المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
ما هي حقيقة الولاية؟ ومن هم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ و هل يشمل هذا العنوان جميع المؤمنين أم صنفا خاصا منهم؟ أسئلة مهمة أجاب عنها العلامة الطباطبائي في هذا البحث القرآني الرائع الذي نقله عنه تلميذه العلامة الطهراني قدس الله سرهما.
ومن الأمور التي بينها قدس سره في هذا البحث تفسير قوله تعالى {هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً}، حيث أوضح حقيقة الولاية المقصودة والسر في التعبير هنا بالولاية دون غيرها من صفات الكمال و الجلال لله تعالى.
هو العليم
حقيقة الولاية عند العلامة الطباطبائي
وتفسير آية ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ﴾
إعداد: الفريق العلمي في موقع مدرسة الوحي
بحث منتخب من كتاب «معرفة الإمام»
لسماحة العلاّمة السيّد محمد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
و كتاب «الميزان» لسماحة العلّامة طباطبائي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى الله على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العلى العظيم
[يقول العلامة الطهراني رضوان الله عليه:] إنّ استاذنا الكريم سماحة آية الحقّ و العرفان و سند العلم و الإيقان المرحوم آية الله الطباطبائيّ أفاض الله علينا من بركات نفسه و تربته الشريفة قال في رسالة «الوِلَايَة»۱ و في تفسير «الميزان»: الْوَلَاية هِيَ الْكَمالُ الأخيرُ الْحَقِيقِيّ لِلإنْسَانِ وَ إنَّهَا الْغَرَضُ الأخِيرُ مِنْ تَشْرِيعِ الشَّرِيعَةِ الْحَقَّةِ الإلَهيَّةِ.
حقيقة الولاية في تفسير الميزان
و قال في التفسير: و الولاية و إن ذكروا لها معانٍ كثيرة، لكِنَّ الأصْلَ في مَعْنَاهَا ارْتِفَاعُ الْوَاسِطَةِ الْحَائِلَةِ بَيْنَ الشَّيْئَينِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ بَيْنَهُمَا مَا لَيْسَ مِنْهُمَا. ثمّ استعيرت لقرب الشيء من الشيء بوجهٍ من وجوه القرب كالقرب نسباً، أو مكاناً، أو منزلة، أو بصداقة، أو غير ذلك.
و لذلك يطلق الوليّ على كلّ من طرفي الولاية، و خاصّة بالنظر إلى أنّ كلّا منهما يلي من الآخر ما لا يليه غيره؛ فالله سبحانه وَلِيّ عبده المؤمن، لأنه يلي أمره، و يدبّر شأنه فيهديه إلى صراطه المستقيم، و يأمره و ينهاه فيما ينبغي له أو لا ينبغي، و ينصره في الحياة الدنيا و في الآخرة.
و المؤمن حقّاً وَلِيّ ربّه لأنه يلي منه إطاعته في أمره و نهيه، و يلي منه عامّة البركات المعنويّة من هداية، و توفيق، و تأييد و تسديد، و ما يعقّبها من الإكرام بالجنّة و الرضوان.
فأولياء الله- على أيّ حال- هم المؤمنون، فإنّ الله يعدّ نفسه وليّاً لهم في حياتهم المعنويّة، حيث يقول: ﴿وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ﴾٢.
غير أنّ الآية التالية لهذه الآية: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾٣. و هي قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ﴾ المفسّرة لقوله: أولياء الله، تأبى أن تكون الولاية شاملة لجميع المؤمنين، و فيهم أمثال الذين يقول الله سبحانه فيهم: ﴿وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ﴾٤.
فإنّ قوله في الآية التالية: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ﴾ يعرّفهم بالإيمان و التقوى مع الدلالة على كونهم على تقوى مستمرّة سابقة على إيمانهم من حيث الزمان؛ حيث قيل: ﴿ءَامَنُوا﴾ ثمّ قيل عطفاً عليه: ﴿وَ كَانُوا يَتَّقُونَ﴾.
فدلّ على أنهم كانوا يستمرّون على التقوى قبل تحقّق هذا الإيمان منهم. و من المعلوم أنّ الإيمان الابتدائيّ غير مسبوق بالتقوى، بل هما متقاربان أو هو قبل التقوى، و خاصّة التقوى المستمرّة؛ فالمراد بهذا الإيمان مرتبة أخرى من مراتب الإيمان غير المرتبة الأولى منه، فقد تقدّم في الجزء الأوّل من الكتاب آية ۱٣۰ من سورة البقرة أنّ لكلّ من الإيمان و الإسلام، و كذا الشِّرك و الكُفر مراتب مختلفة بعضها فوق بعض.
فالمرتبة الأولى من الإسلام إجراء الشهادتين لساناً و التسليم ظاهراً؛ و تليه المرتبة الأولى من الإيمان، و هو الإذعان بمؤدّى الشهادتين قلباً إجمالًا، و إن لم يسر إلى جميع ما يعتقد في الدين من الاعتقاد الحقّ.
و لذا كان من الجائز أن يجتمع مع الشرك من بعض الجهات، قال تعالى: ﴿وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ﴾.
و لا يزال إسلام العبد يصفو و ينمو حتى يستوعب تسليمه لله سبحانه في كلّ ما يرجع إليه، و إليه مصير كلّ أمر.
و كلّما ارتفع الإسلام درجة ورقي مرتبةً، كان الإيمان المناسب له الإذعان بلوازم تلك المرتبة حتى يسلم العبد لربّه حقيقة معنى ألوهيته، و ينقطع عنه السخط و الاعتراض، فلا يسخط لشيء من أمره، من قضاءٍ و قدر و حكم، و لا يعترض على شيء من إرادته، و بإزاء ذلك الإيمان اليقين بالله و جميع ما يرجع إليه من أمر، و هو الإيمان الكامل الذي تتمّ به للعبد عبوديّته.
قال تعالى: ﴿ فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾۱.
و الأشبه أن تكون هذه المرتبة من الإيمان أو ما يقرب منه هو المراد بالآية، أعني: قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ﴾ فإنّه الإيمان المسبوق بتقوى مستمرّة دون الإيمان بمرتبته الأولى كما تقدّم.
أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
على أنّ توصيفه أهل هذا الإيمان بأنهم ﴿لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ يدلّ على أنّ المراد منه الدرجة العالية من الإيمان الذي يتمّ معه معنى العبوديّة و المملوكيّة المحضة للعبد الذي يرى معه أنّ الملك لله وحده لا شريك له، و أن ليس إليه من الأمر شيء حتى يخاف فوته أو يحزن لفقده.
و ذلك أنّ الخوف إنّما يعرض للنفس عن توقّع ضرر يعود إليها، و الحزن إنما يطرأ عليها لفقد ما تحبه أو تحقّق ما تكرهه ممّا يعود إليها نفعه أو ضرره. و لا يستقيم تحقّق ذلك إلّا فيما يرى الإنسان لنفسه ملكاً أو حقّاً متعلّقاً بما يخاف عليه أو يحزن لفقده من ولد أو مال أو جاه أو غير ذلك.
و أمّا ما لا علاقة للإنسان به بوجه من الوجوه أصلًا، فلا يخاف الإنسان عليه، و لا يحزن لفقده البته.
و الذي يرى كلّ شيء ملكاً طلقاً لله سبحانه لا يشاركه في ملكه أحد، لا يرى لنفسه ملكاً أو حقّاً بالنسبة إلى شيء حتى يخاف في أمره أو يحزن.
و هذا هو الذي يصفه الله من أوليائه، إذ يقول: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
فهؤلاء لا يخافون شيئاً و لا يحزنون لشيء لا في الدنيا و لا في الآخرة إلّا أن يشاء الله، و قد شاء أن يخافوا من ربّهم و أن يحزنوا لما فاتهم من كرامته إن فاتهم. و هذا كلّه من التسليم لله.
وصف الولاية مختصّ بطائفة خاصة من المؤمنين
و بعد بحث بليغ لسماحة العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه حول اتّصاف أوليآء الله بعدم الخوف و عدم الحزن، و أنّ القرائن تفيد بأنّ هاتين الصفتين تتحقّقان لهم في هذه الدنيا، و أنّ الآية تبيّن أحوالهم فيها، يقول في ختام بحثه:
و الآية تدلّ على أنّ هذا الوصف إنّما هو لطائفة خاصّة من المؤمنين يمتازون عن غيرهم بمرتبة خاصّة من الإيمان تخصّهم دون غيرهم من عامّة المؤمنين، و ذلك بما يفسّرها من قوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ﴾ بما تقدّم من تقرير دلالته.
و بالجملة فارتفاع الخوف من غير الله و الحزن عن الأولياء ليس معناه أنّ الخير و الشرّ، و الضرر و النجاة و الهلاك، و الراحة و العناء، و اللذّة و الألم، و النعمة و البلاء متساوية عندهم و متشابهة في إدراكهم؛ فإنّ العقل الإنساني، بل الشعور العامّ الحيوانيّ لا يقبل ذلك. بل معناه أنهم لا يرون لغيره تعالى استقلالًا في التأثير أصلًا، و يقصرون الملك و الحكم فيه تعالى فلا يخافون إلّا إيّاه أو ما يحبّ الله و يريد أن يحذروا منه أو يحزنوا عليه.
إنّ التوحيد الكامل يقصر حقيقة الملك في الله سبحانه، فلا يبقى لغيره شيء من الاستقلال في التأثير حتى يتعلّق به لنفسه حبّ أو بغض، أو خوف أو حزن، أو فرح أو أسى، أو غير ذلك.
و إنّما يخاف هذا الذي غشيه التوحيد و يحزن أو يحبّ أو يكره بالله سبحانه و يرتفع التناقض حينئذٍ بين قولنا: إنّه لا يخاف شيئاً إلّا الله، و بين قولنا: إنّه يخاف كثيراً ممّا يضرّه و يحذر أموراً يكرهها، فافهم ذلك.۱
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لقوله تعالى: ﴿هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلّهِ الْحَقِّ ...﴾
[و قال العلامة الطباطبائي قدس سره] في مستهلّ كلامه عند تفسير الآية الكريمة المرقّمة ٤٤ من سورة الكهف، و هي قوله: ﴿هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً﴾:
القراءة المشهورة بفتح الواو، و قُرئ بكسرها، و المعنى واحد. و ذكر المفسّرون أنّ الإشارة بقوله: ﴿هُنالِكَ﴾ إلى معنى قوله: ﴿احِيطَ بِثَمَرِهِ﴾. أي: في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت، و هو موضع الإهلاك و وقته الولاية لله.
و أنّ الولاية بمعنى النصرة؛ أي: أنّ الله سبحانه و تعالى هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء، و ينقطع عن كافّة الأسباب لا ناصر غيره.
و هذا معنى حقّ في نفسه لكنّه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات٢، و هو بيان أنّ الأمر كلّه لله سبحانه و هو الخالق لكلّ شيء المدبّر لكلّ أمر، و ليس لغيره إلّا سراب الوهم و تزيين الحياة لغرض الابتلاء و الامتحان.
و لو كان كما ذكروه، لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله:﴿لِلَّهِ الْحَقِ﴾ بالقوّة، و العزّة، و القدرة، و الغلبة و نحوها، لا بمثل الحقّ الذي يقابل الباطل، و أيضاً لم يكن لقوله: «هو خير ثواباً و خير عقبا» وجه ظاهر و موقع جميل.
و الحقّ- و الله أعلم- أنّ الوَلاية بمعنى مالكيّة التدبير، و هو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها، كما مرّ في الكلام على قوله تعالى: ﴿إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ﴾۱. أي: عند إحاطة الهلاك، و سقوط الأسباب عن التأثير، و تبيّن عجز الإنسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال و الاستغناء أن ولاية أمره و كل شيء و ملك تدبيره لله، لأنه إله حقّ له التدبير و التأثير بحسب واقع الأمر.
و غيره من الأسباب الظاهريّة المدعوّة شركاء له في التدبير و التأثير باطل في نفسه لا يملك شيئاً من الأثر إلّا ما أذن الله له و ملّكه إيّاه، و ليس له من الاستقلال إلّا اسمه بحسب ما توهّمه الإنسان، فهو باطل في نفسه حقّ بالله سبحانه، و الله هو الحقّ بذاته المستقلّ الغنيّ في نفسه.
و إذا أخذ بالقياس بينه- تعالى عن القياس- و بين غيره من الأسباب المدعوّة شركاء في التأثير، كان الله سبحانه خيراً منها ثواباً، فإنّه يثيب من دان له ثواباً حقّاً، و هي تثيب من دان لها و تعلّق بها ثواباً باطلًا زائلًا لا يدوم؛ و هو مع ذلك من الله و بإذنه. و كان الله سبحانه خيراً منها عاقبة، لأنه سبحانه هو الحقّ الثابت الذي لا يفنى و لا يزول؛ و لا يتغيّر عمّا هو عليه من الجلال و الإكرام، و هي أمور فانية متغيّرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا، يتولّه إليها الإنسان، و يتعلّق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله، و إنّ الله لجاعلها صعيداً جرزاً٢. ٣