المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: {والبَلد الطيّب...}؛
- البلد الطيّب هو علم النبيّ والإمام وهدايتهما؛
- الإمام الصادق عليه السلام النموذج الماثل للبلد الطَّيِّب؛
- حقيقة علم الأنبياء والأئمّة عليهم السلام.
هو العليم
الإمام الصادق عليه السلام نموذج ماثل للبلد الطيّب
بحث منتخب من «معرفة الإمام»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ}.۱
وقال سبحانه قبل هذه الآية:
{وَ هُوَ الذي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إذَآ أقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأنزَلْنَا بِهِ الْمَآءَ فَأخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}.
تفسير العلّامة الطباطبائيّ لآية: {والبَلد الطيّب...}
قال العلّامة آية الله الطباطبائيّ أعلى الله درجته في تفسير هذه الآيات: وفي الآية {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} إلى آخر الآية بيان لربوبيّته تعالى من جهة العود، كما أنّ في قوله: {إن رَبَّكُمُ اللهُ} ٢ بياناً لها من جهة البدء. وقوله: {بُشْـرًا}، وأصله البُشـُر بضمّتين جمعُ بشير كالنُذُر جمعُ نذير. والمراد بالرحمة المطر. وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ}، أي: قدّام المطر، وفيه استعارة تخيليّة بتشبيه المطر بالإنسان الغائب الذي ينتظره أهله فيقدم وبين يديه بشير يبشّر بقدومه.
والإقلال: الحَمل، والسحاب والسَّحَابة، الغمام والغمامة، كتَمْر وتَمْرَة. وكون السحاب ثِقالًا باعتبار حملهِ ثِقل الماء، وقوله: {لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ}، أي: لأجل بلد ميّت، أو إلى بلدٍ ميّت. والباقي ظاهر (و لا يحتاج إلى تفسير).
والآية تحتجّ بإحياء الأرض على جواز إحياء الموتى، لأنّهما من نوعٍ واحدٍ. وحُكْمُ الأمْثَالِ في مَا يَجُوزُ ومَا لَا يَجُوزُ وَاحِدٌ.٣ وليس الأحياء الذين عَرَضَ لهم عارضُ الموت بمنعدمين من أصلهم، فإنَّ أنفُسَهم وأرواحهم باقيةٌ محفوظةٌ وإنْ تغيّرت أبدانهم، كما أنّ النبات يتغيّر ما على وجه الأرض منها ويبقى ما في أصله من الروح الحيّة على انعزال من النشوء والنماء، ثمّ تعود إليه حياته الفعّالة. كذلك يُخرج الله الموتى. فما إحياء الموتى في الحشر الكلّيّ يوم البعث إلّا كإحياء الأرض الميتة في بعثه الجزئيّ العائد كُلَّ سنة. وللكلام ذيل سيُوافيك في محلٍّ آخر إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: {والْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإذْنِ رَبِّهِ} إلى آخر الآية.
النَّكِد: القليل. والآية بالنظر إلى نفسها كالمثل العامّ المضروب لترتّب الأعمال الصالحة والآثار الحسنة على الذوات الطيّبة الكريمة كخِلافها على خِلافها، كما تقدّم في قوله: {كَمَا بَدَأكُمْ تَعُودُونَ}.۱ لكنّها بانضمامها إلى الآية السابقة تفيد أنّ الناس وإن اختلفوا في قبول الرحمة فالاختلاف من قِبَلهم، والرحمة الإلهيّة عامّةٌ مطلقةٌ.
وقال سماحة العلّامة في البحث الروائيّ:
وفي «الكافي» بإسناده عن ميسر، عن أبي جعفر (الإمام الباقر) عليه السلام قال: قلتُ: قول الله عزّ وجلّ: {ولَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا}٢، قال: فقال: «يَا مَيْسـَرُ! إنَّ الأرْضَ كانَتْ فَاسِدَةً فَأحْيَاهَا اللهُ عَزَّ وجَلَّ بِنَبِيِّهِ، ولَا تُفْسِدُوا في الأرْضِ بَعْدَ إصْلَاحِهَا».
وفي «الدرّ المنثور»: أخرج أحمد، والبخاريّ، ومسلم، والنسائيّ، عن أبي موسى، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه [و آله] وسلّم:
«مَثَلُ مَا بَعَثَنِيَ اللهُ بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ أصَابَ أرْضَاً فَكَانَتْ مِنْهَا بَقَيَّةٌ قَبَلَتِ المَاءَ فَأنْبَتَتِ الكَلَاءَ والعُشْبَ الكَثِيرَ. وكَانَتْ مِنْهَا أجَادِبُ أمْسَكَتِ المَاءَ فَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ فَشَرِبُوا وسَقَوا وزَرَعُوا. وأصَابَ مِنْهَا طَائِفَةً اخرى إنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ لَا تُمْسِكُ مَاءً ولَا تُنْبِتُ كَلَاءً. فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ في دِينِ اللهِ ونَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللهُ بِهِ فَعَلِمَ وعَلَّمَ؛ ومَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَ أساً ولَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الذي ارْسِلْتُ بِهِ».٣
البلد الطيّب هو علم النبيّ والإمام وهدايتهما
أجل، إن تفسير البلد الطيّب بعلم النبيّ والإمام وهدايتهما، وتفسير إصلاح الأرض بعد مجيء الرسول والإمام وأمثالهما ليسا من المعاني التأويليّة للآيات المباركة، بل مفاد العمل بظهور المعاني الظاهريّة للقرآن الكريم وبيانها، إذ إنّ معنى الأرض الصالحة المستعدّة ومفاد الإفساد في الأرض بعد إصلاحها يتيسّران للإنسان ويتبادران إلى الذهن في أوّل وهلة، ولا حاجة إلى جرّ المعنى الظاهر إلى الباطن واستخراج التأويل.
إن وجود الأئمّة الطاهرين سلام الله عليهم أجمعين أرضٌ فسيحةٌ شاسعةٌ من العلم والعقل والدراية والفطنة والهداية، يخرج فيها نباتٌ طيّبٌ حَسَن، فيُتحف الدنيا بثمارٍ حلوةٍ ريّانةٍ نافعةٍ، وفواكهُ ثمينةٍ وأدويةٍ وعقاقير لمعالجة الأمراض ورفع العلل والأسقام. ولا فائدة للعالم البشريّ والمجتمع الإنسانيّ من وجود المخالفين والمعاندين والمكابرين. ذلك أنّ الأئمّة المعصومين بعيدون عن الهوى والتغطرس وحُبّ الذات والدعوة إلى النفس وجعلها محوراً. فما عندهم يترشّح من نفوسٍ طاهرةٍ صفيّةٍ زكيّةٍ متّصلةٍ بعالم النور والتجرّد والعرفان الإلهيّ والتوحيد الربوبيّ. ومن الواضح أنّ الظُّلمة لا تترشّح من النور، والقُبح لا يُولَد من الحُسن، والخبيث لا يخرج من الطيّب. أي: لا يسـري من الله تعالى وأصفيائه المخلصين إلى العالم الخارجيّ إلّا العلم الحقيقيّ اللدُنّيّ الخالد الثابت الأصيل.
الإمام الصادق عليه السلام النموذج الماثل للبلد الطَّيِّب
إنّ الإمام جعفر الصادق عليه السلام من تلك النبتة الفريدة التي نمت في أرض التوحيد الطيّبة. ولم تنفح آثاره العلميّة الهادية الشيعة فحسب، بل نفحت الأجيال البشـريّة برمّتها، ولم تُظَلِّل المدينة المنوّرة وحدها بل ظَلَّلت العالَم بأسره، ولم تقتصر على عصر واحد فقط، بل هي للعصور كلّها خالدةً إلى الأبد.
ولِمَ ذاك؟ ذاك لأنّه عليه السلام معصوم، ولكلّ معصوم أبديّة كأبديّة القرآن الكريم ذي العصمة. ولكلمة كلّ فقيهٍ وفتواه وحكمه ورأيه حجّيّةً في حياته اعتباراً من الشيخ الطوسيّ والعلّامة الحلّيّ حتى آية الله البروجرديّ وآية الله الحكيم ومن شابههم، بَيدَ أنّ تلك الحجّيّة تسقط بموت هؤلاء الفقهاء، إذ إنّهم غير معصومين، وعلى الناس أن يقلّدوا المجتهد الحيّ الأعلم الجامع للشرائط، أمّا الآيات القرآنيّة الكريمة، والسنّة النبويّة الثابتة، والسيرة الإماميّة المسلّم بها فهي حُجّةٌ إلى يوم القيامة.
قال آية الله السيّد على خان المدنيّ الشيرازيّ رفع الله رتبته في ترجمة الإمام الصادق عليه السلام: وجعفر بن محمّد هو الإمام أبو عبد الله جعفر الصادق بن محمّد الباقر بن عليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم.
إلى أن قال: قال الشيخ المفيد: لم ينقل العلماء عن أحدٍ من أهل بيته مثل ما نُقل عنه من العلوم والآثار، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات على اختلافهم في الآراء والمقالات فكانوا أربعة آلاف رجل.
وقال الشيخ كمال الدين بن طلحة الشافعيّ: أمَّا مَنَاقِبُهُ وصِفَاتُهُ فَتَكَادُ تَفُوتُ عَدَدَ الحَاصِرِ، ويَحَارُ في أنْوَاعِهَا فَهْمُ اليَقِظِ البَاصِرِ، حتى أنَّ مِنْ كَثْرَةِ عُلُومِهِ المُفَاضَةِ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ سِجَالِ التَّقوى صَارَتِ الأحْكَامُ التي لَا تُدْرَكُ عِلَلُهَا، والعُلُومُ التي تَقْصُرُ الأفْهَامُ عَنِ الإحَاطَةِ بِحُكْمِهَا تُضَافَ إلَيْهِ وتُرْوَى عَنْهُ۱.
وقال الذهبيّ في «الكاشف»: قال أبوحنيفة: ما رأيتُ أفقه منه. وقد دخلني له من الهيبة ما لم يدخلني من المنصور.٢
وعن عمرو بن أبي المقدام، قال: كنتُ إذا نظرتُ إلى جعفر بن محمّد علمتُ أنّه من سلالة النبيّين.
وعن صالح بن الأسود، قال: سمعتُ جعفر بن محمّد يقول: «سَلُونِي قَبْلَ أنْ تَفْقِدُونِي فَإنَّهُ لَا يُحَدِّثُكُمْ أحَدٌ بَعْدي بِمِثْلِ حَدِيثِي».۱
قال العلّامة الجليل الشيخ محمّد حسين المظفّر:
«وما كان فقهاء الشيعة عِيالًا عليه فحسب، بل أخذ كثير من فقهاء السُّنّة الذين عاصروه الفقه عنه، أمثال مالك، وأبي حنيفة، والسُّفيانِيَّينِ (سفيان الثوريّ، وسفيان ابن عُيَيْنَة)، وأيّوب، وغيرهم، كما ستعرفه في بابه، بل إن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة» (ج ۱، ص ٦) أرجَعَ فقه المذاهب الأربعة إليه.
وهذا الآلوسيّ في «مختصر التُّحفة الاثني عشريّة»٢ ص ۸ يقول:
وهذا أبو حنيفة وهو بين أهل السنّة كان يفتخر ويقول بأفصح لسان: لَوْلَا السَّنَتَانِ لَهَلَكَ النُّعْمَانُ.
يريد السنتين اللتين صَحب فيهما الإمام جعفر الصادق عليه السلام لأخذ العلم.٣
وقال أيضاً تحت عنوان «حياته العلميّة»: علُمه إلهاميّ. وقال في شرحه: لا فضيلة كالعلم، فإنّ به حياة الأُمم وسعادتها ورقيّها وخلودها، وبه نباهة المرء وعلوّ مقامه وشرف نفسه.
ولا غرابة لو كان العلم أفضل من العبادة أضعافاً مضاعفة. لأنّ العابد صالح على طريق نجاة قد استخلص نفسه فحسب، ولكن العالم مصلح يستطيع أن يستخرج عوالم كبيرة من غياهب الضلال، وصالح في نفسه أيضاً، وقد فتح عينيه في طريقه. ومَن فتح عينه أبصر الطريق.
وليس في الفضائل ما يصلح الناس وينفعهم ويبقى أثره في الوجود مثل العلم، فإنّ العبادة والشجاعة والكرم وغيرها إذا نفعت الناس فإنّما نفعها مادام صاحبها في الوجود، وليس له بعد الموت إلّا حسن الاحدوثة.
ولكن العالم يبقى نفعه مادام علمه باقياً، وأثره خالداً.
وقد جاء في السُنّة الثناء العاطر على العلم وأهله، كما جاء في الكتاب آياتٌ جمّة في مدحه ومدح ذويه. وهذا أمر مفروغ عنه، لا يحتاج إلى استشهاد واستدلال.
نعم، إنّما الحقّ في أنّ هذا الثناء خاصّ بالعلم الدينيّ وعلمائه، أو عامّ لكلّ علم وعالم؟!
أعتقد بشكل قاطع أنّه مختصّ بعلم الدين وعلمائه.
والأحاديث قد صرّحت به. وكفى من الكتاب قوله تعالى: {إنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}.٤
وقد لا تجد خشيةً عند علماء الصنعة وما سواهم غير علماء الدين، بل إن بعضهم قد لا تجده يعترف بالوجود أو بالوحدانيّة.
و ما استحقّ علماء الدين هذا الثناء إلّا لأنّهم يريدون الخير للناس ويسعون له ما وجدوا إليه سبيلًا. ومتى كانوا وجدتَهم أدلّاءَ مرشدين هداةً منقذين.
وعلم الدين إلهاميّ وكسبيّ. والكسبيّ يقع فيه الخطأ والصواب والصحيح والغلط. وغلط العالم وخطؤه يعود على العالم كلّه بالخطأ والغلط، لأنّ الناس أتباع العلماء في الأحكام والحلال والحرام، والله جلّ شأنه لا يُريد للناس إلّا العمل بالشريعة التي أنزلها، والأحكام التي شرّعها. فلا بدّ من أن يكون في الناس عالم لا يُخطئ ولا يغلط، ولا يسهو ولا ينسى، ليرشد الناس إلى تلك الشريعة المنزلة منه جلّ شأنه، والأحكام المشرّعة من لدنه سبحانه، فلا تقع الامّة في أشراك الأخطاء وحبائل الأغلاط، ولا يكون ذلك إلّا إذا كان علم العالم وحياً أو إلهاماً.
حقيقة علم الأنبياء والأئمّة عليهم السلام
فمن هنا كان حتماً أن يكون علم الأنبياء وأوصيائهم من العلم الإيحائيّ أو الإلهاميّ صوناً لهم وللأُمم من الوقوع في المخالفة خطاً.
والله تعالى قد أنزل شريعة واحدة لا شرائع، وفي كلّ قضيّة حُكماً لا أحكاماً، ونصب للأُمّة في كلّ زمن مرشداً لا مرشدين. ونجدها اليوم شرائع ولها مشرّعون لا شريعة واحدة ومشرّعاً واحداً. ونرى في كلّ قضيّة أحكاماً لا حكماً واحداً. وفي كلّ زمن مرشدين متخالفين متنابذين، بل يكفّر بعضهم بعضاً، ويبرأ بعضهم من بعض لا مرشداً واحداً. وليس هذا ما جاء به المصلح الأكبر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ولا ما أراده لأُمّته.
فلا غرابة لو حكم العقل بأنّ الواجب عليه سبحانه أن ينصب في كلّ فترة زمنيّة عالماً يدلّ الناس على الشريعة كما جاءت، ويأتيهم بالأحكام كما نزلت. وهل يجوز ذلك على أحد سوى عليّ وبنيه؟
وهذه آثارهم العلميّة بين يديك فاستقرئها لعلّك تجد على النور هدىً. ولو لم يكن لدينا أثر أو دليل إلّا قوله صلّى الله عليه وآله: «أنَا مَدِينَةُ العِلْمِ وعَلِيّ بَابُهَا»۱، وقوله: «أنّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي»٢، لكفى في كون أهل البيت علماء الشريعة والكتاب الذين أخذوا العلم من معدنه، واستقوه من ينبوعه. ولو كان علمهم بالاكتساب لما جعلهم الرسول علماء الكتاب على طول الدهر دون الناس. وما الذي ميّزهم على الناس إذا كانوا والناس في العلم سواء؟!
وممّا يسترعي الانتباه أنّ الناس كانوا محتاجين إلى علمهم أبداً. وكلّما رجعوا إليهم في أمر وجدوا علمه عندهم، وما احتاجوا هم إلى علم الناس أبداً.
ولا نريد أن نلمسك هذه الحقيقة بالأخبار دون الآثار، فإنّ في الآثار ما به غنى للبصر. وهذه آثارهم شاهدةٌ على صِدق ما ادّعوه وادّعى فيهم. وأمرٌ حقيقٌ بأن تنتبه إليه، وهو أنّ الجواد عليه السلام انتهت إليه الإمامة وهو ابن سبع، ونهض بأعبائها، وقام بما قام به آباؤه من التعليم والإرشاد، وأخذ منه العلماء خاضعين مستفيدين. وما وجدتَ فيه نقصاً عن علوم آبائه.
وهذا عليّ بن جعفر شيخ العلويّين في عهده سنّاً وفضلًا، إذا أقبل الجواد يقوم فيقبّل يده، وإذا خرج يسوّي له نعله. وسُئِلَ عن الناطق بعد الرضا عليه السلام، فقال: أبو جعفر ابنه! فقيل له: أنْتَ في سِنِّكَ وقَدْرِكَ وأبوكَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ تَقُولُ في هَذَا الغُلَامِ؟! فقال: مَا أرَاكَ إلَّا شَيْطَاناً، ثُمَّ أخَذَ بِلِحْيَتِهِ وقَالَ: فَمَا حِيلَتِي إن كَانَ اللهُ رَآهُ أهْلًا ولَمْ يَرَ هَذِهِ الشيْبَةَ لَهَا أهْلًا؟».۱
علماً أنّ عليّ بن جعفر هو أخو الإمام الكاظم عليه السلام، والإمام الكاظم هو جدّ الإمام الجواد عليهما السلام. فماذا ترى بينهما من السنّ؟ وعليّ أخذ العلم من أبيه الصادق، وأخيه الكاظم، وابن أخيه الرضا عليهم السلام. فلو كان علمهم بالتحصيل لكان عليّ أكثر من الجواد تحصيلًا، أو لو كانت الإمامة بالسنّ لكان عليّ أكبر العلويّين سنّاً.
على أنّ الجواد قد فارقه أبوه يوم سافر إلى خراسان وهو ابن خمس.
فمن الذي كان يؤدّبه ويثقّفه بعد أبيه حتى جعله بتلك المنزلة العليّة لو كان ما عندهم عن تعلّم وتأدّب؟! ولِمَ لا يكون المعلِّم والمثقِّف هو صاحب المنزلة دونه؟! ولِمَ لَمْ يُقِلِ الجواد؟!
أجل، توفّي الجواد وهو ابن خمس وعشرين سنةً. وأنت تعلم أنّ ابن هذا السنّ لم يبلغ شيئاً من العلم لو أنفق عمره هذا كلّه في طلبه، فكيف يكون عالم الأُمّة ومرشدها، ومعلِّم العلماء ومثقِّفهم، وقد رجعت إليه الشيعة وعلماؤها من يوم وفاة أبيه الرضا عليه السلام؟
وهكذا الحال في ابنه عليّ الهاديّ عليه السلام. فقد قضى الجواد، وابنه الهاديّ ابن ستّ أو ثمان. فمن الذي ثقّفه وجَعله بذلك المحلّ الأرفع؟ وكيف رجعت إليه العلماء والشيعة وهو ابن هذا السنّ؟ وماذا يُحسن مَن كان هذا عُمره لو كان عِلمه بالاكتساب؟
فالصادق ـ كسائر الأئمّة ـ لم يكن علمه كسبيّاً وأخذاً من أفواه الرجال ومُدارستِهم. ولو كان كذلك، فممّن أخذ وعلى يد مَن تخرّج؟ وليس في تأريخ واحد من الأئمّة عليهم السلام أنّه تتلمذ أو قرأ على واحد من الناس حتى في سنّ الطفولة. فلم يُذكر في تأريخ طفولتهم أنّهم دخلوا الكتاتيب۱ أو تعلّموا القرآن على المقرئين كسائر الأطفال من الناس. فما علم الإمام إلّا وراثةً عن أبيه، عن جدّه، عن الرسول، عن جبرئيل، عن الجليل تعالى. وسنُشير إلى بعض آثاره العلميّة وإلى تعليمه لتلامذته. وما سواها ممّا هو داخلٌ في حياته العلميّة.
[ملاحظة: انتخب هذا البحث من كتاب معرفة الإمام ج ۱۸، تأليف المرحوم العلامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد تمّ توثيقه ومقارنته مع المصدر الفارسي من قبل الهيئة العلمية في لجنة الترجمة والتحقيق، وتجدر الإشارة إلى أنّ العبارات والهوامش التي وقعت بين معقوفتين هي من الهيئة العلمية]