المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةحاجة السلوك إلى التوفيق الإلهي
التاريخ 1428/12/26
التوضيح
إنّ وصايا الإمام التسع في حديث عنوان البصريّ هي خاصّة للّذين يريدون اجتناب الوقوع في حبائل الشيطان. فلم يدّخر سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ جهدًا في إبراز مكامن شِباك الشيطان ومرابض مكائده لعنه الله، فعدّدها وبيّنها واحدة تلو الأخرى. وفي السياق نفسه عرّج لبيان المسالك المبعِّدة عن سيّد الشهداء وعن غايته والمُضيِّعة لتضحياته، كما فنّد بعض التجلّيات الجماليّة والجلاليّة للمرحوم العلّامة والّتي عكست نجاة البعض وسقوط البعض الآخر
هو العليم
الوصايا التسع لاجتناب مصائد الشيطان ومكامنه
شرح حديث عنوان البصريّ ۱٤٩
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربِّ العالمين
وصلّى الله على سيِّدنا ونَبيِّنا أبي القاسم محمّد
(اللهمّ صلِّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائِهم أجمعين
ما مِنْ شيء يُختم بخَتم العصمة إلّا إن كان مِنْ معصوم
وصل بنا الحديث في المجلس السابق – إن كان الإخوة يتذكّرون – إلى الفقرة الّتي قال فيها الإمام الصادق عليه السلام [لعنوان البصريّ]: «أوصِيكَ بِتِسْعَةِ أشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلى اللهِ تَعَالَى، وَاللهَ أسْألُ أنْ يُوَفِّقَكَ لِاسْتِعْمَالِهِ».
إنَّ هذا الكلام – كما ذكرتُ للإخوة والأصدقاء سابقًا – يُبيّن هذه الحقيقة: أنَّنا قد نرى البعض يتزَيَّ بالزيِّ الإسلاميّ ويدّعي الانتماء إلى هذا الدين ويسعى ظاهرًا في تطبيق مباني الشريعة الإسلاميّة، غير أنَّ مسيره هذا ليس مسيرًا إلى الله في واقع الأمر بل هو مسير إلى النار.
تذكّرتُ الآن هذه الحكاية؛ كنتُ يومًا لدى المرحوم العلّامة في مدينة مشهد، عندما قدِم لزيارته أحد المعمّمين المعروفين ، فطلب منه أن ينصحه ويعطيه بعض التعليمات بشأن أعماله، إذ كان الرجل يشتغل في بعض النشاطات الاجتماعيّة وما شابه ذلك. فذكر أثناء كلامه عبارة صدمتني بشدّة وهي: عندما يحين الليل .. لا ندري أإلى الجنّة أم إلى النار ! فالتفت إليه المرحوم العلّامة قائلًا: فيما قلتَه الكفاية، فليس عندي نصيحة لك غير ما قلتَه أنت بنفسك؛ أي ما دُمت ترى نفسك في حال مِنَ التردّد، فهذا كافٍ لتفكّر في أمر نفسك وتسعى لإخراجها مِنْ هذا الشكّ والتردّد، فلا يمكن إصلاح الأمر بمجرد أن نقول (لا ندري). نعم، لا يمكن أن يقوم الشخص بإغماض عينيه وتكرار عبارة (لا ندري لا ندري)؛ لأنَّ الله سيقول له هنا: بل أنت تدري جيّدًا، أتريد أن أريك ذلك، فاسمع؛ لماذا عندما اتّضح لك الحقّ في القضية الفلانيّة تجاوزت عنه، وعلّلت [إصرارك على الباطل] بأنّ المصلحة تقتضي ذلك. فيتّضح مِنْ هذا أنَّك كنتَ تدري .. ولماذا غضضتَ بصرك عن الحقّ في ذلك الموقف الّذي رأيتَ فيه بأمّ عينيك العدل والظلم شاخصين أمامك بكلّ وضوح، ألم يكن ذلك رعاية لمصالحك الشخصيّة، ألم تقُل في نفسك حينها: نأمل بمشيئة الله أن يجري إصلاح الأمر بشكلٍ مِنَ الأشكال ! وها أنت تأتي هنا وتقول: لا ندري أإلى الجنّة أم إلى النار. بل كلّ واحدٍ منَّا يعلم مصيره جيّدًا.
طبعًا قد يُخطأ الإنسان في تشخيص موضوع ما، وهذا لا بأس فيه، فنحن مِنْ بني البشر والله يتجاوز عن هذه الأخطاء. يحصل أن يكون هدف الإنسان مِنْ عمل ما سليمًا، غير أنَّه عندما يُقدم على تنفيذه يرتكب خطأً ما؛ كأن يكون هدف الطبيب هو العمل مِنْ أجل كسب رضا الله، غير أنَّه قد يُخطأ في تشخيص إحدى الحالات المرضيّة، فلن يحاسبه الله على خطئه في تشخيص الدواء الصحيح للمريض. وكأن يُسأل مجتهدٌ عن حكمٍ شرعيّ، فيُجيب، ثمّ يتبيّن له خطأ جوابه [فلن يحاسبه الله على خطئه]، ولكن يجب عليه أن يصحّح جوابه، لا أن يقول: إنّ تراجعي سيمسّ بسمعتي، وسيُقال عنّي جاهل بسبب إجابتي الخاطئة تلك، وسيُقال لي: هلّا راجعت المصادر جيّدًا قبل أن تُجيب !
نعم، قد يحصل أن يرتكب أحدنا خطأً في بعض الأحيان، وهذا ليس بالأمر المهمّ، فلسنا كإمام الزمان ولسنا معصومين عن الخطأ. فكم يحصل أن يحكم أحد المجتهدين بحكم معيّن في قضية ما في الصباح، ثمّ يتبدّل حكمه في المساء، فالّذين لا يتبدّل حكمهم ويتمتّعون بالعصمة المطلقة هم المعصومون فقط، فهم وحدهم الّذين لا يحكمون في القضايا عن طريق الحدْس والظنّ.
لقد شرحتُ هذا الموضوع إلى حدٍّ ما في الجزء الثاني [مِنْ كتاب أسرار الملكوت]، فعلى الإخوة قراءة هذا الموضوع بمنتهى الدقّة، فلعلّ الله يقدّر لنا أن نطّلع ولو على قليلٍ مِنْ ذلك الكثير الكثير مِنْ مقام وشخصيّة الأئمّة عليهم السلام، فنتعرّف على شيئٍ مِنْ مقامهم وندرك ما عناه الإمام الرضا عندما قال: إنّ عقولكم الّتي تريدون أن تدركوا بها مقامنا لا تتعدّى كونها أوهامًا۱.
فما مِنْ كلام يمكن أن يُختم بختم العصمة غير كلام المعصوم. وهنالك أمر آخر – قد بيّنته في كتابي ذاك – وهو أنَّ الوليّ الإلهيّ هو الّذي عَبَرَ مقام النفس ومقام الأسماء والصفات ووصل إلى مقام الطهارة واتّحدت نفسه مع نفس الإمام الحيّ وهو إمام الزمان عليه السلام، فمَن يحمل هذه المواصفات – لا أيّ رجل عاديّ بائع للّبن والخضار مثلًا – ويرتوي مِنْ نفس مصدر ونبع الإمام عليه السلام، سيكون كلامه نفس كلام الإمام، إذ لا يمكن – والحال هذه – أن يجد الخطأُ طريقًا إلى كلامه. ولكن أين يمكن العثور على هكذا رجل، وإن كان – هذه الأيّام – قد أصبح الجميع مِنَ العرفاء والعلماء الربانيّين !
نعم، قد يقع الجميع في الخطأ، وهو أمر لا ضير فيه، فالمهمّ هو أنَّه عندما ينوي أحدنا القيام بعمل ما، عليه أن يكون – على أقلّ تقدير – مطمئنًّا في داخله وقرارة نفسه مِنْ صحّة ما يقوم به، ولا بدَّ أن تكون لديه حجّة شرعيّة يحتجّ بها أمام الله إن سُئل عن سبب قيامه بذلك العمل، حينئذ لا إشكال في أن يأتي بهذا العمل وإن كان عملًا خاطئًا في واقع الأمر.
مكامن حبائل الشيطان ووساوسه
قال الإمام الصادق عليه السلام: «أوصِيكَ بِتِسْعَةِ أشْيَاءَ، فَإنَّهَا وَصِيَّتِي لِمُرِيدِي الطَّرِيقِ إلى اللهِ تَعَالَى».
قد يؤدّي أحدهم صلاته بصورتها الظاهريّة الصحيحة، غير أنَّها لا تقرّبه إلى الله أبدًا، وقد يصوم أحدهم وقد راعى كافّة الشروط الظاهريّة الواجبة الرعاية، كالامتناع عن تناول المفطرات، غير أنَّه لا قيمة لصيامه ولو بمقدار رأس إبرة، وذلك لأنَّه استمر في أيّام شهر رمضان على مزاولة تلك الأعمال [المخالفة]، وعلى التصرّف بنفس الطريقة الّتي كان يتصرّف بها في غيرها مِنَ الأيّام، فلم يبدّل كلامه أو ممشاه أو منهجه أو أفعاله في أيّام شهر رمضان، بل بقي على ما كان عليه واستمرّ على النهج السابق في علاقاته مع الآخرين وفي تعامله مع نفسه، غاية الأمر أنَّه يصوم شهر رمضان بهدف أداء التكليف المتوجّب عليه لا غير، لذا لن يناله أيّ نصيب مِنْ آثار الصوم.
وهكذا بالنسبة للحجّ، [فتراه يؤدّي مناسك] حجّه دون روح ونور وصفاء وابتهاج. وكذلك عندما يدفع الزكاة أو الخمس، فهو يقوم بذلك لنفس ذلك الشيء كإجراء عاديّ، لا لأجل أن يصل إلى تلك الحقائق الكامنة وراء أدائها. وقد يكون الرجل مِنَ الوعّاظ الدينيِّين، غير أنَّه لا يحصل مِنْ عمله ذاك غير البعد عن الله وزيادة التوغّل في عالم النفس وظلمات الأهواء الدَنيّة والشهوات النفسانيّة، [وهنا مكامن الشيطان] فتراه يَكمُن له الشيطان في كلّ مكان وينشر شبَاكه لاصطياده، إذ الشيطان يتربّص بكلّ واحد منَّا مِنْ خلال مرتبة الأسماء والصفات الّتي هو فيها.
وبعبارة أخرى، إنّ كلّ فعل يصدر عن الإنسان إنَّما يصدر بواسطة صفة مِنَ صفاته، وكلّ عمل يَبدُر منه إنَّما ينبع مِنَ أحد الأسماء، إذ إنَّ منشأ جميع أعمالنا وتصرفاتنا هو تلك الأسماء والصفات الّتي نمتلكها، والّتي بواسطتها تأخذ الأشياء لنفسها مظهرًا خارجيّا. فكذلك الأمر بالنسبة للشيطان الّذي ينشر شِباكه بواسطة تلك المرتبة مِنَ الاسم والصفة.
فالشيطان لا شأن له بنفس العلم والعطاء والجود ولا بالكتابة والوعظ والخطابة وإدارة أمور الناس، ولا بالشجاعة والرجولة، ولا بالإنفاق والإيثار، فلا شأن له بنفس الفعل الّذي يتحقّق في الخارج، بل إنَّ ما يقوم به هو أن يجعل ذلك الفعل الخارجيّ يتأطّر بإطار النفس، هذا ما يسعى الشيطان لتنفيذه.
فيعمل الشيطان على مزج العلم بالأنانيّة، والجود بالشهرة ونيل استحسان الناس. فهو يقول: لا شأن لي بمقدار المساعدة الّتي تريد أن تقدّمها إلى الفقراء، فسواء أردتَ أن تعطي الفقير ألف دينار أم مائة ألف دينار، فإنَّ ذلك لا يعنيني في شيء، فما يعنيني هو كم رجل سيراك عندما تقوم بتقديم هذه المساعدة إلى الفقير، إذ هنا سأقوم بنصب فخاخي. فما يَهُمّ الشيطان هو أن يجعل مُقدِّم المساعدة يرى أنَّ هذا العمل قد صدر منه هو .. كان بإمكان الرجل تقديم المساعدة إلى فقيرٍ أو محتاج بدون أن يعلم الفقير بمصدرها، كأن يوصلها إليه بطريقٍ غيرِ مباشر بواسطة أبيه أو أخته أو أخيه مثلًا، وذلك لكي لا يشعر المحتاج بالخجل إذا قابل الرجل غدًا، فيأتي الشيطان هنا ليقول له: لماذا يظهر هذا العطاء وكأنَّه صادر عن غيرك، عليك أن تبادر بنفسك لكي يُسجّل في حسابك. أترون كيف يقوم الشيطان بنصب فخاخه في جانب هذه الصفة.
إنَّ جميع ما لدينا مِنْ صفات وأسماء، هي متنزّلة عن أسماء وصفات الله الكليّة، فإن رأيتَ في نفسك كرمًا فأقدمت على مساعدة الفقير والمحتاج، عليك أن تعلم أنَّك في هذا الوقت قد شملك ظهور صفة الجود والكرم الإلهيين، وإلّا فأنت لم تأتي بهذا المال مِنْ بيت خالتك، وإنّما تمكّنت أن تمدّ يدك في جيبك وتقدّم المساعدة إلى الفقير لكونك الآن في مسير نزول صفة الجود المطلقة لله. فإن تنزّلت هذه الصفة فيك فستمدّ يدك حينئذ إلى جيبك، وفي نفس هذه اللحظة سيأتي الشيطان لينشر شباكه قرب يدك. فيجب علينا حينئذ أن نتنبّه ولا نفرح بإنفاقنا هذا، إنّما نفرح متى ما نجونا مِنَ الوقوع في الفخّ الّذي نُصب إلى جانبنا. هذا ما يجب علينا ملاحظته والانتباه إليه، فلا تنصرف أذهاننا صوب تلك الخمسين ألف دينار الّتي أنفقناها، إذ لا فضل لنا فيما حصل، فهي قد جاءت مِنْ مكان وذهبتْ إلى مكان آخر، فما هو الفضل الّذي يرجع إلينا حينئذ ؟!
مِنَ الممدوح – طبعًا – أن يقوم الإنسان بإعطاء النقود أو أن يساعد في قضاءِ حاجةٍ أو حلِّ مشكلةٍ، ولكن عليه أن يتنبّه حينها؛ إلى مصدر هذه الحالة الّتي حصلت له، وأين تمّ تقدير هذا الفعل الّذي سيُنجز بواسطته الآن، وفي أيّ صحيفة قد أُثبت هذا العمل الّذي سيُنجز بواسطته الآن. فهل كان لنفسه دخالة في هذا الموضوع، أم أنَّ له مصدرًا آخر . هذا ما علينا الانتباه إليه، لأنّ هذا مكان مناسب لينصب الشيطان فخاخه فيه.
وهذا الأمر جارٍ في جميع المجالات، فهو يجري عند الخطابة والوعظ [مثلًا]. نعم ليس للشيطان شأن فيما تريد أن تقوله في حديثك، فإن أردت الإساءة للآخرين في كلامك سوف تُطرد مِنَ المكان، وإن تكلّمت بكلام جميل سوف تنال استحسان الناس، فهذا الأمر يعود إليك أنت بالذات. أمّا ما يهمّ الشيطان هنا [هو أن يقول لك:] إنَّ أسلوبك في الكلام والشرح والتوضيح، وأنّ المواضيع المهمّة الّتي تطرحها ويستسيغها المخاطَبون وأفراد المجتمع، هي منك أنت ومختصّة بك، وهي أمور يعجز غيرك عن القيام بها. نعم، إنَّ الشيطان ينصب فخّه في هذه الموارد. وعليه فإن تحدّث المتحدّث لمدّة ساعة وهو على هذه الحالة لن يقترب مِنَ الله ولو بمقدار رأس أبرة، لماذا ؟ لأنَّه كان قد سقط في ذلك الفخ.
فعليك أن تعرف أنَّ مَنْ وهبك هذا الأسلوب الجذّاب في الكلام، وجعل الناس تُقبِل على أحاديثك، هو نفسه الّذي سيسلبك إيّاها وسيجعل الناس تُدبر عنك في يوم مِنَ الأيّام. وهو أمر يتم ببساطة متناهية تحيّر الإنسان في أمره. ولقد حصل لي بالذات الكثير مِنْ هذه المواقف، نعم، لقد حصل ما لا يمكن إنكاره، وهو واضح كوضوح [نور] هذا المصباح. وهذا ينبّهنا؛ على أنَّه ليس لنا أيّ دور في إقبال الناس علينا، وعلينا أن لا نعير اهتمامًا لإدبارهم عنَّا .. فعلى كلٍّ منّا أن يطوي سَيره وفقَ التكليف المُلقى على عاتقه، فيُنجز المقدار المطلوب منه ويتوقّف عند حدود ما يُؤمر به ولا يتجاوزه.
عليك بنفسك ولا تعوّل على إقبال وإدبار الناس
جاءني أحدهم قبل فترة وجيزة وقال لي: إنَّ فلانًا ينقل عنك الأمر الكذائيّ، وهو أمر تافه جدّا. فقلتُ له: لا صِحّة لهذا الموضوع، بل الأمر بشكل آخر. [ثمّ عاد بعدها] وقال: ذهبتُ إليه وبيّنت له الأمر، فاقتنع [في قرارة نفسه]، غير أنَّه لم يُرد التراجع عمّا قاله، فأصرّ على كلامه [الأوّل]، وهو ما جعل الموضوع يتطوّر ويأخذ أبعادًا أُخرى. [لاحظوا كيف] أنَّ تلك الصداقة الّتي دامت بيننا ثلاثين عامًا انتهت بسببٍ واحد، نعم، لقد انتهت تلك الصداقة وإلى الأبد.
فقلت: ما دام إقبال الناس بهذه الهشاشة، فلا ينبغي التأثّر إن أدبروا. لا يمكن – طبعًا – تعميم هذا الأمر، فليس جميع الناس بهذا المستوى، ولكن علينا أن نعرف هذه الحقيقة جيّدًا، وذلك لكي لا نُصدم ونستوحش كثيرًا عندما تواجهنا قضايا مِنْ هذا القبيل، فهنالك الكثير ممّا يمكن توقّعُه والّذي مِن شأنه – على قول القائل – أن يزيد مِنْ سماكة الجلد وخشونته [فيصبح مستعدّا لتحمّل المزيد]. فلا ينبغي أن يتفاوت الأمر بالنسبة إلى أيٍّ منَّا في حالتَي إقبال الناس عليه أو إدبارهم عنه. وعلينا أن نعلم أنَّ هذه الأمور يجب أن تحصل معنا لكي نتمكّن مِنْ فهم كلام الإمام عليه السلام، ولنعرف أنَّ الأمور لا تجري بالكيفيّة الّتي نتصوّرها.
لا أدري إن ذكرتُ هذه الحكاية للإخوة أم لا؛ لقد كنتُ في إحدى الفترات منزعجًا جدًّا بسب ما وقع مِنْ أمور لم أكن أحتمل حصولها. واستغرابي وعدم تحمّلي لم يكونا بسبب أنّ البعض اتّخذ مواقف منّي، بل كانا بسبب عدم تقبّل البعض لمواضيع كانت على درجة مِنَ الوضوح بحيث لو قرأتها في أُذن حمار لفهمها، فلماذا لم يقبلوها منِّي ؟! إنَّه لأمر عجيب حقّا ! ولقد قلتُ لأحد عباد الله عندما جاء إلى هنا: لو أنَّني تكلّمت بهذه المواضيع في أُذن حمار لفهمها. فالموضوع على هذه الدرجة مِنَ الوضوح، غير أنَّنا نرى عدم قبول البعض له. فإن كان البعض قد صمّم على عدم القبول، سيحصل ما حصل وسنُبتلى بمثل تلك المصيبة. نعم، لقد كنتُ منزعجًا جدًّا ممّا حصل؛ ماذا حلّ بتلك الصداقة، وأين ذهبت تلك الزيارات المتبادلة والكلمات الّتي كانت تُسمع منكم والتي تعبّرون بها عن حبّكم ووفائكم الشديد، وماذا عن كلّ تلك العبارات المليئة بالمدح والثناء ؟! وبغض النظر عن كوني استحقّها أم لا – وإن كنتُ أعتقد أنَّني لا أستحقّها طبعًا – ولكن هل قلتَ كلّ ذلك الكلام في حينها أم لم تقله ؟! إنَّك أنت الّذي نطقت بتلك الكلمات، فلم أضعها أنا على لسانك لتقولها، بل أنت الّذي كنتَ تقول كذا وكذا وأنت الّذي كنتَ تستخدم تلك العبارات، فما الّذي حصل حتّى بدّلت موقفك منِّي واتخذت موقفًا مغايرًا تمامًا ؟! فلم يصل بك الحدّ إلى نسيان كلّ ما كنتَ تقوله، وقد اتّخذتَ موقفًا يتناقض موقفك السابق. فإن كنتَ لا تريد أن تكرّر تلك العبارات [فلن يؤاخذك أحد على ذلك] ولكن كان عليك أن تتعامل معي معاملة رجل عاديّ على الأقلّ، لا أن تتخذ موقفًا عدائيًّا منِّي .. وإنّه لأمر عجيب حقّا .. لم أكن منزعجًا ممّاحصل، ولكن لم أتوقّع حصوله، [فقد صدر هذا الأمر] مِنْ أناس لهم نصيب مِنَ العلم، فلم يكونوا مِنَ الجهلةِ غيرِ المتعلّمين، بل كانوا دقيقين في طريقة تعاملهم وفي علاقاتهم مع الآخرين، فكيف لهم أن يتعاملوا مع هذا الأمر بهذا النوع مِنَ الإهمال واللامبالاة ؟!
قد حصلت هذه القضيّة قبل ما يقارب الأحد عشر أو الاثنا عشر عامًا، فجلستُ أفكّر في الأمر، فتذكرتُ في الحال ما قاله المرحوم العلّامة لي بشأن موضوع معيّن حيث قال: عليك بنفسك، ولا تَعِر أيّة أهميّة لما تراه مِنْ إقبال الناس علينا. ولقد كان هذا الكلام كلامًا عجيبًا بالنسبة إليّ. فعرفتُ حينها أنَّ مقولة المرحوم العلاّمة متعلّقة بهذا الوقت الّذي [حصلت فيه هذه القضيّة. وكأنَّه قال لي:] هل عرفتَ الآن ما كنتُ أقصده، وهل توصّلت إلى مغزى كلامي. لم أكن أدرك هذا الأمر في حينها. فكيف يمكن تفسير كلّ ذلك الاحترام وارتفاع الأصوات بالصلوات عند دخول المجلس أو مغادرته ؟!
إنَّ المرحوم العلاّمة هو الّذي يستحق أن يُحترم ويُتعامل معه بهذا الشكل لا أنا. فالإخوة يُخجلونني بطريقة تعاملهم معي، وقد قلتُ لهم مرارًا أنَّ سعادتي ورضاي هما بعدم قيامكم لي، والأمر متروك لكم، فها قد أخبرتكم بما يدور في نفسي، وهو ما أعلم صلاحه. فكلّما تمّ التخلّص مِنْ هذه الأفعال الزائدة وتمّ تنقية العلاقة فيما بيننا، كان ذلك أفضل لحال المجلس. فلماذا نُقدِم على عملٍ يُعطي للشيطان فرصة التدخّل والنفوذ في النفس والتغلغل فيها ومِنْ ثمّ إيجاد المشاكل، فنحن لسنا معصومين مِنَ الوقوع في الخطأ.نعم، بالنسبة للمرحوم العلّامة هكذا كانوا يستقبلونه، وكنتُ أشاهد ذلك بنفسي. وقد تعجّبتُ عندما قال [العلّامة] لي ذلك الأمر مرتين أو ثلاثة۱، وكان قوله هذا غامضًا حينها، ولَمّا رأى أنّني لم أدرك قصده أعاد القول عَلَيّ بشكل صريح، وذلك قبل وفاته بستة أشهر في مناسبةِ أمرٍ قد حدث في ذلك الوقت. نعم، لقد قال لي ذلك بكلّ صراحة. ولكن مع كلّ هذا لم يأخذ هذا الموضوع مكانه في نفسي، فالإنسان لا يستطيع أن يفهم بعض الأمور حتّى يلمسها بنفسه، وعندها يتمكّن مِنْ تغيير مسيره، أما مجرّد المطالعة فلا تسعفه في هذا المجال وإن كانت تساعده.
واعلموا أنَّ الله يعرّض الجميع لمثل هذا الأمر، فهو يحصل لي ولكم، ولعلّ ما حصل لكم في حياتكم مِنْ ذلك [القبيل] أكثر ممّا حصل لي. على أنَّ كلّ ذلك يحصل مِنْ أجل أن نُدرك أنَّ هذه الأمور اعتباريّة ليس إلّا.
فتنبّهتُ فجأةً إلى ما قاله لي المرحوم العلّامة في ذلك الوقت، فقلتُ في نفسي؛ يا للعجب، كيف أنّ المرحوم العلّامة أخبرني بهذا الأمر ونبّهني إلى أنّي سأصل في هذا المسير يومًا إلى مرحلةٍ لا يتقبّلون فيها كلامي. وإنَّه لأمر عجيب حقّا، فعندما كنتُ أطرح عليهم [مسألة بديهيّة بمستوى؛] كم هو حاصل ضرب اثنين في اثنين ؟ كانوا يقولون ستّة، إنَّ هذا ما كان يحصل بالفعل، وأنا لا أُبالغ هنا، [فقد كنَّا نختلف في مسائل بديهيّة كمسألة] حاصل ضرب اثنين في اثنين، حيث كانوا يقولون: إنَّ ناتجها خمسة شئت أم أبيت. فما الّذي يمكن فعله مع رجل كهذا، لا يسعنا عندها سوى تركه والانصراف عنه، إذ لا يوجد أسلوب آخر للتصرّف معه سوى هذا الأسلوب، وذلك لأنّه لم يُبقِ أيّة نافذة يمكن الدخول منها.
وبينما كنتُ جالسًا في ساحة البيت أمسكتُ بكتاب الشيخ حافظ عليه الرحمة – يا له مِنْ رجل عجيب ويا له مِن كتاب عجيب – وفتحته للتيمُّنْ به، فظهر لي هذا البيت مِنَ الشعر:
غمخوار نبايد شد از طعن حسود اى دل | *** | شايد كه چو وا بينى خير تو در اين باشد۱ |
[يقول: عليك ألّا تحزن يا قلبي مِنْ تشنيع وقدح الحسود، فلعلّك إن أعَدْتَ النظر ستجد أنَّ مصلحتك فيما حصل]
فقلتُ [في نفسي]: تفضّل وانظر، هذا أيضًا جناب حافظ الّذي يُقال عنه (لسان الغيب) حقًّا [يؤيّد المطلب]. والعجيب في الأمر أنَّني عندما قرأتُ هذا الشعر، فكأنَّ ماءً باردًا مُنعشًا قد صُبَّ على رأسي، وعلمتُ عندها أنَّه لا يمكن التعويل على إقبال الناس ولا على إدبارهم ولا على سلامهم، فكلّ ما على المرء فعله هو أن يعمل بموجب التكليف المُلقى على عاتقه؛ فإن أُمر بالكلام فليتكلّم، وإن أُمر بالسكوت فليسكت. وكان المرحوم العلّامة قد قال لي: إنَّ فيما قلتَه الكفاية، فاسكت بعد هذا. فقلتُ: حسنًا. فإنَّ كيفيّة تعامل العظماء عجيبة حقّا، فتراهم يقومون ببيان الحقائق للإنسان وتوضيحها، ثمّ يُلقون عليه السكينة ويفتحون له الطريق وينبّهونه على ضرورة العمل بموجب التكليف الملقى على عاتقه وعدم تجاوزه.
النفسانيّة والأنانيّة هما قنطرتا فساد وتلوّث
يقول الإمام الصادق هنا أنّه عليك أثناء قيامك بما كُلّفتَ به، أن تحذر شباك الشيطان وحِيله، وذلك لأنَّ الشياطين والأبالسة تقوم بنصب فخاخها بجانب هذا التكليف، فعليك الحيطة والحذر منهم، فالشيطان قد أقسم قائلًا {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ}۱، فالشيطان قد أقسم بعزّة الله وجلاله، وقسمه بمقام العِزّة لهو أمر عجيب، فلماذا يقسم بمقام العِزّة هنا ؟! إنَّه قد أقسم بهذا المقام لأنَّ مِنْ مقتضيات مقام عزّة الله هو منع دخول الأجنبي إليه، فالعزيز هو المتفرّد في منزلته والّذي لا يسمح بدخول الغرباء إلى حَرَمه ولا يسمح لهم بالنفوذ إلى نفسه، فبسبب ما يمتلك العزيز مِنْ صفات كماليّة فهو لا يُشرك غيره في هذه الصفات.
والإمام عليه السلام يمتلك مقام العزّة، فما الّذي يعنيه هذا، ولماذا كان الإمام الحسين عزيزًا يمتلك مقام العِزّة ؟ لأن الآخرين لم يتمكنوا مِنَ النفوذ إلى قلبه مهما حاولوا؛ فقد منحوه الحكومة فلم يقبلها، وعرضوا عليه السلطة فرفضها، ثمّ هدّدوه بالقتل وبأسر عياله فلم يتمكّنوا مِنَ إيجاد أيّ منفذ إلى نفسه، وإنّما قال لهم: لن أتراجع عن مسيري وإن حاولتم قتلي وسبي عيالي، فإن تهدّدونني بالقتل فها أنا أمامكم فاقتلوني، وإن تهدّدونني بأسر عيالي فافعلوا ما تريدون، فلن تجدوا طريقًا إلى قلبي ولا منفذًا تنفذون منه إليه، لأنَّ كلّ ما يمكنكم فعله إنَّما يقع دون مقام قلبي، فأنا مستغرق في مقام العِزّة وظهور كبرياء الحقّ. هذا هو العزيز.
إنَّ الشيطان أقسم قائلاً {فَبِعِزَّتِكَ}، وفي هذا القسم لطائف يعرفها أهل الأدب وأهل الفضل، فقال: {قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ * إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصينَ}٢، فما الّذي يعنيه قوله {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعينَ} ؟ يعني أنّه سينصب شباكه بجانب كلّ تجلٍّ لمرتبة مِنْ مراتب أسماء الله وصفاته في أحد عباده، فكأنّه يقول: ها أنا شريكك حاضر إلى جانبك، فإن أراد مقام جُود الله وعطفه ورحمته أن يتجلّى سأحضر عندها وأقوم بنصب فخاخي هناك، وكذا الأمر عندما يتجلّى مقام العلم والهداية والإرشاد – الّذي يتجلّى عبر البيان والتأليف والعمل – فسيتحوّل ذلك الإرشاد والهداية إلى إرشاد نفسانيّ وهداية نفسانيّة.
تكلّم [يومًا] أحدُ الرجال المعروفين جدّا عن ضرورة أن يكون المرء متواضعًا وذا خُلُق كريم، وكان قد أوفى الموضوع حقّه، حيث كنتُ في مكان ما أستمع إلى كلامه. وفي إحدى أسفاري لزيارة العتبات المقدّسة رأيتُ هذا الرجل – هو لا يعرفني ولم أكن قد التقيتُ به ولكن كنتُ قد رأيت صورته – وقد انفجر بشدّة بوجه أحدهم عندما اعترض عليه بشأن أمر ما فقال له: ما هي علاقتك أنت بهذا الأمر لكي تأتي هنا وتطرحه عليّ ؟! فقلتُ [في نفسي]: يا للعجب، فهل كان كلامك ذاك مجرّد برنامج يُعرض على شاشة التلفزيون ؟! أتلاحظون كيف يأتي الشيطان لينصب شباكه إلى جانبك وأنت تتحدّث ؟!
إنَّ الخطابة عمل جيّد، غير أنَّ ما تتكلّم به ليس لك إنّما استخرجته مِنَ الكتب. وذلك كفعلي أنا الآن، فها أنا أنقل إليكم ما قد سمعتُه مِنَ العظماء أو قرأتُه في كتاب ما، فليس لي أيّ فضلٍ في البَيْن لأفتخر به وأترفّع به عن الآخرين. فإنَّ كلّ كلام جميل فهو يعود إلى العظماء، وأمّا ما يُطرح مِنْ كلام خاطئ فهو مِنْ قِبَلنا، فنحن مصدر ذلك الخطأ.
فعندما يتحقّق أيّ ظهور لمقام الاسم والصفة، سيقوم الشيطان بنصب فخّ إلى جانبه، لذا يتوجّب علينا تركيز انتباهنا على مكائد الشيطان هذه، لا على كيفيّة أداء العمل. نعم، علينا أن نهتمّ بمسألة المحافظة على شفافيّة وصفاء ذلك العمل الّذي ينزل مِنَ الله وعلى حفظ زلاليّته والحيلولة دون امتزاجه بأيّ لون نفسانيّ عند ظهور وبروز ذلك العمل في الخارج.
فالفعل عندما يظهر في الخارج إنَّما يظهر عبر هذه النافذة، فإذا دخل إلى النفس سيكتسب لونًا قبل خروجه منها، مَثَلُه في ذلك مَثَلُ الماء الزلال الصافي الّذي ينزل مِنَ الجبل أو يخرج مِنَ النبع، فعندما يمرّ مِنْ قنطرةٍ فيها جثّة حيوان متفسّخة أو مِنْ مكان فيه ماءٌ ملوّث، سيخرج مِنَ الطرف الآخر للقنطرة – إذ هو لا يتوقّف – بشكل يختلف عن الشكل الّذي دخل فيه، فيتبدّل لونه وطعمه ورائحته بمقدار ما في القنطرة مِنْ عفونة وشوائب.
ليس للماء رائحة طبعًا .. فهل تعرف رائحةً للماءٍ ؟! نعم، لماء التفاح وماء البطيخ وماء الرَّقيّ رائحة، فلكلّ منها رائحته الخاصّة، أمّا ذلك الماء الصافي فمهما شممته لن تجد له أيّة رائحة، ولكنَّنا نرى كيف يتبدّل هذا الماء الصافي الزلال عديم الطعم والرائحة إلى ماءٍ عَفِنٍ بدرجة العفونة الموجودة في القنطرة الّتي مرّ منها.
وهكذا هي النفس البشريّة. فجميع ما يصدر منَّا مِنْ أفعال هو بروز وظهور خارجيّ لأسماء وصفات الحقّ، سواء كانتْ هذه الأفعال صادرة مِنْ مؤمنٍ أم كافر، صالحٍ كان أم طالح، صحيح كان أم سقيم. فجميع الأفعال عبارة عن مظاهر لتلك الأسماء والصفات، فهي تُنزّل مِنَ المبدأ والذات [الإلهيّة] وتستقر في نفس مِنَ النفوس، فنرى ظهورها في العالم الخارجيّ؛ فقد تظهر قدرة ما بواسطة يد أبي الفضل فتهلك الأعداء، وقد تظهر بواسطة يد الشمر ويزيد فتقتل ابن النبيّ. فكلّ ما يحصل في هذا العالم إنَّما ينزل مِنَ العالم العلويّ، وعندما يظهر بالمظهر الخارجيّ الّذي نشاهده فإمّا أن يكون قد امتزج بكيد الشيطان أو أنّه بقي على حاله بدون أن يمتزج به.
وصايا الإمام التسع مخصّصة لِمَن يريد إجتناب الشيطان
بناء على هذا فالإمام عليه السلام يقول: إنَّ هذه الوصايا التسع هي للّذين يريدون تجنّب الوقوع في حبائل الشيطان، لا أنّهم لا يريدون أن يعملوا شيئًا؛ فعلى سبيل المثال كان يزيد والشمر مِنَ المصلّين في الوقت الّذي قَتَلا فيه الإمام الحسين، أفلم يكن يزيد يصلّي بالناس جماعة في المسجد، ألم يكن الشمر يصلّي، بل كان أحد أئمّة الجماعة في الكوفة، وكان الناس كثيرًا ما يأتمّون به عندما يغيب إمام جماعة المسجد. فلا تتصوّروا أنَّه لم يكن يتمتّع بمكانة يُعتدّ بها، بل كان يحظى باحترام وتقدير الآخرين. ولكن مَنْ كان يعلم ما الّذي يجري في نفسه، ومَنْ كان يعلم أنَّه يمتلك سريرةً فاسدةً بدرجةٍ سمحت له بتلويث يديه بدم ابن رسول الله، نعم، مَنْ كان يعلم كلّ ذلك عنه ؟ لم يكن أحد ليعلم ذلك حتّى ظهر منه ما ظهر في أرض كربلاء، حين لم يجرؤ أيّ أحد على قتل الإمام الحسين جاء عندها هذا الدنس القاسي القلب وفعلها. نعم، لقد كان على درجةٍ مِنَ الدنس والرجس – إذ الرجس على درجات – بحيث كان الوحيد الّذي امتلك الجرأة الّتي مكّنته مِنْ قَتْل سيّد الشهداء. فمَنْ كان يعلم كلّ ذلك ؟ [لا أحد يعلم ذلك، بل كانت الناس تراه] رجلًا صائمًا يصلّي ويأخذون أحكامهم الشرعيّة عنه. كما أنّ عمر بن سعد كان يدرّس في المسجد وكان إمامًا للجماعة ومرجعًا للناس، ولا يمكن لأيٍّ كان أن يصبح إمامًا للجماعة، بل لا بدّ أن يكون رجلًا ظاهرَ الصلاح.
فلا تتصوّروا أنَّ مَنْ حضر كربلاء لقتال سيِّد الشهداء، كانوا مِنَ السفّاحين وقطّاع الطُرق في الكوفة، بل كان لكلِّ واحدٍ منهم شأنه الخاصّ؛ فمنهم رئيس قبيلة، ومنهم أصحاب مكانة اجتماعيّة مرموقة استغلّتها الحكومة الجائرة مِنْ أجل خداع الناس؛ لاحظوا شُريح القاضي وفتواه بتجويز قتل سيِّد الشهداء، فلو كان عبيد الله بن زياد هو مَن أصدر تلك الفتوى، [لرفضها الناس] وقالوا له: مَنْ تكون حتّى تُصدر هذه الفتوى، فالكلّ يعرف مَنْ هو أبوك ومَنْ هي أمّك. ولقد أوضح الإمام الحسين نَسَبه عندما قال: ألَا وَإنّ الدَّعِيَّ ابْنَ الدَّعِيِّ قَدْ رَكزَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ، بَيْنَ السِّلَّه وَالذِّلَّة، وَهَيْهَاتَ مِنَّا الذِّلَّة۱، فهل مقام عزّتي يسمح لي أن أُخدع مِنْ قِبَل هؤلاء الّذين لا يشبهون الإنسان إلّا في مظهره ولم يشمّوا رائحة الإنسانية أبدًا. هكذا كان حال أولئك الناس، فمِنْ أجل إغواء عوام الناس كان لا بدّ لتلك الحكومة الجائرة والفاسقة والظالمة أن تستغلّ مكانة شُريح القاضي، فالناس عندما تنظر إلى شُريح إنّما تنظر إلى عمامته وعباءته ولحيته البيضاء وأنّه قد أُسند إليه القضاء لعشرات السنين، حيث عُيّن شُريح في هذا المنصب في عهدَي عمر وعثمان، وبقي عليه في عهدَي أمير المؤمنين والإمام الحسن، وذلك لأنَّ الناس حالتْ دون أن يخلعه أمير المؤمنين. أجل، لقد كان شريح متوليًّا للقضاء والحكم والفتوى لمدّة طويلة، والناس يرون أن هذه الفتوى قد صدرت مِن قاضي القضاة ... فلو كنّا مكان أهل الكوفة أما كنّا تزلزلنا ؟! نحن نعيش على بُعد ألف وأربعمائة عام مِن تلك الواقعة، وعندما نمرّ عليها نهزّ رؤوسنا متعجّبين ونقول: يا للعجب، يا للعجب ! ولكنَّنا لو وضعنا أنفسنا مكان أولئك الّذين كانوا يرون قداسة شُريح وتقواه وزهده على مدى ثلاثين سنة [فما كنّا فاعلين] ؟!
نعم، لقد كانوا يرون منه كلّ ذلك، ولكن هل كانوا يمتلكون العين الّتي تمكّنهم مِنْ رؤية ما يجري في باطنه، وهل كانوا يستطيعون رؤية شباك إبليس الّتي حاكها في قلب هذا الرجل المنافق ؟ كلّا، لم يتمكّنوا مِنْ ذلك، بل كانوا ينظرون إلى العمامة الّتي يضعها على رأسه، ولونها الأبيض أو الأسود أو الأصفر أو الأحمر أو غير ذلك، وكانوا ينظرون إلى العباءة الّتي يلبسها وإلى لحيته الطويلة البيضاء المنسدلة على صدره. فهذه هي الأمور الّتي تجذب انتباه الناس عادةً.
فكلّما رأى الناس رجلًا ذا مظهر متواضع ومخادع يحسبونه الأقرب إلى الله، وكلّما أظهر تواضعًا في كلامه وأكثر مِنْ إطراق رأسه إلى الأرض يحسبونه الأكثر تواضعًا، وكلّما كان أكثر بذلًا وعطاءً كان هو الأكثر إيثارًا بنظرهم، وكلّما تعامل مع الآخرين بلين عريكة وحلاوة كلام كان هو الأقرب إلى الله بنظرهم. فهذا ما يمكن للناس رؤيته مِنَ الأفراد الّذين يرتبطون بهم، غير أنَّه ما إن يتعرّض لحادثة تمسّ مكانته تراه يضع جميع تلك الأمور جانبًا، ويتّخذ موقفًا مخالفًا تمامًا لِمَا كان يتظاهر به.
إنَّ الشيطان يعمل بكلّ دقّة، فهل تتصورون أنَّه ينصب شباكه عشوائيّا، كلاّ، فهو يقوم بنصب شباكه ثمّ يُدلّل فريسته على الطريق المؤدِّي إلى تلك الشباك؛ بأن يقوم [مثلًا] بتعليم الشخص كيفيّة التعامل مع الآخرين فيقول له: قم بهذا العمل ولا تقل هذا الكلام، بل عليك التكلّم بطريقة مغايرة، وعليك خفض رأسك في هذا الموقف والتبسّم في ذاك، وعليك البكاء في هذا الوقت، وإقامة مجلس عزاء للإمام الحسين هناك. فجميع تلك الأمور هي مكائد وحبائل للشيطان. [ويقول لآخر:] ما الّذي سيقوله الناس عنك إن لم تُقِم مجلس عزاء في هذا العام، كلّا، بل عليك إقامة المجلس ونشر اللافتات السوداء وإلّا قالت الناس أنّك لم تُقِم مجلس عزاءٍ أو احتفال بمناسبة أحد الأعياد، ولقالت أيضًا أنّ لا فائدة تُرجى منك، فأيّ رجل هذا !
نعم، إنَّ كلّ هذه الأمور عبارة عن شباك الشيطان، وعلى الإنسان أن يحذر منها. فإن أراد الناس أن يقولوا مثل هذا الكلام فليقولوه .. فإن لم تُقِم مجلسًا فبإمكانك الحضور في أيّ مجلس، وإن قيل لك: لِمَ لا تُقِيم مجلسًا، وماذا عن التكليف ؟! فقُل: إنَّ هذا الموضوع لا يعنيكم، فهل تعرفون التكليف المترتّب علَيّ أفضل منِّي. نعم، يستطيع الإنسان حلّ هذه المسألة بهذه البساطة، إلّا أنّنا نلاحظ أنّ الناس تقع في هذه الشباك، فالله المستعان على مواجهة وساوس الناس، فإنَّ الناس تعمل على النفوذ إلى ذلك القلب الصافي بمختلف الطُرق لتلويثه بالأهواء النفسانيّة. ونتيجة لذلك يتبدّل رأي الرجل فنراه يقول: وما الضير مِنْ إقامة مجلس عزاء للإمام الحسين، فهذه الأيّام خاصّة بالإمام، وهل يوجد مَنْ لا يستحسن إقامة مجلس العزاء فيها، وهي المجالس الّتي لها ما لها مِنَ الثواب، ذلك الثواب الّذي ذُكِرَ في الروايات فقال عنه رسول الله أنّه مَنْ بكى على مصيبة وَلَدِي ولو بدمعة مقدارها جناح ذبابة سيمحو الله كافّة سيّئاته ويشمله بعفوه۱. وهذا أمر صحيح، ولكن أيّ بكاء هو هذا ؟ إنَّه البكاء الّذي يكون عن إخلاصٍ وخلوصِ نيّة، وهو الّذي يحصل نتيجة انكسار القلب ويهدف إلى إحضار نفس الإمام عليه السلام في القلب، وهو البكاء الّذي يغسل جميع السيّئات ويطهّر القلب ويجعل تلك الذنوب وكأنَّها لم تكن شيئًا مذكورًا. نعم، فهذا هو واقع الأمر.
المسالك المُبعِّدة عن سيّد الشهداء والمضيّعة لتضحياته
على كافّة الشيعة المبادرة إلى إقامة مراسم عزاء سيِّد الشهداء، لأنّ هذه المراسم تمثّل شعارًا للمذهب الشيعيّ، فلا معنىً للمذهب الشيعيّ بدون سيِّد الشهداء، فالمذهب بدونه عبارةٌ عن صفرٍ محضٍ، وبدونه لن يكون هنالك أيّ تفاوت بين الشيعيّ وغيره مِنْ عامّة الناس.
ولكن يجب إقامتها مع إخلاص النيّة. فمَنْ لا يمتلك الإخلاص لا يُقم مجلس عزاء في بيته، وإن كان عند أحدهم مالًا يريد صرفه فليعطه إلى أحد إخوته ليقوم بصرفه بدلًا عنه. وإن راجعنا أنفسنا ووجدناها تقول: إنَّ الناس ترغب أن ترى المجلس يُقام في بيتك. [علينا أن لا نصغي لنداء النفس هذا، بل علينا البحث] عمَّنْ يريد إقامة مجلس وهو لا يملك المال اللازم لذلك، فنذهب إليه – بدون أن يعرف أحد بهذا الأمر وبدون أن نُعلن ذلك بين عموم الناس وفي الانترنت – ونقول له: خذ هذا المبلغ وأَقِم مجلس عزاء لهذا العام في بيتك، ولْيكن ذلك سرًّا بيننا فقط، فلا ينبغي أن تُعلم به زوجتك لأنَّها إن علمت فسيعلم العالم بأسره، ولا أبناؤك ولا شريكك أو أيّ فرد مِنَ الإخوة.
نعم، لا ينبغي أن يعلم بذلك أحد. فما الّذي يعكسه مثل هذا التصرّف ؟ إنَّه يعكس إخلاص العمل لله، وهو يتمّ بتلك البساطة، وإن حضرتَ مجلسًا كهذا سترى أيّ حالة ستكتسب، وإن دخلت مجلسًا آخر سترى إن كنتَ ستكتسب مثل تلك الحالة أم لا. فالمجلس الأوّل سيكون مجلسًا إلهيّا، أمّا الثاني فهو فخٌّ مِنْ فخاخ الشيطان، فالأوّل رحمانيّ والثاني شيطانيّ، والأوّل يقرّبك مِنَ الله أمّا الثاني فيبعّدك عنه. وهكذا هو الأمر في جميع القضايا الّتي تمرّ عليك.
على كافّة الشيعة إقامة مراسم العزاء في شهرَي محرّم وصفر، ويجب عليهم الظهور بمظهر صاحب المصيبة، ويجب إظهار آثار شهر محرّم في المنزل كأن يُكسى بالسواد وتُرفع الأعلام عليه، ولكن يجب الالتفات أن يكون ذلك بالمقدار المقبول فلا نجعل السواد بمقدار تنقبض منه النفس، فلكلّ شيء حدّه المعقول. فآثار المصيبة الّتي حلّت على أهل البيت يجب أن تكون ظاهرة على المنزل.
وينبغي عدم إحضار الحلوى إلى البيت اعتبارًا مِنَ اليوم الأوّل مِنْ شهر محرّم إلى آخرِ يومٍ مِنْ شهر صفر. وإن كان أحدكم ينوي عيادة مريض أو زيارة صديق وأراد أن يأخذ معه هديّة له، فلا مانع مِنْ ذلك على أن لا تكون حلوى، فلتكن فاكهة مثلًا.
أتذكّر أنَّ أحدهم – لم يكن مِنْ رفقاء الطريق – جاء لزيارة المرحوم الوالد عندما كان يسكن مدينة مشهد، وكان ذلك في يوم يصادف شهادة الصدّيقة الكبرى، وقد جلب معه نوعًا مِنَ الحلوى سلّمها لأحد المتواجدين في غرفة الاستقبال، وكان المرحوم العلّامة داخل البيت حينها، وعندما أُخبر المرحوم العلّامة بالأمر قال: إذهب إلى مسكن الرجل وأَعِدْ إليه هديّته وقل له إنَّ هذا اليوم هو يوم شهادة الصدّيقة الزهراء وأنت تجلب لي الحلوى، أنا لن أقبل منك أيّة هديّة بعد اليوم أبدًا – ولعلّه كان في هذا الأمر اعتبارات أخرى – فذهب وأعاد الحلوى لذلك الرجل.
كان المرحوم العلّامة يوصي بضرورة عدم إبراز مشاعر الفرح والسرور في أيّام محرّم وصفر، [ما عدا مجالس عقد القِران] فلا بأس بإقامتها، فهي مِنَ المجالس الّتي يمكن إقامتها دائمًا وفي مختلف الظروف، وذلك لكونها مِنَ السُّنن الّتي سنَّها رسول الله، فيمكن عقد القران حتّى في ليلة عاشوراء، ولا مانع مِنَ العقد بل يترتّب عليه الكثير مِنَ الثواب وهو عمل مستحبّ؛ لا بمعنى أنّه مستحبّ في خصوص ليلة عاشوراء، بل بمعنى أنّه بحدّ ذاته مستحبّ. فإنَّ شهادة الإمام الحسين كانت مِنْ أجل إحياء السنن. [ولكن عقد القِران في هذه الأيّام] ينبغي أن لا يرافقه ما يرافقه عادةً مِنْ إظهار مشاعر الفرح والسرور، وينبغي عدم إحضار الحلوى ويمكن استبدالها بالفاكهة، فما المانع مِنْ ذلك ؟ نعم، لا يوجد أيّ مانع أو مشكلة فيه.
وأكّد العظماء كثيرًا على حضور مجالس العزاء الّتي تُقام في أيّام محرّم وصفر. وأنا أتذكّر أنّ المرحوم العلاّمة كان يقول في هذا الخصوص: لا يمكن للسالك أن يصل إلى مقصده مِنْ دون التوسّل بسيِّد الشهداء، فجميع مَنْ فُتح لهم الباب كان بواسطة التوسّل بسيِّد الشهداء. أمَّا أولئك المعاندين – وهم ليسوا قلائل في هذه الأيّام ولله الحمد – الذين يعتبرون أهل العرفان غرباء عن الولاية، فهم على ما يبدو ممّن أغمضوا أعينهم لكي لا يروا الحقيقة، ومِمَّنْ أوقعهم تعصّبهم في حبائل الشيطان. إنَّ هؤلاء لا يعلمون كيف كان المرحوم السيِّد الحدّاد يذهب صباح كلّ يوم لزيارة حرم سيِّد الشهداء أوّلًا ثمّ يزور حرم أبي الفضل قبل أن يعود إلى المنزل لتناول الفطور.
كنتُ في مدينة كربلاء في أيّام عاشوراء فشاهدتُ حال المرحوم السيِّد الحدّاد بنفسي، وكانت زيارة عاشوراء تُقرأ في بيته صباح كلّ يوم، وكان يبكي والدموع تسيل مِنْ عينيه دون إرادة، فلم يكن يتباكى بل كانت الدموع تجري مِنْ عينيه وهو يتكلّم. فهذا واحدٌ مِمَّنْ كان يُتّهم بعدم الإيمان بالولاية وبالعداء لها ! لا أدري كيف سيُبتلى مَنْ يَسلبُ الله منه التوفيق، فإنَّنا نسمع هذا الكلام مِمَّنْ لا نُصدّق إمكانيّة صدوره منه. وقد يحصل – طبعًا – أن يصدر هذا الكلام عن جهل وعدم دراية، ولكن لا قدّر الله أن يصدر عن عناد، وكلّما كانت مكانة الشخص أكبر يكون الأثر المترتّب على كلامه هذا أشدّ خطرًا وهلاكًا.
على أيّة حال، على الّذين يعادون هذا المسير أن يعلموا أنَّهم يلعبون الآن بالنار، فلْيحذروا أن تتجلّى لهم غيرة الله دفعةً واحدةً فلا تترك عندئذٍ ديرًا ولا ديّارًا، فيُصيبهم ما قد يَذهب بسُمعتهم دفعةً واحدةً ويجعل كلّ ما ادّخروه لأنفسهم خلال سنواتٍ متماديةٍ هباءً منثورًا. نعم لا ينبغي اللعب بالنار، فمَنْ يجهل ما يجري في هذا الحَرَم عليه ألّا يتكلّم عنه وليشتغل بأموره المعتادة كالبحث والتدريس، وعليه أن يتجنّب الخوض في هذا المجال والدخول إلى هذا الحَرَم، فهذا حَرَمُ غِيرةِ الله ويجب الحذر مِنَ دخوله.
في مجلس عزاء سيِّد الشهداء يجب أن يكون الجميع جالسين على نحو واحد، [بمعنى أنّه] لا ينبغي أن يكون في المجلس مكانٌ خاصّ وآخر عامّ، ولا ينبغي وجود الأرائك أو أن يُفرش فراش مخصوص لبعض الناس في المجلس. لقد شاهدتُ ذلك في بعض المجالس الّتي كانت تعقد في العهد السابق، حيث كانوا يضعون الكراسي في جانب مِنَ المجلس لفئةٍ خاصّة مِنَ الناس، إذ لعلّ في الأرض مسامير تمنعهم مِنَ الجلوس عليها ! فكانوا يضعون ما يقارب الثلاثين كرسيّا لجلوس طبقة خاصّة مِنَ الناس، أمّا سائر عباد الله المظلومين فيجلسون على الأرض. إنَّ هذا التصرّف غير صحيح، فجميع مَنْ يحضر مجلس عزاء الإمام الحسين يجب أن يجلس الجلسة نفسها، فإن كان ولا بدّ مِنْ وضع فراش فيجب وضعه للجميع سواء لتلك الفئة ولهؤلاء، ففي هذه الحالة لا مانع مِنْ وضع الفراش. أمّا وضع الكراسي فهو تصرّف خاطئ، فمجلس سيِّد الشهداء ليس مجلسًا للتمييز بين الناس على أساس الأمور الاعتباريّة والمكانة الاجتماعيّة، بل يجب أن يكون مجلسًا يتجلّى فيه الإخلاص والصفاء. فأين نحن مِنْ هذا ؟! وإلى متى سنبقى أسرى في أيدي هذه الخيالات والمسائل الاعتباريّة ؟!
وعندما تُلطم الصدور في مجلس عزاء سيِّد الشهداء، فعلى الجميع أن يفعلوا ذلك، لا أن يلطم البعض ويتفرّج الآخرون عليهم، إذ لا فرق بين شخص وآخر في هذا المجال؛ فلا فرق بين الإنسان العاديّ والعالِم وغيره مِنْ أصحاب المناصب والشأنيّات، فعلى الجميع لطم الصدور. فليس صحيحٌ أن يبقى أحدهمٌ جالسًا ينظر إلى الآخرين وكأنَّه خشبةً، وذلك لا لشيء إلّا لكونه مثلًا مديرًا لمؤسسة ما. إنَّك لا تختلف عن غيرك في هذا المجلس، فإن كنتَ تحتلّ مكانةً ما فذلك خارج المجلس وهو أمر يخصّك، أمّا وقد جئتَ إلى هذا المجلس فيجب أن تضع جميع تلك الأمور الاعتباريّة جانبًا. غير أنّ الرجل [يكون قد حضر] وأحضر جميع تلك الأمور الاعتباريّة معه، ويكون أمرًا ظاهرًا واضحًا للعيان إذ أنّ هيأته ونظراته تدلّان على ذلك، فتراه بهيأة وكأنّه جالس خلف مكتب يزن عشرة أطنان – في الرقم مبالغة طبعًا – أتى به إلى المجلس، ولكنّ الآخرين لا يرون ذلك عادةً، فلا يراه سوى الأذكياء والأكياس، فهم الّذين يرونه [في المجلس] الآن وكأنّه جالس خلف نفس ذلك المكتب، ويرون الآخر وكأنّه قد جلب معه مسجده بقبّته ومنارته إلى مجلس سيِّد الشهداء .. يا له من مجلس عجيب أمره، فكم هي سعته، أيتّسع لكلّ هذه الجلبة والحواشي، فهذا قد جاء بمنضدته وكرسيّه ومكتبه البالغ ثلاثمائة إلى أربعمائة متر مربع، وجاء الآخر بمسجده ومحرابه ومنارته، وجاء الثالث بعيادته الطبيّة ومرضاه، والآخر بشركته التجاريّة .. فجاء كلّ واحد منهم بأموره الاعتباريّة.
لا أيّها السادة، عندما تدخل إلى مجلس عزاء سيّد الشهداء؛ فإن كنتَ مديرًا فعليك أن تترك الإدارة عند الباب قبل أن تدخل، وإن كنتَ إمام مسجد فعليك أن تخرج منه، وإن كنت صاحب منصبٍ فعليك أن تتخلّى عنه، ثمّ تدخل إلى المجلس بدون لون ودنس وبدون أنانيّة وخيالات تمنعك وتكبّل يديك ورجليك مِنَ الورود في هذا الماء الزلال الصافي. ومَن يفعل ذلك سيلاحظ التفاوت بين الحالتين بنفسه.
نعم، [أمّا بالنسبة للطم الصدور] فعندما يبدأ قارئ المصيبة في مجلس الإمام الحسين بالقراءة، فعلى الجميع المبادرة إلى لطم الصدور، وليس صحيحًا أن يلطم البعض دون الآخر.
ومِنَ الأمور الّتي يجب الانتباه إليها أن لا يكون همّ الشخص أن يحضر في أكبر عدد مِنْ مجالس العزاء في أيّام محرّم وصفر، فيكفي أن يحضر مجلسًا واحدًا أو مجلسين في اليوم، فالحضور في مجالسٍ متعدّدةٍ ليس مطلوبًا، لأنَّه بذلك سيتحوّل إلى أمر عاديّ بالنسبة إليه.
إنَّ أفضل الأوقات لإقامة المجالس في أيّام عاشوراء هو وقت الصبح أي بين الطلوعين. فقد كان المرحوم العلّامة يقول دائمًا: إنَّ الفيض الّذي يُفاض على المشاركين في مجالس عزاء أهل البيت ومجالس أفراحهم وأعياد ولادتهم يكون على أشدّه في فترة ما بين الطلوعين، أما في سائر الأوقات فيكون أقلّ شدّة لا أنَّه ينعدم بالمرّة، ولَمَّا كان هدفنا هو إدراك نور حضور سيِّد الشهداء للمجلس، فالحضور ما بين الطلوعين هو أفضل الأوقات لذلك. بناءً على هذا، لا ينبغي لأيٍّ منّا تضييع هذه الفرصة. وبالرغم مِنْ ذلك فلا يوجود أيّ إشكال في إقامة المجالس في فترة ما بعد الظهر أو الليل، فيستطيع أحدكم أن يحضر مجلسًا في الصباح وآخر في المساء، ولا مانع مِنْ ذلك.
والأمر الآخر الّذي أودّ الإشارة إليه أنّه يجب ألّا يكون الهدف مِنْ حضور مجالس العزاء هو مجرد الاستماع إلى ذكر المصيبة والبكاء. إذ عندما يحضر أحدنا المجلس، فمجرّد أن يتصوّر أنّه بالقرب مِنَ الإمام عليه السلام سيتسبّب ذلك في انهمار الدموع مِنْ عينيه، فلا حاجة – والحال هذه – لإيذاء النفس والضغط عليها مِنْ أجل حصول البكاء، فشعورنا بالتواجد إلى جانب الإمام عليه السلام ونَقْل أنفسنا إلى ساحة المعركة في لحظات حديث الواعظ وقارئ المصيبة عن أحداث واقعة كربلاء، أي إن شعرنا بنفس ما كان يشعر به الإمام وأصحابه في ذلك الوقت، سيكون ذلك كفيلًا لتجري دموع العينين شاء الإنسان أم أبى، فلا نحتاج – والحال هذه – إلى التباكي. إنَّ هذا الأمر في غاية الأهميّة وهو ممّا يغفل عنه أكثر الناس، فنرى أنّ همّ عوامّ الناس الحضور في مجلس العزاء لذرف دمعتين، ثمّ يذهب إلى مجلس آخر ليبكي فيه أيضًا، حتّى يقول: الحمد لله لقد حقّقتُ بذلك التولّي في هذا اليوم، أو إنَّ للمجلس الفلانيّ حرارة خاصّة، أو إنّ المجلس الفلانيّ يبعث على البكاء أكثر مِنْ غيره .. فإنّ كلّ هذه الأمور غير صحيحة. وعليكم الحضور في المجلس الّذي لا يتكلّف فيه الواعظ في خطابه ولا يستخدم الألفاظ المنمّقة، لا الحضور في المجلس الّذي يتكلّم الواعظه فيه بما يشاء.
أنا أسمع بعض الوعّاظ يستخدمون في مجالسهم عبارات قد لا تألفها النفوس ولا تتحمّل سماعها، بالرغم مِنْ أنّها تعبِّر بالفعل عن أحداث قد وقعتْ، إلّا أنَّه لا ينبغي أن نذكر كلّ ما كان قد حصل مهما وكيفما كان؛ إذ توجد بعض القضايا الّتي ذُكرت في المقاتل وهي مختصّة بأهل العلم. فلا يجوز تصوير المصيبة بالشكل الّذي لا يتحمّله البعض، إذ إنَّ ذِكْر بعض القضايا [والتفصيلات] يجعل وقع الحدث على المستمع أكثر قهرًا وإيلامًا، فيجب الاكتفاء بذِكْر ما يمكن تحمّله وما لا يتضمّن الحِدّة. والمهمّ في الأمر هو أن نصل في هذه المجالس إلى روح واقعة كربلاء وإلى حقيقة الإمام ونفسه المقدّسة المهيمنة على التاريخ إلى يوم القيامة، فعلينا أن نفترض أنّنا موجودون في كربلاء ونرى كيف كان حال الناس في ذلك اليوم.
إنَّما تطرقتُ لهذا الموضوع اليوم لكي نعلم أنَّ الّذين جاؤوا لقتال الإمام الحسين في كربلاء لم يكونوا مِنْ شاربي الخمور، بل كانوا مِنَ المصلّين، وكان الكثير منهم مِنَ المتعلّمين والدارسين والوعّاظ، ولكن ما الّذي حصل لهم ؟ إنَّ الشيطان يغوي الناس وهو قادر على إيصالهم إلى هذا المستوى. فيجب علينا التفكير في هذا الأمر لكي تترك هذه المجالس أثرًا على المشاركين فيها.
والأفضل لأهل العلم أن ينقلوا في مواعظهم نفس ما جاء في المقاتل، لا ما سمعوه مِنْ هذا وذاك. ها نحن نرى بأنفسنا ما ينقله بعض الناس العاديِّين المنتشرين في كلّ مكان، وهم مِنْ أولئك الّذين يلبسون البنطال والمعطف ويقومون بالوعظ وقراءة الأشعار الخاصّة بمصيبة سيِّد الشهداء، فينقلون بعض الأحداث دون أن يراجعوا التاريخ ليتأكّدوا مِنْ صحّة أو سقم ما ينقلونه، ثمّ تتلقّى الطبقة الشابّة منهم ذلك ! إنَّهم ينقلون أمورًا غير صحيحة وباطلة وكاذبة، وما يقومون به حرام، إذ مِنَ المحرّم أن يذكر أحدهم حدثًا لم يكن قد وقع في كربلاء بالفعل، ومِنَ المحرّم أن ننسب ذلك الحدث إلى شخصٍ ولو كان الشمر، إذ الحرام حرامٌ والكذب كذبٌ أينما كان. بل يجب ذِكْر الوقائع الّتي حصلتْ بالفعل، ولا يجوز لأحد أن يضيف عليها مِنْ عنده شيئًا.
كما أنّ البعض يستخدم عبارات مذلَّة، وهذا يحطُّ مِنْ مقام ومكانة الإمام عليه السلام ويجعله بمستوى الرجل العاديّ. ويقرأ البعض أشعارًا ركيكة، لا تليق إلّا بمجالس عزاء الناس العاديِّين، كأن يُبيّن حال أمٍّ فقدتْ صبيًّا بعمر السابع عشر أو الثامن عشر، فإنّ هذه الأشعار لا يمكن تطبيقها على عَلِيٍّ الأكبر، فإن عُمْر عَلِيّ الأكبر لم يكن ثمانية عشر عامًا، بل كان قد تجاوز الثلاثين، فما يذكرونه في أشعار نعيه كـ: يا بني يا عَلِيّ الأكبر أيّها الغلام .. كلّها كلمات ابتدعها الشعراء. هذا مِنْ جانب، ومِنْ جانب آخر لدينا روايات تقول أنّ عَلِيّ الأكبر كان مؤهّلًا لنيل مقام الإمامة لِمَا هو فيه مِنْ مقام علميّ وعصمة وطهارة ولياقة، إذ جاء في الرواية أن لولا إمامة الإمام السجّاد لكان عَلِيّ الأكبر هو الإمام، أي إنَّ مشيئة الله قد اقتضتْ أن يتولّى الإمام السجّاد الإمامةَ بعد سيِّد الشهداء، مع أنَّه كان أصغر مِنْ عليّ الأكبر بعدّة سنوات. [كما أنّ] الإمام الباقر ابن الإمام السجّاد عليهما السلام كان حاضرًا في واقعة كربلاء وعمره حينها خمس سنوات، وعَلِيّ الأكبر يكبر الإمام السجّاد، فكيف – والحال هذه – يمكن أن يكون عمر عَلِيّ الأكبر ثمانية عشر عامًا ؟!
إنَّ التواريخ لم تذكر شيئًا عن نسل عَلِيّ الأكبر، إلّا أنّي قرأتُ في إحدى الكتب عن طائفة في إحدى البلدان يرجع نسبها إلى عَلِيّ الأكبر، ويبدو أنَّهم يسكنون الهند، غير أنَّني لست متأكّداً مِنْ اسم البلد. وبعد مدّة حاولتُ العثور على المصدر [الّذي قرأتُ منه ذلك] وبذلتُ جهدًا كبيرًا إلّا أنَّني لم أعثر عليه، وما زلت أحقّق في الموضوع، ولكنّني لا أدري في أيّ كتاب قرأتُ ذلك الموضوع، مع أنَّني قد قرأته بنفسي، لذا بقي الأمر مبهمًا.
مع كلّ هذه المكانة الّتي كان يتمتع بها علِيّ الأكبر، فانظروا أيّة أشعار يقولونها بحقّه، إنَّه لأمر قبيح أن تُقال مثل هذه الأشعار في حقّ علِيّ الأكبر الّذي كان مؤهّلًا لنيل منصب الإمامة. فما يُقرأ بحقّه هو فقط مِنْ أجل نيل استحسان بعض الشبّان الّذين لا يرون قيمة للإنسان في غير الجمال وطول الشعر والهندام وما شابه ذلك. فما الفرق بين هذه الأشعار وأشعار الغزل بالمعشوقات ؟! أين تلك الأشعار التي تُبيّن مقام إخلاص وطهارة علِيّ الأكبر ؟! والمفترض في المقام أن يتمّ بيان هذه المقامات والحديث عنها، لا أن تُذكر بحقه تلك المسائل السخيفة التافهة والّتي لا يُراد منها سوى استدرار دموع الناس وإحزانهم وإبكائهم.
إنَّ كلّ هذه الأمور باطلة لا تنسجم مع مباني مدرسة أهل البيت، الّتي هي مدرسة العلم والإتقان والفهم والتعقّل، وليست مدرسة مداعبة المشاعر والرأفة المبنيّة على المشاعر العاطفيّة والميول النفسانيّة. لقد صنع سيِّد الشهداء عليه السلام واقعة كربلاء؛ لكي نتمكّن اليوم مِنْ رؤيّة الحقائق المحيطة بنا بعيون مفتوحة، لا أن نتقبّلها ونحن مُغمضِي العينين، وحتّى لا نغترّ اليوم بأولئك الرجال المشهورين ذوي المظهر الصالح الّذين يغوون الأنام ويَحرِفونهم عن المسير المستقيم بمظهرهم، ولكي لا ننجرّ إلى السير ورائهم.
نعم لقد ضحّى الإمام الحسين بعلِيّ الأكبر وعلِيّ الأصغر وبجميع أهل بيته؛ مِنْ أجل أن يعلّمنا كيف نعيش عيشةً سليمةً ونسير في الطريق الصحيح، ولكي لا نُفتتن بأهل الإغواء والفِتن، ولكي لا نخطو خطوةً واحدةً دون علم ودراية، ولكي لا نستمع إلى كلّ كلام يخرج مِنَ فَمِ هذا وذاك، بل علينا أن نسدّ آذاننا ونضع القطن فيها لنمنعها مِنْ أن تسمع الكلام الباطل، وعلينا أن نحذر مِنْ جرْف الأمواج.
نعم، علينا أن نفتح أذهاننا لمبادئ أهل البيت، وأن نعمل على تصحيح طريقتنا في الحياة، وأن لا نعير اهتمامًا للكلام الّذي يُتداول في المحيطات الّتي نعيش فيها، وإلى ما يقوله هذا وذاك مِنْ أنَّ ما نطرحه هنا جديد يخالف ما عليه الناس. فإنَّ كان هذا الكلام الّذي يُطرح مِنْ قِبَلنا جديدًا، فليكن جديدًا، فهل يجب أن نلتزم بالكلام القديم فقط ؟! فلماذا لا يكون هنالك طرحٌ جديد ؟! ألم يكن القرآن جديدًا ؟! فهذا هو حال الناس منذ أن خلق الله النبيّ آدم إلى الآن، كلّما جاءهم أحد بشيء جديد قالوا: هذا خلاف ما عهدناه. ألم يقولوا ذلك للأنبياء، كالنبيّ شعيب وصالح ونوح وهود ولوط ونبينا ؟ ألم يقولوا لهم لماذا تخالفون طريقتنا، ولا تسجدون للأصنام مثلنا ؟ ألم يقولوا للنبيّ لماذا تصلّي هذه الصلاة الخاصّة، ولا تتّبع سيرتنا ؟ فكان النبيّ يقول لهم: لو أردتُ اتّباع سيرتكم ما كنتُ نبيّا، فالنبيّ هو ذلك الرجل الّذي يخالف سيرة قومه الباطلة والضالة بعد أن يتضح له الحقّ، وهو المكلّف بالعمل بموجب ما يتبيّن له فيدعو قومه للعمل بموجبه. فما يُقال هذه الأيّام مِنْ أنَّ مسيرنا يخالف القوم، هو نفس ما كان يُقال للأنبياء منذ خلق الله آدم إلى الآن.
لقد أوجد الإمام الحسين عليه السلام واقعة كربلاء لكي تعلم أنَّك إنْ كنتَ تسلك طريقًا في هذا العالم وأنت على علمٍ بصحّته، فعليك مواصلة سيرك حتّى وإن كنتَ تسلكه وحدك، بشرط أن لا يكون سلوكك له مبنيّا على الوهم والخيال والتعصّب، فهذا غير صحيح، فلا بدّ أن تكون قد تحقّقتَ من صحّة الطريق، لا أن تُطرق رأسك إلى الأرض مثل الحمار – وإن كان للحمار إدراك خاصّ أيضًا – قائلًا إنَّ ما أتَبَنّاه هو الصحيح، نعم، إن تحقّقت مِنْ صحّة مسيرك وناقشت هذا الأمر مع هذا وذاك وتبيّن لك صحّة الأمر مِنْ سقمه، تكون قد قمت بالمطلوب. وهذا ما ضحّى مِنْ أجله الإمام الحسين بنفسه، ومِنْ أجله هذا رضي أن يُؤسر أهل بيته.
أمّا إن كنَّا نحضر مجالس عزاء سيِّد الشهداء ونلطم صدورنا ورؤوسنا لنعود مِنْ بعده إلى الأعمال [الخاطئة] الّتي كنَّا نقوم بها، سيكون ما قام به الإمام الحسين قد ذهب هدرًا وقد بطُل الهدف منه، وبذلك يصبح الإمام مظلومًا. لماذا ؟ لأنّ الهدف الّذي قام مِنْ أجله لم يتحقّق، ولأنّنا لم نستفِد مِنْ قيامه. ولذا سيكون أوّل مَنْ يُقاضينا في محكمة العدل الإلهيّ يوم القيامة هو سيِّد الشهداء.
ظهور بعض التجلّيات الجماليّة والجلاليّة للمرحوم العلّامة (قدّس الله سرّه)
أعرفتم الآن مغزى الكلام الّذي تضمّنته الرسالة الّتي بعثها المرحوم العلّامة مِنَ المدينة [المنوّرة] إلى المرحوم الحاجّ هادي الأبهريّ – لا أتذكّر أين ذكرتُ هذا الموضوع ولعله في الجزء الثاني مِنْ كتاب أسرار الملكوت۱ – حيث أشار في الرسالة إلى نفس الموضوع [أعلاه].
لَمّا كان المرحوم الأبهريّ مخلصًا وصافي النيّة نجّاه الله مِنْ تلك الفتنة الّتي أوجدها أهل الفِتن، وتخلّص مِنْ وسوسة الشياطين والخنّاسين الّذين قال المرحوم العلّامة عن أحدهم: [سألقيه بنفسي في نار جهنّم] يوم القيامة.
ولقد كرّر المرحوم العلّامة هذه الجملة عدّة مرات في فترات حياته، ومِنَ المعلوم أنَّ هذا الكلام كان [بواسطته ولكنّ] مصدره مكان آخر. [وإحدى تلك المرّات هي] عندما كان راقدًا في مستشفى القائم في مدينة مشهد المقدّسة يعاني مِنْ مرضٍ في القلب، أتذّكر حينها أنّ عددًا مِنَ الأطباء جاؤوا لعيادته، وكان أحدهم رجلًا متديّنًا صالحًا ومِنَ المصلّين، وممّن صار نائبًا عن مدينة مشهد لدروة أو دورتين في مجلس الشورى، ويبدو أنَّ زوجته صارت هي الأخرى نائبة على ما أذكر، أمّا هو فقد صار نائبًا قطعًا، وكان متخصّصًا في جراحة المسالك البوليّة. وكان المرحوم العلّامة حينها مُمدّدًا على السرير وأنا جالس إلى جانبه، فجرى الحديث عن تجويز البعض – ممّن كان يحتّل منصبًا معيّنًا ومِن سكّان مدينة قم، وهو متوفٍّ في الوقت الحاضر – إسقاط الجنين وعَمِل على تشريعه قانونيًّا، فسأل هذا الطبيب المرحوم العلّامة: هل صحيح ما فعله الرجل يا سيِّد ؟ والحال أنّ الطبيب لم يكن مقتنعًا بذلك الأمر، فقد كان رجلًا متديّنًا جدًّا ويُعدّ مِنْ جرّاحي الطراز الأوّل في إيران، وهو رجل معروف – لا أريد أن أذكر اسمه – غير أنَّ الكثير مِنَ الإخوة والأصدقاء المتواجدين هنا يعرفونه. فرأيتُ المرحوم العلّامة قد نهض جالسًا على السرير بالرغم ممّا كان يعانيه مِنْ مرض في القلب، وقد انتفخت أوداجه – فقلتُ في نفسي يا للهول لقد انتهى أمر الرجل – وقال: «سألقي به في نار جهنّم بيدَيّ هاتين يوم القيامة». إنَّه لأمر عجيب حقّا، ولقد كانت حالته عجيبة عندما قال ذلك، كما أنّ هذا الرجل الّذي قال عنه العلّامة أنّه سيلقيه في نار جهنّم يوم القيامة، هو رجل معمّم ومِنَ السادة. وعندها تغيَّر حال الأطباء، ثمّ جلسوا لعدّة دقائق واستأذنوا للانصراف.
أتذكّر عدّة قضايا مِنْ هذا القبيل كانت قد حصلت، منها الجلاليّة ومنها الجماليّة. أتذكر عندما زاره أحد الإخوة العرب المستبصرين، والّذي كان قد ألّف كتابًا [عن كيفيّة استبصاره] ألا وهو السيِّد محمّد التيجانيّ حفظه الله وسدّده ورعاه أينما كان، فأنا أحبّه كثيرًا ولقد قرأتُ كتابه. فكان التيجانيّ قد زار مدينة مشهد بعد أن التقى بالعديد مِنَ السادة العلماء، ثمّ جاء لزيارة المرحوم العلّامة – فمَنْ يكون مِنْ أهل الولاء سيوصله الله بأهل الولاء [فلم يكن اللقاء اعتباطًا] – وعندما وقع نظره للوهلة الأولى على المرحوم العلّامة التفت إلى مَنْ كان معه وقال لهم: إنَّ هذا السيِّد يختلف عن بقيّة العلماء الّذين التقيتُ بهم إلى الآن. [أقول] إنَّه لأمر عجيب حقّا، فلم يكن قد حصل أيّ حديث ولم يُطرح أيّ موضوع [ بينهما قبل أن يقول ذلك]. كان الرجل قد زار العديد مِنَ الأفراد في طهران ومشهد وقم، غير أنَّه ما إن جلس [أمام المرحوم العلّامة] حتّى التفت إلى الآخرين وقال لهم بصوت خافت، وكنتُ قد سمعته: إنَّ هذا الرجل يختلف عن الآخرين. ثمّ جرى بينه وبين المرحوم العلّامة حديثًا، وطلب مِن المرحوم العلّامة صورة تجمعهما، فوافق المرحوم العلّامة بالرغم مِنْ أنّه لا يوافق في الغالب على هذا الطلب، فتمّ التقاط بعض الصور. ثمّ طلب منِّي التقاط صورة معه إذ كنتُ متواجدًا هناك. وأنا أتذكّر أنَّ المرحوم العلاّمة قال له عندما همّ بالمغادرة: «كن على يقين أنَّني سأكون معك في الدنيا والآخرة». فقال أحد الإخوة حينها: يا لحسن حظك، فافعل إذًا ما شئتَ فقد خُتم لك بالخير.
[فكلام العلّامة في القصّة الأولى] كان نموذجًا للتصرّف الجلاليّ، [أمّا كلامه في القصّة الثانيّة هذه] فهو نموذج للتصرّف الجماليّ، فكم هو مقدار التوفيق الإلهيّ للفرد حتّى يحصل على مثل هذا الجمال.
ومِنَ القضايا الّتي أتذكر حدوثها، هو ما حصل لأحد المعاندين في زمان المرحوم السيِّد الحدّاد، وهو الشخص الّذي ارتبط بعد ارتحال الشيخ الأنصاريّ بعلاقة مع بعض الأفراد، وهو مِنَ السادة ومصيره الّذي آل إليه الآن معلوم، وقد [قال] المرحوم العلاّمة بحقّه [نفس تلك الجملة السابقة]. كان هذا الرجل واحدًا مِنَ الّذين وقفوا بشدّة بوجه مدرسة المرحوم السيِّد الحدّاد. ولمّا كان أسلوبه البيانيّ قويًّا وكان ذا نفسٍ قويّةٍ تستطيع التأثير على الآخرين، فقد أغوى المرحوم الحاجّ هادي الأبهريّ [فأثّر فيه] إلى درجة امتنع الحاجّ هادي عن زيارة المرحوم السيِّد الحدّاد عندما يزور العتبات المقدّسة، وهو الأمر الّذي آذى المرحوم العلّامة كثيرًا، فقد تأثّر [العلّامة] كثيرًا مِنْ كيفيّة تأثير هؤلاء الغواة على عبد الله هذا الشيخ المسنّ، ولكن لَمّا كان قلب المرحوم الأبهريّ طاهرًا وصافيًا أخذ الله بيده في نهاية المطاف. فكان المرحوم العلّامة قد بعث [إليه برسالة مِنَ المدينة المنوّرة] في السنة الّتي تشرفتُ فيها معه لحج بيت الله الحرام، وذلك في سنّ السابعة عشر مِنْ عمري. وكان [العلّامة] قد بعث مِنَ المدينة المنوّرة عدّة رسائل إلى عددٍ مِنَ الأفراد، وكانت رسائل عجيبة حقّا – وقد ذكرتُ في الجزء الثاني مِنْ كتاب أسرار الملكوت بعض ما جاء في إحدى تلك الرسائل [وهي رسالة العلّامة للحاجّ الأبهريّ]، نعم لقد ذكرتُ بعض ما جاء فيها ولم أتمكّن مِنْ ذكْر الرسالة بأكملها – وإحداها كانتْ موجّهة إلى المرحوم الحاجّ هادي الأبهريّ حيث قال له فيها: أودّ أن أقول لك يا حاجّ هادي وبصفتي أخ مشفق – إذ كان المرحوم العلّامة قد عقد مع الحاجّ هادي رحمه الله عقد إخوّة في فترة دراسته في النجف ولعلّ ذلك كان قبل ولادتي إذ كان يعرفه منذ ذلك الوقت – فإنني أُخْطِرك وأُعْلِمك أنَّ كلّ البكاء الّذي كنت تبكيه طوال حياتك على مصيبة سيِّد الشهداء والسيدة زينب .. [سينقلب عليك، فيصبح سيّد الشهداء خصمك إن أصرّيت على سلوك طريق مَنْ أغواك].
إنّ بكاء المرحوم الحاجّ هادي لأمر عجيب، فقد كان يبكي لمدة اثنتي عشرة ساعة متواصلة، وبواسطة هذا التوسّل انكشف له الكثير مِنَ الأمور وحصلت له بعض الحالات، وكان يحكي لنا مكاشفاته المتعلّقة بواقعة كربلاء، وعندما نراجع المصادر كنَّا نجد عين ما قاله فيها، فكنَّا نعتبر أنّ مكاشفاته يمكن الاعتماد عليها، فكنَّا نكتبها ونحفظها، نعم لقد كان يحكي لنا ما حصل لأهل البيت في كربلاء وما حصل لهم عندما أُخذوا إلى الشام بجميع تفاصيل الحادثة، ولقد نقلتُ للإخوة بعض ما كان يحكيه لنا.
وعلينا الانتباه هنا إلى أنَّ البكاء يأخذ مكانته الصحيحة متى ما كان متماشيًا مع الهدف الّذي قام سيِّد الشهداء مِنْ أجله، فلا قيمة لهذا البكاء بدون الإيمان بولاية الإمام الحسين، ولا قيمة للبكاء بدون العرفان، [ولا قيمة له] إن كان مخالفًا للعرفان، لأنّه لا يساوي بدونه فلسًا. إنَّ العرفان يعني مدرسة سيِّد الشهداء ومدرسة الأئمّة، والتوحيد يعني مدرسة الأئمّة، ولقد ضحّى الإمام الحسين بنفسه وأهل بيته مِنْ أجل العرفان.
أَبَعدَ كلّ هذا تذهب لتشارك في تلك المجالس الّتي كان الهدف مِنْ إقامتها هو النيل مِنَ المرحوم السيِّد الحدّاد ! أتشاركهم في انتقاد السيّد الحدّاد وفي اتّهامه [دون بيّنة] بأنّه يخالف ولاية أهل البيت ! أَفَلَم يكن هذا السيِّد يقيم مجالس عزاء سيِّد الشهداء في بيته ؟ لقد رأيتُ بنفسي كيف تُقرأ زيارة عاشوراء في بيته، ورأيتُ كيف تنهمر الدموع مِنْ عينيه كالميزاب. فإن كنتم تريدون إلصاق تهمة به، عليكم البحث عن تهمة لها طابع واقعيّ يمكن قبولها عندما تُسمع للوهلة الأولى ما لم يقم أحدٌ بالتحقيق مِنْ صحّتها أو سقمها. فكيف تتّهمونه تهمة واضحة البطلان ؟! لقد كان الذِّكْر الّذي يردّده المرحوم السيِّد الحدّاد عندما يهمّ بالنهوض هو «يا صاحب الزمان». أَيكون رجل كهذا غير مؤمن بولاية أهل البيت ؟! كم هو مقدار الوقاحة وعدم الحياء الّذي يبلغه الشخص حتّى يتمكّن مِنْ إطلاق هذا الكلام وحتّى يتجاهل المكانة الاجتماعيّة الّتي يحتلّها ؟! على الأقلّ فليُراعي مكانته الاجتماعيّة واحترامه لنفسه وليغلق فمه ولا يتفوه بأيّ كلام !
[نعم، كتب المرحوم العلّامة إلى الحاج هادي الأبهريّ:] أنّ نفس بكائك على سيِّد الشهداء سيكون عاملًا لمخاصمة سيِّد الشهداء لك يوم القيامة. فسيحاججك عند الله وسيخاصمك قائلًا: لقد طويتَ طريقك في الدنيا بخلاف الهدف الّذي قمتُ أنا مِنْ أجله. وعندما وصلتْ رسالة [المرحوم العلّامة] إلى يد عبد الله هذا، أَظْلَمَ نهاره وأصابه ما أصابه، وهيّأت تلك الرسالة له أرضيّة التحوّل والتبدّل في حياته، وذلك لأنَّه كان رجلًا مؤمنًا ومخلصًا، فرجع عمّا كان عليه.
ولقد أتى به المرحوم العلّامة إلى بيته في الشهرين الأخيرين مِنْ حياته، وذلك عندما كان قد مَرِضَ، فكان المرحوم العلّامة يُحضر له الطبيب في بيتنا، وهو الدكتور مهدي الآذر – نسأل الله أن يعفو عنَّا جميعًا ويرحمنا – كان طبيبَ العائلة ومعروفًا وكان ينتمي إلى بعض الجهات المنادية بالتحرّر. فكان يأتي إلى بيتنا لفحصه ومعاينته. وكان المرحوم الحاجّ هادي يقول للآخرين في الشهرين الأخيرين مِنْ حياته: لقد عرفتُ للتوّ أنَّ السيِّد محمّد حسين كان محقًّا، وأنّ الآخرين على باطل. وكان يقصد أولئك الّذين كان يحضر مجالسهم. ولقد تيقّن مِنْ صميم قلبه أنّ أولياء الله يؤمنون بولاية الأئمّة. وقد صَلُحتْ أموره بشكل جيّد جدًّا، ونقل لنا المرحوم العلّامة بعد وفات [الحاجّ الأبهريّ] الكثير عن حالاته في ذلك العالَم. نسأل الله أن يوفّقنا جميعًا.
إنّ إحدى فقرات الحديث الشريف [لعنوان البصريّ] تتحدّث عن أمورٍ ثلاثةٍ خاصّةٍ برياضة النفس، وكنتُ أنوي أن أتحدّث عنها غير أنَّ التقدير شاء أن يتغيَّر مجرى الحديث باتجاه ما ذكرناه مِنْ مواضيع. وأنا مقرٌّ منذ البداية أنّ الحديث يأتي تلقائيًّا، فما يجيء مِنَ الحديث بنفسه فمرحبًا به.
نسأل الله أن ننال أتمّ النِعَم الّتي يَمُنُّها على عباده في الأيّام القادمة الخاصّة بعزاء سيِّد الشهداء، وأن لا يحرمنا مِنْ الفيض النازل مِن النفس المقدّسة والمطهّرة للإمام الحسين، وأن يجعل حياتنا وأفكارنا وسرّنا وضمائرنا مسخّرة لهيمنةِ نفسهِ المطهّرةِ.
اللهمّ صلِّ على محمّد و آل محمّد