المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةعدم التأثر بالإعلام
التوضيح
تحدّث آية الله سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله سرّه)، عن ضرورة تقوية العقل ليرتقي مِن مرحلة الاستعداد إلى الفعليّة التامّة، مشيرًا الى أهميّة العمل بالتكاليف الشرعيّة وتقوية الفكر والعقل بمطالعة الكتب وإدراك القضايا الكليّة والابتعاد عن المسائل الخياليّة والوهميّة والدنيويّة. ثمّ بيّن أهميّة الاقتداء بالأولياء والعرفاء الواصلين الّذين لولاهم لَمَا استطعنا رفع النقص في نفوسنا، موضّحًا أنّ الحجّة المتّصلة (أي العقل) هي الّتي تقودنا إلى الاقتداء بالحجّة المنفصلة (أي المعصومين والأولياء الإلهيّين)، وبدون الحجّة المتّصلة فلا نفع للحجّة المنفصلة. وشرح معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم الغدير (ألستُ أولى بكم مِن أنفسكم) وجواب القوم بـ (بلى)، على ضوء الآية الكريمة النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ، مُبيّنًا أنّ معنى الأولويّة هو ترجيح إرادة النبيّ واختياره المطلقين على إرادتنا واختيارنا المطلقين، بل هو انتفاء الإرادة أمام إرادة النبيّ. ثمّ تحدّث حول أهميّة تنمية العقل المتّصل للاستفادة القصوى مِنَ الإمام، وأنّ الاستفادة تكون على حسب مراتب العقل، ثمّ أن شيعة أمير المؤمنين هم الّذين يضعون رضا الإمام المعصوم نصب أعينهم ولا يلتفتون إلى مكانتهم وشأنيّتهم عند إحقاق الحقّ. موضّحًا أنّ الولاية هي تفويض الإرادة والمشيئة إلى الإمام.
هو العليم
العقل المتصل والعقل المنفصل
ومراسم تعميم بعض طلاب العلم
ضرورة التعقل و اتباع الحق و عدم التأثر بالإعلام - المحاضرة الثانية
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد (اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد)
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
الحجّة المتّصلة هي عقلنا والعرفان هو طريق تكميله
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ۱.
توصّلنا في الجلسة الأولى إلى هذه المسألة، وهي أنّ الله تعالى أعطى الإنسان حجّتين؛
الحجّة الأولى هي العقل، أي العقل المتّصل بكلّ شخص، المتّصل بالنفس الإنسانيّة. وللعقل مراتب؛ المراتب الدانية والمراتب العالية. والله تعالى سيؤاخذ كلّ إنسان بلحاظ المرتبة الّتي جعل عقله فيها، كما ورد في الرواية «بك أعاقب وبك أثيب»٢. وهذا العقل، هو الأصل الوحيد والحجر الأساسيّ لجميع وظائفنا وتكاليفنا واعتقاداتنا. ويجب على الإنسان أن يقوّي عقله، باتّباعه الأحكام الإلهيّة والتكاليف والأوامر والنواهي الشرعيّة، وبمطالعة كتب العلماء العاملين الّذين ربّوا عقولهم وخرجوا مِن مرحلة الاستعداد والتهيّؤ إلى مرتبة الفعليّة. يجب على الإنسان أن ينظر ويقرأ ويطالع مباني ومعتقدات هؤلاء الأفراد، وأمّا باقي الأفراد الّذين لم يصلوا إلى هذه المرحلة، فهم دومًا في خيال وتوهّم. فيجب أن نصل إلى تلك المرحلة مِنَ العقل حتّى تصير عقولنا كاملة، وإذا كَمُل العقل لن يطرأ على الإنسان مسائلَ منحرفةٍ وخارجة عن الأُسس الشرعيّة الإلهيّة، وقد مثّلتُ للرفقاء والأصدقاء [حول ذلك] بمثال الصلاة٣، وهنا أمثلة أخرى يجب أن يطالعها الإنسان وأن يرى موقعها في هذه المسألة.
قد أودع الله تعالى هذه الحجّة فينا، وسيعاقبنا بناء على هذه الحجّة، ولكلّ شخص قدر خاصّ وميزان معيّن في هذا الأمر؛ ولهذا نحن نقول أنّ البلوغ يُبتنى على قَدْرِ الإنسان، ولا نعتقد بالبلوغ الّذين يطرحونه ويقولون به في الكتب وفي المجتمع، مِن أنّ بلوغ الفتاة يكون في عمر التاسعة وأنّه تجب عليها التكاليف والقيام بالوظائف الشرعيّة [في هذا العمر]، بل نحن نعتقد أن بلوغ الفتاة يتجاوز ذلك العمر، وهذا مَبنيّ على الأمر [الّذي ذكرناه]، وكلّ الروايات والأدلّة تحكي عن هذا الأمر.
طريق العرفان والسلوك الإلهيّ هو طريق تكميل هذا العقل المتّصل، وبدون هذا الأمر لا يصل الإنسان إلى [أيّ] مرتبة مِن مراتب التجرّد والفعليّة. يجب على الإنسان أن ينعزل عن المسائل الخياليّة والوهميّة، وأن يقوّي أفكاره وعقله بمطالعة الكتب وإدراك القضايا الكليّة، والتنحّي عن المسائل والأخبار الجزئيّة. إذا قرأنا القرآن سنجد أنّ للقرآن هدفًا ومقصدًا واحدًا، وهذا المقصد والهدف عبارة عن توجيه جميع أمور الإنسان والأمّة إلى جهة واحدة، هي جهة التوحيد وإرجاع جميع المطالب إلى الله تعالى؛ (قُلِ اللَهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ)٤ (إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)٥ (وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ)٦ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ)۷ وجميع آيات القرآن، نجدها تسوق الإنسان، ليُدرك هذا المطلب الأساسيّ والتكوينيّ والاعتقاديّ بقلبه وضميره وسرّه وشهوده ووجدانه، ولكي لا يفكّر الإنسان في المسائل الخياليّة [وبتلك] المطالب الّتي توغّل فيها كلّ الناس، فهم يرون أن أمور الدنيا مستقلّة عن إرادة الله تعالى ومشيئته واختياره. هذه هي المسألة الأساسيّة في تربية الإنسان وتزكيته ووصوله إلى المراتب العالية ...
الحجّة المنفصلة هي الأنبياء والأئمّة والأولياء ودورهم في التربية
الحجّة الثاني هي عبارة عن الأنبياء، والحجج الإلهيّة، الأئمّة عليهم السلام والأولياء الإلهيّين؛ الأولياء الإلهيّين هم الّذين وصلوا بواسطة هداية وتربية الإمام عليه السلام لهم، وبواسطة اهتدائهم بنوره، وصلوا إلى مرتبة لا يكون معها انقطاع بينهم وبين الإمام عليه السلام ولا للحظة (واحدة)، ولا ينفكّون عن اختيار الإمام وإرادته. وكلّ ما يفعلونه هو عبارة عن استجلاب الحياة والنورانيّة مِنَ الإمام عليه السلام وإبرازها وإظهارها في العالَم الخارجيّ؛ فالكلام الّذي ينطقون به هو عبارة عن كلام الإمام عليه السلام، وسَيرهم ومنهاجهم في هذه الدنيا هو عبارة عن منهاج الإمام عليه السلام، وإذا رآهم الإنسان فكأنّه رأى الإمام عليه السلام، وإذا سمع أقوالهم وكلماتهم وعباراتهم [وقرأ] كتبهم ومؤلّفاتهم فكأنّه سمع وقرأ كتب الإمام عليه السلام المؤلّفة. هؤلاء الأفراد هم مَن يجب على الإنسان أن يقتدي بهم ويسلك مسلكهم ويسير على سيرتهم، وهذا الأمر لن نحصل عليه إلّا باتّباع هؤلاء الأفراد فقط.
تبحّرنا في العلوم لا يُغنينا قيد أنملة عن الأولياء الإلهييّن
نرى في بعض الرسائل الّتي يُرسلها الأصدقاء إلينا ما يلي: لماذا يحتاج الإنسان إلى أستاذ كامل وعارف ووليّ، والحال أنّ الروايات موجودة بين أيدينا، وكذلك الكتب والمطالب الّتي مِنَ الأئمّة عليهم السلام، وبحمد الله العلماء موجودون أيضًا؟ نعم، أنا أقرّ بأنّ كلّ هذه الأمور موجودة، لا توجد مشكلة مِن هذه الناحية، أما المشكلة هي أنّه بلحاظ أنّنا ناقصين وفاقدين للمراتب المخفيّة في النفس، الّتي لا يطّلع عليها أحد، فنحن [وإن كنّا] نقرأ ونطالع، إلّا أنّنا غير عالمين أبدًا بالأمور المخفيّة فينا ونقائصنا والخلل الموجود فينا.
سأمثّل [لكم بمثال عن] نفسي [لبيان] هذا المطلب، وعلى وسائر الأفراد أن يدقّقوا في طريقهم ومصيرهم ومسلكهم؛ بعد مرور ومضيّ عشرين سنة مِن دراساتنا الفلسفة العليا ودروس الخارج في الحوزة العلميّة، أجد حاجةً في اتّباع أستاذٍ، [والحال أنّي] طالعتُ تلك المطالب والروايات، بل أكثر مِن ذلك، فإنّي قرأتُ الكتب والمطالب الّتي وردتنا مِنَ أئمّتنا عليهم السلام، ومع ذلك فأنا أقرّ وأعترف بنقصاني وافتقادي لتلك المطالب العالية، وأرى أنّي بحاجة إلى اتّباع أولئك الأفراد. فلو أجدُ شخصًا في آخر العالَم، يمكن أن أستفيد منه ولو خطوة [واحدة] ولو للحظة [واحدة]، فلن أُؤخّر لقائي به إلى يوم آخر. لأنّه [بالرغم مِن] وجود تلك المطالب، [إلّا أنّني لا أزال] بحاجة جديّة إلى شخص يأخذ بأيدينا ويسلك بنا هذا الطريق.
حادثة سلوكيّة حصلت مع المحاضِر تبيّن جديّة حاجتنا إلى الوليّ الإلهيّ
سأمثّل [لكم] بمثال عن نفسي [أيضًا]؛ كنتُ في أيّام السيّد الوالد أقوم ببعض التصرّفات، وكان السيّد الوالد يراجعني في بعض المسائل المتعلّق بي وببعض أصدقائه ورفقائه وتلامذته، وكنتُ في ذلك الزمان أدرّس الفلسفة والدرس الخارج لتلامذة السيّد الوالد بمعيّة أصحابنا وأصدقائنا؛ كان هناك شخص مِن عائلتنا مريضًا، كان مبتلًا بوجع الرأس والعنق والعظم. وكان في مشهد دكتورٌ وطبيب مِن أصدقائنا الحاذقين. والظاهر أنّ بعض الأصدقاء اللبنانيّين راجع هذا الدكتور وأجرى له عمليّةً جراحيّة، والظاهر أنّه مات (رحمه الله) بعد مدّة. هذا الدكتور هو مِن أفضل أطباء إيران وأخصائيٌّ في العظم والأعصاب والرأس. فطلب منّي السيّد الوالد في أحد الأيّام أن آخذ موعدًا مِن هذا الدكتور وأذهب بذاك الشخص [الّذي هو مِن أقاربنا] إليه. فقلتُ في نفسي لماذا يطلب منّي السيّد الوالد ذلك، فأستطيع أن آخذ لها موعدًا عند الدكتور ثمّ يذهب بها زوجها إلى عيادته. ثمّ إنّي أخّرتُ هذه المسألة خمسة أو ستّة أيّام، وبعدها اتّصلت بهذا الدكتور وقلتُ له: أريد منك موعدًا لامرأة مِن عائلتنا، فعندها وجع. فقال: لا إشكال، سيكون موعدنا ليلًا. وبعدها ذهبتُ لزيارة السيّد الوالد، وأنا في طريقي إليه التقيتُ بزوج هذه المرأة قرب منزل السيّد الوالد، فقلتُ له: أخذتُ موعدًا مِنَ الدكتور لزوجتك، وإن شاء الله نذهب سويًّا إلى عيادته ليلًا. فقال: نحن ذهبنا وراجعنا الدكتور. قلتُ: متى؟ قال: ذهبنا في الأمس، وتمّ الأمر. قلتُ: عجيب، حسنًا، الحمد لله أنّكم ذهبتم. ولمّا وصلتُ إلى بيت السيّد الوالد كان أوّل شيءٍ قاله لي بعد السلام: أأخذتَ موعدًا مِنَ الدكتور لتلك المرأة؟ قلتُ: نعم، نعم أخذتُ لها موعدًا، وحدّد الموعد في الليل، ولكنّي التقيتُ اليوم بزوجها، وقال أنّهم أخذوا موعدًا، وذهبا إلى هذا الطبيب، فلا حاجة للمراجعة مجدّدًا. فقال: لماذا أنت لم تفعل؟! أنا قلتُ لك يجب عليك أنت أن تأخذ الموعد وتذهب بهذه المرأة، فلماذا لم تفعل؟! فأحسستُ بشيء حينها، يعني كأنّه انزعج منّي أو تألّم منّي، وأنا أحسستُ بشيءٍ في نفسي بالنسبة إلى هذا الأمر، كأنّي فقدتُ شيئًا لن أتمكّن مِن تحصيله، يعني أنّني لاحظتُ في نفسي نقصانًا وخللًا لعدم الإسراع في تلبية أوامر الوالد، إذ قد أخّرت الأمر خمسة أو ستّة أيّام حتّى قُضي الأمر، لأنّ زوج تلك المرأة كان قد أخذ موعدًا مِنَ الدكتور وذهب بزوجته إليه وانتهى الأمر. وأنا لم ألتفت [حينها] لهذا الأمر، أي [لم ألتفت أنّه] لماذا [طلب منّي السيّد الوالد ذلك]، وما كان المقصود مِن هذا الأمر وهذه المسألة!
[ما أحدّثكم به هو مِنَ] المسائل الجديّة، فهذه الأمور لا يعرفها إلّا مَن ابتُلي [بها]، فهو الّذي يعرف مَن هو في حاجةٍ مِنَ الأفراد. وهذه المطالب لا تُحصَّل بالقراءة، ولو قرأنا آلاف الكتب وآلاف الأحاديث والمسائل الأخلاقيّة، فهذه المسائل لا تتحقّق لنا إلّا أن يأخذ شخصٌ بأيدينا ..
فبعد مضيّ ما يقارب ستّة أشهر على هذه الحادثة، كنتُ جالسًا في الحوزة في حجرة لنا في مدرسة آية الله الخوئيّ (رحمه الله) في مشهد، انتظر مجيء أصدقائنا وأصحابنا، لدرس مبحث الفلسفة، ولم أكن أفكّر بشيء خلال انتظاري لهم، وصدفة وقعت هذه المسألة في قلبي وفكري، ووجدتُ أنّ في نفسي مشكلةً ونقصان، وهذه المشكلة وهذا النقصان ما كانا ليرتفعا إلّا لو كنتُ قد لبيّت أمر السيّد الوالد في تلك الحادثة الّتي أهملتُها، يعني لو كنتُ قد أسرعتُ في إجابة السيّد الوالد في أمره بأخذ موعدٍ مِنَ الدكتور والذهاب بتلك المرأة إليه، لزالت هذه النقيصة الّتي في نفسي، ولكن بما أنّني أخرّت هذا الوقت، فتلك النقيصة والفقدان والخلل ما زال باق في وجودي، إلّا إذا حصلت مرّة ثانية وفي مرتبة أخرى حادثةٌ كتلك [الحادثة] وقمتُ بما يجب أن أقوم به.
حسنًا، فلو فكرتُ آلاف السنين في نفسي وفي المسائل النفسيّة وفي نقائصي وفيما افتقده، كيف يمكن أن أصل إلى هذه النتيجة في هذه القضيّة، بدون هداية وتربية شخص مِنَ الأولياء الإلهيّين كالسيّد الوالد، كيف يمكن [ذلك]؟! فلو قرأنا كتاب أصول الكافي مِن أوله إلى آخره، [وقرأنا] القرآن مِن أوّله إلى آخره، [وقرأنا] الكُتب مِن أوّلها [إلى آخرها]، [وقرأنا] كتاب بحار الأنوار للمجلسيّ، الّذي جَمَعَ فيه جميع الروايات الأحاديث، [فلو قرأناه] مِن أوّله إلى آخره، فهل يمكن للإنسان الّذي عنده نقائص أن يصل بذلك إلى هذه النتيجة، وهل يمكنه أن يرى عيوبه ونقائصه والخلل الموجود فيه [وما] يجب أن يرمّمه ويُصلحه مِن هذه النقائص والعيوب، هل يمكن للإنسان أن يصل [وحده إلى ذلك]؟! أبدّا لا يمكن ذلك. وهذه هي علّة قول السيّد الوالد: [لو وصل الإنسان إلى أعلى مراتب الاجتهاد والعِلم، فهذا كلّه لا يكفيه ليرى غيوبه النفسيّة وخلله النفسيّ والموارد الّتي يجب أن يرمّمها ويُصلحها ليصل إلى مرتبة التجرّد والكمال]۱.
رجوع السيّد العلّامة الطهرانيّ إلى الأستاذ السلوكيّ رغم رفعة مقامه العلميّ
عندما كان السيّد الوالد في النجف، كان مِن أعلم علمائها، وذلك بتصريح الكثير مِنَ العلماء، حتّى أنّ العلماء كانوا يقرّون بأنّه لو بقي في النجف لتفرّد بالمرجعيّة الدينيّة للعالَم الإسلاميّ، هذا الرجل۱ كان أقوى تلامذة السيّد الخوئيّ، وأقوى تلامذة السيّد الشهروديّ، وأقوى تلامذة الشيخ حسين الحليّ (رحمه الله)، ومع ذلك كان يُقرّ بأنّه لو وصل المرء إلى مرتبة الاجتهاد، بل حتّى لو وصل إلى ما هو أعلى مِن مرتبة الاجتهاد وبلغ آخر المراتب العالية مِن العِلم، فإنّ كلّ هذا لا يكفيه ليرى عيوبه النفسيّة والخلل [في نفسه]، والموارد الّتي يجب أن يرمّمها ويصلحها ليصل إلى مرتبة التجرّد ومرتبة الكمال. ولهذا رجع في ذلك الوقت إلى الأولياء ليتّبعهم، والاشتغال بالمسائل العرفانيّة الّتي كان يأخذها مِن أساتذته المعروفين [والمذكورين] في الكتب، كالشيخ الأنصاريّ والسيّد محمّد حسين الطباطبائيّ والسيّد الحدّاد، والشيخ هاتف قوچانيّ الّذي كان مِن علماء النجف. فهذه المسألة هي المسألة الوحيدة الّتي أجبرته لمراجعة هؤلاء الأفراد، مع أنّه كان أعلم علمائه في النجف.٢ صحيح .
علاقة الحجّة المتّصلة بالحجّة المنفصلة
على هذا، فإنّ هذه الحجّة المتّصلة، وهي العقل، تجبرنا للوصول إلى الحجّة المنفصلة، الّتي هي عبارة عن الأنبياء والأئمّة والأولياء والعرفاء. والحجّة المنفصلة لا تنفع بدون الحجّة المتّصلة، بمعنى أنّ الحجّة المتّصلة هي الّتي تدلّنا على كيفيّة اتّباع الحجّة المنفصلة، وتوضّح لنا كيفيّة طاعة الحجّة المنفصلة، وتبين لنا كيفيّة سلوكنا مع الحجّة المنفصلة. هل عرفتم كيف هي المسألة؟ يعني إذا كانت الحجّة المتّصلة عند الشخص قويّةً، يكون الانتفاع بالحجّة المنفصلة أعلى وأشدّ وأقوى. وإذا كانت الحجّة المتّصلة (أي العقل) ضعيفةً في شخص، يكون الانتفاع بالحجّة المنفصلة ضعيفًا وغيرَ قويٍّ ولا شديد.
علّة تخلّف الأمّة عن النبيّ ووصاياه بعد استشهاده؛ معنى الولاية في آية الإبلاغ وحديث الغدير
كان النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في أمّته ثلاثًا وعشرين سنة، وذلك مِنَ أوّل زمن البعثة إلى شهادته ووفاته. إنّما قلتُ (شهادته) لأنّ المرويّ عن الإمام الصادق عليه السلام «والله إنّهما لسمّتاه»٣، يعني إنّ حفصة وعائشة [سمّتاه]، وهذه الرواية صحيحة، ولذا نقول (شهادة النبيّ)، إذ إنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لم يمت موتًا عاديًّا، بل سمّتاه وسمّوه. فمِن أوّل زمان [بعثته] إلى زمان وفاته، والّتي بلغت ثلاثًا وعشرين سنة، ففي هذه السنوات الثلاث والعشرين، كان عند النبيّ أفرادٌ يصلّون وراءه ويقفون أمامه ويسبقون غيرهم إلى الصلاة ويتسابقون إلى أخذ ماء وضوئه ليمسحوا به وجوههم، إلّا أنّ كلّ هذه الأمور هي أمورٌ عاديّة وظاهريّة وخياليّة ووهميّة، لا أثر ولا نفع لها بدون الحجّة المتّصلة، أي بدون أن يكون للإنسان عقلٌ يسلك به هذا الطريق. ولهذا رأينا – بالرغم مِن تلك الأمور – أنّه عند شهادة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلمّ) وقبْل أن يُدفن، إذ جثمانه كان لا يزال على الأرض، ذهبوا إلى السقيفة ونصبّوا خليفة بعد النبيّ، في مقابل نصّ النبيّ وتصريح النبيّ بخلافة أمير المؤمنين عليه السلام، والّذي كان قبل أشهر مِن شهادته. إذ يوم الغدير كان في الثامن عشرة مِن ذي الحجّة، وشهادته كانت في الثامن والعشرين مِن صفر، يعني كان هناك سبعين يومًا بين يوم الغدير ويوم وفاة النبيّ؛ ففي سبعين يومًا بدّلوا كلّ شيءٍ؛ بدّلوا تصريح النبيّ، وبدّلوا خلافة أمير المؤمنين، وبدّلوا الحقيقة والواقعيّة، وبدّلوا كلام جبرائيل، وبدّلوا القرآن يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ٤، نعم، ما هو المقصود مِن هذه الآية، هل المقصود منها الصلاة والزكاة والحجّ، ما هي القضيّة؟! بعد نزول هذه الآية، أمرّ النبيّ الناس بالوقوف في الحرّ [وتحت] هذه الشمس، أمرهم بالوقوف وهم [لا] يقلّون عن ثلاثين ألف حاجٍّ، فأخذ بيد أمير المؤمنين وقال «ألستُ أولى بكم مِن أنفسكم». قالوا: بلى. فقال «مَن كنتُ مولاه فهذا علِيٌّ مولاه».٥
نحن نسمع ونرى – الآن – الكثير مِنَ الأشخاص، حتّى مِن علماء الشيعة، يغيّرون معنى هذه الآية ويحرّفونها عن موضعها، فيقولون: إنّ المقصود مِنَ الآية هو الموالاة، والموالاة تعني المحبّة والودّ لشخص آخر! نعم [هذا ما يقولونه]! [ولكن] ما قولهم في آية النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ۱، فهل المقصود مِنَ الأولويّة في هذه الآية الموالاة والمحبّة!!
فقد أخذ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) إقرارهم واعترافهم يوم الغدير، [حيث قال لهم] «ألستُ أولى بكم مِن أنفسكم»، فأجابوه بنعم، بناء على آية النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. فما هو معنى آية النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ؟ معناها أنّ إرادة النبيّ أولى مِن إرادتنا؛ فإن أردنا [مثلًا] أن نشرب الشاي، وقال النبيّ: لا تشرب. يحرم علينا شرب الشاي. وإن أردنا الخروج، فقال النبيّ: اجلس ولا تخرج. يحرم علينا الخروج. وإن قال النبيّ مثلًا: يجب أن تقف. وكنّا نريد أن نتحرّك ونمشي، يكون هذا التحرّك حرامًا. وإن قال النبيّ: تحرّك. فجلسنا، يكون هذا الجلوس والقعود حرامًا علينا؛ هذا هو معنى [الأولويّة]، [فالأولويّة] تعني ترجيح إرادة النبيّ على إرادتنا، وتفضيل اختيار النبيّ ومشيئته على مشيئتنا واختيارنا، [وتعني] تفويض الاختيار والمشيئة إلى النبيّ مئة بالمئة، هذا هو معنى الأولويّة في الآية. فالأولويّة في الآية تقول: إذا كانت هناك إرادةٌ للنبيّ، فذلك لا يعني أنّ إرادته أقوى مِن إرادتنا، بل يعني أن ليس في مقابل إرادةِ النبيّ إرادةٌ أصلًا، أي ليس [في البين] إلّا إرادةٌ واحدة وهي إرادة النبيّ.
وإذا فوّض الإنسان أمره للنبيّ، وكان جالسًا أمام النبيّ، فبأيّ شيءٍ عليه أن يفكّر؟ إذا كان الإنسان أمام النبيّ – معنى الآية هو هذا – قائمًا كان أو جالسًا بين يديه أو بين يدي الإمام عليه السلام – إذ لا فرق [في المقام، ونقصد] بالإمام الإمام المعصوم في كلّ زمان وهو في يومنا هذا الإمام الحجّة المنتظر وحسْب الّذي ليس له ثانٍ ولا فرد آخر ولا بديل ولا نظير – فلا يجب أن يفكّر بشيء أبدًا؛ لا يفكر بالشرب، ولا بالخروج ولا بالقيام ولا يفكر بأيّ شيء، [حتّى أنّه] لا يفكر بالصلاة، [بل] إذا أمره بالصلاة يصلّي، وإذا لم يأمره بالصلاة فلا يجوز له أن يقول: الآن موقع الصلاة، هل نؤذّن أو لا نؤذّن. هل التفتّم! هذا هو معنى الأولويّة؛ فإذا قال صلِّ نُصلّي، وإذا لم يقل صلِّ، نقف جنب الإمام. هذا هو معنى تفضيل إرادة النبيّ وإرادة الإمام عليه السلام وإرادة الولاية على إرادتنا واختيارنا.
هذا أمر عجيب .. فليُوفِّق اللهُ – إن شاء الله – أصدقاءنا لترجمة مطالب السيّد الوالد، فبعض المسائل والمطالب الّتي سمعناها مِنَ السيّد الوالد كانت عجيبة. عندما يستمع الإنسان خطبه ويطالع كتبه يحسّ واقعًا بحقيقة الإيمان، [ويعرف] ما هي حقيقة الإيمان وواقعيّة الإيمان وواقعيّة الشرع وواقعيّة أدائه للفرائض والقيام بالواجبات والوظائف، فالإنسان يحسّ ذلك مِنَ المطالب [الّتي بيّنها السيّد الوالد].
قال النبيّ «ألستُ أولى بكم مِن أنفسكم». قالوا: اللهمّ بلى. فهل المقصود مِن (اللهمّ بلى)، هو أنّنا نحبّك! أم [المقصود هو] هذه الإرادة. نعم، هم اعترفوا، وأخذ منهم الاعتراف والإقرار، [ثمّ] قال: فعلى هذا، إنّ ولايتي عليكم هي نفسها ولاية علِيَّ عليه السلام عليكم، بدون أيّ فرق، ونتيجة ذلك أنّ ولاية علِيٍّ عليه السلام عليكم هي نفس ولايتي عليكم؛ «فمَن كنتُ مولاه فهذا علِيٌّ مولاه» يعني أنّ هذه الولاية الّتي أعطاني إيّاها الله تعالى – [والّتي] لم تكن مِن عند نفسي، بل الله تعالى هو مَن أعطاني هذه الولاية عليكم، فلا يجوز لكم أن تتركوا ولايتي واختياري وأن تفضّلوا وترجّحوا اختياركم على اختياري – فهذه الولاية نفسها هي مِنَ الله تعالى في علِيٍّ عليكم؛ هذا هو المقصود مِن «مَن كنتُ مولاه فهذا علِيّ مولاه».
ما هو معنى ولادة أمير المؤمنين (عليه السلام) في الكعبة
وبهذا نجيب على ما نجده في بعض تلك الرسائل، مِن أنّه لماذا وُلِد أمير المؤمنين عليه السلام في الكعبة؟ فإنّ ولادته في الكعبة تعني أنّ الله تعالى يُبرز ويُظهر أمام جميع الأمّة إلى يوم القيامة، أنّ ولاية أمير المؤمنين عليه السلام – هذه الولاية – نشأت وصدرت مِن نفس مرتبة التوحيد.
إنّ التوحيد لا يكون في جسم ولا يكون في الخارج، لا؛ ولكن نفس هذا الشيء الماديّ، أعني هذا البناء وحيطانه [أي الكعبة الشريفة]، هو نابع عن حقيقة التوحيد؛ يعني أنّ الله تعالى تجلّى في عالَم الدنيا، في هذه المنطقة وفي هذا المكان بهذا البناء، فما وجب على الإنسان مِن أفعال وأعمال [خاصّة] بهذا المكان، ومِن أن يكون الجميع على نسق واحد ومستوى واحد في الأعمال والزيّ والبروز والظهور، [فإنّ جميع ذلك إنّما يدور] دائمًا حول هذه الحقيقة التوحيديّة في هذا العالَم.
وعلى هذا، فإنّ الله تعالى يقول: كما أنّ هذه الكعبة وهذا البناء هو مظهر التوحيد، فإنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو مظهر الولاية الّتي نشأت مِنَ التوحيد. ولهذا، فإنّ ولاية عليّ (عليه السلام) هي عين حقيقة التوحيد، وحقيقة كلمة (لا إله إلا الله). يعني أنّ حقيقة (لا إله إلا الله) وشهادة (أن لا إله إلا الله) مساويةٌ للشهادة بولاية أمير المؤمنين عليه السلام؛ فـ (أشهد أن لا إله إلا الله) و (أشهد أنّ عليًّا وليّ الله) كلاهما سيّان، لتلك النُكتة.
على هذا، فإنّ مَن لا يعترف بولاية أمير المؤمنين، لا يعترف بالتوحيد أبدًا. ومَن أخّر كلام النبي «ألا فمَن كنتُ مولاه فعلِيّ مولاه» وتمسّك بولاية الخلفاء الثلاثة، فهؤلاء الأفراد – الّذين نراهم – لم يكن لهم حظّ أبدًا مِنَ التوحيد إلى يوم القيامة. إنّ حقيقة التوحيد منحصرة في ولاية أمير المؤمنين والأئمّة. وهذا أمر أساسيّ وأهمّ مِنَّة مَنّها الله علينا. إنّ الله تعالى وَفّقنا لإدراك هذا الأمر ولشهوده ووجدانه، [ووَفّقنا] لاتّباع هذا المسلك، ونحن وُفّقنا – [بخلاف] سائر الأمّة – لإدراك منهج الولاية، وللشعور والعِلم والمعرفة بمنهج الولاية.
استكمالُ بيان علّة انحراف الأمّة عن ولاية أمير المؤمنين بعد استشهاد النبيّ
على هذا، فالأفراد الّذين كانوا في زمن النبيّ، بمجرّد أن رأوا وفاة النبيّ، ومِن حيث أنّ عقولهم المتّصلة لم تصل إلى مرتبة الفعليّة ولم تكتمل وكانت في المراتب الدانية، فبمجرّد أن شاهدوا موت النبيّ – وكان لا يزال على الأرض – نسوا كلّ ما سمعوه مِنَ النبيّ بحقّ أمير المؤمنين، [ونسوا] ما سمعوه مِنَ النبيّ عن الأمور الّتي ستقع بعد وفاته، لماذا؟ لأنّهم [وإن] كانوا مع النبيّ، إلّا أنّ عقولهم المتّصلة لم تتربَّ، فعقولهم المتّصلة كانت على حِدى، فكانوا يرون في النبيّ فقط الوضوء والصلاة والجهاد والمعجزة والأمور غيرِ العاديّة وفوق العادة، فلم يدخلوا في بطن النبيّ وقلبه وصدره وأعماق نفسه. كم منهم دخل في هذا؟ دخل سلمان وأبو ذرّ والمقداد وعمّار، يعني خمسة أو أربعة أو ستّة أنفار فقط؛ هؤلاء الأفراد الّذين عبروا القِشر والأمور والحوادث الظاهريّة، ودخلوا في عمق النبيّ وقلبه وعقله، بواسطة تفويض عقولهم واختياراتهم للنبيّ، فوفّقهم الله تعالى للهداية بعد زمن النبيّ [أيضًا]. أمّا جميع الأفراد [الآخرين] ذهبوا [بعيدًا]. ولكن هؤلاء الّذين رحلوا على مراتب، مِن حيث العقل والفكر والخلوص والصفاء، فبعضهم عاد بعد عشرة أيّام مثلًا، وبعضهم عاد بعد عشرين يومًا، وبعضهم عاد بعد شهر، وبعضهم عاد بعد شهرين [وهكذا، فكلٌّ] على حسب مرتبته، وبعد مدّة، أي بعد ستّة أشهر، بلغ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام الأربعين، [فتجاوز عدد أصحابه ذلك] المقدار القليل البالغ خمسة أو ستّة أفراد.
قصور العقل المتّصل يحجبنا عن الإمام ولو كان جالسًا أمامنا
وهذه هي النقطة الأساسيّة الّتي يجب على الإنسان أن يلاحظها، يعني [عليه] أن يعرف موقعيّته بلحاظ اتّباعه للحجّة المنفصلة؛ يعني إذا لم يكن للإنسان حجّة متّصلة، ولم [يعمل على] تقوية وإصلاح هذه الحجّة [المتّصلة] في نفسه، لا يمكنه أن يستفيد مِنَ الحجّة المنفصلة أبدًا. وبدون الحجّة المتّصلة، الّتي هي العقل، فإنّ الحجّة المنفصلة لن تنفعه أبدًا، حتّى لو ظهر الإمام الحجّة وجلس أمامنا وإلى جانبنا، فلا يمكن الاستفادة مِنَ الإمام المنتظر الجالس إلى جانبي أبدًا ما لم أعرفه، وكيف لي أن أعرفه [والحال أنّ الحجّة المتّصلة معطّلة أو ضعيفة]؟! نعم [غاية ما أعرفه] أنّ لقبه هو المهديّ، وأنّه ابن الإمام الحسن العسكريّ، وجدّه كذا، وكان غائبًا عنّا، والآن مثلًا هو جالس، هذا فقط [ما أعرفه]! هل يوجد شيء آخر أعرفه عنه؟! هل أعرف كيف استفيد منه، وكيف أخاطبه، وكيف أطلب منه، وما هي الحاجات [الّتي أطلبها منه]؟!
ما هي حاجاتنا [الّتي نطلبها مِنَ الإمام الحجّة في حالاتنا هذه]؟! فإنّنا نطلب منه المال لتأدية القروض الّتي علينا – هذه آخر معرفتنا بالإمام الحجّة – ونطلب منه أن يشفينا مِن وجع الرأس وأن يعيّن لنا دواءً [لنشتريه مِنَ] الصيدليّة!! [فلسان حاله يقول:] هل أنا طبيب حتّى أعطيك دواءً، أو أنّني مسؤول عن البنك المركزيّ حتّى أُعطيَ مالًا! بل أنا الإمام الحجّة، مسؤولٌ عن الأمور الروحيّة والمسائل الدينيّة.
فلنجرب واقعًا أنفسنا الآن، نحن المجتمعون في هذه الجلسة، إذا جاء الإمام الحجّة، ماذا نطلب منه واقعًا؟ [سنرى] شخصًا يقول: أنا أريد أن أتزوّج أحسن البنات في العالَم. والحال أنّ الإمام المهديّ قادرٌ، فهو الوليّ على عالَم الوجود، يستطيع بلحظة أن يُحضر لنا أجمل البنات في العالَم. فإذا قال: نعم [سأفعل]. فسنرضى [حينئذ]، ولكن هل هذا هو [المطلوب]؟! [وسنرى] آخر يقول: أنا أريد أن أبني بناية [جديدة] لأنّ عمارتي الآن صغيرة ومساحتها مئة متر أو مئتين متر، أو لأنّ هناك مشكلةً ما، فيجب [أن يكون لي بناء جديد]. [وسنجد] آخر يقول: عندي ضعف، أو وجع في ظهري، ووجع في رأسي، أو أيّ نقص آخر – كنتُ قد تكلّمت حول زمن الظهور، ولا أدري إن استلم الرفقاء هذه المحاضرات، كانت عشرة محاضرات ألقيتها وتناولت فيها أسباب وعلل عدم ظهور الإمام الحجّة إلى الآن – فواقعًا وجديًّا، إذا ظهر الإمام عليه السلام وجلس أمامنا وقال مثلًا: لا مال عندي، ولو ليرة۱ واحدة، حتّى أؤدّي قرضك وأؤدّي دينك. هذا بالنسبة إلى الأوّل. وقال [للآخر] مثلًا: لا أدوية عندي، ولو حبّة دواء واحدة، لأعالج صدرك ورأسك. وقال [للثالث] مثلًا: لا يوجد عندي بنات لأزوّجكَ. وقال مثلًا: لا يوجد عندي شابّ لأزوّجكِ. وقال مثلًا: ليس عندي شيء مِن هذه المسائل الدنيويّة. حسنًا، فهل مِنَ الممكن أن [نسعى] لرؤيته حينئذ؟!
فإن قال الإمام عليه السلام [بعد ذلك]: أنا سأصلّي صلاة المغرب دائمًا في هذه الرابية. وحدث أن رأيناه، فسنقول له: أنت كسائر الأفراد، فلِمَ نصلِّ خلفك، ولِمَ نصلِّ وراءك؟! ثمّ نذهب. وقولي هذا جديٌّ، فإنّنا سنذهب إلى أماكن أخرى ونصلّي وراء الأفراد الّذين يؤدّون قروضنا، ولن نصلّي وراء الإمام الحجّة. أنا جديّ بقولي، فإنّنا سنذهب إلى أماكن أخرى ونستفيد مِن سائر الأماكن ومِن سائر الأشخاص، ولن نستفيد مِنَ الإمام، لأنّه لا يؤدّي قروضنا .. [وسنستنكر قائلين:] ما هذا الإمام، فهو لا ينفع أبدًا! فنحن نحبّ الإمام الّذي يؤدّي عنّا قروضنا، ويعالج آلامنا، ويأتينا ببنات العالَم بسهولة، ويأتيهنّ بشباب العالَم بسهولة، ويأتينا بكلّ شيء. فالإمام الّذي لا يفعل هذا، فلا فائدة [منه بنظرنا] أبدًا! [وإذا] قال [لنا الإمام عليه السلام:] أنا سآخذ بيدك وأربيك وأهذّبك. [سنقول له:] لا، لا حاجة لنا بالتهذيب! ...
قصّة الشاب المتحسّر على مفارقة زوجته له
كان لدى بعض أصدقاء السيّد الوالد رحمه الله – هو متوفٍ [الآن] – القدرة على الإتيان ببعض الأمور غير العاديّة، فكان يقول أنّهم ذهبوا في بعض الأسفار إلى تبريز – تبريز مدينة كبيرة مِن مُدن إيران – ودخلوا منزل أحد الأصدقاء، ولم تكن زوجته في المنزل لأنّه – بحسب الظاهر – كان قد حدث شيء بينه وبين زوجته، فذهبت إلى بيت والدها. [فلمّا لاحظوا ذلك،] قال لصديقه: جيّد، الحمد لله، أنت في راحة الآن. ولكن هذا الشاب [صاحب المنزل] كان يتألّم ومنزعجًا مِنَ الوضع [الّذي هو فيه]. فقال له: منذ متّى ذهبتْ زوجتك؟ قال: مِنذ أسبوع۱، مِن أسبوع. قال: جيّد، حسنًا، فإنّ الأسبوع ليس بشيء، فهو يمر بطرفة عين. فقال: لا، بل هذا صعب علَيَّ. وعلى كلّ حال، بدأ [صديق السيّد الوالد] بالكلام معه ليجذبه إلى المسائل الباطنيّة ويأخذ بيده، إذ إنّ لصديق السيّد الوالد هذا قدرة [خاصّة]، وقد توفّي في طهران قبل سنتين وكان لديه مجلس وتلاميذ وأصدقاء، وكان [يُحي] المناسبات في طهران، كان شخصًا معروفًا. فقال: كنا تكلّمنا معه دائمًا لنجذبه إلى المسائل الباطنيّة والنورانيّة والغيبيّة. فقال الشابّ: أنا تعبتُ مِن هذه المطالب، ومِنَ هذه المسائل العرفانيّة والأخلاقيّة. ثمّ قال: يا فلان، إذا كنتَ قادرًا على شيء فارجع زوجتي إلى بيتي، فأنا لستُ بحاجة إلى تلك المسائل، فأنا أدري وأعلم ما علَيّ فعله [بخصوص الأمور الأخلاقيّة]، ولكن إن كنتَ قادرًا – أنا قلتُ أنّ لديه قدرة على بعض الأمور غير العاديّة – على أمور غير العاديّة، فأنا الآن بحاجة إلى زوجتي، هذا هو المهمّ بالنسبة إلى حالتي، ولستُ بحاجة إلى هذا الكلام وهذه المطالب [العرفانيّة]. [أقول:] حسنًا، فهو [لا أقلّ] صرح بذلك. ونحن الآن، جميع حاجاتنا هي مِن هذا القبيل، جميع حاجاتنا هي حاجات دنيويّة، يعني نفس هذا الشيء، نفس هذا الشيء.
هذه هي الحجّة المتّصلة .. ولهذا أقول، إن لم تكن الحجّة المتّصلة قويّةً لن نستفيد مِنَ الحجّة المنفصلة ولو كان الإمام الحجّة جالسًا معنا، لن نستفيد منه أبدًا. [وإنّما] نستفيد على حسب مرتبة العقل في نفوسنا؛ فشخص يستفيد مِنَ الإمام الحجّة بمقدار متر، وشخص يستفيد بمقدار مترين، وشخص يستفيد بمقدار خمسة أمتار، وشخص كالوليّ الإلهيّ والعارف يستفيد مِنَ الإمام الحجّة مئة بالمئة. قال أحدهم للسيّد الوالد: ما هي منزلتك وما هي علاقتك بالإمام الحجّة؟ قال: كأنّه جالس بجنبي – [أقول:] إنّ هذا ليس مزاحًا – كأنّه جالس بجنبي، وأنا لا أفارقه. ألا يوجد، والحال هذه، فرق بين هذا وبين الّذي لا يعرف أصلًا مِنَ الولي ومِنَ الإمام ومِنَ المطالب [العرفانيّة] شيئًا، ألا يوجد فرق بينهما؟!
قصّة العالِم الّذي انحرف بإنكاره رزيّة الخميس الّتي هي مِنَ الثوابت التاريخيّة
عجيب واقعًا، ما نسمعه مِن الأشخاص والأفراد الّذين يدّعون العِلم، ويدّعون المراتب العلميّة العالية، ويدّعون [العلم بـ] المطالب الدينيّة [والقدرّة على] التصدّي لأزمّة الناس وهدايتهم ورُقيّهم، والحال أنّهم لا عرفان ولا معرفة لهم بالإمام عليه السلام ولو بمقدار معرفة وعِلم الأفراد العاديّين في الشوارع.
يقولون: إن كان أمير المؤمنين عليه السلام يعلم أنّه سيُقتل في ليلة التاسع عشرة، فكيف يذهب إلى المسجد؟! وإن كان الإمام الحسين يعلم أنّه سيتشهد في كربلاء، فلماذا ذهب إلى مكّة [ومِن ثمّ إلى كربلاء]؟! [أقول:] إنّ هذه المسائل [والأقوال] سخيفة، سخيفة! [وهؤلاء] موجودون الآن [في زماننا]، وأحد هؤلاء العلماء كان في الحوزة العلميّة في قُم، وكان يبلغ تسعين سنة ويدرّس ([البحث] الخارج)، وهو الآن ميّت، وأنا لم أقرأ الفاتحة عليه بعد وفاته. قد قال بنفسه في كتابه – لا أدري إن كنتم قد سمعتم به أم لا – هل مِنَ الممكن أن يقول عُمَر المسلم المتّبع للنبيّ – هذه عين عباراته – لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: (إنّ هذا الرجل ليهجر)، وذلك لمّا قال النبيّ «ايتوني بقلم وقرطاس أكتب لكم شيئًا لا تضلّوا بعدي أبدًا»۱؟! وقال: إمّا أن نقول – لاحظوا كيفيّة الاحتجاج – أنّ عُمَر ليس بمسلم، أو إن كان مسلمًا فالمسلم لا يتكلّم هكذا، فإن لم يمكنا القول أنّه ليس بمسلم، فيجب أن ننكر هذه الرواية ونقول إنّها مبتدعة وليست مِنَ التاريخ في شيء. [أقول:] إنّ هذا الرجل عالمٌ دينيٌّ مدرّسٌ للخارج في الحوزة العلميّة، يأكل مِن مالِ الإمام عليه السلام تسعين سنة، ويربّي الأفراد، وبعد تسعين سنة يقول هذا [الكلام]! لاحظوا! ثمّ إنّ خطيب الجمعة في الكويت، بعد أسبوع مِن انتشار هذا الكتاب، قال: الحمد لله أنّ الروافض الشيعة التفتوا إلى المطالب الكاذبة الّتي كانوا ينسبونها إلى سيّدنا عُمَر وإلى الخلفاء! [أقول:] لاحظوا هذه المرتبة مِنَ المعرفة الموجودة في الأفراد. لماذا [يحصل] كلّ هذا؟ [يحصل هذا] لعدم اتّباع طريق العرفان وطريق التوحيد، هذا هو [السبب]، وتلك هي النتيجة، يعني أنّ هذا السبب يوصل إلى هذه النتيجة. ثمّ بعد أسبوع جَمعوا هذه الكُتب، ولكنّ [بعضها] الآن لا يزال موجودًا في المنازل، فهو موجود وانتشر [في النهاية]. وأنتم سمعتم وتسمعون المسائلَ [الّتي مِن هذا القبيل] حتّى في هذه المنطقة٢، تسمعون المسائلَ الّتي نسبوها إلى الأئمّة ونسبوها إلى هؤلاء الخلفاء، وينسبونها دومًا.
فخليفة المسلمين هذا يأتي إلى بيت النبيّ وإلى بيت الوحيّ ويقتل ابنة رسول الله، ثمّ [يستنكرون] قائلين: أمعقول هذا؟! [أقول:] عجيب [قولكم]! أليس هذا تحريف للتاريخ؟! [ويقولون:] أمِنَ المعقول أن يسمح رجلٌ لنفسه أن يبقى في مكانه، وتذهب زوجته إلى الباب ويُفعل بها كذا، أهذا معقول؟! فبما أنّ هذا ليس معقولًا [بحسب ادّعائهم]، فهذه القصّة كاذبة ومِن ابتداع الشيعة!۱ لاحظوا كيف يتلاعبون بالدين، وكيف يتلاعبون بالأحكام، وكيف يتلاعبون بالضروريّات وبالبديهيّات وبالوقائع الخارجيّة.
يجب إشخاص النظر على الإمام الحجّة وحسْب فلا تخرّبوا دينكم لأجل دنيا الآخرين
على هذا، يجب على الشيعة اتّباع مسلك أمير المؤمنين عليه السلام. هذا هو المقصود [مِنَ الكلام]؛ فإذا اتّبعوا هذا المسلك، «ولا يخافون في الله لومة لائم»، «ولا يخافون في الله لومة لائم»٢، فإن تلك المسائل والروائح تزول، والّذي يبقى هو الأصل.
يجب على الإنسان .. يجب على شيعة أمير المؤمنين أن يرووا أمامهم شخص واحد فقط، وهو الإمام الحجّة لا غير، فيتّبعوه، ولا ينظروا إلى شيء آخر، ولا ينظروا يمينًا ويسارًا، إنّما [ينظرون] إلى الإمام الحجّة وحسْب؛ فلا يلتفت [الإنسان] إلى مكانته، فيقول: إذا تكلّمت بهذا ستتزلزل موقعيّتي، وهو خلاف مصالحي! [أو يقول:] مِنَ الأحسن أن لا أقول كذا [لأنّه خلاف مصلحتي]! [أقول:] ما هي هذه المصالح؟! أتوجد مصلحة أهمّ وأقوى مِن إرضاء الإمام عليه السلام؟! إلى متى سنبقى نراعي هذه المصالح الدنيويّة، ولا نراعي ما هو الأهمّ والأصل والأساس في ديننا وشريعتنا، وهو إرضاء الإمام عليه السلام، إلى متى؟! إلى متى سنراعي تلك المنافع الشخصيّة والمنافع الدنيويّة، ونخرب شريعتنا وديننا مِن أجل دنيا الآخرين، مِن أجل دنيا الآخرين؟!
هل فكّرنا بأنّ أمامنا عقبةً كؤودًا؟ هل فكّرنا بأنّ هذه الدنيا ستمضي، وأنّنا سنعيش فيها [فقط] خمس سنوات أو عشر سنوات أو ستّ سنوات أو سنة واحدة، فالموت والحياة بيد الله تعالى؟! هل فكّرنا بأنّ الأمر سيُفتتح ويبدأ بعد الموت؟ إذا فكّرنا بهذه المسألة لن تكون الدنيا [حينئذ] شيئًا، يعني أنّها لن تكون شيئّا بالنسبة إلينا، إذ المهمّ هو ما سيأتي بعدها؛ إنّ الإمام الحجّة سيقف أمامنا يوم القيامة، إنّ الله تعالى سيكون أمامنا يوم القيامة، وسيسألنا: كيف فعلتَ كذا، وكيف تصرّفت، ولماذا قلت هذا، ولماذا فعلت هذا، ولماذا فعلت كذا، في الدنيا؟ حسنًا، هذه المسألة – طبعًا – مسألةٌ مهمّة.
يوم الولاية هو يوم ولادة أمير المؤمنين ويوم ولايته الباقية ببقاء أولاده المعصومين
ولهذا، كان هذا اليوم هو يوم الولاية، يعني [يوم] ولادة أمير المؤمنين ويوم ولاية أمير المؤمنين؛ ما معنى الولاية؟ [الولاية] تعني تفويض الاختيار والإرادة والمشيئة إلى الإمام عليه السلام. ووجود أمير المؤمنين عليه السلام ليس وجودًا جسمانيًّا وظاهريًّا، بل وجوده هو وجود وَلائيٌّ، وهذا الوجود الولائيّ يكون في أولاده إلى أن يصل إلى وَلده الحادي عشر وهو الإمام الحجّة؛ فأمير المؤمنين عليه السلام حيٌّ الآن بحياة وَلده، وهذه الولاية باقية بولاية الإمام الحجّة. فعلينا أن نتّبع ما فيه رضا الإمام الحجّة، وعلينا أن نتّبع هذا المنهج ولا نلتفت إلى شيء آخر؛ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ (ولو بمقدار ذرّة)۱ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ٢، فعلينا أنفسنا، [وعلينا] أنّ نلتفت إلى أنفسنا، أمّا باقي الأفراد فعندهم ما [يشتغلون به] مِن إشاعات وإعلانات وجرائد وإذاعات، فليس لنا علاقة [بهذا] وليس لنا [علاقة بهم]، بل أكثر مِن ذلك، فهم لن يُدفنوا في قبورنا ولن نُدفن نحن في قبورهم، فلكلّ شخص كتاب ولكلّ شخص ملفّ يُفتح يوم القيام، [فيقول:] ماذا فعلتَ في هذا الملف، وماذا كتبت فيه، وماذا كتبت في هذا الكتاب؟ ولا يمكننا أن نقول [حينئذ]: إنّ فلانًا هو مَن قال كذا. حسنًا، إن كان قد قال هذا فليَقُل، فليس لك علاقة بذلك. أو يقول: فلانٌ يقول كذا. إن كان يقول هذا فليَقُول، فليس لك علاقة بذلك؛ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ (ولو بمقدار ذرّة) مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. هذا هو المهمّ في هذه المدرسة، تقول هذه المدرسة: يجب عليك أن تراعي نفسك.
نحن قلنا وكتبنا أكثر ممّا تحتاجون إليه فلماذا لا تقرؤون
كلّ هذه المطالب موجودةٌ، فكم مرّة سمعتُ مِنَ السيّد الوالد (رحمه الله)، في أيّام حياته [يقول]: نحن كتبنا في مؤلّفاتنا وقلنا في خُطبنا – في زمن حياتنا – للأفراد الّذين هم بصدد السير والسلوك إلى الله تعالى وبصدد إصلاح معتقداتهم ومبانيهم الدينيّة، قلنا [وكتبنا] أكثر ممّا هم بحاجةٍ إليه. يعني أنّه قال في خُطبه ومجالسه وكَتب في مؤلّفاته، أكثر ممّا نحن بحاجة إلى سماعه مِنَ المطالب. فيجب علينا اتّباعه، نعم يجب علينا اتّباعه، فإن لم نتّبعه لن نستفيد.
كلّ هذه المطالب موجودة .. كثير مِنَ الأصدقاء والرفقاء الآن، يرسلون إليَّ رسائل يسألون عمّا يجب أن يفعلوه في الأمر الفلاني؟ [أقول:] إنّ جواب المطلب [الّذي تسألون عنه] موجود في كتب السيّد الوالد، فلماذا ترسل إليَّ رسالة ولا تقرأ. كما أنّ عندنا أشغال كثيرة، فلو انشغلتُ بمشاغلي [ليلًا] ونهارًا، وكان اليوم خمسين ساعةً بدل الأربعة والعشرين ساعة، فإنّها لن تفي بمشاغلي.
في يوم مِنَ الأيّام سألني السيّد الوالد: إنّ المطلب الكذائي الّذي كتبتُه في كتاب (معرفة المعاد) في أيّ مجلّد هو؟ قلتُ له: لم أقرأه. [قال:] ألم تقرأ معرفة المعاد؟! قلتُ: لا. [قال:] لِمَن كتبتُ أنا هذه المطالب، لأيّ شخص، أنا كتبتها لك! حدث هذا منذ ثلاثين سنة، نعم قبل ثلاثين سنة. [قال:] أنا كتبتُ هذا لك، وأنت تقول إنّك لم تقرأ (معرفة المعاد)، فلِمَن كنتُ أكتب! كانت نفسي تقع في ضيق وفي حرج مِن أجل هذا! [أقول:] أنا كنتُ شاهدًا على ما كان يقع فيه مِن ضيق وحرج؛ كان بعد أن يخرج من المستشفى يبدأ بالكتابة [مباشرةً]، فكنت أقول له: سيّد الوالد، استرح قليلًا، قد خرجتَ للتوّ مِنَ المستشفى. [فيقول:] إن لم أكتب [الآن]، ففي أيّ موقع سأكتب إذًا، إنّ أيامنا قليلة ... فقد كان بهذه الجديّة وبهذا التشدّد وبهذا العرق الدينيّ والحميّة، وبهذه الحميّة الإلهيّة .. [فلذا] قال لي: ألم تقرأ معرفة المعاد؟!
بالله أُقسم أنّه لم يكن لي سؤالٌ، ولم أتوجّه بسؤال، لم أجد [جوابه] في مطالب كُتب السيّد الوالد. وما إن نرى شيئًا وجب علينا العمل به.
كان الأفراد يسألون السيّد الوالد عن بعض المطالب، فكان يقول لهم: اقرؤوا هذه الكتب. ولكنّهم كانوا يستخفّون بهذا الأمر ويقولون: لا، بل نحن بحاجة إلى نصيحة خاصّة مِن لسانه، بحيث نكون أمامه، نراه ويرانا .. يقول: ليس عندي نصيحةٌ خاصّة، بل هذه النصيحة الخاصّة موجودة في الكتب الّتي كتبتها، فاذهبوا واقرؤوا هذه الكتب، فإن لم يفتح الله تعالى لك الباب، تعال وارجع [إليّ] وقُل لم يُفتح لِيَ الباب.
كثير مِنَ المطالب [الّتي نحتاجها] موجودةٌ، وأنا أجد منها الكثير [في كتب ومحاضرات السيّد الوالد]. نعم، نحن [نقوم] بتوضيح بعض المسائل المجملة والمبهمة، وهذا واجبنا نعم، ونحن نقوم به، ولكن علينا أوّلًا أن نتدبّر وتأمّل في هذه المطالب.
[أمّا فيما يتعلّق] بهذه الأسئلة [المرسلة] مِنَ الأصدقاء، فهي كثيرة، والوقت ظاهرًا لا يفي [للإجابة عنها] .. الساعة تقريبًا الآن الثامنة مغربًا، فالوقت ظاهرًا لا يفي [للحديث حول] هذه المطالب، فلعلّني إن شاء الله، أُجيب في المحاضرة التالية – إن وفّقنا الله – على كثير مِن هذه المطالب، وإن لم يوفّقنا [الله] فسآخذ – إن شاء الله – هذه الأسئلة معي وأكتب الإجابات عنها.
على كلّ حال، علينا في هذه الأيّام الخطيرة أن نقوم بواجبنا، وواجبنا في هذه الأيّام والظروف هو أنّه (علينا بأنفسنا)، وأن لا نلتفت إلى ما حولنا مِن أمور. فكثير مِن هذه الأمور، بل تسعون بالمئة، وخمسة وتسعون بالمئة منها، هي أمور نفسيّة ودنيويّة لا تنفعنا، والسالك لا يصرف أوقاته في هذه المطالب، ويجب على الإنسان أن يصرف أوقاته ويستفيد مِنَ المطالب الّتي تفيده في حياته وسيره ومرامه .. والأعمال الظاهريّة بدون ملاحظة النيّة القلبيّة وكيفيّة التفكّر، لا تنفع. فالمهمّ بالنسبة لنا هو إصلاح عقائدنا وإصلاح عقولنا [وتصحيح] كيفيّة أنظارنا وآرائنا، حتّى تكون الأعمال مفيدةً؛ فلو قمنا بالصلاة طوال الليل وصمنا كلّ النار، ولكن كانت أفكارنا مشتّتة [لانشغالها] بأسباب وقوع هذا الأمر في هذه المنطقة، وسبب وقوع ذاك الأمر في بلد آخر، وسبب حدوث هذا الأمر الآن في كذا، فإذا كانت أفكارنا بهذا الشكل، فالصلاة لن تفيد والصوم لن ينفع.
ويجب أن يكون المرء متيقّنًا مِن مرامه ودينه وأفكاره، وأن يكون مستقيمًا في فِعاله وآرائه، وأن يكون ملتزمًا بالمسائل ومُتَّبعًا للوليّ الحيّ؛ يعني عليه أن يرى الإمام عليه السلام موجودًا خلفه، وأنّه مسيطرٌ عليه، وأنّه جالسٌ بجانبه ويرى جميع تصرّفاته. هذا ما نعرفه نحن عن الإمام عليه السلام، ففي هذه الحالة ستفيدنا تلك الأعمال الظاهريّة، وإلّا لن تفيدنا [شيئًا]، بل ستكون مجرّد أعمال، [ومجرّد] تصرّفات وأفعال عاديّة، وستصير عادة بالنسبة إلينا.
مراسم تلبّس بعض الأخوة بعمامة وزي النبيّ والأئمّة عليهم السلام
اليوم، ولتلك المسألة، طلب منّي بعض أصدقائنا ورفقائنا أن أُلْبِسهم العمامة في يوم العيد، يوم عيد الولاية. فقلتُ: نعم، فإنّ اليوم أفضل الأيّام، وهو يوم ولادة أمير المؤمنين عليه السلام، وكان هذا دأب السيّد الوالد، إذ كان يؤكّد ويصرّ على لبس العمامة ويقول:۱ العمامةُ لباس الأنبياء ولباس الملائكة، العمامة تيجان الملائكة. وكان يقول: يجب على طالب [العلوم] الدينيّة، عندما يصل إلى مرتبة مِنَ العِلم والفقه، أن يلبس العمامة. وهذا مهمّ جدًّا، وليست المسألة في العمامة وفي هذا الزيّ، هو اللباس العاديّ والظاهريّ، بل [المسألة هي: إن لبس الإنسان هذا اللباس] وكان يرى نفسه متّبعًا لهذه السيرة، فستتغيّر أحواله وتتبدّل، يعني أنّ الصلاة الّتي تكون بهذا الزيّ تفرق عن صلاة الآخرين، وصومه يفرق عن صوم الآخرين. فنفس هذا الزيّ واللباس، مِن حيث أنّه كان لباس وزيّ الأئمّة والشريعة والأنبياء، فإنّه سيؤثّر أثرًا قلبيًّا. أمّا إذا لبسنا هذا اللباس لأمور ومقاصد أخرى ودنيويّة، فسيكون هذا اللباس أضرّ بحالنا مِن عدم التلبّس به.
على هذا، نحمد الله أنّه وفّقهم لهذه المهمّة، ونسأل الله تعالى أن يديم – إن شاء الله – التوفيق ويديم الهداية، وأن يستفيد جميع الناس والرفقاء والأصدقاء منهم ومِن سماحتهم في المجالس والخُطب والمراجعات. وبحمد الله سيكون الرفقاء في غِنًا عنّا وعن أمثالنا إن شاء الله، مع وجود الأصدقاء كسماحة الشيخ ... وبقيّة الأصدقاء، إن شاء الله. ونحن نلتمس منهم أن لا ينسونا مِنَ الدعوات، ونحن سندعو لهم ولجميع إخواننا لِمَا يحبّ ويرضى، إن شاء الله.۱
اللهمّ صلِّ على محمّد وآل محمّد