المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةشرح دعاء الافتتاح
التاريخ 1397/09/13
التوضيح
: استنبط سماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ (قدّس الله نفسه الزكيّة) مِن فقرة «الحَمدُ لله الّذي لم يتَّخذ صاحِبةً ولا وَلَدًا ...» الواردة في دعاء الافتتاح، أمرين هما: إنّ الخَلق يعني التجلّي لا التولّد، وإنّ المخلوقات موجودات ظلّيّة لله تعالى. وبنى على ذلك ليفسّر (المعويّة بين الله والمخلوقات) الواردة في الآيات والروايات. ثمّ خَلُص إلى أنّ الوجود الأصليّ واحدٌ وهو الله تعالى، وبهذا وصل إلى مطالب دقيقة في معرفة الله تعالى، أوجبت عليه التنبيه على أهمّ الطُرق الموصلة إلى الله تعالى وهو العرفان، وعلى امتياز هذا الطريق عن طُرق الاستدلال العقليّ والفلسفيّ والحِكميّ، وبما أنّ المقام مقام اقتضاب أَوكل تفصيل ذلك إلى كُتب خطّها بيمناه، منبّهًا على أهميّتها وكيفيّة التعامل معها، وواعدًا أنّها ستصوّر المطالب وتستعرض الأدلّة وتجيب على الاستفهامات وتردّ الإشكالات بحيث لا يخرج الظمآن منها إلّا مرتويًا بما هو أعذب وأهنأ مِنَ الماء البارد الصافي، وحينها سيُدرك معنى الوصول إلى الله تعالى ومناجاته. وتلك الكتب هي (معرفة المَعَاد) و (معرفة الإمام) و (معرفة الله) و (التوحيد العلميّ والعينيّ).
هو العليم
الخَالقُ أصيلٌ والمخلوق ظِلِّيٌّ والخَلق تَجَلٍّ
شرح دعاء الافتتاح – الجلسة السادسة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين
ولعنة الله على أعدائهم أجمعين مِنَ الآن إلى قيام يوم الدين
الخَلق يعني التجلّي لا التولّد
«الحَمدُ لله الّذي لم يتَّخذ صاحِبةً ولا وَلَدًا، ولم يكن لهُ شريكٌ في المُلكِ، ولم يكن له وليٌّ مِنَ الذُّلِّ وكبِّرهُ تكبيرًا»، أي إنّ الحمد يختصّ بالإله الّذي لم يتّخذ لنفسه مادّة انفعاليّة، بل هو فعليّةٌ محضة، وخَلقه للموجودات ليس بمعنى أنّها تخرج منه [وتستقلّ عنه]، بل الخلق يعني الظهور والتجلّي لا التجافي. إنّ مسألة الخلق هي على عكس المرسوم في أذهان عامّة الناس، مِن أنّ الموجودات خارجةٌ عن وجود الله، وقد خلقها اللهُ بإرادته ومشيئته، فصار معنى الخلق عندهم هو انفصال المخلوقات وبينونتها عن ذات الله! إنّ هذا التصوّر تصوّرٌ خاطئ، فكلمة الخلق – أينما اِستُعملت – هي بمعنى ظهور المُتجلّي في المرايا المختلفة۱، وهناك وحدة وهوهويّة بين الظهور والظاهر.
[يقول:] «ولا وَلَدًا»، بناءً على هذا، لا يمكن أن يكون عالَم الوجود خارجًا عن وجود الله، فعالَم الوجود ليس عبارة عن (وَلَد) لله، حتّى يُقال إنّه انفصل عن الله، لأنّه إن كان الخَلق بمعنى الولادة لزم أن يكون الله محدودًا وأن يكون لله حدٌّ وهو حدّ الخلق، فيكون الله حينئذ محدودًا كالموجودات، وبذلك يكون وجودُ الموجوداتِ محدودًا بالحدّ الّذي يفصله عن وجود الله، كما أنّ وجود الله – مهما كان عليه مِنَ السعة والعظمة – سيكون محدودًا بحدِّ المخلوق!
ولكنّ الأمر ليس كذلك، إذ لَمّا كان للمخلوقات حدودٌ، فلا يمكن أن يكون لله مثل تلك الحدود، وإنْ كانت تلك الحدود أكبر وأعظم مِن حدود المخلوقات، وإنْ كان الحزام الّذي يحيط به أكبر وأوسع. فالصحيح هو: إنّ وجود الله غير متناهٍ مِن حيث الشدّة والمدّة والكثرة، بل هو غير متناهٍ مِن جميع الجهات. وهذا يعني أنّ وجوده يشمل جميع الموجودات، وأنّه قد أَفنى ودَكَّ جميعَ الموجودات بنور أحديّته وقاهريّته وبنور توحيده.
إنّ مخلوقات الله ليست منفصلةً عن وجوده، بل هي فانيةٌ فيه، مَثَلها في ذلك مَثَل قطرة سقطت في بحر فاضمحلّت وفنت فيه، وفقدت بذلك كافّة حدودها الوجوديّة، لا أنّ القطرة استقرّت على سطح البحر وبقيت منفصلةً عنه، ففي هذه الصورة سيكون البحر محدودًا بحدّ هذه القطرة الخارجة عن وجوده، مهما كانت هذه القطرة صغيرة ومحدودة، ومهما كان هذا البحر كبيرًا قد بلغت سعته المحيطات – بحيث شمل المحيطات السبع – بل حتّى لو كان هذا البحر هو كلّ الكرة الأرضيّة، ثمّ إنّ الحدّ بأيّ شكلٍ كان يلزمه الحدوث، والحدوث لا يتلاءم مع القِدَم ولا يتلاءم مع وجود الواجب ووجوب الوجود٢.
معنى قوله تعالى ﴿وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ﴾
إنّ وجوب الوجود وعدم التناهي هما مِن مستلزمات ذات الله المقدّسة الّتي ثبت لها الأصالة والوجوب. وحيث أنّ عدم التناهي هذا يحيط بجميع الموجودات ويضمّها إليه، فلها معيّة معه: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾۱ ﴿ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا﴾٢، فهل يمكن في الواقع أن يجلس الله على هيئة موجودٍ مِنَ الموجودات، مع الثلاثة الجالسين الآن في زاوية ما يتناجون؟! أو هل يمكن أن يكون الله معهم على هيئة مَلَكٍ له شكلٌ وصورةٌ ملكوتيّةٌ، بحيث تكون هذه الصورة الملكوتيّة هي سبب عدم رؤيتنا له؟! مِنَ البديهيّ والمُسلَّم أنّ هذا التصوّر غير صحيح، لأنّه إن كان لأولئك أجسادٌ ماديّةٌ، وكان لله بدنٌ ملكوتيٌّ كأبدان الملائكة، فهذا يعني أنّ الله محدودٌ بحدٍّ يفصله عن أولئك النفرين أو الثلاثة الّذين يتناجون الآن، والحال أنّ الله لا يمكن أن تحيطه الحدود.
فكيف يمكن حينئذ تفسير أنّ الله رابعُ كلّ ثلاثة يتناجون، وإن كانوا خمسة فالله سادسهم، عِلمًا أنّ الأمر لا يقف عند هذه الأعداد، بل مَن يجلس وحده ويحدّث نفسه سيكون الله هو الثاني معه، وإن جلس عشرة أشخاصٍ في مكانٍ ما سيكون الله هو الحادي عشر، والله هو كالفرد الزائد على عدد الأشخاص الجالسين الآن في هذه الغرفة مهما كان عددهم، وهو ثالث هاتين الشجرتين اللّتين تنموان هنا، وهو الثاني لجبل أبي قبيسٍ ...؟ معنى هذا أنّ لله سعةً وجوديّةً وإحاطةً بجميع الموجودات، بحيث يكون هناك وجود لكلّ ذرّةٍ في ذات الله، ولها معيّة معه، وهي مندكّةٌ في وجوده اندكاكًا، لا أن وجود الله هو في عَرض باقي الموجودات. مثلًا، لو جلس شخصان يتناجيان، [فلا يمكن أن] يجيء الله ويجلس إلى جنبهما ليكون هو ثالثهما، فلو كان الأمر بهذا الشكل لكان الله واحدًا عدديًّا وهو ليس كذلك، بل هو واحد بالصرافة، أي إنّ وجوده هو بنحوٍ لا يمكن أن يُفرض وجودٌ مماثلٌ له، وهذا يعني أنّ لوجوده سعةً تشمل جميع الموجودات وتضمّها إليه، لا أنّه يحضر بجنب بقيّة الموجودات ليكون معهم.
المخلوقات صورٌ ظليّةٌ لوجود الله تعالى
«داخلٌ في الأشياءِ لا بالمُمازَجة وخارجٌ عن الأشياءِ لا بالمُزايلة»۱.
داخلٌ في كُلِّ شيءٍ: إن الله موجود في جميع الذرّات والجزئيّات المكوِّنة لهذا القدح، ولكن ما الّذي يعنيه هذا الوجود، هل يعني أنّ الله قد دخل في القدح؟! كلّا.
خارجٌ عن كُلِّ شيءٍ: غير أنّ هذا الخروج ليس خروجَ مزايلةٍ؛ عندما تقول أنّك أخرجت القدح مِنَ الخزانة، تكون بذلك قد أَزلته وفصلته عنها، فالإزالة تعني الانفصال؛ أمّا خروج الله عن الأشياء ليس بمعنى المزايلة، بل معناه أنّ جميع الموجودات عبارة عن أشباحٍ وأنّ طبيعتها طبيعةٌ تعلّقيّة وربطيّة، لا أنّها موجوداتٌ مستقلّة لها ارتباط مع الله، لأنّه لو كان الأمر كذلك، للزم أن يكون هناك وجود لله وإلى جنبه وجود للموجودات وبينهما ارتباط، ولازم ذلك حصول الكثرة.
إنّ الموجودات عبارة عن نفس الربط لا الارتباط، وإن كان الأمر كذلك، فلن يكون في العالَم سوى وجودٍ واحد أبديّ سرمديّ، وستكون جميع الموجودات عبارة عن ظلال، نعم إنّها ظلالُ الله وآياته وعلاماته.
عندما يمسك هذا العبد بعصاه ويمشي، سيكون لهذه العصا ظلٌّ كظلنا هذا. ولكن هل لهذا الظلّ وجود مماثل لوجود العصا، بحيث تصبح العصا الواحدة اثنين؟! إن مشى الإنسان في جوٍّ مُشمس ورأى ظلّه، فهل هذا يعني أنّ له وجودين في الواقع؟! إن رأيتُ رجلًا بعمامة وقباء يمشي على بعد مترٍ منّي، فهل ما أراه شخصين في الواقع، أمّ أنّ الثاني يحصل بسبب وجود الشمس، فإن ألقتْ الشمس بأشعتها يظهر، وإن اختفتْ اختفى الظلّ معها؟! فعندما نرى ظلّنا يتْبعنا أينما ذهبنا، دون أن تفصله أيّة مسافة عنّا، فهل هذا يعني أنّنا أصبحنا اثنين؟! أو هل أنّ للظلّ وجودٌ ضعيفٌ، فهو وإن كان أضعف منّا بكثير غير أنّ له وجود في نهاية الأمر؟! كلّا، ليس الأمر بهذا الشكل، بل ليس الظلّ شيئًا، فهو مجرّد صورة وعلامة، إنّه يشبه الصورة الّتي تراها في المرآة، فلو رأيتَ صورتك في المرآة، فهذه الصورة لن تضيف – بأيّ شكلٍ مِنَ الأشكال – رجلًا آخر إلى عالَم الوجود، ولن يزداد وزن المرآة شيئًا ولن تصبح سعيدةً بذلك! وإن كنتَ [أنت] عالِمًا فلن تصبح المرآة عالِمةً، وإن كنتَ جاهلًا فلن تصير المرآة جاهلةً، وإن كنتَ قبيحًا فلن تصبح المرآة قبيحةً، وإن كنتَ جميلًا فلن تصير المرآة جميلةً، بل ما يظهر في المرآة هو عبارة عن تجلٍّ لك فيها. مهما كان شكلك، فما دمتَ أمام المرآة، سوف تعكس المرآة صورتك، وإن أدرت وجهك عنها لن يظهر فيها شيءٌ، نعم لن يكون في المرآة شيءٌ. إذن، ليس للمرآة أيُّ دورٍ أبدًا، نعم ليس لها أيّ دورٍ أبدًا أبدًا سوى أن تعكس صورة الشيء الّذي أمامها وتُظهرَه وتُريَه، فدورها لا يتعدّى كونها تعكس نور الأشياء الواقعة أمامها. أليس كذلك!
إنّ جميع الموجودات عبارة عن ظلّ الله، والله هو ذو الظّل، يقول الله في هذه الآية القرآنيّة المباركة: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلًا﴾۱، إنّها آيةٌ عجيبةٌ حقًّا، فهي تستطيع وحدها أن تفتح على الإنسان عالَمًا مِن عوالم المعرفة، إنّ (مَدّ الظِّل) يعني أنّ الشمس عندما ترتفع في السماء تُلقي بظلالها على الأرض، فإن ارتفعت الشمس مِن جانب امتدّ الظل في الجانب الآخر، فعندما ترتفع مِنَ المشرق يمتدّ ظلّها باتجاه المغرب، وإن مالت إلى طرف المغرب امتدّ ظلّها باتجاه المشرق، حتّى إذا ما غربت اختفى الظّل بالمرّة، والعجيب في الأمر أنّ هذا الظلّ ليس له أيّ ثقلٍ، نعم ليس ثقيلًا أبدًا.
عندما ترتفع الشمس في السماء، تُلقي الأشجار في فصلَي الربيع والصيف بظلالها على الأرض، فأيّ نوعٍ مِنَ اللطافة سيحصل حينئذ وأيُّ جوٍّ سيسود. هل تستطيعون أن تنكروا وجود الظّل، وأن تقولوا إنّه غير موجودٍ؟! فلو كان أمرًا عدميًّا لا يتجاوز كونه خيالًا ووهمًا، فكيف صحّ قولك للآخر: اجلس في الظّل لكي تبرد؟! إنّ للظلّ وجود حينئذٍ، ولا يمكن أن تنكر وجوده، غير أنّ هذا الوجود هو وجودٌ ظلِّيٌّ، ونحوُ وجوده هو كالصورة الّتي تراها في المرآة، فهي ليست صورةً كاذبة، بل ما تراه هو صورةٌ حقيقيّةٌ؛ يحصل أحيانًا أن تذهب إلى المصوّر ليلتقط لك صورةً، وتدفع له المال مقابل ذلك، ولكنّ تلك الصورة الّتي دفعتَ بإزائها ثمنًا ليست بشيءٍ، فلا هي عالمةٌ ولا جاهلة ولا مذنبة ولا مُثابة ولا طويلة القامة ولا قصيرة. ولو التقطت ألف صورةٍ لنفسك أم لم تلتقط، فلن يضيف ذلك إلى وجودك ولن ينقص منه شيئًا، ولو أنّك ملأت هذه الغرفة صورًا، فلن تضيف إلى وجودك مثقال ذرّة، لأنّها لا تتعدّى كونها صورًا.
إنّ جميع الموجودات عبارة عن صور، والصورة تعني الظّل والآية، وهي لا تعني شيئًا بالمرّة في مقابل الله، فلو ردّدنا القول (إنّها ليست بشيء) إلى يوم القيامة فلن نُلام على ذلك أبدًا، أليس كذلك!
الفرق بين العرفان والاستدلال العقليّ
الآن وقد وصلنا في حديثنا إلى هذا المقام، فدعوني أقرأ لكم أبياتًا مِن شعر سعدي الشيرازيّ، [وهي أبيات] كان المرحوم العلّامة الطباطبائيّ رحمة الله عليه [قد قرأها لنا] عندما زارنا في منزلنا الواقع في حيّ (ولي آباد)، في أحد تلك الأيّام الّتي كان يأتي فيها مِن مدينة قمّ للقاء (هنري كوربن)، فتناولنا طعام الغداء معًا، وأثناء الحديث قرأ لنا هذه الأشعار وقال إنّها لسعدي الشيرازيّ، إذ كان الحديث يدور حينها حول كتاب سعدي، وهي:
ره عقل جز پيچ در پيچ نيست | *** | بر عارفان جز خدا هيچ نيست |
[الترجمة الحرفيّة: طريق الاستدلال العقليّ ليس سوى طريقٍ معقّدٍ ومتشابك، أمّا العرفاء فهم لا يرون غير الله].
يقول سعدي: إنّ طريق الاستدلال العقليّ الّذي يطويه الإنسان، لا يتعدّى كونه تعقيدًا في تعقيدٍ، لأنّ العقل عندما يُري الإنسان وجود هذه الموجودات، كيف للإنسان حينئذ أن يُنكر وجودها؟! فإن قال إنّها الله، سيكون قد ارتكب خطأً، وإن قال إنّها مندكّة في وجود الله، فيتساءل حينئذٍ: لماذا لا نستطيع – والحال هذه – أن نراه؟! هكذا هي طبيعة العقل إذن! فلو أراد الإنسان أن يرى الله بالعقل، سيقوده العقل إلى مثل هذه النتائج.
نحن لا نقول هنا إنّ العقل لا يستطيع أن يتوصّل إلى شيء، بل نقول إنّ استدلالاته معقدّة، فهو يطوي طُرقًا متشابكة ومُعقّدة لكي يُقنع الإنسان بتفسيرات تقول: إنّ الأشياء الّتي نراها هي حدود، وبالتالي يكون وجود الله وجودًا محدودًا [إن قلنا باستقلاليّتها]، وما شابه ذلك مِن استدلالات، كلزوم الدور والتسلسل وغيرها. فهو يسلك هذه المسالك حتّى يصل إلى تلك النتائج.
[فيقول سعدي الشيرازيّ بحسب نقل العلّامة؛]
ره عقل جز پيچ در پيچ نيست | *** | بر عارفان جز خدا هيچ نيست |
توان گفت اين نكته با حق شناس | *** | ولى خرده گيرند اهل قياس |
[تقدّم ترجمة البيت الأوّل،
أمّا الترجمة الحرفيّة للبيت الثاني: تستطيع أن تصرّح بهذا الأمر لِمَن عرف الحقّ دون أصحاب القياس لأنّهم سيُشكلون عليك].
يقول سعدي: إنّك تستطيع أن تناقش هذا الأمر مع مَن عَرف الحقّ، أمّا لو طرحت موضوعك هذا على أهل القياس – وهم الّذين يدَّعون أنّهم قادرون على إثبات وجود الله بالاستدلال والاستفادة مِن صُغرى المسائل وكُبراها وما شابه ذلك، ويريدون أن يعرفوا الله مِن خلال هذه الموجودات المستقلّة – فسيُشكلون عليك.
[ثمّ يقول:]
كه پس آسمان و زمين چيستند | *** | بني آدم و ديو و دَد كيستند |
بله هر چه هستند از آن برترند | *** | كه با هستيش نام هستي برند |
بزرگ است پيش تو دريا به موج | *** | بلند است خورشيد تابان به اوج |
ولي اهل صورت كجا بنگرند | *** | كه ارباب معنا به ملكي دَرَند |
كه گر آفتاب است يك ذره نيست | *** | وگر هفت درياست يك قطره نيست |
[الترجمة الحرفيّة لهذه الأبيات: إن كان الأمر كما تقولون [يا أهل القياس والاستدلال المنطقيّ] فما الّذي تعنيه السماء والأرض، وما يكون عليه الإنسان والشيطان والوحش..
إنّنا نقول لكم: نعم، ولكن مهما كانت هذه الأشياء فهو أعظم منها، ولا نصيب لها مِنَ الوجود إلّا بوجوده هو..
إنّ البحر الموّاج يبدو لك عظيمًا، والشمس الساطعة في أوجّها تبدو لك مرتفعة..
ولكن أنَّى للمحبوسين في عالَم الصوَر أن يشاهدوا المُلك الّذي لأهل المعنى..
فلأهل المعنى عِلم يجعلهم لا يرون الشمس سوى أنّها ذرّة أمام عظمة الله، ولا يرون البحار السبع سوى قطرة..]
كم قوله هذا رائع، فهو يقول: أنَّى لأهل الصورة أن يرو المُلك الّذي لأهل المعنى! أي، إنّ لأرباب المعنى وأهل العرفان مُلكًا يمنحهم عِلمًا وإدراكًا يجعلهم لا يرون البحار السبع سوى قطرة أمام عظمة الله، وإن رأوا سبع شموس، فلا تعادل بنظرهم حتّى الذرّة.
[ثمّ يختم قائلًا:]
چو سلطان عزت عَلَم در كشد | *** | جهان سر به جيب عدم بر كشد |
[الترجمة الحرفيّة للبيت: لو رفع سلطان العزّة عَلَمًا، لفُنِيَ عالَم الوجود في جيب العدم]
أي إنّ نظرةً واحدةً مِنَ الله بنظرته تلك، [كفيلة] بإيجاد جميع العوالِم، ولو أغمض النظر عنها لانمحت جميع العوالم وأصبحت صفرًا محضًا لا خبر لها، وهذا هو معنى الآية ﴿أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَليلًا ، ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضًا يَسيرًا﴾.
إنّ كلامه هذا راقٍ جدًّا، فهو يقول: إنّ كلّ عالَم الوجود ليس سوى نَفَس الله، فلو تنفّس الله نَفَسًا لوُجِدَ بهذا النَّفَس كلَّ عالَم الوجود، ولو انقطع هذا النَّفَس لانمحى كلّ شيءٍ.
ما الّذي تقوله الموجودات في قبال الله، وما الّذي نقوله نحن بني البشر؟! نحن نعتبر أنفسنا أشرف وأعقل وأكمل وأفضل المخلوقات، وأنّنا كذا وكذا، فنضرب الأرض بأقدامنا نريد أن نُزلزلها تحتها، ونحن غافلون عن أنّ هذه القدرة هي لله! يقول الله في هذه الآية: ﴿أَمَّنْ هذَا الَّذي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ﴾۱، أي هل ترون الجيوش الّتي تُرسلونها للحروب، وتنتصرون بها على أعدائكم، وتحسبون [أفرادها] جنودًا لكم، وعندما تَغلبون العدو تتباهون دائمًا بانتصاركم، وتنصبون أقواس النصر عند عودتهم مِنَ المعارك، فهل تعتقدون أنّ أحدًا غير الله هو الّذي نصركم؟! أيّة غفلة هذه! إنّ كلّ نصرٍ يحصل لكم [هو مِنَ الله]، وجميع ما أُتيتموه مِن قوّة هو مِنَ الله، سواء شعرتم بذلك أم لا، لأنّ علمكم بهذه الأمور أو جهلكم بها لا يُغيّر مِنَ الواقع شيئًا. نعم، نحن لا نتعدّى كوننا ظِلالًا، سواء فتحنا أعيننا ورأينا بأمّ أعيننا هذه الحقيقة أم لم نفعل، وسواء كنّا عُميًا أم أصحاب بصر. وخلاصة الأمر: إنّ وجودنا – الّذي لا يمكننا إنكاره – هو وجودٌ ظلِّيٌّ.
نعم، هناك مؤاخذة على أشعار سعدي [الشيرازيّ] المتقدمة، والّتي تكلّم فيها وفق مذاق العرفاء، هي أنّ الأمر أسمى وأرفع ممّا صرّح به، فقوله
... | *** | ارباب معنا به ملكي دَرَند |
كه گر آفتاب است يك ذره نيست | *** | وگر هفت درياست... |
لا يتعدّى كونه تشبيهًا لتقريب المعنى.
كان المرحوم القاضي (رحمة الله عليه) يقول: لا يوجد في جميع كتب سعدي غير بيتٍ واحدٍ مِنَ الشعر يُعتبر شعرًا جيّدًا، هو:
به جهان خرّم از آنم كه جهان خرّم از اوست | *** | عاشقم بر همه عالم كه همه عالم از اوست. |
[الترجمة الحرفيّة للبيت: أنا مبتهج بهذا العالَم لأنّ بهجته منه [أي مِنَ الله]، وأنا أعشق جميع العالَم لأنّ جميع العالَم منه].
كم هو جميل قوله: أنا أعشق جميع العالَم، لماذا؟ لأنّ كلّ العالَم منه. بناءً على هذا، إنّ كلّ عشقٍ يصدر مِن أيّ عاشقٍ اتّجاه معشوقه، وكلّ حمدٍ يصدر مِن أيّ حامدٍ اتّجاه محموده، سيكون فيه العاشق والمعشوق والعشق والحامد والمحمود والحمد، عين ذاته تعالى لا غير. هل اتضح لكم الأمر؟
ظهور الحالات التوحيديّة للسالك وقصّة ذِكر (يا هو، يا مَن لا هو إلّا هو)
شُوهد بعض السالكين حينما تحصل لهم حالاتٌ توحيديّة، فيقعون على الأرض ويقبّلونها، ويقولون للآخرين معترضين: لماذا لا تُقبّل الأرض؟! [أقول:] لقد رأيتُ مثل هذا الأمر بنفسي، رأيتُ البعض يقبّل يده أو رجله أو ملابسه.
كان المرحوم السيّد جمال الكلبايكانيّ (رحمة الله عليه) يقول: حصلت لأحد تلامذتي حالات جيّدة، فجاءني إلى البيت يومًا، ووقف على الباب وقال: السلام عليك يا وليّ الله المُطلق. فقلت له: لا تقل، لا تقل مثل هذا الكلام. فقال: أينما ألقيتُ بنظري لا أرى غير السيّد جمال يا سيّدي! فعندما يقع نظري على الباب فلا أراه بابًا بل أراه السيّد جمال، وعندما أرى الجدار أراه السيّد جمال، وعندما أذهب إلى الحرم أرى السيّد جمال، وعندما أفتح الكتاب للمطالعة أرى السيّد جمال، فأنا أرى السيّد جمال حاضرًا في جميع الموجودات. نسأل الله أن يرحم المرحوم السيّد جمال في شهر رمضان هذا.
الليلة هي الليلة السابعة عشر مِن شهر رمضان، أتعلمون أيّة ليلة هذه؟ إنّها الليلة الّتي حضر فيها رسول الله وأمير المؤمنين وجميع أصحابه في بدر، إذ كانت معركة بدرٍ ستبدأ في اليوم التالي، وقد انتصر فيها المسلمون، وقال أمير المؤمنين: أَحييتُ ليلة معركة بدر منذ ليلة وقوعها إلى آخر عمري، لِمَا مَنَّ الله بها علينا مِن بركة ويُمن بالنصر. إنّها ليلة مهمّة للغاية. أتعلمون أنّ أمير المؤمنين عليه السلام قد مُنح ذكر «هو» في معركة بدر.
هناك رواية على ما يبدو أنّها وردت بشأن ليلة القدر، نقلها الشيخ الطبرسيّ في (مجمع البيان) في ذيل تفسيره لسورة الإخلاص، جاء فيها: قال أمير المؤمنين: «رأيت الخضر في ليلة بدر في المنام، فقلتُ له: علّمني دعاءً أقرأه لكي أنتصر على الأعداء. فقال لي الخضر: قُل: "يا هو، يا مَن لا هو إلّا هو، يا هو، يا مَن لا هو إلّا هو". فأمسكتُ بسيفي يوم بدرٍ أقتل الأعداء بدعاء: "يا هو، يا مَن لا هو إلّا هو". وقد حكيتُ هذا المنام لرسول الله، فقال لي: قد عُلِّمت الاسم الأعظم».۱
يقرأ البعض هذا الذكر بهذا الشكل: «يا هو، أو لا هو إلّا هو»، وهو مِن أذكار بعض الدراويش، وهو لم يرد في الشريعة الإسلاميّة، فهم يخطئون بقراءة الذكر بهذا الشكل، لأنّه قد ورد [بالشكل الّذي ذكرناه أعلاه] في رواية صحيحة منقولة عن طريق الشيعة والسنّة، ومصدره هو كتاب (مجمع البيان)، وقد ورد في مصادر أخرى أيضًا۱.
الفرق بين مشربَي العرفان والحكمة وقصّة تأليف كتاب (التوحيد العلميّ والعينيّ)
إنّ كتاب (التوحيد العلميّ والعينيّ)٢ كتاب راقٍ جدًّا، تجد فيه كلّ ما تريد أن تعرفه مِن دقيقِ وظريفِ ولطيفِ الاستدلالات العرفانيّة، على أنّ هذا الأمر ليس أمرًا هيّنًا، بل هو أمرٌ صعبٌ، فلو أراد أحد أن يفهم هذا الكتاب بشكلٍ جيّدٍ، عليه – أكيدًا – أن يدرسه على يد أستاذ، أو أن يكون هو مدرّسًا لكتب (الأسفار) و (الفصوص)٣، فلا بدّ أن يكون قد قرأ كتاب (فصوص الحكم) وأمثاله، لأنّ ما جاء في هذا الكتاب [أي كتاب التوحيد العلميّ والعينيّ] مِن مراسلاتٍ بين المرحوم السيّد أحمد الطهرانيّ الكربلائيّ (وهو مِن تلامذة الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ) وبين المرحوم الشيخ محمّد حسين الاصفهانيّ (وهو مِن أعاظم حكماء ومجتهدي النجف في ذلك الوقت)، هي مراسلات تتعلّق بأصل معنى التوحيد، وكان مشرب الطرفين فيها مختلفًا، فقد كان أحدهما على المشرب العرفانيّ والثاني على المشرب الحِكَميّ؛
المشرب الحكميّ يقول:
الفهلويّونَ، الوجودُ عندهم | *** | حقيقةٌ ذات تشكّكٍ تَعُمّ٤ |
هذا هو مذهب التشكيك في الوجود. أمّا مدرسة العرفان، فهي تتبنّى (لا هو إلّا هو)، وهي لا تقبل مبدأ التشكيك، بل تقول ببطلانه٥.
جاء في كتاب (منطق الطير) للعطّار البيتان التاليان:
دائماً او پادشاه مطلق است | *** | در كمال عزّ خود مستغرق است |
او به سَر نايد ز خود آنجا كه او ست | *** | كى رسد عقل وجود آنجا كه او ست |
[الترجمة الحرفيّة للبيتين: إنّه هو الملِك المطلق على الدوام، وهو غارق في كمال عِزِّه..
فما دام وجوده وجودًا مطلقًا وغير متناهٍ، فأنّى لعقل الموجودات أن يصل إليه].
هناك رجل اسمه على ما يبدو الشيخ إسماعيل التائب، قام بنسخ هذين البيتين مِنَ الشعر وأخذهما إلى المرحوم الآخوند الملّا محمّد كاظم الخراسانيّ وقال له: فسّر لي هذين البيتين رجاءً. فكتب الآخوند جوابًا مختصرًا بما يقارب السطرين لا أكثر، وقال له: ليس لديّ مجال أكثر مِن هذا للإجابة. فأخذ الرجل البيتين إلى المرحوم الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ وطلب منه أن يفسّرهما له، فكتب الشيخ صفحةً مِنَ الشرح وفق مشرب الحكماء. ثمّ أخذ الرجل إجابة الشيخ محمّد حسين الكمبانيّ إلى السيّد أحمد (الكربلائي) وطلب منه أن يُفسّر له الشعر، فكتب السيّد ما يقارب الصفحة أو أكثر في شرحِ وَرَدِّ تأويل وتفسير الشيخ محمّد حسين، وقال: إنّ ذلك التفسير غير صحيح. فعاد الرجل إلى الشيخ محمّد حسين مرّة ثانية، وأراه إجابة السيّد، فكتب الشيخ ردًّا على تفسير السيّد أحمد، ثمّ قام الرجل بتسليم السيّد أحمد الورقةَ الّتي كتب فيها الشيخ ردّه، فكتب السيّد ردًّا على كلام الشيخ، وهكذا تكرّرت هذه العمليّة حتّى أصبح عدد الرسائل أربع عشرة رسالة، سبعة منها للسيّد أحمد، والسبعة الأخرى للشيخ محمّد حسين.
إنّ هذه الرسائل في غاية الإحكام، حيث جمع الشيخ محمّد حسين – والّذي كان حكيم النجف الأوّل في وقتها – كافّة البراهين الفلسفيّة الّتي يَحتجّ بها الحكماء على العرفاء، كما استعمل السيّد أحمد كافّة الدقائق العرفانيّة ضدّه، ودحض أدلّة الشيخ محمّد حسين، وأتمّ عليه الحجّة بالآيات والروايات. ولقد كان الرجلان فطحلين حقًّا.
كنتُ قد عثرت على نسخة مِن هذه المراسلات الأربع عشرة عندما كنت أدرس العلوم الدينيّة في مدينة قم، فاستنسخت منها نسخة. لم يكن لدى العلّامة الطباطبائيّ نسخة منها، فبحث هنا وهناك حتّى حصل على نسخةٍ واحدةٍ كثيرة الأخطاء، فبدأ بتدريسها، وذلك في أيّام العُطل، أي الخميس والجمعة، مِن كلّ أسبوع. ومِن خلال الدرس، وبعد الانتهاء مِن كلّ رسالة مِن رسائل الشيخ محمّد حسين أو السيّد أحمد، كان المرحوم العلّامة يكتب هوامش على تلك الرسائل، وسمّى تلك الهوامش بالتذييلات والمحاكمات، أي التحكيم بين ذينك العَلَمين مِن أعلام العرفان والحكمة، فقد كان كلّ واحدٍ منهما عَلَمًا وصاحب الصدارة [في فنّه] بالإضافة إلى امتيازات أخرى. واستمرّ العلّامة في ذلك حتّى كتب التذييل الخامس على ما يبدو أو السادس، ثمّ حلّ فصل الصيف وبدأت عطلة الحوزات العلميّة. وبعد ذلك سافرتُ إلى مدينة النجف، وبقيتْ تلك التذييلات على حالها. وبعد عودتي مِنَ النجف كنتُ أطلب مِنَ العلّامة أن يتمّم كتابة تلك التذيّيلات – وذلك إن لم يكن مِن أجلنا فلْيكن مِن أجل الآخرين إذ مِنَ المؤسف أن تبقى ناقصة – وكان المرحوم العلّامة يعِد بذلك دائمًا، ولكنّ ذلك لم يحصل حتّى ارتحل عن الدنيا.
أتعلمون ما هو سبب عدم إتمام كتابة تلك التذييلات؟ السبب هو أنّه كان لا بدّ مِن وجود طالبٍ أو أكثر مِن أهل البحث، ليشرح لهم العلّامة تلك المطالب، فيدخل في صلب الموضوع ويخوض فيه، ليتمكّن بعدها مِن كتابة التذييلات، لا أن يبدأ بالكتابة مباشرةً هكذا، إذ لا يمكن أن يتمّ الأمر في هذه الصورة. وخلاصة الأمر أنّ المرحوم العلّامة كان يعِد بإكمال الموضوع باستمرار، غير أنّ ذلك لم يحصل حتّى ارتحل عن الدنيا.
وفي ذلك الوقت بحثتُ لأعثر على نسخة صحيحة للمراسلات الأربع عشرة تلك. وكانت لدى الشيخ عبّاس القوجاني في النجف – وهو متوفٍ الآن رحمة الله عليه – نسخةٌ هي أكثر أخطاءً بكثيرٍ مِنَ النسخة الّتي كنتُ أملكها عندما كنت في قم، فأخذت تلك النسخة ولكنّها لم تفدني في شيء. وبعد عودتي مِنَ النجف إلى قم بحثتُ هنا وهناك عن نسخة منها، ولم أتمكن مِنَ العثور على واحدة. وتعبتُ كثيرًا في تصحيح تلك الرسائل، ولعلّي صرفت أربعة أو خمسة أشهر لأتمّ هذا الأمر وحده، لأنّ تلك النُسخ لم تشتمل على أخطاءٍ في العبارات فقط، بل تجد في بعض الموارد سطرًا بأكمله مفقودًا، وفي بعضها تجد نصف رسالة قد زُجّت في رسالة أخرى، فترى نصف رسالة للسيّد أحمد قد زُجّت في رسالة للشيخ محمّد حسين، بحيث يتحيّر القارئ قائلًا: ما الّذي يعنيه هذا، فها هو يقول بجواب السيّد أحمد! وخلاصة الأمر أنّني واجهتُ الكثير الكثير مِنَ المشاكل في ذلك، حتّى تمكّنت وبحمد الله في السنوات القليلة الماضية مِن إعادة ضبط تلك الرسائل – الّتي أملك عدّة نسخ منها – مِن أوّلها إلى آخرها، وضممتُ إليها التذييلات الخمسة للعلّامة الطباطبائيّ مع أنّها كانت ناقصة.
وبعد ارتحال المرحوم العلّامة، أصرّ علَيّ بعض الإخوة الطهرانيّين على إتمام التذييلات، فقلتُ: ما لي والورود في كتابة تذييلات ومحاكمة لمراسلات أولئك العَلَمين؟! فأصرّوا علَيّ بكذا وكذا، فقلت لهم: ما دمتم مصرّين على هذا الأمر، فامهلوني بعض الوقت حتّى أبلغ حدًّا معيّنًا مِن تأليف كتابَي (معرفة الإمام) و (معرفة المعاد) – حيث كنتُ مشغولًا في تأليفهما – ثمّ أبدأ بما طالبتموني به إن شاء الله.
واستمر الأمر على هذا الحال، حتّى أنهيتُ تأليف الجزء الثاني عشر والأخير مِن كتاب (معرفة الإمام)۱، وذلك بعد شهر رمضان قبل سنتين مِنَ الآن. وقبل أن أبدأ بتأليف كتاب (معرفة الله)، قلتُ ها قد حان الوقت لأفي بوعدي وأُنجز ما طالبوني به، ثمّ أشرع بعدها بمشيئة الله في تأليف كتاب (معرفة الله). وعليه، بدأتُ بتأليف ذلك الكتاب، وانشغلتُ به طوال فصل الشتاء حتّى أنهيته في شهر رمضان وسلّمته للطباعة.
قلتُ لكم أنّني صرفتُ عدّة أشهر في بداية الأمر، حتّى تمكّنت مِن استخراج وتنقيح نسخة أصليّة وصحيحة مِن بين النسخ [المشوبة بالأخطاء] للمراسلات الأربع عشرة، وذلك لتكون وافية بالغرض. وعليه، قمتُ بكتابة مقدّمة مبسوطة جدًّا، بما يقارب أربعين صفحة، بيّنتُ فيها ميزان المعرفة والعرفان لكلٍّ مِنَ السيّد أحمد الكربلائيّ والشيخ محمّد حسين، وبيّنت جوانب شخصيّتهما، ثمّ أدرجتُ الرسائل الأربع عشرة، وأضفتُ تعليقاتي في بعض المواضع، الّتي كانت بحاجة إلى توضيح، أو الّتي كان فيها إشكالات. كما أدرجتُ عين تذييلات المرحوم العلّامة الّتي كتبها على تلك الرسائل دون أن أضيف إليها أو أنقص منها كلمة واحدة، [وهي تذييلات] توقّف قلم المرحوم العلّامة عن كتابتها عند الرسالة السادسة على ما يبدو. فقمت بإضافة تذييلاتي – الّتي هي مِن تأليفي – على الرسالة السادسة حتّى الرابعة عشر، وقد أشرتُ إلى الموضع الّذي انتهت فيه تذييلات العلّامة وموضع ابتداء التذيّيلات الّتي كتبتها أنا، لكي يكون ذلك واضحًا للقارئ، ولا يختلط الأمر عليه.
على أنّ تسمية تلك التذيّيلات [الّتي كتبتها أنا] بالمحاكمات كثيرٌ، إذ لا بدّ أن يكون الرجل مثل العلّامة الطباطبائيّ لكي يحكم بين الطرفين، أمّا ما كتبته أنا فيكفي أن يُسمّى (تذييلات) والّتي كانت بمقدار نظري القاصر.
هناك غرضان مِن طباعة هذا الكتاب:
الأوّل هو المحافظة على أصل هذه الرسائل الأربع عشرة؛ فلو لم أكتبها، لَمَا بقي لها أثرٌ بالمرّة. على أنّ شخصًا، وهو رجلٌ تعرفونه، كان قد طبع هذه المراسلات، ولكنّها تضمّنت الكثير الكثير مِنَ الأخطاء الواضحة، لأنّ النسخة الّتي أمتَلَكها لم تكن صحيحة.
والثاني هو أنّه [لو لم أقم بتأليف هذا الكتاب] لاندثر أثر تلك التذيّيلات الخمسة الّتي كتبها العلّامة الطباطبائيّ، فلم يكن أحد يمتلك نسخة منها غير هذا العبد، فلو لم أقم أنا بطباعتها لضاعت؛ فهي رأسُ مالٍ علميٍّ، وثمرةُ عُمْرِ أفرادٍ ذوي شخصيّة متميّزة، كالعلّامة الطباطبائيّ. إنّ تلك المطالب [مأخوذةٌ مِن] أمير المؤمنين، وهي ليست بمطالبٍ عاديّةٍ، بل هي فاتحة لطريق العرفان، وعلى درجة مِنَ الإتقان بحيث تُسكت لسان كلِّ معاندٍ وتحطّمه وتصبّ الرصاص في فمه.
كان الشيخ محمّد حسين – وهو أصفهانيّ – مرجعًا للتقليد، والرجل الأصوليّ الأوّل في الحوزة العلميّة في النجف. لا يوجد في الوقت الحاضر مَن يمكن أن يفهم كتب الأصول للشيخ محمّد حسين. إنّ مَن يتمكّن مِن مباني الشيخ محمّد حسين فهو عالِمٌ، أمّا الّذين لا يفهمون كلامه، فما عسانا أن نسمّيهم؟! أمّا السيّد أحمد الكربلائيّ، فهو شخصيّةٌ علميّة رزينة ومِن أصحاب النظر، كان مِن تلامذة المرحوم الشيخ الملا حسين قلي الهمدانيّ، وأستاذ المرحوم السيّد علِيّ القاضي، كان له وزنٌ معروفٌ في العرفان، وكان عالِمًا.
بناءً على كلّ ما ذكرناه، كان لا بدّ أن تأخذ تلك المواضيع طريقها إلى الخارج وتنتشر، لتكون سندًا، وإلّا كانت ستضيع ويضيع معها هذا العِلم. فركّزتُ على هذا الجانب أكثر مِنَ الآخر. فكان هدفي الأساسيّ هو تحقيق هذين الغرضين معًا: أن يبقى أصل الرسائل محفوظًا، وأن تُحفظ معها تذييلات العلّامة الطباطبائيّ. ولو كنتُ قد اكتفيتُ بتضمين الكتاب للتذييلات الخمسة فقط، لبقي الموضوع ناقصًا، ولهذا السبب – وبخجلٍ شديدٍ – أضفتُ بقيّة التذييلات، فبلغ حجم الكتاب ما يقارب أربعمائة صفحة أو أكثر، ثمّ سلّمتُ الكتاب قبل سنتين وبعد انتهاء شهر رمضان إلى السيّد ... لطباعته. وقبل ستّة أشهر مِنَ الآن، أخبرني أنّ الطباعة الحروفيّة للكتاب قد اكتملت، ولم يتبقّ شيء سوى طباعته على الورق.
إنّ اسم الكتاب هو (التوحيد العلميّ والعينيّ)، إذ كان توحيد الشيخ محمّد حسين توحيدًا علميًّا، أمّا توحيد السيّد أحمد فكان توحيدًا عينيًّا. وبإمكانك أن تعثر في هذا الكتاب – مِن الناحية الاستدلاليّة – على جميع النكات الدقيقة واللطيفة والظريفة في العرفان، غير أنّ [الوقوف على] هذا الأمر يحتاج إلى المرور بدورة تدريسيّة كاملة في مجال معرفة الله.
مميّزات بعض تأليفات العلّامة الطهرانيّ وفوائدها
إن وفّقني الله، وتمكّنت بمشيئته مِن تأليف كتاب (معرفة الله)۱، سيكون كتابًا بمستوى جامعيّ، وسيكون ككتابَي (معرفة الإمام) و (معرفة المَعَاد) في السهولة والبساطة، وجميع مطالبه منسجمة، لا تعارض فيما بينها.
إنّ كلّ موضوعٍ تبحث عنه، ستجده في كتابَي (معرفة الإمام) و (معرفة المعاد)، مشروحًا بشكلٍ بسيطٍ بحيث يستطيع الجميع أن يطالعه، وإن واجه القارئ صعوبةً في بعض الموارد، فسيفهمها بعد تصفّحه للورقتين التاليتين مِنَ الكتاب. وهكذا سيكون كتاب (معرفة الله)، فمِن خلاله سيلمس القارئُ اللهَ كشربة ماءٍ، نعم سيكون الأمر بهذه السهولة والإتقان، وهكذا يجب أن يُعرف الله.
قالت إحدى النساء، وهي مهندسة مِن أصفهان، بعد أن قرأت كتاب (معرفة المَعَاد): بعد مطالعتي لهذا الكتاب، لن أخاف مِنَ الموت. [وقالت:] كنتُ أتصوّر أنّ المَعَاد ظلمانيٌّ بسبب ما كنتُ أسمعه مِن أقوال، وأنّ الله سيقف على أطراف جهنّم في جيش يحملون الهراوات في أياديهم، غير أنّني الآن وبعد أن قرأتُ كتاب [معرفة المَعَاد]، وجدتُ أنّ الموت شيءٌ جيّدٌ، وهو عبارة عن ارتقاءٍ وتكاملٍ، وخلاصة الأمر أنّه تَبيّن لي وبكلّ وضوح أنّ الموت ليس مخيفًا إلى هذه الدرجة، غاية الأمر أنّ على الإنسان أن يُصلِح نفسه.
إن وفّقني الله وتمكّنت بمشيئته مِن تأليف كتاب (معرفة الله)، سيكون الأمر كذلك أيضًا، فسيرى الإنسان كيف أنّ الجلوس مع الله وتبادل الحديث معه كشربة ماءٍ.
تو كجايي تا شوم من چاكرت | *** | چارقت دوزم كنم شانه سرت |
دستكت بوسم بمالم پايكت | *** | وقت خواب آيم بروبم جايكت |
[الترجمة الحرفيّة للبيتين: أين أجدك لأصبح خادمًا لك، وأخصف نعلك وأمشّط شعرك.
وأُقَبّل يديك، وأُدَلِّك رجليك، وأَكنس المكان عندما تنام].
نعم، سأشرح المطالب [في كتاب معرفة الله] بعبارات بسيطة كبساطة العبارات الّتي سمعها النبيّ موسى مِن الرجل [الّذي كان يناجي ربه]. أمّا كتاب (التوحيد العلميّ والعينيّ) فهو ليس كذلك، إنّه ليس سهلًا، فإن تمكّن أحدٌ بمشيئة الله أن يطوي جميع تلك المراحل، يستطيع حينئذٍ أن يدرس هذا الكتاب على يدِ أستاذِ فلسفةٍ، نعم، لا بدّ أن يكون أستاذًا لا مجرّد مدرِّس، لا بدّ أن يكون أستاذًا – بتمام معنى الكلمة – في تدريس (الأسفار) و (فصوص الحِكم)، وحينئذٍ يأتي إلى هذا الأستاذ ويقول له: أريد أن أدرس عندك هذا الكتاب. ويستفيد مِن وجهات نظره.
كانت هذه الليلة ليلةً جيّدةً، فهي إحدى ليالي شهر رمضان، ولقد جرى الحديث فيها عن بعض العظماء أمثال المرحوم الشيخ الأنصاريّ (رحمة الله عليه) والسيّد جمال [الدين] والسيّد أحمد الكربلائيّ، وهم مِنَ الرجال الأعاظم.
اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد