1

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم

وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

10108
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسممباني الإسلام

المجموعةمحطات من السيرة النبويّة

جلسات المجموعة(4 جلسة)

التوضيح

ما هو السبب الذي يجعل دراسة سيرة النبيّ وتفاصيل خصوصياته النفسيّة وتصرّفاته الجزئيّة مهمّةً بالنسبة للمسلمين والمؤمنين بشكلٍ خاص، وللبشريّة عمومًا؟ تعرّض سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني قدس سره للجواب عن ذلك في هذه المحاضرة القيّمة مبيناً أنّ السر في ذلك هو كون النبي الأكرم أسوةً حسنةً لجميع الأمم في كافة الأزمنة. ثمّ تعرّض سماحته لبيان فلسفة وفاة والد النبيّ الأكرم ووالدته، وصفات النبيّ الظاهريّة وبعض الصفات الباطنيّة، وبشارة الأنبياء السابقين بظهور النبيّ الأكرم.

/۱۵
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

1
  •  

  • هو العليم

  •  

  • بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم

  • وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

  •  

  • مباني الإسلام – المجلس الاول

  •  

  • محاضرة ألقاها

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

  •  

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم‌

  • الحَمدُ للّهِ ربِّ العالمينَ

  • وصَلَّى الله عَلى سَيّدِنا ونَبيّنا وحَبيبِ قُلوبِنا وطَبيبِ نفوسنا

  • أبي ‌القاسِمِ المصطفى محمّدٍ وعَلى آلِهِ الطَّيّبينَ الطّاهِرينَ المَعصومينَ

  • واللَعنَةُ عَلى أعدائِهِم أجمَعينَ مِنَ الآنَ إلى قيامِ يَومِ الدِّين

  •  

  •  

  • قالَ اللهُ تعالى في مُحكِمِ كتابهِ ومُبرَمِ خِطابهِ:

  • {بِسۡمِ ٱللَهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ ، وَٱلضُّحَىٰ ، وَٱلَّيۡلِ إِذَا سَجَىٰ ، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَىٰ ، وَلَلۡأٓخِرَةُ خَيۡرٞ لَّكَ مِنَ ٱلۡأُولَىٰ ، وَلَسَوۡفَ يُعۡطِيكَ رَبُّكَ فَتَرۡضَىٰٓ ، أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَ‍َٔاوَىٰ ، وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ ، وَوَجَدَكَ عَآئِلٗا فَأَغۡنَىٰ ، فَأَمَّا ٱلۡيَتِيمَ فَلَا تَقۡهَرۡ ، وَأَمَّا ٱلسَّآئِلَ فَلَا تَنۡهَرۡ ، وَأَمَّا بِنِعۡمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثۡ}.۱

  • كنّا ننتظر وفقًا للعادة وكما في السنوات الماضيّة أن نستفيد من إفاضات الإخوان والأعزّة، ولكن من باب {وَيَفۡعَلُ ٱللَهُ مَا يَشَآءُ}٢ و {يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ}٣، وقع الاختيار على [هذا العبد لكي يُلقي المحاضرات].٤

  • والمفترض أن نعرض تاريخ النبيّ الأكرم وعلى الخصوص سيرة حياته، دون حشوٍ وزيادةٍ وفق سعتنا وما يقتضيه المجلس.

  • تأثير الخصوصيّات النفسانيّة على الأعمال والسلوك

  • ويتألّف تاريخ كلّ فردٍ من سلوكه وأفعاله وكلامه وأعماله وسكناته وحركاته وأسلوب معاشرته مع الناس وأعماله في حياته الخاصة وسلوكه العام.

  • وبشكلٍ عامٍّ فإنّ خصوصيّاته النفسانيّة هي العلّة الأساسيّة والسبب المهمّ لكيفيّة فعله وقوله وتصرّفاته، فهو إنّما يطبّق نفسه من خلال تلك الخصوصيّات النفسانيّة على المحيط الخارجي؛ مثلًا: إذا أردنا أن نطّلع على الخصوصيّات الأخلاقيّة لشخصٍ ما، فيجب أن نُلاحظ جميع حركاته وسكناته وأقواله سواءً في حياته الخصوصيّة أم بين الناس، وإلّا سيكون تقييمنا ناقصًا وغير منتجٍ.

  • الرسالة الملقاة على عاتق المؤرّخ هي حفظ الأمانة في تدوين التاريخ

  • إنَّ الرسالة التي تقع على عاتق المؤرخ هي أنَّ يُظهر الشخصَ الذي يكتب عنه كما هو للنّاس، وأن لا يطرح للنّاس مسائل من أمّ رأسه أو وفقًا لمصالح ومفاسد معيّنة، أو بما هو مخالفٌ للواقع. وهذا الفعل يُعدّ خيانةً عند نقل التاريخ! فإنَّ المؤرخ الأمين هو ذلك الفرد الذي يظهر للنّاس المحاسن والمساوئ جنبًا إلى جنب؛ لأنّه هناك علاقةٌ بين ذلك الفرد وبين النّاس، والنّاس يُرتّبون أسسهم الفكريّة وأصولهم الاعتقادية بناءً لما يقوله ذلك المؤرخ أو يكتبه.

    1. . سورة الضحى (٩٣). 
    2. . سورة إبراهيم (۱٤)، الآية ٢۷.
    3. . سورة المائدة (٥)، الآية ۱. 
    4. . دیوان حافظ (پژمان)، غزل ۱٤۱.

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

3
  • وأذكر أنّني كنت أسمع عن أحد العظماء مسألةً، وكان اعتقادي به لسنوات مبنيًا على هذه المسموعات التي أذكرها؛ ولكن بعد سنوات متمادية تبيّن لي أمرٌ آخر، ونُقل لي كلامٌ عنه غيّر كلّ اعتقادي به من الأساس.

  • بالطبع إنَّ هذا لا يعني نقل مساوئ وقبائح الأفراد للنّاس أو تناقلها بين الأفراد؛ فإنَّ نقل عيوب الأفراد لمن لا اطلاع له عليها حرامٌ ولا ينبغي ذكر صفات الأفراد القبيحة؛ ولكن الكلام هنا هو حول إذا ما كان بين الإنسان وبين ذلك الشخص علاقةٌ ما بحيث تجعل فكر الإنسان وهدف الإنسان ونهجه وطريقه متعلقًا به، ففي هذه الحالة يجب نقل الأمر كما هو للإنسان. مثلًا: إذا سألوك من باب المشورة: هل يصلح فلانٌ للارتباط به ومعاشرته؟ وترى أنت أنَّ الارتباط به مضرٌّ لهذا الفرد، فلا تستطيع أن تشجّعه على الارتباط به؛ فهو حرامٌ عليك! بل عليك أن تُفهمه أنَّ التواصل والعشرة مع هذا الفرد سيجلب لك الضرر وليس هذا الفرد صالحًا للارتباط به؛ «المُستَشارُ مُؤتَمَنٌ»؛۱ في قوله وفعله؛ لأنّنا قد رجعنا إلى هذا المستشار بناءً على الثقة والإيمان به، ولذا ليس له حق إلّا أن يُبيّن ما يعتقده؛ ولا يستطيع أن يمتنع عن القول بحجة أنّه: «سيتسبب ذكر صفاته القبيحة في تجنب النّاس له في السلوك والفعل»!

  • وكما أنَّ الانتقاد بلا سبب حرامٌ وقبيحٌ، كذلك المديح دون دليل ـ والذي يُؤدّي إلى الإغراء بالجهل ـ حرامٌ وقبيحٌ أيضًا! يقول أمير المؤمنين عليه السّلام:

  • إذا كان مدحك لشخصٍ أقلّ مما يستحق فهذا يعدُّ تقصيرًا وحسدًا؛ وإذا كان أكثر ممّا يستحق فهو تملّقٌ.٢

  • يجب أن يقوم الكلام على أساسٍ صحيحٍ وثابتٍ. فإذا تمّت استشارتك بموضوع زواجٍ - كما هو متعارفٌ عليه وهو أمرٌ صحيحٌ - لا تستطيع بسبب وجود بعض المصالح أن تضع حياة فردين في خطرٍ وأن تتسبّب بإيجاد هذه الصِلة غير المناسبة؛ وإنّما إذا كنتَ في مقام تقديم المشورة عليك أن تُبيّن ما تشخّصه في ذهنك على أنّه الصواب وفيه الصلاح.

  • أهميّة تاريخ النبيّ الأكرم وسيرته باعتباره أسوةً حسنةً في كافّة الأزمنة ولجميع الأمم

    1. . المحاسن، ج ٢، ص ٦۰۱.
    2. . نهج البلاغة (عبده)، ج ٤، ص ٢۱۷: «الثّناءُ بِأكثَرَ مِنَ الِاستِحقاقِ مَلَقٌ، والتّقصيرُ عَنِ الاِستِحقاقِ عيٌّ وحَسَدٌ».

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

4
  • إنَّ لتاريخ النبيّ الأكرم صلوات الله وسلامه عليه - باعتباره قائد مذهبنا - أهميةً بالغةً. لا ينبغي أن يُنظر إلى التاريخ على أنَّه سردٌ للحكايات والقصص التاريخيّة بل باعتباره مصدرًا للعِبرة والاعتبار من الجزئيات والتأسيّ بخصائص النبيّ الأخلاقيّة، واتباعه نواياه وسلوكيّاته.

  • يقول الله عزّ وجلّ في القرآن الكريم:

  • {لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَهَ كَثِيرٗا}؛۱ «يا أيّها النّاس، عليكم أن تتأسوا بالنبي الأكرم، فهو أفضل أسوة ونموذج للاتباع والاقتداء به، وهذا الأمر (أي: كون النبيّ أسوةً) هو لمن يؤمن بالله ويريد أن يذكره دائمًا».

  • تقول الآية الشريفة: إذا أراد شخص ان يكون ممشاه وسلوكه الدائمي محلّاً لرضا الله، فعليه أن يتأسّى بالرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله. وسيتم بيان علّة ضرورة التأسّي بسيرة الرسول لاحقًا.٢ وإنَّ اهتمام الله في هذه الآية بالذكر الكثير: {وَذَكَرَ ٱللَهَ كَثِيرٗا}؛ يعني: من أراد أن يكون نظره في جميع حالاته هو رضا الله تعالى، فعليه أن يضعَ النبيّ الأكرم أسوة حسنةً لنفسه:

  • {لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ}.

  • لقد قال: من كان يرجوا الله، ويريد أن يصل إلى لقاء الله؛ ولم يقل: «يَرجو رِضوانَ الله» أو «يَرجو رِضَى الله» أو «يَرجو الجنّةَ»، بل قال: {لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ}؛ من كان في نيته الله فقط، عليه أن يتبع النبيّ الأكرم!

  • فالآية القرآنيّة شاملةٌ لجميع أفراد الأمّة منذ زمن الرسول إلى يوم القيامة. ولا فرق بين النّاس الذين يعيشون في هذا الزمن وبين أولئك الذين عاشوا في زمن النبيّ الأكرم، فالآية الشريفة هي لجميع الأفراد.٣ فقبل اتباع النبيّ الأكرم والتأسّي به، كان جميع النّاس يعيشون في جاهليّة مطلقةٍ، والتأسّي بالنبيّ واتّباعه هو الذي أخرجنا من الجاهليّة وأحيا بداخلنا ذكر الله،

  • وأذكر أنّني في أحد الأيّام ذهبتُ إلى المستشفى القائم في مشهد من أجل علاج شخصٍ مريضٍ، وكان رئيس قسم الأشعة حاضرًا برفقة عدد من الأطباء الآخرين في المستشفى، وكان لي سابق معرفة به، فسألني أحدهم: «هل اطلعت على المسألة الفلانيّة؟ هل مرّت عليك تلك الصورة؟».

    1. . سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٢۱.
    2. . راجع الصفحة: .
    3. . لمزيدٍ من الإطلاع حول عمومیّة خطاب الآیات الإلهيّة لجميع الأفراد في كافّة الأزمنة راجع: الدر النضيد في الاجتهاد والتقليد، ص ۸٢، التعليقة ۱؛ أفق الوحي (فارسي)، ص ٤٣٩ ـ ٤٤٢؛ قوانین الأصول، الميرزا القمّي، ج ۱، ص ٢٩٩؛ مطارح الأنظار، الشیخ الأنصاري، ج ٢، ص ۱٩۱؛ کفاية الأصول، الآخوند الخراساني، ص ٢٣۱؛ فوائد الأصول، النائيني، ج ٢، ص ٥٤٩؛ نهاية الأفكار، الآغا ضياء الدّین العراقي، ج ٢، ص ۸۰٣؛ أصول الفقه، المظفّر، ج ٢، ص ۱٤۱.

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

5
  • فقلتُ: لا، لم أرها!

  • وقد كان الحديث عن اختلاف وقع بين شخصين وأدّى إلى انفصالهما، فذهبت المرأة إلى منزل والدها، وتركا ابنهما وهو قد أصبح ضائعًا مضطربًا؛ وقد عرضوا هذه الصورة من أجل بيان مضار الطلاق والافتراق بين الزوجين.

  • وكان سؤاله هو التالي: «عندما تتطلّق المرأة من زوجها، هل يجب أن تبقى في منزل الرجل، أم يجب أن تذهب إلى بيت والديها أو أهلها؟»

  • فذكرتُ عددًا من الأمور في هذا الباب، ومن جملتها: إنَّ خروج المرأة من منزل الزوج عند الطلاق الرجعي حرامٌ شرعًا. يعني: حرامٌ أن تخرج المرأة من منزل الزوج في وقت العدّة، وليس للزوج الحقّ أن يُخرج المرأة من منزله، وأيضًا واجبٌ على الرجل أن يدفع نفقة المرأة؛ غاية الأمر لا ينبغي أن يكون بينهما علاقة. وهذا من أجل المصالح التي أخذها الإسلام بعين الاعتبار، حيث بسبب حضور الاثنين في بيتٍ واحدٍ ومنزلٍ واحدٍ والحالات والظروف التي تمرّ على ذلك البيت، ينشأ سببٌ يؤدّي إلى الاتصال والتواصل والعفو عن الذكريات السابقة والإغماض عن الأحداث السابقة، فيبدأن حياتهما المشتركة من جديد.

  • ففرحوا من هذه الفكرة جدًا، وأعجبهم، وقالوا: «لم يطرق آذاننا مثل هذا الأمر من قبل، بأنّه يجب أن تبقى المرأة في بيت زوجها!».

  • فقال أحدهم: «أيّها السيّد، بالطبع إنَّ هذه المسألة مرتبطة بزمان النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم، حيث كان يصدر في ذلك الزمان سلوكيّات غير مناسبة ومخالفة للواقع وغير منطقيّة من العرب الجاهليّين تجاه زوجاتهم، ولكن الآن حيث الحياة قائمة على أساس المنطق والتمدّن الحديث والأصول والقواعد المحكمة والمُبرهَنة، فلا مجال بعد لهذه الأمور، ولا حدود لذهاب وإياب الطرفين!» وذكر أمرًا من هذا القبيل.

  • ونحن في البداية ضحكنا من هذا الكلام، ثمَّ قلتُ له: يا عزيزي، سؤالي لك ما هو السلوك الذي كان يصدر عن ذلك العربي الذي كان يعيش في البربريّة والتوحش في زمان صدر الإسلام ولم يعد يصدر عن النّاس المتمدنين الآن؟!

  • فقال: «سيّدي، لقد كانوا يئدون بناتهم أحياء، وحتّى الكبيرات منهن ممن مضى من عمرها عدّة سنوات بسبب الفقر وخوفًا على تربيتها، فكانوا يئدوهنَّ أحياء، وهذا العمل يُعدّ قبيحًا في مجتمعنا المعاصر، ويرفضه العقل والمنطق، ولا تستطيع أن تعثر على دليلٍ واحدٍ يدلّ على صحّة هذا المطلب!»

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

6
  • فأجبتُ: حسنٌ جدًا، لقد أجبت على نفسك بنفسك! قل لي: ما الفرق بين ذلك الموجود الحيّ والذي في رحم الأمّ، وذلك الطفل الذي ولد في الدنيا، ما الفرق بينهما؟ فكيف تجيز وأد ذلك الإنسان ذو العقل والذكاء والروح والحيّ في رحم أمّه ويمضي فترته الجنينيّة؛ ولكن تعتبر ما قام به ذلك الرجل العربي من وأد فلذة كبده حيًا قبيحًا؟! فهل هذا العمل عملٌ منطقيٌّ؟ فهل أنا وأنت مالكان لهذا الطفل كي نمنح مثل هذا الإذن لأنفسنا بأنّ نقوم بإخراج هذا الطفل ذو النفس والروح ـ وهو عبدٌ من عباد الله ـ من رحم أمّه وأن نئده؟! فأيّ حقٍّ هو هذا الحقّ؟! لا فرق بين الأمرين أبدًا، غاية الأمر نوع المسألة مختلفٌ، فالمختلف هو صورة القضية ليس إلا!

  • وكان هناك شخصٌ حاضرٌ، فخاطبني قائلًا: «لأنَّ هذا الجنين موجودٌ في ظروفٍ غير ملائمةٍ، ومن الممكن أن يحصل له نقصٌ، ممّا قد يصيبه بالأذى في فترة الحياة ما بعد الرحم، لذلك لنا الحقّ في التخلص منه!».

  • فقلت له: لو وُلِدَ ابنٌ صحيحٌ سالمٌ إلى الدنيا، وبعد مضيّ شهرٍ من عمره وبسببِ مرضٍ أو عارضٍ ما قُطِعت أحد أقدامه، فهل تتخلص منه؟ ولو ولد ابن وبعد مضي عامين من عمره قُطعت يده أو أصيب بالعمي، فهل منطقك وحجّتك وبرهانك يسمح أن تقول: هذا ناقصٌ، ولأنّه ناقصٌ وسيسبب الانزعاج لنفسه والأذى للآخرين، لذا لا بد أن يزول؟! إذن اعلم إنّنا ما زلنا نحيا في تلك الحقبة التي كان العرب الجاهليون يعيشون فيها، ونفس تلك الأفكار تجول في أذهاننا ونعمل وفقًا لها!

  • {وَلَا تَقۡتُلُوٓاْ أَوۡلَٰدَكُمۡ خَشۡيَةَ إِمۡلَٰقٖ نَّحۡنُ نَرۡزُقُهُمۡ وَإِيَّاكُمۡ إِنَّ قَتۡلَهُمۡ كَانَ خِطۡ‍ٔٗا كَبِيرٗا}.۱

  • {وَإِذَا ٱلۡمَوۡءُۥدَةُ سُئِلَتۡ ، بِأَيِّ ذَنۢبٖ قُتِلَتۡ}.٢

  • إنّنا نرى أنّ الأنانيّات والتفاخر الجاهلي وسائر الأفكار الجاهليّة الأخرى التي كان موجودةً في زمان النبيّ، موجودةٌ الآن في زماننا بعينها، فمن باب المثال: نسبُنا كذا وكذا، أبي فلانٌ، موقعيّتي الاجتماعيّة كذا وكذا! فجميع ما كان موجودًا في الزمان الماضي، فهذه القضايا بعينها موجودةٌ بين المسلمين، بل موجودةٌ بيننا أيضًا،

    1. . سورة الإسراء (۱۷)، الآية ٣۱.
    2. . سورة التكوير (۸۱)، الآيتان ۸ و ٩.

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

7
  • لقد وصل بالعرب الجاهليّين إلى الحدّ الذي نزلت فيه آية قرآنيّة تقول:

  • {أَلۡهَىٰكُمُ ٱلتَّكَاثُرُ ، حَتَّىٰ زُرۡتُمُ ٱلۡمَقَابِرَ ، كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوۡفَ تَعۡلَمُونَ ، كَلَّا لَوۡ تَعۡلَمُونَ عِلۡمَ ٱلۡيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ ٱلۡجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيۡنَ ٱلۡيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسۡ‍َٔلُنَّ يَوۡمَئِذٍ عَنِ ٱلنَّعِيمِ}.۱

  • يقول الله تعالى: لقد أدى تفاخركم وانتسابكم لآبائكم وأجدادكم أن تذهبوا إلى المقابر وتعدّوا قبور آبائكم وأجدادكم لتثبتوا علوّ قومٍ على قومٍ، فيكون زيادة نسل قومٍ عن نسل قوم آخر من أسباب تفاخركم!

  • ألا توجد عين هذه القضيّة فيما بيننا، هي موجودة بعينها! لا يوجد فرق بيننا وبينهم! ولهذا يقول الله تعالى: لكي تخرجوا من هذه الصفات والسنن الجاهليّة عليكم ان تنتخبوا أسوةً لأنفسكم، وتلك الأسوة هي وجود النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله:

  • {لَّقَدۡ كَانَ لَكُمۡ فِي رَسُولِ ٱللَهِ أُسۡوَةٌ حَسَنَةٞ لِّمَن كَانَ يَرۡجُواْ ٱللَهَ وَٱلۡيَوۡمَ ٱلۡأٓخِرَ وَذَكَرَ ٱللَهَ كَثِيرٗا}.٢

  • وهناك رواياتٌ في باب ضرورة الاقتداء بسيرة رسول الله وسنّته،

  • فقد ورد في إحدى الروايات: «خَيرُ السُّنَنِ سُنّةُ نَبيّكُم»؛٣

  • إذا كان هناك شخص يرغب في اتباع منهجٍ ما، ويُريد أن يضع قوانين ذلك المنهج نصب عينيه، فعليه أن يتّبع النبيّ الأكرم!

  • فإنَّ نفس النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم قال في أيّامه الأخيرة من حياته والمليئة بالمحتوى وبالبركة: «لا نَبيَّ بَعدي ولا سُنّةَ بَعدَ سُنَّتي»٤، فكما ليس هناك من نبيٍّ سيأتي من بعدي، فكذلك لن يكون هناك شخصٌ تُأخذ بسنته، فلن تكون هناك سنّةٌ بعد سنّتي.

  • وقال أمير المؤمنين عليه السلام حول سنّة النبيّ الأكرم: «واقتَدوا بِهَدى نَبيّكم فإنّهُ أفضَلُ الهَدى، واستَنّوا بِسُنَّتِهِ فإنّها أهدى السُّنَنِ»٥، يعني: «اقتدوا بهدى النبيّ الأكرم، واسلكوا السبيل من خلال النور الذي أرسله لكم، فإنَّ هدى وهداية ذلك النور أفضل الهدى؛ وتأسوا بسنته، فإنَّ سنّته أشرف من كافة السنن».

  • ومن هنا ما سنفعله في هذه الأيّام ـ بحول الله المتعال وقوّته ـ هو تبيين سبيل النبي الأكرم وسلوكه طوال حياته؛ في مرحلة الطفولة وما قبل البعثة، وفي مرحلة البعثة، سواء في مكّة أو في المدينة، والحالات والخصائص التي كان عليها في تلك الأمور والأحوال والأزمنة الماضيّة، وأن نبين علاقات النبي مع النّاس وسلوكه طبقًا لصبره وسعته.

    1. . سورة التكاثر (۱۰٢).
    2. . سورة الأحزاب (٣٣)، الآية ٢۱.
    3. . تفسير القمّي، ج ۱، ص ٢٩۰:
      « وخَطَبَ رَسولُ‌ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فَقالَ بَعدَ أن حَمِدَ الله وأثنى عَلَيهِ: ”أیُّها النّاسُ، إنّ أصدَقَ الحَديثِ كتابُ الله، وأولى القَولِ كلِمةُ التّقوى وخَيرَ المِلَلِ مِلّةُ إبراهيمَ، وخَيرَ السُّنَنِ سُنّةُ مُحَمّدٍ، وأشرَفَ الحَديثِ ذِكرُ الله... .“»
    4. . الأمالي، الشيخ المفيد، ص ٥٣.
    5. . تحف العقول، ص ۱٥۰؛ نهج البلاغة (عبده)، ج ۱، ص ٢۱٦، مع أدنى تفاوت.

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

8
  • الخصائص الظاهريّة والجسمانيّة للنبيّ الأكرم

  • وبناءً لما ورد في الروايات بما يشمل روايات أهل السنّة والشيعة ـ فتقريبًا ما تمّ بيانه عن النبيّ متفقٌ عليه۱ ـ فقد كانت خصائص النبيّ الأكرم وفقًا للظاهر كالتالي:

  • كان النبيّ من الناحية الجسمانيّة معتدل القامَة.

  • وكان وجهه أبيضًا مائلًا للأحمر (أزهر اللون)، يعني: لم يكن أسمرًا كما هو المعتاد بالنسبة لمن يسكن في بلاد العرب وتلك الأماكن.

  • وكان عندما يتحدّث إلى شخص ما يتوجّه بكافّة وجوده إلى ذلك الشخص، وكان يُعطي كلامه الاهتمام بكافة حركاته وسكناته، وبعبارةٍ أخرى: لم يكن ليستمع لكلام شخصٍ بدون مبالاةٍ.

  • كان عندما يتحدّث إلى شخصٍ كان يوجّه جميع وجهه وظاهره ناحية ذلك الشخص، لا أنه يشيح بوجهه ويتحدّث؛ بل يقف في مقابل الشخص بكافة قامته ويتحدّث إليه.

  • كان النبيّ إذا غالبًا ينظر إلى الأسفل، وقليلًا ما كان يلتفت ناحية السماء.

  • كان عريض المنكبين.

  • كانت عظام النبيّ قويّةً.

  • ومن حيث البنيّة كان معتدلًا ومستوي القامة؛ يعني: كان صفات بنيته معتدلة، فأكتافه ويديه وأقدامه ذات تناسق واتساق مع بعضها البعض.

  • كانت أسنانه بيضاء، وكان مُفَلَّجُ‌ الأسنان؛ يعني: لم تكن أسنانه الأماميّة متلاصقة؛٢ وكانت أسنانه تلمع من شدة البياض، وكانت شديدة البياض بحيث ورد في الروايات: «كانت أسنانه بيضاء كبياض البَرَد»٣.

  • كان النّاس يعلمون أنَّ النبيّ الأكرم قد عبر من المكان بواسطة رائحة بدنه. فقد ورد لدينا في الرواية: «عَرَقُهُ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْك‌»٤ وهذا من الخصائص التي يختصّ بها النبيّ الأكرم!

  • وأمر آخر من خصائص النبيّ الأكرم هو أنَّه لم يكن له ظلٌّ.

  • كان النبيّ ينام ولكنّه كان يستطيع أن يسمع الأصوات. يقول النبيّ الأكرم: إنّنا معاشر الأنبياء تنام عيوننا ولا تنام قلوبنا.٥

  • ولدينا في الرواية أنّ النبيّ: «يَتَلَأْلَأُ وَجْهُهُ تَلَأْلُؤَ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْر» بحيث يجذب جميع الناس إليه.٦

  • كانت عينا النبيّ واسعتان.

  • حاجباه قويّان متّصلان.

  • وقد ورد لدينا في الرواية: إنّ شعر النبيّ كان طويلًا وكان يصل إلى أذنه، بل إلى شحمة أذنه.۷

  • ۱۷. يتحرّك ببطءٍ حين المشي، ولم يكن يخطو خطواتٍ طويلةٍ.

  • وخلاصة القول: كان وجود النبيّ أسوةً حسنةً لجميع الأفراد سواء من ناحية الظاهر أو من ناحية الباطن.۸

    1. . مطلع أنوار (النسخة الفارسيّة)، ج ٦، ص ٥۱٦:
      «لقد جاء في إحياء العلوم، الجزء ٢، من الصفحة ٣۱٢ إلى ٣٤٥ (وهو كتاب آداب المعيشة وأخلاق النبوّة) مسائل نفيسة حول محاسن أخلاق رسول الله، وكلامه وضحكه، وأخلاقه في المطعم والمشرب، ولباسه، وعفوه وکظمه للغيظ وإغضائه عمّا يكرَهُه، وسخاؤه وشجاعته وتواضعه، و شمائل صورته، ومعجزاته؛ وقد خرّج العراقي في التعليقة مصادرها من أحاديث العامّة».
    2. . تفسير العيّاشي، ج ۱، ص ٢۰٣؛ عيون أخبار الرّضا عليه السّلام، ج ۱، ص ٣۱٦.
    3. . عيون أخبار الرّضا عليه السّلام، ج ۱، ص ٣۱۷.
    4. . الأمالي، الشيخ الطوسي، ص ٣٤۱.
    5. . بصائر الدرجات، ج ۱، ص ٤٢۰:
      «عَن زُرارةَ عَن أبي ‌جَعفَرٍ عليه السّلام قالَ: قالَ رَسولُ ‌اللهِ صلّی الله عليه و آله وسلّم: ”إنّا مَعاشِرَ الأنبیاءِ تَنامُ عُيونُنا ولا تَنامُ قُلوبُنا، ونَرى مِن خَلفِنا كَما نَرى مِن بَينِ أيدينا“»
    6. . عيون أخبار الرّضا عليه السّلام، ج ۱، ص ٣۱٦.
    7. . المصدر نفسه.
    8. . لمزيدٍ من الإطلاع على الخصائص الظاهريّة ومكارم أخلاق النبيّ الأكرم، يرجى الرجوع إلى: معاني الأخبار، ص ۷٩ ـ ۸٤؛ مكارم الأخلاق، ص ۱۱ ـ ۱٥؛ بحار الأنوار، ج ۱٦، ص ۱٤۸. عيون أخبار الرّضا عليه السّلام، ج ۱، ص ٣۱٦ ـ ٣۱٩:
      «علیُّ بنُ موسَى بنِ جَعفَرِ بنِ مُحَمّدٍ عَن موسَى بنِ جَعفَرِ بنِ مُحَمّدٍ [عَن جَعفَرِ بنِ مُحَمّدٍ] عَن أبيهِ [عَن] عَلیّ بنِ الحُسَينِ عَليهِم السّلامُ قالَ: قالَ الحَسَنُ بنُ عَلی بنِ أبي ‌طالِبٍ عليه السّلامُ: سألتُ خالي هِندَ بنَ أبي ‌هالةَ عَن حِليةِ رَسولِ ‌اللهِ صلّى الله عليه وآله و سلّم ـ وكانَ وَصّافًا لِلنبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ـ فَقالَ:
      كانَ رَسولُ ‌اللهِ فَخمًا مُفَخَّمًا يَتَلألأُ وَجهُهُ تَلألُؤَ القَمَرِ لَيلةَ البَدرِ، أطوَلَ مِنَ المَربوعِ وأقصَرَ مِنَ المُشَذَّبِ، عَظيمَ الهامةِ، رَجِلَ الشّعرِ، إذا انفَرَقَت عَقيقَتُهُ فَرَقَ وإلّا فَلا يُجاوِزُ شَعرُهُ شَحمةَ أُذُنَيهِ إذا هوَ وَفَّرَهُ؛ أزهَرَ اللّونِ، واسِعَ الجَبینِ، أزَجَّ الحاجِبَینِ سَوابِغَ في غَیرِ قَرَنٍ، بَينَهُما عِرقٌ یُدِرُّهُ الغَضَبُ، أقنَی العِرنینِ، لَهُ نورٌ یَعلوهُ یَحسَبُهُ مَن لَم یَتأمّلهُ أشَمَّ؛ کَثَّ اللِّحیةِ، سَهلَ الخَدّینِ، ضَلیعَ الفَمِ، أشنَبَ مُفَلَّجَ الأسنانِ، دَقیقَ المَسرُبةِ، کأنّ عُنُقَهُ جیدُ دُمیةٍ فی صَفاءِ الفِضّةِ؛ مُعتَدِلَ الخَلقِ، بادِنًا مُتَماسِكًا، سَواءَ البَطنِ و الصّدرِ، بَعيدَ ما بَينَ المَنكبَينِ، ضَخمَ الكَراديسِ، أنوَرَ المُتَجَرِّدِ، مَوصولَ ما بَينَ اللَّبَّةِ والسُّرّةِ بِشَعرٍ يَجري كالخَطِّ، عاريَ الثّديَينِ والبَطنِ وما سِوى ذَلِكَ، أشعَرَ الذِّراعَينِ والمَنكِبَينِ وأعالي الصّدرِ؛ طَويلَ الزّندَينِ، رَحبَ الرّاحةِ، شَثِنَ الكفّينِ والقَدَمَينِ، سائِلَ الأطرافِ، سَبِطَ القَصَبِ، خُمصانَ الأخمَصَينِ، مَسيحَ القَدَمَينِ يَنبو عَنهُما الماءُ؛ إذا زالَ زالَ تَقَلُّعًا، يَخطو تَكَفّيًا ويَمشي هَونًا، ذَريعَ المِشيةِ، إذا مَشى كأنّما يَنحَطُّ مِن صَبَبٍ، و إذا التَفَتَ التَفَتَ جَمیعًا؛ خافِضَ الطّرفِ، نَظَرُهُ إلى الأرضِ أطوَلُ مِن نَظَرِهِ إلى السّماءِ، جُلُّ نَظَرِهِ المُلاحَظةُ، يَبدُرُ مَن لَقيَهُ بِالسّلامِ. 
      قالَ: قُلتُ: صِف لي مَنطِقَهُ! فَقالَ: كانَ صلّى الله عليه وآله وسلّم مُتَواصِلَ الأحزانِ، دائِمَ الفِكرةِ، لَيسَت لَهُ راحةٌ، ولا يَتَكَلّمُ في غَيرِ حاجةٍ، يَفتَتِحُ الكَلامَ ويَختِمُهُ بِأشداقِهِ، يَتَكَلّمُ بِجَوامِعِ الكَلِمِ فَصلًا لا فُضولَ فيهِ ولا تَقصيرَ، دَمِثًا لَيسَ بِالجافي ولا بِالمَهينِ؛ تَعظُمُ عِندَهُ النِّعمةُ وإن دَقَّت، لا يَذُمُّ مِنها شَيئًا غَيرَ أنّهُ كانَ لا يَذُمُّ ذَوّاقًا ولا يَمدَحُهُ، ولا تُغضِبُهُ الدّنيا وما كانَ لَها، فإذا تُعوطِيَ الحَقُّ لَم يَعرِفهُ أحَدٌ، و لَم يَقُم لِغَضَبِهِ شَي‌ءٌ حَتّى يُنتَصَرَ لَهُ؛ وإذا أشارَ أشارَ بِكَفِّهِ كُلِّها، وإذا تَعَجّبَ قَلَبَها، وإذا تَحَدّثَ قارَبَ يَدَهُ اليُمنى مِنَ اليُسرى فَضَرَبَ بِإبهامِهِ اليُمنى راحةَ اليُسرى، وإذا غَضِبَ أعرَضَ بِوَجهِهِ وأشاحَ، وإذا فَرِحَ غَضَّ طَرفَهُ، جُلُّ ضِحكِهِ التّبَسُّمُ يَفتَرُّ عَن مِثلِ حَبِّ الغَمامِ.
      قالَ الحَسَنُ عليه السّلام: فَكَتَمتُ هَذا الخَبَرَ عَنِ الحُسَينِ عليه السّلام زَمانًا ثُمّ حَدّثتُهُ، فَوَجَدتُهُ قَد سَبَقَني إلَيهِ وسألَهُ عَمّا سألتُهُ عَنهُ، فَوَجَدتُهُ قَد سألَ أباهُ عَن مَدخَلِ النّبيّ صلّى الله عليه وآله ومَخرَجِهِ ومَجلِسِهِ وشَكلِهِ، فَلَم يَدَع مِنهُ شَيئًا.
      قالَ الحُسَينُ عليه السّلام: سألتُ أبي عليه السّلام عَن مَدخَلِ رَسولِ ‌اللهِ صلّى الله عليه وآله، فَقالَ: كانَ دُخولُهُ لِنَفسِهِ مأذونًا لَهُ في ذَلِكَ (ولم يكن بحاجة لإذنٍ من زوجاته)، فإذا أوى إلى مَنزِلِهِ جَزّأ دُخولَهُ ثَلاثةَ أجزاءٍ: جُزءًا لِلّهِ تَعالى و جُزءًا لِأهلِهِ وجُزءً لِنَفسِهِ؛ ثُمّ جَزّءَ جُزأهُ بَينَهُ وبَينَ النّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالخاصّةِ عَلَى العامّةِ، ولا يَدّخِرُ عَنهُم مِنهُ شَيئًا؛ وكانَ مِن سيرَتِهِ في جُزءِ الأُمّةِ إيثارُ أهلِ الفَضلِ بِإذنِهِ، وقَسّمَهُ عَلى قَدرِ فَضلِهِم في الدّينِ، فَمِنهُم ذو الحاجةِ ومِنهُم ذو الحاجَتَينِ ومِنهُم ذو الحَوائِجِ فَيَتَشاغَلُ ويَشغَلُهُم فيما أصلَحَهُم وأصلَحَ الأُمّةَ مِن مَسألَتِهِ عَنهُم وإخبارِهِم بِالّذي يَنبَغي؛ويَقولُ: ليبَلِّغِ الشّاهِدُ مِنكُمُ الغائِبَ، وأبلِغوني حاجةَ مَن لا يَقدِرُ عَلى إبلاغِ حاجَتِهِ؛ فإنّهُ مَن أبلَغَ سُلطانًا حاجةَ مَن لا يَقدِرُ عَلى إبلاغِها، ثَبّتَ اللهُ قَدَمَيهِ يومَ القيامةِ!
      لا يُذكَرُ عِندَهُ إلّا ذَلِكَ ولا يَقبَلُ مِن أحَدٍ غَيرَهِ، يَدخُلونَ رُوّادًا ولا يَفتَرِقونَ إلّا عَن ذَواقٍ، ويَخرُجونَ أدِلّةً فُقَهاءَ.
      فَسألتُهُ عَن مَخرَجِ رَسولِ ‌اللهِ صلّى الله عليه وآله كيفَ كانَ يَصنَعُ فيهِ، فَقالَ: كانَ رَسولُ‌ اللهِ صلّى الله عليه وآله يَخزُنُ لِسانَهُ إلّا عَمّا يَعنيِه، ويُؤلِفُهُم [أي: يؤلّف بين الناس] ولا يُنَفِّرُهُم؛ ويُكرِمُ كَريم كُلِّ قَومٍ ويُوَلّيهِ عَلَيهِم، ويَحذَرُ النّاسَ ويَحتَرِسُ مِنهُم مِن غَيرِ أن يَطوِيَ عَن أحَدٍ بِشرَهُ ولا خُلُقَهُ، ويَتَفَقّدُ أصحابَهُ، ويَسألُ النّاسَ عَمّا في النّاسِ، و يُحَسِّنُ الحَسَنَ ويُقَوّيهِ، ويُقَبِّحُ القَبيحَ ويوهِنُهُ [بلا إفراطٍ أو تفريط]؛ مُعتَدِلَ الأمرِ غَيرَ مُختَلِفٍ، لا يَغفُلُ مَخافةَ أن يَغفُلوا أو يَميلوا [أي: ينحرفوا]، ولا يَقصُرُ عَنِ الحَقِّ ولا يَجوزُهُ، الّذينَ يَلونَهُ مِنَ النّاسِ خيارُهُم، أفضَلُهُم عِندَهُ أعَمُّهُم نَصيحةً [أي: أكثرهم إخلاصًا ورغبة بالخير] لِلمُسلِمينَ، وأعظَمُهُم عِندَهُ مَنزِلةً أحسَنُهُم مواساةً وموازَرةً.
      قالَ: فَسألتُهُ عَن مَجلِسِهِ، فَقالَ: كانَ صلّى الله عليه وآله لا يَجلِسُ ولا يَقومُ إلّا عَلى ذِكرٍ، ولا يِوطِنُ الأماكِنَ ويَنهى عَن إيطانِها، وإذا انتَهى إلى قَومٍ جَلَسَ حَيثُ يَنتَهي بِهِ المَجلِسُ ويأمُرُ بِذَلِكَ، ويُعطي كُلّ جُلَسائِهِ نَصيبَهُ حَتّى لا يَحسَبُ أحَدٌ مِن جُلَسائِهِ أنّ أحَدًا أكرَمُ عليه مِنهُ؛ مَن جالَسَهُ صابَرَهُ حَتّى يَكونَ هوَ المُنصَرِفَ عَنهُ، مَن سألَهُ حاجةً لَم يَرجِع إلّا بِها أو بِمَيسورٍ مِنَ القَولِ، قَد وَسِعَ النّاسَ مِنهُ خُلُقُهُ و صارَ لَهُم أبًا رَحيمًا وصاروا عِندَهُ في الحَقِّ سَواءً؛ مَجلِسُهُ مَجلِسُ حِلمٍ وحَياءٍ وصِدقٍ وأمانةٍ، لا تُرفَعُ فيهِ الأصواتُ، ولا تُؤبَنُ فيهِ الحُرَمُ [أي: لا تهتك]، ولا تُثنى فَلَتاتُهُ [أي: لا يُجاب على من أخطأ وفلتت منه فلتة، بل يتجاوز عنه]، مُتَعادِلينَ مُتَواصِلينَ فيهِ بِالتّقوى مُتَواضِعينَ، يوَقِّرونَ الكبيرَ ويَرحَمونَ الصّغيرَ، ويُؤثِرونَ ذا الحاجةِ ويَحفَظونَ الغَريبَ.
      فَقُلتُ: كيفَ كانَ سيرَتُهُ في جُلَسائِهِ؟ فَقالَ: كانَ دائِمَ البِشرِ، سَهلَ الخُلُقِ، لَيّنَ الجانِبِ، لَيسَ بِفَظٍّ ولا غَليظٍ، ولا صَخّابٍ ولا فَحّاشٍ، ولا عَيَابٍ ولا مَزّاحٍ ولا مَدّاحٍ، يَتَغافَلُ عَمّا لا يَشتَهي، فَلا يُؤيِسُ مِنهُ، ولا يُخَيّبُ فيهِ مُؤَمِّليهِ؛ قَد تَرَكَ نَفسَهُ مِن ثَلاثٍ: المِراءِ [أي: الجدل والنقاش]، والإكثارِ، وما لا يَعنيهِ؛ وتَرَكَ النّاسَ مِن ثَلاثٍ: كانَ لا يَذُمُّ أحَدًا ولا يُعيِّرهُ، ولا يَطلُبُ عَثَراتِهِ ولا عَورَتَهُ، ولا يَتَكلّمُ إلّا فيما رَجا ثَوابَهُ؛ إذا تَكَلّمَ أطرَقَ جُلَساؤُهُ كأنّما عَلى رُؤوسِهِمُ الطّيرُ، وإذا سَكَتَ تَكَلّموا، ولا يتَنازَعونَ عِندَهُ الحَديثَ، و إذا تَكَلّمَ عِندَهُ أحَدٌ أنصَتوا لَهُ حتّى يَفرُغَ مِن حَديثِهِ؛ يَضحَكُ مِمّا يَضحَكونَ مِنهُ، ويَتَعَجّبُ مِمّا يَتَعَجّبونَ مِنهُ، ويَصبِرُ لِلغَريبِ عَلَى الجَفوةِ في المَسألةِ والمَنطِقِ، حَتّى إن كانَ أصحابُهُ لَيَستَجلِبونَهُم ويَقولُ: إذا رأيتُم طالِبَ حاجةٍ يَطلُبُها فارفِدوهُ [أي: ساعدوه في حاجته]!
      ولا يَقبَلُ الثّناءَ إلّا مِن مُكافِئٍ، ولا يَقطَعُ عَلى أحَدٍ كَلامَهُ حَتّى يَجوزَهُ [أي: يتجاوز الحدّ] فَيَقطَعَهُ بِنَهيِ أو قيامٍ [أي: بأن يقوم من المجلس].
      قالَ: فَسألتُهُ عَن سُكوتِ رَسولِ‌ اللهِ صلى الله عليه وآله، فَقالَ عليه السّلام: كانَ سُكوتُهُ عَلى أربَعٍ: الحِلمِ والحَذَرِ والتّقديرِ والتّفَكُّرِ؛ فأمّا التّقديرُ فَفي تَسويةِ النّظَرِ والِاستِماعِ بَينَ النّاسِ، وأمّا تَفَكُّرُهُ فَفي ما يَبقى ويَفنى، وجُمِعَ لَهُ الحِلمُ في الصّبرِ فَكانَ لا يُغضِبُهُ شَيءٌ ولا يَستَفِزُّهُ، وجُمِعَ لَهُ الحَذَرُ في أربَعٍ: أخذِهِ الحَسَنَ ليُقتَدى بِهِ وتَركِهِ القَبيحَ ليُنتَهى عَنهُ واجتِهادِهِ الرّأيَ في إصلاحِ أُمّتِهِ والقيامِ فيما جَمَعَ لَهُم مِن خَيرِ الدّنيا والآخِرةِ، صَلَواتُ اللهِ عليه وآلِهِ الطّاهِرينَ». 

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

9
  • كانت هذه هي الخصائص الظاهريّة للنبي الأكرم وبعض خصائصه الروحيّة. وقد نقلت العديد من الروايات التي تُبيّن خصائصه، ولكنّنا بصدد بيانٍ مختصرٍ للخصائص الظاهريّة ومقدارٍ من الخصائص الروحيّة والأخلاقيّة للنبيّ الأكرم، التي قد نستفيد منها في المحاضرات القادمة.

  • ولادة النبيّ، وتاريخ وفاة أبيه وأمّه وجدّه

  • وأمّا فيما يتعلق بولادته، فطبقًا لما هو موجود في الروايات، فقبل أن يأتي النبي إلى الدنيا، كان والده عبد الله في سفرٍ من الشام إلى مكّة، وتوفي في طريقه إلى مكّة، ومات في المدينة، ودفن هناك؛ في حين كان النبيّ الأكرم في بطن أمّه.۱ وبعد مضيّ عدّة سنوات من عمره الشريف، فقد أمّه آمنة.٢

  • {أَلَمۡ يَجِدۡكَ يَتِيمٗا فَ‍َٔاوَىٰ ، وَوَجَدَكَ ضَآلّٗا فَهَدَىٰ}.٣

  • فلسفة وفاة والديّ النبيّ الأكرم

  • لقد سئل الإمام الصادق عليه السلام: لماذا فقد النبي الأكرم والده وهو في بطن أمّه، ثمّ بعد عدّة سنوات من ذلك فقد أمّه أيضًا، فقال الإمام الصادق عليه السلام: 

  • كي (يكون أمر تربيته وتكامله موكولًا إلى الله فقط) ولا يكون لأي عبدٍ من عباد الله منّة عليه ( في تربيته وتعليمه).٤

  • وهذا أمرٌ عجيبٌ! يعني: على الإنسان أن يُدقق واقعًا في أنّه لماذا يجب أن يفقد النبيّ الأكرم الذي على عاتقه الرسالة العالميّة والده منذ الطفولة، وأن يفقد أمّه، وأن يفقد جدّه عبد المطلب حينما كان في الثامنة من عمره، ويصبح في كفالة عمّه أبو طالب؟! فجميع هذه الأمور أطوارٌ وحالاتٌ تتلازم مع تكامل روح النبيّ، وتتلازم مع سعة صدره، ويجب أن تتحقق هذه الأمور بحيث تستطيع تلك الروح والنفس التي ينبغي عليها تحصيل الاستعداد لمثل هذه الزعامة في هذا العالم، أن تحصل ذلك الاستعداد ويصبح بالإمكان بناؤها، ويُمكن أن تقبل مثل هذه الموقعيّة وأن تتحمل مثل هذه المسؤوليّة.

  • لقد فقد النبيّ الأكرم أمّه السيّدة آمنة منذ طفولته، بعد ذلك، جعل الله هذا الشخص وهذا النبيّ الذي كان منذ طفولته تحت الهداية الإلهيّة وتحت تربية الله وكفالته، أسوةً لنا.

  • خطبة أمير المؤمنين حول الهداية الخاصّة برسول الله منذ ولادته

  • يقول أمير المؤمنين عليه السّلام في نهج البلاغة:

    1. . الإتحاف بحبّ الأشراف، الشبراوي، ص ٢٤٤ و ٢٤۷؛ قصص الأنبياء، الراوندي، ص ٣۱٦.
    2. . والجدير بالذكر: إنَّ الروايات مختلفةٌ في ذكر العمر الشريف للنبيّ الأكرم حين وفاة والدته المحترمة، وتراوحت بين الأربع أو الخمس أو الست سنوات. لمزيدٍ من الاطلاع، يرجى الرجوع إلى الإتحاف بحبّ الأشراف، الشبراوي، ص ٢٤٦ و ٢٤۸؛ مناقب آل أبي ‌طالب عليهم السّلام، ج ۱، ص ۱۷٣.
    3. . سورة الضحی (٩٣)، الآیة ٦ و ۷.
    4. . الإتحاف بحب الأشراف، الشبراوي، ص ٢٤۸: «و قيلَ لِجعفرٍ الصّادقِ رضي اللهُ عنه: لِمَ يُتِمَ رسولُ‌ الله صلّى الله عليه و آله وسلّم مِن أبوَيهِ؟ فَقالَ: ”لِئلّا يَكونَ عَليهِ حقٌّ لِمَخلوقٍ.“»
      عيون أخبار الرضا عليه السّلام، ج ٢، ص ٤٦: «عَن جَعفَرِ بنِ محمّدٍ عَن أبيهِ قالَ: سُئِلَ علیُّ بنُ الحُسَينِ عليهم السّلام: لِمَ أُوتِمَ النّبيُّ صلّى الله عليه وآله و سلّم مِن أبَوَيهِ؟ قالَ: ”لِئَلّا يَجِبَ عليه حَقٌّ لِمَخلوقٍ“».

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

10
  • «ولَقَد قَرَنَ اللهُ بِهِ صَلّى اللهُ عَليهِ وآلِهِ مِن لَدُن أن كانَ فَطيمًا أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكتهِ، يَسلُكُ بِهِ طَريقَ المَكارِمِ ومَحاسِنِ أخلاقِ العالَمِ، لَيلَهُ ونَهارَهُ.

  • أي: إنَّ الله تعالى قد قرن بالنبيّ أكبر وأقرب وأعظم مَلَك من الملائكة منذ أن كان رضيعًا وطفلًا (ومنذ أن كان طفلًا معصومًا لم يرتكب أيّ خطأ أو اشتباه ولم يرتكب أيّ معصيّة، وكان يسير ويسيح في عالم ما فوق العالم المادّي وفوق عالم الدنيا) كي يتعلّم سبيل مكارم الأخلاق ومسير الكمال النفساني وثقافة الكرامة واعتلاء الأخلاق الإلهيّة، فوضعه تحت تربيته وتعليمه في ليله ونهاره.

  • النبيّ الأكرم أسوةٌ حسنةٌ منذ طفولته إلى حين وفاته

  • ولذلك نحن نرى أنَّ ذلك المَلَك يتحرك وفقًا للإرادة الإلهيّة ووفقًا للهداية الإلهية طيلة أيّام النبيّ ولياليه! لذلك يجب ان نستقي من حياة النبي الأكرم ونضعه أسوةً لنا منذ زمان طفولته، لا منذ زمان بعثته!

  • ثمَّ يقول أمير المؤمنين عليه السّلام:

  • «ولَقَد كُنتُ أتَّبِعُهُ اتّباعَ الفَصيلِ أثَرَ أُمِّه، يَرفَعُ لي في كُلِّ يومٍ مِن أخلاقِهِ عَلَمًا ويأمُرُني بِالِاقتِداءِ بِهِ».۱

  • أي: منذ أن كنتُ في حضن النبيّ الأكرم، كان في كلّ يومٍ

  • يُبيّن لي أحد الأخلاق الحسنة أو مَكرُمةً من المكارم الإلهيّة، ويضعني في وادي المكارم والتكامل، ويأمرني أن اتبع ذلك السبيل.

  • وقد رأيت شاهدًا على هذا المدعى في أحد الروايات:

  • في أحد الأيّام كان النبيّ برفقة عدّةٍ من أطفال مكّة يجمعون الحصى وينقلونها من مكان إلى آخر، أي: إنّهم كانوا منشغلين باللعب (وكان عرب مكّة الكبار والصغار يرتدون ثوبًا طويلًا، ومن الممكن أن يكون هذا الثوب هو الساتر الوحيد ولا شيء آخر) وفي بعض الأحيان كانوا يرفعون الثوب ليجمعون فيه الحصى وينقلونه؛ وفي احد المرات همّ النبيّ ليرفع ثوبه ويضع من هذه الحصى في حجره، فأتى جبرائيل وضربه على يده، فأسدل النبيّ ثوبه وسقطت تلك الحصى على الأرض، ففهم النبيّ أنّه لا يجب أن يرفع ثوبه!٢

  • هذا معنى قوله:

  • «ولَقَد قَرَنَ اللهُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلیهِ وآلِهِ مِن لَدُن أن كانَ فَطيمًا أعظَمَ مَلَكٍ مِن مَلائِكتهِ».

  • بناءً على هذا، علينا نحن أن ننظّم أسلوبنا وبرنامجنا وفقًا لذلك! فلا ينبغي لنا أن نقول: إنَّه طفلٌ، فلا بأس! لا ينبغي أن نقول: إنّه طفلٌ، فلا عيب في ذلك! يجب علينا أن نسوق أطفالنا على ذلك النهج، وفي ذلك المسير، كما كان ذلك المَلَك يسوق النبيّ الأكرم منذ طفولته نحو مكارم الأخلاق.

    1. . نهج البلاغة (عبده)، ج ٢، ص ۱٥۷.
    2. . بحار الأنوار، ج ۱٥، ص ٣٦٣؛ دلائل النبوّة، البیهقي، ج ٢، ص ٣۱:
      «عَن رسولِ ‌اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله و سلّم، أنّهُ قالَ فيما يَذكُرُ مِن حِفظِ اللهِ إيّاه: ”إنّي لَمَعَ غِلمانٍ هُم أسناني قد جَعلنا أُزُرَنا على أعناقِنا لحِجارةٍ نَنقُلُها نَلعَبُ بها، إذ لَكَمَني لاكِمٌ لَكمَةً شَديدةً، ثمّ قالَ: اُشدُد عَليكَ إزارَكَ!“»

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

11
  • بشارة الأنبياء السابقين بظهور النبيّ الأكرم

  • لقد تمّ التبشير بولادة النبيّ الأكرم منذ القدِم، وذلك في كتب الأنبياء السالفين والأنبياء الماضيين.۱ وينقل سبط بن الجوزي روايةً عن النبيّ الأكرم، أنَّه كان يقول:

  • أنا بشارة إبراهيم الخليل! وأنا الذي بشركم بولادته النبي عيسى عليه السلام! أنا الذي شعرت بوجودي وبولادتي أمي وأمّ الأنبياء السابقين.٢

  • وقد وردت في ذلك آيات في سورة البقرة ترتبط بالنبي إبراهيم عليه السّلام، حيث دعا هناك إبراهيم عليه السّلام أدعيّةً عجيبةً:

  • {وَإِذۡ يَرۡفَعُ إِبۡرَٰهِ‍ۧمُ ٱلۡقَوَاعِدَ مِنَ ٱلۡبَيۡتِ وَإِسۡمَٰعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلۡ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلسَّمِيعُ ٱلۡعَلِيمُ ، رَبَّنَا وَٱجۡعَلۡنَا مُسۡلِمَيۡنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةٗ مُّسۡلِمَةٗ لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبۡ عَلَيۡنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ}.٣

  • فهناك كان أحد أدعية النبيّ إبراهيم وطلباته من الله تعالى، هو ما يلي: {رَبَّنَا وَٱبۡعَثۡ فِيهِمۡ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَيُزَكِّيهِمۡ}؛٤ فهذا الدعاء، هو تلك الآية التي تتحدّث عن النبيّ الأكرم:

  • {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ ٱلۡمَلِكِ ٱلۡقُدُّوسِ ٱلۡعَزِيزِ ٱلۡحَكِيمِ ، هُوَ ٱلَّذِي بَعَثَ فِي ٱلۡأُمِّيِّ‍ۧنَ رَسُولٗا مِّنۡهُمۡ يَتۡلُواْ عَلَيۡهِمۡ ءَايَٰتِهِۦ وَيُزَكِّيهِمۡ وَيُعَلِّمُهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡحِكۡمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبۡلُ لَفِي ضَلَٰلٖ مُّبِينٖ}.٥

  • نرى أنَّ الآية التي ذكرها الله في القرآن المجيد حول خصائص النبيّ الأكرم تنطبق على نفس الآية وعلى نفس طلب النبي إبراهيم عليه السلام ودعائه. ونحن نرى أنَّ بشارات الأنبياء السابقين حول البعثة ومولد النبيّ الأكرم قد بلغت حدًا في كتاب العهدين (كتاب النصارى وكتاب النبيّ موسى عليهما السلام) بحيث دفعت أبو نعيم الأصفهاني أن يقول:

  • في زمن النبيّ الأكرم، كانت مسألة البشارة بالنبيّ الأكرم عند اليهود والنصارى مسلّمةً ويقينيّةً، بحيث أنّهم كانوا حين ولادة النبيّ وعند البعثة، وعندما كانوا يرجعون إليه، كانوا كأنّما يواجهون حقيقةً ضروريّة التحقّق ومسألةً علميّةً متيقنةً!٦

  • إيمان جناب «تُبّع» برسول الله قبل ألف سنةٍ من ولادة النبيّ صلى الله عليه وآله

  • وينقل ابن شهر آشوب في مناقبه أنّه:

  • كان أحد حُكّام اليمن اسمه «تُبَّع» ـ وقد ورد اسمه في القرآن: {وَقَوۡمُ تُبَّعٖ}،۷ ويُقال أنّه كان واحدًا من الأمراء الذين كانوا مسيطرين على كافة أرجاء العالم۸- فكان عندما يتحرّك في البلاد، فحيثما وصل، كان يجعل عشرةً من حكام تلك المدينة وتلك البلدة ملازمين له. وعندما وصل إلى مكّة المكرمة، كان هناك عددٌ العلماء الذين كانوا في ركابه خلال هذه الأسفار قد وصل عددهم أربعة آلاف عالم. وعندما وصل إلى مكّة، لم يحترمه أهل مكّة ذلك الاحترام، ولم يعظموه كما ينبغي، فاستاء؛ فقيل له: إنّ سبب عدم الاحترام هو هذا البيت٩ الذي لهم هناك! 

    1. . لمزيدٍ من الاطلاع على بشارة قدوم رسول الله في كتب الأنبياء السابقين، يرجى الرجوع إلى الخرائج والجرائح، ج ۱، ص ۷٣، فصل في ما ذكر فيه نبيّنا محمّد صلّى الله عليه و آله و سلّم في الكتب المتقدّمة.
    2. . المنتظم في تاريخ الأمم والملوك، ابن الجوزي، ج ٢، ص ٢٦٥؛ مناقب آل أبي ‌طالب عليهم السّلام، ج ۱، ص ٢٣٢؛ تاريخ المدينة دمشق، ابن‌ عساكر، ج ۱، ص ۱٦۸.
    3. . سورة البقرة (٢)، الآیتان ۱٢۷ ـ ۱٢۸.
    4. . سورة البقرة (٢)، الآیة ۱٢٩.
    5. . سورة الجمعة (٦٢)، الآیتان ۱ و ٢.
    6. . خورشید مغرب [=شمس المغرب]، ص ٦٥، نقلًا عن نعت المهدي ومناقب المهدي، أبي ‌نعيم الأصفهاني.
    7. . سورة ق (٥۰)، الآیة ۱٤.
    8. . مجمع البحرين، ج ٤، ص ٣۰٥.
    9. . يعني: بيت الله الحرام.

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

12
  • فاستاء «تبّع» من ذلك، ونوى أن يهدم مكّة، وأن يهدم الكعبة، وأن يقتل أهل مكّة قتلًا عامًا. وعندها أصابه مرضٌ، وابتلي به؛ فأصيب بالالتهابات في رأسه بحيث عجز الأطباء عن علاجه، وقالوا: هذا المرض هو من السماء، ونحن لا نستطيع أن نفهم ما هي حقيقته! 

  • أحد العلماء الذين كانوا ملازمين له، التقى بوزيره في خلوة، وقال له: لدي خبر للسلطان، فإن كان بالإمكان أن أعرضه عليه!

  • عندما حضر ذلك العالم إلى محضر «تبّع»، قال له: هل نويت نيّة سيّئةً حتّى ابتليت بهذه البليّة وبهذه المصيبة؟

  • فقال: نعم نويتُ أن أهدم بيت الله والكعبة وأزيلها، لأنّ هؤلاء القوم لم يحترمونني، وهذا موجب لهتك احترامي!

  • فقال ذلك الشخص: تُب، واصرف النظر عن هذا العمل، فهذا البيت بيتٌ شريفٌ، وهذه النيّة هي نيّةٌ ظالمةٌ!

  • فتابَ وشُفيَ في حينها! ثمّ تحرك برفقة الأربعة آلاف عالم وأتى إلى المدينة؛ وعندما وصل إلى المدينة، بقي الأربعة آلاف عالم في المدينة وقالوا له: إنّ هذه الأرض الشريفة والمقدّسة هي لمَن كان ذلكَ البيتُ معززًا ومحترمًا ومكرّمًا بوجوده؛ وهذا الشخص، هو صاحب القرآن وصاحب اللواء وصاحب التوحيد، الذي سيولد في مكّة، وسيهاجر إلى يثرب وينزل فيها، ولن نرحل من هنا؛ لقد كنا برفقتك خلال أسفارك طوال هذه المدّة، والآن نستأذنك أن نبقى هنا (في المدينة المنوّرة)!

  • عندما سمع ذلك الأمير هذا الأمر، نوى أن يبقى في المدينة لمدّة عام، لعلّه يحظى بزيارة ذلك (النبيّ).

  • وبعد عامٍ وعندما أراد الحركة من المدينة، كتب رسالةً، وأودعها بيد ذلك العالم الذي قدّم له النصيحة، وقال: أوصل هذه الرسالة إلى يد النبيّ وأقرئه منّي السلام وأخبره أنّني أصبحت مُسلمًا! وفي تلك الرسالة كتب خطابًا موجّهًا للنبيّ الأكرم، قال فيها: أنّه أسلمَ، وطلب منه الشفاعة في تلك الرسالة.

  • ومضى على تلك القضية ألف سنةٍ؛ وبعد ألف سنة، وُلد النبيّ الأكرم وأصبح رسولًا، وعندما هاجر إلى المدينة قام أحد العلماء الذين كانت رسالة تبّع بحيازته، وأعطى الرسالة إلى شخصٍ باسم ابن أبي ليلى، وقال: أوصل هذه الرسالة إلى يد النبيّ! وكان النبيّ خارج المدينة. عندما وصل ابن أبي ليلى إلى محضر النبيّ، التفت النبيّ إلى ابن أبي ليلى وقال: «سلمني رسالة تبّع التي أحضرتها لي!».

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

13
  • ففتح الرسالة وسلمها لأمير المؤمنين عليه السّلام، فقرأ أمير المؤمنين عليه السلام الرسالة وقبل إسلامه وردّد ثلاثًا: «مرحبًا بالأخ الصالح!».۱

  • تيقن علماء اليهود والنصارى بولادة النبيّ الأكرم

  • قبل ألف سنةٍ وُفّق هذا الشخص وحصلت له التوفيق بأن يُبشّر بظهور النبيّ، وكان لدى العلماء الماضين علمًا يقيني ووجداني بظهور النبيّ، وكانوا يعلمون بظهور النبي وبرسالته، وقد بشّر النبي عيسى والنبي موسى عليهما السلام بظهور النبي صلّى الله عليه وآله، في كتب العهدين في مواطن عديدة وفي أماكن مختلفة.٢

  • آداب زيارة الإمام الحسين عليه السّلام

  • هذه الأيّام هي أيّام الأربعين، وهي أيّام زيارة حضرة سيّد الشهداء عليه السلام، وبناءً على ما ورد في التواريخ والروايات: فقد زار جابر بن عبد الله الأنصاري الإمام يوم الأربعين، وهناك مسائل مختلفة وردت في الروايات حول زيارته: فقد ورد في روايةٍ عن الإمام الصادق عليه السلام، أنّه:

  • على شيعتنا إذا أرادوا أن يذهبوا إلى زيارة سيّد الشهداء، فينبغي أن يذهبوا إلى هناك شُعثًا غبرًا جياعًا عطاشًا؛ لأنّ الإمام إنّما استشهد على هذه الحالة.٣

  • وقد تم التأكيد جدًا في العديد من الروايات على أنّه: 

  • عندما تذهب لزيارته اغتسل بماء نهر الفرات وارتدي ثوبًا طاهرًا.٤

  • وقد ورد في بعضها:

  • أمسك نعليك بيديك، وامش حافيًا مثل العبيد والغلمان لزيارة الإمام.٥

  • كيفية زيارة الأربعين من قبل جابر بن عبد الله الأنصاري وأسرار زيارته

  • كان جابر بن عبد الله من أصحاب النبيّ، وكان خبيرًا بالأحاديث ومطلّعًا على روح الإسلام، فاغتسل بماء الفرات، وتحرّك برفقة عطيّة (وهو أحد كبار علماء الحديث). يقولون: ارتدى ثوبين للزيارة؛ ارتدى واحدًا كإزارٍ، وألقى الأخرى على عاتقه مثل الإحرام،

  • وهذا الفعل والحركة من جابر هو فعل شخصٍ من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام المخلصين فهو يعلم باتّجاه من يتّجه؛ إنّه يتحرّك باتّجاه الكعبة الواقعيّة، ونحو حرم الأمن والأمان الإلهي:

  • {وَإِذۡ جَعَلۡنَا ٱلۡبَيۡتَ مَثَابَةٗ لِّلنَّاسِ وَأَمۡنٗا وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ مُصَلّٗى وَعَهِدۡنَآ إِلَىٰٓ إِبۡرَٰهِ‍ۧمَ وَإِسۡمَٰعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيۡتِيَ لِلطَّآئِفِينَ وَٱلۡعَٰكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ}. ٦

  • فهنا حرم الأمن الإلهي؛ هنا حيث أمر الله النبيّ إبراهيم أن يدعو النّاس إلى ذلك الحرم، وهذا المقام هو مقام الولاية! ذلك المقام هو مقام الطهارة!۷

    1. . مناقب آل أبي ‌طالب عليهم السّلام، ج ۱، ص ۱٥ و ۱٦، مع أدنى تفاوت.
    2. . راجع: بشارات العهدين.
    3. . كامل الزيارات، ص ۱٣۱:
      «عَن أبي‌عَبدِ اللهِ عليه السّلام قالَ: ”إذا أرَدتَ زيارةَ الحُسَينِ عليه السّلامُ فَزُرهُ وأنتَ كئيبٌ حَزينٌ مَكروبٌ شَعِثًا مُغيّرًّا جائِعًا عَطشانًا، فإنّ الحُسَينَ قُتِلَ حَزينًا مَكروبًا شَعِثًا مُغبَرًّا جائِعًا عَطشانًا؛ وسَلهُ الحَوائِجَ وانصَرِف عَنهُ ولا تَتّخِذهُ وَطَنًا.“».
    4. . المصدر نفسه، ص ۱٩۸:
      «قالَ [الصادقُ عليه السّلام]: ”إذا أتَيتَ أبا عَبدِ اللهِ عليه السّلامُ فاغتَسِل عَلى شاطِئِ الفُراتِ ثُمّ البَس ثيابَكَ الطّاهِرةَ ثُمّ امشِ حافيًا، فإنّكَ في حَرَمٍ مِن حَرَمِ اللهِ و حَرَمِ رَسولِهِ؛ وعَلَيكَ بِالتّكبيرِ والتّهليلِ والتّمجیدِ والتّعظيمِ لِلّهِ کَثیرًا والصّلاةِ عَلى مُحَمّدٍ وأهلِ بَيتِهِ حَتّى تَصيرَ إلى بابِ الحائِرِ... .“».
    5. . المصدر نفسه، ص ۱٣٣:
      «عَن أبي ‌الصّامِتِ قالَ سَمِعتُ أبا عَبدِ اللهِ عليه السّلام وهوَ يَقولُ: ”مَن أتى قَبرَ الحُسَينِ عليه السّلامُ ماشيًا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خُطوةٍ ألفَ حَسَنةٍ، و مَحا عَنهُ ألفَ سَيّئةٍ، ورَفَعَ لَهُ ألفَ دَرَجةٍ؛ فإذا أتَيتَ الفُراتَ فاغتَسِل وعَلِّق نَعلَيكَ وامشِ حافيًا وامشِ مَشىَ العَبدِ الذّليلِ... .“».
    6. . سورة البقرة (٢)، الآیة ۱٢٥. 
    7. . برنامج إكسير السعادة، متن بیانات تفسیری علاّمۀ طهرانی [= نصّ المحاضرات التفسيريّة للعلامة الطهراني]، ص ٤۸:
      «اليوم هو يوم الأربعين، وقد وردت روايةٌ في كتاب بشارة المصطفى ـ وهو الكتب النفيسة لدى الشيعة ـ من تأليف المرحوم عماد الدين الطبري الآملي، ينقل فيها بسلسلة سنده المتّصلة عن عطيّة أنّه قال: ”خَرَجْتُ مَعَ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ زَائِرَيْنِ قَبْرَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، فَلَمَّا وَرَدْنَا كَرْبَلَاءَ دَنَا جَابِرٌ مِنْ شَاطِئِ الْفُرَاتِ، فَاغْتَسَلَ ثُمَّ اتَّزَرَ بِإِزَارٍ وَ ارْتَدَى بِآخَرَ، ثُمَّ فَتَحَ صُرَّةً فِيهَا سُعْدٌ فَنَثَرَهَا عَلَى بَدَنِهِ، ثُمَّ لَمْ يَخْطُ خُطْوَةً إِلَّا ذَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى“.
      كنت أفكّر يومًا في هذا الموضوع، وهو غسل جابر وإحرامه، فلقد جاء في الروايات بأنَّه لو لم يكن لدى من ينوي الذهاب لأداء فريضة الحج لباس إحرام، فيمكنه الإحرام بلباسه، الذي يرتديه، غير أنَّ عليه أن يقلِبه عند اللبس، فعليه أن يقلب المعطف ويضعه على كتفيه بحيث تكون الأكمام متدلية إلى الأسفل، فهل كان جابر قد سمع من رسول الله أو أمير المؤمنين بأنَّ على مَنْ يعزم على زيارة قبر سيَّد الشهداء أو قبر أحد الأئمّة أن يغتسل ويُحرم أم أنَّه قد تفطّن لهذا الأمر بنفسه؟ فالفقيه هو ذلك الفرد الذي يتمكّن من تفريع الفروع عن أصولها.
      فكأنَّ روح الإسلام قد استقرّت في كيان جابر، وكأنَّه قد تذُّوق حقيقة الإسلام وتعرَّف على سرّ قوانينه؛ فهو يعلم بأنَّ للإحرام والغسل والزيارة والطواف الذي تمّ تشريعه لأداء فريضة حجّ بيت الله سرٌّ وحقيقةٌ، وحقيقة بيت الله هو مقام ولاية سيِّد الشهداء عليه السلام. وبالتالي لمّـا كان جسده الشريف قد استقرّ في هذه الأرض، فهنا يكون بيت الله، وهنا يكون محلّ دفن حقيقة مقام الولاية، فتلك الكعبة هي الكعبة الظاهرية، وهنا يكون الباطن؛ فينبغي الغسل والإحرام هنا من باب أولى.
      فهنا يتّضح مفهوم ما جاء في الرواية التي تذكر بأنَّه ”لا بدّ من أن يكون للفقيه مَلَكة قُدسيّة“؛ فالملَكة القُدسيّة هي ذلك النور الذي يكون في قلب الفقيه فيستطيع بواسطته أن يطبّق الأحكام الكلّية على مصاديقها، و يتمكّن من تشخيص ومعرفة تلك المصاديق بشكل جيّد. ولقد كان جابر يمتلك مثل هذا النور بالشكل الذي مكّنه من تشخيص لزوم الغسل والإحرام ما دام عازماً على زيارة قبر ابن بنت نبيّ الله؛ لذا فقد اغتسل غسل الطواف وغسل الزيارة وأحرم متوجّهاً نحو بيت الله الحقيقي وكان يمشي بهدوء وتئدة، وكان مشغولًا بذكر الله. حتى إذا دنا من القبر وضع عطية يد جابر على القبر، فخر على القبر مغشيا عليه... .».

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

14
  • واتجه لزيارة سيّد الشهداء عليه السّلام، وعندما وصل قال لعطية: ضع يدي على القبر! وعلى ما يبدو كان مريضًا ولم يكن يمتلك قوّةً.۱ وضع عطيّة يد جابر على القبر، فجأةً صاح صيحةً، وغاب عن الوعي، فرشّ الماء على وجهه فاستعاد وعيه، وردد ثلاثًا:

  • یا حسین، یا حسین، یا حسین! حبيبٌ لا يُجيب حبيبه؟! لماذا لا يجيب هذا الحبيب عبده وغلامه؟!

  • ثمَّ يجيب نفسه:

  • وأنَّى لك بالجواب وقد شُحطت أوداجك على أثباجك، وفُرّق بين بدنك ورأسك، وجالوا برأسك وروؤس أصحابك وأنصارك من هذه المدينة إلى تلك المدينة، ومن هذا الوادي إلى ذلك الوادي!

  • ثمَّ يقول:

  • فأشهد أنَّك ابن خاتم النبيين! وابن سيِّد المؤمنين وابن حليف التقوى وسليل الهدى وخامس أصحاب الكساء وابن سيِّد النقباء! وابن فاطمة سيدة النساء! ومالك لا تكون هكذا وقد غذّتك كفّ سيِّد المرسلين ورُبِّيت في حجر المتقين ورُضعت من ثدي الإيمان وفُطمت بالإسلام،!

  • ثمَّ التفت ناحية قبور الشهداء وخاطبهم قائلًا:

  • السّلامُ عَلَيكُم أيّتُها الأرواحُ الّتي حَلَّت بِفِناءِ الحُسَينِ وأناخَت بِرَحلِهِ! وأشهَدُ أنَّكُم أقَمتُمُ الصّلاةَ وآتَيتُمُ الزّكاةَ وأمَرتُم بِالمَعروفِ ونَهَيتُم عَنِ المُنكَرِ وجاهَدتُمُ المُلحِدينَ وعَبَدتُمُ الله حَتّى أتاكُمُ الیَقينُ!

  • ثمَّ يقول:

  • والذي بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله) بالحق نبيّاً لقد شاركناكم فيما دخلتم فيه! كنتُ معكم، وأنا معكم، وقطعت المنازل معكم!

  • يقول عطيّة:

  • يا جابر كيف ولم نهبط واديًا ولم نعلُ جبلاً ولم نضرب بسيف، والقوم قد فُرِّق بين رؤوسهم وأبدانهم وأُوتمت أولادهم وأُرملت أزواجهم؟!

  • فأجاب جابر:

  • يا عطية سمعت حبيبي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «من أحبَّ قوماً حُشر معهم ومن أحبَّ عمل قومٍ أُشرك في عملهم»٢

  • أبيات في رثاء حضرة سيّد الشهداء عليه السّلام

  • تا ابد جلوه‌گه حقّ و حقیقت سرِ توست***معنی مکتب تفویض، علی‌اکبـر توست
  • ای حسینی که تویی مظهر آیات خدا***این صفـت از پدر و جدّ تو در جوهر توسـت
  • طفل شش‌ماهه تبسّم نکند، پس چه کند؟!***آن که بر مرگ زند خنده، علی‌اصغر توست
  • درس مردانگی عبّاس به عالم آموخت***زآنکه شد مست از آن باده که در ساغر توست
  • ای که در کرب‌وبلا بی‌کس و یاور ماندی٣***چشم بگشا و ببین خلق جهان یاور توست
    1. . معرفة الإمام (النسخة الفارسيّة)، ج ٣، ص ٢٥٥:
      ألحق العلامة الطهراني هناك تعليقاتٍ جديدة بعد الطبع، ولم تُنقل للنسخة العربية، وقد ورد في إحداها ما يلي: «من ضمن الأدلّة على أنّ جابر لم يكن أعمى يوم الأربعين وقت الزيارة، أنّه طبقًا للروايات العديدة عن الإمام الباقر عليه السلام، أنّه قابل ما استنسخه جابر لنفسه من اللوحٌ الذي للسيّدة فاطمة عليها السلام، والذي كان يحوي جميع أسماء الأئمّة. وقد حصلت هذه الواقعة بعد سنواتٍ عديدةٍ من حادثة كربلاء، ولم يكن عمر الإمام الباقر في كربلاء أكثر من أربع سنوات، ويلزم من مقابلة اللوح أن يكون جابر مبصرًا».
    2. . بشارة المصطفی لشيعة المرتضى، الطبري الآملي، ج ٢، ص ۷٤.
    3. . وفي نسخةٍ أخرى: گشتی.

بشارة الأنبياء السابقين بالنبي الأكرم - وبعض صفاته الظاهرية والباطنية

15
  • خواهر غم‌زده‌ات دید سرت بر نی و گفت:***آن که باید به اسیری برود خواهر توست۱
  • [يقول: سيظلّ رأسك مظهر الحقِّ والحقيقة إلى الأبد، و عَلِيُّكَ الأكبر هو المعنى المجسم لمدرسة التسليم والرضا. 

  • يا حسين إنّك مظهرٌ لآيات الله، وقد ورثتَ هذه الصفة في جوهرِك من أبيك وجدّك.

  • إذا لم يبتسم الطفل الرضيع فماذا عليه أن يفعل؟! ذلك الذي يضحك في وجه الموت، هو عليُّك الأصغر. 

  • لقد علَّم العبّاس العالم درسًا في الشهامة والرجولة؛ لأنّه كان قد سكر من شراب كأسك. (كناية عن ذوبان أبي فضل العباس في الإمام الحسين عليه السلام). 

  • يا أيّها الذي بقي في كربلاء وحيداً بدون مساعد، افتح عينيك وانظر فترى موجودات العالم أعوانك.

  • أختكَ الحزينة عندما رأتْ رأسكَ على الرمح، قالت: إنّ الذي يجب أن يُأسَر هي أختكَ.]

  •  

  • نسألك اللَهمّ وندعوك ونُقسِم عليك،

  • بحقّ محمّد وآله الأطهار،

  • يا اللـه يا الله يا الله... بالنبيّ وآلِه،

  • وعَجِّل اللَهُمّ في فَرَج مَولانا صاحبَ الزمان!

    1. . سرودۀ احمد مهران. وهذان البيتين تتمة وخاتمة أبيات هذه القصيدة:
      ای حسینی که به هر کوی، عزای تو به‌پاست***عاشقان را نظری در دَم جان‌پرور توست
      خواست «مهران» بزند بوسه سراپای تو را***دید هرجا اثر تیر ز پا تا سر توست
      [يقول: يا حسين الذي عزائك في كلّ شارع ، فانظر للعشّاق نظرة تريح أنفسهملقد أراد مهران ( الشاعر) أن يُقبّل كلّ جسدك، فرأى آثار جروح ٍو رماحٍ من رأسك إلى أخمص أرجلك، فلم يستطع]