المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم التاريخ و الاجتماع
العدد التسلسلي4
التوضيح
متى طرح بحث الشورى عند فقهاء الإماميّة وكيف عمل به؟ ما هي أهميّتها وضرورتها وكيف نثبت مشروعيّتها؟ وما هي شروط تطبيقها لتحقيق غرضها؟ وماذا جرى في التاريخ عند عدم الالتزام بشروطها؟ وحول أيّ الأمور يعمل بها؟
تعرّض المحاضر رضوان الله عليه لهذه الأبحاث ضمن ثلاث محاضرات من سلسلة شرح حديث عنوان البصري من 59 إلى 61، وذلك عند شرحه لفقرة أن لا يدبّر العبد لنفسه تدبيرًا مع تناوله خلالها لمواضيع أخرى، ومزجه للإجابات على تلك الأسئلة بعضها مع بعض بما يناسب أسلوب المحاضرة، وقد عملت الهيئة العلميّة في مدرسة الوحي على ترتيب المضامين المتناسبة تحت عنوان واحد ضمن أربع مقالات مع المحافظة على كلام المحاضر بحرفيته والإشارة إلى مصدره لتخرج في بنائها العام بما يشبه المقالة العلميّة وإن كان أسلوب الكلام فيها أسلوب محاضرة. وكان المحاضر أثناء المحاضرة قد أبدى رغبته بكتابتها. وتمثّل هذه المقالة الرابعة منها وتجيب على السؤال الأخير حول موضوعها والأمور التي لا بدّ أن يتشاور حولها.
هو العليم
موضوع الشورى ومحلّها
مقالة حول الشورى – المقالة الرابعة
بحث منتخب من محاضرات
آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني
قدّس الله سرّه
.
أعوذ بالله من الشّيطان الرّجيم
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نُفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطّيّبين الطّاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
«ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرًا»
قال إمامنا الصادق عليه السلام لعنوان البصري: «أن لا يرى العبد لنفسه فيما خوله الله ملكًا لأن العبيد لا يكون لهم ملك، يرون المال مال الله يضعونه حيث أمرهم الله به ولا يدبر العبد لنفسه تدبيرًا».
فيجب أن لا يدبّر العبد لنفسه وأن لا يسعى إلى تنظيم الأمور على أساس كيفيّة أفكاره والوصول إلى نواياه وآماله.
تقدّمت بعض الأمور حول هذه الفقرة ووصل كلامنا إلى أنّ أوامر الإسلام والشرع في التطبيق الدقيق والتدبير لجميع الأمور الشخصية والاجتماعيّة والحركات الفرديّة والاجتماعيّة هو لأجل الوصول إلى نقطة الكمال الشخصي والكمال الاجتماعي. وقد ذكرنا بعض الأمور في التوفيق بين هذه الفقرة الشريفة وما لدينا حول التدبير من معطيات عقليّة وعرفيّة وشرعيّة.
وحديثنا الآن هو حول كيفيّة تنظيم الأمور الاجتماعيّة في الحكومة الإسلاميّة… وسنتحدّث على شكل فهرس وبالإجمال، وإن شاء الله إذا وفق الله لاحقًا سنكتب ذلك بشكل مفصّل۱.
الأمور التي يتشاور حولها هي الموضوعات وليس الأحكام
{والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون}
فهذه الآية تطرح أمر الشورى على أنّه قاعدة لا يمكن التخلّي عنها في شؤون المؤمنين. حسنًا فعلى أيّ شيء يطلق عنوان الأمر؟ {والذين استجابوا لربّهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم وممّا رزقناهم ينفقون} لا يطلق الأمر على الحكم الشرعي، لا يقال للحكم الشرعيّ أمر. يطلق الأمر على الموضوعات التي لها ارتباط مباشر مع المصالح والمفاسد الاجتماعيّة. يقولون: كيف تجري أمورك يا سيّد؟ ما حال أمور المجتمع؟ كيف الأمر؟ كيف الأمور؟ فما هي هذه الأمور؟ إنّها أمور يرتكز إليها قوام المجتمع.
بناء على ذلك، لا بدّ من الاهتمام بموضوع الشورى في الأمور الاجتماعيّة للمسلمين، كقاعدة لا يمكن تركها، كقاعدة، كقاعدة٢.
موضوع الشورى لا علاقة له بالحكم الفقهيّ، حيث لدينا نوعان من الأحكام ـ وقد انتهى الوقت ـ لدينا نوعان من الأمور:
فمن الأمور أحكام فقهيّة، ولو اجتمع اثنان فهذا يسير، بل لو اجتمع عشرون مليون من غير أهل الخبرة في الفقه والأحكام، فلا أثر لمشورتهم. بل يجب أن يستنبط الفقيه والمجتهد الجامع للشرائط الأحكام ويبيّنها للنّاس كما ورد في نصوص الروايات، فهذا شيء له مكانه الخاص. وسنبيّن في هذا الموضوع ـ إن شاء الله وإذا وفّقنا الله ـ الاختلاف بين ذلك وبين تشخيص الموضوعات والذي هو محلّ بحثنا، وليس المسائل الفقهية. فتشخيص الموضوع أصعب من المسائل الفقهيّة. وفي تشخيص الموضوعات أي بيانها وتنقيحها تأتي الشورى، لا في الحكم الفقهيّ نفسه، والذي هو في عهدة المجتهد، في عهدة المرجع، وبالطبع بشرطه وشروطه وصفاته الخاصّة، لا كلّ من ادّعى وجمع كلمتين من هذه الكتب، في حين أنّه لا استعداد له ولا قابليّة لهذا الأمر. كلاّ، بل بالالتفات إلى شرائط ذلك، فهذه هي الأحكام الفقهيّة.
الأمر الثاني لا علاقة له بالأحكام الفقهيّة، بل له علاقة بتحديد الموضوعات الاجتماعيّة، كما لو حصلت معركة مثلاً كما ذكرت لكم في الجلسة السابقة، فأين نجعل هذه المعركة؟ هل في المدينة أم خارجها فنذهب إلى أحد؟ هذا موضوع، ففي هذه الأمور أمرهم شورى بينهم۱.
هذه الشورى لا بدّ من اعتمادها كقاعدة في الموضوعات. وعلى الحاكم الإسلاميّ أن يرجع إلى أهل الخبرة في الموضوعات. وعليه أن يجمع الذين هم خبراء في كلّ اختصاص ويطلب منهم آراءهم، ويسألهم، حتّى يتّضح الأمر عنده، فليست القضايا دائمًا هي الصلاة والصيام كما ذكرت، القضايا الاجتماعيّة المهمّة، حفظ دماء المسلمين، حفظ شرف المسلمين، حفظ أعراض المسلمين، عدم إتلاف ذخائر المسلمين، الاستفادة من هذه الإمكانات، فلا بدّ من مراجعة أهل الخبرة في هذه الشؤون. لا بدّ من الاهتمام بالاستفادة من أهل الخبرة٢.
الأمور التي يبتلى بها الناس على نحوين:
أحدهما تشخيص الموضوعات.
والثاني الأحكام المترتّبة على هذه الموضوعات.
أمثلة للموضوعات والأحكام وبيان دور الفقيه فيها
الموضوعات عبارة عن الصلاة والصيام والأطعمة التي يتناولها الإنسان، والألبسة التي يرتديها، والأعمال التي يقوم بها، من الزواج والمعاملات والتجارات وأمثالها فهذه كلّها تسمّى موضوعات. وتترتّب عليها أحكام، من الوجوب والنهي والاستحباب والكراهة والحرمة وأمثال ذلك.
بالنسبة إلى الأحكام فإنّ معرفتها مختصّة بالفقيه، ولا يمكن لإنسان آخر أن يتدخّل في ذلك. ولو تحقّق موضوع ووجد، فإنّ حكمه من اختصاص الفقيه ومن شؤونه. ولا يمكن لإنسان آخر أن يحكم. لا يمكن لإنسان أن يقول: حسب وجهة نظري فإنّ الأمر المعيّن هو كذا. أنت مخطئ في نظرك هذا! أفهل أنت متخصّص؟ لا يمكن لأحد أن يقول: برأيي أنّ الحكم في المسألة هو كذا، برأيي أنّ الحجّ ليس واجبًا، برأيي أنّ ذبح الأضحية ليس واجبًا. برأيي أنّ الصلاة ليست واجبة. برأي أنّ الخمس والزكاة وأمثالها من الفروع هي كذا. ليس لرأيك أيّ احترام وأيّ قيمة؛ لأنّ الحكم مختصّ بالفقيه. الفقيه الذي يبيّن الحكم من الأدلّة الأربعة أو الأدلّة الثلاثة: القرآن والسنّة وحكم العقل، أو نضيف إليها الإجماع أيضًا، على أساس الدراسة، وعلى أساس التعلّم وعلى أساس البحث والممارسة في هذا الفنّ، فيبيّن ذلك الحكم الذي هو حجّة عليه، لا حكم الله واقعًا كما هو هو، أو حكم الله الذي في نفس الأمر، ونفس الواقع. كلاّ بل ذلك الحكم المنجّز عليه. فهذا الحكم مختصّ بالفقيه. أمّا تشخيص الموضوع فهو لا يختصّ بالفقيه. يمكن للفقيه أن يقول: الشراب حرام، شرب الخمر حرام. أمّا ما هو الذي يدعى بالخمر؟ وأنّ هذا السائل الموجود هنا هو خمر أم ليس خمرًا، فهذا ما يجب أن يحدّده العرف وأهل الخبرة.
موضوع إسقاط الجنين وتحديد النطفة والمضغة والعلقة
يمكن للفقيه أن يقول إنّ إسقاط الجنين محرّم. فمن حين انعقاد الجنين يحرم إسقاطه، ويعدّ قتلاً للنفس، ويصدق عليه عنوان الموؤودة {وإذا الموؤودة سئلت بأيّ ذنب قتلت}۱ فهذه الآية تشمل مورد السقط. فهي لا تختصّ بالابن الحيّ وبدفنه حيًّا. الموؤودة هي الطفلة المدفونة حيّة، والسقط أيضًا داخل تحتها. وإذا ما أسقط إنسان جنينًا فإنّه يوم القيامة يسأل ولا بدّ أن يجيب. من حين انعقاد النطفة إذا أسقط الجنين فلا بدّ من دفع عشرين مثقالاً شرعيًّا دية له. عشرون مثقالاً كلّ مثقال ثمانية عشر حمّصة. وإذا ما تبدّلت النطفة إلى علقة، فلا بدّ أن يدفع أربعين مثقالاً شرعيًا، وإذا ما تبدّلت العلقة إلى مضغة فلا بدّ أن يدفع ستّين مثقالاً. ستين مثقالاً من الذهب. ستّين مثقالاً من الذهب المسكوك. وإذا تبدّل إلى عظم فلا بدّ من دفع ثمانين مثقالاً، وإن لم تكن الروح قد نفخت فيه وكان قد أنبت اللحم، فعلى من يسقطه أن يدفع مائة مثقال ما لم تلجه الروح. فإذا باشر الإنسان بنفسه ذلك العمل عليه أن يدفع هو بنفسه، فلو فعلت المرأة ذلك فعليها أن تدفع هي، وإذا فعله الطبيب وجب عليه أن يدفع هو. عليه أن يدفع مائة مثقال، مائة مثقال من الذهب المسكوك، يجب عليه شرعًا أن يدفعه. وليس للطبيب أن يسقط الجنين إذا ما راجعه أحد في إسقاطه، فإذا أسقطه فقد فعل محرّمًا شرعيًّا. وهذا الفعل فعل مكدّر جدًّا، وهو يوجد في فاعله مسقط الجنين ظلمة خاصّة. وأمّا إذا كانت الروح قد نفخت فلا بدّ من دفع ألف مثقال من الذهب المسكوك. ألف مثقال من الذهب المسكوك. فكم قيمة كلّ مثقال الآن؟
ـ خمس وعشرون ألفًا۱.
ـ خمس وعشرون؟ فلا بدّ أن يدفع خمسًا وعشرين مليونًا. هذه دية أيّ شيء؟ دية ابن ولجته الروح فأسقطه. فهذا ما يرتبط بالحكم الشرعيّ. فهذا ما يحدّده الفقيه، أي مقدار الدية التي تجب هو في عهدة الفقيه.
أمّا أنّه هل يقال لهذه النطفة نطفة منعقدة أم لا؟ فمجرّد استقرار النطفة في رحم المرأة لا يسمّى انعقادًا. الانعقاد يعني الارتباط، فهل المراد من الانعقاد مجرّد الاستقرار؟ حتمًا لا. أم المراد من الانعقاد انضمام نطفة الرجل والمرأة؟ فهل هذا يسمّى انعقادًا؟ أم المراد من الانعقاد التصاق النطفة في جدار الرحم حيث يبدأ بالنموّ. هذا معنى الانعقاد، وهذا في عهدة الطبيب. فهو الذي يحدّد ما إن كانت هذه النطفة المسقطة الآن منعقدة أم لا؟ إن كانت منعقدة فعشرون مثقالاً شرعيًّا من الذهب يجب أن يدفع. إن لم تكن قد انعقدت بل كانت مجرّد نطفة ثمّ خرجت فهنا لا دية أصلاً في هذه الحالة. هل التفتّم؟
فإذن لا يمكن للفقيه أن يشخّص الموضوع من عنده. فيقول: هذه النطفة التي خرجت الآن منعقدة. كلاّ، هذا يحتاج إلى اختصاص. الطبيب يجب أن يقوم بذلك، وينظر فيه. أو أن يكون الموضوع موضوعًا يمكن للعرف أن يدركه، أو في الموضوعات الأخرى مثلاً في جميع الموضوعات يمكن للعرف والمتخصّصين أن يحدّدوا الموضوع. فإذا ما حدّد الموضوع، أمكن للفقيه أن يجعل له حكمًا، وبالطبع لا يجعله من عند نفسه، بل يبيّن حكم الشارع.
ومسألة تشخيص الموضوع مسألة صعبة جدًّا، أي أن يحدّد الإنسان الموضوع، والموضوع لا يختصّ بهذه الصلاة والصيام والوقت والقبلة والطهارات والنجاسات وأمثالها، بل لدينا مواضيع معقّدة جدًّا، لدينا مواضيع حسّاسة جدًّا، ولدينا مواضيع دقيقة جدًّا، تحتاج إلى دراسات وأهل خبرة، وتحتاج إلى تجربة طويلة.
تدخّل الشرع أحيانًا في تحديد الموضوع كما في السفر والموت
وبالطبع أحيانًا الشرع بنفسه يتدخّل لتعيين الموضوع. فمن الموارد التي تذكر من باب المثال المسافر، فمن يريد أن يسافر فقد عيّن له الشارع الموضوع؛ لكي يتخلّص من الاختلاف وأنّه هل يطلق السفر على العشرين فرسخًا أم على المائة فرسخ؟ أم على الخمسة فراسخ؟ فيحدّدون بالفرسخ حتّى يخرج الموضوع عن الخطأ والشبهة. فيأتي الشارع ويعيّن حدًّا، وبالطبع فإنّ هذا الحدّ يتطابق مع العرف. فيقول: أربعة فراسخ ذاهبًا وأربعة فراسخ راجعًا في نفس اليوم أو في اليوم الذي بعده، ليبلغ طول السفر ثمانية فراسخ، فهذا ما يسمّى سفرًا. فعلى هذا الأساس نقوم نلتزم بهذه المسائل ومسائل السفر.
وفي بعض الموارد مثلاً مسألة الموت، متى يعدّ الإنسان ميّتًا، متى تحصل الوفاة للإنسان؟ فهناك آراء مختلفة حول الوفاة، فبعضهم يقول: عندما يتوقّف الدماغ عن العمل، وهذا رأي الأطبّاء، فعندما يتوقّف الدماغ ولا يكون له أيّ نشاط من الناحية الطبّية فهذا يعدّ موتًا. أمّا عندما نرجع إلى الشرع نرى أنّه لا يعدّ مجرّد ذلك موتًا، بل يعدّ برد جسد الميّت هو الموت في الشرع. والأحكام المترتّبة على الموت تترتّب على هذا الأمر. فإذا لم يعمل الدماغ، ولم يظهر منه أيّ فعل وردّة فعل، ولا يكون له أيّ نشاط، ويتوقّف عمله بشكل كامل، ولكن في الوقت نفسه القلب يعمل، فهذا يحكي عن تعلّق الروح بهذا البدن. وبالطبع هذا عندما يكون القلب بنفسه وبدون عامل آخر من الأجهزة والوسائل الأخرى. القلب بنفسه يتحرّك، بدون جهاز، بدون وسيلة تضخّ الدم في العروق، أو بوسائل أو بأدوية أو بأغذية، بتأمين الفيتامينات، وبتأمين الموادّ التي تحتاجها الخليّة، حيث يتمّ الحفاظ على حياة حيوانيّة. فهذا من وجهة نظر شرعيّة، لا يترتّب عليه أيّ حكم. أبدًا، فلو أنّ القلب بنفسه كان يعمل ويضخّ الدم ويحافظ على حرارة البدن فلا تترتّب أحكام الميّت على هذا البدن. فلذا لدينا في غسل الميّت، إذا مسّ بعد برده يجب الغسل. وما دام حارًّا لا يجب الغسل على الإنسان. هل التفتّم؟ من هنا يعلم أنّ الموت الحقيقيّ من وجهة نظر الشرع هو هذا. الآن إذا جاء الآخرون وقالوا من وجهة نظر اختصاصهم إنّه في هذه الحالة لا يعمل الدماغ، وأنّه العضو الرئيس في البدن، وكافّة الأوامر تأتي منه، أمّا هذا القلب الذي يعمل الآن، لماذا لا يعمل بعد ثلاثة أيّام؟
ألسنا نقول إنّ الدماغ لا يعمل؟! فالقلب إذن يجب أن لا يعمل أيضًا. فضربات القلب هي بواسطة صدمات كهربائيّة آتية من الدماغ، فكيف يعمل الآن؟ لماذا بعد أن يتوقّف لا يعاود العمل من جديد؟ فمن المعلوم أنّ هناك عاملاً، وذلك العامل هو غير معلوم، ولا يمكننا نحن وفق التعبّد الشرعيّ أن نتغاضى عنه. فما دام القلب يعمل، يحرم التلاعب بهذا البدن، ويحرم قطع جزء منه، ويحرم ما يطرح في هذا العصر من أمور. فهذا من الموارد التي يعيّن فيها الشرع الموضوع. ولكن في غالب الموارد أو في تسعين بالمائة من الموضوعات وموارد الأحكام ليس تشخيص الموضوع في عهدة الفقيه.
والفقيه هو كواحد من الناس العرفيّين، الفقيه هو واحد من سائر الناس. فكما أنّنا من حيث ارتباطنا بالموضوعات نواجه مشكلة ونشتبه، فتارة ندرك أمرًا ما بشكل دقيق. وتارة نتخبّط في إدراكه. الفقيه أيضًا في عمله مع الموضوعات تارة يسلك طريقًا صائبًا، وفي كثير من الأحيان يواجه كسائر الناس خطأ في المصداق وخطأ في الموضوع. لماذا؟ لأنّه إدراكه وبصيرته في اطّلاعه على الأمور كغيره من الناس. وكثيرًا ما يكون في بعض الأمور التخصّصيّة بعيدًا عن هؤلاء المتخصّصين.
ضرورة أن يشاور الفقيه المتخصّصين في الموضوعات قبل الإفتاء
فلذلك يجب على الفقيه عند الإفتاء في الموضوعات المختلفة أن يرجع إلى أهل الخبرة في كلّ موضوع، وأن ينظر في أقوالهم. وأن يحكم وفق المتخصّصين من أهل الفنّ وأهل الخبرة. وهنا تطرح مسألة الشورى والمشاورة كقاعدة مسلّمة في الإسلام. فنحن ليس لدينا اطّلاع في كثير من الأمور، ليس لدينا علم في كثير من الموارد، في كثير من الموارد يكون الأمر خفيًّا. أيّ الأسماك يحرم أكلها وأيّها يحلّ؟ لا بدّ من الرجوع إلى أهل الخبرة. هل الليلة هي أوّل ليلة في الشهر أم لا؟ لا بدّ من مراجعة أهل الخبرة. لا بدّ من البحث حول ما إن كان الهلال قد رؤي أم لا. لا يمكن للفقيه أن يقول: أنا أحكم من نفسي لأنّي أنا الوليّ الفقيه بأنّ الشهر قد بدأ الليلة. كلاّ، ليس له هذا الحقّ. فالشارع لم يعطه حقًّا كهذا. إذا رؤي الهلال فيجب على الفقيه وغير الفقيه أن يحكم بدخول الشهر. وإذا لم يرَ الهلال فيحرم على الفقيه وغير الفقيه الحكم بدخول الشهر. وإذا صام فإنّ صيامه باطل. لا بدّ أن يقضي. أمّا أنّ الهلال قد شوهد أم لا فهذا ما على الفقيه أن يسلك فيه الطريق الذي سلكه سائر الناس. فإمّا أن يأتي شاهدا عدل، ويشهدا برؤيته بعينيهما. أو تشيع رؤية هلال بحيث يقطع الإنسان بدخول الشهر. فهذا الحكم هو ما يجب على الفقيه أن يعمل به۱.
أسلوب المرحوم العلاّمة في أحداث سنة اثنين وأربعين
ومن هنا فإنّ المرحوم الوالد رضوان الله عليه عام اثنين وأربعين شرع بهذه الثورة مع فقيدها وكان يخطّط للأمور على هذا الأساس. فالشرط الأوّل الذي شرطه للاستمرار والمتابعة في هذا المشروع هو الشورى الدائمة وفي كلّ أمر والتي كان يجب أن يلتزم بها. هو نفسه قال لي: إنّ أوّل شرط كان لي عليه هو ضرورة أن يكون كلّ أمر على أساس الشورى. وقد استمرّ هذا الأمر، ثمّ لاحقًا واجه بعض الموانع، وتغيّر الحال.
على كلّ حال، في نظام الشورى، لا بدّ من الاهتمام بمسألة الشورى كقاعدة مهمّة. إلى هنا تمّ هذا الموضوع. وبالطبع هناك مسائل أخرى، وما طرح هنا هو ذلك المقدار الذي ينبغي أن يطرح حول هذا الموضوع.
وإن شاء الله سنتحدّث في الجلسات اللاحقة حول سائر الأمور.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا في ذلك الطريق، وأن يجعل طريقنا طريق إنسان مسلم إنسان شيعيّ، من شيعة أمير المؤمنين، متابع لأمير المؤمنين، ففي النهاية نحن مدّعون أنّنا شيعة إمام الزمان، نحن ندّعي اتّباع إمام الزمان عليه السلام. ندّعي أنّنا شيعة. فمن الحيف والخسارة أن نطأطئ رؤوسنا خجلاً ونتغاضى عن الأمور، مع وجود كلّ هذه الأوامر والتعاليم النورانيّة، رعاية لبعض العوامّ، وكما يقول المرحوم الحاج: لأجل هذين اليومين من الدنيا وبعض المنافع فنحرم أنفسنا والآخرين من الوصول إلى هذا الماء المعين، وهذه العين النضّاخة، ومنبع الشمس.
أخذ الله بأيدينا جميعًا إن شاء، وجعل أمامنا خطوة بخطوة كلّ ما هو له رضا۱.