المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
يقول تعالى: {إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَٰنُ}، فما هو المراد من الأمانة التي عرضها الله على السماوات و الأرض فعجزن عن حملها، و كان الإنسان هو الوحيد المؤهل لحمل هذه الأمانة؟
تكشف هذه المقالة القيّمة المستفادة من إحدى محاضرات آية الله السيد محمد محسن الطهراني قدس سره، القناع عن هذا السر ببيان واضح، وأن هذه الأمانة هي الولاية المودعة في وجود الإنسان.
وفي هذا الإطار يبيّن قدس سرّه العلاقة بين التوحيد والولاية، و كيف أنهما وجهان لعملة واحدة، مستعينا بفقرات من دعاء رجب الصادر من الناحية المقدسة الذي يصف أولياء الله بأنهم : أعضادٌ و أشهادٌ و مُناةٌ و أذوادٌ و حَفَظةٌ و رُوّادٌ، فبهِم مَلأتَ سماءَك و أرضَك حتّی ظهَر أن لا إله إلّا أنتَ .
هو العليم
الولاية - أمانة الله في وجود الإنسان
وتفسير آية {إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرضِ}
بحث منتخب من محاضرات
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّه
إعداد: الفريق العلمي في موقع مدرسة الوحي
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين
{إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَٰوَٰتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَٰنُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومٗا جَهُولٗا}.۱
يقول الله في هذه الآية الشريفة أنّا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض ولكنّها رفضت قبولها، في حين أنّ الإنسان قبل تلك الأمانة وتحمّلها.
فأيّة أمانة هي تلك الأمانة؟ وأيّة وديعة هي تلك الوديعة التي جعل الله الإنسان محلاًّ مستعدًّا لتقبّلها؟ ولماذا لم تتمكّن السماوات والأرض من قبولها؟ وأيّة خصوصيّة جعلتها تفتقد الاستعداد لقبولها؟ ما حقيقة الأمر؟
حقيقة الوجود وارتباطها بالأسماء الإلهيّة
إنّ كلّ ما نشاهده في عالم الخلق من التعيّنات هي تجلّيات مختلفة لنزول الأسماء والصفات الإلهيّة في التعيّن الأوّل والتعيّنات الثانويّة والثالثيّة، سواء في الوجود أو في مراتبه التكامليّة والصفات المترتّبة على الوجود، فإنّ التعيّنات المحدودة هي نزول للأسماء والصفات الإلهيّة. وهذا الأمر شامل لجميع الموجودات في عالم الكون، سواء منه عالم المادّة والطبع والشهادة أو سائر العوالم الربوبيّة كعالم البرزخ والملكوت الأسفل والأعلى وعالم الجبروت واللاهوت.
وقد عبّر الله تعالى عن تلك العوالم الربوبيّة بالسماوات، فالسماوات تعني جميع العوالم الربوبيّة مهما كانت سعتها وظرفيّتها الوجوديّة.
يقول: إنّا عرضنا هذه الأمانة على جميع هذه التعيّنات ولكنّها لم تتمكّن من تحمّلها ولم تتمكّن من تقوية عاتقها لتحمّلها، ولم تكن لها قدرة وقوّة على تحمّل أمانة كهذه، سواء عالم المادّة الذي هو عبارة عن الأرض والسماء الماديّة، أو موجودات العوالم العلويّة، حيث لم يرَ أيّ منها في نفسه استعدادًا لذلك، بل الجنّ والملائكة لم يروا في أنفسهم استعدادًا كهذا. لأنّ المراد من العوالم العليا التي هي عوالم الجبروت واللاهوت: تلك القوى المستعدّة المديرة والمدبّرة للعوالم، والتي يعبّر عنها بالملائكة المقرّبين.
لماذا عجزت الكائنات عن حمل الأمانة؟
لم يستطع التراب تحمّلها، ولم يستطع الماء، ولم يستطع الهواء، وعوالم المثال لا تستطيع، والعوالم المجرّدة العليا لا تستطيع أن تتحمّل، حتّى لو وصلنا إلى جبرائيل وميكائيل والملائكة المقرّبين فإنّهم لا يمكنهم أن يحملوا هذه الوديعة، لأنّ لديهم سعة خاصّة وقابليّة واستعدادًا محدودين، لا يمكنهم أن يتجاوزوه من حيث السير الطوليّ.
نعم قابليّتهم في السير العرضيّ غير محدودة ويمكن للقابل من حيث السير العرضيّ هذا أن يتوسّع بمقدار كلّ ما هو موجود حسب إفاضة الفاعل.
ما هي الأمانة ولماذا استطاع الإنسان حملها؟
{وَحَمَلَهَا الإِنسَٰنُ} ولكنّ الإنسان قبلها، فأيّ وديعة هي تلك الوديعة؟! وأيّ أمانة هي تلك الأمانة؟! وما السرّ الذي جعله الله في وجود الإنسان بحيث أمكنه بواسطته أن يخرج من التعيّن والحدّ ويتبدّل إلى اللاحد، ويخرج من النهاية إلى اللانهاية؟ هذا السرّ هو عبارة عن سرّ التوحيد.
التوحيد عبارة عن إدراك وحدانيّة الله بالصرافة والوحدة الحقّة الحقيقيّة له، التوحيد عبارة عن اندكاك كلّ تعيّن وكلّ حدّ في الذات اللامتناهية والوحدانيّة للحقّ تعالى، أي إنّ الإنسان ـ وليس فقط في مرتبة الأفعال والصفات والأسماء، بل في مقام تعيّن الذات أيضًا ـ لا يعود يرى الذوات المتعدّدة والتعيّنات المتعدّدة، بل يرى حقيقة واحدة فقط كتعيّن أوّل وكحقيقة حقّة، ويرى جميع المرايا والقوالب فانية ومندكّة.
هذا الأمر حتّى الملائكة لا يمكنها إدراكه، فحتّى جبرائيل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل رغم العظمة التي لهم لا يمكنهم إدراكه، فالأمر هنا دقيق وظريف ورقيق إلى درجة تجعل تلك الأمانة والوديعة لا تحصل إلا بواسطة الاندكاك والانمحاء وفناء الذات في ذات الحقّ، ولا يمكن لشيء آخر أن ينوب عن ذلك. فلو أعطيت علومُ الأوّلين والآخرين لمخلوق ما لما أمكنه رغم ذلك أن يصل إلى هذا المقام. ولو أعطيت حياة جميع العوالم السبعة لمخلوق لما أمكنه رغم ذلك أن يصل إلى هذه المرتبة، وهذه المرتبة أعلى، ولو أعطيت جميع لذّات الأوّلين والآخرين والعوالم الربوبيّة لمخلوق، سواء منها اللذّات الدنيويّة أو الأخرويّة في عالم المثال والملكوت والجبروت واللاهوت، لما وصل رغم ذلك إلى هذه المرتبة، اللذّات التي لا يمكن أن نتصوّرها ولا ندركها، تمامًا كالطفل غير المميّز الذي يريدون أن يشرحوا له بعض اللذّات، أصلاً إدراك تلك اللذّات ممتنع بالنسبة إليه وغير ممكن، لأنّه ليس لديه قابليّة إدراك ذلك، وهكذا نحن لأنّنا فعلاً أسرى عالم الطبع فإنّ إدراك لذّات كهذه أمر ممتنع علينا، إلاّ إذا تجاوز الإنسان وأدخل نفسه في تلك المراحل.
فإذن لو أعطي كلّ ذلك للإنسان فإنّه لن يصل إلى ذرّة من ذلك المقام الأعلى الذي هو مقام الانمحاء والفناء الذاتيّ، لأنّ جميع ذلك هو في مقام ما دون الذات، والذات شيء آخر وأمر آخر، الذات مقام آخر لا تقاس بها هذه الأمور.
هذا المقام هو عبارة عن مقام التوحيد ومقام الفناء الذي لم يتمكّن شيء من التعيّنات والموجودات أن يبلغه، أي إنّ عالم المادّة والعوالم الربوبيّة والمجرّدة لا يمكنها أن تبلغ هذا المقام؛ لأنّ الله لم يعطها قابليّته ولم يعطها إلاّ للإنسان.
وبعبارة أخرى هذا المقام هو مقام الولاية، أي إنّ الولاية عبارة عن ظهور كلمة التوحيد في جميع التعيّنات، فهذا الظهور لا يمكن أن يتحقّق من دون الولاية.
ما معنى أعضا وأشهاد ومناة... في دعاء رجب
نقرأ في دعاء رجب حول الأئمّة عليهم السلام:
«أعضادٌ و أشهادٌ [و مُناةٌ و أذوادٌ] و حَفَظةٌ و رُوّادٌ، فبهِم مَلأتَ سماءَك و أرضَك حتّی ظهَر أن لا إله إلّا أنتَ».۱
أعضاد وأشهاد: تعني أنّ الأئمّة عليهم السلام أعوان، لهم نظارة على عالم الكون.
حفظة: الحافظ يعني الحارس والحامي.
روّاد: أي إنّهم قادة قافلة التوحيد والمتقدّمون فيها.
فبهم ملأت سماءك وأرضك: أنت بواسطة وجود الأئمّة ملأت السماء والأرض.
حتّى ظهر أن لا إله إلا أنت: حتّى ظهرت حقيقة كلمة لا إله إلا أنت والتوحيد.
هل يمكن أن يظهر التوحيد من دون الولاية؟
فما معنى الظهور؟ فالتوحيد حاصل سواء كان هناك تعيّن أم لم يكن، التوحيد موجود. وظهور التوحيد يحتاج إلى ظهور مظهَر، وما لم يكن هناك مظهَر فلا ظهور، وفي مقام الذات الذي هو مقام غيب الغيوب التوحيد متحقّق، حيث لا كثرة وحيث لا ظهور، بل هو عالم العماء المحض وعالم الظلمات، فهناك ليس عالم النور، وذاك العالم بسبب شدّة اندكاك النور فيه يقال له: عالم العماء، هناك لا مَظهَر ولا مُظهِر ولا ظهور.
فإذن ظهور لا إله إلا الله هو بواسطة ماذا؟ بواسطة الولاية، أي إنّ الولاية بواسطة هيمنتها وقوّتها صارت علّة تامّة لتنزّل المشيئة المطلقة للحقّ، وكلّ ما في هذه العوالم الربوبيّة هو وجود متنزّل للولاية.
ما معنى بهم ملأت سماءك وأرضك؟
فإذن بوجود الأئمّة عليهم السلام «ملأت سماءك وأرضك»، فوجود جبرائيل الأمين هو بواسطة وجود خاتم الأنبياء، ووجود ميكائيل وإسرافيل وعزرائيل هو بواسطة وجود خاتم الأنبياء، وهؤلاء مرحلة نازلة لذلك الوجود المقدّس والمتعالي، وجميع عوالم الوجود هي مراتب وتعيّنات لوجود مقام الولاية المطلقة؛ «فبهم ملأت سماءك وأرضك»، أي فبواسطة وجود هؤلاء وبواسطة ولاية هؤلاء ملأت سماءك وأرضك حتّى ظهر ذلك التوحيد الذي كان في عالم العماء وبالصرافة وتلك الوحدة الحقّة الحقيقيّة وعالم الخفاء والظلمات، ظهر وتجلّى في عالم الثبوت والإثبات. فإذن يمكن أن نقول: إنّ الولاية هي العلّة والمبدأ لجميع التعيّنات في جميع العوالم الربوبيّة وعوالم الإمكان.
هذه الولاية ـ التي هي عبارة عن نزول مشيئة الله وظهور التوحيد ـ هي ذلك الشيء الذي أودعه الله في وجود الإنسان۱.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد