2

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ

مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

443
مشاهدة المتن

المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني

القسممحاضرات العلامة الطهراني

المجموعةمناقب أهل البيت

التاريخ 1397/09/20

جلسات المجموعة(3 جلسة)

التوضيح

ما هي حقيقة المعجزة؟ وكيف تصدر من النبيّ؟ كيف انتقلت حقيقة مقام النبيّ إلى أمير المؤمنين عليه السلام؟ ما هي الأشياء التي ورثها الإمام عليّ عليه السلام من الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم؟ كيف ينظر الإمام عليّ عليه السلام للحكومة؟ أيّة معاناة قاساها أمير المؤمنين من العدوّ الداخليّ؟ ما هي الحوادث المرافقة لاستشهاده عليه السلام؟
هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لبيان بعض مناقب أهل البيت عليهم السلام في مسجد القائم بطهران.

/۱٤
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ

  •  

  • مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ المحاضرة الثانية

  •  

  • محاضرة القاها

  • سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدّس الله نفسه الزكيّة

  •  

  •  

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

2
  •  

  •  

  • أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ

  • بسم اللَه الرّحمن الرّحيم‌

  • بارئِ الخلائقِ أجمعين، باعث الأنبياءِ والمُرسَلين

  • والصّلاةُ والسّلامُ على أشرَفِ السُفَراءِ المُكَرَّمينَ

  • خاتَمِ الأنبياءِ والمرسلينَ، حبيبِ إله العالمينَ؛ أبي ‌القاسم محمّدٍ

  • وعلى آلِه الطَيبين الطاهرين

  • ولَعنَةُ اللَه عَلى أعدائِهِم أجمَعينَ، مِن الآن إلى قِيامِ يومِ الدّين

  •  

  •  

  • كيفيّة صدور المعجزة من النبيّ

  • قال الله الحكيمُ في كتاب الكريم:

  • {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}.۱

  • جميع المعجزات والكرامات التي تتحقّق على يد الأنبياء إنّما تتمّ بإذن الله تعالى، لكنّها لا تكون خارجة عن إرادة النبيّ واختياره؛ أي أنّ إرادة هذا النبيّ واختياره تكونان بإرادة الله واختياره، فتتحقّق تلك المعجزات بهذا الاختيار وهذه الإرادة؛ وهذا بالضبط مثل بعض الأفعال التي نقوم بها، فتُنسب إلينا، وتُنسب إلى الله تعالى في الوقت ذاته؛ فإذا كانت تُنسب إلينا، فلأنّها صدرت بإرادتنا واختيارنا؛ وإذا كانت تُنسب إلى الله، فلأنّ إرادتنا واختيارنا وقدرتنا تحقّقت كلّها بأمره تعالى وإذنه؛ بحيث لولا هذا الأمر والإذن، لما صدرت منّا هكذا أفعال بتاتًا؛ ومن هنا، فإنّ المعجزات التي يتوفّر عليها الأنبياء ترجع إلى أنّ العليّ الأعلى منحهم هكذا سيطرة وقدرة نفسانيّتين لكي يُريدوا تحقّق هذه المعجزات والكرامات بإذنه تعالى.

  • فحينما أشار النبيّ الأعظم إلى القمر، فصار نصفين،٢ أو عندما قام ببقيّة المعجزات، فإنّ حصول ذلك لم يكن عن طريق أن يدعو صلّى الله عليه وآله وسلّم بدعاء، فيستجيب الله تعالى هذا الدعاء؛ لأنّ هذه الاستجابة لم تكن منفصلة عن نفس النبيّ، بل إنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم بنفسه أشار ـ بأمر الله تعالى وإذنه ـ إلى القمر، فانشقّ إلى نصفين؛ يقول نبيّ الله عيسى عليه السلام في القرآن المجيد:

  • {أُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ}؛

  • {وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ}؛٣ «فأشفي الذي يولد أعمى بإذن الله، وأداوي المصاب بمرض البرص بإذن الله».

  • «فأنا أشفي بإذن الله تعالى»؛ وهذه مسألة [مهمّة].

  • وعليه، فإنّ كافّة المعاجز التي صدرت من الأنبياء تُماثل تمامًا الأفعالَ التي نقوم بها نحن، وتُنسب إليهم تلك المعجزات كما تُنسب إلينا هذه الأفعال بالضبط؛ غاية الأمر أنّ هذه الأفعال الصغيرة والمحدودة تُنسب إلينا نحن الموجودات الصغيرة والمحدودة، وتلك الأفعال الخارقة للعادة والمعجزة والكبيرة تُنسب إلى تلك الأرواح الطيّبة والمقدّسة والنفوس الزكيّة التي حصلت على هكذا قابليّة على إثر المجاهدة وفيوضات الباري عزّ وجلّ.

    1. سورة فاطر، الآية ٣٢.
    2. لمزيد من الاطّلاع على كيفيّة شقّ القمر، راجع: الميزان في تفسير القرآن، ج ۱٩، ص ٦۰.
    3. سورة آل عمران، الآية ٤٩.

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

3
  • فمع أنّ جميع الأنبياء الذين أرسلوا من قِبل الله كانوا واصلين إلى مقام التوحيد، ومبعوثين من قِبله تعالى، وصادقين في مهمّتهم، ومعصومين، إلاّ أنّ كلّ واحد منهم كان يتّصف بميزة وخاصّية مختلفتين عن الآخر؛ فكان حضرة عيسى يتوفّر على خاصّية معيّنة، وحضرة نوح يمتلك خاصّية أخرى، وكلاًّ من حضرتي إسماعيل وإسحاق يتمتّع بخاصّية محدّدة، بحيث كانت المعجزات التي تصدر منهم تتناسب بشكل مباشر مع خاصّيتهم الروحيّة؛۱ هذا من جهة.

  • ومن جهة أخرى، فقد كان النبيّ الأكرم حائزًا على مقام خاتم الأنبياء والمرسلين المقدّس، وجامعًا لكافّة الخصائص التي توفّر عليها جميع الأنبياء المتقدّمين، سواءً من ناحية العلم، أو من ناحية الابتلاءات، أو من ناحية المعجزات؛ لأنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم يمتلك مقام الجامعيّة؛ كما أنّ عنوان «خاتم النبيّين» ليس عنوانًا شكليًّا أو لقبًا إضافيًّا وظاهريًّا، بل هو حاكٍ عن خاصّية نفسانيّة ساهمت في تقدّم النبيّ على كافّة الأنبياء، وصيرورته شفيعًا لهم بأجمعهم عند الله تعالى: 

  • {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا}.٢

  • ومن هنا، فإنّ كلّ اسم كان يتوفّر عليه كلّ نبيّ مكنونٌ بنحو أتمّ وأكمل في وجود النبيّ، كما أنّ الرسول الأعظم حاز على كلّ معجزة كان يمتلكها كلّ نبيّ، وكلّ مصيبة ابتُلي بها كلّ نبيّ ابتُلي بها أيضًا صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ ولهذا، قال:

  • «ما أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثلَ ما أُوذيتُ»؛٣

  • وهذا لازم لذلك السير وذلك المقام اللذين كانا يختصّان به صلّى الله عليه وآله وسلّم.

  • انتقال حقيقة مقام النبيّ إلى أمير المؤمنين عليه السلام

  • وقد انتقل مقام النبوّة هذا ـ وليس المراد هنا عنوان النبوّة، بل المراد حقيقة هذا المقام ـ إلى أمير المؤمنين عليه السلام؛ فذلك سيّدُ النبيّين، وهذا سيّدُ الوصيّين؛ وذلك سيّدُ المُرسلَين، وهذا سيّدُ الأولياء والمتّقين وإمامُ المُوحِّدين؛ مع أنّ مقام أمير المؤمنين ليس كذلك مقامًا شكليًّا؛ إذ لم يكن عليه السلام كأحد أفراد الناس الذين أُعطيَ لهم منصب معيّن؛ بأن يقول الله تعالى: «جَعلتُكَ إِمامًا»، فيقول عليه السلام: «سمعًا وطاعةً»؛ كلاّ! بل إنّ هذا الأمر يرجع إلى خاصّية في النفس، وسعة، وكمال، ومجاهدة، وعالَمٍ لازمُه الوصولُ إلى درجة يستحيل على كلّ إنسان فاقد لذلك الكمال والميزة الوصول إليها.

    1. لمزيد من الاطّلاع، راجع، شرح الفصوص للقيصريّ، ص ۱٤٥.
    2. سورة النساء، الآية ٤۱.
    3.  مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ابن شهرآشوب، ج ٣، ص ٢٤۷؛ بحار الأنوار، ج ٣٩، ص ٥٦؛ كما أنّ مضمون هذه العبارة جاء في العديد من المجاميع الروائيّة، راجع، الروح المجرّد، ص ٦۷٥.

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

4
  • فتلك المنحة التي صدرت من الله تعالى، وجعلت من أمير المؤمنين وصيًّا لنبيّ آخر الزمان ـ بحيث يتعيّن على جميع أفراد الأمّة إلى يوم القيامة اتّباعه والانضواء تحت لوائه ـ ليست عنوانًا شكليًّا، بل هي عبارة عن سعة روحيّة شملت جميع الناس؛ وهي تستقي الفيض الربّاني من مقام الملكوت الأعلى، لتوصله إلى عالم الوجود؛ ولهذا، فإنّ الروايات الواردة عن النبيّ الأكرم في حقّ أمير المؤمنين عليه السلام عجيبة جدًّا.

  • فقد كان الإمام عليّ عليه السلام يُرافق المؤمنين في أحد الأسفار التي توجّهوا فيها لأجل القيام بغزوة؛ وحينما رجع الأصحاب من هناك، اشتكوا أمير المؤمنين إلى رسول الله بأنّه كان يقرأ طيلة هذا السفر في كلّ صلواته سورة التوحيد بعد قراءته لسورة الحمد؛ أي كان يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛۱ فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم:

  • «دَعوا عَلِيًّا، فَإنَّ عليًّا مَمسوسٌ في ذاتِ اللهِ».٢

  • أي أنّ عليًّا مجنون بالله تعالى، وفانٍ في ذاته، وحسابه مختلف عن حساب الآخرين؛ فلا يمسّه أيّ عيب، ولا يلحقه أيّ ذمّ؛ وهو بنفسه صاحب الولاية، والمحامي عن الدين والشريعة والقرآن.

  • وفي حادثة أخرى، جاؤوا ثانيةً عند الرسول الأكرم، ليشكوا إليه أمير المؤمنين؛ فاستاء النبيّ كثيرًا؛ ثمّ أتى المسجد، وألقى خطبة جاء فيها:

  • «أيّها الناسُ لاتَسُبُّوا عَلِيًّا، فَإِنَّ عَلِيًّا لَأَخشنُ في ذاتِ اللهِ»٣و٤ «ارفعوا أيديكم عن عليّ؛ فإنّ أفكاركم لن تبلغ مقاماته، ولن يصل فكركم المحلّق إلى أصغر درجة من درجاته؛ فقد صار عليّ شديدًا ومتصلّبًا في ذات الله، حيث تخطّى كافّة الدرجات والمقامات المُعيَّنة للمؤمنين، وتجاوز جميع الجنّات والأسماء والصفات، واستقرّ في حرم الله تعالى».

  • وورد في رواية أخرى: 

  • «... مَخشونٌ في ذاتِ اللهِ»؛٥ «أي أنّه صار فانيًا في ذات الله، ومتصلّبًا وثابتًا وراسخًا في هذا الفناء، إلى درجة أنّه لا يُمكن لأيّ زلزال أو إعصار أو صاعقة أن تُحرّك أيّة مرتبة من مراتبه عليه السلام».

  • وجاء في روايات نقلها السنّة والشيعة بأجمعهم أنّ الرسول الأكرم ضرب خلف كتف أمير المؤمنين عليه السلام مرارًا وتكرارًا، وقال له: 

    1. سورة الإخلاص، الآية ۱.
    2.  حِلية الأولياء، ج ۱، ص ٦۸: «لا تَسُبُّوا عَلِيًّا فَإنَّه مَمسوسٌ في ذاتِ اللهِ تعالى».
      جاءت هذه العبارة النبويّة: «فإنّه ممسوسٌ... إلخ» جوابًا عن شكوى بعض الأصحاب من كيفيّة تقسيم الغنائم؛ وأمّا بالنسبة لكيفيّة قراءة أمير المؤمنين عليه السلام، فقد وردت في الإرشاد، ج ۱، ص ۱۱٦ فقط؛ وذلك بالنحو الآتي:
      «فَقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لِبَعضِ مَن كانَ مَعَهُ فِي الجَيشِ: "كَيفَ رَأيتُم أمِيرَكُم؟"، قالُوا: "لَم نُنكِر مِنهُ شَيئًا إلّا أنَّهُ لَم يؤُمَّ بِنا فِي صَلاةٍ، إلّا قَرَأ بِنا فِيها بِـ {قُل هُوَ اللهُ أحَدٌ}"، فَقالَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: "سَأسألُهُ عَن ذَلِكَ"؛ فَلَمّا جاءَهُ قالَ لَهُ: "لِمَ لَم تَقرَأ بِهِم في فَرائِضِكَ إلّا بَسُورَةِ الإخلاصِ؟"؛ فَقالَ: "يا رَسُولَ اللهِ، أحبَبتُها". قالَ لَهُ النَّبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلّم: "فَإنَّ اللهَ قَد أحَبَّكَ كَما أحبَبتَها"، ثُمَّ قالَ لَهُ: "يا عَلِيُّ، لَولا أنَّني أُشفِقُ أن تَقُولَ فِيكَ طَوائِفُ ما قالَتِ النَّصارَى فِي عِيسَى ابنِ مَريَمَ، لَقُلتُ فِيكَ اليَومَ مَقالاً لا تَمُرُّ بِمَلَإٍ مِنهُم إلّا أخَذُوا التُّرابَ مِن تَحتِ قَدَمَيك!"»؛ لمزيد من الاطّلاع، راجع: معرفة الإمام، ج ٦، ص ٦۷ ـ ۷٢.
    3.  ينابيع المودّة، القندوزيّ، ج ٢، ص ۱۸۷:
      «وعن أبي سعيد: خَطَبَنا النبيُّ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم وقال: "أيّها الناسُ، لا تَشكوا عَليًّا! فَوَ اللهِ إنّه لَأَخشنُ في ذاتِ اللهِ!" أخرجه أحمد»؛ ومصادر أخرى.
      لمزيد من الاطّلاع، راجع: معرفة الإمام، ج ٦، ص ٦۷ ـ ۷٢. 
    4.  بحار الأنوار، ج ۱۰۷، ص ٣۱.
    5.  معرفة الإمام، ج ٦، ص ٦۸:
      «نقل في «ينابيع المودّة» طبعة إسلامبول سنة ۱٣۰۱ ه، ص ٢۱٦ هذه العبارة بتخريج أحمد بن حنبل، وقال: وعن كعب بن عُجْرة مرفوعًا: "إنَّ عَلِيًّا مَخْشُونٌ في ذَاتِ اللهِ تَعالَى"*».
      * جاء في الينابيع (طبعة أسوة): "مخشوشن"؛ كما ورد أيضًا في إحقاق الحقّ (للشوشتريّ)، ج ٢۰، ص ٢٤۷:
      «... منها حديث كعب بن عجرة رواه جماعةٌ من أعلام العامّة في كتبهم، منهم العلاّمة حسام الدين المرديّ الحنفيّ في آل محمّد، ص ۱٢٥، نسخة مكتبة السيّد الأشكوريّ، قال:
      روى الإمام أحمد بن حنبل في المناقب وأخرجه أبو عمر، هما بالإسناد عن كعب بن عجرة وعن ابن عبّاس مرفوعًا: "أنّ عليًّا مخشونٌ في ذاتِ الله"». المحقّق

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

5
  • «يا عَليّ! إنَّ فيكَ سَبعَ خِصالٍ لا يُحاجُّكَ بِهِ أحَدٌ يومَ القيامَة؛ أنتَ أَوَّلُ المؤمِنينَ باللهِ إيمانًا وَأوفاهُم بِعَهدِ اللهِ، وَأقوَمَهُم بِأمر ِاللهِ، وَأرأفُهُم بِالرَّعيَّة وَأَقسَمُهُم بِالسَّويَّة، وَأعلَمُهُم بِالقَضيَّة، وَأَعظَمُهُم مَزيَّةً يومَ القيامَة».

  • يا عليّ، توجد فيك سبع خصال لا يُمكن لأيّ أحد من الأوّلين والآخرين أن يُساويك في واحد منها يوم القيامة عند الوقوف بين يدي الله تعالى:

  • الأولى: أنّك أوّل من آمن بالله؛ وليس المراد أنّه أوّل الأمّة إيمانًا به تعالى، بل المراد أنّه أوّل موجود في عالم الكون والخلقة، وليس في عالم الزمان والتدريج، بل في عالم الدهر والسرمد وذلك العالم الذي خلق الله فيه نوره المقدّس؛ فكان أوّل شعاع يُؤمن به تعالى، بحيث إنّ جميع المؤمنين ينضوون تحت لوائه عليه السلام. الثانية: أنّك أوفى الناس بعهد الله تعالى. الثالثة: أنّك أقوم بأمر الله من جميع الناس وأكثرهم ثباتًا ورسوخًا وتصلّبًا. الرابعة: أنّ محبّتك ورعايتك ورأفتك بالرعيّة والأمّة أعلى من كافّة الناس. الخامسة: أنّك أعدل الناس وأجدرهم من حيث العدالة والقسمة بالسويّة. السادسة: أنّ قضاءك في الدعاوى والمحاكمات أعلى وأقوم من كافّة الأفراد. السابعة: أنّ ثوابك ومنزلتك وعظمتك عند الله يوم القيامة أكبر من الجميع».

  • فلم يقُل الرسول الأكرم: «أنت أفضل هذه الأمّة»، بل قال ما مفاده: «لن يبلغ مقامك أيّ أحد يوم القيامة بسبب الخصال السبع التي تتّسم بها».

  • وقد نُقل هذا الأمر عن أهل السنّة، حيث يُعدّ كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهاني من الكتب السنّية المعتبرة التي يطمئنّ إليها الجميع؛ وقد صنّفه هذا العالم السنّي في عشرة أجزاء، وسمّاه بحلية الأولياء؛ وللإنصاف، فهو كتاب يُعتبر في كثير من مواضعه مصدرًا لتخريج الأحاديث؛ وقد كان أبو نعيم الأصفهانيّ رجلاً عظيمًا عاش مئات السنين قبل المرحوم المجلسيّ الذي كان من أجداده؛ فنجده ينقل هذه الرواية في كتابه؛ علاوةً على نقلها في كتب سنّية أخرى بين أيدينا.

  • وراثة الإمام عليّ للرسول الأكرم في العلم والابتلاءات والمعاجز

  • ولهذا، نُشاهد في أمير المؤمنين عليه السلام وجود الأبعاد الثلاثة التالية: فعلمه أكبر وأغزر وأوفر من الجميع، بمن فيهم الأنبياء؛ كما أنّ ابتلاءاته أعظم من جميع الأنبياء، بمقتضى الإرث الذي حصل عليه من النبيّ الأكرم؛ وأيضًا، فإنّ معاجزه وكراماته أعجب وأغرب من كافّة الأنبياء، وذلك بمقتضى الإرث الذي ناله من الرسول الأعظم؛ ومن هنا، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام ورث النبيّ الأكرم في ثلاثة أبعاد: الأوّل في العلم، والثاني في الابتلاءات والمصائب، والثالث في الظهورات والبروزات؛ أو ما يُعبّر عنه بالمعاجز والكرامات.۱

    1. راجع: معرفة الإمام، ج ٤، من الدرس السادس والأربعين إلى الدرس الواحد والخمسين.

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

6
  • يقول ابن أبي الحديد المعتزليّ السنّي في شرحه لنهج البلاغة۱ـ كما أورد الفخر الرازيّ الذي كان سنّيًا متعصّبًا هذه المسألة بعينها في تفسيره٢ أيضًا ـ ما مضمونه:

  • اقتلع أمير المؤمنين عليه السلام باب خيبر، وألقاه لمسافة بعيدة، وجعله جسرًا ليعبر منه الجيش إلى الأعلى، ثمّ ينزل وسط القلعة؛ وبعدما وضع الباب هناك، جاء أربعة وأربعون رجلاً قويًّا من صحابة رسول الله، فلم يقدروا على تحريكه.٣

  • وحينما أراد هذان العالِمان تفسير ذلك العلم الملكوتيّ ـ على حدّ تعبيرنا نحن ـ وتأويله، قالا:

  • كان عليٌّ في ذلك الحين منقطعًا عن عالم البشريّة، وغارقًا في الأنوار الإلهيّة، إلى درجة أنّه لم يستخدم بتاتًا القوى المادّية والبشريّة، ولم يستعن بها أبدًا لأجل قلع ذلك الباب؛ أي أنّه قلع الباب بقوّة روحانيّة وملكوتيّة.٤

  • ثمّ يوردان شاهدًا على ذلك من كلامه عليه السلام الذي يقول فيه:

  • «ما قَلَعتُها بِيَدٍ بَشَريَّةٍ، ولَكِن قَلَعتُها بِيَدٍ مَلَكوتيَّةٍ»٥و٦

  • فمع أنّ كلامهما صحيح، إلاّ أنّ حقيقة المسألة لا تنتهي عند هذا الموضع؛ لأنّها أعلى من ذلك. فحقيقة الأمر أنّ أمير المؤمنين كان غارقًا في الأنوار الإلهيّة؛ فكان فعله فعل الله، وقبضه وبسطه قبض الله وبسطه، ورؤيته رؤية الله، وسمعه سمع الله، وتأثيره تأثير الله! فإذا كان الرسول الأكرم قد أشار إلى القمر، فإذا به ينشطر أعلى السماء إلى نصفين، فإنّ قلع باب قلعة خيبر ليس بأصعب من هذا الأمر! إنّها الإرادة الإلهيّة التي تتجلّى من خلال النفس المقدّسة للإمام عليه السلام، وتُظهر هذا الفعل في الخارج؛ ولهذا، قال الرسول الأكرم:

  • «يا عليُّ، َ لَوْلَا مَخَافَة أنْ تَقُولَ فِيكَ طَوائِفُ مِنْ أمّتي ما قَالَتِ النَّصارى في عيسى بْنِ مَرْيَمَ، لَقُلْتُ فِيكَ مَقالاً لا تَمُرُّ بِمَلأ مِنَ النّاسِ إلّا أخَذُوا التُّرابَ مِنْ تَحْتِ قَدَمَيْكَ يَسْتَشْفُونَ بِهِ».۷

  • حكاية دفن أمير المؤمنين لسلمان

  • ويروي ابن شهرآشوب عن جابر بن عبد الله الأنصاريّ أنّه قال: صلّينا صلاة الصبح في مسجد النبيّ خلف أمير المؤمنين عليه السلام؛ وبعدما انتهينا من الصلاة، التفت إلينا الإمام، وقال لنا مُعزّيًا:

  • «آجَرَكم اللهُ على موتِ أخيكُم سَلمان».۸

    1.  شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ۱، ص ٢٢.
    2.  مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج ٢۱، ص ٩۱.
    3. جدير بالذكر أنّ ابن أبي الحديد صرّح في ضمن قصيدة من الروضة المختارة (القصائد العلويّات السبع)*، ص ۱٤۰ بأربعة وأربعين رجل؛ غير أنّه جاء في دلائل النبوّة، ج ٤، ص ٢۱٢، وفي كنز العمّال، ج ۱٣، ص ۱٣٦، ومصادر أخرى ذكر أربعين رجل. المحقّق
      * يشتمل كتاب الروضة المختارة على سبع قصائد بديعة في مدح أمير المؤمنين عليه السلام أنشدها ابن أبي الحديد، واشتُهرت بالقصائد العلويّات السبع. المحقّق
    4.  مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج ٢۱، ٢ ٤٣٦؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ٥، ص ۷؛ ج ٢۰، ص ٣۱٦.
    5.  مشارق أنوار اليقين في أسرار أمير المؤمنين عليه السلام، ص ۱۷۰؛ مفاتيح الغيب، الفخر الرازيّ، ج ٢۱، ص ٤٣٦: «قال عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه: "واللهِ ما قَلَعتُ بابَ خَيبرَ بِقُوّةٍ جَسَدانيّةٍ ولكن بِقُوَّةٍ رّبّانيةٍ"»؛
      شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ٥، ص ۷: «قول عليّ: "واللهِ ما قَلَعتُ بابَ خَيبرَ بِقُوَّةٍ جَسَدانيّةٍ بل بِقُوَّةٍ إلهيّةٍ"».
    6. لمزيد من الاطّلاع، راجع: معرفة الإمام، ج ٤، ص ٢٦.
    7.  ينابيع المودّة، ج ۱، ص ٣٩٣؛ المناقب، الخوارزميّ، ص ٣۱۱؛ كفاية الطالب، الكنجيّ الشافعيّ، ص ٢٦٤؛ شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج ٩، ص ۱٦۸، مع اختلاف يسير.
    8.  مناقب آل أبي طالب عليهم السلام، ابن شهرآشوب، ج ٢، ص ٣۰۱.

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

7
  • وكان سلمان في المدائن التي تقع بالقرب من بغداد، وتفصلها عن المدينة مسافة تناهز ثلاثة آلاف كيلومتر، ويجب قطعها بواسطة المَركَبات الآليّة في مدّة تصل إلى عدّة أيّام، وبواسطة الجمال في مدّة شهر كامل؛ وقد كان سلمان واليًا على المدائن، ورجلاً زاهدًا وعابدًا وحجّة لله تعالى على تلك البلاد.

  • فالتفت أمير المؤمنين عليه السلام إلى الأصحاب، وعزّاهم في وفاة سلمان؛ ثمّ قال جابر بن عبد الله الأنصاريّ: لبس أمير المؤمنين عمامة رسول الله ودراعته، وأخذ قضيبه وسيفه، وركب على العضباء (ناقة الرسول)، وقال لقنبر: «[أعطني يدك و] عُدَّ عشرًا».

  • قال قنبر: ففعلت فإذا نحن على باب سلمان [بالمدائن].

  • قال زاذان؛ وهو رفيق سلمان ونديمه وكان من المحبّين والمؤمنين، كما كان يُمرّض سلمان ويهتمّ بشؤونه: 

  • لمّا أدرك سلمان الوفاة فقلت له: من المُغسّل لك؟ 

  • قال: من غسّل رسول الله؛

  • فقلت: إنّك في المدائن وهو بالمدينة؛ 

  • فقال [ما معناه]: لا يهمّ، إذا ارتحلتُ عن دار الدنيا، اشدد شفتيّ ولحيتي، وضع عليّ قطيفة، ثمّ انتظر سماع صوت يُشبه صوت سقوط شيء على الأرض، وافتح الباب، ليدخل عليّ بن أبي طالب. 

  • يقول زاذان: نطق سلمان بالشهادتين، وارتقت روحه إلى عالم القدس، فشددتُ لحيته وشفتيه، ووضعت عليه قطيفة كما وصّاني؛ ولم تمرّ لحظات حتّى سمعتُ صوتًا، ففتحتُ الباب، فرأيت أمير المؤمنين، فسلّمت عليه، فردّ عليّ السلام.

  • وقال عليه السلام [ما مضمونه]: «يا زاذان، قضى أبو عبد الله سلمان؟ أطال الله عمرك ووفّقك للخير؛ لقد كان سلمان نعم الأخ لي، وكان الرسول يُحبّه كثيرًا، ويذكره في الليالي الحالكة عدّة مرّات».

  • قلت: أجل، لقد ارتحل عن الدنيا قبل عدّة لحظات، وقال لي كذا وكذا.

  • فدخل أمير المؤمنين عليه السلام مع قنبر، وأزاح عنه القطيفة، ففتح سلمان عينيه، وتبسّم في وجه أمير المؤمنين؛ ثمّ إنّه عليه السلام غسّل سلمان، وكفّنه، ودفنه، ورجع إلى المدينة، حيث كانت المدّة التي ذهب فيه ورجع هي نفس المدّة التي قضاها في تجهيز سلمان وتكفينه؛ وهذا عجيب جدًّا!

  • يقول أحد الشعراء العرب اسمه أبو الفضل التميميّ [ما معناه]:

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

8
  • حينما أتحدّث عن مدائح أمير المؤمنين وفضائله، يعترض عليّ هؤلاء الناس قصيرو النظر وضعاف العقول، ويقولون: «لماذا تتلو الشعر في حقّ عليّ؟»؛ فهم لا يفقهون شيئًا!

  • وإذا عرضتُ قضيّة سلمان الفارسيّ في شعري، قال أحدهم: أ من الممكن أن يقطع المسافة الواقعة بين المدينة والمدائن في بضع لحظات، ثمّ يُجهّز سلمان، ويرجع؟!

  • فأقول له: أيّها الرجل النزيه، هل قرأت القرآن، أم لا؟

  • فيقول: أجل!

  • فأقول له: هل قرأت الآية المباركة التي ورد فيها أنّ وصيّ سليمان أحضر له عرش بلقيس من مدينة سبأ قبل أن يرتدّ إليه طرفه؟

  • فيقول: أجل!

  • فأقول له: مَن الأعلى مقامًا: سليمان، أم نبيّ آخر الزمان؟

  • فيقول: نبيّ آخر الزمان.

  • فأقول: إذا كان نبيّ آخر الزمان أعلى درجة من سليمان، أ لن يكون وصيّه أرفع مقامًا من وصيّ سليمان؟!

  • سيقول: نعم!

  • فأقول: فكيف رضيتَ بأن تقول إنّ وصيّ سليمان أحضر له عرش بلقيس من شهر سبأ في أقلّ من طرفة عين، ولم ترض بذلك لعليّ بن أبي طالب الذي تعترف بأشرفيّته؟! فإمّا أن ترفض القرآن من أصله وجذوره، وتقول إنّ جميع هذه المعجزات المنسوبة في الكتاب المجيد إلى الأنبياء خرافات وأباطيل وآبية عن التحقّق في الخارج، وإمّا أن تقبل بصدورها من الأنبياء ومن وصيّ سليمان؛ فيكون لازمًا عليك القبول بصدورها من وصيّ نبيّ آخر الزمان بطريق أولى؛ لأنّه أفضل وأشرف وأكمل من كافّة أولئك الأوصياء؛ فما وهبه اللهُ تعالى لهم من العلوم قد وهبه أيضًا لهذا الوصيّ.

  • يقول هذا الشاعر: حينما أصل إلى هذا الموضع، لا يقدرون أبدًا على الجواب، ويُطأطئون رؤوسهم خجلاً؛ وبدلاً عن إجابتي، تبدأ ألوانهم في التبدّل.۱

  • لا حاجة لتغيير اللون يا عزيزي، اعترف بالحقّ، وأرح نفسك! اعترف بالحقّ، وأقرّ بمقاماته عليه السلام، ولن يعود هناك أيّ مبرّر لكي تقع في براثن البرهان المنطقيّ، وتُدان بهذا النحو عن طريق الآيات القرآنيّة.

  • إنّ أمير المؤمنين عليه السلام يمتلك مقام الولاية الكبرى؛ وهذه المعجزات والكرامات لا تُمثّل بالنسبة إليه شيئًا ذا بال؛ فمع المنزلة الرفيعة التي يحظى بها من الناحية الملكوتيّة، ومع ما يمتلكه من صبر وحلم وعفو ونظر وسمع إلهيّين، فلن تعود لهذه المسائل أيّة قيمة بالنسبة إليه، حتّى يأتي الإنسان، ويطرحها ككرامة ومعجزة.

    1. لمزيد من الاطّلاع على هذه المسألة، راجع: معرفة الإمام، ج ٤، ص ٢۸.

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

9
  • رؤية الإمام عليّ عليه السلام للحكومة

  • كان أمير المؤمنين عليه السلام مارًّا من مدينة الأنبار، فنزل في خيمته، فجاء عظماؤها ورؤساؤها وشيوخها لرؤيته عليه السلام، حيث ظلّوا ينتظرون خارج الخيمة، لكي يأذن لهم بالدخول، أو يأتي بنفسه عندهم إلى الخارج، لكي يلتقوا به، غير أنّه بقي عليه السلام جالسًا وسط الخيمة يخصف نعله؛ فمرّت مدّة من الزمان، إلى أن جاء ابن عبّاس، وقال له [ما معناه]:

  • يا عليّ، لماذا أنت جالس؟! أقسم بالله أنّه إذا قُمتَ، وأصلحتَ أمورنا، لكان ذلك خيرًا من خصفك لهذا النعل؛ فقُم لكي ترى أنّ جميع العظماء قد أتوا، وهم ينتظرون قدومك المبارك!

  • فلم يلتفت أمير المؤمنين بتاتًا لكلام ابن عمّه، واستمرّ في خصف نعله؛ وحينما انتهى من ذلك، وضع نعليه بحذاء بعضهما، وقال:

  • ما قيمة هذه النعل؟

  • فقال ابن عبّاس:

  • دِرهمٌ أو أقلّ!

  • فقال عليه السلام:

  • «والله لهي أحبّ إليّ من إمرتكم، إلاّ أن أقيم حقًّا أو أدفع باطلاً».۱

  • لقد كان هؤلاء يخالون أنّ أمير المؤمنين يريد حكم الناس انطلاقًا من الحكومة المادّية والأمور المادّية الشكليّة؛ في حين أنّ الأمر ليس بهذا النحو؛ لأنّ حكومته إلهيّة، وإلاّ، لو لم تكن إلهيّة، فأيّة قيمة ستحظى بها عنده عليه السلام؟!

  • كانت هناك جماعة من الناس حاضرة عند أحمد بن حنبل العالم السنّي الكبير الذي يُعدّ من أئمّة السنّة الأربعة، فبدأ الجميع يثنون على بعض الخلفاء، إلى أن وصل الدور إلى أمير المؤمنين.

  • فقالوا: ألا يُثني أحدكم على عليّ بن أبي طالب؟

  • فرفع أحمد بن حنبل رأسه، وقال [ما مضمونه]:

  • لا يحتاج عليّ إلى المدح والثناء، فهو بنفسه يتحدّث عن نفسه؛ والذي يمدحه إنّما يمدح نفسه بواسطة هذا المدح، ولا يمدح عليًّا؛ لأنّه فوق المدح والثناء. فحينما بلغ بقيّة الخلفاء مقام الخلافة، تزيّنوا بها؛ وأمّا عليّ، فإنّه حينما صار خليفة، فليس فقط أنّه لم يتزيّن بهذه الخلافة، بل إنّه هو الذي زيّنها.٢

  • فأولئك سعوا إلى ترميم نقاط ضعفهم عن طريق الخلافة؛ في حين أنّ الإمام عليّ هو الذي رمّم بوجوده المبارك والمقدّس جهات النقص في الخلافة؛٣ فعليّ لا يحتاج لأيّ مدح أو ثناء، بل إنّ نداءه صادح في السماوات، وفي عالم الملكوت، وفي الأرض، بحيث أينما ذهبتم وبحثتم في هذه الدنيا، ستجدون أنّ شعاع نوره هو الساطع.

    1.  الإرشاد، ج ۱، ص ٢٤۷؛ منتهى الآمال، ص ۱۰٩، مع اختلاف يسير في اللفظ,
      لمزيد من الاطّلاع على هذه المسألة، راجع: أنوار الملكوت، ج ٢، ص ۷٤.
    2.  تاريخ بغداد، ج ۱، ص ۱٤٥:
      «أخبَرَني عبد الله بـن أحمد بـن حنبل قال: كنتُ بيـن يدي أبي جالسًا ذات يوم، فجاءت طائفــةٌ من الكرخيّين، فذكروا خلافة أبي بكر وخلافة عمر بن الخطّاب وخلافـة عثمـان بـن عفّان، فأكـثروا، وذكــروا خلافــة عليّ بن أبي طالـب، وزادوا فأطالوا؛ فرفـع أبي رأسه إليهم، فـقال: "يا هؤلاء، قـد أكـثرتم فــي عليّ والخلافـة، والخلافـة وعليّ؛ إنّ الخلافـة لم تُزيّن عليًّا، بـل عـليٌّ زيّنها"».
      تاريخ دمشق (ابن عساكر)، ج ٤٢، ص ٤٤٦؛ المنتظم، ج ٥، ص ٦٢.
      راجع: معرفة الإمام، ج ٢، ص ٣٢ (اجتماع الأضداد في أمير المؤمنين عليه السّلام‌).
    3. الفقرة التالية عبارة عن تفسير ابن أبي الحديد (في شرحه لنهج البلاغة، ج ۱، ص ٥۱) لكلام أحمد:
      «وهذا الكلامُ دالٌّ بِفحواه ومفهومه على أنَّ غيرَه ازدانَ بالخلافة وتَمَّمَت نقصَه، وأنَّ عليًّا عليه ‌السّلام لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يُتَمَّم بالخلافة، وكانت الخلافةُ ذات نقصٍ في نفسها فتمَّ نقصُها بِولايته إيَّاها».

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

10
  • يقول العالم السنّي الكبير الزمخشريّ [ما مضمونه]:

  • ينتابني العجب من عليّ بن أبي طالب؛ إذ سعت طائفتان من المسلمين لإمحاء ذكره على الألسن طيلة حياته وبعد مماته: الأولى أحبّاؤه والثانية أعداؤه؛ فأعداؤه قاموا بذلك حقدًا وكرهًا وبغضًا، وأحبّاؤه لجئوا إلى هذا الأمر خوفًا من أنّه إذا جرى ذكر عليّ على ألسنتهم، فإنّ أرواحهم ستتعرّض للخطر؛ فهاتان فرقتان أخفيتا اسم عليّ؛ أي أنّ جميع طوائف المسلمين من المحبّين والأعداء أخفوا ذكره؛ ومع ذلك فإنّ فضائله عمّت الخافِقين؛ أي ملأت شرق العالم وغربه.۱

  • فإذا فتحتم أيّ كتاب شيعيّ أو سنّي، ستجدون منذ صدر الإسلام إلى وفاة النبيّ، بل حتّى في زمان الخلافة الجائرة وفي زمان الحكومة الظاهريّة لأمير المؤمنين أنّ أيّة نقطة مضيئة وساطعة في تاريخ الإسلام تختصّ به عليه السلام، وأنّ كلّ علم مترشّح يتعلّق به، وكلّ قضاء جرى بالحقّ يرجع إليه، وكلّ رأي صحيح ينتسب إليه؛ فنهج البلاغة الذي بين أيدينا يعود إليه، وتلك المجاهدات والمشقّات التي بُذلت في زمان حياة النبيّ ترجع بأجمعها إليه؛ فمن حيث المبدأ، عليّ زينة تاريخ الإسلام، وزينة الشريعة الإسلاميّة، وقوام نبوّة نبيّنا؛ فهذا الذي يقوله الزمخشريّ.

  • وحينئذ، انظر كيف كانت مصائب هذا الرجل العظيم ـ مع كلّ تلك التضحيات والمشقّات والويلات التي تحمّلها ومع جميع ابتلاءاته ـ تفوق ابتلاءات الأمّة بأسرها؛ بسبب بغض البعض وحسدهم وحبّهم للرئاسة؛ وهذا بالضبط يوازي ما قاله النبيّ الأعظم: «ما أُوذِيَ نَبِيٌّ مِثلَ ما أُوذيتُ»،٢ حيث لم يُؤذ أيّ إمام مثل أمير المؤمنين، بمن فيهم سيّد الشهداء، والإمام الحسن؛ لأنّ إيذاءهما كان في نطاق خاصّ؛ في حين أنّ إيذاء أمير المؤمنين كان عجيبًا جدًّا!٣

  • معاناة أمير المؤمنين من العدوّ الداخليّ

  • لقد لحق الأذى أمير المؤمنين على يد الصديق والعدوّ، حيث كان عدوّه معاوية يصعد على المنبر، ويُلقي الخطب، ويجمع بيت مال المسلمين، ويُوزّعه على قوّاد جيشه وأنصاره؛ فأخضع نصف البلاد الإسلاميّة لسلطته، وسعى لهدم الإسلام، وإطعام الناس الكفر بعنوان الإسلام، ولم يألُ جهدًا في إطفاء نور أمير المؤمنين؛ في حين كان أصحابه عليه السلام يُعانون من الوهن وقلّة العقل وضعف الإرادة، إلى درجة أنّه قال في خطبه:

    1. راجع: عليّ في الكتاب والسنّة والأدب، الحاج حسين الشاكري، ج ٥، ص ٤٤١. المعرّب
      ويُنقل مثل هذا الكلام أيضًا عن الخليل بن أحمد النحويّ المعروف (المحقّق):
      نور ملكوت القرآن، ج ٣، ص ۱٦۸:
      «يقول المامقانيّ: ولقد أجاد الخَلِيلُ العَرُوضِيُّ النَّحْوِيُّ لمّا سُئل: "مَا تَقُولُ في عليّ بْنِ أبِي طَالِبٍ عَلَيْهِ ‌السَّلَامُ؟"؛ قال: "مَا أقُولُ في حَقِّ امْرِئٍ كَتَمَتْ مَنَاقِبَهُ أوْلِيَاؤُهُ خَوْفًا وَأعْدَاؤُهُ حَسَدًا؛ ثُمَّ ظَهَرَ مِنْ بَيْنِ الكَتْمَيْنِ مَا مَلأ الخَافِقَيْنِ"».
    2. راجع: مصدر سابق.
    3.  المناقب، الخوارزميّ، ص ٣۰٣؛ حلية الأولياء، ج ۱، ص ٦٦؛ معرفة الإمام، ج ۱۱، ص ٢٥۸:
      «[قال النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم:] وَقَدْ دَعَوْتُ لَهُ؛ فَقُلْتُ: "اللَهُمَّ اجْلُ قَلْبَهُ وَاجْعَلْ رَبِيعَهُ الإيمَانَ بِكَ!"
      قَالَ [الله تعالى]: "قَدْ فَعَلْتُ ذَلِكَ؛ غَيْرَ أنّي مُخْتَصُّهُ بِشَيءٍ مِنَ البَلَاءِ لَمْ أخْتَصَّ بِهِ أحَدًا مِنْ أولِيَائِي"».

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

11
  • «وَلَقَد مَلَأتُم صَدري قَيحًا»؛۱

  • فكلّما دعوتكم إلى الجهاد، قلتم: «البرد قارس، فاصبر حتّى يعتدل الجوّ»؛ ثمّ دعوتكم مرّة أخرى، فقلتم: «الجوّ حارّ، فاصبر حتّى يتغيّر قليلاً»؛ فاليوم تقولون: «لقد أينع تمرنا»، وغدًا تقولون: «نريد تخزين [الطعام]»، وكلّ يوم تأتون بعذر جديد.

  • «فَوَ اللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلَّا وقَد ذَلُّوا».٢

  • قوموا، وتحرّكوا في سبيل إحياء الإسلام، والقضاء على هذا الرجل المنكوس (معاوية) الذي لا همّ له إلاّ الرئاسة والتسلّط على أعناق الناس!

  • فقام الإمام عليه السلام بتشكيل جيش، وسار بالناس، غير أنّ هؤلاء لجؤوا بأنفسهم إلى معارضته، والتشكيك في أمره؛ فكانوا يأمرون إمامهم، ويقولون: «يا عليّ، تقتضي المصلحة اليوم أن تفعل كذا! يا عليّ، لا تقم اليوم بالفعل الفلانيّ! يا عليّ، لا ينبغي علينا التحرّك من هنا! يا عليّ، أخّر هذه الحرب إلى أن يمرّ شهر واحد! يا عليّ، الآن هو الوقت المناسب لعقد الصلح! لقد رفع معاوية القرآن على رؤوس الرماح، فتعال، وصالحه، وإلاّ سنُقطّعك بسيوفنا إربًا، إربًا!».٣

  • إنّ العدوّ الداخليّ هو أكبر مصيبة، حيث كان أمير المؤمنين يئنّ الليالي الطوال وسط النخيل من هذا النوع من الأعداء، ويقول [ما معناه]:

  • إلهي، كم تحمّلت الأذى من هذه الأمّة التي أرهقتني؛ فهم بالضبط كالنساء اللواتي تجلسن وسط الحجال، وتُجمّلن أنفسهنّ؛ فهؤلاء الرجال هم أيضًا يُحبّون الجلوس في بيوتهم، وعدم الخروج من أخدارهم، ولا يرغبون في الدفاع عن حقوقهم، ولا بالقيام بأيّة خطوة في سبيل حياة دينهم وحرمته، وكيان شريعتهم ومذهبهم.٤

  • وقد ازدادت معاناة أمير المؤمنين عليه السلام يومًا بعد يوم،٥ إلى أن جهّز جيشًا من مائة ألف رجل بقيادة عشرة من كبار أصحابه وأبنائه، حيث جعل الإمام الحسن على عشرة آلاف، والإمام الحسين على عشرة آلاف، ومحمّد بن الحنفيّة على عشرة آلاف، وقيس بن سعد بن عبادة على عشرة آلاف، و...؛ لكي يُغيروا بهذا النحو، من أجل القضاء على معاوية، وتطهير الأرض من هذا الجسم المنكوس والرجل المنحوس الذي سعى إلى قلب الإسلام وتغيير تاريخه.

  • الحوادث المرافقة لاستشهاد أمير المؤمنين

    1.  نهج البلاغة، ج ۱، ص ۷۰.
    2. المصدر نفسه، ص ٦۸.
    3.  وقعة صفّين، ص ٤٩۰:
      «فَجاءَهُ زُهاءُ عِشرِينَ ألفًا مُقَنِّعِينَ فِي الحَدِيدِ شاكِي السِّلاحِ، سُيُوفُهُم عَلَى عَواتِقِهِم وقَدِ اسوَدَّت جِباهُهُم مِنَ السُّجُودِ يتَقَدَّمُهُم مِسعَرُ بنُ فَدَكِيّ وزَيدُ بنُ حُصَينٍ وعِصابَةٌ مِنَ القُرّاءِ الَّذِينَ صارُوا خَوارِجَ مِن بَعدُ، فَنادَوهُ بِاسمِهِ لا بِإمرَةِ المُؤمِنِينَ: "يا عَلِيُّ، أجِبِ القَومَ إلَى كِتابِ اللهِ إذ دُعِيتَ إلَيهِ، وإلّا قَتَلناكَ كَما قَتَلنا ابنَ عَفّانَ؛ فَوَ اللهِ لَنَفعَلَنَّها إن لَم تُجِبهُم"؛ فَقالَ لَهُم: "وَيحَكُم، أنا أوَّلُ مَن دَعا إلَى كِتابِ اللهِ، وأوَّلُ مَن أجابَ إلَيهِ؛ ولَيسَ يحِلُّ لِي، ولا يسَعُنِي فِي دِينِي أن أُدعَى إلَى كِتابِ اللهِ، فَلا أقبَلَهُ؛ إنِّي إنَّما أُقاتِلُهُم لِيَدِينُوا بِحُكمِ القُرآنِ؛ فَإنَّهُم قَد عَصَوُا اللهَ فِيما أمَرَهُم، ونَقَضُوا عَهدَهُ، ونَبَذُوا كِتابَهُ؛ ولَكِنِّي قَد أعلَمتُكُم أنَّهُم قَد كادُوكم، وأنَّهُم لَيسُوا العَمَلَ بِالقُرآنِ يرِيدُونَ". قالُوا: "فابعَث إلَى الأشتَرِ لِيَأتِيَكَ"؛ وقَد كانَ الأشتَرُ صَبِيحَةَ لَيلِ الهَرِيرِ قَد أشرَفَ عَلَى عَسكَرِ مُعاوِيَةَ لِيَدخُلَهُ».
    4.  نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ٦۸؛ ولمزيد من الاطّلاع، راجع: معرفة الإمام، ج ۱۸، ص ٣٦۸ ـ ٣٦٩.
    5.  نور ملكوت القرآن، ج ٣، ص ٢٥٣:
      ولقد خطب عليه ‌السلام في آخر اسبوع من عمره الشريف خطبةً كانت آخر خطبه، قال فيها.
      «"أيْنَ إخْوَانِي الَّذِينَ رَكِبُوا الطَّرِيقَ، ومَضَوْا على الحَقِّ؟ أيْنَ عَمَّارٌ؟ وأيْنَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ؟ وأيْنَ ابْنُ التَّيِّهَانِ؟ وأيْنَ نُظَرَاؤُهُمْ مِنْ إخْوَانِهِمُ الَّذِينَ تَعَاقَدُوا على المَنِيَّةِ؟ وأبْرِدَ بِرُؤُوسِهِمْ إلى الفَجَرَةِ؟!".
      ثُمَّ ضَرَبَ على لِحْيَتِهِ الشَّرِيفَةِ، فَأطَالَ البُكَاءَ؛ ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ ‌السَّلَامُ.
      "أوْهِ على إخْوَانِي الَّذِينَ تَلَوُا القُرْآنَ فَأحْكَمُوهُ، وتَدَبَّرُوا الفَرْضَ فَأقَامُوهُ؛ أحْيَوُا السُّنَّةَ وأمَاتُوا البِدْعَةَ؛ دُعُوا لِلْجِهَادِ فَأجَابُوا ووَثِقُوا بِالقَائِدِ فَاتَّبَعُوهُ".
      (ثُمَّ نَادَى بِأعْلَى صَوْتِهِ): «الجِهَادَ، الجِهَادَ عِبَادَ اللهِ! ألَا وَإنِّي مُعَسْكِر في يَوْمِي هَذَا؛ فَمَنْ أرَادَ الرَّوَاحَ إلى اللهِ، فَلْيَخْرُجْ.
      قَالَ نَوْفٌ: "وَعَقَدَ لِلْحُسَيْنِ عَلَيْهِ‌ السَّلَامُ في عَشْرَةِ آلَافٍ، ولِقَيْسِ بْنِ سَعْدٍ رَحِمَهُ اللهُ في عَشْرَةِ آلَافٍ، ولأبِي أيُّوبَ الأنْصَارِيِّ في عَشْرَةِ آلَافٍ، ولِغَيْرِهِمْ على أعْدَادٍ اخَرَ، وهُوَ يُرِيدُ الرَّجْعَةَ إلى صِفِّينَ؛ فَمَا دَارَتِ الجُمُعَةُ حتى ضَرَبَهُ المَلْعُونُ ابْنُ مُلْجَمٍ لَعَنَهُ اللهُ، فَتَرَاجَعَتِ العَسَاكِرُ؛ فَكُنَّا كَالأغْنَامِ فَقَدَتْ رَاعِيهَا تَخْتَطِفُهَا الذِّئَابُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ"».

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

12
  • وفي نفس ذلك الحين، وقع سيف ابن ملجم المراديّ في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان المبارك عند طلوع الفجر على رأسه الشريف؛ فأُجهضت كافّة خططه عليه السلام، حيث عمل سيفٌ واحد على إفشالها كلّها! فيا لها من جريمة ارتكبها ابن ملجم! فإن كان النبيّ الأكرم قد اعتبره أشقى الآخرين، فإنّ ذلك لم يكن من دون سبب!۱ حيث إنّ سيفه قد قتل أمير المؤمنين، وقضى على أهدافه؛ فتوقّفت مائة ألف من الجند بسبب شهادة أمير المؤمنين، وسار معاوية من الشام، وحارب الإمام الحسن؛ ويوجد كلام كثير عن مقدار ما ضاع من جهود أمير المؤمنين بسبب استشهاده وبسبب هذا السيف.

  • لقد وقع أمير المؤمنين عليه السلام في المحراب؛ وهو إمام، والإمام قلب عالم الإمكان؛ ولهذا، فإنّ مصابه أثّر حتّى في الجمادات؛ فهاجت البحار، واهتزّت الأرض، وهبّت الرياح السوداء، وارتطمت مصاريع أبواب مسجد الكوفة ببعضها، ونادى جبرائيل:

  • «تَهَدَّمَتْ واللهِ أرْكَانُ الْهُدَى، وانْطَمَسَتْ واللهِ أعْلَامُ التُّقَى، وانْفَصَمَتْ واللهِ الْعُرْوَةُ الْوُثْقَى؛ قُتِلَ ابْنُ عَمِّ المُصْطَفى، قُتِلَ الْوَصِيُّ الْمُجْتَبَى، قُتِلَ عَلِيُّ الْمُرْتَضَى؛ قَتَلَهُ أشْقَى الأشْقِيَاءِ».٢

  • عمّ نداء جبرائيل كلّ أرجاء الكوفة؛ فهرع النساء والرجال من البيوت إلى المسجد؛ فامتلأ هذا المسجد في لحظات قليلة بالناس، وحدثت ضجّة عظيمة، حيث بدأ الجميع يلطمون على وجوههم، ويضربون بقبضات أيديهم على رؤوسهم، ويصيحون: وا إماماه! وا عليّاه! وا محمّداه!

  • وجاء كلّ من الإمامين الحسن والحسين إلى المحراب؛ فشاهدا والدهما مستلقيًا على الأرض، وهو يحمل التراب، ويضعه على رأسه، ويقول:

  • {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى}.٣

  • فشدّ الإمام الحسن عليه السلام رأس أبيه بعباءة، لكنّ الدم استمرّ في التدفّق من تحتها؛ وحاول أبو جُعدة وجماعة من الأصحاب رفع أمير المؤمنين لكي يُصلّي بالناس؛ لأنّ ضربة ابن ملجم حدثت في نافلة الصبح؛ ولم يكن عليه السلام قد صلّى الصبح بعدُ؛ لكن، مهما سعوا إلى رفعه، وحمله من منكبيه، كان عليه السلام يسقط على الأرض.

  • فقال الإمام [ما معناه]:

  • يا حسن، صلّ بالناس!

  • فوقف الإمام الحسن عليه السلام، وانهمك في أداء الصلاة مع الناس، في حين أنّ أمير المؤمنين عليه السلام أتمّ صلاته جالسًا؛ وحينما أتمّ الإمام الحسن الصلاة، رأى أباه مستلقيًا على الأرض وهو مغمى عليه، فوضع رأسه في حضنه، وبكى كثيرًا؛ وحينئذ، فتح أمير المؤمنين عينيه، وقال [ما مضمونه]:

    1.  معرفة الإمام، ج ۱٢، ص ۱٤۷:
      «أسد الغابة» ج ٤، ص ٣٤ و٣٥، في سياق ترجمة أمير المؤمنين عليه السلام؛ ورواه ابن حجر في «الصواعق المحرقة» ص ۷٤؛ وذكر ابن سعد صدره في «الطبقات» ج ٣، ص ٣٥، طبعة بيروت؛ ورواه أيضًا سبط بن الجوزيّ في «التذكرة» ص ٩٩ و۱۰۰، عن أحمد بن حنبل في «الفضائل» عن وكيع، عن قتيبة بن قدامة الرواسيّ، عن أبيه، عن الضحّاك بن مزاحم، عن عليّ عليه السلام. وذكره أيضًا بهذا الإسناد عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب «الزهد» عن أبيه».
    2.  منتهى الآمال، ج ۱، ص ٤٢٤؛ بحار الأنوار، ج ٩، ص ٦۷۱؛ ج ٤٢، ص ٢۸٢، مع اختلاف يسير.
    3. سورة طه، الآية ٥٥.

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

13
  • يا بُنيّ يا حسن، ما هذا البكاء؟ لقد استرحت، وطريق الجنّة أمامي، فلا تبك إلى هذا الحدّ؛ هذا جدّك محمّد المصطفى، وأمّك فاطمة، وجدّتك خديجة الكبرى، وعمّك حمزة سيّد الشهداء كلّهم حاضرون، ويقولون: "عجّل على قدومك إلينا"؛ فلماذا تحزن لهذه الدرجة؟! فلا تبك إلى هذا الحدّ!

  • فقال الإمام الحسن [ما مفاده]:

  • يا أبتاه! لقد قصمت ظهورنا؛ فو الله، لو حلّت هذه المصيبة بالجبال لهدّتها؛ وأقسم بالله، كأنّني تعلّمت البكاء على مصابك!

  • فحملوا الإمام من رأسه وأطرافه، وأتوا به إلى وسط مسجد الكوفة؛ فقال له الإمام الحسن [ما معناه]:

  • يا أبتاه! من الذي وجّه إليك هذه الضربة؟

  • فقال عليه السلام:

  • ابنُ اليهوديّة؛ «ابن ملجم المراديّ».

  • وحينما بدأ يطلع النهار شيئًا فشيئًا، أشار أمير المؤمنين إلى أحد أبوب مسجد الكوفة؛ وهو باب كندة، وأخبرهم أنّ ابن ملجم سيطلع من هناك؛ فالتفت الناس إلى ذلك الباب؛ فرأوا أنّهم جاؤوا به مكتوفًا، وقد أحاطت به جماعة.

  • فجاء حذيفة النخعيّ مُصلتًا سيفَه، وهو يتقدّم تلك الجماعة، ويردّ الناس، ويشقّ الطريق، لكي يأتي بابن ملجم إلى أمير المؤمنين؛ وحينما كان يمشي ابن ملجم وسط الناس، كان هؤلاء يلعنونه، ويشتمونه، ويبصقون على وجهه، ويقولون: «قتلتَ الإمام! قتلتَ أمير المؤمنين! ما هو الذنب الذي اقترفه؟! لقد كان إمام المتّقين وأمير المؤمنين! نُقسم بالله أنّك ارتكبت فعلاً عظيمًا يا ابن ملجم!».

  • فظلّ ساكتًا من دون أن ينبس ببنت شفة، إلى أن جاء به حذيفة إلى الإمام الحسن، حيث كان أمير المؤمنين عليه السلام مغمى عليه وسط المسجد، فالتفت إليه الإمام الحسن، وقال له [ما معناه]:

  • يا ابن ملجم، يا عدوّ الله! يا أيّها الملعون والمطرود من الله! هل كان والدي بئس الإمام لك؟ أ لم يزد في عطائك؟ لماذا اقترفت هذه الجريمة؟

  • فلم يُقدّم أيّ جواب.

  • وفي هذه الأثناء، استيقظ أمير المؤمنين، فقال له الإمام الحسن [ما مضمونه]:

  • يا أبتاه! لقد قبضوا على عدوّك، وقيّدوه، وأحضروه إلى هنا، فبماذا تحكم عليه؟

  • فنظر أمير المؤمنين بطرف عينه إلى ابن ملجم، وقال له [ما مفاده]:

  • يا ابن ملجم! أقسم بالله لقد أتيت عظيمًا، وارتكبت فعلاً جسيمًا؛ أ فهل كنت بئس الإمام لك؟! أ لم أحسن إليك كثيرًا؟ أ لم أقدّمك؟ أ لم أعطف عليك؟ أ هذا هو جزائي على الإمامة؟!

أمير المؤمنين عليه السلام قوام الشريعة وزينة التاريخ الإسلاميّ - مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الثانية

14
  • لم يُحر ابن ملجم جوابًا.

  • ثمّ قال الإمام الحسن [ما مضمونه]:

  • يا أبتاه! بماذا تأمر في حقّ هذا؟

  • فقال أمير المؤمنين [ما معناه]:

  • يا بنيّ، يا حسن! ارفق بأسيرك؛ ألا ترى إلى عينيه قد طارتا في أمّ رأسه، وقلبه يرجف خوفًا؟!

  • يا عزيزي حسن، أطعمه ممّا تأكله، واسقه ممّا تشرب، ولا تدعه جائعًا أو عطشانًا!

  • فقال له الإمام الحسن [ما مفاده]:

  • يا أباه! قد قتلك هذا اللعين الفاجر، وأقرح قلوبنا، وأفجع جميع المؤمنين والمسلمين، وأنت توصينا به؟! 

  • فقال له عليه السلام [ما مضمونه]:

  • يا عزيزي حسن! ألا تعلم أنّا أهل بيت الرحمة؟!۱

  • {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}.٢

  • نَسأَلُكَ اللهُمَّ ونَدعوكَ ونُقسِمُ عَلَيكَ بِمُحَمَّدٍ وعَليٍّ وفاطِمَةَ والحَسَنِ والحُسَينِ والتِّسعَةِ الطَّيّبينَ الطّاهِرينَ مِن ذُرّيةِ الحُسَين، وبِاسمِكَ العَظيمِ الأعظَمِ الأعَزِّ الأجَلِّ الأكرَمِ يا الله...

  • إلهي، اغفر لنا، واعف عن كافّة خطايانا، واجعلنا من شيعة أمير المؤمنين الحقيقيّين، وأَفِض أكثر على قلوبنا من أنوار ولايته، وثبّت أقدامنا على الصراط المستقيم، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين أبدًا في هذه الأمور الدنيّة وفِتن آخر الزمان، وارزقنا في هذه الأيّام وليالي القدر المباركة من أفضل نفحات خزائن جودك، وأدخلنا في كلّ خير أدخلت فيه محمّدًا وآل محمّد، واحفظنا من كلّ سوء حفظتهم منه، وشاف مرضانا، واغفر لموتانا، وأرضِ عنّا ذوي الحقوق، ولا تقطع يد ولايتنا عن التمسّك بحبل الأئمّة الأطهار، واجعل القرآن والعترة ملازمين لنا إلى يوم القيامة، ولا تحرمنا من شفاعتهما في ذلك اليوم؛ إلهي، عجّل فرج إمام زماننا، ونوّر أعيننا بالنظر إلى جماله.

  •  

  • وعَجِّل اللهُمَّ في فَرَجِ مَولانا صاحِبِ الزمان.

    1.  بحار الأنوار، ج ٤٢، ص ٢۸٢ ـ ٢۸۸، مقتبس بإيجاز.
    2. سورة الشعراء، الآية ٢٢۷.