المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- دور العقل في شخصيّة الإنسان؛
- أهميّة العقلانية في السير والسلوك؛
- علّتا نشوء التوهّمات في مقابل التعقّل؛
- نماذج من المظاهر التي تتعلّق بها النفس؛
- مشاهد تاريخيّة كان الانتساب إلى العظماء فيها سببًا للانحراف؛
- تحريف مصطلح العرفان في الثقافة المعاصرة؛
- انحراف الناس بعد وفاة النبيّ الأكرم بسبب ترك العقلانية في العلاقة معه والنظر إلى ظاهره وخوارقه؛
و... .
هو العليم
العقلانية في السير و السلوك إلى الله
بحث منتخب من آثار الأعاظم
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا وطبيب نفوسنا
أبي القاسم محمّد وعلى آله الطيبين الطاهرين،
واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين.
دور العقل في شخصيّة الإنسان
وُضع العقل في فطرة الإنسان وسجيّته كوديعة إلهيّة توجب تشخيص الحقّ من الباطل، وتميّز الواقع من المجاز وتفرز الأصول والمباني من الاعتبارات. وهو بذلك يجعل مسير حركة الإنسان نحو عالم الحقائق والمعرفة والكمال واضحًا وبيّنًا؛ فالإنسان بدون القوّة العاقلة لا يتفاوت عن الحيوان أيّ تفاوت، ولازم الفصل الحقيقي للإنسان هو وجود مقولة العقل في ذاته وفطرته.
لقد بُعث الرسل الإلهيّون إلى الناس بوصفهم «العقل المنفصل» ؛ وذلك لكي يقوموا ـ بواسطة اتصالهم بعالم الغيب ـ باستكمال عقل الإنسان وترقيَته ومن أجل تنمية براعم الفعليّة الكامنة في هذا العقل؛ والعقل ـ باستخدامه البراهين المنطقيّة المتولّدة من حقيقته الجوهريّة ـ يرى أنّ اتّباعهم والانقياد لهم واجبٌ وأنّ مخالفتهم حرامٌ؛ وكلّما تحرّك الإنسان منقادًا لهذه العقول المنفصلة، فإنّ فعليّته ورقيّه العقلانيّ سيزيدان تبعًا لذلك حتّى يبلغان الحدّ الذي يُصبح فيه مُلْحقًا ومتّحِدًا بعالم العقول، فيصبح مستَنيرًا وملهَمًا بشكلٍ مباشرٍ من النفس الجوهريّة التي له.
يُعرِّف الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام ـ وهو الإمام السابع للشيعة ـ هذه الموهبة والوديعة الإلهية ويبيّن مقدار أهميّتها في تكامل الإنسان، فيقول:
«إنّ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَكْمَلَ لِلنَّاسِ الحُجَجَ بِالعُقُوْلِ وَنَصَرَ النَّبِيِّينَ بِالبَيَانِ وَدَلَّهُم عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ بِالأَدِلّةِ، فَقَالَ:{وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحيمُ* إِنَّ فى خَلْقِ السَّماواتِ والأَرْضِ واخْتِلافِ اللَّيْلِ والنَّهارِ والْفُلْكِ الَّتى تَجْرى فِى الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وبَثَّ فيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وتَصْريفِ الرِّياحِ والسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ لآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُون}»۱
ثمّ يُكمل الإمام عليه السلام، فيقول:
«مَا بَعَثَ الله أَنْبِيَاءَهُ وَرُسُلَهُ إِلَى عِبَادِهُ إلاّ لَيَعْقِلُوا عَنِ اللهِ فَأَحْسَنُهُم استِجَابَةً أَحْسَنُهُم مَعْرِفةً وَأَعْلَمُهُم بِأَمْرِ اللهِ أَحْسَنُهُم عَقْلاً وَأَكْمَلُهُمْ عَقْلاً أَرْفَعُهُم دَرَجَةً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ».٢
يُوضّح الإمام في هذه الفقرات أنّ المِعيار في إحراز المرتبة التكامليّة والتقرّب إلى الله ومعاينة عالم الغيب إنّما يُقاس بمقدار تكامل العقل وأنّ تعيين درجات الكمال الإنساني في عالم الآخرة سيكون تابعًا لتكامله العقلانيّ وأنّ معرفة ال له عزّ وجلّ إنّما تكمن في طيّ مدارج الفعليّة العَقلانيّة للإنسان.٣
أهميّة العقلانية في السير والسلوك
وتُعدّ مسألة العقلانيّة في السلوك من بين المسائل التي كان العظماء والأولياء يُؤكّدون عليها بشكل دائم.
يروي الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السلام أنّه قال: «هَبَطَ جَبْرَئِيلُ عَلَى آدَمَ عليه السلام فَقَالَ: يَا آدَمُ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أُخَيِّرَكَ وَاحِدَةً مِنْ ثَلاثٍ فَاخْتَرْهَا ودَعِ اثْنَتَيْنِ، فَقَالَ لَهُ آدَمُ: يَا جَبْرَئِيلُ ومَا الثَّلاثُ؟ فَقَالَ: الْعَقْلُ والْحَيَاءُ والدِّينُ، فَقَالَ آدَمُ: إِنِّي قَدِ اخْتَرْتُ الْعَقْلَ، فَقَالَ جَبْرَئِيلُ لِلْحَيَاءِ والدِّينِ انْصَرِفَا ودَعَاهُ، فَقَالا: يَا جَبْرَئِيلُ إِنَّا أُمِرْنَا أَنْ نَكُونَ مَعَ الْعَقْلِ حَيْثُ كَانَ، قَالَ: فَشَأْنَكُمَا وعَرَجَ».
ويُستفاد من هذه الرواية أنّ طريق السلوك يعني طريق التعقّل؛ ولهذا، متى ما كان هناك تعقّل، كان هناك دين وحياء، وأيّ موضع لا تعقّل فيه، فسوف لن يكون فيه دين وحياء أيضًا، بل ستكون العواطف والأحاسيس هي الحاكمة.۱
وفي رواية أخرى، يُخاطب الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم أمير المؤمنين عليه السلام قائلاً:
«يَا عليُّ! إذَا رَأَيتَ الناسّ يَتَقرَّبونَ إلَى خَالِقِهِم بِأَنوَاعِ البِرِّ، تَقَرَّب إِلَيهِ بِأَنوَاعِ العَقلِ (والإدراكات العقليّة والعلوم الإنسانيّة والفكريّة) حتَّى تَسبِقَهُم!»٢
وتُعدّ مسألة الفهم والإدراك أهمّ مسألة في السلوك وأكثرها حيويّة وقيمة، بحيث إنّ جميع العظماء كانوا يولونها أهمّية خاصّة؛ فالتقدّم لخطوة واحدة مع التعقّل والفهم هو أثمن من التحرّك آلاف الخطوات من دون تعقّل واعتمادّا على العواطف والأحاسيس. ولقد كان العظماء يُؤكّدون دائمًا على أن يستعمل الإنسان التأمّل والتعقّل والتفكّر في كلّ خطوة يُريد أن يخطوها، وألاّ يتحرّك اعتمادًا على الشعارات والدعايات والضوضاء المفتعلة ولا يقع تحت تأثير جاذبيّة الأشخاص، وإلاّ فإنّ قوّته العاقلة ستتلاشى. فهذه المسألة هي من المسائل الواقعيّة؛ إذ على الإنسان أن يتخلّى في حركته السلوكيّة عن التخيّلات والأوهام؛ لأنّ السلوك هو عبارة عن الخروج من الجزئيّة والوصول إلى الكلّية؛ أي أن يُخرج الإنسان نفسه من الأمور الاعتباريّة والأوهام وممّا يعتمد عليه الناس العاديّون في استمرار حياتهم؛ من قبيل: نظرتهم للدنيا وأحكامهم المتسرّعة وإبرازهم للآراء الساذجة والمتهوّرة، ورؤاهم الضيّقة والجزئيّة و... ، وأن يبلغ بنفسه إلى عالم الكلّية والوحدة اعتمادًا على التعقّل والإدراك والملاكات التي وضعها الأولياء والعظماء بين يديه. ففي هذه الحالة، سيكون الإنسان خاضعًا في دينه وعلاقاته وميوله إلى المنطق، ولن يعود يميل في هذا اليوم إلى شخص من الأشخاص، ليُعرض عنه غدًا ويذهب وراء شخص آخر، ولن تعود الأمور الاعتباريّة والضوضاء تجذبه، ولا أحاديث الناس تخدعه ولا كثرة الجموع تعميه.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته الإمام الحسن بحاضرين:
«أحْيِ قَلْبَكَ بِالمَوْعِظَةِ، وأمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ» (والإعراض عن الأهواء النفسانيّة والآمال الكاذبة)، «وقَوِّهِ بِاليَقِينِ» (والقطع بالعقائد والأعمال؛ فلا تلج إلى أيّة مسألة من دون تحقيق واطمئنان ويقين، ولا تُقدم على أيّ أمر تتردّد وتشكّ فيه، وتسعى نحو أيّ مطلب اعتمادًا على الحدس والظنّ والتخيّل وأقوال الناس والشائعات، بل توقّف فيه ولا تتحرّك)، «ونَوِّرْهُ بِالحِكْمَةِ» (والمطالب الحقيقيّة التي تبتني على البرهان العقلي والشهود الربّاني وابتعد عن الشائعات والتوهّمات والأمور الرائجة بين الناس والمبنيّة على أساس الحدس والظنّ، ولا تجعلها معيارًا لعملك وفكرك وبرنامج حياتك).۱
ويقول مولانا جلال الدين الرومي (رحمة الله عليه) بشأن الآثار السيّئة لاتّباع التخيّلات والعواطف:
بر خيالى صلحشان وجنگشان | *** | از خيالی فخرشان وننگشان |
جان همه روز از لگد كوب خيال | *** | وز زيان وسود وز خوف زوال |
نى صفا مى ماندش نى لطف وفر | *** | نى بسوى آسمان راه سفر٢ |
(يقول: يعتمدون على الخيال في حربهم وصلحهم ويستمدّون من الخيال مجدهم وعارهم
فالروح في كلّ يوم من جراء ضغوط الخيال والتفكير في النفع والضرر وخوف الزوال
لا صفاء يبقى لها ولا لطف لا جلال، ولا طريق لها ترحل منه صوب السماء)
فالتصوّرات والتصديقات (وخلاصةً: الواقعيّات الإنسانيّة الذهنيّة) إمّا أن تكون مبتنية على الحقائق الخارجيّة والأمور النفس أمريّة والتي يُقال لها العلم والمعرفة والإدراك، وإمّا أن تكون مصنوعة من قبل الذهن والنفس من دون أن يكون لها أيّ ارتباط بالواقعيّات الخارجيّة؛ ومن باب المثال، كثيرًا ما نُشاهد الأطفال يُخبرون عن بعض الأشخاص أو الموجودات الخارجيّة من دون أن يكون لها أيّ تحقّق في الخارج، بل تكون مبتنية على أساس تخيّلات هؤلاء الأطفال.
ولا يخفى أنّ هذه المسألة لا اختصاص لها بالأطفال الصغار، بل قد نجد أنّ الكبار العقلاء تحصل لهم مثل هذه الظواهر؛ نظير مشاهدة صورة بعضهم في القمر، والتي شاعت كثيرًا بين الناس! حيث يُطلق على مثل هذه الظواهر اسم التخيّل والتوهّم.
فهذا النوع من التصوّرات والتصديقات لن يكون أبدًا منشأ لأيّ أثر من الآثار، ولن تترتّب عليه أيّة ثمرة، ولن يحلّ أيّة عقدة، ولن يُعالج أيّة مشكلة، بل سيُؤدّي إلى غوص المتوهّم في وحل الجهل أكثر فأكثر، مبعدًا إيّاه عن الحقيقة وانكشاف الواقع.
علّتا نشوء التوهّمات في مقابل التعقّل
ومن الضروري الالتفات إلى أنّ العلّة الكامنة من وراء نشوء التوهّمات في مقابل التعقّلات تتمثّل في أمرين:
۱. الجهل
الأوّل: جهل الإنسان وعدم اطّلاعه على الظواهر الخارجيّة والموضوعات والمسائل الحقيقيّة، والذي يُعدّ لوحده عاملاً مهمًّا جدًّا ورئيسيًّا في ضلالة الناس وانحراف الأذهان وطيّ طريق الغواية والضلال.
إنّ عدم الاطّلاع اللازم على القضايا الكلّية والمباني الأصيلة والتعاليم العقلانيّة والإرشادات الفطريّة التي تُعدّ رأسمال ثمينًا جُهّزت به خلقة الإنسان لأجل تشخيص الحقّ والباطل، وعدم التعرّف على المطالب الوحيانيّة الواردة من قبل حاملي لواء الوحي وحرّاس مدرسة الحقّ، يُؤدّي إلى السقوط في فخّ التوهّمات والتخيّلات؛ ممّا سينجرّ في الأخير إلى هلاك الروح والجسم، وضياع الفرص وتلاشي الاستعدادات والقوى البشريّة.
اى بسا ابليس آدم روى هست | *** | پس به هر دستى نبايد دست داد۱ |
(يقول: ما أكثر ما يظهر إبليس بصورة آدم؛ فلا ينبغي أن نُسلّم لأيّ إنسان)
إنّ اتّباع الإنسان للفاسدين والماكرين ذوي المظهر الخدّاع والجذّاب، والكلام الموزون والمعسول، والوجه البشوش والضاحك، والملامح المنشرحة والباسمة، والتواضع الناشئ من المكر والحيلة، والسخاء والعفو النابعين من النوايا النفسانيّة الرديئة، والزهد الخدّاع والمرائي، لن يستتبع إلاّ الخسران والشقاء والهلاك وضياع العمر وتفويت الفرص؛ وكلّ ذلك بسبب عدم اطّلاع الإنسان على الأصول والمباني واتّباعه وانقياده لشخص آخر. وأمّا إذا تعرّف المرء على القواعد والأصول وعلم بملاك الاتّباع والاستماع والانقياد للأفراد، فإنّه حينئذ لن يُطيع أيّ أحد طاعةً عمياء واعتمادًا على عاطفته وعقله الناقص وذهنه المفتقر للوعي والإدراك.
ولهذا، نرى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ينصح في هذه الوصيّة بالحكمة؛ أي الكلام المتقن والاعتقاد الراسخ الذي يستطيع الإنسان من خلاله تشخيص موارد الشبهة، واتّقاء السقوط في فخّ الأهواء والنزوات والشيطان.
٢. تعلّق النفس بالمظاهر
العلّة الثانية لنشوء التوهّمات وسقوط الإنسان في فخّها هي ميل النفس الإنسانيّة وتعلّقها بالظواهر الجزئيّة والأمور الحسّية ومظاهر عالم الطبع والمادّة؛ وهي مسألة يُعاني منها جميع الناس؛ العالم منهم والجاهل، الصغير والكبير، الرجل والمرأة؛ اللهمّ إلاّ تلك الطائفة من الناس الذين عبروا عن الجزئيّة والتحقوا بالكلّية عن طريق تهذيب نفوسهم وتزكيتها وتربيتها وإيصال قواهم الروحيّة والعقلانيّة إلى مرحلة الفعليّة.
فبسبب تعلّق النفس بعالم المادّة ـ والذي يُمثّل عين ظهور الحوادث الجزئيّة والقوالب المحدودة ـ فإنّ ميلها إلى الجزئيّات والأمور الظاهريّة سيفوق توجّهها إلى الكلّيات والقضايا الحقيقيّة والملاكات الكلّية، ممّا يُفضي بها في اختياراتها إلى التفكير في الأمور الظاهريّة أكثر من المسائل المنطقيّة والمعنويّة.
نماذج من المظاهر التي تتعلّق بها النفس
العلاقات الأسريّة والدعاية والعطايا و...
ففي الانتخابات المرتبطة بالأمور الاجتماعيّة، نشاهد بالعيان كيف أنّ الملاك في انتخاب الشخص قد يكون هو العلاقات الأسريّة والانتماء لمدينة واحدة وحيّ واحد، أو الكلمات المعسولة والوعود الكاذبة والفاتنة، أو العطايا والمنح المحسوبة بمكر وحيلة، أو ملأ الشوارع بالزخارف البرّاقة التي تسحر العيون واللوحات الدعائيّة الجذّابة، أو التجمّعات الحزبيّة المدروسة أو... ، بحيث إنّ الإنسان لا يُفكّر أبدًا في لياقة المنتخَب لتدبير الأمور وإصلاح النظام الاجتماعي، ولا في أهليّته لإدارة المجتمع، ولا يهتمّ أبدًا بعواقب الأمور وانهيار نظام التحضّر.
إنّ جميع هذه المصائب والمفاسد والمشاكل ناجمة عن توجّه الإنسان للأمور الجزئيّة والحسّية والمظاهر المادّية الخدّاعة والمغوية.
وقد سمعنا أنّه في أحد البلدان، كان المعيار في كسب الآراء من أجل انتخاب رئيس الجمهوريّة هو جمال الوجه والشهرة في مجال التمثيل؛ مع أنّ هذا الأمر لا يختصّ بهذا البلد فقط.
فتعال وانظر كيف استُبدلت الملاكات والقيم العقلانيّة والمعنويّة والمنطقيّة بالأحاسيس الفرديّة والميول الحيوانيّة والتعلّقات الفارغة البلهاء في موضوع يرتبط بأكثر المواقع الاجتماعيّة حسّاسية، ويتعلّق بتحمّل أصعب المسؤوليّات والأعباء الشعبيّة، ألا وهو موضوع إدارة المجتمع وتدبيره! ممّا يُؤدّي إلى اختفاء السعادة والفلاح والقضاء على الأمن الفردي والاجتماعي في ذلك البلد ليحلّ محلّها الهلاك والبوار؛ وهذا كلّه نتيجة لاتّباع التوهّمات والتخيّلات بدلاً عن التعقّل والملاكات الواقعيّة.
وكما ذكرنا سابقًا، فإنّ هذه المسألة لا تُلحظ فقط بين عوامّ الناس والأشخاص البسطاء، بل نُشاهدها أيضًا بين الفضلاء وأهل العلم؛ وقد اطّلعت طيلة أيّام حياتي على كثير من الشواهد على هذا الأمر.
كثرة الجموع
يُشير القرآن الكريم إلى الكثرة والوفرة الظاهريّة كأحد موارد التوهّم والتخيّل والمصاديق الخدّاعة والمضللّة للنفس، حيث يقول:
{قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبيثُ والطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}۱
أي: يا أيّها الرسول! قل للناس: لا تُساوا أبدًا الأشرار والفاسدين بالطاهرين والصالحين، ولو كانوا يتجاوزونهم من حيث العدد؛ ولهذا، عليكم أيّها المؤمنون ذوو التفكير العميق أن تُطيعوا الله تعالى وتتّبعوا أوامره ولا تنجذبوا نحو المظاهر الخدّاعة والجموع الوفيرة؛ لكي تصلوا إلى الفلاح والسعادة الأبديّة.
المكانة الاجتماعيّة
ومن مصاديق التوهّم أيضًا، المكانة الاجتماعيّة لبعض الأشخاص، والتي تؤدّي إلى غواية البقيّة وضلالهم؛ سواءً حصلت هذه المكانة والشهرة بواسطة وفرة الأموال والبذل والعطاء، أو حصلت بواسطة التصدّي للمسؤوليّة والمناصب الحكوميّة، أو بسبب النواحي العلميّة والمسؤوليّات الشرعيّة؛ ولهذا، نُشاهد كيف أنّ شخصًا من الأشخاص قد لا يكون يتمتّع بأيّة محبوبيّة واحترام وتكريم، إلى درجة أنّ الناس لا يردّون عليه السلام، لكن بمجرّد أن ينال منصبًا حكوميًّا، يُصبح محطًّا لأنظار الناس وموردًا لاهتمامهم؛ فُيقدّمونه في المجالس والمحافل على أهل الفضل والدراية، ويُبرزون اهتمامًا بالغًا بكلماته وأحواله.. إنّ جميع هذه الأمور ناجمة عن غلبة قوّة الخيال والوهم على القوى الفطريّة والعقلانيّة للإنسان.
الانتساب إلى الشخصيّات العظيمة
ومن جملة المصاديق الأخرى لإيجاد الشبهة والتوهّم هو انتساب المرء لشخصيّة عظيمة ومحترمة وسط مجتمع ما أو جماعة وفرقة خاصّة؛ كأن يكون ابنًا لهذه الشخصيّة أو زوجا لها أو يكون له ارتباط ببعض الأشخاص الذين لهم علاقة أكثر بهذه الشخصيّة أو بالمنتسبين إليها وهكذا... .
ففي هذه الحالة، وبسبب وجود وظهور بعض القيم الأخلاقيّة للإنسان، ستعمل القوّة الواهمة والمتخيّلة على تسرية المكانة التي تحتلّها هذه الشخصيّة العظيمة إلى بطانته والأشخاص المحيطين به، وستُعمل ـ بنحو من الأنحاء ـ نفسَ ملاك الخضوع والطاعة الذي كانت تُعمله في حقّ هذه الشخصيّة بالنسبة لبقيّة الشخصيّات، مع الغفلة عن أنّ مجرّد الانتساب لا يُعدّ دليلاً على ثبوت نفس معايير وملاكات الأفضليّة والترجيح؛ فما أكثر ما كان سلوك المحيطين بعظيم ما والمنتسبين إليه يقع تمامًا في الطرف المقابل لمنهجه ومدرسته، وما أكثر ما كان هؤلاء على تضادّ تامّ مع سلوكه!
مشاهد تاريخيّة كان الانتساب إلى العظماء فيها سببًا للانحراف
لقد وقعت الفتنة بعد وفاة موسى الكليم عليه السلام على يد زوجته صفورا؛ مثلما نشبت معركة الجمل والحرب ضدّ أمير المؤمنين عليه السلام الخليفة بالحقّ والمنصَّب من قبل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على يد عائشة زوجة الرسول وبواسطة المقرّبين منه كطلحة والزبير.
ولهذا، حينما أدّت مصاديق التوهّم وأسبابه ـ نظير الانتساب لرسول الله (عائشة)، والاشتهار في المجتمع بسبب القدم في الإسلام (طلحة والزبير)، والانتماء للدين الإسلامي ودعوى اتّباع سنّة الرسول والاعتراف بالقرآن كمصدر وحيد للوحي والهداية (جيش البصرة)، وطلب الثأر لخليفة المسلمين (عثمان) ـ إلى إيجاد الشكّ والشبهة والتوهّم لدى أحد المحيطين بأمير المؤمنين، فإنّه عليه السلام ردّ عليه قائلاً: «إنّك رجل ملبوس عليك؛ لا يُعرف الحقّ بأقدار الرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله».۱ أي: إنّك رجل غلَبَت على عقلك وفكرك القوّتان المتوهّمة والمتخيّلة اللتان عملتا على إخفاء الحقيقة عنك وأخرجتاك عن ميزان الإنصاف والاعتدال، وأغوتك جاذبيّة الظواهر عن الميل للحقّ؛ فاعلم بأنّ الحقّ والواقع لا يُقاسان أبدًا بموقعيّات الناس وشخصيّاتهم الظاهريّة الخدّاعة! ومن هنا، فعليك أوّلاً أن تتعرّف على الحقّ بشكل جيّد وواضح؛ وحينئذ، ستتعرّف بنفسك على متّبعيه، كما عليك أيضًا أن تشخّص الباطل بكلّ وضوح، وتطّلع على جميع جوانبه وحيثيّاته، لتتعرّف آنذاك على أتباعه من المنحرفين؛ فتميّزهم عن أهل الحقّ والسداد.
ففي يوم من الأيّام، سألت أحد الأعزّاء والأحبّاء والأقرباء ـ الذين قلّ نظيرهم في فنّ تشخيص المجوهرات والأحجار الكريمة، بحيث يُعدّ من أكبر الخبراء في العالم في هذا المجال ـ : ما هي العلّة الكامنة من وراء هذا النجاح والشهرة والخبرة التي اكتسبتها، بحيث بلغتَ هذه الدرجة من التبحّر والتجربة في التمييز بين الأحجار الكريمة الحقيقيّة والمزيّفة، وصاروا يذهبون بك إلى مختلف البلدان لأجل الاستفادة من خبرتك؟
فأجابني قائلاً: العلّة الوحيدة من وراء ذلك أنّني في البداية حصرت جميع توجّهي وبحثي ودراستي في تشخيص الأحجار الأصليّة والحقيقيّة والثمينة، وقد صرفت وقتًا كثيرًا في الدراسة وقراءة الكتب المرتبطة بهذا المجال، بحيث صار لديّ إشراف كامل ومعرفة تامّة بكافّة الجوانب المرتبطة بهذه الأحجار ونوعيّتها وخصائصها؛ ومنذ ذلك الوقت، سهُل عليّ كثيرًا تشخيص الأحجار المصنوعة والمزيّفة، في حين أنّ بقيّة الأشخاص كانوا يهتمّون منذ البداية بالأحجار المزيّفة إلى جانب اهتمامهم بالأحجار الأصليّة؛ ولهذا، فإنّهم لم يتمكّنوا من الحصول على الدقّة التي حصلت عليها ويتعرّفوا على خصائص الأحجار كما تعرّفت عليها.
إنّ ذلك الرجل المتردّد والمشوّش لم يستطع بدوره أن يُدرك في معركة الجمل كون المرأة زوجةً لرسول الله لا يوصلها إلى درجة العصمة والحفظ من الخطأ والمعصية، وأنّ القرب من رسول الله لا يُفيد شيئًا، كما أنّ إسلام جيش البصرة لا يُعدّ دليلاً على التنزّه عن الخطإ والزلل والانحراف في المسير؛ وعلى هذا القياس...
لقد كان عليه أن يتوصّل بتفكيره إلى أنّ الخلافة لا تُساوي فلسًا واحدًا من دون استنادها إلى دعامة إلهيّة وحجّية شرعيّة وعقلانيّة، وأنّ الخليفة لا يكون كلامه مسموعًا وطاعته واجبةً إلاّ حينما يكون منصّبًا من قبل الله تعالى ورسوله، وليس عن طريق انتخاب الناس ونصبهم؛ الأمر الذي يُعدّ منحصرًا بشخص عليّ بن أبي طالب عليه السلام وحسب؛ ومن هنا، نجد بأنّ مدرسة التشيّع تتكّئ على الفهم واليقين والإتقان، لا على الشعارات وإثارة الضجيج والشغب والقوّة والمغالطة.
الملذات الماديّة وخوارق العادات
أجل، فإنّ مدرسة العرفان هي مدرسة التعقّل والفهم وسيطرة العقل على الأحاسيس والتوهّمات؛ أي خروج الإنسان من التخيّلات والأوهام والمسائل الجزئيّة وارتقاء فهمه وإدراكه، إلى أن ترتفع عنه الحجب الواحد تلو الآخر، ويلتحق بعالم الكلّية. فمادام الإنسان لم يصل إلى هذا الأمر، فإنّه لن يتمكّن من حلّ أيّة مشكلة، لكن يبقى أنّ النقطة الدقيقة التي تستدعي الدقّة ها هنا؛ هي أنّ النفس البشـريّة بشكلٍ عامٍ وبسبب تعلّقها بعالم الطبع وابتعادها عن عوالم المعنى لا تترك أيّ جهدٍ أو سعي يُمكّنها من تحصيل اللذّات والمشتهيات النفسانيّة؛ سواءً في ذلك تمكّنت من تحصليها عبر الأمور المادّية والدنيويّة ـ والتي هي أعمّ من أن تكون من جنس المأكل أو المشـرب أو الملبس أو المسكن أو المركب أو الرئاسة أو سائر هذه الأشياء ـ أم أمكنها تحصيل مشتهياتها بواسطة التلذّذ بالأمور المعنوية المتّصلة بدائرة الحواس الصوريّة والكائنة في بعض الأمور الغير العاديّة.
فمن باب المثال: إذا رَأى العوام فردًا يُمسك بأفعى بواسطة خُدعةٍ ما فإنّك ترى الجميع يجتمعون حوله؛ ولكن إذا أراد هذا الشخص أن يُبيّن حقيقةً من حقائق عالم الوجود والتوحيد لمدّة عشر دقائق فقط، فإنّنا لن نرى إلاّ عددًا ضئيلاً من الأفراد مهتمّين بذلك وأمّا الباقون فسيتركونه ويتفرّقون من حوله.
هذا المثال من أصغر وأدنى نماذج الأمور الخارقة للعادة، فكيف إذا وصل المقام إلى المسائل والحوادث الأرقى والأخّاذة التي تخطف القلوب، من الإخبار بالأمور الخافية والتصـرّف في الأمور المادّية وطيّ الأرض. إنّ كلّ هذه الأمور ترجع إلى الحواس البرزخيّة والمثاليّة للإنسان، والحقيقة أنّ البون بينها وبين العرفان والتوحيد وكشف الحُجب النفسانيّة ما بين الأرض والسماء!
ولذا نرى أنّ هؤلاء الزُمرة من الأفراد يتمتّعون بوجاهةٍ وقيمةٍ خاصّةٍ بين الناس وترى أوساطهم مُحتضنةً لعوام الناس على اختلافهم أكثر ممّا هو لدى أهل التوحيد والمعرفة؛ سواءً عند العوام أم عند المتعلّمين، كما أنّ حضور خطاباتهم تحوز على جاذبيّةٍ أكبر عند العوامّ.
تحريف مصطلح العرفان في الثقافة المعاصرة
وللأسف فإنّ اصطلاح العرفان والمعرفة يطلق في ثقافة العوام في هذا الزمان على هذه الزُمرة من الأفراد، فيُقال إنّ المعرفة والوصول إلى كُنه عالم الوجود مُنحصرٌ بهؤلاء الأشخاص فقط؛ وإنّ العارف إذا ما أراد أنْ يترك له اسمًا ورسمًا وأنْ يجعل فَهم الأشخاص يميل نحو حقيقة الوجود؛ فليس له إلاّ إبراز بعضٍ من هذه الأمور.
إنّ والدنا المرحوم العارف الكامل والسالك الواصل، العلاّمة الطهرانيّ ـ رضوان الله عليه ـ كان من جملة العُرفاء المعدودين الذين لم يُرَ منه إظهارٌ وإبرازٌ لمثل خوارق العادات هذه إلاّ بشكلٍ نادرٍ؛ وكان جُلُّ سعيه وهِمّته طِوال حياته أن يجعل توجّه تلامذته وعموم الأفراد مُنصبًّا على المعرفة الحقّة وبلوغ أسرار عالم التوحيد والتجرّد والولاية. ولكن مع هذا كلّه، نرى أنّ الذين يريدون التعريف عنه، أو تمجيد شخصيّته الاستثنائيّة أو يريدون إظهار عظمته، لا يزالون مستمرّين بالثرثرة عن أمورٍ غير عاديّة صدرت في زمن حياته، ويقولون لولا صدور هذه الحوادث منه، لبقيت منزلتُه ومقامُه مخفيًّا حتّى الآن!
إنّ هذه الثقافة الخاطئة كانت وما زالت شائعةً في المجتمعات العِلميّة منها والعامّية منذ القِدم وإلى يومنا هذا. بلى، نحن نجد في بعض الموارد وبناءً للمصالح والمقتضيات أنّ نفس العارف الإلهي يرَى أنّ الصلاح يقتضـي إبراز مقدارٍ ضئيلٍ من خوارق العادات، تمامًا كما هو بالنسبة لمعجزات الأنبياء الإلهيّين، حيث كانت مبنيّةً على هذا المبنى، إلاّ أنّه لم يكن مقصد رسالة الرُسل والحُجج الإلهيين وغاياتهم بلوغ هذه النقطة وهذا الهدف.
ومن هنا فإنّ معيار التكامل ـ عند هؤلاء ـ وفعليّة المراتب الوجوديّة للعرفاء الإلهيّين، سيكون مِن هذا المنطلق مرتبطًا بمقدار ظهور خوارق العادات وصدورها من الفرد.
لقد كان المرحوم العلاّمة الطهرانيّ ـ قدّس سرّه ـ يقول مرارًا:
«إنّ حظّ الفرد ونصيبه في المعرفة وإدراك عوالم التوحيد سيكون أقلّ؛ كلّما ظهرت منه هذه الأمور بشكلٍ أكبرٍ. وكلّما كانت السِعة الوجوديّة للإنسان أكبر، وكان مقدار تحقّق مراتب الأسماء الإلهيّة في وجوده أكثر، فإنّ ظهور وبروز هذه الأمور منه سيكون أقلّ؛ ذلك لأنّ غاية أهل المعرفة والتوحيد هي عرفان حضـرة الحق، وهذا الأمر المهمّ لن يحصل بهذه الأمور».
لذا فإنّ الأعاظم ولأجل سَوْق الناس نحو هذا الهدف العالي قلّما يُظهرون لهم هذه الأمور حتّى لا تَأنس النفس ويَألف الذهن هذه المسائل، فتصبح أسيرةً لفخّ الحواسّ الباطنيّة والصور البرزخيّة.
أمّا الذين بقوا عاجزين عن معرفة الحقّ وإدراك توحيد الخالق تعالى وكانت أرجلهم مشلولةً وأيديهم قاصرةً عن الوصول إلى تلك الذروة العليا، فإنّهم لن يجدوا مناصًا من إبراز مثل هذه الأمور لديهم؛ لكي يجلبوا انتباه العوام لناحيتهم. وهذا هو الفرق بين منهج العرفان وسائر المناهج الأخرى حتّى مع كونهم جميعًا متّجهين نحو عوالم ما وراء المادّة والطبع.۱
انحراف الناس بعد وفاة النبيّ الأكرم بسبب ترك العقلانية في العلاقة معه والنظر إلى ظاهره وخوارقه
فكم يا تُرى تطوّرت عقول وأفهام الناس الذين عاشوا مع النبيّ الأكرم عشر سنوات في المدينة؟ ولماذا قاموا بإخراج النبيّ من قلوبهم بمجرّد وفاته وأحلّوا محلّه أبا بكر؟ أفهل فكّرنا إلى الآن في حقيقة هذه المسألة؟
إنّ العلّة من وراء ذلك تكمن في أنّهم لم يكونوا في ذلك الزمان الذي صحبوا فيه الرسول يعيشون معه اعتمادًا على المبادئ والأسس العقليّة؛ أي أنّهم لم يستخدموا عقولهم عند ارتباطهم بالنبيّ صلى الله عليه وآله، ليُدركوا على أيّ أساس ينبغي عليهم طاعته.. فهل يجب عليهم أن يطيعوه بسبب شقّه للقمر؟ فلعلّنا نجد شخصًا آخر يستطيع بدوره القيام بذلك! وهل يتّبعونه بسبب أنّ الحصى شهدت له بالنبوّة؟ فقد يكون هناك شخص يقدر على فعل ذلك! أم بسبب أنّه يُخبر عن الغيب؟ فقد يأتينا غدًا مرتاض هندي ويُخبرنا بدوره عن الغيب! فهل من شأن مثل هذه الأمور أن تكون ملاكًا لطاعة الناس واتّباعهم؟
إنّ هؤلاء لم يعمدوا إلى وضع الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في مكانته الحقيقيّة والمختصّة به اعتمادًا على الفكر العقلاني، ليطيعوه بعد ذلك بناءً على هذا الأساس، بل لأنّهم شاهدوه يضرب بعصاه الحجر فيخرج منه الماء، فاستخلصوا من ذلك أنّ الحقّ هنا، وقد كانوا يُطيعونه لأنّهم رأوه يمتطي ناقته، ويلقي لها العنان، فتسلك به هذه الناقة طريقًا خاصًّا طبقًا لمهمّتها الإلهيّة، ثمّ تبرك عند باب منزل أبيّ أيّوب مشيرةً للنبيّ بأن ينزل وأنّ هذا هو منزله! وقد كان يُطيعونه لأنّهم شاهدوه يُشير إلى الشجرة، فتشهد له بالتوحيد والرسالة!
فإذا ما تأمّلتم قليلاً في هذه المسائل، ستكتشفون أنّ جميع نواحي قلوبهم مملوّة بالظواهر والمظاهر الجذّابة، لكن ما إن ينهزم رسول الله في معركة أحد حتّى تتبعثر جميع أفكارهم.. أفهل يُمكن للرسول أن ينهزم أيضًا؟! فأين هي إذن ملائكته؟! أفلم يقل الله تعالى في القرآن: ﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلين﴾۱؛ لقد أرسلنا إليكم في غزوة بدر ثلاثة ألف ملك من أجل نصركم.. فلماذا لم يُرسل الله تعالى هذه الملائكة في غزوة أحد؟! أين هي إذن وعود النبيّ؟!
وكذلك الأمر في غزوة الخندق، حينما أتى عمرو بن ودّ وطلب مبارزًا، فلم يتجرّأ أي أحد على مقارعته؛ لأنّهم أيقنوا بحتميّة الموت هنا، فشكّ الجميع في النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فالمسألة المهمّة هنا هي: أنّ النبيّ هل أتى ليضمن للناس عُمر الخضر عليه السلام؟! فلو كان الأمر كذلك، لما قام الرسول بكلّ هذه الحروب في سبيل الله، ولما طُرحت مسألة الشهادة والجهاد في سبيل الله تعالى من الأساس.
لقد جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لكي يجعل حياتنا المادّية والدنيويّة معبرًا للحياة الأخرويّة؛ وهو معبر تقع فيه أحيانًا الحرب والشهادة، وأحيانًا أخرى تحصل الأمور بشكل آخر؛ ومن هنا، يتضّح أنّ أولئك كانوا ينظرون إلى الرسول في زمان حياته كوسيلة للمحافظة على أنفسهم في هذه الدنيا بأفضل وجه، لا كوسيلة للعبور والتكامل.
وأمّا الذين عمدوا في زمان حياة الرسول إلى التدقيق في أعماله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فوصلوا إلى حقيقته وباطنه عليه السلام اعتمادًا على التفكّر العقلاني، ثمّ أطاعوه بعد ذلك، فقد كانوا هم الذين لم يهجر رسول الله تعالى قلوبهم بعد وفاته.
فلم ينظر هؤلاء إلى الرسول في زمان حياته من نافذة الإعجاز والأمور الخارقة والمظاهر العجيبة والجذّابة، بل جاؤوا ورأوا بأنّه حقّ، وشعروا بأنّه شخص متجرّد عن النفس، وأنّه يحسّ بآلام الجميع ويصف الدواء للكلّ، فلا يُفرّق بين هذا وذاك، بل يُوزّع إحاطته السعيّة ورحمته الواسعة على الجميع بنفس المقدار؛ ولذلك أطاعوه واتّبعوه.
لقد أدركوا أنّه لو كان مقرّرًا أن تتجلّى أسماء الله تعالى وصفاته في إنسان في هذه الدنيا بكلّ سعتها وإطلاقها، فإنّ هذا الإنسان هو رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وبما أنّهم كانوا ينظرون إلى الرسول من منظار الحقّ لا الظاهر، فإنّ ملامح الرسول لم تكن هي الباعث لهم على الطاعة، بل كانوا يعتبرون أنّ طاعة الرسول هي طاعة الله تعالى.
فما أكثر الذين صاحبوا العظماء ورافقوا الأولياء لكنّهم لم يتحرّكوا ولو لخطوة واحدة بسبب أنّ اتّباعهم لهم لم يكن مبتنيًا على أساس السلوك العقلاني.
مشاهد من العقلانية
المشهد الأول: العقلانيّة عند أصحاب الإمام الحسين عليه السلام في واقعة عاشوراء
لماذا نقول: إنّ واقعة عاشوراء هي أسوة للجميع إلى يوم القيامة؟ لماذا لا يُمكن لأيّة حادثة أخرى أن تحتلّ مكانها؟ لأنّ الجميع ـ من الطفل غير البالغ إلى الشيخ الكبير كمسلم بن عوسجة وحبيب بن مظاهر ـ تحرّكوا فيها اعتمادًا على الفكر والتعقّل، لا أنّهم كانوا واقعين تحت تأثير شخصيّة الإمام الحسين عليه السلام؛ فلقد منح الإمام الحسين عليه السلام لأصحابه وأقربائه الفكر والعقل والاختيار في يوم عاشوراء؛ فلم ينزل حضرة القاسم عليه السلام إلى ساحة المعركة اعتمادًا على العواطف والأحاسيس، بل كان يشعر من أعماق نفسه بحقيقة الموت ولذّتها؛ ولهذا أجاب سيّد الشهداء عليه السلام حينما سأله: كيف الموت عندك؟ قائلاً: «أحلى من العسل».
ففي يوم عاشوراء، أدرك أصحاب سيّد الشهداء حقيقة ولايته عليه السلام بكافّة أرجاء وجودهم.. أفهل من الممكن أن يُدرك أحدهم هذه الحقيقة فيتخلّى عنها؟! لقد كانوا ثابتين على نهجهم وراسخين إلى درجة أنّه لو جاءت الجبال وأرادت أن تُخرجهم عن مسارهم، لما تزعزعوا أبدًا.
إنّ مدرسة سيّد الشهداء هي مدرسة التعقّل لا التقليد الأعمى، ومدرسة التدبّر، ومدرسة الحريّة وتطوّر الفكر وانبساطه، ومدرسة التحقيق واختيار الأفضل، لا مدرسة العصا والسوط والضرب والشتم.. تلك المدرسة هي مدرسة أبي بكر وعمر ويزيد ومعاوية.
إن مدرسة هذا الإمام هي الرجوع إلى العقل والعودة إلى الفطرة والوجدان، والخروج من وادي الجهل والضلالة والجمود والتصلّب والتخلّف العقلي، وهي المدرسة التي تتضمّن جميع الجهات الوجوديّة للإنسان ـ الدنيويّة والأخرويّة ـ وحيثيّاته الظاهريّة والباطنيّة والروحيّة والنفسيّة، فالشيء الوحيد الذي يُطرح في هذه المدرسة ويتمّ الدفاع عنه هو التوحيد فقط، وفي هذه المدرسة، الله موجود وغيره باطل، لا سبيل في هذه المدرسة للأحاسيس ولا قيمة فيها للنفس.
من هنا يُخطئ من يقول: إنّ المسألة التي كانت حاكمة في واقعة عاشوراء هي مسألة العشق؛ لأنّ العشق بدون تعقّل يعني الجنون، والعشق الذي يكون منفصلاً عن مباني الشرع فهو يعني اللاأبالية وإرضاء النفس، فالعشق البعيد عن الموازين والمباني يعني الهوس والتمرّد. إنّ العشق الذي له قيمة في مدرسة الإمام الحسين عليه السلام هو العشق الذي يقوم على أساس الفهم والإدراك والتشخيص والتعقّل والدراية، لا القائم على أساس الهوى والهوس وغلبة الأحاسيس؛ فجميع أصحاب سيد الشهداء في واقعة كربلاء كانوا عاشقين للإمام، لكنّ عشقهم هذا ليس عشقًا مجازيًّا وصوريًّا، وليس عشقًا نابعًا من الإحساس والعاطفة، فذاك عشق لا فائدة منه وعملة لا قيمة لها.
عدم انفصال العشق الواقعيّ عن مباني العقل
إن عشق الأصحاب كان عشقًا نابعًا من الفهم والنظر الدقيق، وكان عشقًا على طبق الموازين والمباني العقلائيّة والشرعيّة، كان عشقًا للحقيقة النورانيّة والعظمة المطلقة والنفس القدسيّة، كان عشقًا لمبدأ الوجود والبهاء الأتمّ والمجلى الأكمل والأوسع لحضرة الباري تعالى؛ فأين هذا العشق من العشق الذي يتمّ الحديث عنه في المجالس والمحافل؟ وأين هذا من العشق الذي يتغيّر ويتبدّل إلى حالةٍ من اليأس والنفور من المعشوق بأدنى تغيير في التوقّعات أو تبدّل فيما يُنتظر منه؟! وأين هذا من العشق الذي يقول فيه الحبيب لحبيبه: «والله يا ابن رسول الله لوددت أنّي قتلتُ ثمّ نُشرت ألف مرّةٍ وإنّ الله تعالى قد دفع القتلَ عنكَ! »۱ إنّ عشق الأصحاب رضوان الله عليهم مبنيّ على أساس الفهم واليقين وإدراك الحقيقة، وذاك العشق مبنيّ على أساس الجاذبيّات الفارغة والاعتبارات والدعايات والإشاعات وسائر الأمور التي لا تعتمد على أساس؛ فانظر كم هو التفاوت بين هذين العشقين!
ولذا نرى أنّ مجريات حادثة كربلاء قد بُيّنت على لسان أولياء الحقّ بشكل متمايز عن بيانهم لسائر المجريات والأحداث الأخرى، يقول أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الحادثة:
«مناخ ركاب ومصارع عشّاق شهداء، لا يسبقهم من كان قبلهم ولا يلحقهم من بعدهم».۱
لا يُمكن للعقل أن يمنع الإنسان من التحرّك في وادي العشق، كما لا يمكن للعشق الواقعي أن ينفصل عن المباني والموازين العقليّة، إنّ العقل يدعو الإنسان إلى التقرّب من الحبيب والفناء فيه، ويأمره أن يتوسّل بأيّة وسيلة يُمكن أن تساعده للوصول إلى هذا الهدف، ويرى أنّ كلّ ما يقرّب من الحبيب أمر ممدوح وجائز، بل لازمٌ، كما أنّه يُحذّره من كلّ ما يُمكن أن يكون عائقًا أمامه وقاطعًا للطريق وحاجزًا عن الدخول في حريم حضرة الحقّ تعالى وينهاه عنه.
إنّ العقل موهبة إلهيّة منحها الله للإنسان لتصحيح المسير وتطبيق الفكر والعمل على أساس الواقع والحقيقة، فيتحرّك نتيجةً لذلك نحو المقصد الأقصى والغاية القصوى ويصل إلى فعليّة جميع الاستعدادات البشريّة الكامنة فيه والكمال المطلوب منه. وهذا العقل بعينه يدعو الإنسان إلى سيّد الشهداء، ويدعوه للفناء به والتسليم له وتفويض جميع شراشر وجوده وآثار حياته إليه؛ فهذا العقل لا يمكن أن يكون حاجزًا في طريق الوصول إلى هذا الإمام أومانعًا منه، حتّى يضطرّ الإنسان أن يستفيد من قوّة العشق والمحبّة للوصول إلى هذا الهدف. وإذا كان هناك عقلٌ يريد أن يكون مانعًا من الوصول إلى هذا الهدف ويحرم الإنسان من هذه النعمة العظمى، ويُعيقه عن تحقيق السعادة في الدارين من خلال طرح بعض القضايا وترتيب القياسات، فذلك ليس بعقل بتاتًا، بل عبارة عن القوّة الواهمة والمتخيّلة قد أخذت دور العقل وحاولت إظهار هذه القياسات الواهية على أنّها أدلّة وجيهة؛ فعلى الإنسان أن يرجع إلى الحقائق المتقنة والمباني الرصينة والأصول الموضوعة لكي يصل إلى الحقيقة ويُدرك كُنه القضايا العقلانيّة، فيستمدّ منها العون ويُطبّق طريقه وممشاه على الحقّ والواقع بعيدًا عن الوسوسة والتوجيهات النفسيّة.٢
عقلانيّة أبي الفضل العبّاس عليه السلام في ترك شرب الماء
ولهذا، فليس صحيحًا ما يقوله البعض من أنّ: حضرة أبي الفضل العبّاس لو كان يُريد في يوم عاشوراء أن يعمل وفقًا لما يُمليه عليه عقلُه، لكان ينبغي عليه أن يشرب من الماء فور وروده لشريعة الفرات؛ إذ يحكم كلّ عقل بأنّ الإنسان الذي قضى ساعات طوال في العطش مُلزمٌ بشرب الماء ورفع عطشه حتّى يكتسب قُدرةً أكبر تُمكّنه في الأخير من الدفاع عن إمامه بشكل أفضل، لكنّنا نرى أنّ أبا الفضل عليه السلام عمل وفقًا للعشق وامتنع عن شُرب الماء.
وللجواب عن ذلك، ينبغي القول: إنّ العقل الذي يحكم وفقًا لهذا الأمر، هو عقل لم يبلغ كماله بعدُ، بل هو عقل عادي؛ وهو العقل الذي يحكم على الناس والمجتمعات في العالم المعاصر؛ سواءً تلبّس بشكل وصبغة دينيّين أم لا.
وأمّا ذلك العقل الذي تبلور في نفس حضرة أبي الفضل العبّاس عليه السلام، فهو عقل منوّر ومتكامل؛ وهو الذي عيّن له طريقه وحدّد له مساره. فهذا العقل هو الذي أمره بأن يصبر إلى أن يذهب أمام عينيه كلّ واحد من إخوته إلى ساحة المعركة واحدًا واحدًا، ثمّ يفدي إمامَه بعد ذلك بنفسه، وهذا العقل هو الذي ظهر عنده على شريعة الفرات وصدّه عن شرب الماء في أكثر اللحظات حساسيّة وأعظمها أهمّيةً.
فهذا العقل يأتي ويرسم لحضرة أبي الفضل تلك المحبّة والعلاقة والارتباط القائم بينه وبين سيّد الشهداء عليه السلام؛ بمعنى أنّ الوحدة والاتّحاد الوجودي والربط القائم بينه وبين سيّد الشهداء عليه السلام لا يسمح له بأن يجعل نفسَه في درجة أعلى وأرقى من الإمام الحسين عليه السلام على مستوى الالتذاذات الظاهريّة والتمتّعات الدنيويّة؛ ولهذا، ما إن يُدني الماء من فمه، حتّى تتّحد تلك الجنبة العقلانيّة الكامنة في نفسه المطهّرة مع جنبة المعرفة والاتّصال بالإمام عليه السلام؛ فتصدّه عن شُرب الماء.۱
المشهد الثاني: عقلانيّة العرفاء في التعامل مع الإمام عليه السلام
يوجّه العارف في كلامه الناس نحو هذه الحقيقة، ويهديهم من الظاهر نحو الباطن ومن الإحساسات نحو الأمور الواقعيّة، ومن الانجذاب إلى المادّة نحو الجلوات الربوبيّة والأنوار الإلهيّة؛ فلا سبيل للنظرة الظاهريّة للإمام عليه السلام في مدرسة العارف ومنهج أهل التوحيد. فالعارف يدعو إلى باطن الإمام وولايته، وإلى المعرفة الحقيقية للإمام عليه السلام، لا أنه يروّج معرفة هويّة الإمام فحسب. إلى ماذا تدعو جميع هذه الروايات الحاثّة على زيارة الأئمّة عليهم السلام مع معرفتهم معرفة حقيقيّة، وإلى أيّ مقام ترشدنا وعلى أي موقعيّة للأئمّة تدلّنا؟ أليست تلك الروايات التي تعتبر أن ميزان الأجر والثواب على زيارة الأئمّة عليهم السلام هو ميزان القرب منهم ومعرفتهم، دالّة على أن قيمة زيارة الإمام على أساس المعرفة؟ أليس هناك تفاوت بين زيارة الإمام الرضا عليه السلام التي تعادل ثواب حجّ وعمرة مقبولة، وبين زيارة نفس الإمام التي تعادل ثواب ألف حجّة وألف عمرة مقبولة؟ إذا كان الأمر متفاوتًا بينهما، فأين يكمن ذلك؟
وعلى أيّ أساس كان هذا الثواب، واستحقّت هذه الدرجات المترتّبة على زيارة سيّد الشهداء عليه السلام، والتي تحيّر الإنسان؟ ولماذا كلّ هذا الاختلاف الذي نراه في المراتب؟ أليس هناك اختلاف بين زيارة شخص عادي ليس لديه أيّ معرفة أو إدراك بالإمام عليه السلام، وبين ذلك الشخص الذي تكون نفسه مندكّة في نفس الإمام، وصارت روحه وسرّه مع روح الإمام وسرّه، بل صارت متّحدة معه؟ أليس هناك فرق من جهة التقرّب بين الشخص الذي يكون خارج الحرم وبين الشخص الذي هو من أهل الحرم؟ أليست زيارة الإمام بقيّة الله أرواحنا فداه التي يقوم بها لمقامات أجداده، تختلف عن زيارة الناس العاديين؟ ومن هنا، نصل إلى أساس طريق أهل التوحيد في كيفيّة تعريفهم وبيانهم للسبيل إلى الإمام عليه السلام. فالعارف يدعو للارتباط بأعلى مرتبة من مراتب الإمام عليه السلام؛ وهي المعرفة الباطنيّة والمعرفة الشهوديّة لحقيقة الولاية والتوحيد، بينما غير العارف يرى الإمام عليه السلام في مراتب أخرى من النظرة الظاهريّة وقضاء الحوائج الماديّة والصوريّة، كي يكون إدراكه للإمام وشؤونه واكتساب الفضائل المعنويّة، منحصرًا في حدود المثال والصورة والوصول إلى الأمور الغريبة، وكسب المراتب العمليّة من خرق العادات، والقدرة على التصرّف في سائر الأمور، والاطلاع على المغيّبات، وانكشاف الأمور المجهولة له، وصدور أمور غير عاديّة منه، وغير ذلك من الأمور التي تعتبر واقعًا من مراتب دون حقيقة الإمام عليه السلام وباطنه وكنهه وسرّه. ومن الطبيعي أنّ الإمام سيعطي كلّ شخص بمقتضى طلبه وإرادته وسعته وظرفيّته، ولن يتوانى أو يمتنع عن مساعدة أيّ شخص.
العقلانيّة في عدم الاهتمام باللقاء الظاهري مع صاحب الزمان عليه السلام
ليس لرؤية الإمام الظاهريّة في المدرسة العرفانيّة تلك المطلوبيّة، فلذا لا تحتوي دستورات العرفاء وبرامجهم على هذه المسألة أبدًا، كما أنّ الذهاب إلى هذا المكان وذاك، لرؤية إمام الزمان عليه السلام لا يحسب على مستوى من الفضيلة، لذا لا نرى في كلامهم توصيات بالسفر من البلاد البعيدة لأجل التشرّف بزيارة مسجد جمكران، من جهة أن تكرار الزيارة موجبة لمشاهدة إمام الزمان عليه السلام، ولم يشاهد في أوساطهم أنهم كانوا يبيتون في مسجد السهلة ليالي الأربعاء بهدف رؤية إمام الزمان. وإذا كانوا يذهبون إلى مسجد السهلة، فإنمّا كان ذلك لأجل التبرّك به، فقط باعتبار أن ذاك المكان المقدّس بنظرهم هو منزل المعشوق ومحل نظر المحبوب، ومن الواضح أنّ كل من يعشق شخصًا يعشق أيضًا آثار هذا المحبوب ويهيم بكل ما يتعلّق به، فالعارف يذهب إلى هناك طلبًا لحقيقة المعشوق، سواء أراد رؤيته أو لم يرد.
ولذا فنظر أهل التوحيد إلى بعض الآثار من قبيل مسجد السهلة وغيره، نظر آلي لا نظر استقلالي. فأهل التوحيد يرون إمام الزمان عليه السلام في جميع الأماكن على السواء، ويشاهدون انعكاس صورته في كلّ مكان وقع عليه نظرهم، ويرون كلّ وجود في هذا العالم هو حقيقة للولاية. فقد صار لديهم حالة أنس وتآلف بالإمام وحالة اقتران معه، لذا لا يعتبرون أنّ للإمام مكانًا مخصوصًا، كما أنهم لا يطلبون رؤية خاصّة للإمام في زمن خاص أو في مكان محدّد، بل يعتقدون بأنه لا يمكن العيش لحظة من لحظات حياتهم بدون معيّة الإمام والاتحاد به. فلا حاجة لهم بمكان مخصوص لكي يروا الإمام فيه، كما أنّ زيارة هؤلاء لمسجد السهلة من باب ظهور التجلّي الخاص للإمام، لا لأجل رؤيته ومشاهدته، وهي من باب التيمّن والتبرّك بآثار الإمام. وعند ذلك لا يبقى لديهم أي فرق بين ليالي الأربعاء وبين سائر الليالي والأيام، فهؤلاء يذهبون إلى مسجد السهلة لكن لا لأجل أن يروا الإمام عليه السلام، بل زيارتهم لمسجد السهلة وذهابهم إليه هو من باب التشرّف بالمكان الذي هو محلّ نظر الإمام وموضع عنايته، ولو أنّهم ذهبوا إلى هناك ألف سنة ولم يروا فيها الإمام عليه السلام، فمع ذلك سوف يستمرّون بالذهاب إليه واكتساب الفيض منه، حيث يعتبرون أن ذاك المكان هو منزل الحبيب ومأواه، وبما أنّ باطنهم قد تحقّق بمعيّة الإمام، فكذلك ظاهرهم يتبرّك بالبركات الظاهرية للإمام عليه السلام.۱
لقد خصّص المرحوم الوالد رضوان الله عليه طوال مدّة إقامته في النجف الأشرف أغلب ليالي الخميس للمبيت في مسجد السهلة؛ لأن ليالي الأربعاء كانت ليالي درس وتحصيل، والذهاب إلى مسجد السهلة فيها سيؤدي إلى تعطيل الدروس في ليلة ويوم الأربعاء، هذا فضلاً عن أنّ المسجد في ليالي الأربعاء كان يغصّ بالزائرين الذين كانوا يأتون للتشرّف الظاهريّ بمحضر الإمام، ممّا كان يسبّب مانعًا من حصول الخلوة وجمع الخواطر وتركيز الفكر والاستفادة بشكل أكبر.
وكثيرًا ما كان المرحوم السيّد الحداد رضوان الله عليه يتشرّف بالذهاب إلى مسجد السهلة في أوقات مختلفة لاكتساب الفيض منه. وكان أستاذه المرحوم السيّد القاضي قدّس الله سرّه يذهب لمدّة طويلة إلى مسجد السهلة إلى أن فتح الله عليه، ووصل إلى إدراك حقيقة ولاية الإمام صاحب الأمر.
وبناء عليه فالسرّ في أن الأولياء الإلهيين يتوجّهون في كلماتهم نحو إدراك كنه الولاية وحقيقة معرفة الإمام عليه السلام، هو أن التوجّه إلى ظاهر الإمام وسوق الناس نحو رؤيته الظاهريّة والتشرّف الصوَري والمادي باللقاء به .. يحجب النفس عن إدراك فيض الحقيقة وسرّ عالم الولاية، ومن هنا كانت النفس الإنسانيّة بعيدة جدًا عن حقيقة عالم الوجود، والعوالم التي هي فوق عالم الصورة والمثال؛ لكونها تأنس بعالم الصور والظواهر وتألف عالم التخيّل والتوهّم، أكثر من أنسها وألفها بعالم الملكوت وجهاته العقلانيّة، ومن جهة أخرى لانغمارها في الكثرات وغرقها في التوهّم والخيال. لذا كان شوق هذه النفس ورغبتها منصبًّا نحو الأمور الصوريّة والمثاليّة، ومنجذبة نحو خوارق العادات والأمور المحسوسة الباهرة للعيون والمختلطة بالجاذبات الصوريّة أكثر بكثير من رغبتها وانجذابها إلى الأمور الملكوتيّة والمعنويّة والعقلانيّة والنورانيّة والحقائق المعنويّة الخالصة والخالية عن الصور. لهذا السبب كان همّ أهل التوحيد وغمّهم منصبًا على بيان الربط والاتصال بمبدأ الولاية، على أساس محور المعرفة الباطنيّة وإدراك عوالم نفس صاحب الولاية، لا على أساس محور المشاهدة والرؤية الظاهريّة. من هنا لم يكن يؤتى أبدًا في مجالس المرحوم السيّد الحداد والمرحوم الوالد قدّس الله سرّهما على ذكر الرؤية الظاهريّة لإمام الزمان أرواحنا فداه، فلم يذكر العبد (الكاتب) أنه سمع منهم في تمام عمره كلامًا عن رؤية الإمام، أو أنهم كانوا يشجعون تلامذتهم ويرغّبونهم لزيارته، أو أنهم كانوا يعطونهم دستورًا وذكرًا وبرنامجًا كي يتيح لهم التشرّف بخدمة هذا الإمام.
وعندما تشرّف الحقير بمعيّة والده المعظم بزيارة العتبات العالية في العراق، بعد العودة من السفر إلى حج بيت الله الحرام، قلت يومًا للمرحوم السيد الحداد روحي فداه: ما هو الدستور الذي تعطيه للتشرّف بلقاء الإمام صاحب الأمر؟
فقال لي: إنّ المقصود الأصليّ والمقصد الأساس هو إدراك ولاية هذا الإمام ومعرفة حقيقته، وإلا فمجرّد الرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام بدون التوجّه إلى هذا المقصود وهذا الهدف لا يفيد شيئًا، لكن مع ذلك فإذا أردت أيضًا أن يحصل لك التشرّف بالرؤية الظاهريّة للإمام، فاعمل بهذا الدستور لمدّة عشرين ليلة، وبعدها سوف ترى الإمام. وبما أنّ الحقير لم يكن يرى نفسه لائقًا بإدراك حضور الإمام والتشرّف برؤيته، فلم أقدم على ذاك العمل، ووكلت أمر نفسي إلى صاحب الولاية؛ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾۱