المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم الفقه والأصول
التوضيح
تتحدّث هذه المقالة عن ظاهرة عيد النيروز، وتأثيره على ثقافة الشعب الإيرانيّ وعاداته وتقاليده من جهة. كما تتناول من جهة أخرى نظرة الإسلام إلى هذا العيد. وقد بحثت عن العديد من المسائل المرتبطة بهذا الموضوع ضمن أربعة فصول وخاتمة.
وبعد دراسة المعنيين اللغوي والاصطلاحي لمفردة النيروز، سيظهر أنّ تحديد بداية السنة كان محلّ خلاف بين العلماء عبر مختلف العصور. ومن جهة أخرى يرى الشيعة اعتمادًا إلى العقل والنقل، أنّ ما يُعترف به ويمضى هو ما ينتسب إلى المعصومين عليهم السلام وما ينسجم مع أهداف الشريعة ومبانيها لا غير، وأنّ السنن والأعياد الإسلاميّة لا تشذّ عن هذا القانون؛ والنيروز لا يحظى باعتراف من الأئمّة المعصومين. والروايات الواردة في هذا المجال ـ لا سيّما تلك المنقولة عن المعلّى بن خنيس ـ موضوعة، وسيتمّ استعراض جميع الأدلّة المقامة على إثبات النيروز أعمّ من الروائيّة والأصوليّة والفقهيّة والعقليّة والاجتماعيّة و... ، ونقدها وتقديم إجابات قاطعة وواضحة عليها.
هو العليم
عيد النيروز في منظار العقل والشرع
بحث منتخب من «نوروز در جاهليّت واسلام»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذُ باللهِ منَ الشيطانِ الرجيم
بسمِ الله الرحمنِ الرحيم
وصلَّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّدٍ
اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآل محمّد
وعلى آله الطيِّبين الطاهرين ولعنة الله على أعدائِهم أجمعينَ
مقدّمة
اهتمت جميع المدارس الإلهيّة والأديان السماويّة ـ لا سيّما الشريعة الإسلاميّة المقدّسة ـ برعاية المبادئ الأخلاقيّة، ونظرت إليها كأصول مسلّمة؛ يقول الرسول الأكرم: «بُعثتُ لأُتَمِّمَ مَكارِمَ الأَخلاَقِ».۱ وقد بذل عظماء الدين من الأنبياء والمعصومين عليهم السلام، وحتّى من العرفاء الإلهيّين والعلماء الحقيقيّين مساعيَ جمّةً وجهودًا بالغة في سبيل بيان المسائل الأخلاقيّة، علاوةً على توضيح الأحكام والتكاليف الشرعيّة المفروضة.
وفي سبيل تكميل النفس والخروج بها من عوالم الوهم والخيال، بنى الإسلام بنيانه ـ بعد أداء الفرائض واجتناب النواهي ـ على أساس من مراعاة الموازين الأخلاقيّة، فاستبدل موتَ الضمير والوجدان، وغلبةَ البهيميّة والحيوانيّة، والتخلّيَ عن التفكير الإنساني الراقي والأخلاقِ الرفيعة وتكاملِ النفس، بتنمية قوى العقل والفطرة.
ولم تنزل الشرائع والأديان الإلهيّة حين نزلت إلا لتحقيق ذاك الهدف؛ فإذا الإنسان ـ بمساعدة العقول المنفصلة وتربية الطاهرين المصطفين ـ قادرٌ على الوصول إلى المبادئ السامية للفطرة والتوحيد؛ آمنٌ من الانغماس في تلك الأخطار والمهالك، تنشقُ روحه العبير، و تنشط نفسه في آفاق عوالم القدس.
ومن هنا، فكلّما ابتعدنا عن أوامر الشرع المبين وتعاليمه، كلّما ازدادت غلبة الهوى وحكومة العواطف وسلطة التخيّلات والتوهّمات على نفوسنا وقلوبنا، وابتعدنا أكثر عن الموازين العقليّة والمنطقيّة، بلا فرق في ذلك بين العالم والجاهل، وبين رجل الدين وغيره، وبين المطّلع وغيره؛ إذ إنّنا جميعًا نمتلك نفوسًا وتخيّلات وتوهّمات، ولم يُعطَ لأيّ منّا ضمان لنيل السعادة والأمن من خُدع الشيطان وحبائله، وليس هناك مَن ساحتُه منزّهة عن الخطإ والاشتباه والعصيان والأنانيّة، حيث إنّ الشيطان يُرافق كلّ إنسان ويُسايره في طريقه ومساره المناسب له.
وبشكل عامّ، فإنّ ميزان ومعيار كلّ عادة قيّمة وسنّة مرضيّة في الأديان الإلهيّة ـ والذي يكون سببًا في تحسينها أو تقبيحها ـ هو بعدها العقلانيّ؛ وعليه، فإنّ العمل على إحياء أيّة عادة أو تقليد من تقاليد التراث هو ليس في حدّ نفسه مطلوبًا ومرضيًّا، بل كثيرًا ما يكون معارضًا لموازين الشرع ومبادئ مدرسة التوحيد.
وتُعدّ مسألة النيروز من العادات والتقاليد التي دئِب عليها العديد من الناس خلافًا لما أمر به الإسلام وحثّ عليه عظماء الدين.
ومنذ قديم الزمان وهذه المسألة ـ بجميع ما يرتبط بها ويرافقها من عادات وتقاليد ـ يلفّها الإبهام والغموض في تاريخ وثقافة الشعوب الإسلاميّة وخصوصًا الإيرانيّ منها، وهي لا تزال تحتاج إلى البحث والتحقيق والمناقشة. وقد كان الناس المهتمّون بهذه الظاهرة تارة من أتباع الديانة الزرادشتيّة والمتشبّثين بالعادات والتقاليد القوميّة، وهم غالبًا بمنأى عن التعاليم الإلهيّة والمعنويّة الواردة في الشرائع النبويّة، في حين كان المهتمّون بها تارة أخرى ـ ويا للعجب ـ من المتصدّين لبيان مبادئ الوحي.
إنّ حلول السنة الجديدة يعني في الحقيقة انقضاء سنة من عمر الإنسان واقترابه بذلك المقدار من موته ورحيله إلى دار الأبد؛ أفهل يستوجب ذلك التهنئة والتبريك؟! أم يستدعي بطبعه عند الذين يقضون أعمارهم في الأمور العادية والعبثيّة الندم والخسران والعزاء ، بدلًا من الفرح والسرور والابتهاج.
ولقد التفت هذا الحقير خلال السنوات الطوال التي تشرّف فيها بخدمة العالم بالله وبأمر الله وصحبته والاستفاضة من رشحات نفسه القدّوسية، حضرة الوالد المعظّم العلاّمة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (أفاض الله علينا من شآبيب أنواره القدسيّة)، وتنبّه إلى أنّ: جميع الأحكام والسنن الإلهيّة الصادرة من منبع الوحي ينبغي أن تكون مشتملة على واقعيّة وحقيقة معرفيّة سامية، تهدف إلى إصلاح النفس وتجرّدها عن الكثرات الآفاقيّة والأنفسيّة، ورقيّ العقل الإنساني في المرتبة، سواءً اتّضحت لنا هذه الدرجة من المعرفة أو خفيت عنّا، وأنّ الله تعالى لم يُشرّع أيّ حكم لغوًا وعبثًا واستنادًا فقط لمسألة المولويّة، بل إنّ كلّ حكم صدر من مبدإ التشريع وصار منجّزًا وفعليًّا بالنسبة للإنسان ـ سواءً كان هذا الحكم إلزاميًّا كالوجوب والحرمة أو كان كالمستحبّ والمكروه ـ فإنّه يتّصف قطعًا بتلك الحيثيّة الربطيّة القائمة بين العبد وبين مراتب فعليّته، ويكون ناظرًا للمناسبة الدائرة بينهما؛ وبناءً على ذلك، فبوسع الإنسان أن يُدرك بنفسه استنادَ حكمٍ إلى الله تعالى قبل أن يرجع في مقام التحقيق والقطع إلى مصادر هذا الحكم وأدلّته، وذلك بالاعتماد على توجّهه إلى فطرته وضميره وقلبه.۱
وفي هذا الصدد، فقد كانت مسألة الشعائر الدينيّة وما يرتبط بمدرسة التشيّع من بين المسائل التي أبدى المرحوم العلاّمة الطهراني اهتمامًا بالغًا بإقامتها وتثبيتها، حيث تجلّت هذه المسألة في حرصه على إقامة مجالس العزاء والأعياد بشكل مستمرّ على مدار السنة، كما أنّه أوصاني بنفسه بضرورة الاستمرار ـ سواءً في حياته أو بعد وفاته ـ في إقامة المجالس التي كانت تُعقد في منزله في فترة ما بين الطلوعين، وكان يُؤكّد كثيرًا على خصوص الاحتفال بعيد غدير خمّ، عيد الولاية والإمامة، ويقول:
«ينبغي اتّخاذ هذا العيد بدلاً عن عيد النيروز المتعارف والذي هو من السنن الجاهليّة للإيرانيّين، وعلى الناس أن يتخلّوا عن السنن الجاهليّة والتقاليد السائدة قبل الإسلام، وأن يُقيموا جميع شؤونهم المرتبطة بالعادات والتقاليد والثقافة والعلاقات الاجتماعيّة والشخصيّة على أساس إمضاء الشارع المقدّس ورضاه».۱
وقد ذكر مرارًا لهذا الحقير: «إنّني أرغب في كتابة مؤلّف عن النيروز ومراسمه الشائعة!» حتّى أنّه سجّل مجموعة من رؤوس الأقلام وأعدّ بعض النقاط التي لفتت نظره، وجعلها مشروع مقالة تحت عنوان: "نوروز، بدعت وگمراهى"٢ ، لكن للأسف، لم تقتض المشيئة الإلهيّة أن يوفّق لإنجاز هذه المقالة، فبقيت على ما هي عليه.
الفصل الأوّل: دراسة حقيقة النيروز وجذوره مع غضّ النظر عن مطابقته للموازين الشرعيّة وعدمها
يبدو أنّ القاموس اللغوي «دهخدا» هو المصدر الذي بوسعنا عدّه كجامع لمختلف الأقوال والمصادر التي تعرّضت للحديث عن تاريخ النيروز [حيث تطرّق للمواضيع التالية]:
"تعريف النيروز ـ نيروز العامّة ونيروز الخاصّة ـ ظهور النيروز وتسميته ـ آداب الاحتفال بالنيروز والنيروز في عصر الخلفاء". [وبيّن الاختلاف حول هذا اليوم وأنّه هل هو الأول من فروردين أم السادس؟ وبين الأقوال التي تدّعى وتنسب نسبة إلى مجاهيل حول سبب الاحتفاء به وعدّ منها ما يقارب العشرة أقوال، وبيّن أنّه لم يكن يومًا محدّدًا بل كان يدور في أيام السنة، وتحدّث عن دور الملوك في تثبيته واختلاق الآداب والرسوم الخاصّة له...]٣ ويمكن أن نخرج من مجموع المراجع والمصادر المختلفة بعدّة نقاط:
النيروز مجرّد ظاهرة تكوينيّة ولا علاقة لها بالعادات والتقاليد
النقطة الأولى: أنّ النيروز ـ بصفته ظاهرة تكوينيّة وحقيقة خارجيّة ـ هو عبارة عن نزول الشمس في برج الحمل، حيث يجُعل ذلك أساسًا لبداية السنة الشمسيّة؛ إذ إنّ التاريخ الميلادي هو أيضًا تاريخ شمسي، غير أنّه يبدأ في الأوّل من شهر كانون الثاني (يناير) والمصادف للحادي عشرمن شهر (دي)، ويكون معيار الحركة فيه هو دوران الأرض حول الشمس، وليس دوران القمر حول الأرض؛ فلا علاقة لهذا الأمر بالأمور الاعتباريّة والعادات والتقاليد والتوهّمات.
الاختلاف حول سبب تسمية النيروز وحول زمانه وعدم وجود مبرّر عقلائي لجعله بداية للسنة
وأمّا النقطة الثانية، فترتبط بسبب اشتهار تسمية هذا اليوم بالنيروز: فاعتبر البعض أنّ وجه هذه التسمية راجع إلى خلق السماء في هذا اليوم، حيث كانت الكواكب السبعة بأجمعها في أوج مداراتها، وكان أوج كلّ منها في نقطة أوّل برج الحمل، فأُمرت الكواكب بالحركة والدوران في هذا اليوم الذي شهد أيضًا خلقة آدم عليه السلام؛ ولهذا السبب، فقد سُمّي بالنيروز.
[وهناك احتمالات أخرى كجلوس جمشيد على العرش في آذربايجان واحتفال الناس بذلك وما شابه، وبالتأمّل في هذه الوجوه الأسطوريّة التي ذكرت۱] يتبيّن أنّ علّة اختيار النيروز كأوّل يوم للسنة من قبل الشعوب الإيرانيّة القديمة لا يتوفّر على أيّ دليل عقلائي يعتنى به، وأنّ تحويل السنة الجديدة ـ والذي هو عبارة عن اقتران الشمس بأوّل برج الحمل ـ قد تمّ تدوينه من قبل علماء الهيئة قبل عدّة قرون من ظهور الإسلام. كما أنّ النيروز كان قبل العصر الساساني في أوّل الربيع، ثمّ بدأ ينتقل على عهد الساسانيّين عبر مختلف الفصول؛ ولهذا، فإنّ النيروز كان مصادفًا في السنة الأولى من التاريخ اليزدجردي للسادس عشر من شهر حزيران الرومي؛ فكان في أوائل فصل الصيف تقريبًا، إلى أن صار في حدود سنة ٣٩٢ هجريّة قمريّة أوّل الحمل، واقترن في سنة ٤٦۷ ببرج الحوت؛ أي قبل سبعة عشر يومًا من نهاية فصل الشتاء، حيث تمّ في هذه السنة تدوين التقويم الجلالي بأمر من السلطان السلجوقي جلال الدين ملك شاه، وتثبيت النيروز عند نزول الشمس في برج الحمل؛ ومنذ ذلك التاريخ ـ أي سنة ٤٦۷ هجريّة قمريّة ـ صارت السنة الشمسيّة الحقيقيّة ٣٦٥ يومًا و٥ ساعات و٤۸ دقيقة و٤٦ ثانية.
وعليه، لم يتمّ أبدًا في تاريخ إيران القديمة تعيين النيروز في يوم محدّد وثابت من أيّام السنة، بل كان في حالة انتقال وتغيّر عبر مختلف العصور.
عدم المسوّغ للعادات المرتبطة بالنيروز
وأمّا النقطة الثالثة، فتتعلّق بإقامة الاحتفالات والمراسم لا سيّما في هذه الأيّام: حيث إنّه وبالنظر إلى سخافة النيروز من أصله، وعدم استقراره في يوم معيّن من السنة، فما هو المسوّغ لمثل هذه المراسم والاحتفالات والطقوس؟!
وأيّ باعث على الاحتفال بسَنَة تكون بدايتها أوَّل برج الحمل تارة، وآخر فصل الخريف أو الشتاء تارة أخرى؟! وما هي القيمة والنتيجة من وراء مثل هذه العادات والتقاليد؟!
جذور النيروز وكيفيّة دخوله إلى حياة المسلمين
والنقطة الأخيرة هي: كما مرّ معنا سابقًا، فإنّ ظهور هذه العادات واتّخاذ النيروز كيوم فرح وسرور إنّما ظهر بين المسلمين عن طريق إيران؛ فبواسطة بعض السلاطين والحكّام الأمويّين، ثمّ بعد ذلك بواسطة تسلّط البرامكة على أزمّة أمور المسلمين في العصر العبّاسي، خاض المسلمون في هذه القضيّة وتمّ تعميمها وبثّها فيما بينهم بغير التفات إلى مضمونها الفارغ الوهمي، ولا إعمال للدقّة في كيفيّة ممارسة تلك الطقوس ومدى مطابقتها للموازين العقليّة والشرعيّة.
وعليه، فإنّ «علّة اعتبار الإيرانيّين القدماء هذا اليوم كأوّل يوم للسنة ويوم تفتّق الطبيعة وانقضاء فترة الذبول والخمول وبداية فصل الانتعاش وتفتّح الأزهار ونموّ الأشجار» بغضّ النظر عن افتقاده للمسوّغ ـ كما سيأتي لاحقًا ـ لا يمتلك بشكل عامّ أيّ أصل وأساس، حيث إنّ القدماء كانوا يقضون بعض أيّام السنة في إقامة هذه المجالس وممارسة مجموعة من الطقوس والتقاليد الخاصّة مراعاةً لحكّام وسلاطين عصرهم واتّباعًا لما تُمليه عليهم رغباتهم وأذواقهم الشخصيّة.
الفصل الثاني: النيروز من منظار العقل
يُطلق العيد في الأعراف العامة لدى الشعوب على المراسم والعادات التي تقترن بحادثة مهمّة وسارّة تتميّز في حياة الناس عن سائر الحوادث والوقائع الممتعة والسارّة التي يصادفونها طيلة أيّام الأسبوع والشهر والسنة، فتُساهم هذه المراسم والعادات في ترسيخ ذكرى محبوبة وخالدة في نفوسهم وأذهانهم، فيرغبون في تجديدها وإحيائها دائمًا. ومن الطبيعيّ أن تتّصف هذه الحادثة بخصوصيّات وميّزات خاصّة حتّى يكون بوسعها أن تبقى خالدة في النفوس والأذهان، ويُبدي الناس شوقًا ورغبةً خاصّين في تجديد العهد بها وتذكّرها؛ وهذه المسألة واضحة وبيّنة كلّ الوضوح.
وقد أشار هذا الحقير في كتاب افق وحى۱ إلى أنّه: لا علاقة بين ارتقاء العلوم الإنسانيّة والتحوّل العجيب للتقنيات والتكنولوجيا وكشف الآفاق المجهولة لأسرار الخلقة، وبين مستوى الثقافة والقيم الإنسانيّة السامية وكرامة النفس وتعالي الروح والقلب، وأنّ جريان العصور وتوالي الليالي والأيّام لا أنّه لم يُضف شيئًا للبُعد المعنوي والروحي فحسب، بل على العكس من ذلك ساهم في انحدار الأخلاقيّات وهبوطها وتقهقرها، وأسقط الإنسان في جميع المجالات عن استعداداته الوجوديّة ـ الإنسانيّة منها والحيوانيّة ـ إلى مراتب وضيعة من السبعيّة والتنمّر والوحشيّة والرذيلة الأخلاقيّة والاجتماعيّة.
فانظروا إلى رجل رشيد قد جاوز الستّين من عمره ينزل إلى الشوارع ليلة الأربعاء السوري (الأحمر)٢ ، ويجعل نفسه مع الأطفال والسفهاء حاملًا ألعابه الناريّة، ويقفز فوق النار قائلًا: «صفرتي منك، وحمرتك منّي!»٣
وما يلاحظ في هذا المجال ويجعل الإنسان يقف مدهوشًا ومبهوتًا هو أنّ الموقعيّة الاجتماعيّة للأفراد وكذلك مراتبهم العلميّة في العلوم والمجالات المختلفة وكذلك مرحلتهم العمريّة كأنّها لا تترك أيّ أثر على سلوكهم ومنطقهم وتوجّهاتهم الثقافيّة، فهم في ذلك والسفلة من الناس سواء. وهنا تقع المسؤوليّة الكبرى على عاتق المتصدّين للشأن الثقافيّ والأخلاقي، وتدعوهم إلى ما هو أبعد من مجرّد إقرار التعايش والتآلف والمداراة للمجتمع، فلا يمكنهم لمجرّد الحفاظ على عادة من العادات أن يتخلّوا عن مسؤوليّتهم في بيان الحقائق وكشف الستار عنها، لأنّ ثقافة أو عادة ما إذا احتلّت في هذا العصر مكانها في ضمن النسيج العقائدي والإيماني لشعب من الشعوب ـ بحيث صارت أمرًا عاديًا وسنّة متعارفة ـ فإنّها لم تكن موجودة أبدًا في يوم من الأيّام، غير أنّها برزت بمجرّد إعمال أحد الأشخاص لذوقه أو إبراز أحد السلاطين لميله، ثمّ تطوّرت بالتدريج إلى أن تبدّلت بعد ذلك إلى سنّة وعادة وثقافة جرّاء المحافظة عليها من طرف السلطة الحاكمة أو أشخاص آخرين.
وفي هذا الحالة، ينبغي علينا أن نرى لأيّ سبب وتبعًا لأيّ ذوق تشكّلت هذه السنّة في أوائل ولادتها، وما هي الأهداف والمقاصد التي تقف من ورائها.
وهنا، يُطرح التساؤل عن عيد النيروز باعتباره من السنن والتقاليد الغابرة، وعن الدليل والمسوّغ لاتّخاذ مثل هذه الأيّام عيدًا؟
المبرّرات العقلائيّة المدّعاة للاحتفال بالنيروز ومناقشتها
المبرر الأول: حلول فصل الربيع
إنّ هذه الأيّام تُصادف حلول فصل الربيع الذي يشهد تحوّلاً وتغيّرًا في أحوال الفصول؛ ولهذا بجّلها الشارع، وقضى فيها بإقامة مراسم العيد وممارسة مجموعة من السنن والعادات والآداب المتعارفة.
[والجواب عن ذلك]: أوّلاً أنّ الدين الإسلامي المقدّس لا يختصّ بالمناطق الاستوائيّة وما يُجاورها، بل يشمل جميع بقاع الأرض من القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي؛ فإذا اعتبرنا والحال هذه أنّ معيار إقرار هذه السنّة من قبل الشارع هو تغيّر الأحوال الجويّة وحصول الاعتدال الربيعي وتفتّق الأزهار ونفخ روح الحياة في جسد الطبيعة الميّت، فإنّ هذا المعيار سينتقض في العديد من الأماكن.
ومن ناحية أخرى، فإنّ عدّة مناطق واقعة في النصف الجنوبي من الكرة الأرضيّة يختلف فيها كلّ من فصل الشتاء والربيع والصيف عن المناطق الواقعة في النصف الشمالي من الكرة الأرضيّة؛ أي أنّ شتاءها هو ربيع المناطق المعتدلة الشماليّة، وربيعها هو خريفها.
وعليه، فإنّ هذه السنّة المتداولة بين الناس عن طريق الشارع إمّا أن نقول بأنّها مختصّة ببعض المناطق من الكرة الأرضيّة؛ ممّا يتنافى مع عموميّة الشرع المقدّس وشموله لجميع أرجاء العالم، وإمّا أنّه علينا الاعتراف بأنّ المعيار والسبب في تدوينها ليس هو تبدّل الفصول وتغيّر الأحوال الجويّة؛ وهو يُؤدّي للخُلف.
وثانيًا: إذا كان المعيار في هذه السنّة يدور حول تبدّل الأحوال الجويّة للأماكن، فلماذا لم يُجعل حكم العيد حكمًا عامًّا وشاملًا بأن يكون لكلّ منطقة بما يناسب خصائصها وظروفها الجغرافيّة؟ فأيّ إشكال في أن يُقال: على كلّ شعب وجماعة أن يحتفلوا بالعيد بحسب الظروف والأجواء الحاكمة على محيطهم وجغرافيا وطنهم؟
وثالثًا: إذا كان الاعتدال الربيعي وتبدّل الظروف المناخيّة هو علّة تشريع هذه السنّة القديمة، فلماذا كانت الروايات التي يوردونها لتأييدها تحكي عن حلول النيروز ـ وفقًا لظروف ذلك العصر ـ في أواخر شهر خرداد۱؟!
ورابعًا: إنّ نصّ الروايات والأخبار الواردة بشأن هذه المسألة لا تنسجم مع هذا الفرض، حيث نراها قد اعتبرت مجموعة من الملاكات الأخرى.
وعليه، لا يصحّ ربط هذه السنّة بالأخبار والأحاديث المدّعاة على أساس حلول فصل الربيع، ومن الخطإ تمامًا القول: بما أنّ تغيّر الأحوال الفصليّة يحصل في هذا الفصل، فإنّ الشارع قد جعل ذلك أساسًا لتبجيله، وقضى بأن تُقام فيه مراسم العيد وتُمارس فيه مجموعة من السنن والعادات والآداب المتعارفة.
المبرر الثاني: حلول الشمس برج الحمل
إنّ دوران الأرض حول الشمس يستمرّ لمدّة سنة واحدة، وحين حلول الشمس برج الحَمَل، يكون ذلك إعلانًا لبداية سنة جديدة؛ ولهذا السبب، على الناس أن يفرحوا ويسرّوا لذلك، ويحتفلوا بمرور سنة من أعمارهم، ويبتهجوا ويرقصوا لاقترابهم سنة واحدة من حلول الأجل.
ويفتقد هذا التبرير أيضًا للحجّة والدليل المنطقي والعقلاني، وبطبيعة الحال للشرعي ؛
فأوّلاً: إنّ دوران الأرض حول الشمس هو حركة يُمكنها أن تعني في كلّ لحظة انقضاء السنة السابقة وحلول سنة جديدة؛ نظير حركة عقارب الساعة التي تعني في كلّ ثانية انقضاء الزمن السابق وحلول زمن جديد؛ هذا علاوةً على أنّ مثل هذه المسألة لا تتحقّق في العديد من البلدان التي لا يحصل فيها اعتدال بهذا النحو.
ثانيًا: إنّ النيروز الذي تأسّست دعائمه منذ عصر الساسانيّين كان في أواخر شهر خرداد، لا في بداية فصل الربيع، حيث عمد الساسانيّون ـ وفقًا لرغباتهم وأذواقهم الخاصّة ـ إلى تسمية هذا اليوم بالنيروز، وممارسة مجموعة من الآداب والطقوس فيه.
ثالثًا: إنّ القوانين والتكاليف الشرعيّة قد وُضعت على أساس وجود ملاكات ومصالح واقعيّة وحقيقيّة، لا على أساس إعمال الأذواق الشخصيّة والجماعيّة؛ ومتى ما كان الملاك والدليل الذي تتوفّر عليه السيرة والسنّة فاقدًا للقيمة والقوام المنطقيّين والعقلائيّين، فإنّ الشرع المقدّس لا يقبل بها ولا يختم عليها بخاتم التأييد والاعتراف؛ مثلما نرى أنّه قد نهض بكلّ حزم لمواجهة الآداب والعادات الجاهليّة، وعمل على نقضها الواحدة تلو الأخرى.
الفصل الثالث: دراسة الروايات الواردة في إثبات النيروز ونقضها
الرواية الأولى: نيرزونا كلّ يوم
من الروايات التي يُتمسّك بها لتأييد عيد النيروز، رواية منقولة عن أمير المؤمنين عليه السلام ذكرها الشيخ الصدوق في كتاب من لا يحضره الفقيه:
«أُتِيَ عَلِيٌّ عليه السلام بِهَدِيَّةِ النَّيْرُوزِ (والظاهر أنّه كان فالوذج بقرينة الرواية الأخرى الواردة بشأن هذا اليوم۱)، فَقَالَ عليه السلام: «مَا هَذَا؟» قَالُوا: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمُ النَّيْرُوزُ (وقد جرت العادة أن يُطبخ هذا الطعام في مثل هذا اليوم)» ، فَقَالَ عليه السلام: «اصْنَعُوا لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزاً (وأعدّوا لنا هذا الطعام)» ورُوِيَ أَنَّهُ قَالَ عليه السلام:«نَيْروزُنَا كُلُّ يَوْمٍ».٢
غير أنّه لا دلالة لهذه الرواية أبدًا على اعتراف الإمام بهذه السنّة وهذا العيد، حيث إنّه عليه السلام أراد أن يشكر الناس على هديّتهم وحسب، فقال ممازحًا: «اصْنَعُوا لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزاً!»؛ ولو صحّت العبارة التي قال فيها عليه السلام:«نَيْرُوزُنَا كُلُّ يَوْمٍ»۱ ، فإنّها ستكون بحدّ ذاتها طاعنةً ـ نحوًا ما ـ في هذه السنّة؛ لأنّه عليه السلام أراد أن يقول: ليس لدينا اهتمام خاصّ بهذا اليوم، بل إنّ كلّ يوم هو بالنسبة لنا بداية مباركة وبزوغ جديد لاستجلاب رحمة الله تعالى والاستفاضة من نعمة الحياة والأفضال الإلهيّة؛ مثلما يدلّ عليه قوله عليه السلام: «كُلُّ يَومٍ لا يُعصى اللهُ فِيهِ فَهُو يومُ عيدٍ».٢
علاوةً على أنّ هذه الرواية مرتبطة بعصر أمير المؤمنين عليه السلام، حيث كان النيروز المتعارف في تلك الأيّام في أواخر شهر خرداد، وليس في اليوم الأوّل من الربيع وحين حصول الاعتدال الربيعي، بينما كلامنا يدور حول شرعيّة عيد النيروز المصادف لأوّل فصل الربيع؛ وبالتالي، كيف يتسنّى لنا إيراد هذه الرواية لأجل إثبات تأييد الشرع للنيروز الحالي والمتعارف في هذا العصر؟!٣
الرواية الثانية: رواية هدايا النيروز
الرواية الثانية: رواية أوردها المرحوم الكليني في الكافي٤ بهذا النحو:
«عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْكَرْخِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ عليه السلام عَنِ الرَّجُلِ تَكُونُ لَهُ الضَّيْعَةُ الْكَبِيرَةُ فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْمِهْرَجَانِ أَوِ النَّيْرُوزِ أَهْدَوْا إِلَيْهِ الشَّيْءَ لَيْسَ هُوَ عَلَيْهِمْ يَتَقَرَّبُونَ بِذَلِكَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ هُمْ مُصَلِّينَ؟» قُلْتُ: بَلَى. قَالَ: «فَلْيَقْبَلْ هَدِيَّتَهُمْ ولْيُكَافِهِمْ فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وسلّم قَالَ: لَوْ أُهْدِيَ إِلَيَّ كُرَاعٌ لَقَبِلْتُ وكَانَ ذَلِكَ (أي تلك السنّة والشريعة) مِنَ الدِّينِ، ولَوْ أَنَّ كَافِراً أَوْ مُنَافِقاً أَهْدَى إِلَيَّ وَسْقاً مَا قَبِلْتُ وكَانَ ذَلِكَ (الحكم والتكليف) مِنَ الدِّينِ؛ أَبَى اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لِي زَبْدَ الْمُشْرِكِينَ والْمُنَافِقِينَ وطَعَامَهُمْ».
فالشيء الوحيد الذي لا نلحظه في هذه الرواية أيضًا هو الاعتراف بعيد النيروز والمهرجان؛ إذ ما هو علاقة قول الإمام عليه السلام: «فَلْيَقْبَلْ هَدِيَّتَهُمْ» بإقرار هذه السنّة؟!
الرواية الثالثة: صلاة النيروز
ومن الروايات المطروحة في تأييد النيروز رواية نقلها صاحب المستدرك في بحث استحباب صلاة يوم النيروز عن كتاب الحسين بن حمدان الحضيني. قال حزقيل: إلهي وسيّدي قد أريتهم قدرتك في أزمانهم وجعلتهم رفاتًا ومرّت عليهم الدهور فأرهم قدرتك في أن تحييهم لي حتّى أدعوهم إليك ووفقهم للإيمان بك وتصديقي. فأوحى الله إليه: يا حزقيل هذا يوم شريف عظيم قدره عندي، وقد آليت أن لا يسألني مؤمن فيه حاجة إلا قضيتها في هذا اليوم وهو يوم نيروز فخذ الماء ورشّه عليهم فإنّهم يحيون بإرادتي. فرشّ عليهم الماء فأحياهم الله بأسرهم. الخبر٥
وناقل هذه الرواية هو الحسين بن حمدان الحضيني الجنبلائي الذي ألّف العديد من الكتب في موضوعات مختلفة، وعدّه المرحوم الشيخ الطوسي من جملة الأشخاص الذين لم يحدّثوا بأيّة رواية مباشرةً عن الأئمّة عليهم السلام،۱ وقال عنه النجاشي بأنّه فاسد العقيدة،٢ وقدح فيه أيضًا ابن الغضائري وقال عنه أنّه كذّاب وفاسد المذهب ولا يُمكن الاعتناء بنقولاته.٣
وأمّا بالنسبة لمضمون الرواية، فلا يحتاج لأيّ تأمّل أو تدقيق، حيث إنّ بداهة وهن مطالبها واضحة للعيان؛ لأنّ ما ورد فيها من استجابة للدعاء في يوم النيروز مع كلّ تلك التأكيدات والتشديدات الغليظة ـ وأنّ كلّ شخص دعا فيه الله تعالى بأيّ دعاء، فإنّه سيُستجاب له ـ يُبيّن سخافة مثل هذا الكلام!!
وأمّا الإشكال الأساسيّ على هذه الرواية، فهو ما ذكرناه سابقًا من عدم تعيّن يوم النيروز وعدم تشخّصه في عصر الإمام عليه السلام.
الرواية الرابعة: رواية المعلّى بن خنيس
ويبقى علينا الآن التطرّق لأهمّ وأبرز حديث أورده العديد من المدافعين والمؤيّدين لعيد النيروز، بل وحتّى أنّه راج بين عوامّ الناس؛ وذلك بسبب نقله بواسطة كلّ من المرحوم المجلسي في كتاب زاد المعاد، والمرحوم الشيخ عبّاس القمّي في كتاب مفاتيح الجنان؛ وهي رواية المعلّى بن خنيس عن الإمام الصادق عليه السلام.
لقد كان المعلّى بن خنيس أحد تلامذة الإمام الصادق عليه السلام، وكان يحظى بمنزلة رفيعة ومقام متين عنده، ويُعدّ من زمرة خواصّ ذلك الإمام الهمام وحواريّيه، إلى درجة أنّه كان يُعتبر وكيلاً له عليه السلام ومديرًا لشؤونه الماليّة.
يقول المرحوم الشيخ عبّاس القمّي ما يلي:
«وأمّا أعمال يوم النّيروز فهي ما علّمها الصّادق (عليه السلام) مُعلّى بن خنيس قال: إذا كان يوم النّيروز، فاغتسل والبس ثيابك وتطيّب بأطيب طيبك وتكون ذلك اليوم صائماً، فإذا صلّيت النّوافل والظّهر والعصر، فصلّ بعد ذلك أربع ركعات أي بسلامين يقرأ في أوّل ركعة فاتحة الكتاب وعشر مرّات ﴿إِنّا اَنْزَلْناهُ﴾ وفي الثّانية فاتحة الكتاب وعشر مرّات ﴿قُلْ يا اَيُّها الْكافِرُونَ﴾ وفي الثّالثة فاتحة الكتاب وعشر مرّات ﴿قُلْ هُوَ اللهُ أحَدٌ﴾ وفي الرّابعة فاتحة الكتاب وعشر مرّات ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ﴾ وَ﴿قُلْ أعُوذُ بِرَبِّ النّاسِ﴾، وتسجد بعد فراغك من الرّكعات فتقول:
«اللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وَآلِ مُحَمَّد الاْوْصِيآءِ الْمَرْضِيِّينَ ـ إلى ـ يا ذَا الْجَلالِ وَالإكْرام».
(فإذا فعلت ذلك) يُغفر لك ذنوب خمسين سنة وتُكثر من قولك: «يا ذَا الْجَلالِ وَالإكرام».۱
وقد نقل المرحوم المجلسي هذه الرواية عن مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي،٢ كما نقلها عن كتابين آخرين، حيث أورد إحداهما بهذه العبارة: «رأيت في بعض الكتب المعتبرة»٣ ثمّ نقل بعد ذلك رواية المعلّى بتفصيل كبير، والأخرى بهذه العبارة :«ورُوِي أيضًا في بعض الكتب»٤ ، ثمّ إنّه نفسه يقول بعد ذلك: «هذه الروايات الأخيرة أخرجناها من كتب الأحكاميّين والمنجّمين... ولا أعتمد عليها»٥ ؛ وعليه، برأي المرحوم المجلسي، تكون رواية المعلّى بن خنيس المفصّلة ساقطة عن درجة الاعتبار، وأمّا رواية المعلّى التي جاءت في مصباح المتهجّد للشيخ الطوسي، فقد سكت عنها.
والمسألة الجديرة بالالتفات إليها هي أنّ هذه الرواية لم ترد قبل الشيخ الطوسي في أيّ من الكتب الشيعيّة المعتبرة، بل إنّها لم تُذكر أساسًا في أيّ كتاب سواءً كان معتبرًا أو غير معتبر؛ وما ورد في كتاب المصباح للشيخ ما هو إلاّ مختصر لمفصّلها؛ إذ لا معنى لأن يكون المعلّى قد سمع روايةً واحدة لعدّة مرّات من الإمام الصادق عليه السلام وبطرق مختلفة، ومع توضيحات أكثر في كلّ مرّة ووجود حذف ونقصان مختلف في بعضها!
وأمّا بالنسبة لرواية الشيخ في المصباح التي تطرّقت للصلوات المستحبّة في هذا اليوم، فإنّها تفتقد للسند تمامًا، وحتّى الشيخ لم يذكر لها أيّ سند؛ ومن الجدير بالذكر أنّني راجعت في سفري لزيارة العتبات العالية مجموعة من المكتبات المعتبرة هناك؛ ومن ضمنها مكتبة المرحوم كاشف الغطاء، ومكتبة المرحوم آية الله الحكيم، ومكتبة المرحوم الشيخ عبد الحسين الأميني، والمكتبة الحيدريّة، وطالعت جميع النسخ الخطّية لمصباح المرحوم الشيخ الطوسي، وتفحّصتها، وأخذت صورة عن جميع الصفحات التي دُوّنت فيها هذه الرواية، فكانت النتيجة ما يلي:
إنّ هذه الرواية لم تصدر بأيّ وجه من الوجوه عن الإمام عليه السلام، وهي كذب محض؛ ومن العجيب أنّ تحريف هذه الرواية ووضعها قد تمّ بشكل غير متقن وساذج جدًّا.
فأولًا: لم يرد لها أثر، بل ولا لكلمة واحدة منها في كثير من النسخ الخطيّة، والحال أنّ سائر الصفحات متطابقة وليس فيها إلا اختلاف يسير، فكيف يمكن للناسخ أن يحذف رواية كاملة؟!...
ثانيًا: جاء في بعض هذه النسخ في حاشية الصفحة: «ورد في بعض النسخ الخطيّة رواية حول النيروز، وحيث إنّ النسخة الأصليّة التي هي للشيخ الطوسي تخلو منها فقد أعرضنا عن ذكرها». فمن المعلوم أنّ الخطّاط والناسخ على اطلاع على النسخة الخطيّة للشيخ، ولم ينقل هذه الرواية رعاية للأمانة وتركًا للخيانة.۱
وعليه، فقد صار مسلّمًا لدى هذا الحقير أنّ هذه الرواية موضوعة، ولا تتوفّر على أيّ سند يوصلها بالإمام عليه السلام (وعلى الرغم من ادّعاء توفّرها على سند إلاّ أنّه غير صحيح)، كما أنّها مفقودة في النسخة الأصليّة لكتاب الشيخ الطوسي، حيث إنّ بعض الأشخاص قد ارتكب هذه الخيانة لأغراض ودواع نفسيّة؛ فلم يُشر أبدًا إلى أنّ تلك الإضافة قد تمّت من قبله ولم تكن من المرحوم الشيخ، ممّا أو قع الجميع في الخطإ والاشتباه، وتصوّروا أنّها تمّت من قبل الشيخ نفسه.
وأمّا فيما يخصّ إيراد الشيخ عبّاس القمّي لهذه الرواية في مفاتيح الجنان، فذلك غير مستبعد منه؛ لأنّه لم يعتمد في نقله لأدعية أهل البيت عليهم السلام وكلماتهم الدقّة والتأمّل اللازمين.
وقد ذهبت في أحد الأيّام زمان حياة المرحوم الوالد ـ رضوان الله عليه ـ برفقته لزيارة أستاذنا الأعظم حضرة آية الله شبيري زنجاني، وحللنا بمنزله في مشهد المقدّسة، فكان من ضمن كلامه أن قال:
لقد سمعت المرحوم الحاجّ السيّد روح الله (الخميني) ـ رحمة الله عليه ـ يقول: «سألت المرحوم الشيخ عبّاس القمّي: هل إنّ جميع الأدعية والكلمات التي أوردتها في مفاتيح الجنان تتوفّر على سند معتبر وموثّق؟ فقال في جوابه: «لا وفي هذا الكتاب أيضًا بعض المسائل التي تفتقد إلى سند.»٢
...وهنا لا بدّ من طرح هذا السؤال على سماحة الشيخ عبّاس القمّي:... ما هو بالتحديد هذا اليوم الذي كان مورد تكريم وتعظيم الله؟ ففي زمان الإمام الصادق عليه السلام لم يكن النيروز يصادف الأول من شهر فروردين، بل كان في آخر شهر خرداد، فكيف جعلتم هذه الأعمال من الصلاة والدعاء لأول فروردين؟!
ففي الحوادث التي وقعت في سنة ٢۸٢ هجريّة والتي صادفت الثالث من جمادى الثانية والحادي عشر من حزيران (الثالث من خرداد)، تمّ الإعلان في سوق بغداد بمنع إشعال النار وصبّ الماء في ليلة النيروز، إلاّ أنّ هذا الحظر تمّ رفعه في ليلة الجمعة؛۱ ويرجع ذلك إلى أنّ النيروز كان يقام سابقًا في شهر أرديبهشت، لكنّ النيروز المعتضدي تمّ نقله إلى الثالث من شهر خرداد. وعليه، فإنّ هذا الأمر كان هو السبب الذي دفع بعضهم ـ نظير ابن فهد الحلّي ـ للتردّد في تحديد النيروز، وتقوية القول بأنه أوّل السنة؛ أي حلول الشمس في برج الحَمَل؛ إذ إنّهم جاؤوا بعد تعيين النيروز بواسطة السلطان السلجوقي جلال الدين ملك شاه في سنة ٤٦۷ هجريّة٢ ، وقد كان يوم النيروز في هذا التاريخ قد تغيّر (أي في سنة أربعمائة وسبعة وستّين للهجرة).
[ويؤيّد ابن إدريس في كتاب السرائر هذه المسألة]
ويُعدّ الكلام الذي أورده الشيخ في مختصر المصباح، وكذلك ما نقله ابن إدريس (الذي عاش بعد مائة وثلاثين سنة تقريبًا بعد الشيخ) بمثابة تصريح منهما بأنّهما لم يكونا عالمين باليوم الذي وردت فيه تلك الصلاة ذات الأربع ركعات بتلك الكيفيّة الخاصّة! كما لم تتمّ في هذه الرواية أيّة إشارة إلى يوم محدّد؛ وهذا بحدّ ذاته دليلعلى كذبها ووضعها؛ إذ كيف يُعقل أن يكون هذا الخبر صحيحًا وصادقًا، مع أنّ ناقله والعلماء الذين أتوا من بعده ليس لديهم أدنى علم باليوم الذي ينبغي أن تُؤدّى فيه تلك الصلاة؟ ﴿إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ﴾٣ !!
هذا وقد لجأ ابن إدريس بسبب حيرته وعدم معرفته ليوم النيروز إلى إيكال تعيينه إلى أحد علماء الهيئة، حيث صادف ـ بحسب رأيه وحسابه ـ الثالث من خرداد؛ وعليه، لو أنّ النيروز كان على عهد ابن إدريس هو اليوم الأوّل من شهر فَروَردين، فما معنى كلّ هذه الحيرة والجهل بهذه المسألة؟!
ويقول المرحوم الأفندي بشأن النيروز: "وقد صارت هذه المسألة مطرحًا لآراء الفضلاء"؛ أي إنّ هذه المسألة والمعضلة صارت سببًا للبحث والنقاش والنقض والإبرام لآراء الفضلاء وتشخيصاتهم، حيث لجأ كلٌّ منهم إلى تحديد النيروز في يوم خاصّ، وذلك بحسب ما أوصله إليه حدسه والقرائن الموجودة بين يديه.
كما أنّ بعض العلماء قد عيّن ثلاثة أيّام كتاريخ للنيروز: أحدها هو الأوّل من شهر دي أو الأوّل من شهر آبان، وثانيها هو الأوّل من شهر فروردين الذي يُصادف حلول الشمس ببرج الحمل، وثالثها هو العاشر من أيّار (أي الثاني من أرديبهشت)؛ ولهذا السبب، فقد عُقد في كتاب ذخيرة الآخرة المؤلَّف في النصف الأوّل من القرن السادس فصلٌ تحت عنوان "نوروز الفرس"، وتمّ الاستناد فيه إلى رواية المعلّى بن خنيس لإثبات حلول النيروز في الأوّل من شهر فروردين،۱ كما تمّ أيضًا التمسّك بهذه الرواية في كتاب نُزهة الزاهد الذي أُلّف في النصف الثاني من القرن السادس الهجري،٢ حيث إنّ كلا الكتابين قد تمّ تدوينهما بعد سنة ٤٦۷ هجريّة السنة التي نُقل فيها النيروز إلى اليوم الأوّل من شهر فروردين.
ومن الغرائب والعجائب أنّه على افتراض ورود رواية المعلّى في مختصر المصباح للشيخ الطوسي، فإنّ الشيخ الطوسي بنفسه لم يكن مطّلعًا على اليوم الذي يُصادف النيروز، هذا مع أنّ عصره كان قريبًا من عصر الأئمّة عليهم السلام؛ وحينئذ، كيف يتسنّى لهؤلاء الاستناد إلى رواية المعلّى المنقولة عن الشيخ في إثبات أنّ اليوم الأوّل من فروردين هو يوم النيروز؟!! ومن هنا، فلن يكون هناك أيّ اعتبار لإقرار النيروز في هذا التاريخ.
واللطيف في المسألة أنّ هذا الكتاب لو كان فعلاً مختصرًا لمصباح المتهجّد، فلماذا لم يأت المرحوم الشيخ بتلك الرواية في الأصل لكنّه أضافها في المختصر؟! علاوةً على أنّه بأدنى تأمّل في الصفحات الأخيرة من الكتاب، فإنّ الإنسان سيكتشف أنّ المرحوم الشيخ قد أتمّ الكتاب قبل الحديث عن غسل النيروز؛ وبما أنّ السيرة المعمول بها في الكتب والمؤلّفات تقتضي ختم الكتاب بالصلوات على النبيّ وآله، فلن يكون هناك أيّ مجال للحديث عن مسألة أو قضيّة أخرى، لكنّنا مع ذلك، نرى بأنّ الكاتب يتعرّض إلى ذكر مسألتين بعد الصلوات على محمد وآله، وفي الأخير، يختم الكتاب بالصلوات على محمد وآله مرّة ثانية! ولهذا، يُمكننا الحكم قطعًا بإضافة الكاتب لتلك الرواية في أصل المصباح كما في مختصره، وعدّها فريةً ومنسوبةً كذبًا للمرحوم الشيخ الطوسي.
وقد بيّن المرحوم ابن فهد في كتابه المهذّب البارع أنّ تعيين يوم النيروز من السنة أمر غامض، وأنّه لم يتعرّض لتفسيره أحد من علمائنا ثمّ نقل الأقوال المختلفة فيه مما يعني أنّ هذا اليوم لم يكن يومًا خاصًّا ومحدّدًا.۱
هذا كما أنّ الكفعمي اعتبر في كتاب الأدعية الذي ألّفه "المصباح" أنّ يوم النيروز هو النيروز المعتضدي٢ ؛ أي اليوم الحادي عشر من حزيران تاسع الأشهر الروميّة.
وممن تحدّث عن النيروز، الشهيد الأوّل في كتابه الذكرى، فقال مشيرًا إلى رواية المعلّى بن خنيس:
«وفُسّر [النيروز] بأوّل سنة الفرس (وهو بداية شهر آبان)، أو حلول الشمس الحمل (أي الأوّل من فروَردين)، أو عاشر أيّار (المصادف للثاني من أرديبهشت)».٣
ويقول المرحوم ابن فهد الحلّي حول كلام الشهيد:
والأول إشارة إلى ما هو مشهور عند فقهاء العجم في بلادهم ، فإنهم يجعلونه عند نزول الشمس العقرب .
والعجيب أنّه يُقرّ بأنّ فقهاء العجم يعدّون اليوم الأوّل من النيروز هو اليوم الأوّل من شهر آبان، لا الأوّل من فروردين الذي تحلّ فيه الشمس في برج الحمل.
تنبيه في مناقشة دعوى مصادفة النيروز ليومي المبعث والغدير
إنّ حكم بعض الأعلام باستحباب الاحتفال بالنيروز ـ باعتبار أنّ عيد الغدير قد صادف اليوم السابع والعشرين من إسفند ـ هو حكم مجانب للصواب ومعارض لمبادئ الدين والشريعة وقواعدهما.
لو سلّمنا أنّ النيروز في ذلك الزمان كان في أوّل فروردين خلافًا لما هو الواقع كما تقدّم، فماذا عن التناقضات التي تنشأ عن ذلك؟
إنّ بعثة النبيّ كانت في السابع والعشرين من رجب، وعيد الغدير كان بعدها بثلاث وعشرين سنة في الثامن عشر من ذي الحجّة؛ فلو كان المعيار في تعيين النيروز هو يوم المبعث، والحال أنّ ما يفصله عن الثامن عشر من ذي الحجّة أربعة أشهر وعشرون يومًا، فهل يفترض أن يقع النيروز التالي ـ في الثامن عشر من ذي الحجة ـ بعد ثلاثة عشر سنة من المبعث ، أم بعد سبع وأربعين سنة منه؟! فإذن لا شكّ أنّ عيد الغدير لم يكن في النيروز. ولو جعلنا المعيار في تعيين النيروز هو عيد الغدير فلا شكّ أن مبعث رسول الله لم يقع فيه.
وعيد الغدير الواقع في الثامن عشر من ذي الحجة في السنة العاشرة من الهجرة يصادف وفق الحسابات الرياضيّة السابع والعشرين من شهر إسفند، أي قبل انتقال الشمس إلى برج الحمل ـ أي بداية فروردين ـ بأربعة أيام، ولا يبتعد هذا اليوم عن النيروز الذي كان معروفًا في ذلك الزمان بأنه نيروز العجم مدّة تقارب الثمانين يومًا فحسب، بل تفصله أربعة أيام أيضًا عن ذلك النيروز الذي عيّن ودوّن بعد حوالي أربعمائة وسبعين سنة، أي في زمان السلطان جلال الدين ملك شاه السلجوقي.
[ثمّ] هل يُمكننا العثور في أيّة رواية أو أثر عن المعصوم عليه السلام بأنّه أشار إلى التاريخ الشمسي عند إقامة المناسبات الدينيّة؛ نظير حادثة عاشوراء أو عيد الغدير أو عيدي الفطر والأضحى وأمثال ذلك؟!
فإذا علمنا مثلاً بأنّ يوم عاشوراء هو الحادي والعشرون من شهر مهر من السنة الواحدة والخمسون هجريّة شمسيّة (الموافق للعاشر من أكتوبر سنة ٦۸۰ ميلاديّة)، فهل علينا إقامة مراسم العزاء والحزن في مثل هذا اليوم؟! وهل كان أئمّتنا عليهم السلام يقيمون المراسم في مثل هذا اليوم ويدعون أصحابهم إلى ذلك؟! وهل إنّ حادثة عاشوراء تقلّ أهمّيةً عن يومي عيد الغدير والمبعث؟! أم أنّ تأثير واقعتي الغدير والمبعث في اليوم الشمسي يقتصر عليهما فقط، فلم تتمكّن بقيّة الحوادث والوقائع التي حصلت طوال عصر الأئمّة عليهم السلام أن تؤثّر في ذلك اليوم أو تلك الليلة الخاصّة من التاريخ الشمسي؛ ولذلك صارت الأحكام والآثار المترتّبة عليها مختصّة بالتاريخ القمري؟!! يبدو أنّ الاعتقاد بهكذا خرافة لا يحتاج إلى النقض والإبطال!
ومن باب المثال، فإنّ ليلة القدر هي الليلة التي يُمكننا القطع بأنّها تُوافق ليلة الثالث والعشرين من شهر رمضان المبارك، وهي الليلة التي تنزل فيها التقديرات الإلهيّة المختصّة بالسنة اللاحقة على الأرض؛ فكيف ـ والحال هذه ـ لم يرد بشأنها أيّ ذكر عن الشهر والتاريخ الشمسيّين مع كلّ تلك الأهمّية والعظمة والمنزلة التي تحظى بها هذه الليلة في الأخبار والأحاديث؟!
وكذلك الأمر بالنسبة لأهمّية النصف من شعبان وعلوّ شأنه، حيث يُصادف مولد الوليّ الحيّ وقطب عالم الوجود.. حضرة وليّ العصر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، ويتأكّد إحياء ليلته؛ أفهل ينبغي علينا الاهتمام بتاريخه الشمسي وليلته الشمسيّة الخاصّة ـ الموافقة للثاني عشر من مرداد سنة ٢٤۸ شمسيّة بحسب الحسابات الفلكيّة ـ ، وأداء الأعمال وفقًا لهذا التاريخ؟!
ولو غضضنا الطرف عن كلّ ذلك، فإنّ السؤال هو: هل إنّ جميع تلك الروايات والأحاديث التي تحدّثت عن الأعمال والعبادات وبقيّة الأمور الواردة بشأن عيدي الغدير والمبعث هي مرتبطة بالنيروز واليوم الأوّل من السنة، أم أنّها متعلّقة باليوم الثامن عشر من ذي الحجّة؟ ولو قلنا بأنّها مرتبطة بيوم النيروز، فأيّ وجه سيبقى لليوم الثامن عشر من ذي الحجّة؟ أفهل من الممكن أن تقع حادثة في يومين مختلفين؟! فإذا صادف ـ مثلاً ـ اليوم الثامن عشر من ذي الحجّة السابع عشر من شهر مهر، يكون لزامًا علينا الاحتفال بذلك اليوم أيضًا وأداء الأغسال المستحبّة في يومه وليلته، والقيام بالآداب الخاصّة بذلك اليوم مثلما هو موجود في الروايات، ثمّ تكرار هذه الآداب والأعمال بعينها في يوم النيروز!!
أفهل يمكن أن يقال: إنّ هذه الآثار والخصوصيّات هي مجموعة من المسائل الموهومة والخياليّة والاعتباريّة؟! وهل نزول الملائكة في ليلة القدر كما جاء في القرآن هو على أساس التاريخ القمري؟!
ومن هنا فقد قام المرحوم العلامة الوالد قدّس الله نفسه الزكيّة بتأليف رسالة قيّمة رفيعة الشأن تحت عنوان: رسالة بديعة في بناء الإسلام على التاريخ القمري في أموره العباديّة وغيرها، مستندًا إلى إشرافه الباطني واطلاعه الشهوديّ وإحساسه الوجوديّ بارتباط الأعمال والعبادات والأمور الاجتماعيّة بالتاريخ القمريّ، والتأثير الحتميّ للتاريخ القمريّ في تشكّل الأحداث والقضايا والمناسبات الدينيّة.
وهذه مسألة لا يتسنّى لأحد إدراكها والوصول إلى كُنهها، إلاّ إذا كان قلبه وضميره محلاًّ لنزول الفيوضات الإلهيّة والأنوار الربّانية الخاصّة، وتمكّن من بلوغ حقائق عالم الخلقة وفكّ أسراره ورموزه، وفهم كيفيّة ارتباط قوانين الشريعة بالحقائق التكوينيّة الخارجيّة والعينيّة؛ وإنّ الاطّلاع على مسألة كهذه هو الذي يُعبّر عنه بـ "فقه الله الأكبر"، حيث يحوز العرفاء بالله في مثل هذا الأمر على مطالب وأسرار مكنونة لم يتحدّث بها ولم يسمع بها أحد.
نعم، ينبغي علينا الإقرار هنا بأنّ على المجامع الفقهيّة والعلماء الكبار وعظماء التشيّع بذل الاهتمام البالغ لأجل التعرّف على آراء أهل المعرفة ووجهات نظرهم عند تنقيحهم للمبادئ الإسلاميّة الأصيلة؛ فلا مفرّ ولا مناص لهم من الاعتراف بالآراء والمبادئ الرصينة والمتقنة المطروحة من قبل أمثال العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه، وتقبُّلها بالقبول الحسن.۱
نتيجة ما سبق
وعليه؛ فإنّ نتيجة ومحصّل المطالب السابقة الواردة بشأن الرواية المنقولة عن المعلّى بن خنيس هي:
لا وجود لهذه الرواية في أيّ كتاب معتبر من كتب القدماء، وإسنادها إلى كتاب مصباح المتهجّد ومختصره هو كذب محض.
وعلاوةً على ذلك، فإنّ مضمون هذه الرواية يقع في الجهة المقابلة تمامًا لمبادئ الشريعة والدين الإسلامي المقدّس وموازينهما؛ ولهذا فإنّها مردودة ومرفوضة من هذه الناحية.
وبغضّ النظر عن كلّ ذلك، فإنّ محتواها لا يتطابق مع الوقائع التاريخيّة والحوادث الخارجيّة، بل هو في تناقض وتضادّ معها.
وبالتالي، فإنّ الدليل الوحيد الذي يُستند إليه للحكم بتأييد الإسلام وإقراره لعيد النيروز سيذهب أدراج الرياح.
الفصل الرابع: استعراض المؤيّدات والشواهد الأخرى المقامة على شرعيّة الاحتفال بالنيروز ونقضها
التسامح في أدلّة السنن
من بين هذه الأمور، هناك مسألة التسامح في أدلّة السنن، حيث وردت في هذا الباب رواية مشهورة تقول: «مَنْ بَلَغَهُ شَيْءٌ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْخَيْرِ فَعَمِلَهُ، كَانَ لَهُ أَجْرُ ذَلِكَ وإِنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وآله وسلّم لَمْ يَقُلْهُ»۱
من المناسب أن نورد هنا [شيئًا من] كلام المرحوم الوالد رضوان الله عليه في توضيح هذه الرواية والبحث حولها:
ورد في ألفاظ الرواية لفظ «مَن بَلَغَهُ»، و يصدق البلوغ إذا تحقّق الوصول التعبّديّ في عالم الاعتبار كالوصول الخارجيّ، و تمّت الحجّة على العمل... و يشمل فقط الحالات التي يتمّ فيها الموضوع من حيث الاعتبار، إلّا أنّ سهواً قد حصل اتفاقًا في السند فلم يطابق الواقع. فإذن، لا تشمل أدلّة التسامح الروايات المرسلة و المقطوعة و الضعيفة السند...٢
ويقول هذا الحقير: إنّ السبب من وراء القبول بالروايات الضعيفة وعدم الفهم الصحيح لقاعدة التسامح في أدلّة السنن يكمن في اللامبالاة وعدم الحساسيّة تجاه معارف الدين والتساهل بالنسبة لمبادئ الشريعة وقواعدها؛ فهذا هو الذي يجرّ الإنسان ويسوقه نحو هذا الأمر.٣
فلو أنّ الإنسان كان يشعر بالغيرة وكان ذا حساسيّة تجاه الدين وما يرتبط بأئمّته وأولياء الحقّ، لما أجاز لنفسه أو للآخرين أن ينسبوا كلّ رواية للإمام المعصوم عليه السلام مهما كانت مشحونة بالأمور المهملة والشائنة، ولما مرّ عليها مرور الكرام.
إنّ التسامح في أدلّة السنن يعني عدم اعتبار كلام المعصوم عليه السلام، وانهدام شؤون الإمامة وشخصيّة الولاية، وتنزيلها إلى مستوى شؤون الأشخاص العاديّين، وخلط كلام الوحي بالنوازع الحيوانيّة والشهوات النفسانيّة، ورفع الفاصلة الموجودة بين عالمي الغيب والدنيا، وتسوية الغيب بعالم الشهوات والنفسانيّات والأوهام.
وعليه، فلا وجه للتمسّك بمسألة التسامح في أدلّة السنن وبروايات من بلغ في هكذا مورد، وليس بوسع الفقيه أن يلتزم بها؛ وحتّى لو تقرّر العمل بها، فإنّ المرجَّح يقينًا هي كفّة التحرّز عن إقامة عيد النيروز [تقديمًا لجانب الكراهة بل الحرمة على الاستحباب].
صلة الرحم والتواصل الاجتماعي
ومن بين المؤيّدات الأخرى على جواز إقامة مجالس عيد النيروز ـ سواءً من الناحية العرفيّة أو الشرعيّة ـ هناك مسألة المعاشرة وصلة الأرحام والتزاور التي حثّ عليها الشارع بشكل كبير، وتُعدّ أمرًا ممدوحًا ويُمكن الاعتراف به كسنّة وسيرة.
لكن من وجهة نظر الإنسان المسلم والملتزم بالآداب الشرعيّة، فإنّ هذه المعاشرة والتزاور لا تكون مرضيّةً ومقبولة إلاّ إذا انطبقت في الدرجة الأولى مع الموازين والمعتقدات الشرعيّة؛ فلا يُمكنه الإقدام عليها لمجرّد ممدوحيّتها ومقبوليّتها عند العرف ومن دون الأخذ بعين الاعتبار للموازين الشرعيّة. وحينما نطّلع على النهي الشديد الوارد في رواية موسى بن جعفر عليهما السلام،۱ وقول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَكُمْ بِيَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ: بِيَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ الْفِطْرَ وَالأَضْحَى»،٢ وما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام في الرواية المعروفة حيث قال: «اصْنَعُوا لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزًا»،٣ فهل سيبقى أيّ مجال للشكّ والترديد في أنّ إقامة مراسم الاحتفال والسرور في هذا اليوم الخاصّ لم تكن تحظى برضا زعماء الدين وإمضائهم، وأنّ التزاور بين الناس في هذه الأيّام سيُحسب ـ شاؤوا أم أبوا ـ على هذا اليوم؛ الأمر الذي نهى عنه أولياء الدين وحذّروا منه بالتحديد؟!
فالعلّة التي لأجلها نهت الروايات عن إقامة مراسم العيد في النيروز ـ معتبرةً إيّاها من السنن والشعائر الجاهليّة ـ لا تكمن في مسألة التزاور وصلة الأرحام والتهادي بين الناس وسرورهم واحتفالهم، بل تكمن في بقاء واستمرار تلك السنن الموروثة من دين المجوس، والتي ستجعل الناس يعيشون في تلك الأجواء شاؤوا أم أبوا، وتفصلهم عن الارتباط بمحور الإسلام والتوحيد وأجواء الدين الإلهي، وتقطع حبل الاتّصال بين قلوبهم وضمائرهم وبين آثار عالم الملكوت وخصائصه، وتُفرّق بين دائرة حياتهم الاجتماعيّة وبقيّة دوائر الشعوب والأقوام الإسلاميّة.
ومن هنا، فإنّ جميع الشعائر والاحتفالات التي تُقام في مختلف أرجاء العالم ويُشمّ منها رائحة العنصريّة والقوميّة هي مذمومة ومرفوضة من قبل الأديان؛ وفي المقابل، فإنّ كلّ سنة لا تصطبغ بهذا، بل تطابق المبادئ الأساسيّة والملاكات العامّة للإسلام والقوانين الإلهيّة، لكن لم تتمّ الإشارة إليها بشكل دقيق ومصداقي في الدين الحنيف، فإنّها ممدوحة، ويُمكن ممارستها والإقدام عليها؛ وهذا نظير الاحتفال بيوم بلوغ سنّ التكليف، وتسمية يوم مولد أمير المؤمنين عليه السلام بيوم الأب ويوم مولد مولاتنا الصدّيقة الكبرى سلام الله عليها بيوم الأمّ ويوم مولد السيّدة زينب الكبرى بيوم الممرّضة وأمثال ذلك، لكن ينبغي ـ بطبيعة الحال ـ الأخذ بعين الاعتبار أن نجعل عنوان هذا اليوم منسوبًا في الدرجة الأولى للمعصوم عليه السلام.
وعليه، فإنّ وضع السنن الحسنة هو من أفضل الأعمال وأحسن السير؛ كما أخبر عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم.
ولهذا، ليس من الضروري أن يكونّ أصل كلّ سنّة ومبدؤها موجودًا في الإسلام، بل يكفي أن تكون هذه السنّة متطابقة مع المعايير والملاكات المدوّنة في الآثار الواردة عن المعصومين عليهم السلام.
لكن، ما يُستفاد من الروايات الآنفة الذكر هو: أنّه على الرغم من كون أداء مراسم النيروز بغير نية اتّباع السنن والشعائر المجوسيّة الغابرة، إلاّ أنّ نفس مسألة التشبّه والمحاكاة تكفي في الحرمة.
فلا شكّ أنّه ليس هناك أيّ إشكال في الفرح والتسلية والترويح عن النفس، لكن نظرًا لكون هذه الأمور تُؤدّى في يوم وفي ظروف تُذكّر بالسنن والآداب الجاهليّة، فقد نهى عنها الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث قال: «إِنَّ اللَّهَ أَبْدَلَكُمْ بِيَوْمَيْنِ يَوْمَيْنِ: بِيَوْمِ النَّيْرُوزِ وَالْمِهْرَجَانِ الْفِطْرَ وَالأَضْحَى».۱
ومن جملة الأدلّة الواضحة على بطلان عيد النيروز ما ذكره أمير المؤمنين عليه السلام حينما أحضروا له هديّة، حيث قال: مَا هَذَا؟ قَالُوا: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ الْيَوْمُ النَّيْرُوزُ، فَقَالَ عليه السلام: «اصْنَعُوا لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزاً» فأفاد عليه السلام ـ غير مبدٍ أيّ تعجّب ـ أن ليت كلّ أيّامنا نيروز لننال هذا النوع من الطعام! فلو كان أمر النيروز كما نُقل عن الإمام الصادق عليه السلام في تلك الرواية الموضوعة والكاذبة،٢ لكان على أمير المؤمنين عليه السلام أن يُبدي انبهاره اتجاه هذه المسألة، ويعمد إلى تمجيدها ومدحها وتعظيمها، لا أن يُبرز جهله التامّ بها، ثمّ يقول ما قاله؛ فهذه المسألة تُعدّ بحدّ ذاتها شاهدًا وقرينةً صريحةً على أنّه: أساسًا، لا يوجد أيّ معنى لعيد النيروز، ولا يحظى بأيّة قيمة في الإسلام.
الاحتفال بالنيروز كعيد قوميّ
إنّ ما يقوله البعض من أنّ «هذا العيد هو عيد قومي وليس عيدًا إسلاميًّا؛ فلا يوجد هناك أيّ إشكال في الاحتفال به» هو كلام مجانب للصواب؛ لأنّ شرط الموافقة على العيد وإمضائه (أو رفضه وعدم الاعتراف به) من قبل الشارع لا يرتبط بمجرّد إقراره من طرف الناس، بل له علاقة بمدى انسجام المعايير والثقافة الحاكمة على هذه السنّة مع الأدب الإلهي والموازين الشرعيّة ومواءمتها لها (أو عدم انسجامها معها وعدم مواءمتها لها) ، بينما نجد أنّ النيروز هو عبارة عن إحياء للسنن والآداب الجاهليّة وللشعائر الزرادشتيّة.
وإنّ الذين يُقدمون على إقامة مثل هذا العيد هم ـ شاؤوا أم أبوا، وعلموا أم لم يعلموا ـ في صدد إحياء السنن والآداب الجاهليّة والطقوس الزرادشتيّة القديمة مقرّين بأنّ هذه الظاهرة تنتسب إلى السنن المتقدّمة على الإسلام؛ وهذا ما شهدناه من بعض مسؤولينا الذين توسّلوا بجميع الطرق في سبيل إحياء هذه السنّة والشعيرة الجاهليّة، وعملوا على تسجيلها وإقرارها في المؤسّسات الدوليّة، صادحين في أرجاء العالم بنداء القوميّة الإيرانيّة والافتخار بها وبالانتساب إلى أجداد هذا الوطن وأسلافه ـ وهو النداء الذي يتعارض تمامًا مع آدابنا الإسلاميّة وتعاليمنا الدينيّة ويُخالفها۱ ـ ومتبجّحين على الجميع بالغيرة القوميّة والعرقيّة المشؤومة؛ وهذا كلّه يحصل في الدولة والشعب اللذين يريان نفسيهما أسوة ونموذجًا للتعاليم الإنسانيّة والفطريّة والإلهيّة والإسلاميّة!!
ولهذا السبب قال الإمام عليه السلام عن النيروز: « أنّه سُنَّةٌ لِلْفُرْسِ ومَحَاهَا الإِسْلامُ ومَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُحْيِيَ مَا مَحَاهُ الإِسْلام»٢ فالإمام عليه السلام ينصّ على أنّ إقامة هذا العيد هو إحياء للسنن الجاهليّة، وأنّه لن يقدم على مثل هذا الفعل أبدًا.
هذا وإنّ رواية (أصحاب الرسّ) تبيّن لنا ـ إلى حدٍّ ما ـ خصائص ذلك العصر والأجواء الحاكمة عليه، وكيف أنّ الشعوب الإيرانيّة قد اتّبعت السنن والآداب الجاهليّة والطقوس السائدة في أجواء ما قبل الإسلام، وساهمت في استمرار هذه السنّة!!
ففي إحدى الروايات، يقول الإمام عليه السلام: «وإِنَّمَا سَمَّتِ الْعَجَمُ شُهُورَهَا بِأَبَانْ مَاهَ وآذَرْ مَاهَ وغَيْرِهِمَا اشْتِقَاقاً مِنْ أَسْمَاءِ تِلْكَ الْقُرَى [أي قرى أصحاب الرسّ]»٣ وها نحن نشاهدهم يقضون في بداية الربيع إثنى عشر يومًا في الاحتفال والرقص والتعييد، ثمّ يخرجون من منازلهم إلى البراري في اليوم الثالث عشر لأجل طرد النحس؛ أفهل يُمكننا أن نطلق على مثل هذه المراسم والوقائع اسمًا آخر غير اتّباع سنن الأسلاف والماضين وطقوسهم؟!
خاتمة: خلاصة تاريخ النيروز ونظرة الإسلام له
إلى هنا، نكون قد انتهينا من الحديث عن مسألة النيروز، وصار واضحًا أنّ الأمر لم يقتصر على نهي الإسلام عنه ورفضه وذمّه، بل إنّ هذا العيد يفتقد من الأساس إلى هويّة محدّدة، حيث كان في معرض التغيّر ::والتحوّل على الدوام؛ ويبقى علينا الآن الإشارة إلى مسألتين إشارة إجماليّة:
المسألة الأولى: أنّ النيروز كان منذ سالف الأيّام متداولاً بين الإيرانيّين باعتباره بداية للسنة الجديدة؛ ومن هنا، يقول أبو ريحان البيروني في كتابه القانون المسعودي:
«وموضوعه في الأصل أطول يوم في السنة، وإنّما خصّ بذلك لأنّ الوقوف عليه من أظلال الأوتاد على الحيطان ... يسهل على من أراده من غير ارتياض بعلم الهيئة... وزعمت الفرس أنّ جمشيذ ركب فيه العجلة ونهض إلى ناحية الجنوب لقتال الشياطين... وذكروا في النيروز الكبير أنّ فيه رجع جم [جمشيذ] مظفّرًا... وقد جرى الرسم فيه برشّ الماء».۱
وهذا الكلام يتطابق مع الرأي الذي يعتبر أنّ يوم السابع والعشرين من خرداد هو أوّل يوم من السنة والذي يُؤذن ببداية السنة الجديدة.
[ومن كلام] آقا رضى القزويني عن كيفيّة ظهور النيروز٢ يتبيّن أنّه:
اعتبر البعض بأنّ بداية السنة تقع في آخر شهر آبان، وجعل البعض الآخر اليوم الثاني عشر من أرديبهشت مبدأً للسنة، وأمّا الرأي المشهور، فيعتقد أنّ أوّل يوم من السنة ويوم النيروز كان هو السابع والعشرين من شهر خرداد والذي بقي موروثًا منذ العصر الجمشيدي، حيث استمرّت هذه المسألة إلى عصر يزدجرد الثالث الذي اعتلى العرش في العام ٦٣٢ ميلادي، فحدّد النيروز في اليوم الأوّل من السنة؛ أي الأوّل من فروَردين (الذي صادف في تلك الأيّام السادس عشر من حزيران (يونيو) الموافق للسابع والعشرين من خرداد)، لكنّهم عمدوا إلى تغيير هذا اليوم بشكل منتظم جرّاء عدم احتساب بعض الساعات. وقد استمرّ هذا الأمر إلى عصر السلطان السلجوقي ملك شاه الذي استخدم ثلّة من الرياضيّين والمنجّمين برئاسة الحكيم عمر الخيّام النيشابوري لوضع تقويم؛ وفي حين أنّ النيروز كان تلك السنة في اليوم الثاني عشر من شهر إسفند، فإنّه أمر بعدم احتساب الثمانية عشر يومًا الأخيرة، وعيّن أوّل السنة في وقت حلول الشمس ببرج الحمل (أي الأوّل من فروردين)، وعوّض تلك الساعات والنصف في كلّ أربع سنوات بيومٍ أضافه إلى السنة الخامسة (الكبيسة)؛ وبالتالي، ظهر التاريخ الشمسي بنفس الكيفيّة التي ساد بها الآن بين بعض المجتمعات، ومن ضمنها إيران.
وأمّا المسألة الثانية، فتتعلّق بكيفيّة نظرة الدين الإسلامي لهذا اليوم على عهد رسول الله وكذلك في عصر الأئمّة المعصومين عليهم السلام.
فحسب ما تقدّم، طُرحت قضيّة النيروز في زمان رسول الله بعد دخوله للمدينة، حيث رأينا أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم ألغى ذلك العيد وعوّضه بعيدي الأضحى والفطر؛ وهي مسألة منقولة في كتب السنّة بطرق متعدّدة.۱ ثمّ إنّه على عهد أمير المؤمنين عليه السلام، أحضر له في النيروز فالوذج كهديّة، فقال عليه السلام من دون يُشير إلى هذا اليوم بالتعظيم أو التجليل: «اصْنَعُوا لَنَا كُلَّ يَوْمٍ نَيْرُوزاً» ؛ بمعنى أنّه ليس لدينا يومًا خاصًّا باسم النيروز،٢ وحتّى أنّه ورد في بعض المصادر أنّه استنكف عليه السلام وامتنع عن قبول الهديّة في النيروز،٣ خلافًا لسيرة معاوية وخلفاء بني مروان التي قامت على قبول الهدايا في ذلك اليوم.٤
وقد استمرّت هذه المسألة بعد ذلك بهذا النحو، إلى زمان موسى بن جعفر عليهما السلام، والذي عدّ بكلّ صراحة هذا العيد من السنن الجاهليّة، وقال: «مَحَاهَا الإِسْلامُ وَمَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نُحْيِيَ مَا مَحَاهُ الإِسْلام».٥ لكن، بعد حكاية موسى بن جعفر عليهما السلام مع المنصور الدوانيقي، فإنّنا لا نجد أيّ أثر عن الأئمّة عليهم السلام بشأن مسألة النيروز إلى زمان الغيبة الكبرى، وحتّى أنّنا لا نُشاهد بين فقهاء الشيعة ـ إلى زمان الشهيد ـ أيّ حديث في كتبهم الفقهيّة عن مسألة النيروز.
والشاهد على هذا الأمر أنّنا لا نلحظ في كتاب المقنعة للمرحوم الشيخ المفيد، وكذلك في شرح الشيخ الطوسي عليه (والمعروف بكتاب التهذيب) أيّ ذكر للنيروز والأعمال المستحبّة التي أوردها البعض في كتبهم بشأن هذا اليوم، كما أنّه لا يوجد أيّ أثر لأعمال هذا اليوم في الكتب الفقهيّة للشيخ الصدوق؛ والعجيب أنّ الفقهاء والعظماء الذين أفتوا باستحباب غُسل يوم النيروز بعد عشرات السنين من حياته ـ مستندين في ذلك إلى رواية المعلّى في مصباح الشيخ ـ لم يلتفتوا أبدًا إلى هذه النكات.
ومن هنا، نخلُص إلى أنّ الذي دسّ هذه الرواية في كتاب الشيخ كان يعيش في الفترة الزمنيّة الفاصلة بين حياة الشيخ وبين عصر بقيّة الفقهاء؛ ولو أنّ الفقهاء والأعاظم الذين طالعوا بعض النسخ الخطّية [للمصباح] ، التفتوا إلى بقيّة هذه النسخ لاكتشفوا هذه الخيانة وهذا الوضع والدسّ.
وتأسيسًا على ذلك، فإنّ التمسّك بهذه الرواية الموضوعة والضعيفة والبعيدة عن معايير الوثاقة والاعتبار، ونشرها بين الناس ـ نظير إدراجها في كتب الأدعية مثلما صنع المجلسي والشيخ عبّاس القمّي ـ لن يخلو من إشكال ومحذور شرعي.
والمسألة الأخرى هي: يُلاحظ أخيرًا تأليف العديد من المقالات بشأن النيروز، سواءً تلك الواردة في إثباته وإضفاء الشرعيّة عليه أو تلك الوارد في عدم إثباته ونفي الصلاحيّة عنه، غير أنّ المقالات النافية له قليلة ومختصرة جدًّا بالمقارنة مع المثبتة له؛ ولعلّ مجموعة من الأدلّة والمطالب الموجودة فيها تفتقر للأهليّة والجدارة من حيث السند والإتقان؛ فصارت بذلك ذريعة يحتجّ بها المثبتون لهذه السنّة الخرافيّة في مقام البيان. لكن، بالنظر إلى المسائل الواردة في هذه المقالة، لم يعُد هناك أيّ مجال لاستعراض مطالب المثبتين بأجمعها، وأمكن لصاحب الذوق السليم والنفس الخالية من الخلل الإذعانُ من دون أيّ شكّ بصحّة المسائل المزبورة وإتقانها؛ اللهمّ إلاّ أن يكون في مقام الإنكار والمكابرة، وحينئذ، لن يكون لنا أيّ حديث معه.
خلاصة القول أنّ: كل سنّة قامت على أساس إبقاء السنن الجاهليّة أو كانت مذكّرةً بأجواء الجاهليّة وفضائها فهي منبوذة ومرفوضة من وجهة نظر الشرع.
وأنا الحقير الفاني المُعترف بالإثم
السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني
[ملاحظة: تمثّل هذه المقالة ترجمة واقتباسًا وتلخيصًا لكتاب نوروز در جاهليّت واسلام لسماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني حفظه الله، من إعداد وتنظيم الهيئة العلميّة في موقع المتقين، وقد حاولت الحفاظ قدر الإمكان على ترتيب الأصل وعباراته إلا في مواضع نادرة لضرورات فنيّة. ولمزيد من الاطلاع يراجع نفس الكتاب وهو قيد الترجمة]