المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةتفريغ القلب لتلقي دستورات الأولياء
التاريخ 1429/02/22
التوضيح
قال سماحته أنَّ كافّة المشاكل الّتي تحصل لبني البشر، منذ أن خلق الله آدم إلى يوم القيامة، ناشئة عن عدم تفريغ القلب للحقّ. فجميع تلك الحروب والمفاسد الأخلاقيّة، الّتي عانتْ منها المجتمعات والخسائر الّتي مُنيتْ بها، ناجمة عن عدم تفريغ القلب، فترى كلّ واحد منهم يحتفظ لنفسه بمقدار. كما أنَّ كلّ سعادة حصل عليها الإنسان، في أيّة مرحلة مِنْ مراحل حياته وبأيّ مقدار كانت، فهي ناتجة عن تفريغ القلب. فها هو الميدان مفتوح أمامنا فلننظر كيف نتصرّف.
هو العليم
مناط السعادة والخسران
معنى قول عنوان البصري (ففرّغتُ قلبي له) - القسم ٢
شرح حديث عنوان البصريّ ۱٥۱
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
والصلاة والسلام على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين إلى يوم الدين
قال عنوان «ففرّغت قلبي له»۱.
كنتُ قد بيّنت للإخوة في المجلس السابق أنَّ عبارة عنوان هذه جميلة، لذا رأيتُ مِنَ المناسب أن أشرحها بالتفصيل، ثمّ أعود بعدها – إن وفّقني الله – [لمتابعة] شرح كلام الإمام عليه السلام لعنوان، فقد طلب عنوان مِنَ الإمام تعليمات إضافيّة لكي يطبّق كلام الإمام عمليًّا. وعبارات الإمام الراقية والعالية المضامين، تحتاج إلى تهيئة النفس وإعدادها مِنْ أجل إدراك معانيها ومِنْ أجل التحقّق بمقام العبوديّة ولوازمها وآثارها.
هذا خلاصة ما طلبه عنوان مِنَ الإمام الصادق. فأخذ الإمام بتوصية عنوان بتلك الوصايا التسع، والّتي يمكن القول عنها أنَّ الإمام لم يدع شيئًا ممّا يلزم في تربية النفس وتزكيتها إلّا ذكره فيها. [فعندما أراد أن يشرع بها] قال عنوان: «ففرّغت قلبي له»، وذلك لكي أتمكّن مِنْ تركيز جميع أفكاري على ما يريد الإمام قوله، فطردتُ كافّة التخيّلات عن ذهني واستنفرتُ جميع حواسّي، وحرّرت ذهني مِنْ كلّ ما يمكن أن يشغله ونفسي مِنْ كلّ ما يمكن أن يحرفها عن قول الإمام عليه السلام.
بمقدار ما تفرّغ قلبك تحصل على الحقيقة
يحصل أن نمرّ بهذا الموقف في حياتنا اليوميّة، وذلك عندما يجري حديث بين اثنين، فيكون واضحًا للمتكلّم إن كان المخاطَب يستمع حقًّا لقوله، أم أنَّه مجرد استماع عابر، فيستطيع المرء معرفة ذلك مِنْ نظرات المخاطَب، نعم يستطيع أن يعرف مِنْ خلال نظراته الهدف الّذي يسعى المخاطَب للوصول إليه وما الّذي يبحث عنه في تلك العبارات الّتي يطلقها المتكلّم؛ فهل يريد أن يفهم ما يقوله المتكلّم – وهذا ما يحصل لنا جميعًا فهو ليس بالشيء الجديد – أم أنَّه يقارن بين ما يسمعه وبين ما حفظه في نفسه مِنْ أفكار خاصّة وخيالات، ليرى مدى تطابق ما يسمعه مع الأفكار المخزّنة في ذاكرته، فمِثْل هذا الرجل لم يخرج عن مكنونات صدره ولم يُخل نفسه ولم يطهّر ذهنه [بعدُ] ولم يعمل على إفراغ نفسه بالشكل المطلوب مِنْ أجل أن يتلقّى الحقائق الّتي ستُطرح عليه.
إنَّ هذا ممّا يُبتلى به الجميع، وسأقوم إن شاء الله بتوضيح مقدار مِنْ الموضوع في هذا المجلس إن شملني التوفيق الإلهيّ، وإن لم أتمكّن مِنْ [إنهاء] ذلك اليوم سأكمل شرحه في المجلس القادم. سأوضّح كيف أنَّنا مبتلون جميعًا بهذا البلاء الّذي مِنْ شأنه أن يُحرق دنيانا وآخرتنا. نعم إنَّنا مبتلون جميعًا وبنِسَبٍ متفاوتةٍ بهذا البلاء؛ فعندما يتحدّث أحدنا مع رجل سيعلم إن كان هذا الرجل يبحث عن ضالّة له أم لا. على أنَّ لكلّ واحد منَّا خلفيّته الثقافيّة الخاصّة به، فنحن لا نحضر مجلسًا ما وأذهاننا فارغة مِنْ كلّ شيء كما أخرجنا الله مِنْ بطون أمهاتنا، لأنّه قد مضت علينا سنوات مِنَ العمر اكتسبت أنفسنا فيها مخزونًا ذهنيًّا عمل على صوغ طريقة تفكيرنا، فقد التقينا خلال هذه السنين الطوال بأناسٍ كُثرٍ وحصلنا على أفكارٍ معيّنةٍ نتيجة ارتباطنا معهم وسماعنا منهم.
فلو قمتُ الآن بطرح سؤال على الإخوة المتواجدين في هذا المكان ووزعتُ عليهم أوراقًا ليُجيبوا بما يرونه صحيحًا، فسيبدأ الجميع بالكتابة، ولن [تجد] أحدًا يقول أنّه لا يعرف الجواب، هل ستقولون ذلك ؟! ستنفون طبعًا. فمِنْ أين تأتي تلك الأجوبة ؟ [إنّها تأتي مِنْ تلك الخلفيّة الثقافيّة المكتسبة] فترى البعض يُجيب بسطر واحد، وآخر بسطرين، وثالث بصفحة، ورابع بصفحتين، والبعض سيكتب بمقدار يجعل النعاس يغلب على القارئ مِنْ كثرة ما كتب.
تصلني أحيانًا رسائل لا تعدّ صفحاتها بل توزن لكثرتها [هذه مزحة مِنْ سماحة السيِّد]، فأضعها أمامي على المنضدة وأنا أقول: مِنْ أين لي الوقت لقراءتها كلّها، جُزيتَ خيرًا أيّها الكاتب، فكأنَّك تسرد وتشرح لي في رسالتك هذه جميع الوقائع التأريخيّة الّتي حصلتْ منذ عهد آدم وحواء إلى الآن، فأنا أعرف بعضها يا هذا فقد طالعتُ التواريخ وعرفتُ شيئًا ممّا ذكرته في رسالتك، فما معنى هذا التطويل، فقد كان بإمكانك أن تسأل عمّا تريد بسطرين فقط .. فأبدأُ بعدّ تلك الصفحات الطوال المكتوبة بخطٍّ رفيع لا يمكن قراءته إلّا بعدسةٍ مكبِّرة. على أيّة حال، فلكلّ واحد منَّا حاله الخاصّ به فيما بينه وبين الله، إنَّني لا أعلم، فلعلّهم هم المحقّون في ذلك.
فسيبدأ الجميع بالإجابة على السؤال، فأين كان يكمن هذا الجواب ؟ لا شكّ وأنَّ لكلِّ واحد منَّا أفكاره الخاصّة. وعندما نبدأ بقراءة الإجابات نجد التفاوت الشاسع بينها، حيث تختلف بعضها عن بعض بمقدار المسافة بين الأرض والسماء؛ فنرى أحدهم يقول بوجوب القيام بذلك الأمر، بينما يقول الآخر بعدم جواز القيام به. فنجد الإجابات تأخذ اتجاهات مختلفة تمامًا وبواقع مائة وثمانين درجة. كما أنَّ كلّ واحد مِنَ المجيبين يعتقد أنَّه صاحب الجواب الصحيح، وهم يعبّرون عمّا في أذهانهم بصدق. بناءً على هذا لا ضير في أن يحضر أحدنا مكانًا وهو يحمل في ذهنه أفكارًا ويستمع إلى ما يُطرح مِنْ أحاديث، ولكنّ الخطأ يكمن في أن تحول تلك الأفكار بينه وبين إدراك الأمر على حقيقته عندما يسمع خلاف ما كان يعتقد به، فهنا تكمن المصيبة.
مِنَ الممكن أن تكون المعلومات المرتكزة في الذهن خاطئة – فمعلومات الإنسان وليدة البيئة الّتي عاش فيها والأحداث الّتي مرّت عليه – وقد تكون صحيحة، واللهُ لا يُؤاخذ العبدَ على أنّه قد اكتسب المعلومات في بيئة وظروف صالحة أو أنَّه اكتسبها في بيئة وظروف طالحة، فهي تحصل له بمقدار ما بذله مِنْ جهد في إصلاحها، وفي النهاية قد حصل على تلك المعلومات بالفعل، فليس لهذا الأمر بحدّ ذاته أيّة أهميّة، بل المهمّ هو ما يَتبع ذلك مِنْ كيفيّة تعامله مع القضايا الّتي تتعارض مع أفكاره.
يجب المحافظة على الحريّة وعدم التعصّب الأعمى
قد عايشتُ أحداثًا كثيرةً منذ طفولتي، وكانت تلك الأحداث تجرّني إلى هذا الجانب أو ذاك، وقد منحني الله التوفيق لأن لا أتعصّب لأيّ رأي، وأنا أحرص على هذا الأمر حتّى الآن؛ فلو وقع في يدي اليوم كتابٌ مِنْ تأليف الشمر لَقرأته، فلعله يتضمّن موضوعًا مفيدًا، وليس مِنَ الصواب أن أضرب الكتاب بالجدار وأمزّقه وأحرقه لمجرد أنّني رأيت على جلد الكتاب أنّ اسم المؤلّف هو شمر بن ذي الجوشن، فهو الّذي قتل سيِّد الشهداء، فلأيّ شيء أقوم بهذا العمل ؟! فلعلّ مؤلّف الكتاب قد ذكر فيه قضيةً مفيدةً وموضوعًا صحيحًا. فالأمر المهمّ هنا ليس ما هو موجود في ذلك الكتاب، بل هو محافظة المرءِ على ما يمتلك مِنْ حريّةٍ وخلوصِ قلبٍ، فليس لما يواجهه المرء في حياته أهميّة مثل هذه الأهميّة مهما كانت تلك الأمور ومهما كان شكلها.
لم أتعرّف في عهد المرحوم العلّامة الطهراني على مَنْ هو أعظم منه شأنًا، وحتّى الآن لا أعرف أحدًا أعظم منه شأنًا. ولا أقول هذا الأمر مِنْ باب التعصّب، وإنَّما أقوله بناءً على ما أفادتني التجارب الّتي عشتها، وبناءً على معايشتي لأصناف مختلفة مِنَ الناس، سواء كان ذلك في مجال القضايا العلميّة أو غيرها مِنَ القضايا. وأستطيع أن أقول هنا أنَّني – على أقل تقدير – لست أجنبيّا عمّا كان يحصل في هذا المجال. نعم، لم أرَ في حياتي مَنْ هو أعلى منه شأنًا، وأقول هذا هنا بكلّ صراحة، ولكن مع كلّ هذا لم تكن قوّة شخصيّته حائلًا – ولو للحظة واحدة – بيني وبين محافظتي على خلوص القلب والصدق في التعامل مع المجريات، ولم تكن قوّة شخصيّته سِتارًا مُسدلًا بيني وبين ما كان يجري. نعم، لم يحصل مثل هذا الشيء ولو لمرّة واحدة في حياتي. ولقد كان المرحوم العلّامة الطهرانيّ راضٍ عمّا كان يراه منّي، وكان يحثّ الآخرين على متابعة هذا النهج. ولقد سمعته مراتٍ عديدة يقول لهم: أترون كيف يتعامل فلان مع المجريات، [فعليكم انتهاج النهج نفسه].
لقد كان البعض سواء مِنْ أقربائه أو أصدقائه أو غيرهما، يتعاملون مع المجريات بانغلاق وتعصّب، وليت تعصبّهم كان على الحقّ. فنحن الّذين نصنع هذا الغطاء والستار المانع، ثمّ نصوغ قراراتنا على أساسه، فليته كان غطاءً واقعيًّا، وليته كان مبنيًّا على أساسٍ مِنَ المعرفة الحقّة لا مبنيًّا على أننّا أُخذنا بعظمة هذا الرجل الّذي أمامنا وتأثّرنا بجلاله وهيبته. لا بدّ أنّ ذلك الشخص كانت تَظهر منه بعض الأمور الملفتة أحيانًا، فيعتقد هذا المأسور لهيبته أنّ ذلك دليل قاطع وأنّ الأمر واضح ومحسوم.
إنّ هذا النوع مِنَ المعرفة ليس عميقًا، وهي معرفة لا مكان لها في أعماق قلوبهم، فلا يبلغ نفوذ تلك المعرفة أكثر مِنْ سنتمترٍ واحد أو حتّى ملّيمترين في ذلك العمق البالغ آلاف الفراسخ – وأنا لا أبالغ عندما أقول آلاف الفراسخ – ومِنْ خلال معرفتي بالمرحوم الوالد وبباقي العظماء أستطيع أن أقول بشكل مجمل أنَّ معرفة الإخوة والأصدقاء للمرحوم العلّامة الطهرانيّ حتّى في فترة حياته لم تتجاوز عشرة سنتيمترات مِنْ العمق البالغ آلاف الفراسخ. وقولي هذا مبنيّ على تجربة شخصيّة في مجال المعارف المختصّة بمراتب الأولياء الإلهيِّين – وهذا ممّا شاهدتُّه بعيني ولمستُه بقلبي – ومبنيّ على ما سمعتُه مِنْ ألسنة العظماء.
الولاية في مقام لا يُدركها إلّا الأوحديّ مِنَ السلّاك
بعد مرور ما يقارب العام على ارتحال المرحوم العلّامة الطهرانيّ، وعندما بدأ كلُّ مَنْ هبَّ ودبَّ بطرح تلك المواضيع المنحرفة والمسائل التافهة، وعندما ظهرتْ مِنْ بعضهم بعض الادّعاءات مِنْ قبيل المعرفة والوصل وما شابه ذلك، وما تبعه مِنْ انجرار البعض وراءهم حيث ضلّوا وأضلّوا، ففي ذلك الوقت – الّذي مضى عليه الآن ما يقارب العشرة أو الأحد عشر عامًا – تحدّثتُ في مدينة مشهد في النصف مِنْ شعبان عن هذا الموضوع وقلتُ: ما الّذي يجري في أيّامنا هذه حتّى يتحدّث عن الولاية مَنْ لا يميّز بين الولاية والقرية ؟! فكان هذا الكلام كلامًا عجيبًا وغريبًا بالنسبة لهم، فكانوا يقولون: لقد أمضينا سنوات نتتلمذ على يد العظماء، واستفدنا مِنَ المواضيع الّتي طرحوها، وكنَّا نحضر مجالسهم، فمّا الّذي يقوله هذا السيِّد مِنْ أنَّنا لم نفهم شيئًا خلال هذه السنين الطوال ! فماذا عن كلّ تلك المواضيع والأحاديث وعن صلاة الجماعة والحضور في مسجد القائم والمشاركة في تلك المجالس، فماذا عن كلّ هذا ؟!
فقلتُ لهم: أتريدون أن أقدّم لكم توضيحاً حول ذلك، فقلتُ؛ كان المرحوم الوالد مُشار إليه بِالبَنَان ومضربًا للأمثال في الذكاء وقوّة الذاكرة مِن بين أقرانه؛ فعندما كان أحدهم يتحدّث عن مقدارِ قوّة ذاكرة رجلٍ ما، كان يُقال له أنّه مهما بلغت قوّة ذاكرته فهي ليست بقوّة ذاكرة السيِّد محمّد حسين [الطهرانيّ]. وعندما كان يجري الحديث عن مقدار وحدّة ذكاء شخص، كان يُقال له أنّه إن كان هناك ذكاء للطلّاب والفضلاء فهو منحصر في وجود السيِّد محمّد حسين [الطهرانيّ]. نعم لقد كان على هذه الدرجة مِنَ الذكاء وقوّة الذاكرة. وكان يَنقل لي بنفسه بعض ما كان يحصل له [في هذا الموضوع] عندما كان يدرس في مدينة قمّ. هذا إضافة إلى همّته العالية الّتي لا يماثله فيها أحد والّتي كانت سببًا في حصوله على إجازة الاجتهاد بعد خمس سنوات فقط مِنْ وروده إلى مدينة قمّ. فتلك الهمّة والمواظبة على الدراسة والمطالعة الكثيرة، والّتي كانت تستغرق الليل كلّه حتّى أذان الصبح، هي الّتي جعلته متميّزًا بين أقرانه ويُشار إليه بالبَنان. وما أقوله كان كذلك في الواقع؛ وإن أضفنا إلى همّته تلك ما كان يتمتّع به مِنْ مدركات قلبيّة عجيبة وحياتيّة [سنعلم] ما الّذي جعله – مِنْ بين جميع أقرانه – ينجذب إلى المرحوم العلّامة الطباطبائيّ ويستلم منه برنامجًا سلوكيّا وذِكْرًا في السنة الثانية مِنْ وصوله إلى مدينة قمّ، وكان قد استمرّ على هذا البرنامج والذكْر وهو في النجف.
وهناك الكثير مِنَ القضايا المتعلّقة بهذا الأمر، منها ما كنتُ قد ذكرته، ومنها ما لم أذكره حتّى الآن، ولَعَلّي أذكر البعض منها في مؤلّفاتي القادمة، حيث سأشير إلى سيرته وما جرى بينه وبين المرحوم العلّامة [الطباطائيّ]۱. على أنَّني كنتُ قد نقلت قضية مِنْ تلك القضايا في مقدمة كتاب أكتبه، ولعلّ الإخوة قد قرؤوها في الصفحات الأخيرة مِنْ كتاب «حريم القدس»٢. عندما تقرأ تلك القضيّة تستطيع أن تستنتج الكثير [مِنَ العِبَر]، وهي القضيّة الّتي سمعت أنَّه قد جرى حولها الكثير مِنَ الكلام واللغط، [ومِنَ الطبيعيّ أن يحصلهذا] فلا يمكن أن يكون جميع الناس على علمٍ بكلِّ شيءٍ، كلّا لا يمكن ذلك {وَما أُوتيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَليلًا}٣، فلعلّ هنالك أمور ليس لدينا عنها أيُّ نوعٍ مِنَ الاطّلاع.
نعم، لقد أمضى المرحوم العلّامة الطهرانيّ، بتلك الهمّة وذلك الاستعداد والذكاء، سبع سنين مِنْ عمره تحت تربية وإرشاد وهداية المرحوم العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله تعالى عليه، الذي كان المرحوم العلّامة الطهرانيّ يقول عنه: إنَّ الملائكة لا يذكرون اسمه ما لم يكونوا على وضوء .. لا أنا ولا أمثالي يستطيع أن يتفوّه بمثل هذا الكلام، فهو كلام صادر عمَّنْ يمتلك مثل تلك المعلومات ويحتلّ ذلك المقام الرفيع. وكان يكرّر ذلك الكلام حتّى الأيّام الأخيرة مِنْ عمره، وقد سمعتُ منه مثل هذا الكلام عن المرحوم العلّامة الطباطبائيّ مرّات عديدة.
[أتعلمون ما الّذي يعنيه] حضور درسٍ واحدٍ مِنْ دروس العلّامة الطباطبائيّ ؟ لقد حَضرتُ مجالس العلّامة الطباطبائيّ عندما كنتُ في سنّ السابعة أو الثامنة عشر مِنْ عمري حتّى العشرين، لا بل الرابعة أو الخامسة والعشرين مِن عمري، فقد أدركتُ محضره، غير أنَّه بسبب ما كان يعانيه مِنْ مرض لم يكن يدرّس، بل كان يُقيم بعض المجالس، ولقد استفدتُ كثيرًا مِنْ تلك المجالس المخصّصة للإجابة عن الأسئلة.
لقد قسّمتُ المواضيع الّتي يمكن أن تُطرح إلى عدّة أقسام؛ فقسم مِنَ المواضيع يتأسّف الإنسان على صرف وقتٍ في قراءتها، فيضع ذلك الكتاب جانبًا ويقول: إنَّ هذا الكتاب لا يستحقّ حتّى أن يُنظر فيه. وهنالك قسم آخر مِنَ الكتب المؤلَّفة يتوقّف الإنسان عندها ويقول: سأقرؤها علّني أجد فيها ما أستفيد منه. كما أنَّ هنالك قسمًا ثالثًا مِنَ المؤلفين الّذين تجذب أسماؤهم الانتباه، وإن كان القارئ يحتمل أن تتضمّن مؤلّفاتهم مواضيعَ غير صحيحة، غير أنَّ كتبهم تستحق القراءة على أيّة حال، فهذه الكتب تختلف عمّا سبقها. أمّا المجموعة الرابعة مِنَ المؤلّفين، فهم الّذين ما إن يُشاهد اسم أحدهم على جلد الكتاب حتّى يبادر إلى اقتنائه، والعلاّمة الطباطبائيّ واحد مِنْ هؤلاء المؤلّفين. فعندما تتجوّل في مكتبة أو في سوق الكتب ويقع نظرك على كتاب مِنْ تأليف العلّامة الطباطبائيّ اشتره في الحال ولا تتوانى، وإلّا ستكون خاسرًا. هكذا هي مؤلفات العلّامة الطباطبائيّ. ولقد استفدتُ كثيرًا لسنوات عديدة مِنْ حضور تلك المجالس الّتي خُصّصتْ للإجابة عن الأسئلة.
لقد كان المرحوم العلّامة الطهراني – علاوة على حضوره الدروس الرسميّة للعلّامة الطباطبائيّ – يتقابل ويتحدّث معه يوميّا لمدة ساعتين مِنَ الزمان على وجه التحديد. فإن ضربنا سبع سنوات باثنين، أي إن ضربنا ثلاثمائة وخمسة وستين يومًا بتلك الساعتين، فكم سيكون الناتج ؟ وهل سيكون هناك شيء لم يحصل عليه ؟ بلى، لقد حصل منه على كلّ شيء.
فها قد تتلمذ المرحوم العلّامة الطهرانيّ لمدة سبع سنوات على يد العلّامة الطباطبائيّ، ثمّ ذهب بعدها إلى النجف ليلتقي بعظماء مدينة النجف أمثال المرحوم السيِّد عبد الهادي الشيرازيّ، ومِنَ العرفاء المرحوم السيِّد جمال الدين الكلبايكانيّ الّذي بقي على تواصل معه لمدة سبع سنوات، كما التقى بآخرين؛ منهم المرحوم الحاجّ الشيخ عباس الهاتف وهو الوصيّ الرسميّ للمرحوم القاضي، والمرحوم الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ الهمدانيّ وهو مِنَ الأولياء الإلهيِّين، وذلك في السنوات الأربع الأخيرة مِنْ حياته، حيث كان يلتقي به عندما يزور الشيخُ النجف، كما زاره المرحوم العلّامة الطهرانيّ مرة أو مرتين في همدان عندما كان المرحوم العلّامة الطهرانيّ يزور إيران خلال فترة إقامته في النجف، وكان باب المراسلة بينهما مفتوحًا، ولا تزال تلك الرسائل موجودة إلى الآن.
فإن جَمَعنا هذه السنوات السبع مع تلك، كم سيكون المجموع ؟ سيكون المجموع أربع عشرة سنة. وبعد ذلك التقى المرحوم العلّامة الطهرانيّ بشخصيّة جديدة تتفاوت كليّا عمّن قبلها مِنَ الشخصيّات، ألا وهو المرحوم السيِّد الحدّاد – إن كان الإخوة قد لاحظوا أنّني ذكرتُ هذا الأمر في الجزء الثاني مِنْ كتاب أسرار الملكوت على ما يبدو – وكانت العبارة الّتي قالها بحقّه هي: عندما التقيتُ به، فكأنَّ فصلًا جديدًا مِنَ العرفان قد فُتح أمامي. هذا مع حفظ مكانة مَنْ كان قبله – كما يُقال اليوم عمّن يُكلّف بمهمّة إضافيّة: قد كُلّف بها مع احتفاظه بمنصبه السابق – إذ كان يقول عن المرحوم العلّامة الطباطبائيّ أنَّ الملائكة لا تذكر اسمه ما لم يكونوا على وضوء، و[يقول] عن المرحوم الشيخ الأنصاريّ أنّه عندما كان ينظر إليه فكأنَّما ينظر إلى رسول الله. ولكنَّه عندما التقى بالسيِّد الحدّاد نراه يقول أنّه قد وجد شيئًا مختلفًا هنا. وبعد مرور أربعة عشر سنة على ذلك – وكان عمري في حدود أربعة عشر عامًا عندما شاهدتُ وسمعتُ منه ما أنا بصدد بيانه للإخوة – والّتي إن أُضيفتْ إليها تلك الأربعة عشر سنة السابقة سيكون المجموع ثمانية وعشرين سنةً، فيكون قد أمضى ثمانية وعشرين سنةً مِنْ عمره في هذه المدرسة مع ما كان يمتلك مِنْ حالات، وكان يحكي لي بنفسه عن بعض الحالات الّتي كانت تحصل له أحيانًا عندما كان يقيم في مدينة النجف، وهي حالات لم يكن قد أخبر بها أحدًا، فكنتُ – والحال هذه – أتعجّب مِنْ تعبيراته عن حالته عند لقائه بالسيِّد الحدّاد.
طوطيان در شكرستان كامراني ميكنند | *** | و از تحسر دست بر سر ميزند مسكين مگس |
[يقول: إنَّ الببّغاوات تتنعّم الآن في مزارع قصب السكر، بينما يلطم الذباب المسكين رأسه حسرة]
فمع هذا المقام الّذي كان عليه السيِّد الحدّاد، يأتي مَنْ يقول: مَنْ يكون السيِّد الحدّاد، فهو لا يتعدّى كونه رجلًا غيرَ متعلّمٍ ! ويأتي مَنْ يعترض على ما كتبه المرحوم العلّامة الطهرانيّ بحقّه۱. [أقول] كان عليك أن تدرس وتكتسب شيئًا مِنَ العلم أيّها المسكين السيّئ الحظّ لكي لا يصل بك الأمر إلى فضح نفسك بمثل هذا الكلام، لأنّ مَنْ قال ذلك الكلام لم يكن رجلًا عاديّا بائعًا للّبن أو الشمندر، بل كان التلميذ الأوّل في دروس السيِّد الخوئيّ، والتلميذ الأوّل في دروس السيِّد الشاهروديّ، وكان المرحوم الشيخ حسين الحليّ يفتخر في مجالسه بحضور مثل هذا التلميذ في درسه. نعم، إنَّ مَنْ ذَكَر ذلك الكلام هو هذا الرجل، فهو [كلام] لم يصدر عن رجلٍ لا يُحسب لكلامه حساب ولا يُقام له وزن، كالّذين يتفوّهون بكلام لم يُفكّروا فيه قبل التفوّه به فتراهم يمدحون رجلًا وينتقصون مِنْ آخر دون أن يحسبوا لكلامهم حسابًا.
نعم، فبعد مرور ثمانية وعشرين عامًا على وجوده في تلك المدرسة، تعجّبتُ يومًا عندما رأيت سيماه عند عودته مِنْ كربلاء، وقد أدركتُ هذا الأمر بالرغم مِنْ أنّي كنتُ في مرحلة الصبا في الرابعة عشر مِنْ عمري. لقد كان الأمر عجيبًا جدّا بالنسبة لي، فبعد كلّ زيارة له ألاحظ أنَّ سيماء وجهه تختلف كثيرًا عمّا كانت عليه بعد سفره السابق، بل كان شيئاً آخر، وإنَّه لأمر عجيب حقّا، فما الّذي كان يحصل له في تلك الأسفار ؟ وفي هذا السفر الأخير رأيتُ أنَّ حالته اختلفت كثيرًا عن المرّات السابقة. وكنتُ قد أدركت ذلك الأمر وأنا في صباي، وها أنا أرى [الآن] أنَّ حدسي ذاك كان صحيحًا إلى حدّ ما، أي أنَّني عندما ارجع بذاكرتي – بعد مرور كلّ هذه المدة – إلى ذلك الزمان أرى؛ أنَّ ما لمسته في سنّ الصبا [عن حالات المرحوم العلّامة الطهرانيّ] لم يكن اعتباطيّا، وأنَّ ما كنتُ أشعر به لم يكن غريبًا. نعم، كنتُ أرى تبدّل حالاته.
كان أوّل مَنْ زار المرحوم العلّامة الطهرانيّ بعد عودته مِنَ السفر هو أحد أصدقائه الّذي تربطه به علاقة مودّة في عهد المرحوم الشيخ الأنصاريّ، ولكنّه قلّل مِنْ علاقته تلك في أواخر عمره. فقد زاره الرجل بعد الظهر، فجلبتُ لهم الشاي وجلستُ جانبًا، ومِنَ الأمور الّتي قالها [العلّامة] له: لقد شاهدتُ في سفري هذا أمرًا مِنَ السيِّد الحدّاد، ولقد حكيتُ القليل مِنَ الكثير الكثير الكثير الكثير منه للسيِّد السبزواريّ۱، فبقي السبزواريّ لمدة أسبوع مذهولًا متحيّرًا ممّا سمعه وهو يقول (كيف يحصل مثل هذا الشيء).
نعم قال [العلّامة الطهرانيّ]: نقلتُ للسيّد السبزواريّ القليل مِنَ الكثير الكثير – وردّدها عدّة مرات – ممّا رأيتُه مِنَ السيّد الحدّاد، فبقي الرجل٢ لمدة أسبوع مذهولًا يردّد بينه وبين نفسه (ما الّذي حصلنا عليه في مدّة تتلمذنا على يد الشيخ الأنصاريّ) ثمَّ أردف المرحوم العلّامة قائلًا: ولقد قلتُ له: نأمل أن تكون تلك الفترة بمثابة المقدّمة التربويّة للوصل إلى هذا الرجل٣ لتبلغ عنده ما يمكنك بلوغه.
أتلاحظون كيف أنَّه بعد مرور ثماني وعشرين سنة [مِن السلوك]، لم يكن قد وصل إلى تلك الولاية بعد – ولعلّه قد حصل المزيد بعد ذلك – فأنا عندما قلتُ أنّ أولئك لا يفرّقون بين الولاية والقرية، لم أقل ذلك جزافًا. فلا يجوز لنا – والحال هذه – أن نقوم بمثل تلك الألاعيب ونطلق تلك الخزعبلات ونتقمّص شخصيّة العظماء، بل علينا أن نكون مصداقًا لقول أمير المؤمنين: رحم الله امرؤ عرف قدر نفسه٤. لقد أقام أمير المؤمنين الحجّة علينا، فعلى كلّ واحدٍ منَّا أن يعرف حدّه ومقياس ثوبه، فلا يتقمّص لباس الآخرين، بل عليه أن يلبس ما يتناسب مع قامته، لا أن يضع على كتفيه عباءةَ غيره، ولا أن يتعمّم بعمامة غيره ولا أن يلبس حذاء غيره، فلكلّ شيء حدّه الخاصّ به.
فاز المرحوم العلّامة بذلك المقام لأنّه فرّغ قلبه للحقيقة
لماذا [فاز المرحوم العلّامة الطهرانيّ بذلك المقام] ؟ لأنَّه كان قد فرّغ قلبه منذ البداية مِنْ أجل إدراك الحقيقة – وهو عين الكلام الّذي قاله عنوان – ولم يكن قد اتّخذ لنفسه موقفًا مضادًّا. فمَنْ يفرّغ قلبه سيوفّقه الله ويمنحه السِّعة اللازمة ويفيض على قلبه ما يجب أن يُفاض. فلو اتّخذ جميع أهل الدنيا والمسلمين مسيرًا، لاتّخذ لنفسه مسيره الخاصّ. ولو سار جمع كبير مِنَ الناس في الشوارع، لَمَا عبأ بهم ولاتّخذ طريقه الخاصّ.
عندما كان يأتي البعض في ذلك الوقت إلى المرحوم العلّامة الطهرانيّ، كنتُ أشعر أنَّ هذا القادم لم يكن قد فرّغ قلبه له، بل كان لا يزال يحتفظ لنفسه بثلاثين في المائة منه، فهو يقول في نفسه: سأجلس مع هذا السيِّد لمدّة ساعة مِنَ الزمن لأرى ما الّذي يتحدّث عنه، ولأرى هل سيمسّني في كلامه أم لا، وهل سيتدخّل في أعمالي الخاصّة أم لا، فإن لم يتجاوز هذا الحدّ سأكون صديقًا له وسأستمع إليه. فإن قال له أنّه عليه أداء صلاة الليل، سيفكّر في الأمر قليلًا ويقول [في نفسه]: لا بأس بهذا، يمكنني النهوض مِنَ النوم لنصف ساعة قبل أذان الصبح. فحينئذٍ يجيبه قائلًا: على عيني، سأقوم بهذا العمل.
إنَّ هذا ما كنتُ أسمعه منهم بنفسي، لماذا كانوا يقولون ذلك ؟ لأنَّ الأمر كان هيّنًا عليهم، فليس في النهوض قبل الأذان بنصف ساعة مِنْ مشقّة، لذا يقول في نفسه [مثلًا]: أنا عادةّ أنهض للقيام ببعض التمارين الرياضيّة، فلأصلّي بدلًا عن ذلك، فبدل أن أقوم بما يقوم به الناس اليوم – مِنْ أداء التمارين الرياضيّة والشهيق العميق ليصل الهواء إلى الجزء السفليّ للرئتين فيصل الأوكسجين إلى كافة الخلايا ويحصل الاحتراق الكامل – يمكنني أداء صلاة الليل، وبذلك سأكتسب فائدة دنيويّة مِنْ هذا العمل أيضًا، فلا بأس مِنْ أداء هذه الصلاة.
[ثمّ يأتي الأمر الثاني، فيقول له المرحوم العلّامة الطهرانيّ:] عليك الإتيان بهذه الأذكار عدّة مرّات في اليوم. فيقول الشخص في نفسه: إنَّ طيّ الطريق إلى الله بحاجة إلى الإتيان بالذِّكْر وبحاجة إلى التوجّه إلى الله، فلأخصّص نصف ساعة من وقتِ فراغي لمثل هذا الأمر. فتراه يقول عندها: سمعًا وطاعة. فإلى الآن لم تحصل أيّة مشكلة.
[ثمّ تصل النوبة إلى الأمر الثالث، فيقول له المرحوم العلّامة الطهرانيّ:] عليك مراعاة الدقّة في علاقاتك مع الآخرين، فلا ينبغي لك أن ترافق أيًّا كان. [فيقول هنا:] نعم، فنحن عادةً لا نجالس شاربي الخمور وغير المتديّنين، ولا نتعامل مع النساء غير المحجّبات، فلا مشكلة في هذا الأمر أيضًا – فالأمور تجري بشكل جيّد حتّى الآن – فترى الرجل يقول: سمعًا وطاعة، سأفعل كلّ ما تأمرني به. فلم تحصل أيّة مشكلة إلى الآن. أنا لا أقول هذا مِنْ عندي، بل هذا ما كنتُ أسمعه منهم بنفسي .. كنتُ قد أخبرتُ الإخوة أنَّني سأعمل بمشيئة الله على وضع ما لديّ مِنْ معلومات تحت تصرّفهم وسأكون صريحًا معهم في نقلها.
ثمّ يتطوّر الأمر حتّى يصل إلى موضوع [حسّاس كإدارة] مسجد أو ما شابه ذلك، [فيقول له المرحوم العلّامة الطهرانيّ:] يبدو أنَّ لك يد في قضيّة كذا. فيصفرّ الوجه عند الوصول إلى هذا الحدّ. فإنَّ العظماء لا يضعون أصابعهم مِنَ البداية على موضع الألم، بل تراهم يتدرّجون في طرح المواضيع، حتّى يصل إلى ما يجعل الوجه مصفرًّا، فيقول له هنا: عليك أن تُطلعني على ما يتعلّق بالموضوع الكذائيّ. فيبدأ الرجل بالتفكير في الأمر، ويبلع ريقه ويحلّل الموضوع بينه وبين نفسه قائلًا: لم أكن أعلم أنَّه سيتدخّل في هذا الموضوع أيضًا، فقد طلب منِّي أن أصلّي صلاة الليل وآتي بالأذكار فوافقت، بل وافقت على ما يتعلّق بكيفيّة التغذية أيضًا، فكنتُ مستعدًّا لإعادة تنظيم طعامي وعدم تناول اللحوم أكثر مِنْ مرّتين في الأسبوع – إلّا أنَّي سأتناول [كميّة كبيرة] منها في كلّ مرّة، فهو لم يحدّد لي المقدار، بل اكتفى بقول أن لا آكل اللحم أكثر مِنْ مرّتين في الأسبوع وبالتالي سأعوّض عن حصّة شهر كامل في يومٍ واحدٍ ففي المرّة القادمة سأتناول حصّةَ الشهرِ القادم – فلا مشكلة لدي في كلّ هذا، وسأعمل على تنفيذه. ولكن عندما يصل الأمر إلى ما يتعلّق بالمسائل الشخصيّة والعلاقات الاجتماعيّة والمعاملات الّتي أمضينا ستين سنة مِنْ أعمارنا نتعامل فيها، فهي ليست مسائل متعلّقةً بالإتيان بذكر (لا إله إلّا الله) أو متعلقةً بنوع الطعام الّذي يجب تناوله كالخبز والجبن والخضار بدلًا عن وجبة الأرز والحساء، فإنَّ هذه الأمور سهلة ويسيرة وهذا النوع مِنَ الطعام أفضل لأنَّه أيسر للهضم،أمّا عندما يصل الأمر إلى العلاقات الاجتماعيّة [تراه يقول] كلّا .. لن أتوسّع في شرح هذا الموضوع أكثر مِنْ هذا المقدار، لأنَّ الإخوة يُدركونه، وهو موضوع واضح للجميع تقريبًا.
فيبدأ القلب في هذه المرحلة بالخفقان، والأستاذ يعلم ما الّذي يجري هنا ويعلم أيّ اضطراب وتشويش قد حصل في القلب، وهو يريد أن يبعده عن هذا المسير لأنَّه يعلم عدم صلاحيّته لهذا الأمر. فبدل أن يبقى الرجل عشر سنوات في هذه المدرسة، الأمر الّذي سيسبّب له المتاعب، ترى الأستاذ يقوم بصرفه منذ هذه اللحظة وهو يقول في نفسه: واصل نفس مسيرك الّذي كنت عليه أطال الله في عمرك، فإنّ انصرافك هذا سيقلّل مِنْ متاعبي مِنْ جهة وسيحفظ ماء وجهك مِنْ جهة أخرى، فإنّ تواجدك في هذه المدرسة سيجبرك على عصيان أوامري، لذا لن أقبلك مِنَ البداية لكي لا يصعب عليك أمرك فيما بعد، وها أنا أقول لك الآن أن تواصل مسيرك الّذي كنت تطويه .. لأنَّه عندما [سيصل إلى مرحلة أن] يمنعه عن عمل ما، سينهار ويُجيبه: سأقوم بكلّ ما تأمرني به عدا هذا الموضوع، فأريد أن تتركني فيه وشأني.
يقول المرحوم العلّامة الطهرانيّ: إنَّ السلوك لا يعني سوى هذا الأمر۱، فهو لا يتمثّل في صلاة الليل – أنا الّذي أقول هذا الكلام عن لسانه، فالمرحوم العلّامة الطهرانيّ لم يقله – والإتيان بالأذكار ولا في الصو م، فجميع هذه الأمور والتكاليف عبارةٌ عن مقدمات تُهيّئ المرء لاجتياز هذه المرحلة، فلو أردتَ الإتيان بذِكر ما مِنْ تلقاء نفسك دون تجويز مِنْ وليّ إلهيّ، فليس مِنَ المعلوم أنّه عمل صحيح، وقد لا يترتّب عليه الأثر الصحيح، بل قد يؤدِّي إلى إيقاعك في انحرافات، وهذا ما يحصل بالفعل. إنَّ وليّ الله يقول له: إنَّ امتناعك عمّا أنهاك عنه سيسرّع في تكاملك أكثر مِنْ أدائك لصلاة الليل مائة عام.
إنَّ الأستاذ يضع يده على مثل هذه الأمور، سواء كانت مِنَ المسائل النفسيّة أو العلاقات الاجتماعيّة – عليكم التركيز على هذا الأمر فهو في غاية الأهميّة – نعم إنَّ الأمر لا يختصّ بالمسائل النفسيّة فقط، بل [يتعلّق] بما يقوم به السالك مِنْ أعمال [إجتماعيّة أيضًا] الّتي قد يكون لها تبعات تؤدِّي إلى الضلال والإفساد، والسالك لا يعلم ما يعلمه الوليّ الإلهيّ، إذ السالك لا ينظر إلى الأمر إلّا مِنْ ناحيته الظاهريّة مِنْ فعّالية ونشاط وحركة ظاهريّة، أمّا ذلك الرجل الّذي تجاوز هذا الأمر وكان قد أمضى ليس فقط ثماني وعشرين سنة في هذا الطريق بل ثماني وثلاثين أو أربعين سنة فيه فهو رجل يختلف عنك بعض الشيء يا عزيزي. فإن كنتَ ترى أنَّه لا يُدرك الأمور حتّى بمستوى إدراكك أنت، فلماذا أتيت إلى هنا؟! وما هو الفرق حينئذٍ بين سلوكه أربعين عامًا وبين حالك أنت الّذي لم تخطُ حتّى خطوةً واحدةً في هذا الطريق ؟! وإن كنتَ تعتقد أنَّه متخلّف عنك في تشخيص المصلحة ولا يمتلك ما تمتلكه مِنْ فهم، وأنَّك أقدر منه على تشخيص صلاحك الشخصيّ وصلاح المجتمع، وأنَّك تستطيع تقدير ما يمكن أن يترتّب على فعلٍ ما مِنْ تبعاتٍ وعواقب، فلماذا تأتي إليه ؟! [فإن كنتَ تؤمن بهذا] كان عليك الاستمرار بعملك وفقَ ما تعتقده مِنْ صحّة ! أمّا إن كنتَ تعتقد أنّه أفضل منك – وهو أقلّ درجات الإنصاف – فلماذا تستثني بعض الموارد إذًا، بأن تقبل منه شيئًا وترفض شيئًا، فلماذا تخصّص لنفسك بعض الأمور ؟!
ونظائر هذه القضيّة كثيرة. ولهذا كان [المرحوم العلّامة الطهرانيّ] يقول ويكرّر مرّات ومرّات: كثير ممّا لديّ لا أطرحه على الإخوة لعلمي بعدم قابليّتهم لتحمّله. فلهذا لم يطرحه حتّى آخر عمره وارتحاله عن الدنيا، ومع هذا يأتي مَن يقول: لقد أخبرنا المرحوم العلّامة الطهرانيّ بكلّ شيء، فلو كان هنالك شيء آخر لكنَّا قد سمعناه منه. [أقول] هل يتوجّب أن يصل إلى مسامعك كلّ شيء يا هذا ؟!
أهميّة الحريّة والانفتاح على الحقّ
كتبتُ على عُجالة مقالًا عن المرحوم العلّامة الطهرانيّ بعد ارتحاله، وكان مقرّرًا أن يُنشر في مجلة تهتمّ بشؤون أئمّة الجماعة، وذلك بعد أن اشترطتُ عليهم ألّا يحذفوا كلمةً واحدةً ممّا كتبت، فإن شاؤوا فلينشروه [على ما هو عليه] وإلّا فلا. وعندما رأوا أنَّهم لا يستطيعون نشره أعادوه إليّ، فقلتُ لهم: جزاكم الله خيرًا، فأنا لا أوافق على حذف كلمةٍ واحدة ممّا جاء في هذا المقال.
كنتُ قد ذكرت في ذلك المقال حكاية حصلتْ بين المرحوم العلّامة الطهرانيّ وبين المرحوم آية الله الخوئيّ رحمة الله عليه، ولم تكن تلك القضيّة بالقضيّة المهمّة بل كانتْ مجرد مسألة عاديّة وهي عبارة عن نقاش جرى بين أستاذ وتلميذه، وهذا كثيرًا ما كان يحصل ويحصل في هذه الأيّام أيضًا، فمِنَ الممكن أن ينقد التلميذ رأي أستاذه، سواء في الدرس أو خارجه، فلم يكن في الموضوع أيّ انتقاص بل كان عبارة عن بيانٍ لطريقةٍ وطرزٍ مِنَ التفكير، وهو ممّا لا ضير فيه بل لا بدَّ مِنْ حصوله.
فذكرتُ في ذلك المقال أنَّ المرحوم العلّامة الطهرانيّ قال للمرحوم السيِّد الخوئيّ أنَّه قد حسب لكلّ شيء حسابه في الطريق الّذي يسلكه، فهو لم يسلكه بصورة اعتباطيّة، ثمّ قال له: إنَّكم تعلمون أنَّني مِنْ أفضل تلامذتكم في دروسكم، وأنا لا أقضي وقتي بما يقضيه الآخرون كالسهر على شرب الشاي والقهوة وتضييع الوقت بما يقوله هذا وذاك والغيبة وإلصاق التُهم بالآخرين، بل أنا أحسب لكلّ دقيقة مِنْ وقتي حسابها. وعلاوة على هذا فكِلانا مِنْ طلبة العلوم الدينيّة ومِنْ أهل العلم، فانتخبوا بأنفسكم الموضوع الّذي ترونه [مناسبًا]، وليحقّق كلّ واحدٍ منَّا فيه لمدة أسبوع، ثمّ نجلس لمباحثته لنرى لمِنْ ستكون الغلبة. نعم، لقد قالها بكلّ هذه الصراحة. وكنتُ قد سمعتُ هذا منه مراتٍ عديدةٍ؛ إحداها كانت في بيت المرحوم الشيخ المطهريّ عندما دعانا لتناول الإفطار في بيته، ولقد حضر ذلك المجلس بعض الإخوة أيضًا. كما قالها مرّة أخرى في إحدى مجالس عصر الجمعة بحضور ما يقارب ثلاثين رجلًا جاؤوا مِنْ مُدنٍ مختلفة.
فعندما كتبتُ هذا الموضوع، ارتفعت الأصوات معترضة عليه مِنْ كلّ حدب وصوب بأنَّ ما كتبتُه يمثّل انتهاكًا لحرمة السيِّد الخوئيّ. ولا أدري أين هو الموضع الّذي لم يراع فيه الاحترام فيما كتبت ؟! وقد قال لي أحدهم: هنالك خمسمائة تلميذ للسيِّد الخوئيّ في مدينة طهران، فكلامك هذا سيعمل على المساس بهم. قلتُ له: فليكن عددهم خمسة آلاف، بل وخمسين ألفاً، فكيف سيؤدِّي ما كتبته إلى المساس بهم ؟!
ألم يحصل عكس ذلك بحقّ المرحوم العلّامة الطهرانيّ عندما كتب أحدهم أنَّ السيِّد محمّد حسين [الطهرانيّ] طرح مواضيعَ باطلة، فانظروا إلى ما قاله وأيّة عبارات استعملها في وصف الشيخ الأنصاريّ، وهو ما جاء في مقال نشره أحد الأفراد – وهو صاحب رسالة عمليّة – في إحدى المجلّات نقدًا لكتاب «الروح المجرّد». وانظروا كيف أنّه لم يدع مِنَ الأباطيل والخزعبلات شيئًا إلّا وذكره، وقد كتب ذلك المقال باللغة العربيّة – وهو لم يكن إيرانيّا بل مواطنَ إحدى البلدان الأخرى، لا أدري أيّ بلد هي، فلميتعاملوا مع ذلك على أنّه مشكل حتّى أنّه لم يرتفع أيّ صوت مِنْ تلك الأصوات للاعتراض على ما كُتب !
على أنَّني عندما كتبتُ مقالًا في الرّد عليه، والّذي كان يجب أن يُنشر مِنْ قِبَل المجلّة نفسها بموجب ما تعهّدتْ به المجلة في نشر الردود على المواضيع الّتي تَنشرها، امتنعوا عن نشر الردّ. ففي هذا كلّه لا يوجد أيّ مشكلة !! أمّا عندما أقوم بنشر حكاية [حصلت بين طرفين] تضمّنت اقتراح أحدهم إجراء بحث حول رواية وحكم شرعيّ يعتمد على الأدلّة والمصادر ليتمّ مناقشته ويتبيّن لِمَنْ الغلبة، فستُعتبر مقالتي هذه عمل غير صائب وأنّه بمثابة توجيه إهانة للرجل !! وأنا لا أدري أين تكمن الإهانة في هذا الأمر ؟!
ثمّ يأتي أحد أصدقائي السابقين – الّذي يحرص على هذه المدرسة أكثر مِنْ صاحبها [هذا تهكّم مِن سماحته] – ليقول لي: أنا لم أسمع بهذه الحكاية مِنَ المرحوم العلّامة الطهرانيّ طيلة الفترة الّتي كنت معه ! [أقول] هل يفترض أن تسمع منه كلّ شيء يا هذا ؟! فهل أنا ابنه أم أنت ؟! فهل يتوجّب أن تكون قد سمعت منه كلّ ما كان قد قاله ؟! فإن لم تكن قد سمعتَ هذه الحكاية منه في حياته، فتعال واسمعها منِّي. فإن كنتَ تعتقد أنَّني أكذب عن لسانه في أنّه قد ذكر تلك الحكاية على الملأ، فتعال وقل لي بصراحة: إنَّك تكذب وتتّهم، وأنت فاسق – إذ مَنْ يكذب فهو فاسق فلفظ الفاسق يُطلق على الرجل الّذي يرتكب كبيرة في العلن، والكذب مِنَ الكبائر فمَنْ يكذب فهو فاسق ولا يجوز الاقتداء به في الصلاة وهو غير عادل ولا تُقبل شهادته، فجميع ذلك يترتّب على الفسق – فإن كنتُ فاسقًا بنظرك فقلها صراحة ولا تجامل، وإن لم أكن كذلك كان عليك ألّا تتفوّه بمثل هذا الكلام، وأن تصدّق به وتتفكّر في الموضوع، فأنا قد كتبتُ هذه الحكاية مِنْ أجلك ومِنْ أجل أمثالك، فلستُ مصابًا بمرض يدعوني إلى كتابة مثل هكذا موضوع. فما كتبته لم يكن اعتباطًا، بل كان مِنْ أجل أن لا تقع اليوم في فخاخ الشيطان وأن لا تتخبّط بعد مرور ثلاثة عشر عامًا في مستنقع الأوهام والتخيّلات أيّها المسكين.
إنَّ كلّ هذا يحصل بسبب عدم انفتاحنا على الحقّ، فقد أغلقنا أبواب قلوبنا بوجهه، فلو أنَّنا تركناها مفتوحة أمام الحقّ .. ولكنَّا سنتنبّه عندما نتعرّض للصدمات، فعند الصدمة الأولى سنتنبّه لما حصل لنا، وهكذا عندما نتعرّض للصدمة الثانية والثالثة.
مَن يعجز عن تقبّل الحقائق لم يكن قد فرّغ قلبّه للحقّ
لا أدري إن نقلتُ للإخوة هذه الحكاية مِنْ قبل؛ كان هناك رجل لديه تصوّر خاصّ عن رجل آخر، وكان يراه صاحب مكانة خاصّة وقداسة خاصّة، إلّا أنَّ الرجل لم يكن يمتلك بالفعل مثل تلك المواصفات، بل كان رجلًا عاديًّا كباقي الرجال. وكان هذا الرجل قد نظّم جميع أموره الحياتيّة على هذا الأساس، بل أكثر مِن ذلك فقد كان يدعو الآخرين للسير على نهجه.
وليت المرء عندما يختار لنفسه مسيرًا منحرفًا يسير فيه بمفرده. وإن حثّ أفراد أسرته على السير معه سيبقى نطاق الانحراف محدودًا وضيِّقًا، أمّا إن تجاوز الأمر نطاق أسرته ليشمل أقرباءه ومعارفه بل وغيرهما فسيصبح الأمر صعبًا للغاية. فكيف سيواجه حساب يوم القيامة ؟! إنَّ مَنْ يحتلّ مكانة تفرض عليه الاختلاط بالآخرين والتعامل معهم، عليه أن يكون حذرًا للغاية وأن يحسب لكلّ كلمة ينطق بها ألف حساب. فلو اتّخذ أحدهم لنفسه مسيرًا منحرفًا، مِنْ دون أن يعلم به أحدٌ ومِن دون أن يدعو غيره للسير معه، فليس في ذلك ضررٌ كثير، أمّا لو قام بدعوة غيره لاتّباعه في مسيره معتقدًا أنَّه المسير الحقّ، خصوصًا إن كان الرجل يتمتّع بمكانة متميّزة في المجتمع وأنّه مِنْ أهل التقوى، فإنّ ذلك سيشجّع المزيد مِنَ الناس على اتّباعه وبالتالي سينحرف عددٌ كبيرٌ مِنَ الناس، فحينئذٍ الويل ثمّ الويل له، وسيكون لفعلته هذه عواقب وخيمة تنعكس عليه وعلى دينه ودنياه.
فكان هذا الرجل [المتأثّر بصاحب المكانة المدّعاة] يعترض علَيّ وعلى ما أقوم به مِنْ عمل، وكان يردّد ما يردّده الآخرون عادةً مِنْ أنَّني لا أُجيد سوى الانعزال عن المجتمع وعدم الاهتمام بما يجري مِنْ حولي. وفي إحدى الليالي التقى هذا الرجل بشخصٍ، وهذا الشخص كان يعرف ذلك الرجل [صاحب المكانة المدّعاة] وما يدعو إليه معرفةً جيّدة، وهو مطّلع على الكثير مِنْ خصوصيّاته بل كان مطّلعًا على ما لم يكن غيره مطّلعًا عليه. فحكى هذا الشخص للرجل [المتأثِّر] حكاية حصلتَ له فقال: كنتُ يومًا في مكان ما ورأيت مِن ذلك الرجل [صاحب المكانة المدّعاة] أمرًا ما. فاصفرّ وجه الرجل [المُتأثِّر] ممّا سمع، ثمّ حكى له حكاية أخرى، وكانت حكاية صحيحة، فلم يكن هذا الشخص يكذب فيما ينقل، بل كان ينقل له ما قد رآه بنفسه، إذ كان متواجداً في ذلك المكان وشاهد بنفسه منه ما شاهد، إذ إنَّ أمرًا ما كان قد حصل بينهما، ولا علم لي بتفاصيل ما كان قد حصل. وعندما أراد أن ينقل له الحكاية الثالثة، قال له: لا تتكلّم، لا تتكلّم. فقال: لماذا لا تريدني أن أواصل حديثي ؟! قال: لأنَّني كنتُ قد رسمتُ لنفسي صورةً عن ذلك الرجل [صاحب المكانة المدّعاة]، فإن استمرّيتَ في سردك لما رأيته منه، سوف تنهار جميع تلك التصوّرات الّتي رسمتها عنه في ذهني، ولن أتمكن مِنْ تعويض ذلك التصوّر بتصوّر آخر.
يا للهول !! فما الّذي يعنيه هذا الكلام ؟!! إنَّه يعني أنَّه لن يتمكّن مِنَ الصمود إن حاول تحليل تلك الوقائع الحقيقيّة الّتي حصلت. فإن كنتَ لا تستطيع الصمود بوجهها، فماذا عن باقي الناس الّذين دعوتهم إلى هذا الطريق، وماذا عن التكاليف الّتي أطلقتها بشأنه، وماذا عمّن أصغى لكلماتك تلك ؟! ألا يُحمّلك إقرارك بالخطأ هذا مسؤوليّة مراجعة نفسك ومراجعة أعمالك وتجديد النظر في هذا الموضوع.
ويأتي الآن مَنْ يقول لي: كنتُ قد سمعت موضوعًا ما مِنْ والدك في ذلك الوقت. فأقول له: تعال وقلّ لي ما الّذي سمعته. وهكذا يأتي الثاني والثالث والعاشر، بل فليأتي كلّ مَنْ كان قد سمع منه شيئًا، سواء كان ذلك الشيء إيجابيًّا أم سلبيًّا.فأنا على يقين مِنَ الأمور الّتي اعتقد بها، ولو كان لازمًا علَيّ تبديلها لبدّلتها في تلك الفترة. [ولكنّني محّصت الأمر مِنْ جميع جوانبه] هذا أوّلًا، ثمّ إنَّني لم أسمع شيئًا يخالفه حتّى الآن، بل حتّى لو سمعتُ ذلك لَاتَّضَح لي أنّ ناقله قد أخطأ في فهم ما سمعه، لأنّ ما اعتقد به كان صحيحًا وثابتًا بالبرهان، ثمّ إنَّ صحّة ذلك الموضوع واضحة بالنسبة لي.
إنَّ مَنْ يقف عاجزًا عن تقبّل ما يثبت له مِنْ حقائق، فهو رجل لم يكن قد فرّغ قلبه، فهو يريد أن يُنقل له ما يُعزّز به رأيه في شأن فلان مِنَ الناس، وفي حدودٍ لا يتزعزع معها مكانته السابقة لديه. فما الفائدة مِنْ هذا ؟!
الهدف من بِعثة الأنبياء هو هدم الأباطيل السالفة
لماذا بعث الله أنبياءه ؟ إنَّ الهدف مِنْ بعثة الأنبياء هو هدم كافّة تلك المعتقدات السابقة، وإلّا لَمَا اعترض سبيلهم أحد.
فلو أنَّهم قالوا للناس: يمكنكم الاستمرار على عبادة أصنامكم، بل أضيفوا على الأصنام الّتي وضعتموها على الكعبة عشرة أخرى ! لقالوا: رحم الله آباءكم على ما جئتمونا به ! ولو قالوا لهم: افعلوا ما شئتم، فبإمكانكم ارتكاب الزنا والقيام بأيّة معاملة تجاريّة كانت، ولا شأن لنا بزعامتكم على الناس، وتستطيعون إدارة مكّة كيفما تريدون ! لقالوا: كم أنتم أناس طيّبون، ويا له مِنْ وحيٍ جميل يُوحى إليكم، فليت كلّ ما يُوحى إليكم يكون مِنْ هذا القبيل ! ولو قالوا لهم: لا شأن لنا بدنياكم وبثرواتكم وما تعملون. لقالوا عنهم: يا لهم مِنْ أناس جيّدين.
أمّا أن يكون أوّل ما يأمر به النبيّ هو تكسير الأصنام، ستراهم يقولون: يا ويلنا، ها هو يهدم جميع أفكارنا ويزيل كلّ ما أَنِسَتْ به قلوبنا خلال تلك الفترة، ويضع قنبلة لهدم بنائهم ذي المائة وعشر طبقات، بل جاء لإحداث زلزاليهدم ذلك البناء مِنْ أساسه. فلمَّا كان ما يفعله النبيّ يتعارض مع ما في القلوب مِنْ شوائب، لذا تراهم يتَّخذون مواقفًا معارضًا له، ويشنّون الحملات عليه ويقولون: إنَّه جاء ليسخر مِنْ آلهتنا، ويعارض سيرتنا العقلائيّة ويمحي ما كان عليه آباؤنا، وجاء لتخريب العلاقات الاجتماعيّة السائدة في مجتمعنا، فها هو يساوي بين العبد ومولاه، فهل يمكن أن يتساوى الخادم مع ربّ البيت. ألا تقول مجتمعات اليوم مثل هذا الكلام ؟!
فلننظر الآن إلى مجتمعنا الإيرانيّ الّذي نعيش فيه، فهل يسمحون للخدم بالجلوس معهم على نفس المائدة، أم أنَّهم يعطون الخادم طعامه ويأمرونه بالذهاب إلى إحدى الغرف الأخرى لتناوله. ألا يحصل مثل هذا في المجتمع الّذي نعيش فيه ؟! ألا يفعل هذا إخوتنا وأصدقاؤنا عندما يقيمون مأدبة إفطار، ألا يفرزون المدعوّين ليجلس صنف منهم في غرفة ويجلس الّذين يتمتّعون بمكانة اجتماعيّة متميّزة في غرفة أخرى ؟!
ما الّذي قاله رسول الله في هذا المجال، إنَّه قال: «إنَّما أنا عبد آكل أكل العبيد وأجلس جلسة العبيد»۱. كما أنّ الإمام السجّاد والإمام الرضا – حتّى عندما يحضرهم أحد أصحابهم الآتي مِنْ مدينة ما – كانوا يدعون كافّة عبيدهم للجلوس معهم على المائدة. لقد كانت مائدتهم مفتوحة ليلًا نهارًا، فكان الإمام ينادي على غلمانه لئلّا يتخلّف عن المائدة أحدٌ منهم، فعندما يُقال له أنّه لم يبق أحد إلّا وقد حضر، كان الإمام حينئذ يمدّ يده إلى المائدة قائلًا: بسم الله الرحمن الرحيم. نَهْج مَنْ هذا ؟ إنَّ هذا نهج الأئمّة كالإمام السجّاد والإمام الرضا. ففي الوقت الّذي يقول فيه رسول الله «وأجلس جِلسة العبيد»، ترانا لا نسمح في مجتمعنا للخدم بالجلوس معنا على المائدة، فنأمره بجلب الشاي ومدّ السماط وتهيئة الطعام ثمّ نأمره بالانصراف .. لماذا تفعل هذا يا عزيزي، فما هو الفرق بينك وبينه، أليس إنسانًا أليس مؤمنًا أليس مسلمًا ؟!
لا شكّ أنّ لكلّ واحد منَّا عمله الخاصّ به، وذلك هو مجال عمله وعليه أن يقوم به، فهو أجير وعليه القيام بواجبه، ولكن لماذا نحطّ مِنْ مستوى تفكيرنا ونتنزّل عن ذلك الفكر الإسلاميّ إلى حضيض الذلّة والبهيميّة والشهوانيّة وإلى حضيض الدنيا والغفلة والكثرات؟! فلكلٍّ مكانته الخاصّة به، وليس مِنَ الصائب أن نتعامل معهم بتلك الطريقة.
إنَّ مثل هذا التصرّف يصدر عَمَّنْ لم يفرّغ قلبه. أمّا عنوان البصريّ فقد قال «ففرّغت قلبي له»، ما الّذي يعنيه هذا الكلام ؟ إنَّه يعني: إنَّني أنتظر ما سيقوله لي الإمام الصادق عليه السلام، وليس لديّ شيء مقابل قول الإمام المعصوم، فأنا لم أحتفظ لنفسي بشيء لكي أراجع كلام الإمام على أساسه وأفكّر فيه، ولكي أقبل منه عشرة أو خمسين أو سبعين في المائة فقط والثلاثون الباقية أجد في نفسي لها تبريرات لكي لا أنفّذها، فأقول مثلًا: لم أتمكن مِنَ القيام بهذا العمل يا سيّدي، بسبب ما أصابني مِنْ مرض. أو أجد تبريرًا آخر ثمّ أقول: أنا خجل مِنْ ذلك. [فلو حصل ذلك] سيبتسم الإمام في وجهه ويقول له: أسال الله أن يوفقك .. ولكن عنوان لم يفعل ذلك، بل كان قد فرّغ قلبه مِنْ أجل أن يستمع لكلام الإمام.
فكيف يمكن أن يحصل تفريغ القلب هذا ؟ إنَّ هذا ما كنتُ أنوي الحديث عنه اليوم، غير أنَّني قد قدّمتُ أعذاري مسبقًا قبل أن أبدأ بالكلام، فسأقوم بشرح هذا الموضوع في المجالس القادمة إن شاء الله.
كافّة المشاكل ناشئة عن عدم تفريغ القلب للحقّ
إنَّ كافة المشاكل الّتي حصلت وتحصل لبني البشر، منذ أن خلق الله آدم وإلى يوم القيامة، ناشئة عن عدم تفريغ القلب عند مواجهة الحقّ. فجميع تلك الحروب الّتي حصلتْ والمفاسد الأخلاقيّة الّتي عانتْ منها المجتمعات وجميع الخسائر الّتي مُنيتْ بها، ناجمة عن عدم تفريغ القلب. فترى كلّ واحد منهم يحتفظ لنفسه بمقدار. كما أنَّ كلّ سعادة حصل عليها الإنسان في أيّة مرحلة مِنْ مراحل حياته وبأيّ مقدار كانت، فهي ناتجة عن تفريغ القلب. فها هو الميدان مفتوح أمامنا فلننظر كيف نتصرّف.
سأقوم بشرح ما تبقّى مِنْ مواضيع في المجلس القادم إن شاء الله. ونسأل الله أن يجعلنا ممّن يشملهم مضمون دعاء الإمام السجّاد عليه السلام: إلهي اجعل قلبي مستعدّا دائمًا لتقبّل ما فيه رضاك. فهذا أمر في غاية الأهميّة؛ فقد يتمثّل رضا الله ... في أن تقوم بعمل غير ما كنت تنوي القيام به .. ألسنا نسعى لنيل رضا الله، فإن كان الأمر كذلك فما معنى كلّ هذا التهريج، وما معنى إطلاق كلّ هذا الكلام المستهجن، هل يتلاءم السعي لتحصيل رضا الله بالتفوّه بكلامٍ مستهجنٍ والسبّ والشتم والشجار والتنافس والأنانيّة ؟!
فإن قيل لأحدهم عليك القيام بهذا العمل والامتناع عن ذاك، ترى صوته يرتفع وتراه يتّهم غيره بالانحراف ويأمر بطرده. لماذا كلّ هذا الصياح والتهريج يا هذا ؟! كان عليك بدلًا مِنْ ذلك أن تختلي بنفسك وتفكّر فيما قيل لك، وبإمكانك أن تستشير غيرك وتزن الأمور بعقلك وتحقّق في الأمر بنفسك، وكان عليك عندما تريد اتّخاذ القرار أن ترى نفسك وكأنك واقف أمام الله في يوم القيامة وهو يحاسبك على قرارك هذا، وعند ذلك سيختلف الأمر شيئًا ما. فلا يصحّ الإقدام على أيّ عملٍ بلا تروٍّ، فيهاجم المرءُ هذا وذاك، ويشتم فلانًا ويكفّر آخر ويجعل مِنْ ثالثٍ مرتدًّا ومن آخر منحرفًا ويَعدُّ فلانًا منسلخًا عن الدين وهذا يساريًّا وذاك يمينيًّا، فالتصرّف بهذا الشكل ليس صحيحًا، فأمامك يوم سيجري فيه الحساب والعقاب، فأنت لا تستطيع أن تخدع الله عندما يحاسبك يوم القيامة على ما قمتَ به، نعم قد تستطيع أن تخدع الآخرين، غير أنَّك لا تستطيع أن تخدع المَلَكَين المُوكلَين بك، فما بالك بالله.
على كلٍّ منّا أن يجلس ويفكّر في أمر نفسه، فنحن نهدر الكثير مِنَ الاستعدادات الّتي وهبنا الله إيّاها، ونُتلف أوقاتنا، ونعمل على تحطيم ذلك الجوهر الثمين الّذي جعله الله في وجودنا، وهو الجوهر الّذي لا يمكن تعويضه إن فُقِدَ. نعم، نحن نعمل على تحطيمه بأيدينا وسحقه تحت أقدامنا .. وكلّ واحد منَّا مسؤول عن أعماله تصرّفاته.
اللهمَّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد