المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
كيف تحصل المكاشفات لدى الأنسان؟ وهل جميع المكاشفات لها شكل واحد؟ وكيف نميّز الصحيح منها من السقيم؟ وكيف نعرف أن المكاشفات مطابقة للحق؟ وهل يمكن أن تكون حجة؟ وما هو الوجه في حجيّتها؟
أسئلة مهمة أجاب عنها سماحة آية الله الحاج السيد محمد محسن الطهراني قدس سره في هذا البحث المهم المستفاد من كتابه القيم حريم القدس.
هو العليم
هل جميع المكاشفات فاقدة للحجية مطلقا؟
شبهة مدرسة التفكيك و جوابها
بحث منتخب من كتاب حريم القدس
لآية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّه
بِسْمِ اللَه الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
الحَمْدُ للّه رَبِّ العَالَمِينَ
وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلى المَبْعُوثِ إِلَى الخَلائِقِ أَجْمَعِينَ
وَآلِهِ الأوْصِياءِ المُنْتجَبِينَ
وَلَعْنَةُ اللَهِ عَلَى أَعْدَائِهم مِنَ الأَوّلِينَ وَالآخِرينَ إِلى يوْمِ الدِّينِ
مقدمة لجنة التحقيق
[رغم التأكيد الشديد من قبل العلماء العظام و العرفاء الكملين على أن السالك لا ينبغي أن يعتني بالمنامات والمكاشفات الصورية و البرزخية، و لكن ذلك لا يعني أنهم ينكرون حجية المكاشفات مطلقا، بل يرون حجية المكاشفات الروحانية والنورانية لأصحاب المعرفة و الشهود و التي تخضع للضوابط و الشروط.
وقد بين سماحة آية الله الحاج السيد محمد محسن الطهراني قدس سره هذه المسألة من خلال جوابه التالي على شبهة من شبهات مدرسة التفكيك وذلك في كتابه القيم حريم القدس. يقول رضوان الله عليه:]
من المدّعيات السخيفة والباطلة للمدرسة «التفكيكيّة» هو إنكار الواردات القلبيّة والمكاشفات الروحانيّة والنورانيّة لأصحاب المعرفة والشهود، وإخراجها عن دائرة الحجّية والدلالة.
أوّلًا: رأي مدرسة العرفان في إمكانيّة حصول المكاشفات
مقدّمة في كيفية خروج الإنسان من عالم التخيّلات والاعتبارات
لا شك أنّ السالك حينما يتقدّم في سيره التكامليّ بشكلٍ واقعيٍّ، يخرج من الجزئيّة والكثرة نحو الكلّية والوحدة، وكلّما كانت حركته في هذا السير أقوى وتطوّره في بلوغ المعاني الكلّية أكمل، فإنّ قواه الفكريّة والعقليّة ستكونان أقرب إلى مراتب الفعليّة والإتقان، وسيؤديان إلى خروجه من عالم التخيّلات والتوهّمات والاعتبارات؛ وكما أنّ هذه الحقيقة تحقّقت في «مثاله المتّصل» الذي هو عالم الذهن والتصوّر، فإنّها تترك أثرًا أيضًا على مثاله المنفصل وكذلك على المراتب الأعلى والأرقى كالملكوت وما فوقه؛ بل يُمكننا أن نقول بعبارةٍ أوضحٍ: إنّ تبدّل وتغيّر ذهنه إنّما ينشأ من نفس عالمَي مثاله وملكوته المشار إليهما.
ومن هنا يمكن أن نفهم أنّ المرتبة التكامليّة والمرتبة الوجوديّة لأيّ فردٍ إنّما تتقوّم من طريقة تفكّره وتعقّله وتصوّراته وتصديقاته التي ينطوي عليها ذهنه ونفسه؛ وذلك لأنّ مرتبة الذهن والنفس لا تنفصلان ولا تستقلّان بأيّ وجهٍ من الوجوه عن عالمي مثال النفس وملكوتها، بل إنّ نفس المثال والملكوت الآنفي الذكر ينتقشان ويظهران في ذهنه ونفسه، ولا معنى ههنا للإثنينيّة والاختلاف.
وبمقدار ما يكون الإنسان مكبّلًا بالتخيّلات والكثرات ومأسورًا للاعتبارات، فسوف يكون بعيدًا عن عالم القدس وغريبًا عن رحمة حضـرة الحقّ، كائنًا من كان هذا الإنسان.
جان همه روز از لگدكوب خيال | *** | وز زيان وسود وز خوف زوال |
نى صفا مى ماندش نى لطف وفر | *** | نى بسوى آسمان راه سفر۱ |
[يقول: لما كانت الروح في كلّ يومٍ تقع تحت ضغوط الخيال والتفكير في النفع والضـرر وخوف الزوال. لذا فلا صفاءَ يبقى لها ولا لطفَ ولا جلال، ولا طريقَ لها ترحل منه صوب السماء.]
ما هي موانع حصول المكاشفات التوحيديّة والتجليّات الجماليّة؟
إنّ إدراك الحقائق الكلّية لعالم الوجود مشروطٌ بصفاء النفس وتزكية القلب، ومرهونٌ ببلوغ مراتب التجرّد، وبدون تحصيل هذه المراتب لن تستطيع النفس الرؤية والمشاهدة، بل ستعيش في عالم المثال الأسفل في دائرة الصور البرزخيّة سواءً في النوم أم في عالم المكاشفة الصوريّة في اليقظة. ولا تختصّ هذه الحالة ـ أي حالة العيش في عالم المكاشفات البرزخيّة ـ بالمؤمن المتديّن بالأديان الإلهيّة، بل من الممكن أن تحصل حتّى لغير المعتقدين بالأديان من المرتاضين وغيرهم، بل إنّ الـتأثير على النفوس والتصـرّف بالأرواح والإخبار عن المغيبات والقيام بخوارق العادات أيضاً إنّما تتحقّق بأجمعها في حدود دائرة عالم المادّة.
وأمّا المكاشفات التوحيديّة والجذبات الجماليّة والبوارق الجلاليّة التي توجب انقطاع النفس عن التعلّق بالغير، وحتّى عن تعلّق السالك بنفسه وذاته، فهي إنّما تتجلّى بشكلٍ كاملٍ في عالم التوحيد والنور والتجرّد، وما لم تصل النفس إلى مرحلة التجرّد والانقطاع عن ذاتها من خلال التزكية والتهذيب والمراقبة، فسوف يكون من المحال إدراك هذه المعاني سواءً كان ذلك من خلال المكاشفات التوحيديّة أم بواسطة الرؤية الصادقة أو من خلال إعمال العقل الفعّال في النفس العاقلة للسالك.
ولذلك نرى عظماء الطريق وكبار العرفاء ذوي الشأن الرفيع وفلاسفة الإسلام يعتبرون أنّ مجرّد الاشتغال بالعلوم العقليّة والفلسفيّة ـ دون رعاية جانب تهذيب النفس ومراقبتها وتهذيبها والرقّي بها في مراتب الفعليّة والتجرّد ـ غير كافٍ للتكامل ولا وافٍ بهذا الغرض، كذلك الأمر بالنسبة إلى أداء التكاليف الشـرعيّة والقيام بالواجبات دون الالتفات إلى جهتها المعنويّة والباطنيّة، فجميع ذلك لن يُقدّم للمكلّف شيئًا من الترقّي والقرب ولو بمقدار مثقال ذرّةٍ.
إنّ الاشتغال بالعلوم الإلهيّة إنّما يكون مستوجبًا للتكامل والرقيّ وفتح باب العوالم الربوبيّة والتوسّط في الإفاضة والإفادة، حينما تكون هذه العلوم توأمًا مع الاتّباع لمفاهيمها ومعانيها وتطبيق نتائجها البرهانيّة والنورانيّة، وفي غير هذه الصورة لن يستفيد الإنسان من هذه العلوم شيئًا ولن تعالج فيه وجعًا، بل سيستوجب ذلك ابتعاد النفس عن عالم التجرّد بشكل أكثر، وستحبس النفس في دائرة الأنانيّة وعبادة الذات، وتتحوّل بنفسها إلى حصارٍ وسجنٍ ذاتيٍّ تتلهّى فيه بمكتشفاتها العقليّة، وتأخذ بالتلذّذ بتلك المعاني والمفاهيم الكامنة فيها فتصير أسيرةً لها. وهذه القضيّة مشهودة بوضوح في طريقة تفكير هذا النوع مِن الأفراد وكيفيّة حركاتهم وسكناتهم وحياتهم وعلاقاتهم مع الآخرين.
فالأفراد الذين ركزوا على تحصيل العلم والكشف فقط، وأصيبوا بهوس العلم وهوس الفلسفة والعرفان، قد أغلقوا في وجههم طريق الوصول إلى هذه الحقائق، ووقعوا في فخّ الانشغال بهذه المفاهيم وصرف العمر على بحثها ودرسها وإقامة الندوات والمؤتمرات حولها، والتأليف والكتابة عنها ونشـرها، وهؤلاء هم أكثر الناس خسـرانًا وأشدّهم عجزًا؛ وذلك لأن حصّتهم ونصيبهم الوحيد من الاشتغال بهذه العلوم هو تضييع العمر الثمين وتفويت فرص الأوقات الذهبيّة، وهدر الاستعدادات وإغلاق نوافذ القلب أمام أنوار جمال حضرة الحقّ وجلاله: {قُلۡ هَلۡ نُنَبِّئُكُم بِٱلۡأَخۡسَرِينَ أَعۡمَٰلًا ، ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعۡيُهُمۡ فِي ٱلۡحَيَوٰةِ ٱلدُّنۡيَا وَهُمۡ يَحۡسَبُونَ أَنَّهُمۡ يُحۡسِنُونَ صُنۡعًا...}۱
متى تحصل المراتب العرفانيّة؟
إنّ بُلوغ هذه المراتب ـ وحتّى ما هو أعلى منها ممّا حصل لصدر المتألهين وسائر العرفاء الإلهيّين ـ إنّما يتمّ على إثر تهذيب النفس وتجرّد الروح، والتربية السلوكيّة والرياضات الشـرعيّة، وبسبب المداومة على الأذكار والأوراد، والابتعاد عن الدنيا وعالم النفس والخيال والكثرة، بالإضافة إلى الانعزال عن عوام الناس والجهّال ممّن وُصِفوا بالعلماء، وعن عديمي العقول والمخالفين للسير والسلوك إلى الله، وبالاشتغال بالنفس وأعمالها وأقوالها وعقيدتها، فضلًا عن التوسّل بالولاية ووساطة أهل البيت سلام الله عليهم أجمعين.
ثانيًا: الإشكال والنقض على إنكار المكاشفات مطلقا
في المدرسة التفكيكيّة العابثة والتي تفتقد إلى الأساس، لا وجود لأيّ مرتبةٍ أو منزلةٍ لحركة السالك والمؤمن نحو العالم الربوبيّ وانكشاف حقائق عالم الوجود، وكأنّه لا قيمة للروايات التي تدلّ على اختلاف مراتب الصحابة وأصحاب النبي والأئمّة المعصومين عليهم السلام!
وحينئذٍ يُطرح هذا السؤال: ما معنى كلام رسول الله صلى الله عليه وآله حين يقول: «لَوْ عَلِمَ أَبُوْ ذَرٍّ بِمَا فِيْ قَلْبِ سَلْمَانَ (من الأسرار والمعاني) لَكَفَّرَهُ أَوْ قَتَلَهُ»۱ ؟ كيف لا يُطيق أبو ذرٍّ سماع المدركات والمشاهدات التي في قلب سلمانَ مع ما له من مقامٍ ومنزلةٍ رفيعةٍ في الإيمان والقرب؟
وكذا الحال في أصحاب الأئمّة؛ مثل: ميثم التمّار، ورشيد الهجري، وحبيب بن مظاهر الأسدي، وجابر بن يزيد الجعفي، ومعروف الكرخي وبشر الحافي، وسائر أصحاب سرّ أهل بيت العصمة ومحط أسرارهم، فلماذا امتاز هؤلاء عن سائر أصحاب الأئمّة؟ ولماذا لم تكن المشاهدات والمكاشفات والمعاني الواردة على قلوب هؤلاء قابلة للتحمل والقبول؟ فهل إدراك هذه المعاني واكتشاف هذه الأسرار كان منحصـرًا فيهم فقط وفقط؛ بحيث يمتنع حصوله للعظماء والأولياء الإلهيين في عصـر الغيبة؟! وهل يختلف عصـر الغيبة عن عصـر الحضور بالنسبة إلى الإمام عليه السلام؟!
ثالثًا: كيف نعرف أنّ مكاشفات العرفاء مطابقة لمدرسة أهل البيت؟
إن قيل: إنّ المشاهدات التي شاهدها هؤلاء الأصحاب أو أدركوها بالمكاشفات المعنويّة كانت متطابقةً مع مباني ومعتقدات مدرسة أهل البيت، وهذا الأمر ليس محرزًا بالنسبة إلى سائر الأفراد.
فالجواب: كيف يُمكن لعالم عظيم الشأن كالسيّد ابن طاووس أو السيّد مهدي بحر العلوم أو السيّد علي الشوشتري الذي استلم مجلس درس الشيخ الأنصاري بعد وفاته لمدّة ستة أشهرٍ وكان درسه على أحسن وجهٍ وأفضل نحوٍ وأكمله، أو المرحوم الآخوند ملا حسين قلي الهمداني أستاذ الشيخ الأنصاري في الأخلاق٢ والمرحوم السيّد أحمد الكربلائي، وأستاذ الكلّ في الكلّ آية الله السيّد علي القاضي، والعلاّمة الطباطبائيّ والعلاّمة الطهرانيّ، والذين كانوا جميعهم من الفُقهاء العظام وأصحاب المقام العالي وأبطال ميدان التحقيق والتدقيق والمشار إليهم بالبنان من حيث الغزارة العلميّة والنبوغ الفكري، كيف يُمكن أن يُتوقّع من هؤلاء أن تكون مشاهداتهم ومكاشفاتهم على خلاف موازين ومباني الشـريعة، و لا يحصل لهم إطلاع على صحّتها وسقمها؟!
وكيف يكون استنباط مجتهدٍ عاديٍّ موردًا للقبول وحائزًا على الحجيّة؟ أمّا العلم واليقين بصحّة المدركات والواردات القلبيّة والمكاشفات المعنويّة لهكذا مستوى من أعاظم الفقهاء وأكابر الحكماء؛ كصدر المتألهين الشيرازي وأستاذه الميرداماد والشيخ البهائي وغيرهم فيكون فاقدًا لأيّ نوعٍ من القيمة وملاك الحجيّة؟!
رابعًا: ملاك حجيّة الشهود والمكاشفة
إن قيل: إنّ ملاك حجيّة فتوى الفقيه هو استناده إلى كلام المعصوم عليه السلام، وأمّا في شهود أهل العرفان ومكاشفات الأولياء الإلهيين فلا يُوجد مثل هذا الاستناد، بل تقوم فقط على الواردات وإدراك الصور والمعاني المرتسمة في النفس، ولذلك من الممكن أن تكون مشوبةً بالاشتباه؛ لأن حضور الصور والمعاني في نفس الإنسان غالبًا ما يكون على أساسٍ من التخيّل والتوهّم وخلق النفس بدون استناد إلى أصلها أو اتكاء على مبدئها العِلِّي، ولذلك لم يقبل عظماء أهل المكاشفة والشهود بأيّ مكاشفةٍ، ولم يظن أحدٌ منهم أن أيّ إدراكٍ لصورةٍ أو معنىً هو منطبقٌ مع الحقيقة والواقع.
وجواب هذا الكلام: إنّه بالرغم من كون احتمال الاشتباه في الواردات القلبيّة واردًا بالنسبة إلى جميع الأفراد، إلّا أنّ تطبيقها على مصادر الوحي ومباني التشيّع وأحاديث أهل البيت عليهم السلام والأصول المسلّمة للحكمة المتعالية سينفي بنحوٍ قطعيٍّ احتمال الخطأ، وسيحصل السالك في هذه المرتبة على كشفٍ يقينيٍّ واعتقادٍ جازمٍ، وإذا كان هناك احتمالٌ للخطأ في بعض موارد الشهود، أو اشتباه في الكشف المعنوي، فلا ينبغي ترك الاحتياط فيها، كما هو الحال في السلوك الفقاهتي عند الشكّ والتردُّد؛ إذ لا بدّ من التوقّف حينئذٍ في الفتوى والاحتياط في العمل۱.