المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةأسئلة وأجوبة - رجال
هو العليم
ولاية أهل البيت، المراقبة والدقّة
محاضرات جبل عامل - أسئلة وأجوبة الرجال - ج ۱
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا محمّد وآله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
(اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد)
هناك أسئلة مختلفة؛ بعضها أسئلة شخصيّة، فإن شاء الله أكتب أجوبتها وأعطيها لسماحة السائل. وهناك أسئلة عامّة سنتكلّم حولها الآن.
من هو ذو القرنين المذكور في القرآن
السؤال الأوّل: كتب شخص أنّه سمع مِن عالِم في تفسير هذه الآية {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا ، فَأَتْبَعَ سَبَبًا ، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا..}۱ يقول أن ليس المقصود هو الإسكندر المقدونيّ، لأنّ اسكندر المقدونيّ جاء مِن مقدونيا، [وإنّما المقصود] يسمى كورش الفارسيّ وهو الشخصيّة المعروفة في التاريخ، والّذي كان سلطان ايران قبل ٣۰۰۰ سنة تقريبًا.
[جواب سماحة السيّد]
بالنسبة إلى هذه الآية وكذلك بعض الآيات الأُخر، نحن نرى بعض الإجمال فيها، كما أنّا لم نسمع حتّى مِنَ الأئمّة عليهم السلام تفسيرًا لهذه الآيات، لأنّ الله تعالى والأئمّة عليهم السلام رأوا أنّه مِنَ المناسب عدم تقديم تفسير وبيان واضح في هذه المسألة، ولكن المتحصّل مِنَ القرائن والروايات في هذه المسألة أنّه ليس الإسكندر المقدونيّ، كما تفضل هذا الشيخ، وأنّه أشبه أن يكون كورش سلطان فارس، ولكن لهذا [الإحتمال] مبعّدات مِن جهة، والسيّد الوالد (رحمه الله) بيّن هذه المسألة في كتاب «معرفة المَعَاد»٢، وإن شاء الله يرجع الإخوة إلى هذا الكتاب ويستفيدون منه.
السؤال الثاني: ماهي علاقة الأئمّة عليهم السلام بالأنبياء الكرام السابقين مثل نوح وإبراهيم وآدم؟ وهل صحيح أنّهم استغاثوا بالأئمّة عليهم السلام حتّى يشفعوا لهم [لرفع] مصائبهم؟
السؤال الثالث: ما هي الولاية وما دور المؤمن بالنسبة للولاية؟
السؤال الرابع: قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لا تخلو الأرض مِن حجّة٣، فماذا بعد وفاة الإمام صاحب الزمان؟
[جواب سماحة السيّد]
شأن الأئمّة مع الأنبياء كشأن الأئمّة معنا، وليس هناك فرق بيننا وبين الأئمّة والأنبياء مِن حيث الموقف والموقعيّة أمام الله تعالى وأمام وجودنا – هذا الوجود القاصر – ومِن حيث استكمال هذا الوجود والوصول إلى الفعليّة والكمالات ورفع النقائص والجهل والحجب – الحجب الظلمانيّة والحجب النورانيّة – والوصول إلى مراتب الكمال، فذلك سواء بالنسبة لنا وبالنسبة للأنبياء.
الولاية التكوينيّة بعيدة المنال عن عقول العوامّ
في السفر الماضي قررتُ كلامًا حول الولاية التكوينيّة وبيّنتُ – ببياني القاصر – أمورًا في مسألة الولاية التكوينيّة، ككيفيّه ارتباط الخالق والمخلوق وأنّ هذا الارتباط لا بدّ أن يكون بوسائط، وهذه المسألة ثابتة بالبراهين العقليّة والحجّة الفلسفيّة والأدلّة النقليّة، فتجدون في الروايات [ما مفاده] أنّهم وسائط بين الله تعالى وبين الخلق۱، [وقوله عليه السلام]: نزّهونا عن الربوبيّة وقولوا فينا ما شئتم٢. وتجدون في روايات النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم): أوّل ما خلق الله، نور نبيّك يا جابر٣. وهذه الروايات مؤكّدة في المقام. وعن الإمام الرضا عليه السلام روايات كثيرة وردت في كتاب (عيون أخبار الرضا)، وكذلك روايات عن الإمام الحسن العسكريّ، وروايات عن صاحب الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف؛ في أنّ بقاء الدنيا متوقف على وجود الإمام عليه السلام ووجود الحجّة٤، وكذلك روايات عن الإمام الباقر عليه السلام، كلّها دالّة على الولاية التكوينيّة للإمام عليه السلام، وأنّهم الواسطة بين الله تعالى وبين الخلق.
إنّ الامام عليه السلام وموقعيّته لم يتبيّنا لنا حتّى الآن، وكلّ مَن يتكلّم في هذه المسألة إنمّا يتكلّم عن فكر قاصر وعلم محدود ومعرفة بسيطة بالإمام عليه السلام، وهؤلاء الأفراد يظنون أنّ وجود الإمام عليه السلام هو كوجودهم، وأنّ نفسيّته كنفسيّاتهم وتوقّعاتهم وأمانيهم وآمالهم وأفكارهم المحدودة، فلا يأتي في خواطرهم أصلًا أن للإمام عليه السلام مرتبة خارجة عن عقولنا!
[ورد] أنّ الامام الرضا عليه السلام كان يمشي في المدينة [المنوّرة]، أو لعلّه في غير مدينة، وذلك في زمن المأمون، فرأى جماعة يتحدّثون حول معرفة الإمام وكيفيّة عروجه واتصاله، فوقف الإمام عليه السلام أمام تلك الجماعة وخاطبهم معاتبًا بعبارات عجيبة. والمفهوم مِنَ هذه الرواية أن الإمام عليه السلام أراد أن يقول: أنتم أصلًا لا تفهمون حقيقة الإمام عليه السلام، ولا يمكن أن تُدركها أوهامكم وأوهام عقولكم. يعني أنّ إدراك عقول الناس والأفراد وعقول العوامّ لمسألة الإمامة هو وهم.. إنّ المعرفة وكيفيّة التفكير والإدراك مرتّبة في مراتب؛ مثلًا [إحدى هذه المراتب مرتبة فكر الصبيّ]، فتقول هذا فكره فكر صبيّ، وقد وردت روايات في أنّ الصبيّ إذا فعل شيئًا لا يُكثرث بفعله ولا يُحاسب عليه لأنّ الصبيّ صغير، وفي الروايات أنّ عمد الصبيّ سهو٥، يعني إنّ فعَل الصبيّ شيئًا عن عمد فهذا يُعدُّ سهوًا، لأنّ هذا هو حدود فكره لا يتخطّاه، ولذا لا يُكثرث لفعله، والله تعالى لا يؤاخذه على ذلك ولا يعاقبه. وهذه هي الحيثيّة المهمّة في حقيقة التكليف وحقيقة العقاب المترتّب على التكليف.
وإن شاء الله سنبيّن مسألة التكليف والبلوغ، وكيفيّة العقاب والثواب، ومسألة إلزاميّة التكاليف بحسب اختلاف المواقف بالنسبة للصبيّ، وكيفيّة وصوله إلى مرتبة البلوغ، وأنّ كلّ ذلك يدور مدار استكمال العقل في مرحلة خاصّة مِن عمر الإنسان.
فنحن نرتّب الأفكار وحقيقة معرفة الإنسان بحسب حالاته الخاصّة؛ مثلًا الصبيّ في عمر السنتين أو السنة أو الثلاث سنوات، ترانا لا نعتني بشيء مِن مدركاته ولا بكيفيّة إدراكه، فنحن لا نبالي أصلًا لكيفيّة تفكيره وتخيّلاته وتذكّراته، فهو يرى أشياء لا يستطيع أن يدرك الإنسانُ معانيها، ففكر الصبيّ فكر خلّاق، يعني أنّ الطفل والصبيّ يخلق [ويختلق] بعض المسائل ويتخيّلها واقعًا في الخارج، والحال أنّها ليست واقعًا خارجيًّا ونفسَ أمريٍّ، فهو مجرّد مخلوقه الخاصّ. وينقل الكثير مِنَ الأفراد عن العلماء قولهم: إذا جاءكم الصبيّ وقال أنّه رأى شيئًا، فلا تُنكروه لأنّه ممكن، وإن كان مستحيلًا أن يكون قد رأى مثلًا شخصًا بين السماء والأرض، أو يكون قد رأى فلانًا على جبل أو شجر، أو قد رأى إنسانًا برأسين أو رؤوس [متعدّدة]، أو طائر له كذا وكذا. فلا تنكروا عليه، لأنّها مخلوقاته، فهو واقعًا يرى ويرى بخياله.
ثمّ إنّ الإنسان لا يعتني بهذه الأفكار، لأنّها مِن فكر صبيّ.. ويمكن أن يبلغ الصبيّ سبع سنوات و.. ولكن لماذا لا نعتني بقول الصبيّ؟ لأنّ أفكاره محدودة ولا تصل إلى مرتبة العقلانيّة، فهي أفكار ناشئة مِن الوهم والتخيّلات، مع أنّ الصبيّ يتخيّل أنّه ذا فهم عقلانيّ وإدراك واقعيّ وحسيّ. وكذلك حال الإنسان عندما يبلغ مرتبة العلم – فحتّى الإنسان العاديّ إذا بلغ مرتبة العلم – سيُدرك أن فهم العُرف والعوامّ هو كفهم الصبيّ. مثلًا ترى الإنسان العاديّ يصدّق بخبر ويقبل به بمجرد أن يُخبره به شخص، بدون أن يتفحّص في أحواله وفي كون الخبر صحيحًا أو غير صحيح، تقول الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا}۱. فهذه هي المسألة المهمّة، فأحيانًا بل كثيرًا ما يتخيّل الإنسان شيئًا غير واقعيّ، ولكنّه يتعامل معه وكأنّه واقع، فيقوم يتبديل الواقع بأن يجعل حدسيّاته وتخيّلاته وتصوّراته مكان الواقع وبدل القضايا العقليّة والمسائل الواقعيّة. وهذا هو الأمر المهمّ [الّذي يجب مراعاته] في مسألة الوثاقة ومَن نعتمد عليه.
ففي الروايات، لا بدّ أن يكون الراوي شخصًا ضابطًا وعادلًا وموثوقًا، لماذا؟ لأنّه كثيرًا ما نرى أنّ الإنسان غير الموثوق يتخيّل غير [الكلام الصادر مِنَ المعصوم].
تحرّي الدقّة شرط أساسيّ في المسائل الاجتماعيّة والدينيّة وخاصّة السلوكيّة
في إحدى الجلسات كان السيّد الوالد يتكلّم عن موضوع ما، وكنتُ جالسًا خلف أحد الحاضرين – الّذي كان معروفًا ببصيرته ومهارته في الطبّ وفهمه العالي – فرأيته يقرّر كلام السيّد الوالد على ورق، وبالصدفة نظرت إلى كتابته فوجدته مُخطئًا فيما كتب، فالسيّد الوالد كان يقول شيئًا وهذا الشخص يكتب شيئًا آخر، كان السيّد الوالد يتكلّم عن هذا الشيء بهذا المعنى وهو يكتب عنه معنى آخر. ثمّ يذهب إلى منزله وينشر هذا الكتاب وهذه الكتابة ويرسلها إلى الأفراد والأصدقاء والرفقاء، فيحكي عن السيّد الوالد ما لم يقله. وبعد إتمام الجلسة صحّحت له كلّ الموارد المكتوبة الّتي وجدتُ فيه خطأً.
وكثيرًا ما كنّا نرى هذه الأمور؛ فكان السيّد الوالد يقول شيئًا، ثمّ ينقلون عنه شيئًا آخر، كان السيد الوالد يقول بالحرف: إذا أردتم أن تنقلوا شيئًا عني فيجب عليكم أن تنقلوه بنفس عباراتي بدون أي نقص وبدون أي إضافة. ولكن [عندما كان يُنقل عنه] كنّا نسمع شيئًا آخر أصلًا، بحيث لا تكون هناك علاقة بين الكلام المنقول عنه وبين كلامه. كيف [كان يحصل ذلك]؟! كلّ ذلك ناشئ مِنَ التخيّلات، فالشخص الناقل ليس له غرض وليس معاندًا، ولكنّه يبدِّل العبارة ويغيِّرها إلى عبارة أخرى وفق فهمه وتخيّلاته وتصوّراته، ممّا يوجِب مشاكل عجيبة، ولهذا يجب رعاية هذه المسألة بدقّة، وهي مِنَ المسائل الّتي تؤثر أثرًا عجيبًا في النفس وفي السلوك. كان السيّد الوالد يقول دائمًا: مَن لم يبالي بهذه المسائل الدقيقة لا يترقّى، وكلّ شخص لا ينظّم أفكاره ولا ينظّم آراءه [لا يترقّى]. ولكنّنا نرى أنّ المسائل السلوكيّة شيء آخر؛ كالصلاة، مثل صلاة النوافل وأداء صلاة الليل، والاشتغال بالأوراد، والاهتمام بالمسائل العباديّة. نعم هذه الأمور جيّدة ولازمة لكلّ إنسان، [وأن تكون] له علاقة خاصّة بهذه الأمور، وهذا ما كنّا نراه مِنَ الأولياء حتّى في أواخر عمرهم، فأنا كنتُ أرى منهم هذه الأمور؛ كقراءة السيّد الوالد للقرآن حتّى إلى آخر عمره. فالسيّد الوالد وكثير مِنَ الأولياء الّذين كنتُ أجالسهم وأعاشرهم، كنت أرى مِنهم هذه الأمور يوميًّا، فلم يكن أحد منهم يترك قراءة القرآن أو الأوراد والأذكار، لم يتركوها. نعم، هذه الأمور جيّدة، ولكن الأمر الأهمّ مِن ذلك هي المراقبة؛ فمسألة المراقبة هي الّتي كان دائماً السيّد الوالد وجميع الأساتذة وجميع العلماء يوصون تلامذتهم بها. [ومِنَ المراقبة] تنظيم الأمور وتدبيرها بدقّة ولطافة شديدة بحيث لا يفوته شيء، وهذا يؤثّر أثرًا إيجابيًّا عجيبًا في النفس.كان يقول مثلًا: مَن لم ينظّم اشتغاله في السوق وفي التجارة ومعاملاته مع الأفراد، فلن تؤثّر الأوراد فيه، بل سيكون أثرها سلبيًّا عليه. ومَن لم يصحّح أفعاله مع أصدقائه وجيرانه وأهله، فلن تؤثّر هذه الأوراد إيجابيًّا. ومَن لم يصحّح ولم يراقب كيفيّة تعامله مع الأشخاص، وكيفيّة ردوده، وفعاله مع أصدقائه وزملائه ومع أهله وخصوصًا الأقرباء منهم، وبالأخصّ الوالد والوالدة، فلن تؤثّر أصلًا تلك العبادة فيه. فمَن لم يدقّق في أموره الخاصّة وفي المسائل السلوكيّة لا يمكنه [أن يتقدّم]، لماذا؟ لأنّ المسائل السلوكيّة هي المسائل الّتي تكون وسيلة وواسطة تبلّغنا المراتب. وعلى الإنسان أن يعبر المراحل ليبلغ المراتب، وبدون التقيّد بهذه الأمور، ورعايتها والدقّة فيها، لن يصل الإنسان. وبعد مدّة عندما يكون في مرحلة خاصّة سيتبيّن أنّ مسيره كان مسيرًا خاطئًا.
وهذا كثيرًا ما شاهدته في الأزمنة السابقة، مثلًا: كان هناك شخص قد توفّي والده وكانت أمّه على قيد الحياة، ولم يكن يعتني بأمور والدته، بسبب عدم التوافق على بعض المسائل.. ومرّة أعطاني السيّد الوالد مبلغًا وقال: أعطِ هذا المبلغ لهذا الشخص، وقل له أن يُعطيه لوالدته. فأعطيته المبلغ، وبعد لحظات ردّه إليّ قائلًا: أعطه أنت لوالدتي. حيث أنّ والدته مِن محارمي. عندها أدركت أنّ هذا الشخص قد أخطأ، وكان السيّد الوالد بصدد أن يوجِد علاقة وارتباط بين هذا الشخص وبين والدته، إذ كان بإمكان السيّد الوالد أن يعطي بنفسه هذا المبلغ لها، لأنّه كان مِن محارمها، ولكنّه أراد [بتلك الطريقة] أن يُوجِد علاقة وارباط بينهما، ويرفع المسائل السلبيّة والنفور والتباعد، ولكنّ ذلك الشخص لم يتفهّم الأمر، يعني أنّ نفسه لم تتقبل، فنفسه لم تقبل فعل ذلك، فوقع في ورطة، يعني وقع في مهلكة.
وكثيرًا ما شاهدتُ أمثال هذه القضايا؛ فكان السيّد الوالد يوصي أحدهم بشيء، فيفعل خلافه. ويقول لآخر يجب أن تفعل كذا، فيفعل خلافه، ويقول لفلان يجب أن تذهب إلى السوق وتشتري [وتبيع] وتربح وتعمل في التجارة، فتراه دائمًا جليس البيت يأتي بالأذكار ويصلّي ويقرأ ويقول: لا، فأنا الحمد لله بحال جيّدة ونفسيّتي جيّدة ولا حاجة لي [بالمتاجرة].. [أقول]: لماذا لا تذهب إلى السوق يا فلان، ولماذا لا تشتغل بالتجارة؟! فالعيال أمانة مِنَ الله بين يديك، فيجب أن تربّي عيالك، وتكسب ما يلزم للعيش، فتذهب إلى السوق وتشتغل كسائر الأفراد. نعم، فالعيال أمانة مِنَ الله تعالى في أيدينا، نعم، فالطفل أمانة مِنَ الله تعالى في أيدينا، والأهل أمانة مِنَ الله تعالى في أيدينا، فيجب على الإنسان أن يربّي ويُهيّئ لهم وسائل المعيشة والتربية والكمال مِن جميع النواحي التربويّة والاقتصاديّة..
إلّا أنّه كان يجلس في المنزل ويقرأ القرآن والأوراد ويقول: نعم، الحمد لله فأنا لست بحاجة، ونفسيّتي الآن جيّدة. حتّى وقع في أمور ومشاكل شتّى، فحام حوله الجنّ وأصبح له علاقة معهم، وسيطر عليه الجنّ والشيطان وأخذوا بنفسه وقلبه، وواقعًا الإنسان الآن يتأسّف لحاله. لماذا حصل ذلك؟ لأنّ جميع هذه الأمور ناشئة مِن عدم الانقياد وعدم القبول، فحين قال [الأولياء] لهم افعلوا كذا لم يفعلوا.. لماذا زادوا وقلّلوا [مِن عند أنفسهم] على ما أُمروا به، لماذا؟!
فكان السيّد الوالد يقول للشخص لا تصلّ صلاة الليل، إلّا أنّه كان يصلّيها! وكان يقول لشخص [آخر] لا تصلّ صلاة الليل، إلّا أنّه كان يصلّيها! والصواب أنّه لمّا يقولون صلِّ صلاة الليل، فيجب أن تصلّيها، وإذا قالوا لك لا تصلّ، فيجب أن لا تصلّي، لأنّ الأستاذ أعرف بحال الشخص مِن نفسه، فإذا قال يجب أن تفعل كذا فيكون فعله لازمًا، فإن قالوا يجب أن تخرج مِنَ البيت [لإنجاز الأعمال] فيكون الخروج واجبًا، وإن قالوا يجب أن تبقى في البيت، فيكون البقاء لازمًا.
فالدقّة في المسائل واجبةٌ، وعلى كلّ فرد أن يفهم بجِدّ [ودقّة]، وأن يُنجز أعماله بجديّة، حتّى لا يفوته شيء.
ومِنَ الأمور الّتي نراها؛ أنّنا نقول شيئًا، فيأتي شخص ويغيّره ثمّ ينقل عنّا غير ما قلناه. هذا عمل غير صائب.. كان السيّد الوالد يقول [في هذا الخصوص]:أحيانًا أطرح كلامًا في مشهد، ثمّ ينتقل إلى شخص ثمّ ينقله إلى آخر [حتّى يصل إلى قمّ]، فترى الكلام يصل إلى قمّ متبدّلًا مئة وثمانين درجة على خلاف ما قلتُ.. يتبدّل مئة وثمانين درجة. كثيرًا ما كان يقول ذلك، فعلى الإنسان أن يكون ضابطًا [ودقيقًا] جدًّا في نقل المسائل. هذا أوّلًا، وثانيًا يجب على السامع والمستمع أن لا يكتفي بسماع الكلام، بل يجب يتحقّق ويتثبّت بجديّة ويتفحّص صحّة الكلام. [فتحرّي الدّقة] هو الشرط الأساسيّ في المسائل الاجتماعيّة والدينيّة، وهو الشرط الأساسيّ والأساسيّ والأساسيّ في المسائل السلوكيّة.
بعد زمن السيّد الوالد سمعنا الكثير مِنَ المطالب الّتي نُسبت إليه وكانت كلّها كذبًا، كثيرة هي تلك المطالب، وبحكم أنّني كنتُ مع السيّد الوالد [وأعرف منه حقيقة رأيه في تلك المطالب] كنتُ أعلم أنّ ما يُنسب إليه كان كذبًا. فلو كنتم مثلًا مكاني [وسمعتم بتلك المطالب] ولم تكونوا على علم بحقيقتها [مِنَ السيّد الوالد]، لقبلتم بما يُقال، كما لو سمعتم مِن شخص شيئًا ويقول أنّه سمعه بأذنه مِنَ السيّد وهو في محضره، والحال أنّكم لم تروا السيّد الوالد ولم تسمعوا ذلك منه، لقبلتم بمقولة ذلك الشخص وعمِلتم بها، ولكن في الواقع تكونون على خطأ، وطبعًا أنتم مُخطؤون في هذا.. أمّا أنا فمِن حيث أنّني سمعتُ بخلاف ما نُقل وكنتُ أعمل على تطبيق المطالب [كما علِمتها مِنَ السيّد الوالد]، لأنّني كنتُ ابن العلّامة، فلا يمكن لأحد أن [يخدعني] بتغيير مواضع الأمور وتبديلها، فلهذا علمتُ أنّ تلك المطالب [المنقولة] كاذبة. ولهذا وقع [بعد رحيل السيّد الوالد] ما وقع، وبلغ الأمر حدّ ما بلغ، كما تعلمون وتعرفون. لماذا حصل كلّ هذا؟!
سأصرّح لكم الآن بأمر وهو أنّ أحدهم – ولن أذكر اسمه – قال لي؛ إذا كنتَ متيقّنًا وتعلم أنّ رأي السيّد الوالد رحمه الله – دقّقوا في هذه المسألة – هو كذا، فيمكنك أن تحكي عنه ذلك وتقول (السيّد قال ذلك). فقلت: عجيب، هل تفعلين أنتِ هذا – كان هذا الشخص مِنَ النساء ولم يكن مِنَ الرجال – عجيب!! قلتُ لها: أتفعلين هذا؟! قالت: نعم، ولا إشكال في ذلك. [قلتُ:] عجيب، فأنتِ بصراحة تنقلين عن لسان السيّد الوالد ما لم يقله! قالت: إذا كنتَ تعلم أنّه يعتقد بأمر ما، فلا إشكال أن تنسب إليه القول به. فقلتُ: نعوذ بالله ونستجير بالله مِنَ الجهل والضلالة، فعلى هذا لن يبقى حجر على حجر؛ فإن نقلتُ ما أعتقده أنا على أنّه عن لسان السيّد أو غيره مِنَ العلماء، ثمّ يأتي مَن يعتقد بخلاف ذلك وينقله أيضًا على أنّه مِنَ [السيّد]، ثمّ يأتي ثالث ويقول شيئًا آخر كذلك، فعلى هذا لن يبقى حجر على حجر. فكلّ مَن يقول [مِن هؤلاء] فهو يقول وفق ما يتخيّله، لأنّنا نعاني مِنَ النقصان، فنحن ناقصون في معتقداتنا وأنفسنا ومراحل الكمال، وذاك الكلام يدلّ على نقصانها، يعني نفس مقولتها تلك تدّل على نقصانها، ومع هذا تأتي وتقول: نعم، لا إشكال في ذلك! فقلتُ لها: حسنًا، فإن كان الأمر كذلك، فأنا أعتقد أن السيّد الوالد يعتقد بكذا. فقالتْ: كلّا، هذا ليس ما يعتقده. فقلتُ: ولِمَ لا، فهذا [الكلام] هو طبق قانونك الّذي سنَنْتيه، ألم تقولي لي أنّه إذا كنت أعتقد أنّ رأيه هو كذا [فيحقّ لي أنه أنقله على أنّه قد قاله]، جيّد فأنا اعتقد بأنّ رأيه هو كذا! ولكن ذلك في الحقيقة خلاف قوله.وهذا في مسألة واحدة فقط، فكيف وقد سمعنا مِن هذه الأمور أكاذيب عجيبة نُسِبت إلى السيّد الوالد! وما بيّنته لكم هو إحدى الصور والأمثلة.
[ومِنَ الأمور الّتي حصلت] أنّ شخصًا مِن أصدقائنا – وهو شخص جيّد رحمه الله وفاضل وعالم وذو أخلاق جيّدة وله بعض الأحوال – بعد وفاة السيّد بستّة أشهر أُصيب بسرطان المعدة وسرطان داخليّ، وكنتُ بحسب تصوّري وتقديري أعتقد أنّه سيموت بعد أربعة أشهر أو أكثر [بقليل]، فيومًا جاءت امرأة وقالت:رأيت مكاشفة قال لي فيها السيّد الوالد رحمه الله أنْ قولي للسيّد محسن۱ بوجوب رعاية هذا الشخص [المريض] وأن يفعل له كذا وأن ينقل له كذا وكذا، ويُحسِّن موقعيَّته ويعزّز موقفه أمام الأصدقاء والرفقاء. وأنا كنت أعتقد برأيي القاصر أنّ هذه الأمور غير صحيحة وغير ممكنة، فسايرتُها قليلًا وقلتُ ممازحًا: نعم، إن شاء الله، يُصحّح اللهُ أحواله، إن شاء الله، ونحن سنهتمّ بأموره ونقوم بواجبنا معه. وبعد أسبوع اتصلتْ ثانية وقالتْ: أنا رأيتُ السيّد الوالد بالمكاشفة وقال لماذا السيّد محسن يُهمل هذا الشخص [المريض]! فعليه أن يقول كذا ويفعل كذا. ولكنّني لم ألتفتُ إليها، ثمّ بعد أسبوع اتصلتْ ثالثة وقالت: كذا وكذا. وكرّرت هذا خمس مرّات، كلّ مرّة كانت كسابقتها. وفي إحدى المرّات كنتُ في مستشفى في طهران لإجراء عمليّة جراحيّة في الحلق لابننا السيّد مرتضى، فكنتُ جالسًا وتلك المرأة كانت جالسة معي فقالتْ: رأيتُ السيّد الوالد بالمكاشفة ليلًا فقال لي: سيكون السيّد محسن صباحًا في المستشفى – لاحظوا ودقّقوا كيف تتعامل – فاذهبي إليه وتكلمي معه وقولي له كذا وكذا – أنا لا أريد أن أصرح [بكلّ ما قالته لي] – وأنّ لهذا الشخص كذا وكذا، ويجب على السيّد محسن أن يفعل كذا وكذا. وحينئذ نفد صبري وقدرتي على التحمّل وقلتُ لها بصراحة: إذا رأيتي السيّد الوالد هذه المرّة سلّمي عليه وأبلغيه سلامي وقولي له: إذا أراد أن يبلّغني شيئًا فليأتِ إليّ بنفسه ويبلغني ذلك، ولا يرسل أحدًا لذلك. ففهمتْ حينئذ [ما أريد قوله]، وفهمت أنّني أدركتُ القضيّة. وبعد هذا التفتُّ إليها وقلتُ لها: سواء قُلت أم لم تقولي، فإنّ هذا الشخص [المريض] سيموت بعد شهرين، ولا رادّ لقضاء الله تعالى. فاندهشتْ وسكتت! وكان الأمر كما الله تعالى قَدّر.
ثمّ إنّنا واجهنا ورأينا مسائل أخرى كلّها كانت.. لماذا يحصل كلّ ذلك؟! إنّ التخيّل والخيال خلّاق، ونحن لا نقول أنّ تصرّف تلك المرأة كان عمدًا أو عن غرضٍ وعنادٍ، لا نقول ذلك – فالله تعالى أعلم بحال النفوس والله تعالى أعلم بأحوالنا – ولكن نقول أنّ تلك المسألة مخالفة للواقع، مخالفة للواقع حقيقة. لماذا، لماذا الإنسان لا يتحقّق مِن مطابقة أفعاله وأقواله مع الواقع، لماذا؟! كثير مِن هذه المسائل ومِن أفكار الناس بل جميعها ناشئة من عدم الدقّة، فيجب على الإنسان وخصوصًا السالك أن يخرج مِن هذه الأفكار العاديّة والهابطة وينعزل عنها ويرتقي بنفسه وبفكره ويدقّق ويتفحّص أفكاره، حتّى يرى آثار ذلك بعد مدّة، فهو سيرى بعينه وبنفسه وببصيرته هذه الآثار الإيجابيّة مِن هذه الناحية. هذا فيما يخصّ الأفراد والعوام.
متى وكيف يفهم الإنسان حقيقة الولاية
أمّا معرفتنا بالإمام عليه السلام فهي مِن ذلك القبيل، يعني إذا لاحظنا كيفيّة تفكير زملائنا وأقراننا، سنحسب ونفكّر في أنفسنا أنّ الامام هو أعلى منّا بمرتبة مثلًا أو ببعض المراتب، والحال أنّنا لا نفهم أصلًا كيفيّة تفكير الإمام عليه السلام وكيفيّة نفسيّة الإمام الحجّة عليه السلام، أصلًا نحن لا نفهم [شيئًا مِن ذلك]، حتّى أن عقولنا عاجزة عن إدراك تلك المرتبة، يعني أنّ العقل يُدرك مرتبة معيّنة ولا يمكنه إدراك جميع المراتب، [فإدراك] بعض المراتب يحتاج إلى الشهود، [وإدراك] بعض المراتب يحتاج إلى الوجدان، يعني الشهود الواقعيّ.
نعم، إذا بلغ الإنسان مرتبة الكمال ووصل إلى مرتبة الولاية، الّتي هي مرتبة معرفة أسماء الله تعالى وصفاته بحقيقة النفس وبحقيقة الشهود، لا بالفكر فقط ولا بالعقل، بل بالشهود (يعني أن يرى في نفسه ذلك). مثلًا إذا كنت أنا وأنتم عُطاشى، ويوجد ماء في هذا المجلس، فأتى شخص وبدأ يتكلم عن الماء وكيفيّته وخصائصه وأن الله يرفع به العطش وأنّه كذا وكذا، وبقي يشرح عن الماء لمدة نصف ساعة أو ساعة، فذلك لن يروي الإنسان وسيبقى عطشانًا، بالرغم مِن أنّه فهم حقيقة الماء وأنّ له كذا وكذا مِنَ الخصائص، أمّا إذا شرب وانتفى العطش، فسيفهم حينئذٍ حقيقة الماء وكيفيّة تأثيره وفعاله على النفس وفي جهاز الإنسان وبدنه، وهذا المعنى لن تعرفوه إلّا عندما تشربون، فإذا شربتم ستفهمون ما فهمته أنا، وحينئذٍ لن يكون هناك فرق بين ما فهمناه عن الماء وبين فهمكم عنه. يعني ما فهمناه في أنفسنا عن الماء – مِن أنّه يرفع العطش وأنّ له خصائص ونتائج – هو ما فهمتموه أنتم، لماذا؟ لأنكم شربتم. وهكذا الأمر بالنسبة للمعارف؛ كمعرفة الإمام عليه السلام، وكيفيّة وساطة الإمام عليه السلام، وكيفيّة ولاية الإمام عليه السلام. فالأمر فيها كالمثال الّذي ذكرناه. فحتّى لو قرأنا ألف كتاب لن نستطيع أن نفهم هذا المعنى، فهذا المعنى يحتاج إلى الوجدان والشهود والمكاشفة، ويحتاج إلى كيفيّة معيّنة مِنَ الإدراك وهي أنّ يرى الإنسان ذلك الشيء ويشاهده في نفسه، وهذا المعنى [أي العلم الحضوريّ] موجود عند الإمام الحجّة عليه السلام ولكن بشكل أشدّ وأبيَن ممّا هو في نفس سواه مهما بلغت مرتبته، وذلك أنّ الإنسان مهما بلغ مِن المراتب فإنّه يبقى تحت ظلّ الإمام عليه السلام.
فإن وصل الإنسان إلى تلك المرتبة سيفهم حينئذ؛ كيفيّة فعال الإمام عليه السلام، وكيفيّة وساطته بين الله وبين الخلق، وسيفهم حقيقة المعاني الّتي نقرؤها في الأدعية كالزيارة الجامعة الكبيرة «أنتم الصراط الأقوم [وشهداء] دار الفناء وشفعاء دار البقاء»۱ وفي الروايات، وكيفيّة الربط والعلاقة، وكيفيّة نزول الوحي على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم، وكيفيّة قيام الأرض والدنيا وجميع العوالم بوجود الإمام الحجّة عليه السلام. وإلّا فلا [يعني وإن لم يصل الإنسان إلى تلك المرتبة فلن يستطيع أن يفهم هذه الأمور]. نعم، بقراءة الكُتب، يستطيع الإنسان أن يفهم القليل عن بعض تلك المطالب وبصورة مُجملة ومُبهمة، أمّا الفهم الدقيق والواقعيّ، فهذا أمر آخر.
وساطة الأئمّة هو طريق تكوينيّ قدّره الله للأنبياء وغيرهم
فالأنبياء عليهم السلام والمرسلون جميعًا، وجميع الأولياء والأعاظم والأساتذة الواصلين والعرفاء، لمّا فهموا هذا الأمر وفهموا أنّ الواسطة والشفيع بين الله وبين الخلق يجب أن يكون الإمام عليه السلام تراهم يتوسّلون بالأئمّة عليهم السلام، في [جميع] المسائل على اختلافها وفي [جميع] المشاكل [الّتي تواجههم في] سلوكهم وطريقهم وفي كلّ أمورهم، لأنّ الأئمّة عليهم السلام هم الواسطة، كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه {وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ}٢.
إذا سلك الإنسان طريقًا يجب أن يكون طريقًا صحيحًا وموصلًا إلى المطلوب، [وهو الطريق الّذي] قال عنه النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم «أنا مدينة العلم وعلِيّ بابها ومَن أراد المدينة فليأتها مِن بابها»٣. هذا هو المهمّ. ثمّ أنّ هذه مسألة تكوينيّة، يعني أنّ الله تعالى قدّر ذلك، فهذه المسألة ليست باختيارنا ولا باختيار أيّ شخص، فكما أنّ الله تعالى قدّر عالم التكوين على هذا النظام وخلق الإنسان على هذه الكيفيّة ومنح الإنسان بعض الأمور بدون اختياره – فهل القوّة والاستعدادات والغرائز الّتي أودعها الله تعالى في نفوسنا [قد أودعها فينا] باختيارنا، لا، ليست باختياركم، فهذه القوّة والاستعداد ليسا باختيارنا – وكما أنّ الله تعالى أعطانا هذه القوى والاستعدادات والغرائز والصفات وشكَّلنا بهذا الشكل وخلقنا بهذه الخِلقة، فكذلك هو الّذي عيّن لنا الطريق، طريق الإسلام وطريق التشيّع، وهو طريق الولاء للأئمّة عليهم السلام، وهو الّذي بيّن لنا هذا. وكلّ مَن يقول خلاف ذلك فليفعل ما يريد فعله! كلّ مَن يقول: أنا أستطيع أن أصل إلى المعارف بدون وساطة الإمام عليه السلام فليفعل! فلا علاقة لنا به، وسيرى يوم القيامة بيد مَن الأمر، يمكن أن نتجاوز في هذه الدنيا المسيرَ، ولكن لا يمكننا أن نتجاوزه في الآخرة، فسيوقفنا الله تعالى ويسألنا. فالواجب علينا أن نتطلّع لمستقبل أنفسنا في هذه المسائل.
والأمر كذلك بالنسبة للأنبياء عليهم السلام، لأنّ طريق السير الى الله ورفع الحجب بالنسبة إليهم هو نفسه بالنسبة إلينا، فليس بيننا وبينهم فرق أبدًا [مِن هذه الجهة]؛ فكما يجب علينا أن نسلك الطريق، ونشتغل بالمراقبة والأوراد، ونقوم الليل، ونؤدّي صلاة الليل، ونقرأ الأدعية، ونعاشر الأفراد والعائلة معاشرة حسنة، ونتعامل مع الناس والمجتمع معاملة حسنة، حتّى نصل الى المراحل العالية، فكذلك الأمر بالنسبة للأنبياء؛ يعني أنّ المسألة بالنسبة للأنبياء كما هي بالنسبة لنا، فلا فرق أصلًا بيننا وبينهم [مِن هذه الجهة]، فعلى الأنبياء أيضًا أن يقوموا بواجباتهم ومراقباتهم ويمتثلوا لِمَا كان الله يوجهه إليهم. ومِن ضمن هذه المسائل طبعًا رفع المشاكل؛ فكما أنّنا ندعو الله تعالى بالأدعية الّتي نسمعها مِنَ الأئمّة عليهم السلام ونقرؤها في المناسبات المختلفة والأشهر المختلفة – خصوصًا أدعية الإمام السجّاد عليه السلام الّتي تحكي عن حبّ الله تعالى وقيام العبد بواجبه – ليزيل عنّا النقص والصعوبات والمشاكل الّتي تصيبنا، فكذلك الأمر بالنسبة للأنبياء، فالدعاء هو لجميع الأفراد وهذا ثابت في القرآن والروايات، ولذا نجد في الروايات أنّ الأنبياء عليهم السلام في كلّ بليّة ومصيبة كانوا يتوسّلون بالأئمّة عليهم السلام، ويدعون الله تعالى بواسطتهم، وكان الله تعالى يرفع عنهم تلك المشاكل.
ما هو معنى الولاية وما دور المؤمن بالنسبة لها
سؤال: ماهي الولاية وما دور المؤمن بالنسبة للولاية؟
[جواب سماحة السيّد]
الولاية هي التعلّق بالله تعالى.. الولاية هي الحبّ ولوازم الحبّ؛ كلّ شخص يحبّ آخر يقولون هذا وليّ ذاك، والمؤمنون أولياء لله۱ (...٢) [فالحبيب هو الّذي] يحكي [لحبيبه] أمورًا لا يحكيها لغيره، وإذا كان هذا الحب أشدّ [يصبح المحبوب] مُشرفًا على الحبيب وعلى أموره الخفيّة والسريّة، ثمّ إذا كان هذا الحبّ أشد يُشركه في جميع الأمور الّتي يشتغل بها، ثمّ إذا اشتدّ الحبّ أكثر يرجِّح الحبيب اختيار المحبوب على اختياره ويغلّب اختياره وإرادته على اختياره وإرادته، فالولاية بيننا وبين الإمام عليه السلام هكذا، تقول الآية القرآنيّة {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}٣، ويقول{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}٤، لم يقُل في الآية أنَّ على المؤمن أن ينظر في القضاء الّذي قضاه الرسول هل هو موافق للواقع أم لا! وهل هو مطابق للقوانين الإسلاميّة والقوانين الإجتماعيّة أم لا! كلّا، بل إذا قضى الله ورسوله فلا يجوز أصلًا أن نفكّر فيما قضاه، فإذا قضى الله ورسوله أمرًا فليس لهم الخيرة،{فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}٥، عجيبة هذه الآية، يعني إذا رجع شخصان إلى النبيّ وطلبا منه القضاء بينهما، فلا يجوز أن يفكّر أصلًا في أنّ النبيّ سيحكم عليه أم سيحكم له، فلا يجد في نفسه حرجًا أبدًا ممّا قضيت ويسلّموا تسليمًا، كلمة (تسليمًا) تشير إلى كيفيّة التسليم ونوعه، عجيبة هذه الآية.
يمكن أن يقصد شخصٌ النبيَّ أو الإمام الحجّة [للقضاء]؛ مثلًا لو أنّ الإمام الحجّة حاضر في هذه الجلسة، وكان بيننا وبين شخص آخر مشكلة، فنقدّم هذه المشكلة للإمام الحجّة، فكلّ يتخيّل أنّ الإمام الحجّة سيقضي له، نعم هذا أمر متعارف إذ كلّ واحد مِنَ المتداعيَين عندما يذهبان إلى المحكمة يريد مِنَ القاضي أن يحكم له لا عليه، وهكذا يكون حالهم [إذا تحاكموا عند] الإمام الحجّة (...۱)؛ فنحن نودّ أن يقول الإمام الحجّة أنّ الحقّ مع السيّد لنفرح ونقول: أرأيتم كيف أنّ كلامي صحيح! والآخر يقول لا، لأنّه يحبّ أن يكون الحقّ مع ذاك السيّد أو الشيخ حتّى يرضى. ولكنّ [الصواب] أنّ المؤمن إذا ذهب إلى الإمام الحجّة لا يجوز له أصلًا أن يفكّر في الأمر، بل عليه أن يقدّم الدعوى إلى الإمام الحجّة والسلام، فقط وفقط، سواء قضى الإمام الحجّة لصالحه أم لا، فعليه أن لا يفكّر أصلًا في نتيجة القضاء وكيفيّة قضائه، بل يجب التسليم،{لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا ، لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا}، أصلًا عليه أن يستقبل القضاء بأفضل وأحسن استقبال وبكلّ سرور وتمجيد.
أحد الأصدقاء – رحمه الله – كان مِن تلامذة السيّد الوالد وتلامذة الشيخ محمّد جواد الأنصاريّ، كان يقول: كان بيني وبين بعض التجّار في السوق مشكلة في مسألة معيّنة، فرفعنا دعوى إلى المحكمة، وفي الليل وقبل موعد المحاكمة سمعتُ مناديًا في المنام يقول: الله تعالى يريد أن يراك محكومًا – يريد الله أن يراك في المحكمة محكومًا – وعندما استيقظت رأيت أنّ المسألة ستصل إلى الحكم علَيّ وكنتُ فرحًا ومسرورًا، وذهبت إلى المحكمة فحكم علَيّ القاضي وأنا كنت أضحك، فقال لي ذاك الشخص: لماذا تضحك؟ قلتُ: إنّ الحق معك. قال: لا، فأنا أعرف أن الحقّ ليس معي – هذا ما قاله – فلماذا أنت تضحك؟ قلتُ: سمعت في المنام مناديًا يقول (الله تعالى يريد..)..
عندما أراد الإمام الحسين عليه السلام أن يخرج مِنَ المدينة، قال له ابن الحنفيّة وابن عبّاس: لماذا تذهب؟ قال: أراد الله تعالى أن يراني قتيلًا. قال له: ولماذا تخرج بأهلك وعيالك. فقال: أراد الله تعالى أن يراهنّ سبايا.٢ فالله تعالى هو مَن قدّر هذا... فحن نسير على هذا الطريق، فعلينا أن نتقبّل ما في هذا الطريق بفرح وسرور، لأنّ هذا تقدير الله تعالى ومشيئته، فعلينا أن نتقبّل هذه المشيئة.
[فالرجل الّذي شاهد ذاك المنام قال نعم لهذه المشيئة]، وكان الشخص الآخر قد اعترف أن الحقّ له لمّا شاهد سروره وفرحته.. قال: حسنًا، هذا المال بيدك فخذه، فإنّ الله تعالى عالم بالأمور ومسيطر عليها ويرانا جميعًا وهو يعلم إن كان الحقّ معك..
حسنًا، فإن كنّا في مجتمعاتنا على هذه الحالة، يعني إذا كانت أمورنا العائليّة وعلاقات الصداقة والرفاقة بهذا الشكل وعلى هذا المنهاج، وهو منهاجٌ قرآنيّ، وكنّا سالكين على طبق هذا المنهاج، فلن يبقى حينئذ مجال للدعاوي والنزاعات والنفور والتباعد، لن يبقى أصلًا [مجال لذلك]، سواء كان الحقّ معكم أم لا.
وقد وقعت زمن السيّد الوالد بعض هذه الأمور، يعني وقع بيني وبين بعض الأصدقاء أمرٌ، فطلب السيّد الوالد حضورنا، وكانت هناك جماعة حاضرة، ومِن أوّل الأمر كنتُ أرى أنّ السيّد الوالد سيحكم علَيّ، وأنا كنت جاهزًا لذلك، يعني القرائن كلّها كانت شاهدة على ذلك بحيث كان محتومًا أنّ الحكم سيكون علَيّ، كما أنّ الأخ السيّد محمّد صادق – وفّقه الله – قال: سيّد محمّد محسن أنت ترى أنّ المسألة متّجهة لأن يكون الحكم عليك. فقلتُ: نعم أدركتُ ذلك، وأنا أعلم أنّ الحكم سيكون علَيّ. ولكن لم يكن هناك فرق أصلًا بين أن يكون الحكم علَيّ أو لي أو أن أكون مظلومًا أو ظالمًا، لماذا؟ لأنّ المسألة بيد شخص آخر، وهو مِنَ الأولياء، وهو الّذي يقول أنت محكوم عليك والحقّ معه وليس معك.. مع أنّني مقتنع حتّى اليوم أنّ الحقّ معي، إذ القرائن والأدلة كلّها واضحة وبيِّنة [في ذلك]، يعني أيّ شخص يسمع [بالقضيّة] سيقول أنّ الحقّ معي، ومع هذا فلمّا حكم [السيّد العلّامة] علَيّ، قلتُ: نعم، هو كذلك. فقبلنا أن يكون الحقّ مع الطرف الآخر وقلنا له: خذ كلّ ما شئت بدون [اعتراض].
فمسألة الولاية هكذا، أي يجب على الإنسان أن يقف أمام الإمام الحجّة بهذه النفسيّة، ويتعامل مع الإمام الحجّة بهذه الكيفيّة، ويسلّم نفسه للإمام الحجّة في جميع الأوقات بهذه الكيفيّة، وهذا النوع مِنَ التعامل نفسيّ، بمعنى أنّه يجب على السالك أن يوجد هذه الحالة في نفسه، فيكون في جميع أوقاته وكأنّ الإمام الحجّة عليه السلام واقف إلى جنبه وجالس معه، ويراه في جميع اللحظات، ويراعيه في جميع المسائل.. نعم، وإذا كان الأمر كذلك ستنتفي المشكلات في البين.
هذه هي الولاية، فولاية المؤمن للإمام عليه السلام هو أن يُرجِّح المؤمن حقيقة الإمام الحجّة على نفسه في جميع شؤونه المعيشيّة ومعاملاته وأفعاله؛ في المجتمع وداخل [المنزل]، وفي جميع أشغاله، بحيث لا يبقى له اختيار ولا إرادة إن كان الإمام الحجّة يريد شيئًا آخر. فإذا تعامل الإنسان بهذه الكيفيّة لمدة سنة كاملة، سيشاهد ويتعرّف على آثار ونتائج هذا التعامل مع نفسه، يعني سيرى بوضوح كيفيّة استيلاء الإمام الحجّة عليه وكيفيّة ولايته عليه وكيفيّة أخذه له وكيفيّة مراقبته له، فهذا ما سيراه في نفسه.
أمر الإمام الحجّة ليس غيبًا، فالإمام الحجّة الآن حاضر في هذه الجلسة وهو أقرب إلينا مِن أنفسنا ومِن هذه الكلمات الّتي أُلقيها عليكم، يعني قبل أن تخرج هذه الكلمات مِن فمي فالإمام الحجّة يعرف بها، وقبل أن تخرج هذه الكلمات فهي موجودة ومسجّلة بأجمعها في صحيفة الإمام في صحيفة نفس الإمام عليه السلام، فالنسخة الأصليّة عنده والنسخة الفتوغرافيّة عندنا، وكذلك الحال في الأمور الّتي نراها وفي لقاءاتنا مع الإخوة والأصدقاء والرفقاء؛ فالنسخة الأصلية لكلّ ذلك هي عند الإمام الحجّة، وذلك منذ زمن بعيد، بل ليس لهذه المسألة زمان فهي فوق الزمان.. [فالإمام الحجّة] أقرب إلينا مِنّا، أقرب إلينا مِن أفكارنا؛ يعني قبل أن تخطر الفكرة في خاطرنا كانت هذه الفكرة في نفس الإمام عليه السلام ومِن ثَمّ خطرت في أنفسنا. هذه هي موقعيّة الإمام، نعم، فإذا كان الأمر بهذا الشكل فكيف يجب أن تكون أفعالنا أمام الإمام، وكيف يجب أن نرى الإمام.. فكون الإمام بهذه الحيثيّة وله هذا النوع مِن الولاية، هو معنى الولاية، فالولاية هي معرفة الإمام عليه السلام بهذه المعرفة، وتسليم الأمور كلّها للإمام عليه السلام، واختيار مصلحة الإمام على مصلحتنا، واختيار إرادة الإمام على اختيارنا، واختيار مشيئته على مشيئتنا.
قد تأخر الوقت [الآن]، وإن شاء الله في الجلسة الآتية إن شاء الله نجيب عن الأسئلة الّتي [وردتنا].۱
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد
والسلام عليكم ورحمة الله