المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم التاريخ و الاجتماع
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- مقدّمة؛
- عدم شرعيّة استبدال الشهور القمريّة بالشمسيّة؛
- يجب أن يكون تأريخ جميع المسلمين في العالم هجرياً قمرياً؛
- اليد الأجنبية في تغيير التأريخ الإسلامي؛
- استبدال السنين الشمسيّة بالقمريّة في إيران؛
- الجمع بين التأريخ القمريّ والتأريخ الشمسيّ غير صحيح؛
- إحياء المناسبات على أساس التأريخ القمريّ؛
- منافع اعتماد الشهور القمرية ومضارّ الشهور الشمسيّة.
هو العليم
التقويم الهجري في المجتمع الإسلامي
بحث منتخب من «رسالة جديدة في بناء الإسلام على الشهور القمريّة»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ على محمّد و آله الطَّاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين
و لا حول و لا قوّة إلاّ باللهِ العليّ العظيم
مقدمة
التقويم القمريّ ضرورة من ضرورات الإسلام، وإلحاق التاريخ الشمسيّ بالقمريّ كما هو مألوف في عصرنا هذا عمل خاطئ قد طُبِّق اليوم نتيجة الغفلة عن مفاسده و مثالبه. و يجب على الأقطار الإسلاميّة كافّة ـ تبعاً لضرورة الدين ـ أن تترك التاريخ الشمسيّ الذي شاع في أوساطها بسبب تغلغل الاستعمار الكافر.
إنّ أحد الأركان المهمّة للوحدة الإسلاميّة هو توحيد التاريخ الذي ينبغي أن يُعمَلَ به على أساس التاريخ الهجريّ القمريّ الذي لا ريب فيه من حيث اتّفاق المسلمين و إجماعهم عليه، و من منظار التاريخ، و الحديث، والسيرة النبويّة الشريفة.۱
[و] لدى تأليف كتاب «معرفة الإمام» من سلسلة العلوم و المعارف الإسلاميّة وجدتُ حاجة مُلحّة لكتابة مقدّمة وتمهيد لواقعة غدير خمّ بحثاً في أوضاعها و جوانبها... وما اتصل بها من خصائص الوقائع والملابسات... و من تلكم الوقائع خطب النبيّ صلّى الله عليه و آله في مكّة، و في أرض عرفات و منى. وقد ورد ذكر «النسيء» في خطبته في مسجد الخيف بمنى يوم عيد الأضحى... و النسيء هو تأخير أداء الأحكام و التكاليف المقرّرة في شهر معيّن إلى شهر آخر، و تأجيلها إلى زمن لاحق. و قد عدّ رسول الله صلّى الله عليه و آله هذا النسيء ـ استشهاداً بآية من القرآن ـ زيادة في الكفر، و أعلن أنَّ الفرائض و الأعمال العباديّة ينبغي أن يؤتى بها على طباق الشهور القمريّة، و هي اثنا عشر شهراً، أربعة منها حُرُم هي: رجب، و ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرّم. و يحرم تأجيل الحجّ و سائر الواجبات عن وقتها المعيّن في الشرع وفقاً للشهور القمريّة.٢
و بحول الله و قوّته تبسّطتُ في الحديث عن هذا الموضوع، و التحقيق لاستقصاء أطرافه و جوانبه... و أتممتُ هذا البحث الرائع و النفيس جدّاً، فأصرّ بعض العلماء و الأعلام على طبعه في رسالة مستقلّة ليكون في متناول أيدي الناس عامّتهم، و لا تقتصر الاستفادة منه على من يطالع كتاب «معرفة الإمام» فحسب.
فلبّيتُ طلبهم، و دوّنت هذا البحث بحذافيره في رسالة مستقلّة تحت عنوان «رسالة جديدة في بناء الإسلام على الشهور القمريّة» ليستهدي به أُولو البحث و التحقيق جميعهم. و ما أجري إلاّ على الله، عليه توكّلت و إليه أُنيب والله غاية المسؤول ونهاية المأمول.۱
عدم شرعيّة استبدال الشهور القمريّة بالشمسيّة
إنّ تأخير حرمة الأشهر الحرم عن وقتها حرام في الشريعة الإسلاميّة النيّرة، و كذلك تأخير الآداب و الأحكام و التعاليم المقرّرة في أوقات معيّنة كالصوم في شهر رمضان، والحجّ في شهر ذي الحجّة. لذلك فإنّ استبدال الشهور الشمسيّة بالشهور القمريّة، و استبدال السنين الشمسيّة بالسنين القمريّة لا يجوز بأيّ وجه من الوجوه.
و ليس للمسلم أن يصوم في شوّال أو في غيره من الشهور المعتدلة. أو يصوم في فصل الشتاء لملائمة الجوّ و قصر النهار. أي: ليس له أن يجعل صومه وفقاً لحساب السنين و الشهور الشمسيّة.
و ليس له أن يحجّ في المحرّم أو في غيره من الشهور المعتدلة بسبب ملائمة الجوّ وتبعاً لبيع البضائع والأمور الاعتباريّة و المصالح المادّيّة والدنيويّة. فيجعل حجّه في فصل الربيع أو الخريف. أي: لا يحقّ له أن يحجّ طبقاً لحساب السنين والشهور الشمسيّة.
و كذلك الأمر بالنسبة إلى التكاليف الأخرى من واجبات و مستحبّات و محرّمات و مكروهات. و كذلك بالنسبة إلى الأحكام الاجتماعيّة والسنن الاعتباريّة والآداب والتقاليد والعادات التي يواجهها في المجتمع.
و ليس للمسلم أن يجعل السنة الشمسيّة ملاكاً و ميزاناً لأعماله و تأريخه، ذلك لأنّ القرآن المجيد جعل السنة القمريّة سنة المسلم بكلّ صراحة، فقال: عزّ من قائل: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَتِ وَالأرْضَ مِنْهَآ أرْبَعَةٌ حُرُمٌ.٢
تصرّح هذه الآية بأنّ السنين و الشهور الإسلاميّة الرسميّة هي السنون والشهور القمريّة من جهات متعدّدة:
الأولى: قوله: مِنْهَآ أرْبَعَةٌ حُرُمٌ. لأنّ من الضروريّات أنّ الإسلام لم يجعل شهراً ما من الأشهر الحرم، إلاّ هذه الأشهر الأربعة من الشهور القمريّة، و هي ذو القعدة، و ذو الحجّة، و محرّم، و رجب. و هذه الأشهر هي من الشهور القمريّة، لا الشمسيّة. و جاء في روايات عديدة، و في خطبة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم أنّ ثلاثة منها متوالية و واحداً فرد: ثَلاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ، وَ وَاحِدٌ مِنْهَا فَرْدٌ.٣ و المتوالية هي: ذو القعدة، و ذو الحجّة، و محرّم، و الفرد هو شهر رجب.
الثانية: قوله: عِندَ اللهِ.
و الثالثة: قوله: في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ. فهذان القيدان يدلاّن على أنّ الشهور غير قابلة للتغيير و الاختلاف أبداً. و لا تتأثّر بالوَضْع و الجعل و غيرهما من الأمور الوضعيّة لأنّها عند الله الذي لا يتغيّر علمه و إحاطته، و في كتابه يوم خلق السماوات والأرض.
فقد كانت هكذا في الحكم المكتوب في كتاب التكوين، و في القانون المدوّن في لوح الخلق، و لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ تَعالى. و معلوم أنّ الشهور الشمسيّة مهما كان وضعها و عنوانها و تأريخها شهور عرفيّة وضعيّة تبلورت على أساس حساب المنجّم و الزيادة و القلّة الاعتباريّة و الوضعيّة.
أمّا الشهور القمريّة فإنّها كانت كما هي عليه الآن منذ خلق الله السماوات والأرض. تبدأ برؤية الهلال عند خروجه من المحاق و من تحت الشعاع، وتنتهي بالمحاق و الدخول تحت الشعاع. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لها ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ ، لا الشَّمْسُ يَنبَغِي لها أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ و لا الليْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ.۱
و الشهور القمريّة حسيّة ووجدانيّة ولها بداية و نهاية معيّنتان في عالم التكوين. فهي على عكس الشهور الشمسيّة التي تمثّل شهوراً عرفيّة و اصطلاحيّة. و على الرغم من أنّ الفصول الأربعة و السنين الشمسيّة حسيّة تقريباً، إلا أنّ الشهور الاثني عشر التي لها أصل ثابت هي الشهور القمريّة.
و في ضوء هذا المعنى، فإنّ معنى الآية سيكون على النحو التالي:
أنّ الشهور الاثنا عشر التي تتألّف منها السنة هي الشهور الثابتة في علم الله سبحانه وتعالى. و هي الشهور التي عيّنها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات والأرض. و قرّر الحركات العامّة لعالم الخلق، و منها حركات الشمس والقمر. و أصبحت تلك الحركة الحقيقيّة و الثابتة أساساً وأصلاً لتعيين مقدار هذه الشهور الاثني عشر.
يجب أن يكون تأريخ جميع المسلمين في العالم هجرياً قمرياً
فإن قال قائل:
ما ضرّ لو أنّ المسلمين قاموا بأعمالهم و تكاليفهم العباديّة، من صوم و حجّ وفقاً للشهور القمريّة، و مارسوا آدابهم و شؤونهم الاجتماعيّة و السياسيّة الأخرى وفقاً للشهور الشمسيّة، وحينئدٍ لا يلزم النسيء الذي يمثّل زيادة في الكفر، إذ إنّهم يقومون بأعمالهم التي لا علاقة لها بالشرع على أساس تاريخ آخر كالتاريخ الروميّ أو الروسيّ أو الفرنسيّ أو الفارسيّ القديم من حيث تعداد أيّام الشهور، حسب عقود اعتباريّة يضعونها. و على فرض أنّهم يجعلون هجرة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم بداية للتاريخ في هذه التواريخ المذكورة، فإنّ تأريخهم الرسميّ فقط هو التاريخ الشمسيّ تبعاً للمصالح الدنيويّة.
فإنّنا نقول في إجابته:
إن جميع الإشكالات تنبع من هذا الأسلوب في التفكير، و ذلك:
أوّلاً: أنّ جعل التاريخ الشمسيّ تأريخاً رسميّاً خلاف لنصّ القرآن و السنّة النبويّة و سيرة الأئمّة الطاهرين وعلماء الإسلام، بل خلاف لمنهج المسلمين جميعهم.
ثانياً: هذا العمل يؤدّي إلى فصل الدين عن السياسة، إذ إنّ القيام بالأعمال العباديّة وفقاً للتاريخ القمريّ، و ممارسة الأحكام الاجتماعيّة و الشؤون السياسيّة طبقاً للتاريخ الشمسيّ من المصاديق الواضحة لفصل الدين عن السياسة. و ينتهي بعزل الدين عن شؤون الحياة المهمّة و حصره في الشؤون الشخصيّة والفرديّة.
ثالثاً: و يؤدّي إلى تعطيل الكتب والتواريخ المدوّنة، و قطع الصلة بين الخَلَف و السلف الصالح، لأننا نرى ـ منذ عصر صدر الإسلام حتّى الآن ـ أنّ جميع كتب التفسير، والحديث، والتاريخ والتراجم، و حتّى الكتب العلميّة كالنجوم، و الرياضيّات، و الهيئة و الفقه، و غيرها قد دوّنت على أساس السنين القمريّة و الشهور القمريّة. و نجد أنّ آلاف بل ملايين الكتب المؤلّفة في النطاق الذي كان يحكمه المسلمون سواء باللغة العربيّة، أو الفارسيّة، أو التركيّة أو الهنديّة، أو الإفريقيّة، أو الأوروبيّة الشرقيّة، كلّها تستند إلى التاريخ الهجريّ و السنوات و الشهور القمريّة. فلو جعلنا التاريخ الشمسيّ هو الأساس في التاريخ، أفلا يعني هذا إقصاء تلك الكتب عنّا، و قطع الصلة بين هذا الجيل، و بين الثقافة الإسلاميّة الأصيلة في القرون و الأعصار الماضية؟
إنّ استبدال التاريخ الشمسيّ بالتاريخ القمريّ يماثل استبدال الخطّ الإسلاميّ بالخطوط الأجنبيّة، بل هو من متفرّعات ذلك الأصل و من الفروع الناميّة لذلك الجذر.
رابعاً: و يحول هذا العمل دون اتّحاد المسلمين في العالم، ذلك لأنّ تاريخ المسلمين جميعهم هو التاريخ القمريّ، فإذا استعملنا التاريخ الشمسيّ، فإنّنا سنختلف معهم في التاريخ. و كذلك إذا اختار المسلمون أيضاً لأنفسهم تأريخاً آخر كالتاريخ الميلاديّ أو الزردشتيّ أو الكوريّش أو غيرها من التواريخ. فإنّهم بهذه الطريقة- و يا للاسف ـ سيسيرون في اتّجاه معاكس لاتّجاه النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم ممّا يؤدّي إلى تفرّق كلمتهم و تشرذمهم و شقّ عصاهم و انفصام عقدهم.
إنّ التاريخ من الأمور الأصوليّة للأحكام الإسلاميّة، و اتّحاد المسلمين في التاريخ يفضي إلى اتّحادهم في الثقافة النبويّة و اختلافهم فيه يؤدّي إلى تفرّقهم وتشتّتهم.
و الإسلام الذي جمع الناس كلّهم من عرب، و عجم، و أتراك و أكراد، و هنود، و شرقيّين و غربيّين، و سود و بيض، و صفر و حمر تحت راية واحدة هي راية التوحيد، على الرغم من اختلاف آدابهم و عاداتهم القوميّة حريّ بالتعظيم. و ما أسوأ ما نفعل إذا تركنا المسلمين و شأنهم في التاريخ الذي يعتبر من أهمّ البواعث على الاتّحاد و الوفاق، و أهمّ الدعائم لتوطيد علاقاتهم و تعزيزها! و ليس من الإنصاف أن نجعل كلّ جماعة منهم تسير في الاتّجاه الذي اختارته لنفسها!
و توحيد التاريخ كتوحيد اللغة الملحوظ في العبادات و المناسك، كالقرآن، والصلاة، والدعاء، والذكر، يجعل المسلمين صفّاً واحداً. والاختلاف في التاريخ كالاختلاف في اللغة يشتّتهم و يفرّق كلمتهم.
و بينما نرى المسلمين في العالم يحتاجون إلى الاتّحاد و الوفاق أكثر من أيّ شيء آخر، و أنّ نبيّهم أمرهم بالاتّحاد، و أنّ كتابهم ناداهم بقوله: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا و لا تَفَرَّقُوا، و أنّ القرآن و النبيّ أعلنا أنّ التاريخ هو القمريّ، فلماذا نمزّق رسالة سعادتنا بأيدينا، و نسير في الاتّجاه المعاكس؟
اليد الأجنبية في تغيير التأريخ الإسلامي
و قد تنبّه أعداء الإسلام في القرون الأخيرة جيّداً إلى أنّ السبيل الوحيد للسيطرة على المسلمين، والقضاء على كيانهم العقيديّ و الثقافيّ هو إيجاد التفرقة بينهم في الآداب والتقاليد و تقسيم أقطارهم، و تدمير الأركان التي تقوم عليها وحدتهم، و ذلك تحقيقاً لمصالحهم المادّيّة، و إمعاناً في استغلالهم. لذلك استخدموا كلّ قواهم من أجل تقويض كيان المسلمين، و عملوا كلّ ما في و سعهم لتمزيق أوصالهم على امتداد السنين الخالية. و أفلحوا في ذلك من خلال خطط مزوّرة فجعلوهم طرائق قدداً، و زعزعوا دعائم حضارتهم و آدابهم و أخلاقهم و علومهم واحدة تلو الأخرى.
و كان المرحوم والدي آية الله السيّد محمّد صادق الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه يقول: عندما سيطر الإسكندر على الشرق و فتح الأقطار كلّها، و سار حتّى الهند، كتب إلى أُستاذه أرسطو يخبره أنه استولى على أقطار الشرق جميعها. و طلب منه أن يرشده ماذا يفعل لكي تبقى تلك الأقطار تحت سيطرته.
فأجابه أرسطو أن يقسّم تلك الأقطار المفتوحة إلى أقطار صغيرة، و يجعل على كلّ قطر حاكماً، و يعلن نفسه حاكماً على الجميع! و حينئذٍ تنقاد الشعوب كلّها إلى طاعته و العمل بأوامره، و لا يتمرّد حاكم منهم و لا يرفع لواء المعارضة خوفاً على عرشه. و عندئذٍ تعمر تلك الأقطار و يجدّ حكّامها لحفظ مصالحه. و لو قدّر لأحد أن يقوم ضدّه، فإنّه يبادر إلى قمعه و إخماد نار فتنته بما أُوتي من قدرة كبيرة!
بَيدَ أنّه إذا حكم تلك الأقطار وحده، أو فوّض أُمورها إلى شخص واحد غيره. فإنّه يُخشى من أن يستفحل أمرها شيئاً فشيئاً و تتوحدّ فيما بينها و تتمرّد ضدّه. و ذلك الشخص حتّى لو كان من أخصّ الخواصّ، فإنّه يتمرّد و يطغى أيضاً، و يطالب بالحكومة و السلطنة، و حينَئذٍ يندحر و يأفل نجمه، و تفلت تلك الأقطار كلّها من قبضته!
و قد انتهج الإنجليز نفس الخطّة في تعاملهم مع المسلمين. و ساروا عليها بعد اندحار الإمبراطوريّة العثمانيّة المترامية الأطراف التي حكمت قسماً عظيماً من آسيا، و أُوروبا، و إفريقيا تحت عنوان الخلافة الإسلاميّة أكثر من ستّة قرون (من سنة ۱٢٩٩ إلى سنة ۱٩٢٣ م). تعاقب على حكومتها ثمانية و ثلاثون سلطاناً على التوالي أوّلهم السلطان عثمان خان الغازي الذي تسلّم زمام الأمور سنة ٦٩٩ هـ و آخرهم السلطان عبد العزيز الثاني الذي حكم حتّى سنة ۱٣٤٢هـ . و قد قسّم الإنجليز الدولة العثمانيّة عدّة أقسام، جعلوا على كلّ قسم عميلاً من عملائهم.
فالقسم الأوروبيّ الشامل لأقطار شبه جزيرة البلقان و هنغاريا و قسم من رومانيا الذي يضمّ بوخارست، قسّموه إلى دول: يوغسلافيا (صربيا)، و ألبانيا، و اليونان، و بلغاريا، و قسم من تركيا الأوروبيّة، و هنغاريا (المجر)، و رومانيا الشاملة لبوخارست.
والقسم الآسيويّ قسّموه إلى تركيا، و سورية، و لبنان و الأردن و فلسطين، و الحجاز، و عدن، و اليمن، و العراق، و الكويت.
والقسم الإفريقيّ قسّموه إلى مصر، و طرابلس التي تمثّل القطر الليبيّ، و كما يلاحظ، فإنّهم جزّؤوا الدولة العثمانيّة إلى تسعة عشر جزءاً.
لقد بذل الكفّار قصارى جهودهم بعد تقسيم هذه الأقطار و قبله أيضاً من أجل القضاء على وحدة المسلمين الذين يحملون القرآن المجيد رمزاً لها، و ذلك بعد تغلغلهم في الأقطار الإسلاميّة الأخرى قدراً ما و سيطرتهم عليها تحقيقاً لأهدافهم المشؤومة. و عملوا كلّ ما في وسعهم لزرع الأفكار القوميّة و تعاهدها بالرعاية، و جعل كلّ شعب متمسّكاً بقوميّته و آدابه و تقاليده، و محبّاً لوطنه الذي يمثّل الحدود المعيّنة التي وضعوها في اجتماعاتهم. و شغلوا الناس بالصحف، و الإذاعات، و السينمات، و هيمنوا على معارفهم و ثقافتهم بواسطة المدارس و الجامعات، و تأسيس الجامعات المستقلّة بذريعة الحفاظ على قوميّتهم و آدابهم التي لا تمثّل إلاّ ألفاظاً جوفاء، و هراء لا طائل تحته. و ليس فيها إلاّ الفخر بالعظام البالية النخرة لأسلافهم، و التهافت على مقدار من الكؤوس والكيزان المحطّمة بوصفها آثاراً قوميّة، و جمعها في متاحف فخمة.
فحرّضوا الفرس على التمسّك بالآداب و التقاليد الزرادشتيّة و إحياء (الزَّند) كتاب زرادشت (والاوِسْتا) كتابه المقدّس أيضاً، و المدح المفرط بملحمة الشاهنامة التي نظهما الفردوسيّ، و عرض الأساطير الخاصّة بكورش، و داريوش، و سيروس، و رستم، و زال (والد رستم).
و قد رأينا بأعيننا كيف كانوا يقفزون من فوق النار في آخر أربعاء من السنة الشمسيّة! و كيف يحتفلون بـ (النوروز والمهرجان) ـ و الأخير هو عيد قديم للفرس يعتبر أكبر عيد بعد عيد النوروز ـ و كيف يخرجون من البيوت في اليوم الثالث عشر من فروردين والذي يصادف الثاني من نيسان! وآلاف الحكايات والأساطير المخدِّرة التي كانت تمثّل التعاليم السياسيّة للطبقة الحاكمة المتسلّطة على رقاب الناس، و ينبغي أن تطبّق في هذا البلد مع ما تتطلبّه من تكاليف باهظة.
و اعتبروا لغة القرآن لغة أجنبيّة، و هي اللغة الأولى لكلّ مسلم و لم يعد لتدريسها في المدارس قيمة تذكر، إذ امتهنوها امتهاناً حتّى كادت أن تعدم. و كانوا يستبدلون المفردات العربيّة العذبة بالمفردات الأجنبيّة والغربيّة التي يأخذونها من كتاب «أوِسْتا» متذرّعين بذرائع واهيّة، و أنشأوا مجمعاً لغويّاً لوزارة التربيّة و التعليم لا يشمّ منه إلاّ توجّه محموم يقضي بمحو الإسلام، و الاهتمام بالتغريب.
و قد طبّق المستعمرون أعداء الإسلام هذا المنهج في البلدان الإسلاميّة الأخرى من خلال الاهتمام بالجذور التأريخيّة لكلّ بلد قبل الإسلام. ففي إيران ركّزوا على النعرة الفارسيّة، و في الأقطار العربيّة على نعرة العروبة، و في تركيا على النعرة التركيّة، و في شبه القارّة الهنديّة، على النعرة الهندوسيّة، و هكذا في بقيّة الأقطار حتّى لو كانت صغيرة، كما في الإمارات الواقعة على سواحل الخليج الفارسيّ نحو قَطَر، و القطيف، و أبوظبي، و غيرها، إذ منحوا تلك الأقطار استقلالاً ظاهريّاً، و ضربوا على وتر النعرة القوميّة.
فهذه الأقطار التي قسّموها و منحوها الاستقلال، لم تستقلّ بحقيقة الاستقلال، بل ظلّت تعيش في بقعتها الهزيلة شبه ميّتة، تحت وصاية المستعمرين و انتدابهم.
و من أهمّ الأشياء التي أفلحوا في طمس معالمها هو التاريخ الإسلاميّ القمريّ الذي أبطلوا مفعوله في كافّة الأقطار الإسلاميّة إلا في المملكة العربيّة السعوديّة كما يبدو. و نسخوا ذلك التاريخ، و استبدلوه بالتاريخ الشمسيّ، و ذلك بحجّة أنه نداء للاتّحاد العالميّ، و ضرورة للارتباط بتاريخ الأقطار الصناعيّة و التجاريّة، و أنه لا بدّ منه في العلاقات السياسيّة على الصعيد العالميّ. و أصبح التاريخ القمريّ الإسلاميّ منسوخاً بالتاريخ الشمسيّ متّخذين ميلاد السيّد المسيح بداية له. فأضحى التاريخ الميلاديّ هو التاريخ الرسميّ للبلدان الإسلاميّة، و بذلك لا يعرف الناس شيئاً عن الهجرة النبويّة، و لا عن محرّم و صفر.
و جعلوا بداية السنة في العراق و بلاد ما بين النهرين: كانون الثاني و الشهور شهوراً روميّة، و هكذا بدأوا بالتقويم وفقاً للشهور الميلاديّة التي تبدأ بكانون الثاني، و يقع الشتاء في الشهر الأوّل و الثاني منها. و هذه الشهور هي: كانون الثاني، شباط، آذار، نيسان أيار، حزيران، تمّوز، آب، أيلول، تشرين الأوّل، تشرين الثاني كانون الأوّل ، و هو الشهر الأوّل في الشتاء، و جعلوا ميلاد السيّد المسيح بداية للتقويم، و أطلقوا على السنين: اسم السنين المسيحيّة أو الميلاديّة.
و فعلوا مثل ذلك في أقطار بلاد الشام (سوريا- لبنان- فلسطين) و مصر و غيرها مستعملين تاريخ الإفرنج نفسه وبأسماء إفرنجيّة أجنبيّة مثل: نوفمبر، و ديسمير و أمثالهما. و جعلوا تقويمهم ميلاديّاً أيضاً. و هكذا فعلوا في شبه القارّة الهنديّة (الهند، و الباكستان).
استبدال السنين الشمسيّة بالقمريّة في إيران
و قد وجدوا أنّ من غير الصالح أن يجعلوا التاريخ ميلاديّاً في إيران دفعة واحدة لأنّ شعبها يتشرّف بتشيّعه و اتّباعه العلماء الأبرار و لعدم استسلامه و خضوعه لحكّام الجور، على عكس الشعوب الأخرى التي تعتنق المذهب السنّيّ فإنّها تنظر إلى الحكّام على أنّهم أولو الأمر و أنّ طاعتهم واجبة مهما كانوا. فإذا حكموا بتبنّي التاريخ الميلاديّ، فالجميع سامعون طائعون.
و كان استبدال التاريخ الميلاديّ الشمسيّ بالهجريّ القمريّ عسيراً جدّاً، بل ممتنعاً، و ذلك بسبب وجود العلماء النافذين في هذا البلد الشيعيّ.
لذلك نرى أنّ المستعمرين قاموا بتحقيق أهدافهم في هذا المجال بشكل مرحليّ، لكي يعتاد الناس على المراحل السابقة و يألفوها شيئاً فشيئاً، فلا يجدوا مانعاً من تنفيذ المراحل اللاحقة.۱
و قد أشرنا فيما سبق إلى أنّ هؤلاء يقولون: «لا شغل لنا بالتاريخ الهجريّ، فله موقعه و منزلته. إلاّ أنّ التاريخ الرسميّ الحكوميّ ينبغي أن يكون شمسيّاً و فروردينيّاً و شاهنشاهيّاً».
أي: إنّ ما ينفع البلاد هو فروردين، والاعتزاز بعرش كورش و الملوك الهخامنشيّين. و هذا هو الذي يفصل الناس عن الدين و يقطع علاقتهم بدينهم، و دفاعهم عن وطنهم و أعراضهم و أرواحهم وأموالهم ضدّ الأجانب، و هو ما يروق للاستعمار.
و أيّ ضرر يصيب الاستعمار و خططه المشؤومة إن وضعت العجوز الفلانيّة التاريخ الهجريّ في طيّات "مفاتيح الجنان"، أو عيّن الشيخ الفلانيّ آداب "ليلة الرَّغائب" وأعمالها في ضوئه؟
يقولون:
«لو اتّخذنا الهجرة النبويّة بداية لتأريخنا، فإنّ هذا يؤدّي إلى النقص و الانكسار في تأريخنا، و لكن لو اتّخذنا جلوس كورش على العرش بداية له، فإنّ هذا يبعث على رفعتنا و شموخنا».
أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللهِ.٢
فشعوب العالم بأسرها تفتخر و تتشرّف بانتمائها إلى أنبيائها. و النصارى في شتّى أرجاء العالم يتّخذون ميلاد السيّد المسيح عليه السلام تاريخاً لهم. و هؤلاء المجوس و اليهود جميعهم يجعلون تقويهم على هذا الأساس نفسه.
فهل صار محمّد المصطفى وصمة عار لكم حتّى تأبوا من الانتماء له؟!
أنتم مطيّة الاستعمار، تركتم البلدان الاستعماريّة جميعها وراءكم! فإنّها غيّرت تأريخها من الهجريّ إلى الميلاديّ. و السيّد المسيح نبيّ عظيم، و قد أعرضتم عنه أيضاً! بل وعن جميع الأنبياء إذ نبذتموهم وراء ظهوركم و أقبلتم على كورش و سيروس لائذين بهما من دون الأنبياء! أُفٍّ لَكُمْ وَ لِمَا تَسِيرُونَ على مَنْهَجِ الشَّيْطَانِ.
و هنا تثور غِيرة الله سبحانه تعالى، و يأبى مقام عزّته مثل هذه الانتهاكات الصارخة. و بعد مراحل ثلاث: الأٌولى: استبدال الشمسيّ مكان الهجريّ، الثانية: استبدال القديم مكان الشمسيّ، الثالثة: استبدال الشاهنشاهيّ مكان القديم. فلابدّ أن يعمّهم البلاء و يذوقوا وبال أمرهم و يلاقوا جزاء ما كسبت أيديهم و ما سوّلت لهم أنفسهم. و تنهار قصورهم على رؤوسهم. و يستبدل الخبر بالأثر. فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لم تَغْنَ بِالأمْسِ.۱
فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ.٢
و كان من المتوقّع ممّا نقلناه، و بعد انهيار قصر الظلم و الاستبداد، و التحرّك العارم للشعب المسلم الذي ارتضع أبناؤه لبن أُمّهات أرضعنهم باسم الحبيب المصطفى خلال ألف و أربعمائة سنة، و تفويض أمر الشعب إلى الشعب نفسه في مجلس الخبراء، أن يكون التاريخ هجريّاً قمريّاً فقط، إلاّ أنّهم لم يفعلوا ذلك. و تمّ تدوين المادّة السابعة عشرة من دستور الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة على النحو التالى:
«بداية التاريخ الرسميّ للبلاد هجرة النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم وكلا التاريخين: الشمسيّ، و الهجريّ رسميّان معتبران. و تعتمد الدوائر الحكوميّة في أعمالها على التاريخ الشمسيّ. و العطلة الرسميّة الاسبوعيّة هي يوم الجمعة».
الجمع بين التأريخ القمريّ والتأريخ الشمسيّ غير صحيح
و نرى هنا أنّ الإصلاح الذي أُجري في هذا المجال تناول المسألة الثالثة فقط، أي: الرجوع من التاريخ الشاهنشاهيّ إلى التاريخ الهجريّ الشمسيّ. و حيث السنون الشمسيّة لا زالت رسميّة سارية المفعول، و الشهور المجوسيّة القديمة كخرداد و بهمن لم تتغيّر أيضاً.
و هنا ثلاثة إشكالات:
الأوّل: ما هو معنى الجمع بين التاريخين و اعتبارهما رسميّين معاً؟ و نحن نعلم أنّ القرآن الكريم يركّز على الشهور القمريّة في التاريخ فقط. و كذلك السنّة النبويّة و منهج أئمّة الدين فإنّهما يقتصران على الشهور القمريّة لا غير إجماعاً و اتّفاقاً، فرسميّة الشهور و السنين الشمسيّة منضمّة إلى الشهور القمريّة أمر غير صحيح أبداً.
و الثاني: لماذا تتبنّى الدوائر الحكوميّة التاريخ الشمسيّ في أعمالها، إذ يبقى الإشكال قائماً في كلا المرحلتين؟ و إذا كان الدين غير منفصل عن السياسة، فلابدّ أن تتبنّى الدوائر الحكوميّة الشهور القمريّة فقط. فمن أين جاء هذا الانفصال؟
و الثالث: أنّ تبنّي التاريخ الشمسيّ من قبل الدوائر الحكوميّة عبارة أُخرى لإضفاء الرسميّة على الشهور و السنين الشمسيّة، لأنّ الرسميّة لا معنى لها إلاّ أن يطبّق التاريخ عمليّاً. و على هذا فالدوائر الحكوميّة تعترف بالتاريخ الشمسيّ لا القمريّ. و تتعامل فيما بينها به دون القمريّ. و هذا هو المحذور عينه و الحرج نفسه.
و ما الفرق بين هذا المشروع و ذلك المشروع الذي تمثّل بالتغيير الثالث المصادق عليه في المجلسين؟ فأصحاب ذلك المشروع كانوا يقولون:
«التاريخ الهجريّ له موقعه وحرمته، ويستعمل عند القيام بالامور الدينيّة. و التاريخ الشاهنشاهيّ القديم يستعمل في الشؤون الرسميّة للبلاد و دوائرها، و في الزيارات الحكوميّة الرسميّة، و الجلسات، و الندوات، و المؤتمرات و الاحتفالات، و المناسبات، و المعاهدات، و غير ذلك».
إحياء المناسبات على أساس التأريخ القمريّ
و هؤلاء اليوم لا يهتمّون بالتاريخ القمريّ في الشؤون الرسميّة، و يؤرّخون ذكرى الثورة، واستشهاد رجالها، و الاحتفالات و غيرها بالتاريخ الشمسيّ. فاستشهاد المرحوم الشيخ مرتضى مطهّري مثلاً كان في اليوم الخامس من جمادى الآخرة، بينما يؤرّخونه في اليوم الثاني عشر من أُرديبهشت۱ و هكذا دأبهم في المناسبات الأخرى، فيؤرّخون استشهاد المرحوم دستغيب، و المرحوم صدوقي، و المرحوم قاضي، و المرحوم أشرفي، و المرحوم مفتّح الذي جعلوا يوم استشهاده يوماً للفيضيّة (مدرسة دينيّة في قم) و الجامعة، و يوماً لتلاحم طلاب العلوم الدينيّة مع طلاب الجامعات، و غير ذلك من المناسبات بالتاريخ الشمسيّ الفارسيّ.
و يؤرّخون رحلة العلاّمة آية الله الطباطبائيّ التي وقعت في الثامن عشر من المحرّم٢، في ٢٤ آبان، في حين أنّ روح ذلك المرحوم تستاء من إحياء المناسبات السنويّة بالتاريخ الشمسيّ، و هو متحقّق بالحق و حقّانيّة تطبيق الشهور و السنين القمريّة.
ناهيك عن أنّ هذه المناسبات، و الاحتفالات و الاستشهادات، و التأبينات لمّا كانت قد جرت على أساس النهضة الدينيّة الإسلاميّة، فمن الأنسب أن يحتفل بذكراها باعتماد الشهور القمريّة و ذلك لترسيخها و تخليدها في أذهان أبناء الجيل المعاصر و القادم، فاستشهاد العالم المظلوم الغريب المجاهد السيّد حسن المدرّس رضوان الله عليه بكاشْمَر كان في السابع والعشرين من شهر رمضان و هو صائم، و حيث كان قائماً بالصلاة عند غروب الشمس. فهل من الأفضل أن نحيي ذكراه في هذا التاريخ أو في العاشر من آذر٣ ؟ و استشهاد المرحوم الشيخ فضل الله النوريّ شهيد طريق الحق و العدالة الذي شنقوه يوم الثالث عشر من رجب٤ ، و هو يوم ميلاد أمير المؤمنين عليه السلام، فأيّهما أفضل إحياء ذكراه في هذا التاريخ أو في الشهر الشمسيّ الفلانيّ؟
و عندما ثار الشعب بعد العاشر من المحرّم، و أقام مجالس العزاء عشرة أيّام بتمامها، و أحيى ذكر سيّد الشهداء عليه السلام في المجالس و المحافل من خلال الخطب و الكلمات و المحاضرات التي ختمت بالخطاب التاريخيّ الذي ألقاه قائد الثورة في المدرسة الفيضيّة عصر العاشر من المحرّم، ممّا أدّى إلى اعتقال كثير من العلماء و الفضلاء في طهران و المدن الأخرى، حيث نُقِلَ قائد الثورة إلى طهران لإعدامه، و حدثت وثبة الشعب المسلم في طهران و قم، فهل من الأفضل أن نحيي هذه الذكرى في اليوم الثاني عشر من المحرّم أو في الخامس عشر من خرداد؟
و لمّا نهض أهالي طهران في الليلة الأولى من المحرّم و اليوم الأوّل منه و كانوا قد لبسوا الأكفان و هم يردّدون شعار: الله أكبر، إحياءً لذكرى سيّد الشهداء عليه السلام و قام النظام البهلويّ السفّاح بقمع هذه الوثبة قمعاً دمويّاً، فهل من الأفضل أن نحيي هذه الذكرى في الأوّل من المحرّم، أو في الخامس من مِهر؟
و تعقد الندوات و الجلسات هذه الأيّام في أقطار العالم الإسلاميّ حسب التاريخ الميلاديّ، و الإيرانيّون يؤاخذون تلك الأقطار على استعمال التاريخ الميلاديّ. و لو تساءلت تلك الأقطار عن التاريخ الذي ينبغي أن تتبنّاه و تشترك فيه مع الأقطار الأخرى، فهل هناك تاريخ يوحّدها مع غيرها سوى التاريخ الهجريّ القمريّ؟ و تؤاخذنا تلك الأقطار أيضاً أنّ السنين الشمسيّة غير إسلاميّة، و أنّ فروردين و بهمن و غيرهما من الشهور الفارسيّة هي غير إسلاميّة أيضاً، إذنْ ينبغي أن نتلاحم و نتكاتف لإصلاح شؤوننا على أساس قاعدة قرآنيّة صحيحة، و ذلك لتتضافر جهودنا ونساهم جميعنا في أوّل شيء يمثّل شرطاً لوحدة المسلمين
و نقول مرّة أُخرى أيضاً: كيف لا يصحّ أن نؤرّخ ذكرى استشهاد أمير المؤمنين عليه السلام بالتاريخ الشمسيّ، لأنه سيقع في شوّال يوماً، و في ربيع الأوّل يوماً آخر؟ وكيف لا يصحّ أن نجعل عاشوراء بالتاريخ الشمسيّ، لأنّه سيقع في رجب مرّة، و في شوّال مرّة أُخرى؟ و كيف لا يصحّ أن نجعل النصف من شعبان حيث ولادة الإمام صاحب الزمان عليه السلام بالتاريخ الشمسيّ، لأنه سيقع في محرّم يوماً، و في صفر يوماً آخر؟ و بصورة عامّة تدور في السنة كلّها، و كذلك لا تصحّ في سائر المناسبات السنويّة۱
و هذا هو النسيء الذي نهانا عنه القرآن، و حذّرتنا منه السنّة النبويّة بشدّة من خلال خطبة حجّة الوداع. ذلك لأنّ السنين الشمسيّة تتأخّر عن السنين القمريّة. و لو قدّر أن نجعل التقويم على أساس التاريخ الشمسيّ، فقد أخّرنا أحد عشر يوماً كلّ سنة عن أوقات السنة السابقة؛ إذَنْ لا سبيل لنا إلا تبنّي الشهور القمريّة، و ذلك لكي لا نبتلى بالنسيء، و لنجعل كلّ فعل في موضعه و زمانه الخاصّ به.۱
منافع اعتماد الشهور القمرية ومضارّ الشهور الشمسيّة
و الإسلام الذي هو دين عامّ و عالَميّ و فطريّ قد قرّر لجميع الناس في العالم تنظيم السنين و الشهور على أساس رؤية الأهلّة و الشهور القمريّة. و هذا الأمر في غاية من الدقّة بحيث لو افترق شخصان من المجاهدين في سبيل الله، أحدهما في شرق الكرة الأرضيّة، و الآخر في غربها، و ظلاّ على ذلك الافتراق أعواماً مديدة ليس معهما تقويم، و لا منجّم و لا حاسب، ثمّ التقيا، فإنّهما يعلمان في أيّ يوم من أيّام السنة، و في أيّ شهر من شهورها يعيشان. ذلك لانّ عندهما حساب الشهور بواسطة رؤية الهلال، و حساب السنين باثني عشر شهراً لكلّ سنة، و كذلك عندهم حساب الأيّام.
و هذا قانون لا يعتريه النقصان و الزيادة، و هو غنيّ عن محاسبة المنجّم. و لا خلاف بين القائلين به وأتباعهم. و لا يحتاج إلى الجَعْل والحَدْس والتقريب والتخمين والوضع العرفيّ.
وهذا قانون يتيسّر له توجيه الناس و إدارة شؤونهم. و يبثّ حكمه إلى شتّى أرجاء العالم مهما كانت الظروف و الأحوال، و يوحّد الجميع تحت راية واحدة و تاريخ واحد و تقويم واحد. و هذه هي الشريعة السهلة العامّة التي تحدّث عنها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، إذ قال: بُعِثْتُ على شَرِيعَةٍ سَمْحَةٍ سَهْلَةٍ.
أمّا لو قدّر أن يكون التقويم الشرعيّ و الإسلاميّ هو التقويم الشمسيّ، فالله أعلم بالإشكالات التي ستحصل جرّاء ذلك.
أوّلا: الحاجة إلى الرَّصَد، و المنجّم، و تعيين نقطة الاعتدال الربيعيّ، أو الخريفيّ، و الإسلام لا يقيّد أحكامه أبداً بالحاجة إلى أمر خارجيّ مجعول.
ثانياً: أيّ شهر من الشهور الشمسيّة يمكن أن يكون معتبراً؟ ذلك لأننا عرفنا أنّ مقدار الشهور الشمسيّة يتفاوت حسب التقاويم المختلفة.۱
ثالثاً: لو خُوّل المنجّم صلاحيّة تعيين الشهور، فإنّ كلّ واحد من المنجّمين ينظّم الشهور بشكل خاصّ حسبما يراه. ممّا يبعث على نشوب الخلاف و الاختلاف بين أبناء الأمّة في التقويم و الأحكام. و نحن نعلم أنّ المنجّمين لو لم يخطأوا في أصل حساب الكبيسة و تعيين مقدارها، فإنّ الصلاحيّة في تعيين مقدار الشهور أمر مجعول و خاضع لنفوذهم. و لا يمكن تقديم رأي لمنجّم خاصّ على رأي منجّم آخر مع حفظ أُصول الحساب.
و رابعاً: يؤدّي هذا الأمر إلى اختلاف المسلمين في بقاع مختلفة من العالم لتعذّر الحصول على تقويم و تاريخ معيّنين. و يُضيع أهل القرى و الأرياف، و القوافل، و المسافرون عبر البحر و الجوّ- لو طال سفرهم ـ حسابَهم. و حينئذٍ لا يبقى مفهوم و مصداق لخلود الشريعة، وَ حَلالُ مُحَمَّدٍ حَلالٌّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَ حَرَامُ مُحَمَّدٍ حَرَامٌ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.٢
و لذا نرى كيف اعتبرت الآية الكريمة: إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَآ أرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ:
أوّلا: ترتيب الشهور القمريّة منوطاً بالخلق، و عددها الاثنا عشر مرتبطاً بأصل التكوين والفطرة، و خلق السماوات و الأرض. مضافاً إلى أنها عرضت ذلك بوصفه الدين القيّم، أي: الثابت. وبعبارة أُخرى، أنّ السنين القمريّة و الشهور القمريّة هي دين الله القيّم الثابت وحكمه الذي لا يتغيّر و لا يقبل التحريف ما دامت السماوات والأرض٣
مرحباً بهذا الدين ذي التاريخ الدقيق و المنظّم إلى درجة أنّ هذا اليوم الذي نحن فيه، و هو الرابع من ربيع الثاني سنة ألف و أربعمائة و خمس للهجرة، هو نفسه في أرجاء العالم كافّة، و بين المسلمين جميعهم بلا خلاف، فاليوم هو نفسه، و كذلك الشهر و السنة.
و الآن ندرك كيف حاول الاستعمار أن يخلخل هذا التاريخ القويم، و يقطع و شائج الوحدة بين المسلمين، و يقصّ هذا الحبل المتين على أساس الشهور و السنين الشمسيّة، مع أنّ بداية الهجرة محفوظة، أو على أساس استبدال التاريخ الهجريّ بالتاريخ الميلاديّ أو الشاهنشاهيّ. قَطَعَ اللهُ أَيْدِيَهُمْ، وَ تَبَّتْ كَلِمَتُهُمْ، وَ لُعِنُوا بِمَا قَالُوا وَ بِمَا عَمِلُوا، وَ ثَبَّتَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِدِينِهِمُ الْقَوِيمِ وَ صِرَاطِهِمُ الْمُسْتَقِيمِ، وَ أعلى كَلِمَة المسلمينَ، و هي الْكَلِمَةُ الْعُلْيَا.
ثانياً: من المنافع التي تدرّها السنون و الشهور القمريّة ـ حسب ما يؤدّيه النظر ـ دوران أعمال المسلمين على جميع الفصول و الأوقات المختلفة من السنة؛ فمثلاً صيام شهر رمضان يدور في الفصول المختلفة. و يصوم المسلم في الشتاء، و الربيع، و الصيف، و الخريف دون أن يكون هناك أيّ تخلّف. و في ضوء ذلك، مضافاً إلى أنّ طبيعة الإنسان في الفصول الأربعة تحتاج إلى الصوم فيها ـ استناداً إلى كون الأحكام و القوانين ناشئة من أصل الفطرة ـ و أنّ الفوائد الصحيّة للصوم تعود إليه بنحو تامّ، فإنّه يعدّ الإنسان و يقوّي إرادته على تحمّل الجوع في أوقات طويلة و حارّة أيضاً؛ و في ضوء ذلك سيتيسّر للمسلم الجهاد في سبيل الله دائماً ـ و هو الفريضة الواجبة و العامّة على الشيوخ والشباب ـ فلا يختصّ بفصل الشتاء و اعتدال الجوّ، و ربّما يقع في الصيف القائظ. إذ يلزم على الأمّة الإسلاميّة أن تنهض للجهاد ضدّ خصومها و تدافع عن حقوقها الحقّة سواء في الجوّ الحارّ الشديد و النهار الطويل أو في البرد القارص و شدّته. و كذلك الحجّ الذي يقام في ذي الحجّة و يدور في الفصول الأربعة فإنّه يعدّ الإنسان للجهاد، والسفر في طرق نائية مهما كانت الظروف مضافاً إلى ما يقتطفه المسلم من ثمار الحجّ حتّى في البرد القارص و الحرّ الشديد.
و حصيلة القول: إنّه لمّا كان الإنسان بطبعه يمرّ على الفصول الأربعة على امتداد العام، فإنّ الإسلام المرتكز على قاعدة الفطرة البشريّة قد وضع أحكامه و تكاليفه كذلك تدور مع الطبيعة الإنسانيّة ضمن دورة الفصول الأربعة.۱
أجل، فالشهور القمريّة هي ملاك التقويم للأمّة الإسلاميّة، لا غيرها، و ذلك وفقاً للأدلّة الشرعيّة و التجربة التاريخيّة.٢
وللّه الحمد و له المنّة على توفيقه لتقديم هذا البحث النزيه ليطالعه القرّاء المحترمون في هذه الرسالة.٣
[ملاحظة: تمّ انتخاب هذا البحث من كتاب «رسالة جديدة في بناء الإسلام على الشهور القمريّة» تأليف المرحوم العلاّمة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني رضوان الله عليه، وقد تمّت مقابلة المتن مع الأصل الفارسي من قبل الهيئة العلميّة في لجنة الترجمة والتحقيق، وفي الرسالة تحقيقات علميّة مفصّلة حول تفسير الآيات المتعلّقة بالموضوع وأنظار علماء الفلك وأبحاث تاريخيّة متنوّعة لا بدّ من الاطّلاع عليها لمن أراد الإحاطة به وتجدر الإشارة إلى أنّ الحواشي التي بين معقوفتين هي من قبل الهيئة العلميّة]