المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم العقائد
التوضيح
أهم محتويات المقالة:
- نظرة العارف للرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام؛
- النظرة الآلية والنظرة الاستقلاليّة إلى الإمام عليه السلام وما يتعلّق به؛
- قصّة تهجّد المرحوم الحاج السيّد أحمد الكربلائيّ في مسجد السهلة عن كتابالتوحيد العلميّ والعينيّ؛
- التوجّه إلى ظاهر الإمام عليه السلام يمنع النفس عن إدراك سرّ الولاية؛
- الإمام هو المرآة التامة للحق؛
- وظيفتنا في زمان الغيبة: التهيّؤ لا التوقيت؛
- تعيين وقت الظهور يدخل الناس في عالم الوهم والخيال؛
- لقاء مع أحد الوقاتين؛
- موانع الحضور والظهور ترتفع من خلال المعرفة الحقيقية بصاحب الولاية.
هو العليم
الإمام الحجة عليه السلام، غيبته وحضوره من منظار العرفاء
بحث منتخب من «أسرار الملكوت»
إعداد: الهيئة العلمية في موقع مدرسة الوحي
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
نظرة العارف للرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام
إنّ الحديث في مدرسة العرفان والتوحيد حديث عن حقيقة الولاية والتوحيد، وتوجّه نحو كنه الأمور، والتفات إلى الباطن، وإدراك عقلاني وشهودي لهذه المسألة. ولا مجال في حديث العارف باللـه للكلام عن الرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام؛ لأنّ الظاهر ظاهر، بينما حركة النفس هي حركة باطنيّة وكشف للحجب. فما الفائدة من زيارة الإمام عليه السلام دون تحقّق المعرفة والوصول إلى باطن الولاية؟ الإمام ليس أعلى مرتبة من النبيّ ورسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم، ومع ذلك فأين ذهب أولئك الذين كانوا يُوفّقون لزيارة النبيّ صباحاً ومساءً، وكانوا يصلّون خلفه في الصفّ الأول من الجماعة، وكانوا يتسابقون لالتقاط ماء وضوئه تبرّكاً به؟ وماذا حصل لهم، وأيّ موقف وقفوا مقابل صاحب الولاية عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام؟
وأين ذهبت تلك المدائح وذلك التمجيد؟ وأين ذهبت تلك الخطب وتلك الصلوات؟ وأين ذهبت تلك النصائح والمواعظ؟ وأين ذهبت تلك المعاجز والكرامات؟ وأين ذهب الوحي وتنزّل الملائكة على رسول اللـه؟ وأين ذهبت تلك المشاهدات والمعاينات؟ وأين ذهبت تلك المجاملات التي كانوا يمارسونها؟ فماذا حصل بذلك التبليغ وبدعوة الناس والعيش بين ظهرانيهم مدّة ثلاث وعشرين سنة؟ وماذا حصل لهذه التوصيات التي كان يوصيهم فيها بأهل بيته وعترته؟ وماذا حصل بواقعة يوم الغدير؟ وماذا جرى لحديث: إني تارك فيكم الثقلين كتاب اللـه وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض!۱ فأين ذهب جميع ذلك؟
لقد بقي هؤلاء مكانهم ولم يتحرّكوا ويترقّوا إلى أيّة رتبة، بل لم يطرأ عليهم أيّ تغيير بعد وفاة رسول اللـه، ولم يحصل لهم أي تبدّل، لأنه من أول الأمر لم يكن هناك شيء! ومن أول الأمر لم يكن هناك معرفة، فلم يكن الإيمان قد رسخ واستقرّ في أرواح هؤلاء وأسرارهم وحقائق وجودهم، بل إنهم استفادوا من ظاهر الإيمان وشكله. كما أنّ إيمانهم كان قد تجلّى في مرتبة المثال والصور البرزخيّة فقط دون أن يتعدّاها، فلم يكونوا قد ساروا بعدُ في طريق الملكوت وسرّه. لقد عرف هؤلاء رسول اللـه في حدود المعجزات وخوارق العادات والكرامات والفتح الظاهريّ والظفر العادي، لا أكثر من ذلك. وحيثما كانت هذه الأمور متحقّقة كان لهم حضور في ذاك المكان، وكان موقفهم من رسول اللـه يتغير بمجرّد حصول أدنى ملابسة لديهم؛ فما دام الموقف في الحرب لصالح المسلمين، وكان المسلمون على مشارف النصر والفتح، كان هؤلاء من المشاركين معه. وإذا ما وجدوا أمراً مخالفاً لما يتوقّعونه من النصر، كان الشك يتسلّل إلى كل شيء لديهم؛ فكانوا يشكّون في اللـه وفي رسوله وملائكته وفي الدين وغيره من الأمور المتعلّقة به.٢
يوجّه العارف الناس في كلامه نحو هذه الحقيقة، ويهديهم من الظاهر نحو الباطن ومن الإحساسات نحو الأمور الواقعيّة ومن الانجذاب إلى المادّة نحو الجلوات الربوبيّة والأنوار الإلهيّة.
ولا سبيل للنظرة الظاهريّة للإمام عليه السلام في مدرسة العارف ومنهج أهل التوحيد. فالعارف يدعو إلى باطن الإمام وولايته، وإلى المعرفة الحقيقية بالإمام عليه السلام، لا أنه يروّج لمعرفة هويّة الإمام فحسب. إلى ماذا تدعو جميع هذه الروايات الحاثّة على زيارة الأئمّة عليهم السلام مع معرفتهم معرفة حقيقيّة؟ وإلى أيّ مقام ترشدنا وعلى أيّة موقعيّة للأئمّة تدلّنا؟ أليست تلك الروايات التي تعتبر أنّ ميزان الأجر والثواب على زيارة الأئمّة عليهم السلام هو ميزان القرب منهم ومعرفتهم دالّة على أنّ قيمة زيارة الإمام تابعة للمعرفة؟ أليس هناك تفاوت بين زيارة الإمام الرضا عليه السلام التي تعادل ثواب حجّة وعمرة مقبولة، وبين زيارة نفس الإمام التي تعادل ثواب ألف حجّة وألف عمرة مقبولة؟ إذا كان الأمر متفاوتاً بينهما، فأين يكمن ذلك؟
وعلى أيّ أساس كان هذا الثواب، واستحقّت هذه الدرجات المترتّبة على زيارة سيد الشهداء عليه السلام، والتي تحيّر الانسان؟ ولماذا كلّ هذا الاختلاف الذي نراه في المراتب؟ أليس هناك اختلاف بين زيارة شخص عادي ليست لديه أيّة معرفة أو إدراك بالإمام عليه السلام، وبين ذلك الشخص الذي تكون نفسه مندكّة في نفس الإمام، وصار روحه وسرّه مع روح الإمام وسره، بل صار متّحداً معه؟ أليس هناك فرق من جهة التقرّب بين الشخص الذي يكون خارج الحرم وبين الشخص الذي هو من أهل الحرم؟ أليست زيارة الإمام بقيّة اللـه أرواحنا فداه التي يقوم بها لمقامات أجداده، تختلف عن زيارة الناس العاديين؟
ومن هنا، نصل إلى أساس طريق أهل التوحيد في كيفيّة تعريفهم وبيانهم للسبيل إلى الإمام عليه السلام. فالعارف يدعو للارتباط بأعلى مرتبة من مراتب الإمام عليه السلام؛ وهي المعرفة الباطنيّة والمعرفة الشهوديّة لحقيقة الولاية والتوحيد، بينما غير العارف يرى الإمام عليه السلام في مراتب أخرى من النظرة الظاهريّة، وقضاء الحوائج الماديّة والصوريّة، فيكون إدراكه للإمام وشؤونه واكتساب الفضائل المعنويّة منحصراً في حدود المثال والصورة والوصول إلى الأمور الغريبة، وكسب المراتب العمليّة من خرق العادات، والقدرة على التصرّف في سائر الأمور، والاطلاع على المغيبات، وانكشاف الأمور المجهولة له، وصدور أمور غير عاديّة منه، وغير ذلك من الأمور التي تعتبر واقعاً من مراتب دون حقيقة الإمام عليه السلام وباطنه وكنهه وسرّه. ومن الطبيعي أنّ الإمام سيعطي كلّ شخص بمقتضى طلبه وإرادته وسعته وظرفيّته، ولن يتوانى أو يمتنع عن مساعدة أيّ شخص.
ليس لرؤية الإمام الظاهريّة في المدرسة العرفانيّة تلك المطلوبيّة، فلذا لا تحتوي دستورات العرفاء وبرامجهم على هذه المسألة أبداً، كما أنّ الذهاب إلى هذا المكان وذاك، لرؤية إمام الزمان عليه السلام لا يحسب على مستوى من الفضيلة، لذا لا نرى في كلامهم توصيات بالسفر من البلاد البعيدة لأجل التشرّف بزيارة مسجد جمكران ـ من جهة أنّ تكرار الزيارة موجبة لمشاهدة إمام الزمان عليه السلام ـ ولم يشاهد في أوساطهم أنهم كانوا يبيتون في مسجد السهلة ليالي الأربعاء بهدف رؤية إمام الزمان. وإذا ما كانوا يذهبون إلى مسجد السهلة، فإنما كان ذلك لأجل التبرّك به، فقط باعتبار أنّ ذاك المكان المقدّس بنظرهم هو منزل المعشوق ومحل نظر المحبوب، ومن الواضح أنّ كلّ من يعشق شخصاً يعشق أيضاً آثاره ويهيم بكلّ ما يتعلق به، فالعارف يذهب إلى هناك طلباً لحقيقة المعشوق، سواء أراد رؤيته أو لم يرد.
النظرة الآلية والنظرة الاستقلاليّة إلى الإمام عليه السلام وما يتعلّق به
ولذا فنظر أهل التوحيد إلى بعض الآثار من قبيل مسجد السهلة وغيره، نظر آلي لا نظر استقلالي. فأهل التوحيد يرون إمام الزمان عليه السلام في جميع الأماكن على السواء، ويشاهدون انعكاس صورته في كل مكان وقع عليه نظرهم، ويرون كل وجود في هذا العالم هو حقيقة للولاية. فقد صار لديهم حالة أنس وتآلف مع الإمام وحالة اقتران به، لذا لا يعتبرون أنّ للإمام مكاناً معيناً، كما أنهم لا يطلبون رؤية خاصّة للإمام في زمن خاص أو في مكان محدّد، بل يعتقدون بأنه لا يمكن العيش لحظة من لحظات حياتهم بدون معيّة الإمام والاتحاد به. فلا حاجة لهم بمكان خاصّ لكي يروا الإمام فيه، كما أنّ زيارة هؤلاء لمسجد السهلة هي من باب ظهور التجلّي الخاص للإمام، لا لأجل رؤيته ومشاهدته، وهي من باب التيمّن والتبرّك بآثار الإمام. وعند ذلك لا يبقى لديهم أيّ فرق بين ليالي الأربعاء وبين سائر الليالي والأيام، فهؤلاء يذهبون إلى مسجد السهلة لكن لا لأجل أن يرَوا الإمام عليه السلام، بل زيارتهم لمسجد السهلة وذهابهم إليه هو من باب التشرّف بالمكان الذي هو محل نظر الإمام وموضع عنايته، ولو أنهم ذهبوا إليه ألف سنة ولم يروا فيها الإمام عليه السلام، فمع ذلك سوف يستمرّون بالذهاب إليه واكتساب الفيض منه، حيث يعتبرون أنّ ذاك المكان هو منزل الحبيب ومأواه، وبما أنّ باطنهم قد تحقّق بمعيّة الإمام، فكذلك ظاهرهم يتبرّك بالبركات الظاهرية للإمام عليه السلام.
قصّة تهجّد المرحوم الحاج السيّد أحمد الكربلائيّ في مسجد السهلة عن كتاب"التوحيد العلميّ والعينيّ"
يكتب المرحوم الوالد قدّس اللـه سرّه في مقدّمة كتاب (توحيد علمي وعيني) عن أحوال العارف الكامل والفقيه النحرير آية اللـه العظمى نادرة الدهر الحاج السيد أحمد الكربلائي، فيقول: نقل المرحوم السيد جمال الدين للحقير أنه عندما كان شاباً يدرس في أصفهان، كان يدرس الأخلاق ويتربّى عند المرحوم الآخوند الكاشي والمرحوم جهانگيز خان قشقائى.
وعندما تشرّف بالذهاب إلى النجف الأشرف صار أستاذه المرحوم السيد جواد، وكان يقول: لقد كان شخصاً سريع البديهة وعميق الفهم، وكان يقول: إذا أتتني إجازة من العالم العلوي لنصبت في منعطفات الطرق منبراً، ودعوت الناس إلى التوحيد والعرفان الإلهي. ولم تمض مدّة حتّى ارتحل هذا العالِم إلى رحمة الحق تعالى، فرجعت أنا إلى المرحوم آية اللـه والمربّي الأخلاقيّ الشيخ علي محمد النجف آبادي، وصرت آخذ عنه البرامج السلوكيّة.
وبعد مضي مدّة على هذا الموضوع، حيث كنت فيها تحت تعليمه وتربيته، ذهبت في إحدى الليالي إلى مسجد السهلة لأجل العبادة طبقاً للعادة، وكانت من عادتي -طبقاً لأوامر الأستاذ عند ذهابي إلى مسجد السهلة- أن أقوم أوّلاً بصلاة المغرب والعشاء، ثم آتي بالأعمال الواردة في مقامات المسجد، ثم بعد ذلك أفتح تلك الخرقة التي تحتوي على خبز وبعض الأطعمة، التي كنت أحملها معي زاداً وأتناول شيئاً منها، وبعدها أخلد للراحة والنوم، ثم استيقظ قبل أذان الفجر بساعات وأشتغل بالصلاة والدعاء والذكر والتفكّر، وعند أذان الفجر أصلّي صلاة الصبح وأستمرّ بالقيام بسائر أعمالي ووظائفي إلى طلوع الشمس، وبعدها أرجع إلى النجف.
وفي تلك الليلة بعدما أتممت صلاة المغرب والعشاء، وقمت بأعمال المسجد وقد مضى من الليل مدّة ساعتين تقريباً، وبينما كنت جالساً لتناول بعض الطعام من الخرقة التي كانت معي، وقبل أن أبدأ بالأكل وصل إلى سمعي صوت مناجاة وتأوّه، ولم يكن أحد غيري في هذا المسجد المظلم.
وقد بدأ هذا الصوت يأتي من جهة الضلع الشماليّ وسط حائط المسجد، وبالذات مقابل المقام المطهّر لإمام الزمان عجل اللـه تعالى فرجه، وقد كان صوته جذّاباً في قراءة الأشعار العربية والفارسية بحالة من التأوّه والحسرة، وفي قراءته للمناجاة العالية والأدعية الرائعة، ممّا جعل ذهني ينقطع إليه بشكل كلّي.
عندها لم أستطع أنّ أتناول حتى لقمة واحدة من الخبز، وبقيت الخرقة التي فيها الزاد مفتوحة، بل لم أستطع أنّ أستريح أو أنام في تلك الليلة، ولم أقدر على الإتيان بصلاة الليل والدعاء والذكر والتأمّل المطلوب مني، وبقيت منقطعاً ومنصرفاً نحوه.
لقد كان صاحب الصوت ينشغل بالبكاء والمناجاة مدّة ساعة ثم يسكت، وبعد مضي فترة يعود ثانياً للقراءة وللبكاء والمناجاة، ثم يهدأ صوته مرّة أخرى، ثم يقرأ ساعة ثم يسكت قليلاً ويهدأ. وفي كلّ مرّة يبدأ فيها بالقراءة كان يتقدّم قليلاً نحو المقام المطهّر لإمام الزمان، بحيث أنه عندما قارب وصول أذان الفجر كان قد وصل إلى مقابل المقام. وفي هذا الحال وبعد بكاء طويل وحرقة قلب شديدة وجّه خطابه للإمام وخاطبه بقراءة هذه الأشعار:
ما بدين در، نه پي حشمت و جاه آمدهايم | *** | از بد حادثه اينجا به پناه آمدهايم |
رهرو منزل عشقيم و ز سر حدّ عدم | *** | تا به اقليم وجود اين همه راه آمدهايم |
سبزهء خطّ تو ديديم و ز بستان بهشت | *** | به طلبكاري اين مهرگياه آمدهايم |
با چنين گنج كه شد خازن او روح امين | *** | به گدائي به در خانهء شاه آمدهايم |
لنگر حلم تو أيّ كشتي توفيق كجاست | *** | كه در اين بحر كرم غرق گناه آمدهايم |
آبرو ميرود أيّ ابر خطاشوي ببار | *** | كه بديوان عمل نامه سياه آمدهايم |
حافظ اين خرقهء پشمينه بينداز كه ما | *** | از پي قافله با آتش آه آمدهايم ۱ |
ثم بعد ذلك سكت ولم يتفوّه بشيء، وصلّى عدّة ركعات في ذلك الظلام، إلى أنّ انبلج بياض الصباح، عندها قام وصلّى واشتغل بالتعقيبات والذكر والتفكّر الخاص به إلى أن أشرقت الشمس، وبعد ذلك قام وخرج من المسجد. وقد كنت تمام تلك الليلة مستيقظاً ولم آت بأيّ عمل من أعمالي، بل بقيت مبهوتاً ومنشدّاً إليه.
وعندما أردت الخروج من المسجد، سألت رئيس الخدَمة هناك والذي كانت غرفته خارج المسجد في الضلع الشرقي، وقلت له من هو هذا الشخص؟! هل تعرفه؟
فقال: نعم! هذا الشخص اسمه السيد أحمد الكربلائي، يأتي إلى المسجد في بعض الليالي التي لا يأتي المسجد فيها أحد، وهذا هو حاله ووضعه كما شاهدته الليلة.
بعد ذلك عدت إلى النجف وذهبت إلى الأستاذ الشيخ علي محمد وجلست معه، وذكرت له ما شاهدته لحظة بلحظة. عندها قام وأخذ بيدي وقال تعال معي! فذهبت معه، إلى أن دخل الأستاذ منزل السيد أحمد ووضع يدي في يده وقال: من الآن فصاعداً سيكون هو مربّيك الأخلاقيّ وأستاذك العرفاني، ويجب عليك أنّ تأخذ دستورك منه وان تتّبعه في ذلك.۱
التوجّه إلى ظاهر الإمام عليه السلام يمنع النفس عن إدراك سرّ الولاية
يعلم من هذه الحكاية أمور:
أوّلاً: مدى ما لأساتذة العرفان والتوحيد حضور في هذه الأماكن التي تكشف عن تعلّقهم بالإمام بقية اللـه أرواحنا فداه، وكم هو اهتمامهم وكم هي رغبتهم في الإتيان إليها، وكم كانوا يدعون تلامذتهم ويحثّونهم على الذهاب إليها.
ثانياً: لم يكونوا يرون وقتاً خاصّاً للذهاب إلى هذه الأماكن، كما هو الحال في سائر الأشخاص الآخرين الذين يرون الذهاب في ليالي الأربعاء لرؤية الإمام. بل يعتبرون أنّ نفس الحضور في هذا المكان المقدّس هو مَغْنم لهم، لا أنّ المَغْنم هو الحضور في وقت خاص للفوز بالرؤية الظاهريّة.
ثالثاً: أنّ مقصود هؤلاء العلماء ومرادهم من الحضور هو التقرّب الباطني والأنس المعنوي، وهدفهم من ذلك مناجاة حقيقة هذا الإمام، وخلوة النفس والسر والروح به، لا مجرّد الزيارة الظاهريّة والصوريّة، لذا فهم يختارون الأوقات التي يكون فيها المسجد خالياً من الناس، ولا يوجد فيه أيّ شخص يمكن أنّ يزاحمهم في شغلهم وذكرهم وفكرهم.
لقد خصّص المرحوم الوالد رضوان اللـه عليه طوال مدّة إقامته في النجف الأشرف أغلب ليالي الخميس للمبيت في مسجد السهلة؛ لأنّ ليالي الأربعاء كانت ليالي درس وتحصيل، والذهاب إلى مسجد السهلة فيها سيؤدي إلى تعطيل الدروس في ليلة ويوم الأربعاء، هذا فضلاً عن أنّ المسجد في ليالي الأربعاء كان يغصّ بالزائرين الذين كانوا يأتون للتشرّف الظاهري بمحضر الإمام عليه السلام، ممّا كان يسبّب مانعاً من حصول الخلوة وجمع الخواطر وتركيز الفكر والاستفادة بشكل أكبر.
وكثيراً ما كان المرحوم السيد الحداد رضوان اللـه عليه يتشرّف بالذهاب إلى مسجد السهلة في أوقات مختلفة لاكتساب الفيض منه. وكان أستاذه المرحوم السيد القاضي قدس اللـه سرّه يذهب لمدّة طويلة إلى مسجد السهلة إلى أن فتح اللـه عليه، ووصل إلى إدراك حقيقة ولاية الإمام صاحب الأمر.
وبناء عليه فالسرّ في أنّ الأولياء الإلهيين يتوجّهون في كلماتهم نحو إدراك كُنْه الولاية وحقيقة معرفة الإمام عليه السلام، هو أنّ التوجّه إلى ظاهر الإمام وسَوْق الناس نحو رؤيته الظاهريّة والتشرّف الصوَريّ والماديّ باللقاء به، يحجب النفس عن إدراك فيض الحقيقة وسرّ عالم الولاية، ومن هنا كانت النفس الانسانيّة بعيدة جداً عن حقيقة عالم الوجود، والعوالم التي هي فوق عالم الصورة والمثال؛ لكونها تأنس بعالم الصوَر والظواهر وتألف عالم التخيّل والتوهّم، أكثر من أنسها وألفها بعالم الملكوت وجهاته العقلانيّة، ومن جهة أخرى لانغمارها في الكثرات وغرقها في التوهّم والخيال. لذا كان شوق هذه النفس ورغبتها منصبّاً نحو الأمور الصوَريّة والمثاليّة، ومنجذبة نحو خوارق العادات والأمور المحسوسة الباهرة للعيون والمختلطة بالجاذبات الصوريّة أكثر بكثير من رغبتها وانجذابها نحو الأمور الملكوتيّة والمعنويّة والعقلانيّة والنورانيّة والحقائق المعنويّة الخالصة والخالية عن الصوَر. لهذا السبب كان همّ أهل التوحيد وغمّهم منصباً على بيان الربط والاتصال بمبدأ الولاية، على أساس محور المعرفة الباطنيّة وإدراك عوالم نفس صاحب الولاية، لا على أساس محور المشاهدة والرؤية الظاهريّة. من هنا لم يكن يؤتى أبداً في مجالس المرحوم السيد الحدّاد والمرحوم الوالد قدس اللـه سرّهما على ذكر الرؤية الظاهريّة لإمام الزمان أرواحنا فداه، فلم يذكر العبد (الكاتب) أنّه سمع منهم في تمام عمره كلاماً عن رؤية الإمام، أو أنهم كانوا يشجعون تلامذتهم ويرغّبونهم لزيارته، أو أنهم كانوا يعطونهم دستوراً وذكراً وبرنامجاً كي يتيح لهم التشرّف بخدمة هذا الإمام.
وعندما تشرّف الحقير بمعيّة والده المعظم بزيارة العتبات العالية في العراق، بعد العودة من السفر إلى حج بيت اللـه الحرام، قلت يوماً للمرحوم السيد الحداد روحي فداه: ما هو الدستور الذي تعطيه للتشرّف بلقاء الإمام صاحب الأمر؟
فقال لي: أنّ المقصود الأصلي والمقصد الأساس هو إدراك ولاية هذا الإمام ومعرفة حقيقته، وإلا فمجرّد الرؤية الظاهريّة للإمام عليه السلام بدون التوجّه إلى هذا المقصود وهذا الهدف لا يفيد شيئاً، لكن مع ذلك فإذا أردت أيضاً أنّ يحصل لك التشرّف بالرؤية الظاهريّة للإمام، فاعمل بهذا الدستور لمدّة عشرين ليلة، وبعدها سوف ترى الإمام. وبما أنّ الحقير لم يكن يرى نفسه لائقاً بإدراك حضور الإمام والتشرّف برؤيته، فلم أقدم على ذاك العمل، ووكّلت أمر نفسي إلى صاحب الولاية؛ {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أن هَدَانا اللـه}.۱
الإمام هو المرآة التامة للحق
ينقل المرحوم الوالد في الجزء الخامس من كتاب معرفة الإمام مطالب مهمة جداً حول هذا الموضوع، ونحن ننقلها هنا بذاتها:
إنّ الوجود المقدّس لبقية اللـه عجل اللـه تعالى فرجه مرآة تامّة الظهور للحق تعالى، وينبغي أنّ نرى الحق في تلك المرآة لا أنّ نراها، لأنّها لا ذاتيّة لها، ولا يمكن أنّ نرى الحق بلا مرآة، لتعذر رؤيته بدونها. وعلى هذا الأساس فلا بدّ من البحث والتنقيب عن الحقّ تعالى والسعي نحوه عن طريق وليّه الأعظم ومرآته وآيته.
إنّ المخاطب في الأدعية والمناجاة هو اللـه عن طريق ذلك الإمام وسبيله وصراطه، ولهذا فلو عرضنا حاجتنا على الإمام نفسه وجعلناه المخاطب، فلا بدّ أنّ نلتفت إلى أنّه لا يتّخذ طابعاً استقلالياً، ولا يتقمّص الاستقلال، بل له عنوان الوساطة والمرآتيّة والآيتيّة، ولنعش هذا المعنى في أذهاننا باستمرار ولنأخذه بعين الاعتبار. وسنكون في عملنا هذا قد جعلنا اللـه -في الحقيقة- هو المخاطب، لأنّ المرآة بما هي مرآة لا تقبل النظر الاستقلاليّ، بل النظر التبعيّ ويرجع النظر الاستقلاليّ إلى نفس الصورة المنعكسة فيها.
وهذه المسألة من أهم المسائل في باب العرفان والتوحيد، إذ أنّ كثرات هذا العالم لا تتنافى مع وحدة ذات الحق، وذلك لأنّ الوحدة أصليّة والكثرات تبعيّة وظلّية ومرآتية، وتستبين مسألة الولاية جيداً في أنّ حقيقة الولاية هي نفس حقيقة التوحيد، وقدرة الإمام وعظمته وعلمه وإحاطته، هي عين قدرة الحقّ تبارك وتعالى وعظمته وعلمه وإحاطته، فلا اثنينيّة في البين، بل لا معنى للطلب من اللـه بلا واسطة الإمام ومرآتيّته، كما أنّ الطلب من الإمام مستقلاً لا معنى له بدون عنوان الوساطة والمرآتيّة لذات الحقّ المقدّسة أيضاً. والطلب من الإمام واللـه شيء واحد في الحقيقة، وليس شيئاً واحداً في اللفظ والتعبير فقط، ومن الوجهة الأدبيّة والبيانيّة فحسب، بل هو شيء واحد من منظار الحقيقة والواقع، وذلك لأنّه لا شيء في الوجود غير اللـه؛ {تَبَارَكَ اسْمُ رَبّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإكْرَامِ}۱.
لقد أخطأت هاتان الطائفتان (الوهابيّة والشيخيّة)، لأنّنا إذا رفعنا عنوان المرآتيّة عن الممكنات سواء كانت ماديّة أو مجرّدة، أو أنّنا أضفينا عليها عنوان الاستقلال، فقد أخطأنا في كلتا الحالتين. والصواب هو لا هذا ولا ذاك، بل الموجودات لها أثر الحقّ وهي صاحبة صفات الحقّ، وهي مظاهر ومجالي ذاته وأسمائه الحسنى وصفاته العليا.
إنّ مذهب الوهابيّة يميل إلى الجبر، ومذهب الشيخيّة يميل إلى التفويض، وكلاهما على خطأ؛ بل أمر بين الأمرين ومنزلة بين المنزلتين. وذلك هو إشراق نور ذات الحق الأقدس في الكثرات الماديّة والمجرّدة.
ينكر مذهب الوهابيّة قدرة الحقّ وعلمه في الموجودات، كما ينكر مذهب الشيخيّة قدرة الحق وعلمه في نفس ذاته، فكلاهما قال بالتعطيل، وكلاهما ضلّ السبيل.
إنّ وجود الحجّة بن الحسن أرواحنا فداه هو الظهور الأتمّ للحقّ تعالى، وهو التجلّي الأكمل لذات ذي الجلال، والغاية هو اللـه، والإمام دليل مرشد إليه. ونحن إذا نظرنا في توسّلاتنا إلى الإمام باستقلال وأردنا لقاءه بشكل مستقلّ، فلا نكون قد ظفرنا بفيضه ولا نكون قد ظفرنا بلقاء اللـه وزيارة المحبوب.
أما فيضه فلا نبلغه؛ لأنّ وجوده ليس مستقلاً. ونحن قد ذهبنا وراء وجود استقلاليّ، وأما لقاء اللـه فلا نظفر به لأنّنا لم نتوجّه إلى اللـه، ولم نر اللـه في الإمام.
ولهذا فإنّ أغلب الذين يذوبون في عشق وليّ العصر والزمان، وحتى لو أفلحوا في زيارته، فإنّهم أيضاً لا يتجاوزون الأهداف البسيطة والجزئيّة، والحوائج الماديّة والمعنويّة. ومن هذا المنطلق فإنّهم لم ينظروا إلى الإمام على أنّه مرآة الحق وآيته، وإلا فإنّهم ينبغي أن يروا اللـه بمجرّد الرؤية والزيارة، ويظفروا بوصال الحق عن طريق وصال الإمام، لا أن يكون الإمام حجاباً بينهم وبين الحق تعالى، فيرجونه قضاء حوائجهم الدنيويّة وغفران ذنوبهم وإصلاح أمورهم.
وما أكثر الذين تشرّفوا بالحضور عنده وعرفوه، لكنهم لم يحترزوا من عرض مثل هذه الحاجات، فطلبوا هذه الأشياء! فلم يعرفوه حقاً لأنّ معرفته هي معرفة اللـه؛ من عرفكم فقد عرف اللـه.
ومن رام التشرّف بخدمته، فعليه أن يزكّي نفسه وينشغل بتطهير سريرته، وفي هذه الحالة يبلغ لقاء اللـه الذي يتطلب لقاء الإمام، ويصل إلى لقاء الإمام الذي يعني الظفر بلقاء اللـه بالملازمة، حتّى لو لم يتشرّف في العالم الطبيعي الخارجي بالرؤية الحسّيّة لجسم الإمام.
فالركن الأساس في العمل هو معرفة حقيقة الإمام، لا التشرّف برؤية جسمه الماديّ الطبيعيّ. وما يظفر به من التشرف بالحضور الماديّ والطبيعيّ هو هذا المقدار اليسير من الرؤية فحسب. بيد أنّ ما يظفر به من التشرف بمعرفة حقيقته وولايته هو خلوص سريرته وطهارتها، والحظوة بلقاء المحبوب؛ اللـه القادر المتعال؛ {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}.۱
وممّا يؤثَر عن العلامة بحر العلوم قدّس اللـه نفسه أنّه قضى عمراً في مجاهدة النفس الأمارة وتزكية السريرة وتطهيرها وذلك للتشرّف بالعرفان الإلهي وبلوغ مقام المعرفة والفناء والاندكاك في ذات الحق، ومقامه في مراحل العرفان ومنازله مشهودة من رسالته في السير والسلوك. وكان يتشرّف بخدمة الإمام عبر هذا المنظار؛ منظار رؤية الحق وهو اللـه تعالى، لا منظار رؤية النفس.
حق بين نظري بايد تا روي تو را بيند | *** | چشمي كه بود خودبين كي روي تو را بيند؟ |
۱ونقل عنه أنّه كان مشغولاً ذات يوم بقراءة النصّ الموجود على باب الحرم الحسينيّ الشريف المتعلّق بإذن الدخول للتشرّف بزيارة سيد الشهداء عليه السلام، وما إن هَمّ بالدخول حتى وقف فجأة، وكان يحدّق النظر إلى زاوية من زوايا الحرم المطهّر، وظلّ على وقفته برهة وهو يترنّم بهذا البيت:
چه خوش است صوت قران ز تو دلربا شنيدن | *** | به رخت نظاره كردن سخن خدا شنيدن٢ |
- لا بد أنّ ننظر من منظار الحق كي نرى وجهك (الشاعر يخاطب اللـه تعالى) فانى للعين التي لا ترى إلا نفسها أنّ تراك؟!
وبعد ذلك سألوه عن سبب توقّفه، فأجاب: كان الإمام المهدي عجّل اللـه تعالى فرجه جالساً في تلك الزاوية وهو يتلو القرآن.
هذا هو معنى الوصول وهذه هي حقيقة الآيتية والمرآتية. وما علينا إلا أنّ نسعى جاهدين لترسيخ اعتقاداتنا وتشييد صرحها على أساس أصالة الواقع بأحسن وجه.٣
وظيفتنا في زمان الغيبة: التهيّؤ لا التوقيت
والحاصل أنّ الكلام في زمان ظهور الإمام وتعيين وقت ظهوره، والاشتغال بذكر المنامات والمكاشفات والأمور الخارقة للعادة، يعتبر من هذه الجهة، مخالفاً تماماً لمدرسة أهل البيت عليهم السلام والطريق المستقيم للأولياء الإلهيّين والمسير القويم للعرفاء باللـه. ففي مدرسة التشيّع يعتبر ظهور الولاية في نفس الانسان على قدر كبير من الأهميّة والاعتبار، وليست الأهمّية منصبّة على مجرّد الظهور الظاهريّ والصوَريّ للإمام عليه السلام. والذي ورد التأكيد عليه في الروايات المنقولة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام، هو مسألة الانتظار والتهيّؤ الروحيّ والاستعداد لإدراك الظهور، ومن دون تحصيل حالة الاستعداد الروحيّ والوصول إلى مرحلة الانقياد والتعبّد والطاعة الخالصة لولي الزمان .. فما هي الفائدة التي سوف نستفيدها من ظهوره؟ فهل ظهوره أهمّ من ظهور النبيّ الأكرم؟ لقد رأينا ماذا فعل الناس في زمن الرسول الأكرم معه، وأي جناية ارتكبوها بحق ذرّيته، ورأينا كيف أدّوا حقّ الرسالة وحفظوا أمانة الرسول!
نعم! ما هو مسلّم من مسألة الظهور هو أنّ الحكومة ستكون حكومة عدل وإنصاف، ولن يكون لأحد الجرأة في التعدّي والتجاوز على حريم الآخرين، وأنّ الجميع ـ في أيّة مرحلة كانواـ سوف يصلون إلى تلك الفعليّة، وإلى تلك النقطة التي اختاروا الوصول إليها دون أيّ رادع أو مانع من ذلك. وأمّا ما يتصوّر من أنّه بظهور الإمام سوف يصل جميع الناس إلى مرتبة الكمال، وسوف يصلون ـ بشكل اختياري أو غير اختياري ـ إلى تحقيق الجهات المفقودة في وجودهم، وأنّ استعداداتهم ستصل إلى فعليّتها .. فهذا خلاف العدل الإلهي، وهو مغاير لموازين عالم التربية والتشريع، ولن يحصل مثل هذا الأمر أبداً.
ينقل عليّ بن إبراهيم عن الحسين بن خالد عن الإمام الرضا عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام، أنّه خاطب ولده الإمام أبا عبد اللـه الحسين عليه السلام، وقال له:
التّاسِعُ مِن وُلدكَ يا حسين هو القائمُ بالحقِّ المُظهرُ للدّينِ والباسطُ للعَدلِ. قال الحُسين عليهالسّلام: فقلت له يا أمير المؤمنين: وإنّ ذلك لكائنٌ؟ فقال عليه السلام: أيّ والذي بَعثَ محمّداً صلى اللـه عليه وآله بالنُبوّةِ واصطَفاهُ على جميعِ البريّةِ! ولكِن بعد غيبَةٍ وحَيرَةٍ فلا يَثبتُ فيها على دينهِ إلاّ المُخلصونَ المباشرون لِروحِ اليقينِ، الذين أخَذ اللـه عزّ وجلّ ميثاقَهم بولايَتنا وكتبَ في قلوبِهم الإيمان وأيَّدهم بروحٍ منهُ.۱
تعتبر هذه الرواية أصحاب الإمام عليه السلام هم المخلصين والمصطفين من الشيعة، دون أيّ شخص آخر، وقد بشّر هؤلاء فقط ببشارة إدراك حقيقة الولاية.
وفي رواية أخرى عن عبد العظيم الحسنيّ عن محمّد بن عليّ بن موسى عليه السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليهم السلام، يقول فيها:
للقائم منّا غيبة أمدها طويل، كأنّي بالشيعة يجولون جوَلان النعم في غيبته، يطلبون المرعى فلا يجدونه، ألا فمن ثبت منهم على دينه ولم يقسُ قلبه لطول أمد غيبة إمامه فهو معي في درجتي يوم القيامة.٢
تعيين وقت الظهور يدخل الناس في عالم الوهم والخيال
فهل الاشتغال بمسألة الظهور وإشغال الناس بهذه الأمور توصلهم إلى هذه الدرجة من الإيمان؟ فما هي الفائدة التي تحصل من جلوسنا مع الناس ومحادثتهم عن الظهور، وأنّ الإمام سيظهر في السنوات العشر القادمة أو أنّه سيظهر بعد عشر سنوات .. فأي فائدة في ذلك سوى أنّه يوجب ابتهاج الناس بشكل مجازي وفرحهم وسرورهم الاعتباطي وإضاعة وقتهم بهذا الكلام؟
ألم يقل الأئمّة عليهم السلام: كذب الوقّاتون!۱ فلا يمكن لأحد أنّ يحدّد وقتاً وزماناً لظهور الإمام. وعندئذٍ! كيف يمكننا أنّ نتجرّأ ونخبر الناس الساذجين -رجماً بالغيب- بمسألة يختص العلم فيها باللـه تعالى وبوَليّه، ونجعلهم يعيشون حالة الفرح الوهميّ بذلك، ونخفي عنهم تلك الحقيقة العالية وذاك الواقع الراقي، ولا نحدّثهم عن شيء من ذلك أبداً. فماذا سيفيدنا الكلام عن ظهور الإمام في حالة عدم وجودنا في ذاك العصر وعدم بقائنا إلى ذاك الزمان؟ أوَهل اطلعنا على مدّة حياتنا التي سنحياها حتى نُفرح قلبنا بإدراك عصر ظهوره، ونفني عمرنا في حالة انتظاره؟ هذا كلّه فيما إذا كانت هذه الأخبار وهذه الأحاديث صحيحة ولم ينكشف لنا حصول المسألة بشكل آخر.
لقاء مع أحد الوقاتين
منذ بضعة سنين تشرّف الحقير بمعيّة أحد الأصدقاء لزيارة السيدة المعصومة سلام اللـه عليها في قم، وفي أثناء الزيارة قال لي ذلك الشخص: أرغب بزيارة فلان العالِم الذي ينسب إليه إلمامه بمسائل ظهور الإمام، ولديه مطالب عن علاقته بهذا الإمام، فهل ترغب في الذهاب معي للقائه؟ فقلت له لا مانع لديّ من ذلك، لكن إعلم أنّ ما تبحث عنه أنت لن تجده هناك. وفي نهاية المطاف، وبعد إصرار هذا الصديق ذهبنا لزيارة ذاك الشخص المحترم، وكان الوقت في الصيف والهواء حاراً جداً. وعندما وصلنا إلى منزله كانت الساعة بحدود السادسة بعد الظهر، فطرقنا باب المنزل فأتى نفس ذلك العالِم المحترم وفتح لنا الباب، فسلّمنا عليه وطلبنا منه إذناً بملاقاته. فأجاب ـ وقد بدت على وجهه ملامح التعب من أثر حرارة الصيف وتأذّيه من شدّة لهيبه ـ: يمكنني استقبالكم لمدة خمس دقائق فقط، فقلنا له: لا إشكال في ذلك، عندها دخلنا المنزل وجلسنا، وبدأ بعدها بالحديث .. فتحدث عن المكاشفات وعن الأمور الحاكية عن تعيين زمان الظهور لمدّة ساعتين تقريباً! وفي هذه الأثناء كان أشخاص آخرون قد التحقوا بمجلسنا، حتى صار المجلس يحتوي على عشرة أشخاص تقريباً. ثم بعد إتمام كلامه نظرت إليه وقلت له: إذا سمحتم لديّ سؤال أريد أنّ أطرحه عليكم، فقال تفضّل! فقلت: لقد مضى ما يقرب من ساعتين ونحن في محضرك، وكان الكلام في جميع هذه المدّة عن زمان الظهور، وعن نقل المكاشفات والمنامات وبيان بعض الأحداث غير العاديّة المرتبطة بهذا الموضوع، والسؤال هو: هل لديك دليل على صحّة وصوابيّة هذه المنامات والمكاشفات أم لا؟ فقال: لا ليس لديّ علم، فقلت له: إذن على أيّ أساس وبأي دليل شرعي تذكر هذه الأمور للناس؟ فهل من الصحيح أنّ تحدّث الناس بصفتك عالماً دينياً بمطالب والحال أنّك لست مطمئنّاً بصحّتها؟ بل حتى على فرض صحّة هذه المنامات والمكاشفات، فهل ترى أنّ نقل هذه الأمور يعتبر مورد رضا الأئمّة عليهم السلام وممضى من قبلهم؟ وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يعيّن نفس الأئمّة وقتاً خاصّاً لظهور الإمام؟ كأن يقولوا مثلاً أنّ ظهور الإمام سيكون حتماً في السنة الكذائيّة وفي الشهر الفلاني واليوم الفلاني، فلماذا لا يوجد مثل هذا المطلب، ولماذا اكتفوا بذكر العلامات الكليّة فقط؟
عند ذلك أجابني: لعلّ المصلحة كانت تقتضي بأن لا يعيّن الأئمّة وقتاً دقيقاً لهذه المسألة. فقال له الحقير: ألا تقتضي تلك المصلحة أيضاً أنّ لا تعيّن أنت وقتاً لها؟ بل تدع الأمور تجري وفق مجراها الطبيعيّ وتستمرّ على هذا المنوال؟ فإنّك قد اعترفت الآن بأنّه لا علم لديك بصحّة هذه الأمور التي تنقلها أو عدم صحّتها!
عند ذلك سكت هذا العالم ولم يتكلّم بعدها بشيء، فقمنا بدورنا بوداعه والخروج من منزله.
وبعد الخروج من المنزل، نظر إليّ ذلك الصديق الذي كان مشتاقاً جداً لزيارة هذا العالم وقال لي: الآن أدركت كم هو كبير حقّ أبيك علينا، وأنّنا غافلون عن ذلك؛ أين هو وأين هؤلاء؟ وأين كلامه وأين مطالب هذه الجماعة؟ وأين هدايته وإرشاده وأين مسائل هؤلاء وتعاليمهم؟ فالإنسان ما لم يطّلع على بعض الأمور بنفسه ويراها بعينه، لا يحصل له التصديق بها.
عند ذلك نظرت إلى ذاك الرجل وقلت له: لقد خجلت أن أقول لذاك العالم المحترم: أنّ نفس الحقير قد سمع منك تعيين وقت محدّد لظهور الإمام، وقد مضى حتى الآن سنين من ذلك التاريخ المعيّن ولم يحصل شيء، فهل هذا الأمر صحيح؟ أليس لدينا مطالب أخرى حتى نأتي ونشتغل بهذه المطالب؟ ونترك الناس حيارى تائهين في عالم التخيّل والأوهام، ونضيع أعمارهم وأوقاتهم بانتظار المواعيد التي نخبرهم بها تخيّلاً من دون أساس؟ وعندما يتخلّف وقت الظهور عن الموعد المضروب، نقول للناس لقد حصل البداء في ذلك، فنقوم مرّة أخرى بتعيين وقت آخر، ويحصل بداء آخر وهكذا ...
عزيزي! لم يحصل بداء ولم يتغيّر شيء، إنّما الذي حصل هو انكشاف جهل هؤلاء الأشخاص وثبت عدم اطلاعهم. فمن الذي طلب منك -أيها العالم- أن تدخل في بيان هذه الأمور التي لا علاقة لك بها، وتترك خلقاً كبيراً من الناس في حيرة من أمرهم وفي دوّامة لا نهاية لها؟ كذلك حصل أمر شبيه بذلك أيضاً مع شخص آخر وعالم آخر في إحدى المدن الإيرانيّة، حيث وعد الناس أنّه بعد انتهاء حرب ستندلع في هذه المنطقة، سوف يظهر الإمام، وعندما ثبت خلاف ذلك، قال: لقد حصل البداء في ذلك وانتقل موعد الظهور إلى وقت آخر. والعجيب من هؤلاء الناس العوام الذين لا تدبّر لهم ولا إدراك؛ حيث لا يزالون حتى الآن يأنسون بمثل هذا الكلام، ولا يزالون يصغون لحديث هؤلاء. وهؤلاء العوام وإن كان قد ثبت لديهم كذب كلام هؤلاء الأشخاص وثبت خلاف ما يدّعونه، فإنّهم مع ذلك لا يكفّون عن الإصغاء إليهم ولا يبتعدون عنهم!۱
موانع الحضور والظهور ترتفع من خلال المعرفة الحقيقية بصاحب الولاية
إنّ المطلوب في مدرسة العرفان هو الوصول إلى كُنْه الإمام لا ظهوره، فمعرفة نفس الإمام معرفة واقعيّة هي محل البحث وأساس الأمر في هذه المدرسة، لا الرؤية العاديّة والصوريّة له. وعلى هذا الأساس، فالإنسان الذي يتقدّم ويصبّ توجّهه نحو حقيقة الإمام عليه السلام وباطنه ويجعل روحه فانية في روح الإمام، ويجعل قلبه فانياً في قلب الإمام، ويطوي شيئاً فشيئاً مراتب التجرّد والتزكية؛ الواحدة تلو الأخرذى من خلال تطبيق أموره ووظائفه وتكاليفه الخاصّة هو الذي يصل إلى مرتبة اليقين والشهود ويحصل له الاندكاك والمحو والفناء في ذات صاحب الولاية ونفسه.
من هنا نرى أنّ نفس الإمام عليه السلام في خطابه للشيخ المفيد يقول:
ولو أنّ أشياعنا وفّقهم اللـه لطاعته على اجتماع من القلوب في الوفاء بالعهد عليهم (فيما يتعلق بولايتنا والاهتمام بها واتّباعها) لما تأخّر عنهم اليُمْن بلقائنا، ولتعجّلت لهم السعادة بمشاهدتنا على حقّ المعرفة وصدقها منهم بنا، فما يحبسنا عنهم إلا ما يتّصل بنا ممّا نكرهه ولا نؤثره منهم.۱
يوضّح الإمام في هذا الخطاب أنّ علّة حرمان شيعته من زيارته ومشاهدته هو عدم اهتمامهم بالتكاليف الشرعيّة وارتكابهم للأمور المنهيّ عنها، حيث إنّها موجبة لسلب توفيق زيارة الإمام عليه السلام وحضوره. وإذا وصل هؤلاء إلى المعرفة الحقيقيّة لصاحب الولاية ونالوا هذه الرتبة فلن يكون هناك أيّ رادع أو مانع من اكتسابهم الفيض من محضر الإمام عليه السلام.
والحديث في هذا المجال واسع جداً، لذا نوكل تفصيل الكلام فيه إلى وقت آخر بحَول اللـه وقوّته.٢
[ملاحظة: انتخب هذا البحث من برنامج «إكسير السعادة»، كتاب أسرار الملكوت الجزء الثاني، المجلس الحادي عشر، لمؤلّفه سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني حفظه اللـه، وتمت مطابقته مع المتن الفارسي للكتاب من قبل الهيئة العلميّة]