المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم القرآن والحديث والدعاء
التوضيح
لقد تكرّر ذكر لقاء الله في القرآن الكريم والروايات الشريفة، ولكن ما هي حقيقة هذا اللقاء؟ وكيف للإنسان أن يرى الله ويلقاه وهو ليس بجسمٍ يُرى بالعين؟! وكيف يمكن أن يدركه وهو الذي لا تدركه العقول والأوهام؟! تجيب هذه المقالة، المستخلصة من محاضرة للعارف الربانيّ سماحة العلامة السيد محمد حسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، عن هذا السؤال العميق بأسلوب مختصر يفتح آفاق الفهم والتأمل.
هو العليم
ما هي حقيقة لقاء الله؟
بحث منتخب من محاضرات
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
ليس المراد من لقاء الله هو لقاء نعمه و جنته
[إنّ] الآيات القرآنيّة وأخبار الأئمّة عليهم السلام فيما يتعلّق بمسألة [لقاء الله] كثيرة وتفوق الإحصاء، حيث أفادتْ ذلك بعناوين مختلفة وطرق كثيرة، وكشفتْ لنا عن إمكانيّة هذا الطريق، وأثبتتْ أنّ بإمكان الإنسان أنْ يجتاز هذا الطريق ويبلغَ نهايته ومقصوده... .
فما هو المراد من لقاء الله [المذكور في الآيات و الروايات]؟
أولئك [أي المنكرون للقاء الله] يقولون: إنّ المراد من لقاء الله هو لقاء نِعم الله وجنّته؛ التفاح.. الإجّاص.. حور العين.. الشجر.. هذه الأشياء التي تعطى للإنسان في الجنّة..
هل حقاً هذا هو لقاء الله؟! وهل كانَ الله عاجزاً عن استعمال هذه الألفاظ وبيانها في كتابه فاستعمل كلمة (لقاء الله)؟!
وعلاوةً على هذه الآيات المحرّكة للإنسان نحوَ لقاء الله.. فما معنى أنْ يعطى الإنسان يوم القيامة إجّاصتين!! أو يعطى تفاحتين يضعهما بيده؟!
هل هذا هو معنى لقاء الله؟! أليس من الحيفِ والإجحاف أنْ يُنزلَ الإنسانُ لقاء الله إلى هذا الحدّ؟! فيعبّرون عن لقاء الله بـ «تفّاحتين أو إجّاصتين»؟!
بعضهم يقول: لا.. بل المراد هو لقاء الأئمّة، فلا يرى الإنسان ربَّه، وإنّما يمكنه رؤية الإمام، وبلوغ معرفة الإمام، ومن وصلَ إلى مقام لقاء الإمام فقد وصل إلى لقاء الله.
والجواب على ذلك: عزيزي، ألمْ يكن نفسُ الأئمّة عليهم السلام يقرؤون هذه الآيات؟! ألمْ يكونوا هم يطلبون لقاء الله لأنفسهم!! فإذاً، لا تنطبق هذه الآيات عليهم أنفسهم.. ثمّ مع قطع النظر عن أنّ معرفة الأئمّة عليهم السلام هي عين معرفة الله، وذلك بعدَ الالتفات إلى أنّهم أصبحوا وجه الله، واسم الله، فهم قد طوَوا الطريق، وتحقّقت المعرفة بالنسبة لهم، وأصبحوا أئمّة، حينئذٍ يمكننا أنْ نقول: إنّ لقاء الأئمّة هو لقاء الله، فهم حينئذٍ غير سائر أفراد البشر، فهم بعدَ بلوغهم مقام لقاء الله أصبحوا وجه الله، ويد الله، وسمع الله، وعين الله، وصارت هذه العناوين صادقة عليهم.
إذاً، نفس دليلكم ينقضُ كلامكم ويرجع عليكم، لأنّكم أردتم أنْ تبطلوا إمكانيّة المسألة، فأثبتموها، فأنتم تقرّون بشكل إجماليّ ومستبطن بأنّ الإمام يستطيع أن يصل إلى لقاء الله، وهو كافٍ بالنسبة لنا، لأنّ الإمام غير الله، ويمكنه أن يرى الله، فلتقرّوا بذلك بالنسبة للإمام ولتصرّحوا: بأنّ للإمام أنْ يرى الله، وأنّ النبيّ يمكنه ذلك، هذا كافٍ لإتمام عمليّة الاستدلال على المطلب، ودحضِ مدّعاكم من استحالة أنْ يعرفَ اللهَ غيرُ الله من الممكنات، هل كان الإمام أو النبيّ واجبَي الوجود؟! لا، هم ممكنات، غاية الأمر أنّهم وصلوا إلى الحجاب الأقرب إثر التزكية والتهذيب، وبلغوا مرحلة كشف سبحات الجلال، وأدركوا حقيقة المطلب... .
لقاء الله لا يتحقق إلا بالفناء في ذات الله
لقد افتتحَ الأنبياء والأئمّة هذه المدرسة وقالوا: يا عزيزي! أيّها الإنسان! يمكنك أنْ ترى الله، فالذين يدّعون استحالة رؤية الله كلامهم خاطئ، بل إنّ بإمكان الإنسان أنْ يرى الله، غاية الأمر أنّه ليس بواسطة هذه العين!! لأنّ الله ليس جسماً، كما ولا يكون ذلك بواسطة العين الذهنيّة أو التفكّر، لا، فليس الله صورة ولا معنى؛ والفكر الإنسانيّ إنّما يدرك صور الأشياء.
فالله موجودٌ غير متناهٍ ذاتاً وصفةً وفعلاً، والله العليّ الأعلى قدْ أودعَ في قلب الإنسان قوّةً غير متناهيةٍ أيضاً، وبإمكانها أنْ تدرك على نحو الإجمال تجلّياته الأسمائيّة والصفاتيّة، وحيثُ أنّ استعداد قلب الإنسان وقابليّة سرّه كبيرة وواسعة إلى حدّ يمكنه أنْ يبلغَ مرحلة الفناء، صار بإمكانه أنْ يصلَ إلى مقام الفناء في الذات الإلهيّة؛ ولن يتحقّق ذلك ما دام الإنسان موجوداً، ولا يمكنه أن يعرف الله ما دام إنساناً!! لأنّ ذات الله غير قابلة للإدراك، ولكن بما أنّ ذات الإنسان هي التي تقبل الفناء ويمكنها أن تفنى، بحيث لا يبقى في حال الفناء إلا الله فحسب، فحينئذٍ يكون الله هو الذي يعرف نفسه ويرى نفسه، وهذه هي مرحلة الذات. وأمّا في مرحلة الأسماء والصفات فإنّ الأمر مختلف، إذْ يمكن لأيّ شخصٍ أنْ يبلغَ هاتين المرحلتين إثرَ التزكية والتهذيب وتصفية الباطن... .
طريق الأنبياء و الأئمة في الوصول إلى لقاء الله
هكذا كانَ طريق الأئمّة والأنبياء، وهو صراط واضح جليّ، فإنْ أراد الإنسانُ أنْ يصلَ إلى الله، فـ {الله نور}؛ الله ظاهر ومظهِر، وهو ظاهر في حدّ نفسه، وجميع الموجودات ظاهرة به.
وحينما يريد الإنسان أنْ يصل إلى هذا الإله، فما الذي عليه أن يفعله؟ ماذا يعمل كي يصل؟ يجب عليه أنْ يحصّل التشابه والتناسب:
شستشوئى كن و آنگه به خرابات خرام | *** | تا نگردد ز تو اين دير خراب آلوده |
[يقول: تطهّر أولاً، ثم سر إلى الخرابات (عالم القدس) حتى لا تُلوّث هذا الدير الخرِب بأدناسك]
فالله طاهر، والإنسان النجس لا يمكنه الدخول إلى حرمه؛ ولا يسمح للإنسان القذر أنْ يردَ إلى الحرم، ولا يجيزون وروده على البلاط الملكي، بل لا بدّ من التزكية والتطهّر.
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}۱.
فالنبيّ بُعثَ للتطهير والتزكية، ليوجدَ سنخيّة بينهم وبين ذاك العالم، ويجعلهم مشابهين له.
فالمرحلة الأولى من المشابهة هي: «التخلية»، والتخلية تعني: أنْ يخلّي الإنسان نفسه من جميع صفاته السيّئة، ويترك النقص، ويبتعد عن التعلّق بالكثرات التي تبعده عن عالم النور وعالم الإطلاق..
فأولاً يترك المعصية، ويترك كلّ ما يخالف رضا المحبوب، لأنّه يريد أنْ يذهبَ إلى منزل المعشوق ويطرقُ بابه، وحينما يقوم بالتعدّي، وبمخالفة رضاه، فلا فائدة حينئذٍ من دقّ الباب؛ لذلك فإنّ أوّلَ الطريق هو «التخلية»، ولهذا قد ورد في جميع الروايات أنّه لا يمكن للإنسان أنْ يطوي مسيره وسيره مع وجود المعصية، بل عليه أولاً أنْ يهجرَ المعصية ويتركَ كلّ ما لا يرضيه.
وفي المرحلة الثانية يأتي دور «التحلية»، يعني: صيرورته متحلّياً بصفات الكمال، فتصبح عبادته جيّدة، ويواظب على الإتيان بالمستحبّات؛ ينفق، يصل الرحم، يحجّ، كلّ عملٍ حسن يواجهه يقوم به، حينئذٍ يكون قد أخرج نفسه من دائرة السوء، وأصبحت نفسه موسومة بالحسن ومتصّفة به؛ وهذه هي الرتبة الأعلى.
والدرجة الثالثة هي «التجلية»، والتجلية تعني: أنْ يصبحَ متجلّياً بصفات الله؛ ففي هذه المرحلة تشرع التجلّيات، ويبدأُ الله بإراءة نفسه للإنسان، فتارة يتجلى بواسطة صفة القادر، وأخرى بواسطة صفة العالم، وتارة صفة الرحمان، وأخرى صفة الرحيم، فيظهر ويتجلّى في جميع المظاهر الوجوديّة، فيشرع بالتجلّيات.
والمرتبة الرابعة هي مرتبة «الفناء»: وحينما تنتهي مرحلة التجلّيات الأسمائية والصفاتية، يصل إلى آخر مرحلة من اللقاء، وهي مرتبة "الفناء"؛ فمن يطوي الطريق سوف يصل إلى مرحلة يدَعُ فيها كلَّ شيءٍ بعهدة الله، ويعترف ويذعن لله بأنّك: يا إلهي! ليس لي شيءٌ من الوجود، ولا علمَ لي، وليس لي أيّة قدرة، ولا حياة، ولا أيّ شيءٍ أصلاً، فكلّ ذلك لك وحدك وأنتَ أعطيتني، فيعترفَ ويقرّ، وعلاوة على الاعتراف باللسان فإنّ قلبه يصرّح بذلك أيضاً ويصبحُ مفوّضاً، وهنا يكون قدْ وصلَ إلى مقام الفناء.
وفي مقام الفناء يتعرف الإنسان على الله بشكل كامل، لأنّ الله غيور، وغيرته لا تجيزُ بدخول الغير، ليردوا إلى حرمه؛ لأجل ذلك فمن أراد أنْ يعرفَ الله، فما دام إنساناً وشخصاً متعيّناً، يصدقُ عليه اسمٌ وعنوانٌ، وتصدق الإثنينيّة، فإنّ ذلك حاجبٌ وحائلٌ بينه وبين الوصول، ولن يمكنه الصعود والترقّي، لأنّ الله لا ينزل من مقامِ عزّه إلى الأسفل!! فالله عزيز.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}۱ أي منذ الزمن الأوّل إلى الزمان الذي تحقّق فيه وجود، من الزمان الذي خلقَ فيه الموجودات، لم يكن يتنازل الله عن مقام عزّه لحظة من اللحظات؛ فالله هو الله الذي لا يتنازل ولا يأتي إلى الأسفل!
فماذا يجب أنْ نفعل؟ يجب أنْ نعترفَ بأنّنا يا ربّ، لسنا شيئاً مقابل وجودك، نحن عدم محض مقابل وجودك، وهذا الاعتراف إذا وصلَ إلى مرحلة التحقّق يكون هو حقيقة الفناء، وفي مرحلة الفناء لا يوجد إلاّ الله.
إنّ ذات الله غير قابلة للإدراك، وهذا صحيح لأنّه لا يمكنُ للغيرِ أنْ يدركَ ذات الله، وأمّا في مرحلة الفناء، فإنّه لا يوجد تشخّصٌ لأيّ ذات غير الله لتكون هي المدركة لله، فالإنسان أصبحَ فانياً، ولا شيء بعد، فلا يوجد غير الله، فالله هو العارف لذاته، وهو المدرِك لنفسه، وهو البصير والسميع بذاته، فلا غيرَ هناك.
إنّ هذا الأمر إنّما يحصلُ بعد تحقّق المعرفة التامة للإنسان والتي تمثّل وصول الإنسان إلى مقام الفناء المطلق، وإلاّ من المستحيل تحققها قبل ذلك للإنسان. إذاً، الدرجة الكاملة من المعرفة تحصل في الفناء فقط.٢