المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- مراتب المعرفة والمرتبة المرادة في معرفة الله؛
- معنى معرفة الله بالله وانحصار طريق معرفته بها؛
- كيف يمكن معرفة الله بالله؟ وكيف نفسّر الأخبار الدالة على استحالة معرفة الله؟؛
- أقوال العلماء في الجمع بين ما دلّ على استحالة معرفة الله وما دلّ على إمكانها؛
- قابليّة الإنسان لمعرفة الله لا متناهية؛
- نتيجة الجمع بين الأخبار الدالة على استحالة معرفة الله والدالة على إمكانها.
هو العليم
هل يمكن أن نعرف الله؟
بحث منتخب من «معرفة الله»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
مراتب المعرفة والمرتبة المرادة في معرفة الله
اعلم أن للمعرفة التي يمكن لعقول البشر الوصول إليها مراتب متخالفة و درجات متفاوتة ومتباينة.
قال المحقّق الطوسيّ طاب ثراه في بعض مصنّفاته:
إن مراتب تلك المعرفة هي بمثابة المراتب التي للنار.
لأنّ أدنى تلك المراتب هي أن يسمع أحدهم أن في عالَم الوجود يوجد شيء يُفني كلّ شيء يُواجهه، و يَترك آثاره على أيّ شيءٍ يكون في مقابله و بمحاذاته، و لا يصيبه النقص أو النقصان على الإطلاق مهما أخِذَ أو اقتُبِسَ منه؛ و يسمّون ذلك الموجود بالنار. و نظير هذه المرتبة هي مرتبة معرفة المُقلّدين التي نجدها في باب معرفة الله تعالى و هم الذين قاموا باعتناق الدين دون وقوفهم على برهان أو حجّة إلهيّة.
و أفضل من هذه المعرفة هي معرفة الشخص الذي يرى دخاناً فيعلم أن لابدّ من وجود مُؤثّر أوجدَ هذا الدخان، فيحكم مستنداً على ذلك بوجود النار. و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل النظر و الاستدلال و الذين يحكمون بوجود الصانع على أساس البراهين القاطعة.
و أعلى من تلك، مرتبة مَن يُحسّ بحرارة النار بسبب مجاورته لها و يرى الموجودات بنورها فينتفع من ذلك الأثر. و نظير هذه المرتبة في معرفة الله سبحانه معرفة المؤمنين الخُلّص الذين تطمئنّ قلوبهم بالله و تهدأ، فاستيقنوا أن {اللهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَ الأرْضِ}؛ كَمَا وَصَفَ اللهُ تعالى نَفْسَهُ بِهَذَا أيضاً.
و أسمى من ذلك مرتبة مَن يُحرق كلّ وجوده و يذوب و يفنى فيها، فيتلاشى و جميع كلّيّته و آثاره في تلك النار. و نظير هذه المرتبة في معرفة الله تعالى معرفة أهل الشهود و الفَناء في الله سبحانه.
و هذه هي أعلى المراتب و أسمى الدرجات و آخر المراحل: رَزَقَنَا اللهُ الوُصُولَ إلَيْهَا وَ الوُقُوفَ عَلَيْهَا بِمَنِّهِ وَ كَرَمِهِ- انتهى كلام الخواجة أعلى الله مقامه».۱
معنى معرفة الله بالله وانحصار طريق معرفته بها
الله سبحانه و تعالى شأنه نور، و هو ظاهر، و هو الذي أظهر جميع المخلوقات؛ و الإنسان يريد أن يصل إلى الله، فكيف له إدراك الظاهر و هو المخلوق الذي يمثّل ظهوراً؟ فعندما يكفّ عن الظهور، فإنّه سيلتحم بالشعاع و يرجع إلى أصل النور، يرجع إلى الشمس و يخترق ذاتها، و هناك لن يكون ثمّة شعاع، فالشمس هي الشمس و لا يمكن لأحد أن يعرف ذاتاً للشمس غير الشمس نفسها.
و مهما تكلّمنا عن الشمس و تحدّثنا عن عظمتها و خصائصها و صفاتها، فمن أين لنا أن نعرف كنه حقيقتها لنتحدث عنها؟ و أين سنراها؟ أنّي سندرك حرارتها؟ بل كيف سنلمّ بكمّها و كيفها؟ ملايين الفراسخ تفصلنا عنها، و ما يصلنا من حرارتها هو نزر يسير ليس إلّا، و متى ما أردنا رؤيتها وضعنا زجاجة سوداء على أعيننا و من وراء حجاب أسود و مظلم لنستطيع فقط رؤية قرصها.
هذا مبلغ علمنا عن الشمس، فمن ذا الذي عرف الشمس كما هي؟
الذي عرف كُنه الشمس و حقيقتها، هو الذي انطلق من الأرض و دخل في أعماقها، و ذاب وانمحى في ذراتها، ولم يبق له أيّ أثر، وللأسف عندها لن يكون هو موجوداً فيها، بل أن كلمة (هو) لن تجد لها مكانًا في بطن الشمس.۱
إنّ المصباح المضيء في مسجد، مضيء في نفسه و ذاته، و أمّا بقيّة الأشياء المضاءة في ذلك المسجد، فهي مضيئة بنور ذلك المصباح، لا بنورها هي بالذات. فنور المصباح ينتشر في ظُلمة المسجد، و الأشياء الموجودة في غياهب ذلك المكان تُضيءُ و تُنير بضياء المصباح و نوره. فَلِكَيْ نرى ذلك المصباح و نتعرّف عليه، يتوجّب علينا رؤيته هو بذاته و ليس نوره الساقط على الأشياء. لا يمكننا بحال من الأحوال رؤية المصباح نفسه من خلال نوره الساقط على الأرض و المنعكِس عن هذا الشيء أو ذاك. يجب رؤية المصباح بنفسه، لا بالأشياء المظلمة المعتمة و المُنارَة بنوره والمستضيئة بضيائه، وهذه المسألة في غاية الأهميّة.
إذن، يجب معرفة الله عن طريق الله لا غير الله ممّن أساس وجوده وخِلقته و تسويته و حقيقته وظهوره مأخوذ من الله و مبنيّ على وجوده.
في كلام للإمام السادس (عليه السلام) في مقطع من حديث سدير... قيل له: فكيف سبيل التوحيد؟
قال: باب البحث ممكن، و طلب المخرج موجود. إن معرفة عين الشاهد قبل معرفة صفته، ومعرفة صفة الغائب قبل معرفة عينه.
قيل: و كيف يعرف عين الشاهد قبل صفته؟
قال: تعرفه و تعلم علمه، و تعرف نفسك به، و لا تعرف نفسك بنفسك من نفسك، و تعلم أنّ ما فيه له و به، كما قالوا ليوسف: {إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخي}۱، فعرفوه به و لم يعرفوه بغيره و لا أثبتوه من أنفسهم بتوهّم القلوب.٢
كيف يمكن معرفة الله بالله؟ وكيف نفسّر الأخبار الدالة على استحالة معرفة الله؟
وهنا تبرز مسألة أخرى إلى حيّز الوجود، و هي أنّه كيف يمكن معرفة الله بواسطة الله نفسه سبحانه؟ و ما العمل بشأن كلّ تلك الأخبار الدالّة على استحالة معرفة الإنسان للّه تعالى أو الوقوف على كُنه ذاته المقدّسة٣؟
يمكن أن يعرف الله عن طريق آثاره الدالّة عليه، و مع ذلك فإنّ تلك المعرفة لا يمكن أن تكون تفصيليّة، بل إجماليّة. فالأرض و السماء و الخُضرة و الماء و الموجودات من الذرّة حتى المجرّة، ومن البرغوث و البقّة حتى الفيل، تظهر وجود الله سبحانه؛ فبما أنّها آيات للّه، فإنّ كلًّا منها يشير إلى الله حسب سعته الوجوديّة، والقرآن نفسه يدعونا إلى تتبُّع تلك الآثار. و من هنا ينشأ الحديث: تَفَكَّرُوا في آلَاءِ اللهِ؛ وَ لَا تَتَفَكَّرُوا في ذَاتِ اللهِ٤.
و من جهة أخرى علِمنا أنّه لا يمكن معرفة الله سبحانه عن طريق الموجودات، إذ كما قلنا لا يمكن معرفة الله إلّا عن طريق الله نفسه. و قد وردت روايات كثيرة في هذا الباب في أن الإنسان باستطاعته معرفة الله بذاته٥.
كانَ أمير المؤمنين عليه السلام يخطب يوماً فسأله أحد الحاضرين قائلًا: يَا أمِيرَ المُؤْمِنينَ! هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟!
فأجاب عليه السلام: كَيْفَ أعْبُدُ رَبَّاً لَمْ أرَهُ؟!
ثمّ أوضح عليه السلام ذلك بقوله:
لَا تَرَاهُ العُيُونُ بِمُشَاهَدَةِ الأبْصَارِ؛ وَ لَكِنْ تَرَاهُ القُلُوبُ بِحَقَائِقِ الإيمَانِ...۱
و لدينا من الآيات القرآنيّة الشريفة ما يناهز العشرين آية أو أكثر٢ كلّها تدلّ على أن الناس سينالون شرف لقاء الله في يوم ما، دون ريب.
أقوال العلماء في الجمع بين ما دلّ على استحالة معرفة الله وما دلّ على إمكانها
وبين هذه المجموعة من الأخبار و تلك وقع العلماء في أشدّ حيرة من أمرهم، قائلين: كيف يمكن حلّ مثل هذه المعضلة؟!
القول الأول: التمسك بروايات استحالة معرفة الله وحمل روايات إمكان المعرفة على المجاز
فنهج البعض منهجاً يقول بأنّ الأخبار التي دلّت على عدم إمكانيّة رؤية الله عزّ و جلّ و إدراكه ومعرفته كلّها صحيحة؛ فإنّه لا سبيل لبني آدم إلى معرفة الله بأيّ شكل من الأشكال، سواء كانت تلك المعرفة إجماليّة أم تفصيليّة. فأين الخالق من المخلوق؟ أيْنَ التُّرابُ وَ رَبُّ الأرْبابِ!؟٣ فلو قضى الإنسان سنيّ حياته بالجهدِ و الاجتهاد و التفكُّر و الاسترشاد، لما وصل إلى نتيجة ترضيه أو حِلٍّ يُغنيه، و دليل ذلك الأخبار المرويّة هنا.
وأمّا الأخبار القائلة بأنّ الإنسان يرى الله و تحصل لديه المعرفة به، فيجب حملها على المعنى المجازيّ. أيّ أن معنى رؤية الإنسان للّه تعالى هو أن يرى نِعَمَهُ و مخلوقاته الخارجيّة و ملائكته ورضوانه و منازل الجنّة و الحُور و القصور في الجنّة، ليس إلّا.
القول الثاني: التمسّك بروايات إمكان معرفة الله وحمل روايات استحالة معرفته على الرؤية البصرية والمعرفة العقليّة
في حين يعتقد البعض الآخر أن بالإمكان رؤية الله عزّ و جلّ، و يؤوِّلون الروايات القائلة بعدم القدرة على رؤية الله سبحانه على أنّها تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالعين الإنسانيّة الموجودة في رأس الإنسان، و لم تقل بعدم إمكانيّة ذلك بعين القلب؛ و تريد بذلك عدم إمكانيّة رؤيته تعالى بالباصرة و لم تُصرّح أن ذلك غير ممكن بالبصيرة، و على هذا فتلك الأخبار مفهومة القصد.
إن الإنسان يرى الله بحقائق الإيمان، و هذا ممّا تدلّ عليه الآيات القرآنيّة، بل الحقّ أنّها تُصَرِّح بذلك دون لبس و لا مجال للاعتقاد بكونها مجازيّة. و لِمَ يتكلّم الله بالمجاز؟ هل أغلِقَتْ طرق الصراحة والحقيقة أمامه حتى يذكر في أكثر من عشرين مكاناً في القرآن الكريم لقاءه و التأكيد على ذلك؟ وهل هدفه من كلّ تلك الآيات هو لقاء أنواع مختلفة من التفاح و الكُمّثرى و العنب و الرُّطَب والحوُر العين و الغلمان وجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُّ؟!
إذن، وبعد ثبوت إمكان معرفة الله بل ووقوعها في الخارج، علينا والحال هذه، أن نحمل الأخبار التي تؤكّد على عدم إمكانيّة رؤية الله عزّ و جلّ على درجات المعرفة غير التامّة، درجات المعارف الجزئيّة التي تحدث للناس كمعرفة الذات و الحقيقة عن طريق شبح أو صورة حسب تصوّرهم، فيريدون بذلك التوصّل إلى كيفيّة الله و كمّيّته و شكله وصفاته عزّ و جلّ، ويجعلون تلك الصورة بمثابة آية للّه ذي الآية.
المحاكمة بين القولين وبيان الحق
مقدّمة في بيان قاعدة عدم إمكان معرفة شيء لشيء إلا بما هو منه فيه
ولمحاكمة هاتين الطائفتين وبيان الحق في هذا الموضوع بحول الله و قوّته، نجد أنفسنا مضطرّين إلى بيان مقدّمة، ومع كون هذه المقدّمة بمثابة قانون علميّ و قاعدة حِكَميّة و فلسفيّة، إلّا أنّنا سنسعى جاهدين في بيانها بصورة مبسّطة ليمكن فهمها:
حتّى يكون بإمكان أيّ موجود الحصول على معرفة و عِلم بموجود آخر، لا بدّ من وجود شيء من ذلك الموجود (الثاني) في هذا الموجود (الأوّل). إنّنا نرى الكثير من الموجودات في العالَم من حولنا، منها الإنسان، و الحيوان على مختلف صوره و أشكاله و آثاره و خواصّه، فالبقر والغنم والإبل و الطير و البطّ، كلّ هذه يختلف بعضها عن بعض.
و هناك الشجر و الحجر و الماء. و هي كلّها موجودات كثيرة مختلفة، و الكثرة تستلزم ذلك الاختلاف و التنوع الموجود فيما بينها.
فالشجرة كيان منفصل عن الحيوان، لأنّها تختلف و تتميّز عنه، و إلّا لكانَ الاثنان شيئاً واحداً. و زيد غير عمرو، و الوالد ليس بالولد. فلو كانا متشابهين تماماً في جميع الجهات لما كانا اثنين بل كانا واحداً. و هذه المقدّمة مفهومة و لا تحتاج إلى نقاش.
و الآن، و بعد أن علمنا أن في هذا العالَم و هذه الدنيا كلّ تلك الكثرات، كيف يمكن لشيء ما أن يتوصّل إلى معرفة شيء آخر و العلم به؟! فمثلًا، كيف يعلم الخروف بوجود بقرة ها هنا، و يتوصّل الجَمَل إلى العلم بأنّ الحصان حيوان لا عداوة له معه؟ و يفهم الثعلب أن الأسد عدوّ لدود له، ويدرك الخروف أيضاً أن الذئب عدوّه و قاتله، و هكذا الحال مع جميع أصناف الحيوانات؟
إنّ الإنسان يعرف الكثير من الموجودات، فهو يعرف الشجرة و الحيوان و الأفراد من أنواع جنسه، مع أنّ تلك الأشياء منفصلة عن الإنسان مختلفة عنه في كثير من النواحي، و هو أمر بديهيّ ومعروف، إلّا أن الإنسان يعلم بها و يتعرّف عليها بهذه البساطة. فكيف تسنّى له ذلك؟
لقد توصّل الحكماء الأفاضل إلى إنشاء قانون مفاده: لَا يَعْرِفُ شَيْءٌ شَيْئَاً إلَّا بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْهُ.
فحين أعلَمُ بوجود حيوان، كالخروف مثلًا، فما مقدار ما أستطيع الحصول عليه من المعرفة بهذا الخروف؟! بنفس الكمّ الموجود من الخروف في ذاتي شخصيّاً. فما الموجود من الخروف في ذاتي؟ إنّه الحيوانيّة، الإحساس والتحرّك بالإرادة، الجسميّة، الجوهريّة، وآثار ذلك وخواصّه ولوازمه (كالقوّة المغذّية والنامية والدافعة والمُوَلِّدة و غير ذلك) و إدراك الجزئيّات والحسّ المشترك ومعرفة الصديق و العدوّ (بما يتناسب و حصول المنفعة و اجتناب الضرر). فكلّ تلك الأمور هي خواصّ و علائم مشتركة موزّعة بين شخصي و بين الخروف بالسويّة، و قد استفاد كلٌّ منّا مشتركاً من تلك الخواصّ والعلائم.
و على الرغم من ذلك، فلا سبيل أمامي على الإطلاق للعِلم بالخروف من خلال الخصائص والمميّزات التي تفصلني وتميّزني عنه. لأنّه، و على افتراض حصولي على علم بالخروف، سواء كان ذلك العلم في «ما به الاشتراك» معه أم في «ما به الامتياز» عَنه، فعلى أساس تلك الفرضيّة، وجب أن أكون أنا الخروف عينه و الخروف هو عيني، و هذا ما يدعى بالخُلف.۱
إنّ العلم بأيّ موجود و الاطّلاع عليه من قِبَل موجود آخر و التعرّف عليه يتأتّى من طريق معرفة الخواصّ المشتركة فيما بين هذين الموجودين و ليس من الامتيازات بينهما، فطريق العلم و العرفان مفتوح من خلال المشتركات (أو الخواصّ المشتركة)، في حين أنه مسدود من خلال المتميّزات، وإلّا كنّا جميعاً متشابهين، و لتشابهت كلّ الموجودات كذلك مع بعضها البعض. أي لو كان المجال (مجال العلم و المعرفة) مفتوحاً للبحث في جميع الجزئيّات و الكثرات، لأصبحت كلّ الموجودات بالضرورة موجوداً واحداً. و لكان الحصان و البقر و الجمل و الخروف و الطيور و الزواحف والحيوانات البحريّة و الجوامد و النباتات و قبائل الجِنّ و الملائكة، موجوداً واحداً لا اختلاف يُذكَر بينها، فتزول بذلك الأسماء عن المسمّيات و تدعى كلّها باسم واحد.
و الآن، وجب أن نسأل أنفسنا نحن الذين نريد التعرّف على الله عزّ و جلّ، مَن هو الله الذي نروم التعرّف عليه؟! أين الله عزّ و جلّ و أين نحن؟ فنحن مخلوقون و هو الخالق، و نحن مرزوقون و هو الرازق، و نحن معلومون و هو العالِم، و نحن مقدور علينا و هو القادر، و نحن محكومون و هو الحاكم، و نحن مملوكون و هو المالك، و هكذا دواليك.
الله عزّ و جلّ هو خالقنا، و هو الذي وهب لنا الجسد و الفكر و العقل، و منحنا الروح و النفس، وتلك كلّها مجرّد مظاهر من لدن الله. و الله ظاهر في ذاته عزّ و جلّ، و هو الذي فرض لنا الظهور ووهبنا إيّاه، لكنّ هذا الظهور إنّما هو ظهور مستند إلى ظهوره هو عزّ و جلّ.
ما مقدار القوّة و الاستطاعة التي نملكها حتى نعرف الله بواسطتها؟! إن ذلك المقدار هو مقدار وجود الله سبحانه في ذواتنا. و ما هو المقدار الموجود من ذات الله عزّ و جلّ فينا؟! ما المقدار من ظهور الله؟! ما المقدار من علم الله؟! ما المقدار من قدرة الله؟! و أخيراً، و ليس آخراً، ما المقدار من حياة الله؟!
قابليّة الإنسان لمعرفة الله لا متناهية
لقد خلقنا الله عزّ و جلّ {في أحْسَنِ تَقْوِيمٍ}۱ و أودع فينا من جميع الأسماء الحسنى و الصفات العليا، وجعل أنفسنا من الهيولى (أي قابليّة محضة لأيّة فعليّة متصوّرة في طريق التقدّم و الكمال و التخلُّق بأسمائه و صفاته). و لم يجعل لنا حدّاً و لا حدوداً من جهة الاستعداد و القدرة على التقدّم و التكامل و الارتقاء في سُلّم اليقين و الوصول إلى العرفان و التوحيد و الفَناء في ذات الله المقدّسة و الرُّسوِّ عند صفاته الحسنى. فكما أنّه عزّ و جلّ غير متناهٍ ذاتاً و وجوداً و فعليّة في ذاته و أسمائه و صفاته وأفعاله، فقد جعلنا نحن كذلك لا متناهين قابليّة و إيجاداً و استعداداً.
و على هذا، فمن حيث الإمكان و الاستعداد بإمكاننا التقدّم إلى قمّة درجات صفاته وأسمائه والتخلّق بها.
شرط تحقيق معرفة الله إزالة حجاب النفس بجهادها
أمّا من حيث الفعليّة وتحقّق تلك القابليّة وصيرورة تلك الحياة و الصفات و الأفعال هي المدار والمركز، فهو منوط بالحركة وجهاد النفس وطيّ الطريق إلى الله سبحانه.
فإذا ابتعدنا في مسيرنا عن جلاله و نأيْنا بأنفسنا عن مسلكه، و خُضنا في هوى النفس الأمّارة بالسوء، و أعْتَمتِ الطبيعة و الكثرة أبصارنا، و أغشى أدْنَى العَوَالِم نواظرنا، و لم نُعِر أهمّيّة تُذكَر لنور الوجود و البساطة في الإطلاق و التجرُّد، و صار جلُّ سعينا هو الاستمرار في السّير في طريق الابتعاد و العزلة، ففي هذه الحالة علينا أن نعترف أنّنا لم نعرف الله إلّا النزر اليسير، و أنّنا هدرنا قابليّاتنا و إمكاناتنا تحت شعار الجهل و الحماقة و الكسل، لأنّنا، و مع الأسف، لم ننتفع من وجود الآصرة بيننا و بين خالقنا على الوجه الصحيح.
و أمّا إذا صعد البشر سُلّماً أفضل، و رقي فيه درجة أعلى، و أبصر العالَم ببصيرته من زاوية أوسع، وجهِد في إصلاح نفسه مُخلّصاً إيّاها من الكثرات و الموجودات المختلفة و المتفرّقة و المتشتّتة والمتبدّلة، فيكون بذلك قد عرف الله عزَّ و جلّ بنفس ذلك المقدار، لأنّ الله العليّ الأعلى مثله كمَثَل الشمس الساطعة في كبد السماء التي تُضيء العوالم كلّها، فلو أطرقنا برؤوسنا إلى الأسفل وأرخينا عيوننا إلى الأرض، فإنّنا لن نرى إلّا نور تلك الشمس في هذا الرفّ أو ذاك، أو في هذا البستان أو ذاك. و أمّا إذا رفعنا رؤوسنا قليلًا إلى الأعلى و تخلّلت أبصارنا الغيوم و اخترقت ركام السحاب، فلا ريب في أنّنا سنرى قدراً أكبر من نور الشمس لم نكن لنراه و نحن مطرقي الرؤوس، وسنبصر الأفق بقعة منيرة و مكاناً ساطعاً بسبب ذلك النور. و لو عرجنا من هناك إلى مرتبة أعلى فسيكون بإمكاننا مشاهدة قرص الشمس المتوهِّج المُشِعِّ بنوره على وجه الأرض. و لو حالفنا الحظُّ و قدرنا على الصعود أكثر فأكثر فإنّنا سنرى بعض الكريّات التي تُدعى بالكواكب و السيّارات في منظومتنا الشمسيّة. و إن استمرّينا في العلوّ حتى اقتربنا من قرص الشمس فإنّنا سنطّلع على خصوصيّات أكثر لها كلّما سنحتْ لنا الفرصة من الاقتراب نحوها أكثر.
كذلك الحال مع الإنسان، فلأنّه موجود يعكس كلّ الصفات الجماليّة و الجلاليّة الربّانيّة، ويمثّل الظهور التامّ و المظهر الأتمّ للّه عزّ و جلّ، فهو يمتلك قابليّة الانجذاب و المسير. لكن، ما هو انجذابه و سيره؟ هو تجاوزه للموجودات الباعثة على التفرّق و الفرقة، وللهواجس النفسانيّة الباطلة التي تحيط بعقيدته، وللخيالات و الأحلام المُمَوَّهة و الأفكار المُشوَّهة التي تذهب به بعيداً عن عالم القرب، فليس سيره إلّا ذلك.
يتحتّم على الإنسان أن يرفع رأسه عن التبن والعلف الذي يقتاته الحيوان في زريبته، و أن يتجاوز عالم الناسوت و المادّة و يتنزّه عن أصالة الطبيعة. عليه أن لا ينظر إلى ذلك نظر استقلال، و أن يتوجّه نحو عالم الملكوت ويجعل وجهته الخلقيّة مندكّة في وجهته الربوبيّة۱ والملكوتيّة، و أن يصرخ بأعلى صوته:
{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَ الأرْضَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهَادَةِ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَ مَا أنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إنّ صَلَاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيَايَ وَ مَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذَلِكَ امِرْتُ وَ أنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.}٢
فحينئذٍ، و كلّما كانت وجهة القلب تزداد ميلاناً إلى هذا النحو، سيقترب أكثر من عالَم القدس الذي هو عالَم الطهارة و التجرّد و النقاء و القداسة، و سيزداد اتّصافاً بالصفات الإلهيّة، حتى يوفَّق بعد ذلك إلى اللقاء الحقيقيّ بالله فيصبح حقّاً و واقعاً عارفًا بالله عزّ و جلّ، وليس فقط يُوَفَّق للّقائه، بل وكذلك سيتخلّق بأخلاق الحقّ تعالى بكلّ وجوده من قمّة رأسه حتى أخمص قَدَمَيْهِ.
نتيجة الجمع بين الأخبار الدالة على استحالة معرفة الله والدالة على إمكانها
إنّ الذين يقولون: لا يمكن للإنسان الوصول إلى معرفة الله سبحانه و لقائه، و هو عاجز عن الوصول إلى ذلك المقام المنيع و تلك الذروة الرفيعة و لا سبيل له إلى ذلك. فإنّ هذه المقولة ستصحّ ما دام بقي من وجوده و كيانه شيء يذكر، فهذا الوجود هو مخلوق، و المخلوق هو ما امتلك حالة التعيّن، فلا يمكنه، و الحال هذه، إيجاد سبيل ليصل به إلى الخالق اللامتناهي الذي يفتقد التعيّن. ليس بمقدور الإنسان معرفة الله بوساطة الفكر و التفكير و لا حتى بطريق الإدراك، ذلك أنّ الفكر و التفكير محدودان بينما الله سبحانه لا حدّ له. فكلّما حاول الإنسان جهده الإحاطة بالله بالتفكّر و القدرة العقليّة كان ذلك له محالًا، ذلك لأنّ الصور الفكرية التي عنده ، هي صور تخيّليّة من صُنعِ فكره، وصنيعة ذهنه، وأين هي من الله عزّ و جلّ؟!
لذا، فإنّ الأخبار الدالّة على أن الإنسان عاجز عن معرفة الله تستند كلّها بالأساس إلى هذا المعنى. وأمّا الأخبار القائلة بإمكانيّة تشّرف الإنسان بلقاء ربّه و حصوله على معرفة تامّة به، فهي لا تدلّ على أنّ هذا الوصول و ذلك اللقاء يحصلان عن طريق الفكر و التفكير، بل عن طريق وجدان القلب وإحساس الروح. أيّ كأنّهم يقولون: اجتز حاجز الفكر و تخطَّ حدود العقل، ثمّ اخلع عنك النَّفْسَ و ترفّع عن القلب كذلك، ثمّ صِلْ إلى مرحلة لا ترى فيها وجوداً لذرّة من كيانك و لا تجد فيها ما كان منك فيما سبق، و حينئذٍ، تلاشَ!
فلا وجود هناك لفكر أو عقلٍ أو نفس أو روح أو وجود أبدًا. فليس هناك مجال لإدراك أو شعور. ليس هناك من موجود، هناك يوجد الله و حسب! و الله يعرف نفسه. فإنّما يستطيع الإنسان أن يعرف الله عندما لا يعود إنساناً، لم يعد يدرك معنى لوجوده مقابل ذات الله عزّ و جلّ. فمتى برزتْ ذرّة من وجوده انعدم نور الله.
فهذا العالَم هو عالم المقرّبين الذين تجرّدوا من كلّ شيء، و لم يبق لهم شيء، أي أنّه لا وجود لهم. فهم لا يملكون وجوداً، لكنهم أحياء بحياة الله، و في الوقت نفسه فهم موتى من حياتهم. و هم لا يملكون شيئاً يعرضونه أمام وجود الله. هناك يوجد الله، و الله فحسب. هؤلاء قد اجتازوا مراتب الكثرات، و عبروا حدود التعيّنات، و خلعوا عن أنفسهم الحُجُب و أزالوا عنها الستار، و هم بالتالي قد جاوزوا حُجُب الظُّلمات و حُجُب النور.۱
[ملاحظة: انتخبت هذه المقالة من مواضع مختلفة من النسخة العربيّة لكتاب معرفة الله لسماحة آية الله السيّد محمّد الحسين الطهراني رضوان الله عليه. وقد تمّت مقابلة الترجمة العربيّة للكتاب مع المتن الفارسيّ تحت عنوان (الله شناسي)]