المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
كيف تكون موجودات العالم بأسرها آيات إلهيّة؟ هل يُمكن ملاحظة الموجودات بكلا اللحاظين: الآليّ والاستقلاليّ؟ ما هي الأمور التي عبّر عنها الحقّ تعالى في القرآن بالآية؟ بأيّ معنى يُمكننا تفسير الآية الشريفة ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ﴾؟ هل ينبغي الشكّ في لقاء الله تعالى؟ لماذا أرى اللهُ تعالى آيتَه الكبرى لرسوله الكريم؟ كيف يُمكن التخلّص من رؤية الذات، والتمكّن من رؤية الله تعالى؟
هي تساؤلات سعت هذه المقالة إلى الإجابة عنها بنحو مختصر وواضح.
هو العليم
طريقان بديعان ودقيقان لإثبات إمكانيّة لقاء الله
الطريق الثاني
بحث منتخب من محاضرات
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
بسم اللَه الرّحمن الرّحيم
الحمدُ لِله ربّ العالَمين
والسّلام على خيرِ خَلقه محمّدٍ وأهلِ بيته أجمَعين
ولعنةُ اللَه على أعدائهم إلى يوم الدّين
موجودات العالم بأسرها آيات إلهيّة
هناك طريق آخر للاستدلال وهو: أنّ القرآن المجيد يَعدُّ جميعَ الموجودات، من الموجودات الأرضيّة والسماويّة، ذوات النفوس وغيرها .. يَعدُّها جميعًا آيات .. ويقول: إنّها آيات الله.
سأوضّح لكم في البداية معنى الآية لنرى ماذا يريد القرآن أنْ يقول، وعلى أيّ معنى يريد أنْ يطلعنا عندما يسمّي هذه الموجودات كلّها باسم "الآية". فالآية تعني العلامة والمشير.
أمّا العلامة، فإنّ الشيء الذي تنظرون إليه في هذا العالم على أنّه علامة، هو الشيء الذي له جهتان: جهة ذاتية، وجهة علامتيّة آيتيّة أي بالنسبة إلى الغير. أليس كذلك؟! فاللافتة التي تجعلونها عند باب الدار لتدلّ على أنّ هناك مجلس عزاء، هذه اللافتة لها جهة ذاتية استقلالية وهي التي تتمثل بكونها خضراء اللون، خشبها كذا ... قدْ عُلّقت في ذلك الموضع من الجدار وكُتبَ عليها كذا وكذا .. سواء كُتبَ عليها بالحبرِ أم طُرزت بالخيوط .. هذه مثلاً هي الجهات الخصوصية الذاتية للّافتة.
الجهة الثانية هي الجهة الآيتيّة، أي إنّها تشيرُ إلى انعقاد مجلسٍ في هذا البيت وأنّ الناس مدعوّون إليه. إذنْ، فيها جهة آيتيّة، أليس كذلك؟
أمّا الشيء الذي لا يكون له جهة ذاتيّة على الإطلاق، وليس له إلا جهة يدلّ فيها على الغير فهذا هو الآية المحضة. مثلاً، افرضوا أنّ لدينا نظّارة ننظرُ بواسطتها، فهذه أيضًا لها جهة ذاتية وأخرى آيتيّة. ما هي جهتها الذاتية؟ هي أنّ زجاجها أبيض، دائريّ أو مستطيل الشكل، صنعَ في مصنع معين ... هذه هي الجهة الذاتية فيها، وأمّا الجهة الآيتيّة: فهي أنّها تُظهر الغير وتحاكيه فقط؛ فإذا أراد الإنسان أن ينظر إلى ذات النظّارة فسوف لن يرى بواسطتها أيّ شيء، مثلاً إذا أراد أن يتأمّل النظارة وتحديد نوعيّة زجاجها هل فيه تموّج أم لا؟ أين صنعت؟ كيف شكلها؟ فسوف لا يرى شيئًا أصلاً، وأمّا عندما يضعها على عينيه ولا يلتفت إلى زجاجها، فحينها بواسطة نفس هذا الزجاج يتمكن من رؤية الغير، وسوف يرى جميع الموجودات بواسطتها. هذه هي جهة الحكاية والإراءة، وهي حيثيّة الآيتيّة، أي جهة الإظهار والإبراز.
اللحاظان الآليّ والاستقلاليّ في الموجودات
فالماء الصافي أيضًا كذلك.. حاولْ أنْ تقفَ قربَ حوضٍ أو مسبح ماؤه صاف هادئ لا تموّج فيه، فانّك سترى صورةَ جميعِ الأشجار المحيطة بهذا المسبح أو الحوض، وصورة القمر والشمس والنجوم وحتى صورتك أنت، وكذلك الأشخاص الذين يقفون إلى جانب الحوض، أليس كذلك؟ هذا من جهة الإراءة، أي إنّ هذا الحوض يُظهرُ شيئًا غيرَه. أمّا لو كان للماء ذاتية، أي كان يُظهرُ نفسه، كأن يكون فيه موج مثلاً أو يكون فيه تلوث، فعندما يكون كذلك لا يعود قادرًا على أنْ يظهر غيره ولا تنعكس الصوَّرُ فيه.
المرآة كذلك، لها جهة ذاتية هي أنّها من زجاج، ولها وزن بضع كيلوغرامات، ظهرُها مطليّ بالزئبق .. هذه هي خصوصيات المرآة الذاتية. ولها جهة أخرى هي أنّها تظهرُ الغير. وكلّما كانت جهة الذاتية أقل ـ في نظر الرائي ـ كانت جهة الإراءة للغير أفضل... .
... المرآة الجيدة هي المرآة التي ليس فيها شيء من ذلك، وجهة الذاتية فيها قليلة بحيث لا تُبدي شيئًا من نفسها. فعندما تنظرون في المرآة لا ترون شيئًا غير أنفسكم، فهي تُبدي صورَكم أنتم، هكذا تكون المرآة وهكذا تكون الآية. إذن، هذا هو معنى الآية: فالآية تعني العلامة فقط دون إضافة شيء آخر.
القرآن المجيد يقول أن جميع هذه الموجودات هي آية لله تعالى. ماذا يعني هذا؟ يعني إنّها مرآة الله المشيرة إليه.
وهذا من مختصّات القرآن الكريم، وعجيب جدًا أنْ يعدّ القرآن جميع هذه الخصوصيات محصورة بالذات المقدسة لرب العالمين، وجميعها آية، هذا غريب جدًا!! فهو يحصرها بذات الله ويسميها جميعًا آية... .
الأمور التي عبّر عنها الحقّ تعالى في القرآن بالآية وتفسير آية إنّ في خلق السموات والأرض...
... وفي سورة البقرة نقرأ:
﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ والْأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وتَصْرِيفِ الرِّياحِ والسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾۱.
ما أروع هذه الآية! فهي تثير العجب!! وما أوضح ما تبيّن به المطلب! تقول: إنّ في خلق السموات والأرض والاختلاف الذي يقع بين الليل والنهارـ فيكون النهار في بعض الأوقات أقصر من الليل، والليل أطول، وفي أوقات أخرى يكون العكس، وفي مختلف أرجاء الدنيا يشاهد في كلّ نقطة من نقاط الأرض هذا الاختلاف بنحو خاص بهاـ وفي السفن التي تسير فوق الماء بالناس والبضائع والأموال التجارية وتجول الدنيا من طرف إلى آخر بواسطة الرياح، فهذه بأجمعها آيات.
كذلك مياه الرحمة التي نُنزلها من السماء مطرًا، قطرةً قطرة، لا أنّنا نفتح باب السماء دفعة واحدة ونجريه فوق رؤوس الناس كنهر" كرج"!! وإنّما هذه المياه ننشرها قطرةً قطرة مطرًا يُحيي الأرض بعد أن كانت ميتةً، وبواسطته نخلقُ لكم ونبثّ في الأرض من كلّ دابة، حتى أنّ خلقتكم وخلقة كلّ الحيوانات والطيور والأسماك والنباتات والجمادات إنّما هي بواسطة هذا الماء، توجد وتحيى به، وكلّ ذلك آيات لله.
وهذه الغيوم المسخّرة بين السماء والأرض وتتحرك بأمر ربها من مكان إلى آخر، وهذه الرياح التي تهبّ من هنا وهناك لتلطّف الأرض وتبرّدها وتجعلها ملائمة للحياة، وتلقّح الأشجار وتقوم بوظائف أخرى عديدة، هذه كلّها آيات وعلامات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ لأولئك الذين يستعملون عقولهم فيرونها آيات... .
... فإذن، كلّ من ينظر إلى شيء من هذه الموجودات فإنّه ينظر إلى الله، وهو قد شاهد الله، فلقاء الله من خلال ذلك أوضح، وهو سهل للغاية، فهو سهل إلى الحدّ الذي يجعل الإنسان لا يرى غيرَ الله، فالشخص الذي ينكر وجود الله مع وجود هذه الآيات، ويقول: لا أثر لله! فهو ينطبق عليه: «عميتْ عينٌ لا تراكَ عليها رقيبًا»۱، فعينه عمياء... .
تفسير بديع للآية الشريفة ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ﴾
... وعلى كلّ تقدير، هناك آية عجيبة في القرآن المجيد تقول:
﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ، أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾٢و٣ يعني: سوف نريهم آياتنا بسرعة وبشكل قطعيّ، وسنظهرها لهم؛ وذلك في نحوين: في الآفاق، أي ما هو خارج عن وجود ذاتهم، من الجبل والباب والصحراء واليابسة والخضار والماء والشمس والقمر والمراكب والهواء والغيوم واختلاف الليل والنهار والنساء والرجال والبلابل والحيواناتـ سواء المواشي أم المفترسةـ والأسماك والبحر وطيور الهواء ... جميع ذلك آيات الله ومرايا قد نصبناها لإراءة الله، فالآية تعني: المرآة، وجميع هذه الموجودات مرآة لله، وكلّ شخصٍ يستعين بمرآة ويشاهد من خلالها، ولكنْ عليكم أن تفكّروا بهذه المسألة وهي: أنّه إلى أيّ حدّ قدْ أظهرَ الله نفسه من خلال هذه الآيات؟! فمن الطبيعي أنّ كلّ واحدة من هذه الآيات التي نرى الله من خلالها هي مرآة، فنحن لمْ نُعطَى مرآةً واحدةً، وإنّما أُعطيَ لكلّ شخصٍ في كلّ لحظةٍ المليارات من المرايا .. والتي يرى بواسطة كلّ واحدة منها ناحية من الله، ويستطيع أنْ يتشرّف بلقاء الله بواسطة كلّ واحدة منها، ولكنْ هذا فيما لو لم ينظر إلى ذاك الموجود بنفسه ولا يراه، وإنّما يرى الآية، ويلحظه كمرآة .. كما هو الحال عندما تذهبون إلى المحلّ الذي يبيع المرايا، فتحملون المرآة وتتفحصونها وتنظرون إليها لأنّكم تريدوها بنفسها، حينئذٍ سوف لا تلتفتون إلى صورتكم المنعكسة فيها، وأمّا لو أردتم أن تنظروا إلى أنفسكم، فحينئذٍ سوف تُعرضون عن النظر إلى المرآة نفسها، ولا تتوجّهون إلى الآية نفسها، وإنّما تنظرون من خلالها وبواسطتها نظرةً آيتيّة ومرآتيّة.
وكذلك انظروا على أساس هذه النظرة إلى سائر الموجودات! فحينما تنظرون إلى زيد لا تشاهدوا زيدًا! وإنّما انظروا إلى الله من خلاله، كذلك حينما تنظرون إلى عمرو أو تنظرون إلى الشجرة أو ترون البلبل أو تنظرون إلى الماء .. فلتروا الله في كلّ ذلك، لأنّ كلّ ذلك مظاهر، يعني هي محلّ ظهور الله، يعني هي ليستْ شيئًا من نفسها، وإنّما هي ظهور الله، فهي" مَجلى" بمعنى: محلّ تجلّي الله، وهي لا شيئيّة لها من ذاتها وإنّما هي مَظَهرٌ لله. فهذا حينما يراك وينظر إليك فإنّه لا يرى شيئًا غير الله، وهذا هو معنى قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم.
ما معنى" الأنفس"؟" الأنفس" تعني: أن تشاهد نفسك وتنظر إليها، أي تعال من الخارج وادخل في نفسك، فذات النفس هي آية من آيات الله .. هي آية كبيرة بل وأكبر آية، حتّى أنّ الكثير ملتزمون بأنّ آية النفس هي الأهمّ بالنسبة لسائر آيات الله، وأنّ الذين يرومون السير التكاملي عن طريق التفكّر بالنفس والتوجّه إليها، يصلون إلى هدفهم بشكل أسرع، لأنّهم يسيرون من خلال المرآة الأكبر، والتي هي توأمٌ مع ذات الإنسان، وأقربُ إليه من كلّ الأشياء، فيريدون أن يشاهدوا الله بواسطة هذه المرآة الواسعة.
فنحن نُظهرُ الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة حتّى يتّضحَ لهم أنّه هو الحقّ دون غيره، كم هو لطيف هذا الكلام؛ من أنّه لو تنظرون إلى وجود جميع هذه الموجودات بشكلٍ مستقلٍّ فإنّها باطلٌ بأجمعها، والله هو الحقّ فقط، ففي جميع العوالم أَنَّهُ الْحَقُ أي: الله دون غيره، فالله هو الحيّ، الله العليم، الله الحكيم، الله الخبير .. والله هو القدير، وليس لشيء من هذه الموجودات أثرٌ من هذه الأسماء والصفات.
﴿أَ ولَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾؛ أي: إنّ لله اطّلاع وهيمنة وسيطرة، وكلّ الموجودات في قبضة الله ومشهودة له، وفي محضره؛ فهي في محضره تكوينًا ووجودًا ومندكّة في ذاته.
لا ينبغي الشكّ في لقاء الله تعالى!
﴿أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ﴾، فلا ينبغي أن يكون للإنسان شكّ في الله، كما ينبغي أن لا يكون لديه شكّ في لقاء الله، لأنّ جميع هذه الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة إنّما هي مظهرٌ لله، ولكن واقعهم: إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ فهؤلاء الناس في شكّ، يشكّون في إمكانيّة لقاء الله وإمكانيّة رؤيته، عجيب كيف أنّ هذه الآية: ﴿أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ﴾ قد وقعتْ بعد قوله: ﴿سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وفِي أَنْفُسِهِمْ﴾؛ يعني: إنّ إظهارنا وإراءتنا للآيات الآفاقيّة والأنفسيّة، بل نفس الآيات الآفاقيّة والأنفسيّة إنّما هي لأجل لقاء الله، فجميع هذه الآيات هي لقاء الله، إلّا أنّ هؤلاء الناس: ﴿أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ﴾؛ أي فليعلموا! أنّ الله محيط بكلّ بشيء، فأيّ شيء يمكن أن تسمّوه شيئًا فإنّه الله محيطٌ بوجوده وأسمائه وصفاته، وحقيقة ذاك الشيء مندكّة في أسماء الله وصفاته، يعني هو الله.
لأجل ذلك، فإنّ هذه الآية إحدى الآيات القرآنيّة العجيبة جدًّا، وهي مشتملة على جهاتٍ عديدة تستحقّ البحث، وينبغي التدقيق فيها، فإنّها تثبت لقاء الله بالنسبة لنا بشكلّ جيّد، كذلك الآيات الأخرى التي بينّاها وذكرناها خلال توضيحنا معنى الآيتيّة.
وبناءً عليه، فإنّ هناك آيات في عالم الوجود تظهرُ الله، إلّا أنّ توجّه الإنسان الى هذه الآيات من خلال نظرة استقلاليّة وعدم النظر اليها بنظرةٍ آيتيّة ومرآتيّة، سوف يمنعه من رؤية الله، فإذا لم ينظر الإنسان إلى هذا الماء أو هذه الشجرة أو هذا الجبل نظرةً آيتيّة، فبالطبع سوف لن يرى الله، وبذلك يكون قد سدّ الطريق لرؤية الله.
كما أنّ القرآن يقول: ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾۱؛ أيّ إنّ ذلك آيةّ ولكنّ أكثر الناس لم يؤمنوا، أي لم يروا ولم ينظروا إلى ذلك نظرةً آيتيّة، بل رأوه على نحو الاستقلال، فينبغي أن يروه كآية، حينئذٍ سوف يرون الله، ولكنّ الأكثريّة لم يروا. هذه الآية قد جاءت في القرآن الكريم على لسان الكثير من الأنبياء الذين كانوا يدعون قومهم .. ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ﴾؛ أي الأكثريّة لم يؤمنوا .. ﴿وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها﴾٢؛ بمعنى أنّهم لم ينظروا إلى الآية كآية.
﴿وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ﴾٣؛ أي ما تأتيهم آية من آيات الله لتوجّهَهم نحو رؤية الله ومشاهدته من خلالها، إلا وكانوا يُعرِضون عنها، يعني: كانوا ينظرون إليها نظرةً استقلاليّة، لا نظرةً آيتيّة... .
إراءة الله تعالى آيتَه الكبرى لرسوله الكريم
... على كلّ تقدير، هذه الآيات القرآنيّة تبيّن أنّ جميع الموجودات آيةٌ ومَظهرٌ لله، وفيما يتعلّق بالنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم حول ليلة المعراج يقول: ﴿فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى﴾٤؛ أي إنّ الله قد أرى النبيّ الأكرم الآية الكبرى، يعني تلك الآية التي هي أكبر من سائر الآيات، وذلك لأنّ جميع الموجودات هي مرايا، إلا أنّ المرايا تختلفُ عن بعضها البعض، فلو حملتم مرآةً صغيرة في يدكم، سوف لا ترون من خلالها أكثر من أسنانكم .. ولو كانت أكبرَ لأرتكم فمكم .. ثمّ لو كانتْ أكبر لأبانتْ كلّ الوجه .. والمرآة الأكبرُ من ذلك تُري جميعَ البدن، فهي مرآة تامّة في الظهور، ثمّ تصوّروا أنّ هناك مرآةً نضعها أمامكم ترونَ بواسطتها ما في داخل بدنكم؛ فترون الخلايا وكيفيّة جريان الدم ونبضات القلب .. ثمّ تخيّلوا أنّ هناك مرآة أمامكم تقرؤون بواسطتها كيفيّة تفكيركم، وتحاكي ما لديكم من العلوم والقدرة والشجاعة وما شاكل ذلك .. فالمرايا تختلف عن بعضها البعض، لذلك فإنّ كلّ عالم الوجود هو مرآة:
اى آفتاب آئينه دار جمال تو | *** | ...۱و٢ |
أي إنّ الشمس حاكية لجمال الله، ولكنْ هناك مرآة كلّ شيء فيها مشهود وجليّ، ألا وهي المرآة الكبرى.
النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بلغَ ذلك المقام الذي أظهر الله له تلك الآية الكبرى وأراه إيّاها، يعني: قدْ اندكّ وجوده وانمحى في الاسم الأعظم وفي التجلّي الأوّل، فأراه المرآة الإلهيّة في مقام الأحديّة ومن نقطة نظر مقام الواحديّة؛ يعني: ذات الله المقدّسة، وهو قد فني فيها، وأصبحَ متحقّقًا في اسم الواحديّة في مقام البقاء، هذا الاسم الذي تندكّ فيه جميع الموجودات وتفنى فيه كلّ هذه الآيات، فمن خصوصيّة هذه المرآة أنّها من جهةٍ تُري الذات وتظهرها ومن جهةٍ أخرى فإنّ جميع المرايا وكلّ تلك الآيات مندكّة في هذا الاسم، فهي آية عجيبة ﴿فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى﴾.
رؤية الذات أو رؤية الله تعالى
حسنًا .. هذه الليلة قد استدللنا على امكانيّة لقاء الله بواسطة هذين الطريقين المصرَّح بهما في القرآن المجيد؛ أحدهما بواسطة مفهوم الآية [الذي توصف به الموجودات فتسمّى آيات]، والآخر بواسطة تلك الآيات الدالّة على انحصار السمع والبصر والعلم والقدرة وغيرها في الذات المقدّسة لله، والتي على الإنسان أنْ يسعى بالتدريج للوصول إليها والتحقّق فيها بحول الله وقوّته، وذلك بواسطة العلم والعمل ليبلغَ مرحلة لا يعود يرى الجنبة الذاتية لهذه الآيات وإنّما ينكشف له بواسطتها الجانب الإلهيّ.
حقّ بين نظرى بايد، تا روى تو را بيند | *** | چشمى كه بوَد خود بين، كى روى تو را بيند٣و٤ |
فبالمقدار الذي ينحسر النظر الاستقلاليّ، فسوف يقوى النظر إلى الله ويزيد، وكلّما ازداد النظر إلى الجهة الاستقلاليّة فإنّ الجنبة الآيتيّة سوف تضعف وتنحسر، ولا يعود الإنسان يرى الله، فلو أخذتَ مرآة سالمة ثمّ وضعت يدك عليها أو خرّبتها، أو تمسح الزئبق من خلفها وتجرحها وما شابه ذلك .. فسوف تُظهرُ هذه المرآة تلك الخطوط المتعاكسة إلى الحدّ الذي تخاف أنتَ من صورة نفسك! فترمي بها على الأرض وتكسرها، والحال أنّه لا يوجد مرآة أخرى. هكذا حال الإنسان من أثر المعصية، فإنّ جنبة الرؤية الذاتيّة والاستكبار والاستقلال تزداد عنده إلى الحدّ الذي لا يستطيع معه أنْ يرى الله، وعلى العكس من ذلك فيما إذا تقدّم في خطى الطاعة، فإنّ نظره الاستقلاليّ ينحسر، ويرى الله.٥
اى آفتاب آيينه دار جمال تو | *** | مشك سياه مجمره گردان خال تو |