7

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات

شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

488
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةشرح دعاء الافتتاح

التاريخ 1397/09/16

جلسات المجموعة(10 جلسة)

التوضيح

بيّن سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدّس الله نفسه) أنّ الاعتدال والكمال في الصفات يكون بالجمع بينها، وغير ذلك نقص ظاهر؛ فالعِلم دون الحلم نقص، والقدرة دون العفو نقص، والشجاعة دون الحكمة نقص، والغضب دون الصبر نقص، فـ «الحَمْدُ للهِ عَلى حِلْمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلى عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ، وَهُوَ قادِرٌ عَلى ما يُرِيدُ»، وبذلك بيّن هذه الفقرات مِن دعاء الافتتاح. ثمّ بسط البحث في إعجاز الله تعالى وإبداعه في خلقه وكيفيّة رزقه، وكيف أنّ خلقه وإبداعه ورزقه يشمل جميع الموجودات دون استثناء؛ فالخَلْق أعمّ مِن عالَم الخَلْق وعالَم الأمر، والرزق مائدة بُسِط فيها كلّ شيءٍ لكلّ شيءٍ دون استثناء.

/۱۳
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات

  •  

  • شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ 

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين

  • ولعنة الله على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • «الحَمْدُ للهِ عَلى حِلْمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلى عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ، وَالحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ، وَهُوَ قادِرٌ عَلى ما يُرِيدُ».

  • العالِم الحقيقيّ هو مَن قرن علمه بالحلم

  • إنّ الجمع بين الحِلم والعِلم هو أصلًا مِنَ الأمور الصعبة جدًّا، إذ نادرًا ما يكون المرء عالِمًا، وفي الوقت نفسه صابرًا متحمّلًا، لأنّ وِفرة وفوران العِلم وبصيرة الإنسان لا تسمح له بتحمّل الجهل الّذي يراه في الواقع ويصبر عليه، فتراه يُقدِم على سحقه وإزالته مِنَ الوجود فورًا.

  • فلمّا كان معظم الأطباء والحكماء القدامى، مِنَ العلماء والمتبحّرين في مِهَنِهم، كانوا يصيحون في وجه المريض بمجرّد أن ينطق أمامهم كلمتين.

  • رحم الله عجائز الأزمنة الماضية، فعندما كان يعاني أحد مِن وجع المعدة أو الظهر أو الأسنان، كُنَّ يقلنَ له: تناول شيئًا مِن شراب الزعتر أو ورد لسان الثور المغليّ بالماء، وسوف يزول عنك ألم المعدة، وهذا ما كان يحصل بالفعل.

  • كان الناس يعكفون على دراسة العلوم الدينيّة في قديم الأيّام، ليصلوا إلى مقام الكمال، ومِن أجل ذلك كانوا ينتخبون إحدى اختصاصاتٍ ثلاثة: فالبعض يسلك مسلك التعليم والترويج لمباني الدين الحنيف والروحانيّة والاجتهاد، والبعض يسلك مسلك الطّب، أمّا مَن لم تكن قواه العقليّة تعينه للعمل في مجال الطبّ فكان يسعى للكسب ببيع الكتب.

  • كان الأطبّاء يواظبون على دروسهم، وكانوا أذكياءً حقًّا، فكانوا يُجدّون في دراسة كتب (القرابادين الكبير)۱ و (تشريح الأعضاء) و (تحفة الحكيم المؤمن) و (الخمسة اليونانيّة) وغيرها مِنَ الكتب المؤلَّفة في مجال الطبّ. نعم، كانوا مُجدّين في عملهم ويبذلون الكثير مِنَ الجهد في ذلك، حتّى يصبحوا مِن أهل الاطّلاع والنظر والخبرة في عملهم، وكان عملهم لله لا للكسب والشهرة. نحن لم نعاصر أبناء ذلك الزمان، غير أنّ آباءنا وأمّهاتنا وأقاربنا ينقلون لنا الكثير عنهم وعن مدى طيبتهم.

  • كان أبي يقول: كان في طهران طبيبٌ اسمه (الحكيم سقراط)، يسكن في نواحي منطقة (سرچشمه)، فحصلت مجاعة في طهران وانتشر فيها وباءٌ، فكان هذا الطبيب يركب حماره ويدور بنفسه على المرضى الّذين لا يستطيعون مراجعته. وفي أحد الأيّام كان لدينا مريضٌ، فجاءنا ذلك الطبيب قبل الغروب بقليل وقال: لقد عاينتُ ثمانية وتسعين مريضًا منذ الصباح حتّى الآن، وكان واحد أو اثنان منهم مهدّدين بالموت، أسال الله أن يشفيهم جميعًا. كان هؤلاء الأطباء يدورون على المرضى لمعاينتهم، وكانوا يتقاضون القليل مِنَ الأجر مقابل عملهم هذا، وإن وجدوا المريض فقيرًا فلا يأخذون منه أجرًا، بل كانوا يُقدّمون لبعض المرضى المُعدمين نقودًا ليشتروا بها الدواء، أو يعطونهم أدوية كانوا يحضّرونها بأنفسهم، وكان بعض الأطباء يُعطون المرضى نقودًا ليأكلوا بها.

    1. القرابادين هي كلمة معرّبة عن كلمة (qarābādin) اليونانيّة، وهو العِلم الّذي يهتمّ بدراسة خواصّ النباتات والأعشاب الطبيّة. [المترجم]

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

3
  • كانوا أطباء حاذقين، إذ بمجرّد أن يجسّوا نبض المريض يُخبرونه إن كان مصابًا بالحصبة أو السّل أو عِرق النسا أو تلف الكلية وما شابه ذلك. هم يقولون إنّ للنبض اثنين وثلاثين حالة، ويستطيعون أن يُشخّصوا المرض مِن خلال نبضات القلب، وإن استعانوا بشيءٍ آخر غير النبض كانوا يفحصون مقلة العين أو يسحبون الجفن إلى الأسفل [وينظرون فيه]، وإن أرادوا التدقيق أكثر في الحالة المرضيّة يُضيفون إلى ذلك معاينة اللسان، فما كانوا يفحصون البطن أو القلب بالسمّاعة وما شابه ذلك، نعم، لم يصل بهم الأمر إلى هذا الحدّ، إذ كان المرض يتشخّص عندهم [بتلك المعاينات الأولى فقط]. هذه كانت طريقة معاينة الرجال، أمّا بالنسبة للنساء فكانوا يعتمدون على جسّ نبضهنَّ فقط، ولم يكن الطبيب ينظر إلى فم المرأة أو عينها أبدًا.

  • كان في طهران طبيبٌ يُسمّى دكتور نفيسي – لقد كانا أخوين [مِن هذه العائلة]، وسمعتُ بوفاة أحدهما، وكان أحدهما طبيبَ أطفالٍ باسم أبو القاسم – واسم أبيه (مؤدِّب النفس) وجدّه (ناظم الأطبّاء). كان لهذا الطبيب عيادةٌ في زقاق (ناظم الأطبّاء) الواقع في نهاية شارع (سعدي) المؤدِّي إلى شارع (الكهرباء) بالقرب مِن تقاطعه مع شارع (الأمّة). كان طبيبًا حاذقًا، ألّف كتابًا في الطبّ وألّف قاموسًا باسم (قاموس نفيسي). يُقال إنّه كان في عيادته يجلس على جلد حيوانٍ، إذ لم يكن لديه كرسيٌّ أو أريكةٌ ليجلس عليها في ذلك الوقت، فيجلس على الأرض واضعًا أمامه القرآن على رحلٍ، ويفحص مرضاه الّذين يُراجعونه، ويقرأ القرآن في الوقت الّذي لا يكون عنده مريضٌ. وقد وضع في عيادته ستارةً، فيجلس الرجال على أحد جانبي الستارة فيفحص الطبيبُ يدَ الرجل أو لسانه ثمّ يكتب له العلاج اللازم، أمّا النساء فيجلسنَ في الجانب الآخر فتمدّ يدها مِن تحت الستارة، فيجسّ نبضها ويكتب لها العلاج، وكان الجميع يتعافى على يديه.

  • [أمّا في هذه الأيّام] فقد ابتلى اللهُ الناسَ بهذه الطُرق [المتّبعة حديثًا]! فلا قدّر الله أن يصل الجلد إلى يد الدبّاغ؛ فهم يُرهقون المريض بالفحوصات المكرّرة وصور الأشعّة لأجزاء الجسم المختلفة.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

4
  • كان لي صديق في قم قد راجع الكثير مِنَ الأطباء، وأخذوا له صور أشعّة لكافّة أجزاء جسمه، يقول: أتيت إلى طهران مرّة، فقال لي الطبيب: عليك أن تجلب صورة الأشعّة لهذا العضو مِن جسدك، فقلت له: لقد تمّ تصوير كافّة أعضاء جسدي باستثناء هذا العضو، وكانت جميع تلك الأعضاء سليمة، فلا بدّ أن يكون هذا العضو سليمًا أيضًا شأنه في ذلك شأن بقيّة الأعضاء، فقال الطبيب: لا بدّ مِن إجراء الصورة، حتّى يكون لك مجموعة كاملة مِن صُور الأشعّة.

  • أخذتُ يومًا مريضًا إلى أحد أطباء القلب المتخصّصين، فطلب الطبيب تخطيطًا لقلب المريض، وكانت كلفة التخطيط سبعين تومانًا، وأجرة المعاينة عشرين تومانًا، فيكون المجموع حينئذٍ تسعين تومانًا. فأجرينا التخطيط لقلب المريض، وذهبنا مرّة أخرى إلى الطبيب، فكرّر الطبيب طلبه لتخطيط القلب، فقلنا له إنّنا قمنا بالتخطيط في المرّة السابقة، فقال: ما دمتم قد عملتم تخطيطًا، فلا داعي لتكراره، ولكن لم يقل: أروني التخطيط لأصف لكم العلاج على ضوئه! هل لاحظتم؟!

  • كان الأطباء القدامى متديّنين، ولم يكن كسب المال هو الهدف مِن مزاولتهم لتلك المِهنة، ولهذا السبب لم يكونوا أثرياء. كان الأطباء في ذلك الوقت يمتلكون منازل كبيرة، تُخصّص الغرفة الخارجيّة منها لاستقبال المرضى، ويسكن أفراد عائلته في الغرف الداخليّة. لقد كانوا أطباء حاذقين، ولأنّهم حاذقون ولا يُمازحون الناس، كان الناس يلجؤون إليهم، حتّى إن أرادت المرأة أن تتكلّم معه وتوجع له قلبه كان يعنّفها قائلًا: لماذا لا تلتزمين بالعلاج الّذي كتبته لكِ؟! ولأنّهم كانوا واثقين بما يقومون به، كانوا يصيحون في وجه مَن يخالفهم.

  • عندما يقف الجاهل في مقابل العالِم، لن يستطيع العالِم أن يتحمّل جهله، لذا يحاول سحقه وتحطيمه. وما ذكرته لكم بشأن الأطباء القدامى، كان مجرّد نموذج، وإلّا فالأمر نفسه يجري في بقيّة الأصناف.

  • تكرّر في الروايات أنّ العالِم هو مَن يجعل علمه مقترنًا بالحلم، وتكرّر فيها أيضًا أنّ العلماء بالله هم الّذين كلّما ازداد علمهم ازداد صبرهم وازدادت قابليّتهم على التحمّل۱و٢ لا أنّ حلمهم يبقى على حاله عند ازدياد علمهم، فينظرون إلى كافّة الكائنات بعين الاحتقار! ويغضبون ويثورون ويتهجّمون على الآخرين بكلمات نابية! كلّا، إنّ العلماء بالله ليسوا كذلك.

    1.  الكافي، ج۱، ص٣٦.
    2. جاء في الكافي، ج۱، ص٣۷: عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان أمير المؤمنين عليه السلام يقول: «يا طالب العِلم، إنّ للعالِم ثلاث علامات: العِلم والحلم والصمت، وللمتكلّف ثلاث علامات: ينازع مَن فرقه بالمعصية، ويظلم مَن دونه بالغلبة، ويظاهر الظلمة».

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

5
  • العالِم الحقيقيّ يُسارع ولا يُعجّل

  • وصف أمير المؤمنين المتّقينَ لهمّامٍ قائلًا: «يَمزُجُ الحلمَ بالعلمِ»۱، أي إنّ العِلم بدون الحلم لا يعني شيئًا ولا يداوي داءً. وهنا [في دعاء الافتتاح يقول]: «الحَمْدُ للهِ عَلى حِلْمِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ»، إي إنّ الله مع علمه بما يقوم به عباده مِن أعمالٍ وذنوبٍ وخطايا وبما [يُضمرونه] مِن نوايا سيّئةٍ، إلّا أنّه لا يؤاخذهم ولا يحاكمهم على الفور ولا يُعجّل لهم العقوبة. إنّ العجلة مذمومة على العموم، جاء في الرواية: «العجلة مِنَ الشيطان»٢. على أنّ العجلة هي غير السرعة، فالسرعة ممدوحة عندما يتطلّب الأمر ذلك، إن كانت ضمن الحدود المسموح بها، أمّا العجلة فهي السرعة الّتي تتجاوز حدودها، وكلّ ما تجاوز حدّه فهو مذموم.

  • إنّ ما تسمعونه يتردّد على المآذن مِن قبيل: عجّلوا بالصلاة قبل الفوت، أو عجّلوا بالتوبة قبل الموت، هو كلام لم يَرِد في رواية مِنَ الروايات، بل هو مِن ابتكارات الناس. كما ترى البعض يكتبون فوق أبواب بعض المساجد: عجّلوا بالصلاة. والحال أنّه لم تَرِد هذه العبارة في رواية، بل جاء في القرآن ﴿وَسارِعُوا إِلى‌ مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقينَ﴾٣، فالمسارعة هنا تعني عدم التخلّف وتعني ضرورة عدم التأخير، فتجب المسارعة [بهذا المعنى]، غير أنّها سرعة يجبّ أن لا تتعدّى الحدود المسموح بها.

  • إنّ العالِم الّذي لديه عِلم فقط، [تراه] يعجل في إصدار الفتوى والقضاء بين المتخاصمين وفي إبداء رأيه، وذلك لأنّ تبحّره في العِلم لا يسمح له بالصبر قبل القضاء، فما إن يحضر المتخاصمان عنده تراه يحكم بينهما فورًا، الأمر الّذي قد يُسبّب الخطأ في الحكم.

  • الجوادُ قد يكبو والصارمُ قد ينبو٤، أي إنّ الحصان الجواد قد يكبو على الأرض، والسيف الحادّ قد لا يعمل أحيانًا؛ هذا هو وضع العالِم، فهو قد يكبو في بعض الأحيان، وقد ينبو في قضائه ورأيه. فإن أسرع الحصان سيُوقع نفسه والآخرين في خطر، وإن تأنّى في سيره سيصل ويوصل راكبه بسلام. ولهذا وجب أن يكون عدم التسرّع مِن صفات القاضي، فعليه أن يدرس قول الطرفين بدقّةٍ ويتأمّل في أقوالهما، ثمّ يحكم بينهما بالعدل مستعينًا بالصبر٥، فمِنَ الخطأ أن يعجّل في هذا الأمر.

    1.  نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص٣۰٥.
    2.  المحاسن، ج۱، ص٢۱٥.
    3. سورة آل عمران (٣)، الآية ۱٣٣.
    4. مثلٌ عربيّ معروف منذ القِدَم، ونسبه البعض إلى العلماء. (م)
    5. جاء في كتاب مَنْ لا يحضره الفقيه، ج٣، ص۱٣: وروي عن علِيّ عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: «إذا تقاضى إليك رجلان، فلا تقضِ للأوّل حتّى تسمع مِنَ الآخر، فإنّك إذا فعلت ذلك تبيّن لك القضاء».

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

6
  • إنّ الله على درجة كبيرة مِنَ الحلم، مع ما لديه مِنَ العِلم. فلو كان لدى الله عِلمٌ فقط – مع ما للعِلم مِن أهميّة لا ينكرها أحدٌ – كان عِلمه كافٍ ليؤاخذ العبد بمقتضاه، ولن يستطيع العبد أن يعترض على مؤاخذة الله له، لأنّ العبد عبدٌ لله وهو المولى، والمولى كان قد أصدر أمرًا ولكنّ العبد لم يطعه، فهو يستحقّ العقاب حينئذٍ؛ [وبالرغم مِن هذا] ولأنّ الله على تلك الدرجة العالية مِنَ الرِّفعة واللطف، فهو مع علمه بما يفعله العبد، يغضّ الطرف عن معصيته ولا يعتني بها، ويصبر عليه عسى أن يتوب ويتراجع مِن تلقاء نفسه عمّا كان عليه، وأن يُصحّح طريقه قبل أن يؤاخذه الله على ذلك.

  • إذن، فكون الحلم توأم العِلم هو مِن صفات الله وأنبيائه وأوليائه، وإلّا ليس كلّ عالِم حليمًا.

  • المقتدر الحقيقيّ يقرن قدرته بالعفو

  • «وَالحَمْدُ للهِ عَلى عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ»؛ مِنَ المعروف أنّ أصحاب القدرة ليسوا مِن أهل العفو والتسامح، فلو أنّ سارقًا دخل بيت أحد هؤلاء، لرأيتم كيف يُعطون الأمر بالقبض عليه وجلبه! نعم، إن لم يكن صاحب البيت رجلًا مقتدرًا لتعارك طبعًا مع اللصّ، وقد يضربه ويقول له: لماذا تريد أن تسرق منزلي؟! أمّا إن كان صاحب البيت مِنَ السلاطين والمقتدرين، سوف يُعاقِب اللصّ بأشدّ العقوبات، ويقول: خذوه وقطّعوه، فقد تجرّأ على دخول منزلي وسرقته. وهذا ما كانوا يفعلونه مع اللصوص في سابق الأيّام، فإن ظفروا بواحدٍ منهم، كانوا يقطّعونه قطعةً قطعةً.

  • يُقال إنّه في عهد المرحوم الحاجّ الشيخ حسن علِيّ الأصفهانيّ – وهو رجل معروف مِن سكّان مشهد ولمّا كثير التردّد على إحدى قرى مشهد المعروفة بقرية (نخودك) فلُقّب بالحاجّ حسن علِيّ النخودكيّ وإلّا لم يكن الشيخ مشهديّ الأصل بل كان أصفهانيًّا – حصل أن سُرق واحد أو اثنين مِنَ السجّاد الثمين لأحد أبناء الملوك الّذي كان يحكم أصفهان في ذلك الوقت، وهو (عين الدولة) على ما يبدو. فجاؤوا إلى الشيخ حسن علِيّ، الّذي كان مِن أصحاب الوِرد والدعاء والغيبيّات، وطلبوا منه أن يجد لهم السارق، فقال لهم الشيخ: أستطيع أن أجعل السارق يُعيد إليكم السجّاد، ولكنّني لن أخبركم مَن يكون، فلا أستطيع أن اذكر اسمه لكم. فقالوا له: بل عليك أن تفعل ما نقوله لك. فكرّر عليهم قوله بعدم إمكانيّة إخبارهم باسم السارق، فقالوا له: لا بأس بذلك، فاجعله يعيدها. وبعد فترة وجدوا السجّاد قد أُعيد إلى مكانه – والله أعلم بالطريقة الّتي أعاد بها الشيخ السجّاد إلى مكانه – وعندما رأى (عين الدولة) قدرة الشيخ في إعادة السجّاد الّذي سُرق مِن بيته، وأنّه أعادها مفروشة في مكانها السابق، أمر بإحضار الشيخ، وقال له: لا بدّ أن تخبرنا باسم السارق. فقال الشيخ: لن أفعل ذلك. فقال له: لن تفعل ذلك [حسنًا سترى]! فالتفت (عين الدولة) إلى الحرس والخدّام، وقال لهم: اضربوا الشيخ! هذا ما تعرّض له الشيخ ذو المقامات الرفيعة، غير أنّهم ما أن همّوا لضربه حتّى تصرّف الشيخ بما يمتلك مِن قوى باطنيّة – على ما يبدو – فتجمّدت أيديهم، كما أنّ (عين الدولة) نفسه تعرّض لوعكة صحيّة، فاستحى ممّا بدر منه واعتذر للشيخ، فخرج الشيخ مِن ذلك المكان عاقد العزم على مغادرة أصفهان وعدم البقاء فيها، فغادرها باتجاه مدينة مشهد، وصمّم على عدم العودة إلى مثل تلك الأعمال، مِن قبيل إيجاد المال المسروق، لأنّه إن وجده سيتعرّض للضرب والتعذيب حتّى يُخبرهم باسم السارق، ثمّ إنّ هذه الإخبارات هي عملٌ خاطئٌ في حدّ نفسه، كما أنّهم لا يستطيعون إقامة الحدّ الشرعيّ على السارق بقطع يده، لأنّه يجب أن يشهد أربعة شهود عدول أنّهم قد رأوا السارق وهو يسرق، والحال أنّ الشاهد العادل [وهو الشيخ في هذه الحادثة] لم يكن قد رأى شيئًا بعينه بل غاية الأمر أنّه أخبر عنه بناءً على عِلم الغيب.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

7
  • ماذا كانوا سيفعلون بذلك السارق المسكين لو أخبرهم الشيخ باسمه؟! فإن كان القوم قد أمروا بتعذيب مثل هذا الشيخ، فماذا كانوا سيفعلون مع السارق نفسه؟! لا شكّ أنّهم كانوا سيضعونه تحت السيوف ويُقطّعونه قطعةً قطعةً.

  • بناءً على هذا، ليس لكلّ مقتدرٍ القابليّة على العفو، ولكنّه قادر على العقاب. أمّا القدرة الواقعيّة، والّتي هي أعلى مِن كلّ قدرة، فهي القدرة المقرونة بالحلم.

  • كان أمير المؤمنين شجاعًا، غير أنّ هناك شجاعة تختلف عن شجاعة؛ فقد يُمسك أحدٌ السيفَ فيبدأ بالضرب، وقد يمسك آخر به ويكون السيف تحت إمرته، فهنا تتمثّل الشجاعة، فالشجاعة هي أن يكون السيف تحت سيطرة صاحبه عند اشتداد وطيس الحرب، فيقول لسيفه: اضرب هنا وامتنع هناك، واضرب هنا بهذا المقدار وهناك بذاك المقدار، وتراجع في الموقف، واغمد سيفك هنا واشهره هناك؛ فهنا تتمثّل الشجاعة. لقد أغمد أمير المؤمنين سيفه بعد ارتحال رسول الله، وهذه شجاعة تفوق شجاعته عند قلع باب خيبر، وعند قتله عمرو بن عبد ودّ؛ نعم، كانت شجاعته تتمثّل في أنّ السيف تحت سيطرته؛ كان باستطاعته أن يُغمر المدينة بسيل مِنَ الدماء، غير أنّ هذا عملًا لا يرتضيه الله ورسوله، وإلّا فإغماد أمير المؤمنين سيفه لهو أمر شديد عليه، لأنّ علِيًّا فارسُ الميدان الوحيد ووصيُّ النبيّ، وقد غصوا حقّه، [ومع ذلك] صبر ليحفظ ذلك الهدف السامي.

  • يصعب على المرء أن يكفّ نفسه عن الإقدام على ما هو قادر عليه، [فكيف] لو كان قادرًا فيعفو. قد يقوم أحدٌ بعملٍ سيّئ اتّجاه الآخر ثمّ يعتذر منه: فقد يكون الآخر غير قادر على فعل شيء اتّجاهه ومعاقبته، فيقول له: لقد عفوت عنك. وقد يكون الآخر رجلًا مقتدرًا حقًّا وذا سلطة كاملة على مَن ظلمه، بل هو في قبضته وأسير يديه، ومع ذلك يعفو عنه، فالعفو هنا ذو قيمة وهو ما يُسمى بالتجاوز، [وهو معنى قوله:] «وَالحَمْدُ للهِ عَلى عَفْوِهِ بَعْدَ قُدْرَتِهِ».

  • الجمع بين الغضب والحلم

  • «وَالحَمْدُ للهِ عَلى طُولِ أَناتِهِ فِي غَضَبِهِ»؛ الأناة تعني التحمّل والحلم، فالحمد لله على ما يفعله الله مِن طول الأناة والحلم الكبيرين بالرغم مِن غضبه. فالله يغضب، وغضبه يكون على عملٍ قبيحٍ صدر مِنَ العبد، الّذي لا يستلزم الرحمة بل العقاب، ومع كلّ هذا نراه يصبر ويُمهل قدر الإمكان، إلى أن يبلغ حدًّا لا فرصة للمتمرّد عنده للتراجع ﴿فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزيزٍ مُقْتَدِرٍ﴾۱، أي فيأخذه الله بيد قدرته. فكم هو عجيبٌ الصبر حين الغضب!

    1. سورة القمر (٥٤)، جزء مِنَ الآية ٤٢.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

8
  • الصبر هنا يعني أنّه عندما تقبض على عدوٍّ وأنت في فورة غضبك وجبينك يتصبّب عرقًا لشدة غضبك، تصبر عليه وتمهله؛ هذا أمرٌ عجيب حقًّا! نعم، لو زالت فورة الغضب عن الإنسان، ثمّ أمسك بعدوّه وأمهله، سيكون ذلك قد وقع بعد أن تبدّلت حالته. ولكنّ حال الله لا يتبدّل، فهو عندما يغضب لا يمكن أن يتبدّل غضبه إلى رحمة، إلّا اللهمّ إن حصل وتاب العبد أو تراجع عمّا كان عليه، أمّا إن بقي العبد على ما هو عليه ولم يتب، فسيستمرّ غضب الله عليه، غير أنّ الله لا يعجّل له العقوبة بالرغم مِن قدرته على ذلك.

  • ... لو أراد المرء أن يعمل بمقتضى غضبه، سيستغرق ذلك منه وقتًا [حتّى ينفّذه]؛ فلو قتل أحدٌ رجلًا، وأراد وليّ الدم أن يقتصّ مِنَ القاتل، فهو لا يستطيع أن يقوم بذلك في الحال، بل عليه أن يشتكيه إلى الحاكم، ليحكم له، نعم، لا يستطيع أن يقتصّ منه قبل صدور الحكم، الّذي قد يستغرق وقتًا طويلًا، فإحضار الشهود قد يتطلّب وقتًا، وقد لا يتمكّن مِن إحضارهم، وقد لا تثبت دعواه. [هذا فيما يتعلّق ببني البشر]، أمّا بالنسبة إلى الله، فالأمر لا يحتاج إلى أيّ وقت، ولا يتطلّب مكانًا مناسبًا أو شرائطَ وعِللَ مُعدّةٍ مِن أجل أن ينتقم أو يعاقب ذلك المتمرّد، بل إنّ قدرته تتمثّل في نفس إرادته، فإن أراد شيئًا يتحقّق على الفور، ولكنّ الله لا يُعجّل العقوبة، وقد جعل أمور العالَم تسير على النهج التالي: ﴿وَلَوْ يُؤاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى‌ أَجَلٍ مُسَمًّى﴾۱، بناءً على هذا، فإنّ جميع أفراد بني البشر – على اختلاف درجاتهم ومراتبهم – يَظلمون، غير أنّ الله لا ينتقم منهم ولا يأخذهم بيد قدرته [على الفور].

  • إعجاز وإبداع الله في الخلق والرزق

  • «الحَمْدُ للهِ خالِقِ الخَلْقِ، باسِطِ الرِّزْقِ، فالِقِ الإصْباحِ، ذِي الجَلالِ وَالإكْرامِ، وَالفَضْلِ وَالإنْعامِ، الَّذِي بَعُدَ فَلا يُرى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى، تَبارَكَ وَتَعالى»، إنّ الخَلْق هنا أعمّ مِن عالَم الخَلْق وعالَم الأمر، فجميع المخلوقات هي خلْق الله، بما في ذلك نفوس الملائكة المقرّبين وعالَم الملكوت، فإنّ خَلْقها جميعًا بيد الله. 

    1. سورة النحل (۱٦)، جزء من الآية ٦۱.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

9
  • «باسِطِ الرِّزْقِ»؛ قد مدّ [اللهُ] لعباده مائدته ولم يضيّق عليهم، فالجميع يرتزق مِن هذه المائدة، وإنّها مائدةٌ عجيبةٌ حقًّا! فقد هيّأ الله لكلّ فردٍ مائدته الخاصّة؛ فالأمر شبيه بدعوتك لمائة نفر لكلٍّ منهم طعامٌ خاصّ، فتقوم بإحضار الغذاء الخاصّ بكلّ واحدٍ منهم، وإن كانوا ألفًا، فسيتمّ إحضار ألف نوعٍ مِنَ الطعام، أليس هذا عجيبًا؟!

  • إنّ الله العليّ الأعلى قد هيّأ الأرزاق بعدد المخلوقات الّتي خلقها، فحليب هذه الأمّ مناسب لهذا الطفل لا لغيره، فقد صنع الله هذا الحليب لهذا الطفل المرتبط بهذه الأمّ ليصله هذا الحليب بواسطتها. وكذلك هيّأ لكلّ إنسانٍ طعامه، ولكلّ حيوانٍ طعامه، وللجمادات طعامًا، وللحيوانات الّتي تعيش في أعماق البحار طعامًا، فكلّ موجودٍ مِنَ الموجودات يصله نوعٌ خاصٌّ مِنَ الرزق. وأضف إلى ذلك، أنّ للإنسان مادةً وفكرًا وروحًا، ولكلّ منها وجودٌ محتاجٌ إلى رزقٍ، والله قد هيّأ لكلّ منها رزقه.

  • إنّ المائدة الّتي أعدّها الله هي مِنَ السعة بحيث تستوعب جميع الموجودات، ولكن إن كانت جميع خلائق الله تجلس على هذه المائدة، ولا يُستثنى منها أيّ موجود مِنَ الموجودات، فأين هي مائدة الله هذه؟ إنّ جميع عالَم الوجود هو مائدة الله، الّتي ترتزق منها جميع الخلائق، ابتداءً مِنَ الدودة الّتي تعيش في باطن الأرض إلى موجوداتِ الملكوتِ الأعلى، فهم يرتزقون منها بأرزاقٍ مختلفةٍ. فمَن يمكنه هنا أن يدّعي ويقول: أنا أستطيع أن أحلّ محلّ الله، وأن أتكفّل بتهيئة أرزاق جميع الناس؟!

  • يُقال إنّ النبيّ سليمان عليه السلام عزم على استضافة جميع أهل مدينته، بما في ذلك خدمهم وحشمهم ومواشيهم مِن بقرٍ وخيلٍ وغيرها، ليُطعمهم في ذلك اليوم، فهيّأ الطعام لجميع سكّان المدينة مع حيواناتهم، وعند حلول الظهر، ولمّا همّوا بتقديم الطعام للضيوف، أخرجتْ حوتٌ رأسها قِبال الميناء الّذي عليه منزل النبيّ سليمان وفتحت فمها وقالت: أطعموني. فصبّوا جميعَ ما هيّؤوه مِن طعام في فمها، [ومع ذلك] بقيت فاتحةً فمها، فقالوا لها: ألا تستحين، لقد أكلتي جميع الطعام المُعدّ لسكّان هذه البلدة وأفراد هذه القبيلة، ولم تشبعي! فقالت: هذا لا يتعدّ نصف قوتي، وأنا بحاجة إلى جرعتين أخريين ونصف جرعة۱ أراد الله بهذا أن يقول: ما أرسلتُه هو حوتٌ واحد فقط مِن حيتان البحار، فلا [يتصوّر] أحد أنّه يستطيع أن يتعهّد بما أقوم به، هكذا هي مائدتي.

    1.  مشارق أنوار اليقين، ص٦۱، مع شيءٍ مِنَ الاختلاف.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

10
  • يُقال إنّ بعض الحيتان تعترض أحيانًا طريق السفن، فتُخرج نصف جسمها مِنَ الماء وتُغرق السفينة، هذا هو مقدار القوّة الّتي منحه الله لها. وتلك الحيتان، الّتي تبدو كالجبال مِن بعيد، قد تعترض طريق البواخر الكبيرة، والّتي يبلغ سعة الواحدة منها سعةَ مدينةٍ، فيقع الحوت تحت المراوح المعدنيّة الّتي جُهّزت بها السفينة، وبفعل دورانها تُقطّع الحوت إربًا إربًا، فيُصبغ ماء البحر بدمائها، وإلّا لاعترضت الحوت طريق السفينة ومنعتها مِنَ الحركة.

  • أمّا الحوت الّتي اعترضت السفينة الّتي استقلّها نبيّ الله يونس، فقد كانت حوتًا صغيرة جائعة، وكان يكفي لإشباعها أن يُلقى في فمها رجلٌ أو رجلان. نعم، هناك الكثير مِن أمثال هذه الحيتان في البحر، فهي ليست إلّا مخلوقًا واحدًا مِن مخلوقات الله الّتي تعيش في البحار، تلك البحار الّتي لا تُعادل سوى ذرّة بالقياس إلى النجوم والمجرّات، على أنّ كلّ عالَم المادّة وعالَم الطبيعة لا يُساوي ذرّة بالنسبة إلى العوالم الأخرى، وجميع هذه العوالم تريد رزقها، كما أنّ جبرائيل وإسرافيل وميكائيل يطلبون المدد مِنَ الله.

  • بناءً على هذا، فعبارة «باسِطِ الرِّزْقِ» تعني أنّ يد الله مبسوطةٌ لا مقبوضة، فهو ليس مُمسكًا ولا يحب المُمسكين، بل بسط المائدة وقال: فليأكل كلّ واحدٍ ما أراد مِن هذه المائدة، فأنواع الأطعمة متوفّرةٌ فيها. قد أعدّ الله للطفل في بطن أمّه ما يحتاج إليه مِن غذاء، هذا الغذاء الّذي يصل إليه عن طريق المَشيمة، فيحصل على ما يحتاج إليه مِن مواد غذائيّةٍ ودمٍ يساعده في نموّه. 

  • يبقى الطفل تسعةَ أشهرٍ في بطن أمّه، وقلبُه ينبض، ولكنّه لا يتنفّس، لأنّ لا هواء في بطن أمّه ليتنفّسه، ولكن ما إن يخرج مِن بطن أمّه حتّى يتبدّل رزقه إلى هواءٍ [وهو أمر] لا بدّ منه، وإلّا فلو انقطع نفَسه دقيقةً واحدةً لَمات اختناقًا. ألم يكن هذا الطفل قبل دقيقةٍ واحدةٍ فقط في بطن أمّه، وبطن الأمّ ليس محلًّا للتنفّس، فلماذا لم يمت الطفل إذن، ولماذا لم يكن يتنفّس! ولكن ما إن يُولد، احتاج للتنفّس! إنّه أمرٌ عجيبٌ حقًّا! مَثَله في ذلك مَثَل السمكة الّتي تبقى حيّة ما دامت في الماء، فحياتها مقرونة بوجود الماء، فإن أُخرجت مِنَ الماء ماتت، وهكذا حال الطفل، فإن أُخرج مِن بطن أُمّه قبل الوقت المحدّد للولادة لقتله هذا الهواء. يكون الطفل حيًّا في بطن أمّه مع أنّه لم يكن يتنفّس، أمّا حين الولادة فلا بدّ له أن يتنفّس، وإلّا مات في دقيقة واحدة، وفي هذا الوقت، فإنّ ذاك الدم الّذي كان يُغذي الطفل عن طريق المَشيمة يتبدّل إلى حليب، فما هو مدى التجانس بين الدم والحليب؟

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

11
  • إنّ حيض المرأة في أيّام العادة الشهريّة، يُعتبر مِن أكبر النِعم الإلهيّة الّتي مَنَّ الله بها عليها، فالمرأة الّتي لا تحيض هي امرأةٌ مريضةٌ لا فائدة فيها، لأنّها إذا حاضت يصبح الرحم مستعدًّا لاستقبال الطفل، فقد خلق الله فيها جهازًا لإنتاج البشر. لكلّ جهازٍ مِن أجهزة جسم الإنسان عملٌ خاصٌّ: فالعين للرؤية، والأذن للسمع، واليد للأخذ والعطاء، أمّا الرحم فهو لإنتاج الإنسان، والإنسان عبارة عن مَظهر الله، أي الناطق بـ (لا إله إلّا الله)، أي الإنسان ذو الشعور. إنّ صناعة البشر تختلف عن صناعة الدم وصناعة العظم.

  • ففي الوقت الّذي تحمل فيه المرأة، يتحوّل دم الحيض الّذي كان يخرج مِن رحمها، إلى غذاءٍ للطفل، ولهذا السبب لا تحيض المرأة الحامل إلّا نادرًا. وعندما تُرضع الأمّ طفلها يتبدّل نفْس ذلك الدم إلى حليب، ولهذا السبب أيضًا لا تحيض المرأة المُرضِعة إلّا نادرًا. وعندما لا تكون المرأة حائضًا ولا مُرضِعةً ولا حاملًا، سيطهّر دمُ الحيض هذا الرحمَ ويوسّعه ويُعدّه لاستقبال الطفل. هذا هو غذاء الطفل الّذي يأخذ صورًا مختلفةً.

  • يُقال إنّ الحليب يحتوي على أفضل المواد الغذائيّة، فلا يوجد غذاءٌ مفيدٌ للصغير والكبير، الرجل والمرأة، الشيخ الهرم والشاب اليافع، مثل الحليب، ولا يوجد ما هو أغنى وأكثر فائدة وما هو أصحّ وأقلّ ضررًا منه. إنّ الحليب رغم كونه سائلًا، فهو يقوّم العظام ويرمّم جسم الإنسان. ونحن نرى كيف ينساب هذا الحليب بكلّ يسر في العروق ليصل إلى ثدي الأمّ الّذي فيه ثقوب بحجم رأس الإبرة، وذلك لكي لا ينهمر الحليب في فم الرضيع فيخنقه، كما أنّ حجم حلمة الثدي هو بمقدار سعة فم الطفل، فلو كانت الحلمة كبيرة بحجم الرمّانة مثلًا، كيف كان للطفل أن يعيش؟! ولو كان فم الطفل واسعًا، فكيف له أن يلتقط تلك الحلمة الصغيرة؟! كلّ ذلك محسوب بدقّة، ثمّ انظر كيف عُلِّم الطفل المصّ بمجرّد ولادته.

  • مِنَ الشائع بين الناس أن لا تُرضع الأمّ طفلها إلّا بعد أربع وعشرين ساعة، وتُعطيه في هذه المدّة السكّر المحلول بالماء المغليّ. عندما رَزق الله أحدَ محارمنا طفلًا، طلبوا منّي أن أقرأ له الأذان والإقامة في أذنَيه وأن أدعو له وأسمّيه. فعندما ذهبتُ إلى هناك، لم يكن قد مضى على ولادة ذلك الطفل أربعٌ وعشرون ساعة، ولم تكن أمّه قد أرضعته بعد، وعندما وضعوا الطفل في حضني وأردت أن أدعو له، رأيتُ الطفل يمصّ شفته باستمرار وكأنّه يرضع، بالرغم أنّه لا يوجد ثدي ليرضع منه، فمَن الّذي علَّم الطفل الرضاعة؟! إنّه يفعل ذلك وحده، فهو يبحث لنفسه عن صيد، وعن ذلك الرزق الذي هيّأه الله له.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

12
  • كان هذا الطفل في بطن أمّه عِدّة أشهر، بدون شعور ولا فهْم ولا إدراك، فلم يكن سوى جسدٍ، وقبل ذلك بشهرين كان نطفةً، وها قد جاء إلى الدنيا الآن، فبدأ حسّه وشعوره بالبروز تدريجيًّا، فأدرك عمليّة المصّ، فلسان حاله عندما يمصّ أنّه يطلب رزقه وبأدب ظاهر، فهيّأ الله له ثدي أمّه وهيّأ له الحليب [فيه]، فيضع الطفل شفتيه – اللّتين بحجم حلمة الثدي – على ثدي أمّه [ليرضع الحليب]. وقد جعل الله ذلك الحليب – الرقيق واللذيذ والغنيّ بالمواد الغذائيّة – بحيث لا يخرج مِن صدر المرأة بشكل قطرات فيملأ بلعوم الطفل، بل جعل الحليب يأتيه مِن تلك الثقوب الدقيقة بمقدار ما يمصّه فقط؛ فحتّى لو كان الحليب في ثدي الأمّ غزيرًا، إلّا أنّه لا يتدفّق في فم الطفل بغزارة، بل يأتيه بمقدار ما يمصّ منه. مَثَله في ذلك مَثَل هذه الكهرباء الّتي تصل إلى بيوتنا، بحيث تُضيء المصباح المتّصل بها بمقدار قدرة المصباح؛ فلو وضعنا مصباحًا ذا قدرة أربعين واطًا، فسيسحب مِنَ الكهرباء أربعين واطًا ويضيء البيت بهذا المقدار. وإن وضعنا مصباحًا بقدرة ألف واطٍ فسيُضيء البيت بذلك المقدار. فإنّ مقدار ما يصل مِنَ الكهرباء إلى المنزل ليس محدودًا، غير أنّ كلّ مصباحٍ يأخذ منها بحسب قدرته. [وهكذا حال الحليب] فالحليب المتجمّع في ثدي الأم كثير، غير أنّ كلّ طفل يأخذ منه بمقدار ما لديه مِن استعدادٍ وقدرةٍ، فترى بعض النساء يُرضعنْ طفلين أو ثلاثة، وهذا ما كان عليه نساء العهود القديمة، أمّا الآن فلا أدري ما الّذي حصل حتّى جفّ الحليب في ثدي النساء! هو مِن عقوبات آخر الزمان!

  • وهذا الحليب اللطيف يدخل جسم الطفل، فينقسم إلى أقسام، فيتبدّل قسمٌ منه إلى دمٍ، والّذي يتبدّل بدوره إلى لحمٍ وعصبٍ ومخٍّ وشحمٍ وعظمٍ، كما يحتوي هذا الحليب على موادٍ يمتصّها الدم فتساعد على تكوين الدماغ وعلى التعلُّم والتفكير.

  • هذا هو الرزق الّذي قسَمه الله للطفل، ولكلٍّ مِن صغار الموجودات رزقه الّذي يناسبه، كصغار النمل والذباب والجراد والدجاج والذئب والخفّاش؛ [الخفّاش] هو الطائر الوحيد – بين الحيوانات الطائرة – الّذي لا يبيض، بل يلد ويحيض، وتحتفظ أنثى الخفّاش بصغارها تحت بطنها، فهم معها أينما ذهبت، ويَرضعون الحليب مِن ثدي أمّهاتهم، هذا الطائر يطير في السماء ليلًا، فيصطاد البعوض ويأكله، ويُقال إنّه أعمى، ولمّا كان الخفّاش لا يمتلك منقارًا بل له أسنان كأسنان الفأر سُمِّي بالفأر الطائر، فهذا نوع مِن أنواع الحيوانات الطائرة الّتي خلقها الله بهذا الشكل.

غايةُ الكمال وحَدُّ الاعتدال هو الجمع بين الصفات - شرح فقرات مِن دعاء الافتتاح – الجلسة السابعة

13
  • إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يرتزق أيضًا، ولكن أيّ رزقٍ ذلك الّذي يرتزق منه رسول الله؟! إنّه الحميّة والفكر والتعقّل والاطّلاع على عالَم الملكوت وجميع علوم الأوّلين والآخرين، هذا ما وهبه الله له، ولكنّه قال: هذا قليل! فأُعطِيَ حينئذٍ عِلم جبرائيل، ولكنّه طلب أيضًا ما فوق ذلك، إنّه مركز عِلم الله إذن، وهذا نوع آخر مِن أنواع الرزق، فللرزق أشكالٌ مختلفةٌ، وهو لا يقتصر على الرزق الماديّ، بل هناك رزقٌ عقليّ ورزقٌ فكريّ ورزقُ الحياة ورزقُ القدرة والعِلم، وهكذا حتّى يصل الأمر إلى هذه الأرزاق الماديّة، وكلّ ذلك عبارة عن مائدة الله الممدودة، فهو باسط الرزق.

  • بيان مقتضب لفقرات أخرى مِن دعاء الافتتاح

  • «فالِقِ الإصْباحِ»؛ شرحنا سابقًا كيف يُخرج الله الصبح.

  • «ذِي الجَلالِ وَالإكْرامِ»؛ الإكرام يعني الجمال، والكرم هو العظمة واللطافة والسيادة، فعبارة «ذِي الجَلالِ وَالإكْرامِ» تعني ذو الجلال والجمال، فهو يمتلك في آن واحد صفة الأُبَّهة وصفات الرقّة والجمال؛ ولو أردنا أن نبحث في خصائص جمال الله وجلاله لانتهى شهر رمضان [دون أن نتمكّن مِن إتمام البحث].

  • «وَالفَضْلِ وَالإنْعامِ»؛ لله الفضل والنِعم، وهو يُحسن ويفيض بها على عالَم الوجود.

  • «الَّذِي بَعُدَ فَلا يُرى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى، تَبارَكَ وَتَعالى»؛ إنّ الله بعيد مِن ناحية فلذا لا يُرى، وهو مِن ناحية أخرى قريبٌ إلى درجةٍ يسمع فيها نجوى المتناجين. ولكن كيف يمكن ذلك، «بَعُدَ فَلا يُرى، وَقَرُبَ فَشَهِدَ النَّجْوى»؟ ليس مِنَ الإنصاف أن نمرّ على هذه العبارة مرورًا عابرًا، لذا سنقدّم – إن شاء الله – شرحًا وتوضيحًا كافيًا عن كيفيّة كون الله بعيدًا بحيث لا يُرى وفي الوقت نفس هو قريبٌ لدرجة أنّه أقرب إلى الإنسان مِن نفسه.

  • «فَشَهِدَ النَّجْوى»؛ هذا القول هو مِن باب التقريب، وإلّا فالإنسان أقرب إلى ساحة الله مِن هذا.

  • نسأل الله العليّ الأعلى أن يزيدنا يقينًا، وأن يُعرّفنا نفسه بجميع أسمائها وصفاتها الحسنى، وأن يجعلنا مِنَ المقرّين والمعترفين بهذا المقام.

  •  

  • اللهمّ صلِّ على محمّد وآلِ محمّد