهب الواقعيّ «روش رئاليسم».
فوجود الأعضاء التناسليّة لدى الرجل و المرأة (بمثابة واقع معين) لا يعيّن بنفسه وجوب زواجهما فقط، أو ينفي إمكان مقاربة رجل لآخر، أو أ نّ الحمل عن غير طريق الزواج أمر غير مقبول.
فنفس ذلك الواقع الخارجيّ ليس هو المعيّن لهذه الخيارات الأخلاقيّة، و لهذا السبب لا يمكن تقبيح القرارات الأخلاقيّة المخالفة لها اعتماداً على مبنى مخالفتها للبنية الطبيعيّة للرجل و المرأة.
و على الرغم من أنّ خياراتنا الأخلاقيّة تعتمد على بنيتنا الطبيعيّة و متعلّقة بشأنها، لكنّها لا تستمدّ نشأتها منها مباشرة، بل إ نّ أساسها شيء آخر، و هي نابعة من مصدر نشأة «الوجوبات».
فليس هناك علاقة بين الطبيعة و الفضيلة، و لا يمكن صنع
ارتباط بين وجود شيء و انتخابه، فإن اعتبرنا الطبيعة في حالة تصاعد و جريان مستمرّ، و تصوّرنا أنّ العمل بحكم الطبيعة أمر مقبول و واجب، فيمكننا اعتبار أيّ عمل ما مُباحاً.۱
... و ينتج من الكلام السابق أنّه لا يمكن غضّ النظر عن فرض «وجوب» أصيل و ابتدائيّ، و أ نّ الأخلاق لها مبدأ منفصل في النتيجة عن «العلم»، و أ نّ «الوجوبات» لا يمكن إرجاعها في أُصولها إلى «الوجودات»، و حتى العمل بالأحكام الفطريّة يمكن عدّه واجباً حين يكون لدينا مسبقاً أساس آخر يقول بوجوب العمل بمقتضى الفطرة و الخلقة، أي أنّ انتخاب الأحكام الفطريّة و رفض الأحكام غير الفطريّة (الوجوبات الاعتباريّة في اصطلاح المقالة السادسة للمذهب الواقعيّ) «= روش رئاليسم» هو نفسه محكوم لـ «وجوب» اعتباريّ أوّليّ لا يمكن توجيهه و تعليله على أساس الفطرة و مبناها، و ما لم يكن لدينا ذلك الوجوب، فإنّها هي الأخرى لن تكتسب القاطعيّة و الإلزام من كونها فطريّة.٢
كان هذا خلاصة كلام صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» في كتاب «دانش و أرزش» ردّاً على كلام الاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّسالله سرّه، في عدم انتزاع الاعتباريّات من الحقّائق الخارجيّة و ضرورة الفصل و التفكيك بين لفظ «وجوب» و لفظ «وجود»؛ و مع أنّنا أوردناه بإيجاز و اختصار، إلّا أنّه مع ذلك قد حوى قدراً من الشرح و التفصيل لإيضاح جوانب الإشكال، و لئلّا يكون هناك قصور في تقريره و بيانه.
و أمّا كلامنا في هذا الشأن فهو أنّ صاحب المقالة المحترم لم يدرك أبداً مقولة العلّامة في «أُصول فلسفه و روش رئاليسم» و لم يصل إلى كُنه
كلامه و قصده، فلم يشخّص أساساً حقيقة المعنى الاعتباريّ من الحقّيقيّ، ثمّ تصدّى في كتابه الذي لم يضمّ على ضخامته إلّا القليل من المطالب للانتقاد و الردّ على كلام العلّامة في المقالة السادسة بشأن الإدراكات الاعتباريّة، فخبط خبط عشواء.
و نرى أنفسنا مجبرين؛ في بياننا لمواقع الخطأ و مواضع الانحراف؛ على إيراد بحث عن الاعتباريّات و انتهائها بالحقّائق، لتتّضح متانة و رسوخ كلام الاستاذ العلّامة و تفاهة و ضحالة رأي المنتقد.
فى معنى الاعتباريات و قياسها مع الحقائق
فالحقّائق عبارة عن الواقعيّات الموجودة في الخارج، بما فيها المادّيّات و الطبيعيّات و الموجودات الملكوتية المجرّدة، بما فيها من العلوم و المعارف الذهنيّة التي لم تتحقّق على أساس فرض فارض و اعتبار معتبر.
أمّا الاعتباريّات فعبارة عن الأشياء التي محلها و موقعها الذهن فقط، و المتحقّقة على أساس فرض فارض، بحيث تدور وجوداً و عدماً مدار الفرض و الاعتبار، فهي تكتسب تحقّقها الاعتباريّ بمجرّد الاعتبار، و ينتفي عنها أي تحقّق بمجرّد رفع اليد عن الاعتبار أو نقضه.
و بطبيعة الحال فإنّ لدينا قسماً ثالثاً غير هذين القسمين و هو الانتزاعيّات، و هذه ليست من الحقّائق و لا من الاعتباريّات، بل تنشأ بواسطة انتزاع الذهن من الحقّائق الخارجيّة، فلا تحقّق لها في الخارج أبداً، و كلّ ما هناك أنّ محلها و مورد انتزاعها في الخارج، كما في الفوقيّة و التحتيّة.
فعنوان الفوقيّة، كفوقيّة سطح البيت مثلًا نسبة إلى ساحته ليست شيئاً غير ذات السطح، فنحن لا نجد شيئاً غير نفس السطح، و غير سقف الغرفة الذي يعلوها باسم فوق، فما هناك هو نفس السطح، لكنّ ذهننا
ينتزع من النسبة الخارجيّة بين سقف الغرفة و أرضيّتها عنواناً ندعوه بـ فوق.
و هذا العنوان محله الذهن لا الخارج، و مبدأ انتزاعه في الخارج، و هو ليس أمراً اعتباريّاً، لأنّ فوقيّة السقف نسبة إلى الأرض غير قائمة باعتبار الشخص المعتبر، فالسقف يعلو سطح الغرفة شئنا أم أبينا. و نغضّ الطرف عن شرح و تفصيل الامور الانتزاعيّة باعتبارها لا ترتبط فعلًا بموضوع بحثنا الحاليّ، و نقصر الكلام على الحقّائق و الاعتباريّات.
إ نّ الاعتباريّات باعتبارها من صنع الذهن و صياغته، فلا بدّ لحصولها من وساطة قوى الإدراك، سواء القوى الوهميّة و الخياليّة و الفكريّة، و بعبارة أوجز: العقل النظريّ، أم النفس الناطقة و النور المجرّد للروح الإنسانيّة التي نعبر عنها بالعقل البسيط و الملكوت الأعلى و الناطقة القدسيّة و الكلمة الإلهيّة.
و مع أنّ قيام الاعتباريّات و قوامها في الذهن، و أنّ قيامها باعتبار المعتبر، إلّا أنّها في نهاية المتانة و الإتقان، و كثيراً ما تكون بنفسها منشأ و مبدأ لحقائق كثيرة في الخارج.
فطباعة أوراق العملة النقديّة مثلًا و جعل القيم المختلفة لها أمر اعتباريّ يرتبط بقرار خزانة الدولة و رئيس الامور الماليّة، حيث يصدران الأمر بطباعة الأوراق النقديّة و عرضها بقيم مختلفة.
فتكون هذه الأوراق النقديّة معتبرة ما دام إمضاء المسؤول و الشخص المعتبر و إقراره لها باقياً، لكنّها تسقط عن الاعتبار بمجرّد سحب الرئيس المسؤول و مسؤول الخزانة إمضائهما أو إصدارهما قراراً بإلغائها، فتصبح أكداس الأوراق النقديّة الثمينة حينذاك بلا قيمة، و يؤول مصيرها إلى الإحراق في المدفأة أو ما إلى ذلك من الاستعمالات.
و لا يخضع اعتبار الرئيس المسؤول لها، و طبعها، و مقدار المطبوع منها، و تعيين قيمتها، و مدّة اعتبارها، و طرحها للتداول داخل الدولة أو في الداخل و الخارج، للفوضى أو المزاجيّة؛ إذ لا بّد من حساب دقيق لتقدير ثروة المملكة من الذهب و الفضّة الموجودة في الخزينة أو ضمن أموال الدولة، و قيم المعادن المستخرجة، أو محصول اللؤلؤ المستخرج من البحر، و الأراضي الزراعيّة و البساتين، أو العمل و الجهود اليدويّة للعمال و الفلاحين، و كلّ ما يصدق عليه عنوان المال و يمكن حسابه في هيئة العملة الصعبة، و بعد الحساب الدقيق لقيمة العملة الصعبة و أسعار البضائع و الذهب و الفضّة الخارجيّة و ملاحظة العوامل المهمّة الأخرى، كميزان الثروة و النقد عند الشعب، يقومون بتبديل ذلك المال في المعاملة إلى أوراق رسميّة معتبرة و يدعونها بأوراق العملة الماليّة، تسهيلًا للحمل و النقل، و حفظاً للذهب و الفضّة، و لجهات أخرى غيرها.
و هذا الحساب من الدقّة و الصحّة بالقدر الذي يحدّد الشخص المعتبر و المعيِّن لقيم و أسعار الأوراق النقديّة بضرورات المحاسبة الاقتصاديّة، بحيث إنّه لا يجرؤ على طباعة و عرض ورقة نقديّة بقيمة خمسة تومانات أكثر أو أقلّ من المطلوب، و في حالة ثبوت هذا الأمر فإنّه سيحاكم على مخالفته هذه عند الحاكم و القاضي المسؤول. و للصكوك و الكمبيالات أيضاً نفس هذا الأمر الاعتباريّ.
و الطوابع البريديّة لها أيضاً نفس الشأن، فدائرة البريد تعمد لتسهيل استلام النقود من الناس مقابل التزامها بإيصال رسائلهم و أماناتهم إلى مقاصدها إلى طباعة طوابع تُلصق على الشيء المرسَل بما يتناسب مع وزنه و بُعد مقصده و كونه من المطبوعات أو غيرها، فتقبل هذه الطوابع بمثابة إيصالات نقديّة.
ثمّ تقوم هذه الدائرة لتغطية ميزانيّتها الكلّيّة و رواتب موظّفيها و عمّالها و أُجور وسائل الحمل و النقل على اختلافها من الطائرة و السفينة و السيّارة و الدرّاجة الناريّة و الدرّاجة الهوائيّة، و في بعض القرى من البغال و الحيوانات المستعملة للنقل بحساب هذه الامور و تقسم مجموعها على جملة المحمولات، فتصدر طوابع بريديّة للنقل داخل المدينة بقيمة ريال واحد مثلًا، و للنقل إلى المدن الأخرى بقيمة خمسة ريالات و إلى خارج الدولة بأكثر من ذلك، و تقوم بتعيين و اعتبار و تثبيت هذه الأسعار و تطبع الطوابع تبعاً لذلك و تبيعها.
و حين تستلم دائرة البريد الطرود و تقوم بنقلها حسب تعهّدها و التزامها، فإنّها تختم عليها بختم البطلان، أي أنّها تُسقط تلك الطوابع من درجة الاعتبار و تُلغي اعتبارها منها، لأنّ التزام دائرة البريد و تعهّدها كان فقط إيصال تلك الطرود إلى مقاصدها، فتفقد تلك الطوابع البريديّة حينذاك قيمتها، فتستخدم لمعرفة تأريخ و اسم و صفات السلاطين المتوفّين؛ و تُجمع في دفاتر و مجاميع تثير الاعتبار و الاتّعاظ، أو تُلقى مع المهملات في صندوق النفايات.
لقد كان الاعتبار و مدّة الاعتبار و زمانه و كيفيّته و قيمته محدودة و مشروطة، و حين يختم على الامور المعتبرة بختم البطلان، فإنّها ستبطل جميعاً و تنهار دفعة واحدة، و ليس في هذا الأمر استبداد و لا إعمال للرأي الشخصيّ لرئيس دائرة البريد في هذه الاعتبارات، لا بلحاظ القيمة و لا بلحاظ مدّة الاعتبار، فهم يمتلكون حقّ طبع و بيع و تعيين قيم هذه الطوابع ضمن دائرة محددة مرتبطة بمصالح الدولة و نفقات دائرة البريد، و مع أ نّ جميع أعمالهم هذه اعتبار محض، إلّا أنّه ليس اعتباراً جزافيّاً، لانّهم بحكم عقلهم و درايتهم و حسن إدارتهم و صدقهم و أمانتهم
لا يملكون أن يطبعوا يوماً ما و لمرّة واحدة طابعاً واحداً بقيمة ريال واحد و يقوموا باعتباره من غير داعٍ و سبب، و هم كذلك غير قادرين حتى في مورد واحد أن يقوموا بإبطال طابع واحد بقيمة ريال واحد و إسقاطه من الاعتبار و الختم عليه بالبطلان من غير داعٍ و سبب.
العلّامة يعتقد أنّ كلّ اعتبار إنّما يقوم بحقيقة معينة
و لقد عمل آية الله العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه في المقالة السادسة من «أُصول فلسفه» التي بحث فيها في ثلاثين مسألة بشأن الاعتباريّات، على تشخيص محلّ و موضع الحقّائق التي هي أُمور واقعيّة و حقيقيّة، و عيّن كذلك محلّ و موطن الاعتباريّات تبعاً لجعل الشخص المعتبر في الذهن، و أوضح كالشمس أمر عدم ولادة العلوم الاعتباريّة من العلوم الحقيقيّة، و فصل جميع موارد «الوجوبات» عن «الوجودات»؛ لكنّه بيّن أ نّ هناك رابطة و علاقة بين الاعتباريّات و الحقّائق في موردَين:
المورد الأوّل: قيام المعاني الوهميّة بالمعاني الحقيقيّة؛ و كانت عبارته:
إ نّ كلًّا من هذه المعاني الوهميّة قائمة على حقيقة معيّنة، أي أنّنا حين نضع أيّ حدّاً وهميّاً إلى مصداق ما، فإنّ له مصداقاً حقيقيّاً آخر ينشأ منه، فلو اعتبرنا مثلًا إنساناً ما كالأسد، فإنّ هناك أسداً حقيقيّاً أيضاً يرجع إليه حدّ ذلك الأسد.۱
محل الأمور الاعتبارية فى الذهن، و لها وجود خارجى
و هذه المقولة متينة جدّاً، لأنّ هذا الأمر الاعتباريّ القائم بالقوى الوهميّة و الخياليّة إن استند إلى أمر حقيقيّ فإن ذلك سيثبت مطلوبنا و مرادنا، أمّا إن استند إلى أمر وهميّ و خيالي آخر فإنّه يستلزم الدور و التسلسل، و سيفتقد معناه بغير ذلك القيام، لأنّ الصور المنطبعة في النفس
هي إمّا من الخارج أو من الذهن، و الأخيرة أيضاً تحقّقت سابقاً بانعكاس صورة خارجيّة.
و من هنا تصحّ قاعدة: كُلُّ مَا بِالعَرَضِ لَابُدَّ وَ أنْ يَنْتَهِي إِلَى مَا بِالذَّاتِ. و قاعدة: لِكُلِّ مَجَازٍ حَقِيقَةٌ.
ذلك لأنّ فرض موجود عرضيّ قائم بذاته بدون فرض الذات محال، و فرض استعمال المجاز و هو الخروج من دائرة الاستعمال الحقيقيّ بدون فرض وجود الحقيقة محال أيضاً.
و قد بيّن الأساتذة العظام في أُصول الفقه هذا البحث بالتفصيل، و أوضحوا أ نّ الإنشاء في مقابل الإخبار عبارة عن الإيجاد و الإبداع و الخلق في عالم الذهن، فكما أنّنا نستطيع في بعض الموارد إيجاد شيء في الخارج و منحه لباس الوجود و التحقّق، فكذلك يمكننا إنشاء و إيجاد عين ذلك الأمر الخارجيّ في الذهن، و الحكم القطعيّ بوجوده في الخارج.
فمعنى قول البائع في المعاملات: بعتك هذا بالمبلغ الفلانيّ: أنّني نقلتُ إليك هذا الشيء في عالم الاعتبار و ملّكتك إيّاه مقابل انتقال المبلغ الفلانيّ في هذا الاعتبار و الإنشاء إلى ملكي و حيازتي. لكأنّ هذا النقل و التحويل قد حصل في الخارج و كأنّني قد أوجدتُ هذا الأمر الخارجيّ في عالم ذهني و اعتباري، و قد ارتضى العقل و الشرع هذا الاعتبار، أي التحقّق الخارجيّ في عالم الوهم و الخيال.
و في صيغة النكاح حين تقول المرأة للرجل: أنْكَحْتُكَ نَفْسِي، فإنّ ذلك يعني في عالم الاعتبار أنّها جعلت نفسها في الخارج فراشاً له ودعته إلى نكاحها و وطئها! و الرجل حين يقبل بهذا القول فهو إنّما يقبل هذا المعنى.
و بهذه الصيغة يتحقّق النكاح الخارجيّ، لا النكاح الذهنيّ و التخيّليّ،
و عليه فإنّ إنشاء صيغة النكاح هي أمر اعتباريّ، و هو اعتبار يصنعه الذهن لما في الخارج، فالمرأة تجعل نفسها في عالم الاعتبار حقيقة و فعلًا موطوءة للرجل في الخارج، و ينبغي عند إجراء صيغة النكاح الالتفات إلى هذا المعنى، لأنّ النكاح هو بمعنى الوطء لا بمعنى العقد.
و الأمر كذلك بالنسبة إلى الحاكم الشرعيّ الذي يحكم أحياناً بدخول الشهر بالرغم من عدم رؤيته لهلال أوّل الشهر و مع وجود الشكّ لديه، لكنّه يحكم بذلك استناداً إلى القرائن الخارجيّة أو لشهادة رجلَين عادلَين.
و معنى ذلك قوله: إنّني أجعل و أخلق في عالم اعتباريّ و إنشائيّ هلالًا في أُفق السماء.
و بالطبع فهو غير الخلق الخارجيّ الحقّيقيّ الذي من الواضح أنّه أمر يفوق قدرته، و غير خلقه إيّاه في عالم نفسه و ذهنه، لأنّ رؤية الهلال الذهنيّ لا توجب دخول أوّل الشهر، بل هو هلال خارجيّ حقيقيّ، كلّ ما في الأمر أنّه في عالم الذهن و الاعتبار، و هو معنى حكم الحاكم برؤية الهلال و بدخول الشهر. و باعتبار إمضاء الشرع المقدّس لهذا الحكم فإنّ حكم الحاكم برؤية الهلال بمثابة و منزلة الرؤية الخارجيّة للهلال، و قائم مقامها و حائز منزلتها و رتبتها.
و هذه المسألة دقيقة جدّاً، حيث إنّ الإنشاءات و الاعتبارات في خصوص الذهن لا أثر خارجيّ لها، و هذه الامور لا تتحقّق في الخارج، فمحلها إذَنْ في الذهن مع الحكم بتحقّقها في الخارج.
و جميع الامور الاعتباريّة التكليفيّة من وجوب و استحباب و تحريم، و الامور الوضعيّة مثل الضمان و الصحّة و الفساد هي من هذا القبيل، حيث إ نّ اعتبار هذه المعاني بدون وجود حقيقتها في الخارج سيكون بلا معنى.
المورد الثاني: تأثير الحقّائق الخارجيّة في إيجاد المعاني الاعتباريّة
الذهنيّة، و هذه المسألة أيضاً قد أثبت العلّامة تحقّقها بوضوح.
و مع أنّ الحقّائق الخارجيّة التي يعبر عنها بالمسائل العلميّة و التي تتخذ لنفسها عنوان الوجود، هي غير المسائل الاعتباريّة التي يعبّر عنها بعنوان الوجوب، و أنّ المسائل العلميّة و الحقّائق الخارجيّة لا تقع بأيّ وجه من الوجوه في طريق ولادة المسائل الاعتباريّة، فلا يمكن بألف مسألة علميّة استخراج أمر اعتباريّ واحد بصورة البرهان، لكنّ مسائل العلم تقع في طريق الاستنتاج و في طريق الحصول على الحكم الاعتباريّ.
فبعد اطّلاع الإنسان على المسائل العلميّة فإنّه يجعلها دوماً صغرى البرهان، ثمّ يضع حكماً عقليّاً يرتّبه بنفسه بعنوان كبرى المسألة، فيشكّل منهما برهاناً صحيحاً و يصل إلى النتيجة المطلوبة.
فالصغرى مثل: تناول السمّ موجب لزوال الحياة؛ و الكبرى مثل:
كلما أوجب زوال الحياة يجب اجتنابه. و نتيجتهما: أنّ تناول السمّ لازم الاجتناب.
مقدّم چون پدر، تالى چو مادر | *** | نتيجه هست فرزند اى برادر۱ |
و ما ذكره العلّامة هو أنّ الاعتباريّات لا تولد من الحقّائق، لا أنّ الحقّائق لا يمكن الاستفادة منها في استنتاج برهان معيّن بأن توضع كمقدمة له. و بالطبع فإنّ البرهان الذي يشكّل أحد مقدّماته أمر اعتباريّ، سيكون اعتباريّاً أيضاً بلحاظ أنّ النتيجة تابعة لأخسّ المقدّمتين.
فلا يمكن الاستعانة بالمقدّمات الاعتباريّة سواء في الصغرى أم في الكبرى لاستنتاج مسألة فلسفيّة و علميّة، و ممّا لا شكّ فيه أنّه يمكن
استنتاج أمر اعتباريّ بطريقة البرهان من مقدّمات فلسفية و علميّة يكون مقدّمتها أمر اعتباريّ، و هناك مسألة من المسائل العلميّة كمقدّمة للبرهان فعلًا في الكثير من نتائج الامور الاعتباريّة و الأحكام و القوانين. فمقولة العلّامة الطباطبائيّ في أنّ الأحكام الفطريّة عبارة عن الأحكام التي أودعها نظام الخلقة و الطبيعة في طينة الإنسان، فهي التي تيسّر أُسلوب حركة الإنسان في سيره في مدارجه الكماليّة، هي من أعلى المقولات و أكثرها منطقيّة. لأنّ الفطرة و الطينة كما سيأتي تفصيله عبارة عن البنية الوجوديّة المادّيّة و المعنويّة و تجهيز القوى و الاستعدادات لمنح الفعّاليّة للنفس المبهمة و الهيولى المستعدّة و المحضة للوصول إلى غاية الخلقة و القصد من الإيجاد.
فالاطّلاع على هذه التجهيزات و الامور الطبيعيّة هو من المسائل العلميّة التي يتوصّل إليها الفرد بواسطة العلم، و حكم العقل بوجوب استخدامها هو حكم اعتباريّ نتيجته وجوب إعمال القوى المادّيّة و الطبيعيّة و الروحيّة في مجرى الخلقة و مسار الحياة.
إنّنا لا نقرّ باعتباريّة مسائل العلم، كما لا نضع الامور الاعتباريّة محلّ مسائل العلم أبداً، فلكلٍّ منهما مقامه و مكانه الخاصّ، لكنّنا نقول و نؤكّد كثيراً على أنّنا لا نمتلك غير حكم العقل طريقاً لاستخدام المعلومات و الغرائز و المسائل الفطريّة. فهو الحكم الذي تجعله النفس و تعتبره للمسائل المستحصلة عن طريق العلم، لا أن تكون المعلومات الفطريّة و الغرائز بنفسها علّة تامّة للعمل، أو أن يكون مجرّد عنوان الفطرة و نظام الطبيعة كافياً لوحده للعمل، بل حين تتعرّف النفس الإنسانيّة على مسائل العلم بشأن الفطرة، فإنّها تقوم بإصدار حكم عقليّ بوجوب اتّباعها و السير على نهجها.
و قد أشار العلّامة بوضوح أنّ عمل الطبيعة و الفطرة لا يكفي لوحده في استخدامها، بل ينبغي ضمّ الاختيار و الإرادة لذلك، فإن نحن أوكلنا الزمام عند ذلك بيدِ العقل النظريّ و الشعور الإنسانيّ الذي تشاركنا فيه الحيوانات في كثير من الجهات، فإنّ هناك احتمالًا كبيراً في انحراف سعي الإنسان عن طريق الفطرة و نهجها، أمّا إن أعطينا الزمام بيدِ العقل الإنسانيّ مِنْ حَيْثُ هُوَ إنسَانٌ، فإنّنا نضمن تحقّق الحكم الفطريّ و قيام العقل باستخدام هذه الأجهزة للوصول إلى كمال الإنسانيّة، و حينذاك سيوافق حكم العقل لمسائل الفطرة و تجهيزات الخلقة، و هو معنى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}.۱
إذا كانت الغرائز و الفطرة و مسائل الطبيعة كافية لوحدها للعمل، فعلامَ سنحمل هذه الانحرافات و الأخطاء؟
أمّا قولكم إنّ هذه الوجوبات تحتاج إلى وجوب ابتدائيّ ترجع إليه، فقول صائب نؤيّده و نوافق عليه، لكنّ هذا الوجوب الابتدائيّ ليس إلّا حكم العقل المستقلّ الإنسانيّ المنزه عن شوائب الأوهام و الوساوس، و لا يمكن أن يكون شيئاً آخر غيره.
و لو لم يكن هذا العقل في الإنسان، لأصبح الأمر في: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً}،٢ لغواً لا فائدة فيه.
فهذا العقل هو الذي يصوغ من الإنسان إنساناً، و به عرّف الله نفسه بواسطة لسان الباطن و لسان الأنبياء، و هو الذي يقول: ينبغي لهذا الوجوب الابتدائيّ أن يكون حكم العقل و ليس حكم الباري الموجّه إلى النفس التي تفتقد العقل و التي لا ينفع معها ألف وجوب و وجوب.
لطالما قلنا، و نقول: إنّ مسائل الفطرة تحتاج في سنّة التكوين إلى وجوب لنقلها إلى حيّز العمل، و ينبغي أن يكون ذلك الوجوب أبداً من نتاج العقل و ملازماً لإنسانية الإنسان. فهل تعرفون مبدأ و منشأ غير هذا الوجوب العقليّ؟ هاتوه و أرونا إيّاه فنحن في الانتظار!
مؤلف «دانش و ارزش» ينفى حجّيّة القياس القائم على البرهان العقلى
و يتّضح من هذا الكلام أنّ حكم المعترض بهذه العبارة:
و نقول هنا: إنّه لا يمكن بألف برهان عقليّ تشكّل مقدّماته الإدراكات الحقيقيّة «وجود» و «عدم» من إثبات حُسن شيء أو قبحه، ولا إثبات ملكيّتنا لشيء ما، و لا الدلالة بحكم العقل على رئاستنا لجماعة ما؛ فالذين يسعون عبثاً ليثبتوا بالبرهان العقليّ للآخرين أنّ فعل العمل الفلانيّ حسن أو قبيح، إنّما يسيرون في متاهة و يحاولون عبثاً».۱
هو حكم واهٍ و ليس أكثر من مغالطة و سفسطة.
و ذلك من خلال اعترافكم بالقول: بالبرهان العقلي! و لو وصلت النوبة إلى البرهان العقلي لصارت جميع المطالب ثابتة راسخة. و إنّ جميع نبوّة الأنبياء و حجّيّة القرآن و توحيد الربّ جلّ و علا إنما تعتمد على العقل.
و لو فُرض زوال حجّيّة البرهان العقليّ، فسينهار الصرح الشامخ للعلم و المعرفة تبعاً، له و سيصبح العالم داراً للمجانين و مجمعاً لشملهم.
فلو كنتم تدرسون في كلّيّة جميع معلّميها و مدرّسيها مجانين لا عقل لهم، فهل تعلمون أيّ بلاءٍ كان سيحلّ بكم، مهما كانت جميع الكتب النفيسة و الخطّيّة و القديمة الموجودة فيها في أعلى درجات الإتقان؟
و عليه، فلا مفرّ لتركيب القياس البرهانيّ و الاستثنائيّ لأحكام الصواب و الخطأ و المحاسن و القبائح غير استخدام جميع العلوم بعنوان
صغرى القياس، و جعل حكم العقل عموماً بعنوان كبرى القياس، ثمّ استحصال النتيجة المطلوبة؛ و الأمر كذلك في القياسات الاستثنائيّة.
أمّا ما نُقل عن «هيوم» فهو أمر ضعيف جدّاً و لا يمكن مقارنته بالتحقيقات الرائعة للعلّامة قدّس سرّه.
لقد كان أقصى وسع جي اي مور و نهاية إدراكه أن يفهم أنّ معنى الحسن بسيط لا يتجزّأ، و كان هذا من العجب العجاب؛ و كان من الحريّ بهم أن يسألوا أحد طلبتنا المبتدئين في مستوى «الحاشية» عن ذلك ليبيّن لهم بسهولة أنّ الجيّد و السيّئ، و الحسن و القبح، و كثير من الكلمات عامّة البلوي، كالعامّ و الخاصّ، و المطلق و المقيّد، باعتبارها بسيطة و خالية في جوهرها من التركيب، فتعريفها بتعريف شامل للحدّ و الرسم، تامّاً كان أو ناقصاً أمرٌ محال، و لهذا فإنّ جميع التعريفات التي أُعطيت لها كانت من باب شرح الاسم.
التفسير الخاطئ لآية الفطرة من قبل مؤلف كتاب «دانش و ارزش»
التنبيه السادس: لقد أراد صاحب مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت» في الفصل الرابع من كتابه «دانش و أرزش»؛ بعد قيامه في الفصول السابقة حسب نظره بإثبات عدم إمكان تشكيل برهان عقليّ في مسائل الحسن و القبح، و القيم، و الجودة و الرداءة، و بشكل عامّ في جميع الاعتباريّات، متصوّراً أنّه قد صنع هوّة أبديّة تفصل بين الواقعيّة و الأخلاق،۱ أن يُشير إلى الوجوب الأوّليّ الذي يمثّل أساس باقي الوجوبات؛ و باعتبار أنّه قد فسّر أوّلًا آية الفطرة المباركة بأُسلوبٍ خاصّ لا ينطبق على حقيقة الأمر، و لادّعائه ثانياً أنّ الوجوبات في القرآن الكريم غير مستفادة من مسائل الطبيعة و الفطرة، و أنّه ليس هناك أيّ حكم
من أحكام هذا الكتاب السماويّ المقدّس يقوم على أساس المسائل العلميّة و الواقعيّة، أو يستخدم الحقّائق كجزء للبرهان العقليّ المنطقيّ من أجل استنتاج أحكامه التي يصدرها؛ فإنّنا نجد أنفسنا مجبرين على تقديم بحث مختصر بشأن هذين الموضوعَين:
أمّا بشأن آية الفطرة:
{بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ ، فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.۱
فقد أكدّت هذه الآية صراحة على لزوم متابعة الفطرة الإنسانيّة، لكنّ كاتب المقالة قال أوّلًا على أساس عدم استخدام حكم العقل في طريق انتاج قياس الأحكام الفطريّة:
إ نّ هناك فاصلًا بين قضية: أنّ الفطرة تدعو إلى شيء معيّن:
(خبر) و قضيّة: يجب اتّباع ما تدعو الفطرة إليه: (أمر)، هو بقدر الفاصل بين العلم و القيم، و إنّ صنع جسر للعبور من أحدهما إلى الآخر هو ذلك الخطأ الخالد لجميع أنواع الأخلاق العلميّة. و بهذا اللحاظ فحتّى لو كانت الفطرة البشريّة داعية إلى الدين و مجبولة على التوحيد، فلا يكفي ذلك لوحده في الدلالة على وجوب الاتّجاه للدين أو اتّباع التوحيد.
و لو صحّ احتواء الآية المذكورة على أمر كهذا مبتنٍ على هذا
الاستنتاج، لصحّ كلام الذين ينظرون من منظار الأخلاق العلميّة، و الحاملين في قلوبهم وسوسة الاعتبار الحقيقيّ؛ و لكن يجب القول إنصافاً بأنّ ذلك ليس صحيحاً.۱
و ثانياً أخذه كلمة الفطرة في الآية المباركة حسب احتمال الفخر الرازيّ و الشيخ الطوسيّ خلافاً لأكثر المفسّرين بمعنى الدين و المنهج، لئلّا تدلّ على لزوم متابعة الفطرة الأوّلية و الخلقة و البنية الطبيعيّة للإنسان.
... و لا شأن لنا بالجدال حول الاحتياجات و الدوافع الفطريّة الإنسانيّة، و لا ننكر أنّ الفطرة الإنسانيّة حسب التعليمات الإسلاميّة داعية إلى الخالق، لكنّ ما نقوله إنّه لا يمكن القول: لأنّ الله متبوع و مطلوب، إذَنْ يجب طلب الله؛ فهذا الاستنتاج الأخير هو الخاطئ بنظرنا منطقيّاً.٢
و جوابنا على المطلب الأوّل هو نفس كلامنا السابق من أنّ العقل يحكم بضرورة متابعة الفطرة، لا أن تكون الفطرة بنفسها محرّكة للإنسان، و إلّا لما تعلّق به الأمر و التكليف.
فالطبيعة و الفطرة هنا (أي العلم) ليست واسطة لنشوء القيم و الاعتبار، و لم تُتخذ جسراً لذلك؛ بل إنّ حكم العقل المستقلّ الناجم عن القياس المنطقيّ هو المشير بضرورة متابعة هذا العلم، و الموجب بالبرهان القطعيّ إلى لزوم متابعة الفطرة، فهذه ليست ولادة الأخلاق و الاعتبار من العلم، بل إنشاء حكم النفس بلزوم متابعة مسائل العلم.
و أمّا جوابنا على المطلب الثاني، أي تفسير آية الفطرة المباركة، فمُبتنٍ على علمنا بأنّ معنى الفطرة من مادّة فَطَرَ التي استخدمت تكراراً في
القرآن الكريم، مثل: {فَطَرَهُنَ۱ فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ٢ السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ٣ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ}.٤
فهي تعني في جميع هذه الموارد الإبداع و الخلق بلا مثيل سابق.
معنى الفطرة حسب أصل اشتقاقها فى لغة العرب
و أمّا صيغة الفِطْرَة على وزن فِعْلَة فتدلّ على النوع، مثل جِلْسَة، أي الكيفيّة الخاصّة للجلوس، لأنّ هذا الوزن يستخدم في العربيّة في بيان النوع و الهيئة؛ كأن تقول: جَلَسْتُ جِلْسَةَ زَيْدٍ.
و عليه، فيصبح معنى الفطرة في الآية: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها}: ذلك النمط الخاصّ من الخلقة الذي خلق الله الإنسان عليه.
و هي تلك الخصائص و الآثار التي لا تنفكّ عن الإنسان، فقد خلق الله الإنسان مع تلك الخواصّ و الخصائص و السجايا الأخلاقيّة و الهداية للتكامل الخاصّ، و لم يكن خلقه ذاك خلقاً مجرّداً، بل ابتداعاً و إيجاداً و تصويراً على غير مثال سابق و شبيه.
معنى الفطرة لدى: الراغب الأصفهانى و ابن الأثير و الزمخشرى
يقول ابن الأثير: جاء في رواية عن ابن عبّاس: قَالَ: مَا كُنْتُ أدْرِي مَا {فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ}، حتى احْتَكَمَ إِلَى أعْرَابِيَّان٥ في بِئْرٍ؛ فَقَالَ أحَدُهُمَا: أنَا فَطَرْتُهَا. أَيْ ابْتَدَأتُ حَفْرَهَا.٦
لقد كان ابن عبّاس رجلًا عربيّاً عالماً و فصيحاً، و لم يكن أعجميّاً
ليحمل عدم معرفته معنى الفَطْر على عدم اطّلاعه على لغة العرب، بل يتّضح من جهله به و مجيء الأعرابيّ به في كلامه أنّ استعمال هذا اللفظ باشتقاقاته لم يكن معهوداً في اللغة العربيّة و أدبها و أشعارها، و أنّ استعماله كان من مختصّات القرآن الكريم.
و قد اهتم القرآن الكريم بشكل خاصّ بهذه الكلمة التي أوضح بها في كلّ موضع وردتْ فيه أنّ صنع الربّ الخالق الحكيم كان إبداعاً و صنعاً على غير شبيه، و كذلك إبداع عوالم الوجود من خلق السماوات و الأرض و سائر الموجودات.
يقول الراغب الأصفهانيّ في «المفردات»:
أصْلُ الفَطْرِ: الشَّقُّ طُولًا ... وَ فَطَرَ اللهُ الخَلْقَ؛ وَ هُوَ إيجَادُهُ الشَّيْءَ وَ إبْدَاعُهُ عَلَى هَيْئَةٍ مُتَرَشِّحَةٍ لِفِعْلٍ مِنَ الأفْعَالِ.
و عليه، فإنّ قوله تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها} إشارة إلى أنّ الله تعالى ركز معرفته في الإنسان و أوجدها إبداعاً. ف فِطْرَتَ اللهِ عبارة عن قوّةٍ منه أودعها في الناس لمعرفة الإيمان و جبلها في طينتهم، و لذا فإنّهم حين يُسأَلون مَنْ خَلَقهم؟ يقولون: الله:
{وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}.۱
و قال تعالى: {الَّذِي فَطَرَهُنَّ}، {وَ الَّذِي فَطَرَنا}؛ أي أبْدَعَنَا وَ أوْجَدَنَا.
يصحّ أن يكون الانفطار في قوله: السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ إشارة إلى قبول ما أبدعها و أفاضه علينا منه.٢
يقول ابن الأثير في «النهاية» في مادّة فَطَرَ:
ورد في الحديث النبويّ: كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛۱ الفَطْرُ الابْتِدَاءُ و الاخْتِرَاعُ. و الفِطْرَةُ: الحَالَةُ مِنْهُ، كالجِلْسَةِ والرِّكْبَةِ.
و المَعْنَى أنَّهُ يُولَدُ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الجِبِلَّةِ وَ الطَّبْعِ المُتَهَيِّئ لِقَبُولِ الدِّينِ؛ فَلَوْ تُرِكَ عَلَيْهَا لَاسْتَمَرَّ عَلَى لُزُومِهَا وَ لمْ يُفَارِقْهَا إِلَى غَيْرِهَا. وَ إنَّمَا يَعْدِلُ عَنْهُ مَنْ يَعْدِلُ لآفَةٍ مِنْ آفَاتِ البَشَرِ وَ التَّقْلِيدِ. ثُمَّ تَمَثَّلَ بِأوْلَادِ اليَهُودِ وَ النَّصَارَى في اتِّبَاعِهِمْ لآبَائِهِمْ وَ المَيْلِ إِلَى أدْيَانِهِمْ عَنْ مُقْتَضَى الفِطْرَةِ السَّلِيمَةِ.
وَ قِيلَ: مَعْنَاهُ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى مَعْرِفَةِ اللهِ وَ الإقْرَارِ بِهِ. فَلَا تَجِدُ أحَدَاً إلَّا وَ هُوَ يُقِرُّ بِأَنَّ لَهُ صَانِعاً، وَ إنْ سَمَّاهُ بِغَيْرِ اسْمِهِ، أوْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
ثمّ يقول:
وَ في حَدِيثِ عَلِيّ: «وَ جَبَّارُ القُلُوبِ عَلَى فِطْرَاتِهَا». أي عَلَى خِلَقِهَا؛ جَمْعُ فِطَرٍ، وَ فِطَرٌ جَمْعُ فِطْرَةٍ؛ أوْ هِيَ جَمْعُ فَطْرَة كَكَسْرَةٍ وَ كِسَرَاتٍ بِفَتْحٍ طَاءِ الجَمْعِ، يُقَالُ: فِطْرَاتٌ و فِطَرَاتٌ و فِطِرَاتٌ.٢ و قد سار الزمخشريّ في «أساس البلاغة» على هذا النهج، فبعد بيانه معنى فَطَرَ اللهُ الخَلْقَ، وَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ؛ أي على الجبلّة،
يقول:
وَ قَدْ فَطَرَ هَذَا البِئْرَ. وَ فَطَرَ اللهُ الشَّجَرَ بِالوَرَقِ فَانْفَطَرَ بِهِ وَ تَفَطَّرَ.
وَ تَفَطَّرَتِ الأرْضُ بِالنَّبَاتِ. وَ تَفَطَّرَتِ اليَدُ وَ الثَّوْبُ: تَشَقَّقَتْ ...۱ إِلَى آخره.
كان هذا تحقيقا بشأن المعنى اللغويّ للفطرة و تفسير الآية المباركة، و قد اتّضح أنّ معنى الفطرة بمعنى الخلق من العدم، و الإيجاد من العدم المحض، و الإبداع و الاختراع على غير مثال سابق. و لا حيلة و لا مهرب من هذا المعنى و المفهوم من آية الفطرة حسب أقوال أساطين العلم و المتبحّرين بالعربيّة و آدابها؛ و إذا ما أخذ البعض كلمة الفطرة في هذه الآية بمعنى الملّة و السنّة و الدين فإنّ ذلك كان أيضاً بلحاظ نفس معنى الخلقة و السجايا الطبعيّة و الروحيّة التي أنشأ الله سبحانه الملّة و الشريعة عليها.
و يتّضح أيضاً بهذا البيان أنّ ما أورده المعترض في هذا البحث فراراً من الأمر الاعتباريّ و استناداً إلى آية الفطرة من:
إ نّ العلوم لا تمنحنا إلّا النواهي لا الأوامر، و حين نعلم النواهي فإنّنا سنعلم الواجبات أيضاً بالملازمة.٢
ليس إلّا دوراناً في حلقة مفرغة و لن يؤدّي إلّا إلى نفس النتيجة، كمن يدير اللقمة في يده ما شاء من المرّات ثمّ يضعها في النهاية في فمه؛ فكلا الوجوب و النهي أمر اعتباريّ، فإن لم يجز الأمر في الوجوبات، فهو كذلك في النواهي فلا تغفل.
كان هذا بحثنا عن الموضوع الأوّل و الإشكال الوارد على صاحب كتاب «دانش و أرزش» (=العلم و القيم) في تفسير آية الفطرة.
آيات قرآنيّة تشير إلى استناد الأوامر و الأخلاقيات على المسائل العلمية
و أمّا بشأن الموضوع الثاني بشأن ادّعائه أن ليس لدينا آية قرآنيّة تأمرنا بشيء أو تنهانا عن شيء حسب مبنى المسائل العلميّة و عن طريق الاستنتاج العلميّ، و بكلمة أوجز أنّه لا يمكن لمقدّمات المسائل الفلسفيّة و الطبيعيّة أن تكون طريقاً للوصول إلى الأحكام الشرعيّة و المواعظ الإلهيّة القرآنيّة؛ فإنّنا نجد رغم ادّعائه هذا الكثير من الآيات القرآنيّة من هذا القبيل، و نكتفي بذكر بعضها كأمثلة:
۱- {أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.۱
فانسياب الفلك على سطح الماء من مسائل العلم، و نتيجتها أي لزوم الصبر و الشكر من الأخلاق.
٢- {وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.٢
فحركة السفن العملاقة على سطح الماء بحركة الرياح و توقّفها إثر سكون الرياح من مسائل العلم، و هي تدعو في النتيجة إلى الاستقامة و الصبر الوافر و الشكر الكثير، أي الأخلاق.
٣- {إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ ، وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً}.٣
فالنصر و الظفر الإلهيّ و دخول الناس أفواجاً في الإسلام من مسائل العلم، يستلزم على إثره تسبيح رسول الله و حمد الله و طلب الغفران و هي
من مسائل الأخلاق.
٤- {وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ، وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ ، وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.۱
تذكرة القرآن للمتّقين، و علم الباري بالمكذّبين، كون القرآن حسرة للكافرين، و كونه في الثبوت و التحقّق حقّ اليقين، كلّ ذلك من مسائل العلم. و تسبيح رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم باسم ربّه العظيم المترتّب عليه بفاء الترتيب، و الناتج من ذلك العلم؛ هو عبارة عن الأخلاق.
٥- {أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ، أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ، لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ ، أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ، أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ ، نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.٢
فظهور الماء على سطح الأرض من هطول المطر، و تحليته و عذوبته، و ظهور النار من الشجر لرفع حوائج المحتاجين لها، كلّها من مسائل العلم؛ و تسبيح رسول الله تبعاً لها من مسائل الأخلاق.
٦- {وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ، وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.٣
فمكان و منزلة المقرّبين من الباري سبحانه و هو الروح و الريحان و جنّة النعيم، و السلام الذي يقترن به أصحاب اليمين، و الحميم و معادن جهنّم المصهورة، و استقرار المكذّبين الضالين في الجحيم، و ثبوتها
و حقّانيتها هي جميعها من مسائل العلم، و في النتيجة أمر الخالق سبحانه رسوله بتسبيح اسم ربه العظيم مسألة أخلاقيّة.
۷- {وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ ، وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ}.۱
فخلق السماوات و الأرض و ما بينهما في يسر و سهولة في ستّة أيّام من مسائل العلم، و على إثرها وجوب الصبر من قبل رسول الله و أمره به مقابل كلام المشركين غير المستساغ، و تسبيحه قبل طلوع الشمس و قبل غروبها و قدراً من الليل و أدبار السجود جميعها من مسائل الأخلاق، و من الاعتباريّات الأخلاقيّة المترتّبة على الحقّائق.
۸- {وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى ، فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى}.٢
فعدم سبق الكلمة الإلهيّة التكوينيّة و الإرادة الحتميّة السبحانيّة و الأجل المسمّى الذي قدّره الله سبحانه، و عدم لزوم العذاب و تحقّقه في الدنيا قبل الموت من المسائل العلميّة؛ و صبر رسول الله و احتماله لأقوال المعاندين، و تسبيحه و حمده خالقه قبل طلوع الشمس و قبل غروبها وراء الافق، و آناء من الليل و في أطراف النهار هي كلّها من الأخلاقيّات و الأوامر الإلهيّة الاعتباريّة و المترتّبة على مسائل العلم تلك.
٩- {وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ
نُشُوراً}.۱
إ نّ جَعْل الليل مظلماً في حكم اللباس و الستر، و النوم باعثاً على الهدوء و الراحة، و جَعْل النهار مضيئاً للعمل و النشاط من مسائل العلم، و استراحة الإنسان ليلًا وسعيه و نشاطه نهاراً من الأخلاق.
۱۰ و قد وردت آيات كثيرة في القرآن الكريم بشأن الرجل و المرأة و تكاليفهما المختلفة حسب اختلاف البنية الطبيعيّة و المزاج و النظام الوجوديّ، تتعلّق بمسائل النكاح و الطلاق و الميراث و النفقة و الرضاع و العدّة و كيفيّة العبادة، كاجتناب الصلاة و الصيام أيّام الطمث، و وجوب الحجاب من الرجال من غير المحارم و غيرها، و هي تدلّ بأجمعها على اختلاف هذه الأحكام على أساس الاختلاف في البنية الوجوديّة و الطبيعيّة لهما.
و عليه، فإنّ اختلاف البنية و النظام المادّيّ و الروحيّ للرجل و المرأة هو من مسائل العلم، و ترتّب الأحكام المختلفة على ذلك من مسائل الأخلاق، و قد استخدمت تلك المسائل العلميّة في هذه الآيات بشكل واضح في قياس إجراء الأحكام الأخلاقيّة و الأمر و النهي و الضمان و الملكيّة و غيرها، حيث إنّها جميعاً من الاعتباريّات.
و لا كلام لدينا في التقييم، فعاقبة الأمر أنّ الناس يُساقون إلى الجنّة على أساس مقدار التقوى و الأمر الصالح، الرجل و المرأة على حدٍّ سواء:
{مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.٢
و لكنّ الكلام حول اختلاف الأحكام تبعاً لمبنى اختلاف البُنية الوجوديّة، أي اختلاف مسائل الأخلاق و تفاوت الاعتبار على أساس تفاوت و اختلاف مسائل الطبيعة و العلم.
و لا شكّ و لا تردّد في هذا الأمر، و مع ذلك فقد كان لمؤلّف كتاب «دانش و أرزش» خبط و اشتباه فيه، فقد تنكّب عن الجادّة في هذه المسألة البيّنة فقال: لا شأن لنا بأيّ لحاظٍ كان اختلاف مسائل المرأة و الرجل، فما هو موجود فعلًا تساويهما في القيمة التقوائيّة. و نورد عين عبارته ليتّضح خلطه و مغالطته للعيان:
مغالطة كتاب «دانش و أرزش» فى سبب اختلاف حقوق الرجل و المرأة
و من هنا ينبغي العلم بأنّ اختلافات الحقّوق و الواجبات بين الرجل و المرأة مثلًا لم تكن بسبب الاختلافات في الجسم و الطبع بنظر القرآن في تقييمه لتلك الاختلافات.
فما ميّز بين حقوق الرجل و المرأة أساساً هو النظرة الواقعيّة الأخلاقيّة و العزم على اجتناب التكليف بما يفوق الطاقة و التحمّل، فلم تُفرض على كلّ من الرجل و المرأة واجبات تفوق حدود طاقتهما، و هذا هو أساس نشوء اختلاف حقوقهما.
و لا زال هناك الكثير ممّن يتصوّر أنّ مرجع اختلاف حقوق المرأة و الرجل في القرآن إلى اختلافهما في التقييم في نظر المقنّن و المشرّع، و أنّ في ذلك إشارة إلى تفوّق أحدهما وضِعَة الآخر.
لذا، ينبغي أن تفضح صراحةُ الآية السابقة۱ و الآيات الأخرى
المشيرة إلى تساوي الرجل و المرأة عند الخالق، بطلان هذا التصوّر المهين.
إ نّ الاختلافات الحقّوقيّة للمرأة و الرجل في الإسلام مهما كان سببها، فهي حتماً غير ناشئة من تفاوت قيمتهما المعتبرة، فالكرامة و القيمة و القدر في نظر القرآن أمر مختصّ بالتقوى وحدها، و لقد كان منظار الأخلاق العلميّة هو المسبّب لعجز البعض عن تفسير تفاوت الحقّوق إلّا بمعنى تفاوت القيمة، و تفاوت القيمة إلّا باختلاف البُنية الطبيعيّة.۱
و يلاحظ في العبارات السابقة كيف خلط المؤلّف البحث، فحاول إظهار اختلاف المرأة و الرجل في أفكار المفكّرين القرآنيّين على أنّه حسب مبنى اختلافهما في القيمة و القدر، ثمّ قام برفضه، مع أنّ كلامنا لم يكن أساساً في موضوع اختلاف القيمة و القدر، بل في اختلاف الحقّوق و الأحكام و الإرث و النفقة و عدم الجهاد و القضاء و الحكومة و نظائرها، و هي مسائل أخلاقيّة اعتباريّة محضة رُتّبت من وجهة النظر القرآنيّة على أساس المسائل العلميّة و الطبيعيّة للمرأة و الرجل.
الإشْكَال الْعَاشِرْ: نظريّة تبدّل الأنواع مجرّد نظريّةولا تملك دليلًا قطعيّاً
الإشكال العاشر على مقالته «بسط و قبض تئوريك شريعت» هي مسألة قبوله بتبدّل الأنواع، و إقراره بعدم انتهاء نسل الإنسان إلى آدم و زوجته المخلوقَين من التراب. فبتبجيله و تكريمه لداروين و تسميته له بنابغة الفهم و الإدراك و مسخّر النظريّات الطبيعيّة، و بمن أثبت حقيقة الفرضيّة و النظريّة؛ ممّا يستلزم في النهاية عودة البشر إلى القرد، قد أضاف إلى مقالته إشكالًا جديداً؛ إذ يقول:
اعتقاد صاحب المقالة بمذهب داروين فى تبدل الأنواع
لقد نقل المؤرّخون أن داروين لم يستطع لتمسّكه بفرضيّته فهم و قبول الصحف الدينيّة المقدّسة كما يفهمها الآخرون و يقبلونها؛ عكس جورج كوفيه الذي لم يستطع لتمسّكه و التزامه بمعارف التوراة معرفة الطبيعة كما عرفها الآخرون.
و قصّة داروين الإنجليزيّ مشهورة، لكن قصّة كوفيه الفرنسيّ تستحقّ هي الأخرى أن تُعرف، فلقد اكتشف كوفيه و أبدع أساسَين مهمَّين في علم الحيوان و علم الجيولوجيا (طبقات الأرض) كان لهما أحسن الأثر عند المتكلّمين فأكثروا من الحديث عنهما، ذلك لأنّه حافظ على ظواهر الكتاب المقدّس و منحه دعماً علميّاً.
فقد اكتشف و أعلن في النصف الأوّل من القرن التاسع قبل ظهور نظريّة داروين قانون «تناسب أعضاء الحيوانات» Correlation Principale، و هذا القانون الذي يحظى اليوم بقبول علماء الحيوان كان له مفاد و مدلول آخر لديه. و كان يقول إجمالًا بأنّ أعضاء
جميع الحيوانات هي من التناسب و التوازن فيما بينها، بحيث ينتفي معه وقوع أيّ تحوّل و تغير فيها مع بقاء نفس الحيوان.
لذا، فقد تحقّق من بين المؤلّفات المختلفة و المتصوّرة للأعضاء ما كان تحقّقه ممكناً، أمّا ما لم يتحقّق فهو الذي كان تحقّقه محالًا. و حسب قول كولمان Coleman: إنّ مفاد قانون كوفيه كان يعني على وجه التقريب كلّ ما هو ممكن فهو موجود، و كلّ ما هو غير موجود فغير ممكن.
و عليه، فقد كانت الفاصلة بين الأنواع ضروريّة، فمن المحال أن يملأ الفراغ بين القطّة و العصفور مثلًا، و نتيجة لذلك كان ينبغي للحيوان إمّا أن يبقى مصوناً من التغيّر الكلّيّ، أو أن يتغيّر كلّيّاً من الأساس ليصبح منشأ لنوع آخر.
و لم يكن كوفيه ليؤمن بالتحوّلات التدريجيّة الطفيفة الهادئة، و لهذا فقد اعتقد بثبات الأنواع الذي وافق بشكل واضح ظاهر الكتاب المقدّس ....
و كان هذا الأمر مثار عجب مؤرّخي العلم، فعلى الرغم من مخالفة كوفيه الشديدة لتغيّر الأنواع (ترانسفورميزم)، فإنّ تحقيقاته في علم الآثار و التشريح العمليّ لم تمهّد الطريق لظهور نظريّة التكامل فحسب، بل كانت مقدّمة ضروريّة لا غنى عنها لتلك النظريّة.
فاهتمامه المبذول في مسألة تناسب و توافق أعضاء الحيوان الواحد مع بعضها، و تناسب بدن الحيوان مع محيطه، كان عنصراً حيويّاً في تدوين نظريّة التكامل. لكنّ الذي لم يلحظه كوفيه ورآه داروين أنّه يمكن لذلك التوافق و التناسب أن يكون له توضيح (علميّ) و تكامليّ و ميكانيكيّ مادّيّ و طبيعيّ، و أنّه ينبغي عدم إرجاعه مباشرة إلى قدرة الخالق و فعله.
فالاعتقاد بالتدخّل المباشر ليد الخالق في الطبيعة (و هو رأ يٌ كلاميّ، معناه: وضع الطبيعة و ما وراء الطبيعة في عرض بعضهما)، كان
من أهم العوامل المثيرة للجدل و أكثرها تخريباً في ميدان المعرفة في بلاد الغرب و الشرق، فلقد كان يقطع الطريق في كلّ مكان ابتداءً من نيوتن إلى كوفيه و باستور، و من الفخر الرازيّ إلى الحشويّة الجدد.
فلم يكن في إمكان كوفيه أن يشاهد أبعد ممّا فعل، لأنّ أساس توافق المعارف لم يكن ليسمح له أن يفعل ذلك، فلقد كان علمه الكلاميّ (أي: النسبة التي كان يعتقدها بين الله و الطبيعة) و كلام الله (أي: التفسير الذي كان يستنبطه من الكتاب المقدّس) يوقفانه عند ذلك الحدّ.
و كان يلزمه معرفةً أخرى بالله و تفسير أفضل للكتاب ليمنحاه مجالًا أفضل للإبداع العلميّ.۱
لقد تكلّمنا مفصّلًا في هذا الجزء من كتاب «نور ملكوت القرآن» عن الضعف و الوهن اللذين يكتنفان نظريّة التكامل في الأنواع في ردّنا على مؤلّف كتاب «خلقتْ إنسان» (=خلق الإنسان) و إثباتنا لنظريّة الاستاذ العلّامة آية الله الطباطبائيّ قدّس الله نفسه، و أثبتنا أنّ ذلك الرأي لم يكن أبعد من فرضيّة لم تثبت بشكل قانون علميّ، و أنّ الحكم بها في هذه الحال أمر مرفوض من الناحية الفلسفيّة، و أنّها من جهة أخرى غير مقبولة أيضاً لظهور القرآن الكريم، بل لصراحته بشأن خلقة الإنسان و بيانه لخلق آدم و زوجه من الطين.
على أنّ هذا البحث الكلاميّ في اعتبار البعض لله سبحانه مقابل الطبيعة أمر خاطئ، فالله سبحانه و ملائكة السماء المدبّرون للُامور هم في طول عالم الطبيعة، بل إنّ عالم الطبيعة هو عين ظهور الله و أثره، لا انفكاك
بينها. و لقد قدّم الاستاذ العلّامة قدّس الله نفسه بحوثاً قيّمة و ثمينة في هذه المسائل التوحيديّة في التفسير و الحكمة، حريّ بجميع الحكماء و الفلاسفة و المتكلّمين أن ينحو نحوها و ينهلوا من معينها؛ و عندها، فمن سيكون نيوتن و الفخر الرازيّ؟! فضلًا عن ذِكر كوفيه و باستور.
إ نّ مسألة مشابهة الإنسان لبعض أصناف الحيوانات في الخلقة الطبيعيّة هي موضوع معين، و مسألة أصالة الحيوانات و كونها أساساً في بدء خلقة الإنسان موضوع آخر، و لا يمكن استخدام الأوّل للعبور إلى الثاني و استنتاجه.
فالإنسان لا يشبه فقط بعض الحيوانات في جهاز الدورة الدمويّة و تركيب الهيكل العظميّ و غيرها، بل إنّ له شبها من ناحية أوسع و أعمّ مع جميع الحيوانات، و حتى مع جميع النباتات، و انتهاءً بجميع الجمادات. فله شبه في أحكام الذرّات و الإلكترونات مع جميع الموجودات المادّيّة.
و قد ورد في القرآن الكريم:
{وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.۱
{وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ}.٢
بل يشترك الإنسان مع جميع الحيوانات النباتات في نوع واحد من النفس الكلّيّة، أي أنّ له مشابهة و مشاركة في الطبيعة و الحياة و النفس مع
الجميع؛ لكنّ هذا لا يصحّ أن يكون دليلًا لكونه قد ولد و نشأ منها.
داروين لا يمتلك دليلا قاطعا على أنّ أصل الإنسان قرد
و ما أورده داروين في كتابه «النشوء و الارتقاء» ليس أكثر من المشاهدة المجرّدة بشأن البنية الطبيعيّة.
يقول داروين:
إ نّ أحد أدلّتي هو تشابه البنيّة الطبيعيّة، لأنّ بدن الإنسان قد رُكِّب من وجهة النظر الكلّيّة على مثال أجساد الحيوانات الثدييّة الأخرى، فللهيكل العظميّ الإنسانيّ شبيه و نظير هو هيكل القرد و الخفّاش و عجل البحر مثلًا. و ينسحب هذا التماثل و التشابه على العضلات و الأعصاب و الأوعية الدمويّة و الأمعاء و الأحشاء الداخليّة و مخّ الإنسان و دماغه، و يشترك الإنسان مع الحيوانات مضافاً إلى ما ذكرنا في قابلية العدوى و الإصابة بالميكروبات المعدية لبعض الأمراض، كداء الكلب و الجدري و السفلس و الكوليرا۱ و غيرها. و هي دليل قطعيّ على شدّة التشابه بينه و بين الحيوانات في الدم و الأنسجة بلحاظ دقّة التركيب و البناء.
و فوق ذلك فإنّ القرود تشبه الإنسان في تعرّضها للإصابة بالزكام، و الصداع، و الصرع، و التهاب الأمعاء، و مرضى سائل قزحيّة العين، و الحمّى.
كما أنّ للأدوية و العقاقير الطبّيّة نفس التأثير على كِلا الإنسان و القرد، و بملاحظة أنّ لبعض أنواع القرود رغبة شديدة لشرب الشاي و القهوة و المشروبات الروحيّة المسكرة، و بملاحظة الآلام و العوارض العصبيّة التي تصيبها إثر السكر، فإنّه يتّضح جيّداً شدّة مشابهتها للإنسان
حتّى في الذوق و الحسّ العامّ بالنسبة للأشياء.
كذلك فإنّ بعض البثور و الانتفاخات الجلديّة الخارجيّة و الداخليّة التي تظهر في الإنسان هي من نفس جنس تلك التي تظهر في سائر الحيوانات الثدييّة، و تدلّ على شدّة التشابه بين الإنسان و الحيوانات الراقية، و خاصّة مع القرود، و ذلك في عموم البنية، و دقّة الأنسجة، و التركيب الكيميائيّ.۱
و ما نُقل في بيانات أئمّة المسلمين و علمائهم من التشابه بين الإنسان و القرد يفوق بكثير ما نُقل عن داروين، لكنهم مع ذلك لم يحكموا بالاتّصال و علاقة الولادة بينهما.
بيان الإمام الصادق عليه السلام فى «توحيد المفضل» فى عجائب خلقة القرد
و قد ورد في كتاب «التوحيد» الذي أملاه الإمَامُ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ عليهالسلام على المفَضَّلِ بْنِ عُمَرَ الجُعْفِيّ:
تَأمَّلْ خَلْقَ القِرْدِ٢ وَ شَبَههُ بِالإنْسَانِ في كَثِيرٍ مِنْ أعْضَائِهِ، أعْنِي الرَّأسَ وَ الوَجْهَ وَ المَنْكَبَيْنِ وَ الصَّدْرَ؛ وَ كَذَلِكَ أحْشَاؤُهُ شَبِيهَةٌ أيْضاً بِأحْشَاءِ الإنْسَانِ؛ وَ خُصَّ مَعَ ذَلِكَ بِالذِّهْنِ وَ الفِطْنَةِ التي بِهَا يَفْهَمُ عَنْ سَائِسِهِ مَا يُومِي إِلَيْهِ.
وَ يَحْكِي كَثِيراً مِمَّا يَرَى الإنْسَانَ وَ يَفْعَلُهُ، حتى أنَّهُ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِ الإنْسَانِ وَ شَمَائِلِهِ في التَّدْبِيرِ في خِلْقَتِهِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ أنْ يَكُونَ عِبْرَةً لِلإنْسَانِ في نَفْسِهِ. فَيَعْلَمُ أنَّهُ مِنْ طِينَةِ البَهَائِمِ وَ سَنْخِهَا إذْ كَانَ يَقْرُبُ مِنْ خَلْقِهَا هَذَا القُرْب، وَ لَوْلَا أَنَّهُ فَضِيلَةٌ فَضَّلَهُ بِهَا في الذِّهْنِ وَ العَقْلِ وَ النُّطْقِ،
كَانَ كَبَعْضِ البَهَائِمِ.
عَلَى أنَّ في جِسْمِ القِرْدِ فُضُولًا أخرى يُفَرِّقُ بَينَهُ وَ بَيْنَ الإنْسَانِ، كَالخَطْمِ وَ الذَّنْبِ المُسْدَلِ وَ الشَّعْرِ المُجَلِّلِ لِلْجِسْمِ كُلِّهِ.
وَ هَذَا لَمْ يَكُنْ مَانِعاً لَلْقِرْدِ أنْ يَلْحَقَ بِالإنْسَانِ لَوْ اعْطِي مِثْلَ ذِهْنِ الإنْسَانِ وَ عَقْلِهِ وَ نُطْقِهِ، وَ الفَصْلُ الفَاصِلُ بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الإنْسَانِ بِالصِّحَّةِ هُوَ النَّقْصُ في العَقْلِ وَ الذِّهْنِ وَ النُّطْقِ.۱
فى تشابه القرد مع الإنسان نقلا عن «حياة الحيوان» للدميرى
و قد أورد الدميريّ في «حياة الحيوان»:
و القرد حيوان قبيح مليح ذكيّ سريع الفهم يتعلّم الصنعة. حكي أنّ ملك النَّوْبَة أهدى إلى المتوكّل (الخليفة العبّاسيّ) قرداً خيّاطاً و آخر صائغاً، و أهل اليمن يعلمون القردة القيام بحوائجهم، حتى أنّ القصّاب و البقّال يعلم القرد حفظ الدكّان حتى يعود صاحبه، و يُعلمه السرقة فيسرق.
و هذا الحيوان شبيه بالإنسان في غالب حالاته، فإنّه يضحك و يطرب و يغني و يحكي و يتناول الشيء بيده، و له أصابع مفصّلة إلى أنامل و أظافر، و يقبل التلقين و التعليم و يأنس بالناس، و يمشي على أربع مشية المعتاد و يمشي على رجليه حيناً يسيراً، و لشفر عينيه الأسفل أهداب و ليس ذلك لشيء من الحيوان سواه و هو كالإنسان، و إذا سقط في الماء غرق كالآدميّ الذي لا يحسن السباحة.
و يأخذ نفسه بالزواج و الغيرة على الإناث و هما خصلتان من مفاخر الإنسان. و إذا زاد به الشبق استمنى بفيه، و تحمل الانثى أولادها كما تحمل المرأة.
و من قبول التأديب و التعليم ما لا يخفى. و لقد دُرِّبَ قرد ليزيد على ركوب الحمار و سابق به مع الخيل، و فيه يقول يزيد لما سبق بأتان ركبها فرساً:
مَن مُبْلِغُ القِرْدِ الَّذِي سَبَقَتْ بِه | *** | جَوَادَ أمِيرِ المُؤْمِنِينَ أتَانُ |
تَعَلَّقْ أبَا قُشٍّ بِهَا إنْ رَكِبْتَهَا | *** | فَلَيْسَ عَلَيْهَا إنْ هَلَكْتَ ضَمَانُ۱ |
و روى ابن عَدِيّ في كامله عن أحمد بن طاهر بن حرملة، ابن أخي حرملةبن يحيى، أنّه قال: رأيتُ بالرَّمْلَة قرداً يصوغ، فإذا أراد أن ينفخ أشار إلى رجل حتى ينفخ له. و في ترجمة محمّد بن يوسف المنكدر عن جابر رضي الله تعالى عنه، قال:
إنَّ النَّبِيّ صلّى الله عَلَيه و آلِهِ وَ سَلَّمَ كَانَ إذَا رَ أى القِرْدَ خَرَّ سَاجِداً.٢
تَمَسَّكْ أَبَا قَيْسٍ بِفَضْلِ عِنَانِهَا | *** | فَلَيْسَ عَلَيْهَا إنْ سَقَطَتْ ضَمَانُ |
أَلَا مَنْ رَأَى القِرْدَ الَّذِي سَبَقَتْ بِهِ | *** | جِيَادَ أَمِير المُؤْمِنِينَ أَتَانُ؟ |
و استشهد صاحب «المستدرك» بهذه الرواية قبيل صلاة الجمعة، كما روى البيهقيّ عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أيضاً بمعناها، و في لفظه أ نّ النبيّ صلّى الله عليه [و آله] و سلّم، قال: لا تشوبوا اللبن بالماء، فإنّ رجلًا فيمن كان قبلكم كان يبيع اللبن و يشوبه بالماء، فاشترى قرداً و ركب البحر، حتى إذا لجج فيه ألهم الله القرد صرّة الدنانير فأخذها، و صعد الدقل۱ ففتح الصرّة و صاحبها ينظر إليها، فأخذ ديناراً فرمى به في البحر و ديناراً في السفينة حتى قسمها نصفين، فألقى ثمن الماء في البحر و ثمن اللبن في السفينة.٢
و مهما بالغ داروين في المشابهة الجسميّة و المعنويّة للإنسان مع القرد، فلن تصل أقواله إلى مستوى أقوال رسائل إخوان الصفا في قولهم:
أمَّا القِرْدُ فَلِقُرْبِ شَكْلِ جِسْمِهِ مِنْ جَسَدِ الإنْسَانِ صَارَتْ نَفْسُهُ تُحَاكِي النَّفْسَ الإنْسَانِيَّةِ.٣
نعم فليس من البعيد على الغربيّين الذين لا يمتلكون فلسفة صائبة و لا كتاباً صحيحاً أن يلتزموا بنظريّة تبدّل الأنواع و انتهاء نسل الإنسان إلى القرد، و لكنّ العجب أن يتقبَّل ذلك المسلم الذي قد كان له في البرهان و الحكمة أمثال ابن سينا و الفارابيّ و الملّا صدرا، و الذي ينهى كتابه المتقن الأصيل بندائه السماويّ على الدوام عن متابعة التخمين و الحدس و الظنّ، و عن القول بغير علم و لا دليل قطعيّ. فمن العجب أن يخسر شخصيّته
و ينهار دفعة واحدة إثر أفكار تجربيّة و نظريّات غير ثابتة لم يقم الدليل على صحّتها، فيعتقد بمدرسة التصوّر و يبيع الحقّائق بثمن بخس، و يحاول بتشكيل مقدّمات وهميّة الحصول على نتيجة قطعيّة، لأنّ ذلك طريق لايسلكه الحكماء و لا يرتضيه المتشرّعون و الملتزمون بنهج القرآن الكريم.
مطايبه المؤلف أحد القائلين برجوع أصل البشر إلى القرد
مطايبة: كان لي بحث يوماً ما مع أحد القائلين بانتهاء نسل الإنسان إلى القرد، فجاوز الحدّ في إصراره و إبرامه عقيدته، و لم يكن دليله في دعواه غير هذه التصوّرات و الأوهام الخياليّة التي تحدّثنا عنها في هذا الكتاب، و قد رفضتُ بكلّ قوّة و ثبات مقولته، و أشرتُ إلى مواضع الخطأ فيها.
و حصل أن صادفته أيضاً في مجلس آخر، ففاجأته بالقول: أيّها السيّد! لقد ثبت عندي أنّ الناس على صنفين:
الصنف الأوّل: أُولئك الذين هم من بين البشر ظاهراً و باطناً.
و الثاني: أُولئك الذين هم من بني البشر ظاهراً، و من نسل القرود باطناً.
فردّ قائلًا: لقد كنتم تقولون بخلاف هذا، و تذكرون أنّ الآية الاوّلى من سورة النساء صريحة في أنّ جميع أفراد البشر من نسل واحد، و ينتهون جميعاً إلى نفس واحد. و زوجها (آدم و حوّاء)!
أجبتُ: و الآن أيضاً عقيدتي كذلك، لكنّ إصراركم الزائد على رجوع نسلكم إلى القرد أوجد شبهة عندي، أن تكونوا حقيقة قرداً تلبّس بلباس إنسان!
ضحك، و قال: يبدو أنّ السيّد يريد الإنعام عَلَىَّ بلقب جديد؟
أجبتُ: كلّا، فهذه هي الحقيقة التي اعترفتم و أقررتم بها؛ ولَدَيّ
شواهد لإثبات كلامكم و ادّعائكم.
تساءل: أيّ شواهد؟!
قلتُ: الأوّل قاعدة: كُلُّ شَيْءٍ يَرْجِعُ إِلَى أصْلِهِ، فلو لم يكن أصلكم من القرود، فمن أين لكم هذا التعلّق بالأجداد المحترمين؟!
الثاني: وجوب حفظ النسب، فحرام في الإسلام أن ينتمي الرجل إلى غير أبيه و يدّعي نسباً غير نسبه. لذا، فقد التزمتم بهذا الأمر لحفظ شجرة نسبكم.
الثالث: وجوب صلّة الرحم. فصلة الرحم واجبة في الإسلام، و قطع الرحم حرام، و لقد شاء سيادتكم للصلة مع قرود العالم و عدم قطع الرحم معها أن تحفظوا مراتب الوداد و الاتّصال هذه.
هَنِيئاً لَكُمْ وَ شَكَّرَ اللهُ مَسَاعِيَكُمْ. و لا ضير على هذا إن راجعتم يوماً دائرة الجنسيّة و الأحوال المدنيّة و انتخبتم لنفسكم أحد الألقاب المناسبة، مثلًا: حفيد القرود، وَلَد النسناس،۱ شامبانزي النسب ....
و نُنهي الكلام في الردّ على مقالة «بسط و قبض تئوريك شريعت»؛ و مع سعينا الشديد لعدم الإطالة، فإنّ الكلام في عشرة إشكالات أساسيّة على المقالة المذكورة قد طال، و لم يكن من ذلك بدّ، لأنّ آثار المقالة شديدة الخطورة و الضرر، و كان من الضروريّ بيان مواضع الشبهة و المغالطة و الخلط، و تجلية الاشتباهات فيها.
و كانت الإشكالات العشرة هي المواضع التي ظهر فيها الخلط في هذه المقالة جليّاً واضحاً، و قد غضضنا الطرف لضيق المجال عن الأخطاء و العثرات الأخرى لقلّة أهمّيّتها عمّا ذكرناه من إشكالات، و يمكن
للمطالعين الأجلاء مطالعة أصل المقالة التي طُبعت في عددَين۱ ليكتشفوا مواضع الخطأ و المغالطات الأخرى.
لقد اعتبرت فريضة على نفسي على الرغم من ضعف حالتي الصحيّة و مقتضيات الشيخوخة، و كثرة الشواغل العلميّة إدراج هذه المطالب مع الأبحاث القرآنيّة الحاضرة، ليراها الإخوة الذين يطالعون تلك المقالات، فينقذوا القرآن من مظلوميّته.
فلقد طعنت هذه المقالة في القرآن الكريم، و في حجّيّته، و في خلوده، و طعنت في جميع مقدّسات العالم و حقائقه، و تبنّت روح كتابات الشكّاكين و السوفسطائيّين وأتباع هيغل، هادفة من وراء ذلك جرّ الشريعة و القرآن إلى الانزواء و العزلة. و قد طرحت هذه المقالة مسألة فصل فهم الشريعة عن الشريعة نفسها، بدعوى أنّ الشريعة أمر صامت لا ينال، أمّا القابل لنيل البشر و وصولهم فهو فهمنا عن الشريعة، و لأنّه يمثّل فهمنا نحن فهو أمر نسبيّ و متغيّر و عابر. و بهذا الترتيب فإنّ التغيّر الحاصل في العلوم الحديثة سيغيّر من فهمنا للشريعة، هذا التغيّر الذي لا يتنافى مع ثبات الشريعة، تلك الشريعة التي تختفي كالعنقاء خلف جبل قاف فلا يصل إليها أحد، و كلّما قيل و كُتب عنها فهو بيان لهذا الفهم و ليس الشريعة نفسها. فهذا الفصل إنّما هو التزام بهدم الشريعة و إنكار لأصلها، و إنكار للخالق، و إنكار للقرآن، و إنكار للسنّة المحمّديّة.
و من الامور التي تبعث على الأسى و الأسف الشديد أن يكتب ذلك
الرجل الأجنبيّ الزنديق المسمّى سلمان رشدي في إنجلترا التي تعتبر مركزاً ضدّ الاسلام كتاباً باسم «الآيات الشيطانيّة»، ثمّ تكتب في بلد الإسلام و مهد التشيّع بعد عشر سنين من الثورة الإسلاميّة العظيمة مقالة مماثلة لذلك الكتاب، من كاتب يعدّ نفسه معلّماً و فيلسوفاً و من أهل التحقيق و المطالعة.۱
و قد ذكرتُ هذا لتعلموا أنّ هؤلاء جميعاً يرتوون من نبع واحد؛ أي من جامعات الفلسفة و علم الاجتماع و أمثالها التي تقام هناك، في حين يُصرف شبابنا بتأثير الدعايات الصارخة المزوّرة عن دراسة العلوم الحقّة، فيولّون وجوههم شطر الصوب الآخر، فينشأون و يتربّون و ينهون دراساتهم في تلك المجتمعات، ثمّ تكون النتيجة ظهور ثمرات فجّة كهذه. فحين تزاح الفلسفة الإسلاميّة الأصيلة جانباً فيدرّس بدلها في الجامعات الفلسفة الغربيّة، فلن يتوقّع و ينتظر في النتيجة شيء غير هذا.
فما معنى تعلّم الإلهيّات من فم الشيطان! و ما معنى تلقّي الفلسفة من أفواه الزنادقة؟ لقد كان صدر المتألّهين الشيرازيّ يوصي بتعلّم فلسفته و تلقّيها من الأفراد النزيهين العابدين المتهجّدين. فقارنوا ذلك بالفلسفة التي تدرّس في الجامعات المقتصرة على الكلام عن كانت و ديكارت و راسل و فرويد و أمثالهم. أيصنع هذا الاسلوب من الطالب موحّداً عارفاً بالله؟!
إ نّ احترام القرآن و إكرامه يتمثّل بالبحث و التحقيق و التدقيق فيه، و بقراءته و حفظه و تفسيره و التدبر فيه، فالقرآن سيكون إذ ذاك حيّاً، أمّا إذا
انصرف طلّاب العلوم عن حفظ القرآن و مزاولته و لم يعدّوا تفسيره و التدبّر فيه من أهم الامور، فإنّ كتاب الله سيُهجر شيئاً فشيئاً، و سيأخذ الآخذُ كلّ آية منه فيعنونها و يفسّرها بما يشاء فيجعلها وفق مراده و تبع هواه، و هو أمر أعظم و أخطر على القرآن من حرب اليمامة التي فقد فيها المسلمون في دفعهم غائلة مُسَيْلَمَة الكَذَّاب أربعمائة أو سبعمائة من قرّاء القرآن، و أوشك كتاب الله بذهاب حامليه على الزوال من وجه العالم كلّيّاً.
تحريف معنى و مراد القرآن أسوأ من تحريف ظاهره
لم يملك المتجّددون من ذوي الثقافة الغربيّة الذين باعوا دينهم و ضمائرهم القدرة على إنكار القرآن، فذلك ما يخالف مصالحهم، لذا فقد عمدوا مع تعظيمهم و إجلالهم الظاهريّ له إلى إيجاد شبهة و تأويل خاطئ له، و إلى صرف ظواهر الآيات بلا شاهد و لا دليل عن معانيها، و إلى عرض الاتّجاهات و المدارس الفكريّة الكثيرة مقابل القرآن، و عرض الآراء و وجهات النظر الكثيرة مقابل المقولة الأحمديّة و السنّة المحمّديّة، سعياً منهم إلى استئصال جذوره، أو على الأقلّ أن يظهروا هذه التحفة السماويّة و الكتاب الربّانيّ الذي {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}۱ لدى الدارسين و التلامذة الجدد من ذوي الخبرة القليلة، ككتاب واهٍ ضئيل القدر، أو كالتوراة و الإنجيل محرّف غير مصون.
و لو فعلوا لقطعوا الشريان الحيويّ الأصليّ للإنسان المسلم، و لمزّقوا و تين قلبه، و لأوقعوا بالعقل الإسلاميّ المفكّر ضربة قاسية، و لبقيت تلك البراعم الفتيّة من الدارسين و التلامذة إلى آخر درسهم و تحصيلهم، بل إلى آخر عمرهم، ينظرون بهذا المنظار إلى الكتاب الإلهيّ و يقرنونه بأنياب الأغوال و أساطير الأوّلين.
و يتّضح من سرّ هذا المطلب لماذا كان معاند و القرآن يتعمّدون منع الناس في كلّ زمان من البحث و التدقيق في الحقّائق و التفسير و التأويل، و التبحّر في شأن نزول الآيات و في سيرة و سنّة و نهج رسول الله الذي نزل على صدره القرآن، و لماذا كانوا يردعون الناس عن ذلك فلا يدعونهم يستفيدون من هذه الموهبة العظيمة، أو يفكّرون بالأصالة و التعمّق و بُعد النظر التي يدعو إليها القرآن إلّا قليلًا.
فالقرآن يعبر بالإنسان من العلوم الجزئيّة إلى العلوم الكلّيّة حيث لا اعتبار هناك للمجاز.
قيس يعدّد لمعاوية فى المدينة فضائل أميرالمؤمنين عليه السلام
يروي أبان عن سُليم بن قيس الهلاليّ، و عن عمر بن أبي سَلمة، و حديثهما واحد، أنّهما قالا:
قدم معاوية حاجّاً في خلافته المدينة بعد ما قُتِل أميرالمؤمنين صلوات الله عليه و صالح الحسن عليه السلام (و في رواية أخرى و بعد ما مات الحسن عليه السلام) فاستقبله أهل المدينة، فنظر فإذا الذي استقبله من قريش أكثر من الأنصار، فسأل عن ذلك فقيل: إنّهم محتاجون ليست لهم دوابّ.
فالتفت معاوية إلى قَيْس بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَة فقال: يا معشر الأنصار! ما لكم لا تستقبلوني مع إخوانكم من قريش؟!
فقال قَيْس و كان سيّد الأنصار و ابن سيّدهم أقعدنا يا أميرالمؤمنين أن لم تكن لنا دوابّ.
قال مُعاوية: فَأيْنَ النَّوَاضِحُ؟! (الناضح: البعير الذي يُستقى عليه؛ يعيب معاوية في كلامه على الأنصار بأنّهم سوقة ضِعاف)
و لم يكن هذا الكلام محتملًا عند الصحابيّ الجليل المجاهد في سبيل الله قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، أحد أصحاب أمير المؤمنين عليهالسلام و شيعته
و خاصّته، فانبرى له وردّ عليه قائلًا:
أفْنَيْنَاهَا يَوْمَ بَدْرٍ وَ يَوْمَ احُدٍ وَ مَا بَعْدَهُمَا مِنْ مَشَاهِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ، حِينَ ضَرَبْنَاكَ وَ أبَاكَ عَلَى الإسْلَامِ حتى ظَهَرَ أمْرُ اللهِ وَ أنْتُمْ كَارِهُونَ.
قال معاوية: اللَهُمَّ غَفْراً!
قال قيس: أمَا إنَّ رَسُولِ اللهِ صلّى الله عَلَيه وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ قَالَ: سَتَرَوْنَ بَعْدِي أثَرَةً.
ثمّ قال: يا معاوية! تعيّرنا بنواضحنا! و الله لقد لقيناكم عليها يوم بدر و أنتم جاهدون على إطفاء نور الله و أن تكون كلمة الشيطان هي العليا، ثمّ دخلتَ أنت و أبوك كرهاً في الإسلام الذي ضربناكم عليه.۱
فقال معاوية: كأنّك تمنّ علينا بنصرتك إيّانا؟ فللّه و لقريش بذلك المنّ و الطول. ألستم تمنّون علينا يا معشر الأنصار بنصرتكم رسولالله و هو من قريش و هو ابن عمّنا و منّا؟ فلنا المنّ و الطول أن جعلكم الله أنصارنا و أتباعنا فهداكم بنا!
فقال قيس: إنّ الله بعث محمّداً صلّى الله عليه و آله و سلّم رحمة
للعالمين فبعثه إلى الناس كافّة، و إلى الجنّ و الإنس، و الأحمر و الأسود و الأبيض. اختاره لنبوّته و اختصّه برسالته، فكان أوّل من صدّقه و آمن به ابن عمّه علي بن أبي طالب عليه السلام.
و أبوطالب يذبّ عنه و يمنعه و يحول بينه و بين كفّار قريش و بين أن يردعوه أو يؤذوه.
ثمّ ينقل قيس فضائل و مناقب أمير المؤمنين عليهالسلام و مشاهده، و قصّة آية الإنذار و قصّة العشيرة، ثمّ يصل إلى قول النبيّ الأكرم: فقال:
أيُّكُمْ يَنْتَدِبُ أنْ يَكُونَ أخِي وَ وَزِيرِي وَ وَصِيِّي وَ خَلِفَتِي في امَّتِي وَ وَلِيّ كُلِّ مُؤْمِنٍ بَعْدِي؟!
فسكت القوم حتى أعادها ثلاثاً، فقال علي عليه السلام: أنَا يَا رَسُولَ اللهِ! صلّى الله عَلَيكَ.
فَوَضَعَ رَأسَهُ في حِجْرِهِ وَ تَفَلَ في فَمِهِ وَ قَالَ: اللَهُمَّ امْلَا جَوْفَهُ عِلْماً وَ فَهْماً وَ حُكْماً.
ثُمَّ قَالَ لأبِي طَالِبٍ: يَا أبَا طَالِبٍ! اسْمَعِ الآنَ لِابْنِكَ وَ أَطِعْ فَقَدْ جَعَلَهُ اللهُ مِنْ نَبِيِّهِ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى!
و آخى صلّى الله عليه و آله و سلّم بين عليّ و بين نفسه.
فلم يدع قيس شيئاً من مناقبه إلّا ذكرها و احتجّ بها على معاوية مفحماً له، ثمّ أشار إلى جعفر بن أبي طالب الطيّار، و إلى تزويج فاطمة سلامالله عليها، ثمّ ذكر ارتحال رسول الله و اجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة للبيعة لسعد بن عبادة و هو أبي قيس، فقال:
فَجَاءَتْ قُرَيْشٌ فَخَاصَمُونَا بِحُجَّةِ عَلِيّ وَ أهْلِ بَيْتِهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وَ خَاصَمُونَا بِحَقِّهِ وَ قَرَابَتِهِ. فَمَا يَعْدُوا قُرَيشٌ أنْ يَكُونُوا ظَلَمُوا الأنْصَارَ وَ ظَلَمُوا آلَ مُحَمَّدٍ عَلَيهِمُ السَّلَامُ. وَ لَعَمْرِي مَا لأحَدٍ مِنَ الأنْصَارِ وَ لَا لِقرَيشٍ
وَ لَا لأحَدٍ مِنَ العَرَبٍ وَ العَجَمِ في الخِلَافَةِ حَقٌّ مَعَ عَلِيّ عَلَيهِ السَّلَامُ وَ وُلْدِهِ مِنْ بَعْدِهِ.
فغضب معاوية و قال: يا بن سعد! عمّن أخذتَ هذا؟ و عمّن رويته؟
و عمّن سمعته؟ أبوك أخبرك بذلك و عنه أخذته؟
فقال قيس: سمعته و أخذته ممّن هو خيرٌ من أبي و أعظم عَلَيّ حقّاً من أبي.
قال: مَن؟!
قال قيس: عَلِيّ بْنُ أبِي طَالِبٍ عَلَيهِ السَّلَامُ، عالم هذه الامَّة و صدِّيقها الذي أنزل الله فيه: {قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ}.۱
فلم يدع (قيس) آية نزلت في عليّ إلّا ذكرها.
قال معاوية: فإنّ صدِّيقها أبو بكر، و فاروقها عمر، و الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام.
قال قيس: أحقّ هذه الأسماء و أولى بها الذي أنزل الله فيه:
{أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ}.٢
و الذي نصبه رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بغدير خمّ، فقال:
مَنْ كُنْتُ أوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ فَعَلِيّ أوْلَى بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. و في غزوة تبوك: أنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ موسى إلَّا أنَّهُ لَا نَبِيّ بَعْدِي.
و كان معاوية يومئذٍ بالمدينة، فعند ذلك نادى مناديه و كتب بذلك نسخة إلى عمّاله: ألا برأت الذمّة ممّن روى حديثاً في مناقب عليّ و أهل
بيته. و قامت الخطباء في كلّ كورة و مكان على المنابر بلعن عليّ بن أبي طالب عليهالسلام و البراءة منه و الوقيعة في أهل بيته عليهم السلام و اللعنة لهم بما ليس فيهم عليهم السلام.
احتجاج ابن عباس على معاوية فى أمر حجّيّة القرآن
ثمّ إنّ معاوية مرّ بحلقة من قريش فلمّا رأوه قاموا إليه غير عبدالله ابن عبّاس، فقال له: يا بن عبّاس! ما منعك من القيام كما قام أصحابك إلّا لموجدة عّلّيّ بقتالي إيّاكم يوم صفين؟ يابن عبّاس! إنّ ابن عمّي عثمان قتل مظلوماً.
قال ابن عبّاس: فعمر بن الخطّاب قد قُتل مظلوماً،۱ فسلم الأمر إلى ولده؛ و هذا ابنه!
قال معاوية: إنّ عمر قتله مشرك. قال ابن عبّاس: فمن قتل عثمان؟
قال: قتله المسلمون. قال: فذلك أدحض لحجّتك و أحلّ لدمه، إن كان المسلمون قتلوه و خذلوه فليس إلّا بحقّ.
قال معاوية: فإنّا كتبنا في الآفاق ننهى عن ذكر مناقب عليّ و أهل بيته، فكفّ لسانك يابن عبّاس و اربع على نفسك.
فقال ابن عبّاس: فتنهانا عن قراءة القرآن؟! قال: لا.
فقال ابن عبّاس: فتنهانا عن تأويله و تفسيره؟! قال: نعم.
فقال ابن عبّاس: فنقرأه و لا نسأل عمّا عنى الله به؟! قال: نعم.
فقال ابن عبّاس: فأيّما أوجب علينا قراءته أو العمل به؟ قال: العمل به.
قال ابن عبّاس: فكيف نعمل به حتى نعلم ما عنى الله بما أنزل
علينا؟! قال: سَلْ عن ذلك من يتأوّله على غير ما تتأوّله أنت و أهل بيتك.
قال ابن عبّاس: إنّما أُنزل القرآن على أهل بيتي، فأسأل عنه آل أبي سفيان و آل أبي معيط و اليهود و النصارى و المجوس؟! قال معاوية:
فقد عدلتنا بهم؟
قال ابن عبّاس: ما أعدلك بهم إلّا إذا نهيتَ الامّة أن يعبدوا الله بالقرآن و بما فيه من أمر و نهى، أو حلال أو حرام، أو ناسخ أو منسوخ، أو عامّ أو خاصّ، أو محكم، أو متشابه، و إن لم تسأل الامّة عن ذلك هلكوا و اختلفوا و تاهوا.
قال معاوية: فاقرأوا القرآن و لا ترووا شيئاً ممّا أنزل الله فيكم و ما قال رسول الله و ارووا ما سوى ذلك.
قال ابن عبّاس: قال الله تعالى في القرآن:
{يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}.۱
قال معاوية: يا بن عبّاس! اكفني نفسك و كفّ عني لسانك، و إن كنتَ فاعلًا فليكن سرّاً و لا تُسمعه أحداً علانية.
ثمّ رجع إلى منزله فبعث إليه بخمسين ألف درهم. (و في رواية أخرى مائة ألف درهم).
ثمّ اشتدّ البلاء بالأمصار كلّها على شيعة علي و أهل بيته عليهم السلام، و كان أشدّ الناس بليّة أهل الكوفة لكثرة من بها من الشيعة.
و استعمل عليها زياداً، ضمّها إليه مع البصرة و جمع له العراقَين.
و كان يتبع الشيعة و هو بهم عالم، لأنّه كان منهم قد عرفهم و سمع كلامهم
أوّل شيء، فقتلهم تحت كلّ كوكب و تحت حجر و مدر، و أجلاهم و أخافهم، و قطع الأيدي و الأرجل منهم، و صلبهم على جذوع النخل، و سمل أعينهم و طردهم و شرّدهم.
حتّى انتزعوا عن العراق فلم يبقَ بها أحد منهم إلّا مقتول أو مصلوب أو طريد أو هارب.۱
و لقد استمرّ لعن أمير المؤمنين عليهالسلام من على المنابر و في الخطب ما يقرب من خمسين سنة، حتى صدر أمر بتركه سنة ٩٩ هجريّة في خلافة عمر بن عبد العزيز.
و لقد سوّدت فجائع بني أُميّة صفحات التأريخ، و كانوا في الحقيقة شياطين وقفوا في وجه نور الحقيقة النبويّة و سرّ الولاية العلويّة، و لو طالعنا أساليبهم و تأمّلنا في حالاتهم لتجلّى أمامنا مفاد الآية الكريمة:
{وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً}.٢
و هكذا فقد استمرّت محاربة القرآن من بدء نزوله حتى يومنا هذا، و اتخذت كلّ يوم شكلًا خاصّاً و نهجاً جديداً؛ و لم يكن لحروب الكفّار و المشركين من قريش و غيرها مع رسول الله من هدف غير القضاء على القرآن و منعه من التربّع على منصّة الهداية.
بنو أمية سعوا جاهدين فى اقتلاع جذور القرآن
و لو قسّمنا الغزوات السبعين التي حصلت خلال إقامة رسول الله في المدينة على زمن إقامته فيها لشاهدنا أنّ الرسول الأكرم كان مجبراً على الخروج للحرب بمعدّل مرّة واحدة كلّ شهرين دفاعاً عن القرآن وصوناً له. ثمّ اتخذ الدفاع عن القرآن في زمن أمير المؤمنين عليهالسلام شكلًا و نهجاً آخر، فقد جسّد معاوية في سلوكه الخبث و الفساد و الانحطاط، و أظهر نوايا أبيه أبي سفيان الذي أورد المصائب و الويلات على المسلمين في حروب بدر وأُحد و الأحزاب و غيرها بلباس آخر فنفّذها بحذافيرها.
كانت أهداف معاوية هدم أركان الإسلام و هدم القرآن تحت لواء الإسلام و باسم القرآن، و هذه السيرة كانت أكثر عمقاً و أكبر أثراً من حروب أبيه (أبي سفيان).
هذا المجرم و الشيطان المحتال الماكر ذو الدسائس الذي رأيناه يردّ على قول قيس بن سعد «ضربناك و أباك على الإسلام حتى ظهر أمرالله و أنتم كارهون» بقوله: اللَهُمَّ غَفْراً! فيصبح عارفاً بالله طالباً غفرانه. و في الوقت الذي يتخاذل أمام احتجاج ابن عبّاس و استدلاله المتين في حقّانيّة مظلوميّة أمير المؤمنين عليهالسلام و غصْبه للخلافة، فيصدر أمراً بلعنه و سبه و يكتب بذلك إلى البلدان، نراه يرجع إلى بيته بعد هذا الكلام فيبعث إلى ابنعبّاس خمسين ألف درهم ثمناً لسكوته؛ ثمّ يكتب إلى البلدان تبعاً لسيرة عمر و سنّته أن يقرأوا القرآن و لا يفسّروه، و أن لا يرووا من النبيّ حديثاً. فهو الآخر قد حارب القرآن و تصدّى له.
إ نّ الروايات و الأحاديث الواردة عن الرسول الأكرم في تفسير القرآن هي حقيقة القرآن، و لقد كان أُولئك واقفين على أنّ أحاديث رسولالله ستفضح جنايتهم و خيانتهم على رؤوس الأشهاد، فكان أن منعوا من الحديث و الرواية. لقد كانوا يقرؤون القرآن و لكن بلا معنى و لا محتوى، و بلافهم و لا دراية، فعرش حكومتهم لم يكن ليستقرّ مع الفهم و الدراية. و لأنّ القرآن هو كتاب العلم و التعقّل، فإنّ الأمر بعدم تفسيره و شرح معانيه في جميع الموارد كان أمراً بهدمه و إلغائه.
لكنّ الله سبحانه وعد بحفظ قرآنه و صونه عن التحريف الظاهريّ و الباطنيّ:
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ}.۱
مصطفى را وعده داد ألطاف حقّ | *** | گر بميرى تو نميرد اين سَبَق٢ |
من كتاب و معجزت را خافضم٣ | *** | بيش و كم كن را ز قرآن رافضم |
من تو را اندر دو عالم رافعم | *** | طاغيان را از حديثت دافعم |
كس نتاند بيش و كم كردن در او | *** | تو به از من حافظى ديگر مجو٤ |
رونقت را روز روز افزون كنم | *** | نام تو بر زرّ و بر نقره زنم |
منبر و محراب سازم بهر تو | *** | در محبّت قهر من شد قهر تو |
نام تو از ترس پنهان ميبرند | *** | چون نماز آرند پنهان بگذرند |
خُفيه ميگويند نامت را كنون | *** | خُفيه هم بانگ نماز اى ذو فنون |
از هراس و ترس كفّار لعين | *** | دينت پنهان ميشود زير زمين |
من مناره بر كنم آفاق را | *** | كور گردانم دو چشم عاق را |
چاكرانت شهرها گيرند و جاه | *** | دين تو گيرد زماهى تا به ماه |
تا قيامت باقيش داريم ما | *** | تو مترس از نسخ دين اى مصطفى |
اى رسول ما تو جادو نيستى | *** | صادقى، هم خرقة موسيستى |
هست قرآن مر تو را همچونعصا | *** | كفرها را در كشد چون اژدها |
تو اگر در زير خاكى خفتهاى | *** | چون عصايش دان تو آنچه گفتهاى |
گر چه باشى خفته تو در زير خاك | *** | چون عصا آگه بود آن گفت پاك۱ |
يضع الله أمام كلّ نبيّ عقبات و مصاعب تعترض وصوله الى غايته
{وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ، لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ ، وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ، وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ}.۱
فهذه الآيات صريحة في خلود القرآن الكريم، و أبديّة الولاية، أي حرّاسه و القائمون على صيانته، و لقد استمرّت أعمال المواجهة و الدسائس على مقصود رسول الله و هدفه، و على قوانين القرآن و أحكامه، لكنّ نور الله غالب قاهر، و هو سبحانه لا يخلف وعده؛ فينهض مثل الحسين عليه السلام ليهدم بنهضته العظيمة الباهرة للعقول عرش يزيد المستكبر، و يخمد إلى الأبد نعراته الأنانيّة.
ولقدجسّد الحسين عليهالسلام الانموذج الحيّ و المثال الجليّ لهدف جدّه رسول الله و أبيه عليّ المرتضى و أُمّه فاطمة الزهراء و أخيه الحسن المجتبى في بيوتٍ:
{أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ، رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ}.٢
حكومة يزيد استبداد محض، و هادفة لهدم القرآن
يقابله في الجانب الآخر يزيد اللعين مثال الغرور و الأنانية و التكبر
و التمرّد، بقدرته الجهنميّة و الشيطانيّة التي أخضعت الشرق و الغرب،۱ يزيد المعلن لشرب الخمور، الساهر ليله في مجالس الخمر و السكر مع المغنّيات، الناكح للمحارم، اللاعب بالقرود؛ و لم يكن ليفعل هذا لوحده، بل إنّ شرب الخمر و السكر و التغني صار رائجاً في عهده، حتى كان عمّاله في الحرمَين الشريفين مكّة و المدينة يتجاهرون بشرب الخمر و يعقدون مجالس اللهو و اللعب على مرأى من المسلمين و مسمع. و كان خراج المسلمين و الضرائب المستحصلة منهم يُصرف في هذه المطامع، في حين ساد الفقر و الفاقة بين الضعفاء و المساكين فغلب عليهم، حتى لم يبقَ لهم ما يستروا به عوراتهم، و لا ما يبلغوا به كفافهم و يسدّوا به رمقهم.
للّه الحمد و له الشكر أن يصل هذا الكتاب، و هو «نظرة على مقالة
بسط و قبض نظريّة الشريعة للدكتور عبد الكريم سروش» من القسم السادس لدورة العلوم و المعارف الإسلاميّة دون أيّ تغيير أساسيّ عمّا جاء في الجزء الثاني من كتاب «نور ملكوت القرآن»، و تمّ ختامه بحمد الله و منّه على يد الفقير السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ غَفَرَ اللهُ ذُنُوبَهُ وَ وَفَّقَهُ لِمَا يُحِبُّهُ وَ يَرْضَاهُ في يوم الجمعة، الرابع عشر من شهر محرّم الحرام، في سنة ألف و أربعمائة و خمسة عشر من الهجرة النبويّة على مهاجرها آلافُ التحيّةِ و الإكرام، في المدينة المقدّسة للمشهد الرضويّ على ثاويه آلافُ التحيّة و الإكرام.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى المُّصْطَفَى مُحَمَّدٍ، و المُرْتَضَى عَلِيّ، وَ البَتُولِ فَاطِمَةَ، وَ السِّبْطَينِ الحَسَنِ وَ الحُسَيْنِ؛ وَ عَلَى زَيْنِ العَابِدِينَ عَلِيّ، و البَاقِرِ مُحَمَّدٍ، وَ الصَّادِقِ جَعْفَرٍ، وَ الكَاظِمِ موسى، وَ الرِّضَا عَلِيّ، وَ التَّقِيّ مُحَمَّدٍ، وَ النَّقِيّ عَلِيّ، وَ الزَّكِيّ العَسْكَرِيّ الحَسَنِ، وَ صَلِّ عَلَى الهَادِي المَهْدِيّ، صَاحِبِ الزَّمَانِ، وَ خَلِيفَةِ الرَّحْمَنِ، وَ قَاطِعِ البُرْهَانِ، وَ إمَامِ الإنْسِ وَ الجَانِّ، صَلَوَاتُكَ عَلَيْهِ وَ عَلَيْهمْ أجْمَعِينَ.