المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمالمناسبات الإسلامية
المجموعةالنصف من شعبان
التاريخ 1439/08/15
التوضيح
في ظل احتفالات مولد صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف في النصف من شعبان لعام 1439 هـ ق، ألقى سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني هذه المحاضرة القيمة وتعرض فيها لشرح المراد من حبل الله في الآية الكريمة: (واعتصوا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ...). ومن الجدير بالذكر أن أهم محاور المحاضرة كانت كالتالي: واعتصموا بحبل الله جميعا. ما هو المراد من حبل الله الذي يجب أن نعتصم به؟ أولياء الله يحلّقون في أفق أرقى بكثير من غيرهم. ما المراد من قوله تعالى ﴿رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾. المسلمون في عهد أمير المؤمنين عليه السلام لم يتمسّكوا بحبل الله. سبب العداوة هو الجهل، و طريق الله يؤلف بين القلوب.
هو العليم
الولاية حبل الله المتين
محاضرة يوم النصف من شعبان لعام ۱٤٣٩ هـ.ق
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد
وعلى أهل بيته الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
كنت قبل ليلتين أو ثلاث ليالٍ في مكانٍ ما، فاشتقت أن أسمع صوت السيد الوالد رحمة الله عليه، وهذا الأمر يحصل بين الفينة والأخرى، وكان هناك شريط [فيه تسجيل للسيد العلاّمة] موضوع على الطاولة هناك، فأخذته دون تدقيق في محتواه ووضعته في المشغّل، وبدأت الاستماع، فوجدت أنه تسجيل لخطبةٍ ألقاها رضوان الله عليه في عيد الفطر، ولعلها كانت في آخر عيد فطرٍ قضاه سماحته في طهران، ويفترض أنّ هذه المحاضرة قد وصلت إلى الإخوان وصارت في متناول يد الجميع، غاية الأمر أنّ الشريط كان عندي.
واعتصموا بحبل الله جميعا
في هذه الخطبة تحدّث سماحته عن هذه الآية الشريفة: ﴿واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا...﴾، أي: تمسّكوا بحبل الله واعتصموا به، ولا تمسِكوا بأيّ حبلٍ آخر ولا تميلوا إلى أيّ سبيل غيره، ثم يقول عز وجل: ﴿... وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا﴾، أي: وتذكّروا النعمة التي أنعمها الله عليكم عندما كنتم أعداءً مع بعضكم البعض، وكانت قلوبكم متفرقة، ولم يكن هناك انسجام بين أرواحكم؛ فكلّ واحد منكم كان يسير في طريقه الخاصّ به، فجمعكم وألّف بين قلوبكم، وأوجد التفاهم والانسجام بين أرواحكم، وجعل طريقكم واحدًا، وجعل قلوبكم مستقرةً في مسيرٍ واحد.
إنّ هذه الآية ناظرة إلى زمان رسول الله صلى الله عليه وآله، حيث أنّها تتحدّث عن زمان الجاهلية، ووضع الناس في ذلك الزمان معروف وواضح، وما هي الأجواء الحاكمة عليهم.
ثمّ يقول عزّ وجلّ: ﴿... وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا﴾، أي: وكنتم قريبين جدًا من السقوط في النار، لا يفصلكم عنها إلاّ خطوةً واحدةً، فقد كنتم تمشون على حدّ النار بحيث أن لهيبها كان يصل إليكم فتحسّون بحرارتها، فجاء الله تعالى فأنقذكم منها وأخذ بأيديكم وألقاكم بعيدًا عنها جدًا بحيث صارت النار بعيدة عنكم كثيرًا، وما عاد لهيب النار ينال منكم، فقد أبعدكم جميعًا عنها إلى درجة أنّ فكرة النار وصورتها لم يعد يخطر ببالكم.
ثمّ يختم تعالى الآية الكريمة بقوله: ﴿كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾۱.
بعد ذلك شرع السيّد العلّامة الطهرانيّ بالكلام والتوضيح، غير أنّ كلام سماحته يجري في إطار خاصّ وجوّ معيّن وبأمور كانت تجري في ذلك الزمان، حيث تحدّث عن كيفية مجيء رسول الله صلى الله عليه وآله [لهداية الناس]، والحال أنّ النبي كان عبارة عن ظهور الله وتجلّ الله على هذه الأرض، وبتعبير آخر كان النبيّ عبارةً عن تجسيدٍ لله في هذه الأرض، يعني لو أراد الإنسان أن ينظر إلى الله تعالى ويتعرّف عليه، فليتفضّل ولينظر إلى رسول الله وليراقب تصرّفاته وأخلاقه وحركاته وسكناته، وليستمع إلى كلامه، وليرَ كيف يتعامل مع الناس، وليتعرف على طريقه ومنهجه في الهداية وفي الأمور الدينية وغيرها.
إنّ الله لا يمكن أن يتكلّم معنا، ولو أراد أن يتكلّم معنا فنحن ليس عندنا قابلية لتلقّي ذلك، بل الأمر يحتاج إلى شخصٍ كموسى عليه السلام حتّى يكلّمه الله كما قال تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَىٰ تَكْلِيمًا﴾٢، وهذا الأمر يتطلّب شخصًا كرسول الله حتّى يلقي الله إلى قلبه من مقام الذات بلا واسطة وبدون توسّط جبرائيل أو غيره! أمّا نحن فلا، ولسنا أهلًا لمثل هذه الأمور؛ فماذا يمكننا أن نفعل حينئذٍ؟! علينا أن ننظر إلى رسول الله لنرى ماذا يفعل، وكيف يتصرّف، ثمّ علينا أن نقتدي به.
أجل، لقد كان سماحته يتحدّث عن هذه المطالب، وقد استمعت لبضعة دقائق ثم أوقفت الشريط، وكانت الغرفة مظلمة فجلست أتأمّل وأتفكّر، وجلست أحدّث نفسي، وأراجع أحوالي، فقلت في نفسي: أليست هذه الآية متعلّقة بنا؟! أولم يكن السيد العلاّمة رضوان الله عليه يتحدّث عنّا في محاضرته؟! [بلى]، غاية الأمر أنّ ظاهر الكلام كان راجعًا إلى الحديث عن زمان النبيّ صلى الله عليه وآله، مع أنّه كان محتفًّا بالإشارات على المراد.
ما هو المراد من حبل الله الذي يجب أن نعتصم به؟
ثمّ جلست أفكّر في نفسي بأنّه: ما هو قصد سماحته؟ وما مراده من "حبل الله" الواردة في قوله تعالى: ﴿واعتصموا بحبل الله﴾؟ فكلّ واحد ينادي الآن باسم "حبل الله"! فهذا يقول: تعالَ اتبعني أنا، وذاك يقول: بل هلمّ إليّ أنا! [وكلّ ذلك باسم الله وطريق الله]، هذا حال المعمّمين ورجال الدين، وأمّا غيرهم فإنّ حالهم أسوأ والأمور التي يدعون الناس إليها أخطر. وهو يدعو الناس بتعابير مؤدّبة وجذابة، وينادي: إنّ طريقنا هو الحقّ، ويحاول أن يظهر منهجه على أنه منهج إسلاميّ وديني واقعًا.
وهكذا كلّ واحد يقول: تعال إلى هنا، وهلمّ إليّ، ولا أحد يقول: اذهب إلى هناك! لا أحد يقول: لا تأتِ إلى هنا بل اذهب إلى هناك! وفي المقابل أنا لم أسمع طوال المدّة التي عرفت فيها السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، لم أسمع منه أنّه يدعو إلى نفسه، وكذلك في طوال الأربعين سنة التي كنت خلالها في خدمة السيّد الوالد [العلاّمة الطهراني] رضوان الله عليه لم أرَ أنّه يدعو إلى نفسه أبدًا، بل كان دائمًا يقول: هذا هو ما نفهمه!
ذات مرّة واجه أحد تلاميذه في إحدى المناطق مشكلةً شرعية، وكان رأي سماحته واضحًا في المسألة، ولكنّ العلماء الآخرين كانوا يقترحون طرقًا حلّ مختلفة، فجاء هذا الشخص إلى سماحته، وكنت أسمع حديثهما من خارج الغرفة، فسمعت السيّد العلاّمة يقول: أنا لا أقول لك: إنّ طريقنا هو الحقّ، بل أقول: إنّ هذا هو ما فهمناه وتوصّلنا إليه، فإن أردت أن تأتي إلى هنا، فلا بدّ أن تتبع هذا الطريق الذي بيّنته لك، وأمّا قولك إن العلماء الآخرين يقولون كلامًا ثانيا وعندهم رأي آخر، [فيمكنك أن تتبعهم ولا أحد يجبرك على البقاء هنا].
وأذكر جيّدًا أنه قال: وما لم يتبيّن لي أنّ هناك خطًا في الرأي والنتيجة التي توصلت إليها، فإنّني لن أتراجع أبدًا عن رأيي (كان يقول ذلك بحزم وإحكام). أجل، لو تبيّن لنا أنّ ما توصّلنا إليه خطأ فذلك مطلب آخر ولكلّ حادث حديث.
هل التفتّم؟ نحن لم نسمع منه يومًا أنّه يقول: تعالوا إليّ! ولم نره يسعى لجمع الناس واستقطاب المريدين حوله، ولم نشاهده ينصب الإعلانات ويعلّق اللوحات ليدعو الناس لحضور مجلسه أن: أيها الناس، ههنا يوجد مجلس عزاء فتعالوا، تعالوا أنتم، وأخبروا أصدقاءكم وأقاربكم ليأتوا هم أيضًا! كلاّ، لم يكن عنده من هذه الأمور أبدًا، ولم تكن تخطر في باله حتّى.
قلت له ذات مرّة في آخر حياته: سيّدنا، دعنا نبني طابقًا إضافيا في البيت؛ لأنّ البيت لا يكفي للأفراد الذين يأتون لحضور المجالس، فكثيرًا ما يضطرّون للجلوس في الشرفة والحديقة، بل إنّ بعضهم كان يجلس أمام البيت في الزقاق بسبب الازدحام! فقال سماحته: كلاّ، هذا الموجود فقط، ومن شاء أن يحضر في المجلس فليحضر أبكر في الصباح، ولا داعي لبناء طابقة إضافي! وهكذا بقي الأمر في زمان حياته، وبعد أن توفّي رحمه الله جاء بعضهم إلي واقترحوا عليّ أن نبني طابقًا إضافيًا، فقلت لهم: ما كنت لأفعل أمرًا رفض والدي في زمان حياته أن يفعله! وما زال البيت الآن على حاله.
أولياء الله يحلّقون في أفق أرقى بكثير من غيرهم
أجل من الواضح أنّ مثل هذا الشخص [السيد العلامة الطهراني رضوان الله عليه] في مكان آخر ويحلّق في أفقٍ آخر، وطريقه مختلف، وكلامه مختلفٌ.
أنا في ذلك الزمان كنت أشعر بالجدّ والحقيقة بأنّه لو لم يكن عندي مثل هذا الأب لما كنت هنا، يعني لما كنت الآن بجانبكم، بل كنت في أماكن أخرى! لقد جاء سماحته وأرانا الطريق وبيّنه لنا، وأرانا الدنيا، جعلنا نشاهد كيف أن الدنيا اعتبارية، كما أنّه بيّن لنا الحقيقة أين هي.
ذات يومٍ من أيّام الصيف، طُرق الباب، فذهبت لأفتح الباب فإذا به أحد العلماء المراجع، وهو بحمد الله ما زال على قيد الحياة، وكان قد جاء لملاقاة السيّد الوالد رحمه الله، فدعوته للدخول وأخذته إلى القبو فجلس بانتظار السيد الوالد، ثمّ جاء المرحوم الوالد، وكان السؤال الذي أراد هذا العالم أن يطرحه على السيّد الوالد هو هذا: هل عندك علم الجفر؟
فأجابه السيّد الوالد: سواءً كنت أعرف علم الجفر أم لا، فما الذي يهمّك أنت من ذلك؟
فقال: أنا أريد أن أعرف كم هو عمري الذي كتب لي.
فضحك السيّد العلاّمة رضوان الله عليه كثيرًا، ثمّ قال: يا سيّد، لنفرض أنّك سترحل عن هذه الدنيا غدًا...
فتفاجأ ذلك العالم وقال: يا للعجب! يا للعجب! (وكان الخوف الشديد قد بدا عليه بحيث أنّ روحه كادت تزهق!)
فقال سماحته: أنا أقول: افرض ذلك ... ثمّ قال سماحته: يا عزيزي، سواءٌ كان عمر الإنسان يومًا واحدًا أو سنةً كاملةً، فالواجب عليه أن يخطو في طريق الله، وأن يجعل مسيره وحركته في سبيل الله.
ثمّ طفِق سماحته يبيّن له كيف أنّ هذه العلوم الظاهري في بعض الأحيان تكون فخًّا، ومانعًا له من الحركة في طريق الله والتكامل، ولكن ذلك الرجل لم يستوعب ذلك، لأنّ باله كان مشغولًا بعدد السنوات التي بقيت له من عمره! هل التفتّم؟
بينما نحن لم نكن نعيش في هذه الأجواء، ولم نكن نهتمّ بهذه الأمور، فسماحته كان يستخفّ بالموت ولا يعتني له.
ذات مرّة، كنت إلى جانب السيّد الوالد رضوان الله عليه بعد مرض القلب الذي أصابه، وكنت أرافق سماحته في قسم العناية المركّزة، وفي غرفة النقاهة أيضًا، وهذه القضية التي أنقلها كانت بعد خروجه من قسم العناية المركّزة في قسم تنويم المرضى من المستشفى، ففي إحدى الليالي ذكر لي سماحته أمورًا، وأمرني ببعض المسائل، عليك أن تفعل هذا في هذا الأمر وافعل كذا في ذاك الأمر، [فشعرت أنّ هذه الأمور كأنّها وصايا من يريد الرحيل، فبدا الضيق على وجهي]، فنظر إليّ سماحته وقال لي: ما بالك يا سيّد محسن؟! لماذا تضايقت؟!
فقلت له: هذا طبيعي سيّدنا ...
فقال سماحته: اذهب يا هذا في حال سبيلك، فأنا الذي تراني أمامك سعيد ومسرور جدا!
فقلت له: سيّدنا، من الطبيعي أن تكون أنت مسرورًا وسعيدًا، وهذا ما يفترض أن يكون، ولكنّني أفكّر بمصيبتنا نحن، وأمّا أنت فينبغي أن تكون سعيدًا، ولو كنت في مكانك ومثلك لكنت أنا أيضًا سعيدًا، بل ربما كنت أشدّ سرورًا!
هل التفتّم؟ لقد كان يقول: أنا سعيد ومسرور، وكان يمدّ صوته بها.
وهكذا، أعطانا سماحته فرصة قصيرة مدّتها ثلاث سنوات ثمّ ارتحل، وأنا ما كنت أدري أنّ الفرصة ستكون قصيرة إلى هذه الدرجة، بل كنت أتصوّر أنّه سيبقى عشر سنوات على الأقلّ،
[وكان سماحته يقول:] في النهاية علينا جميعًا أن نرحل عن هذه الدنيا، ونترك الموقع الذي نحتلّه فيها لغيرنا، فقد أعطينا مهلة بعض السنوات، ثمّ بعد ذلك لا بدّ أن نرحل! هل التفتّم؟
حتّى أنّ سماحته كان يتضايق عندما يأتي أحد لعيادته وقال: أطال الله عمرك سيّدنا، وكان يقول له: كم تريده أن يطيل عمرنا أكثر من هذا، لقد عشنا عمرنا وقضيناه، فلماذا تقولون ذلك، ولماذا تفعلون هذه الأمور؟! (حيث أنّهم كانوا يذبحون فدوًا، وينذرون نذورًا حتّى يطيل الله عمره) ، فكان يقول للحقير: ماذا يريد الرفقاء منّا؟! لقد قلنا ما عندنا من كلام، وأدّينا وظيفتنا، وعملنا ما علينا، فماذا يريدون منّا بعد ذلك؟!
لو تأمّل الإنسان في هذه المسائل لوجد أنّ مثل الأمور لا توجد في مكانٍ آخرٍ، وهذا السطح العالي من الفكر، وهذا الأفق الرفيع، وهذا المنهج والمرام الراقي لا توجد في أيّ مكانٍ! بل لا نجده حتّى عند العظماء، حيث كان هناك مجموعة من الأفراد الذين كانوا فعلاً من العظماء والصلحاء والعلماء والعبّاد والمعرضين عن الدنيا رحمة الله عليهم جميعًا، ولكن حينما كنّا نُجالسهم أو نستمع إلى كلامهم، كنّا نرى أنّ ما ينبغي طرحه من مسائل هو فوق ما يتحدّثون عنه.
ذات يوم في زمان المرحوم العلاّمة، ذهبت بعد الظهر برفقة صديقين ـ وقد التحق أحدهما برحمة الله تعالى ـ لزيارة أحد العظماء رحمة الله عليه، فطرقنا الباب، حيث كان هذه العظيم على معرفة بنا، فبدأنا بالتسليم، وانتبهت إلى أنّ هذا الرجل المسنّ الذي جاء عند الباب يلبس قميصًا وسروالاً، فقلت له: «أعتذر منكم يا سيّدي إن كنت أتيت في وقت غير مناسب»، فقال لي: «لا، تفضّلوا، لكنّني لا أستطيع أن أعطيكم إلاّ خمس دقائق!»، فشكرته كثيرًا، ثمّ ذهبنا للجلوس، لكن، ما حصل أختصره لكم في كلمتين: لقد قضى ساعة وخمسة وأربعين دقيقة في الكلام فقط! بل واقتصر كلامه فقط على الحديث عن مسألة الظهور، فتحدّث عن متى يظهر إمام الزمان، وأنّ فلانًا شاهد في الرؤيا الأمر الفلاني بشأن هذا الموضوع، ووقعت لفلان الآخر مكاشفة بخصوصه، وقال فلان ثالث عنه كذا وما شابه ذلك.
ومهما حاولت أن أقول له: إنّ هذا يكفي وأنّه لدينا أيضًا أعمال تنتظرنا، لكنّه لم يكن ليتوقّف!! حتّى طرق الباب في نهاية المطاف شخصان آخران أو ثلاثة أشخاص، ودخلا، فخرجنا بسرعة؛ علماً أنّه قد دار بيننا نقاش بشأن إحدى المسائل، لكنّه لا مجال للحديث عنها الآن؛ وخلاصة القول أنّنا غادرنا المكان! فالتفت إليّ نفس ذلك الصديق ـ الذي توفّي رحمة الله عليه ـ والذي كان يُصرّ على الذهاب عنده وزيارته، وقال: «لقد قلتَ لي بأنّه لا فائدة من الذهاب، لكنّني لم أُصغ إلى كلامك!!» هل التفتّم؟!!
إنّني لم أسمع المرحوم العلاّمة طيلة فترة حياته يتحدّث عن مسألة الظهور ولو لمرّة واحدة؛ أجل، في إحدى المرّات، تحدّث عن هذه المسألة بنحو الإيماء والإشارة، وقد كنت حاضرًا في ذلك الحين، لكنّ هذا غير أن يأتي ويقول: إنّ وقت الظهور هو هذا، و...؛ وفي الوقت ذاته كان حينما يُذكر اسم إمام الزمان، فإنّ لون وجه سماحته يصير أحمر، ويطأطئ برأسه إلى الأسفل، من دون أن ينبس ببنت شفة، كما أنّني كنت أرى نفس الحالة في ملامح وجه السيّد الحدّاد رضوان الله عليه، والذي كان ذكره أساسًا: «يا صاحب الزمان» متى ما أراد القيام، أو الجلوس أو...
وبالمناسبة، رأيت رواية قبل عدّة أيّام عن الإمام الصادق عليه السلام، ذكر فيها أنّ وجه الإمام عليه السلام كان يحتقن ويُطأطئ برأسه إلى الأسفل كلّما ذُكر اسم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقلت مع نفسي: ما هو الأمر الذي يعرفه الإمام الصادق عليه السلام عن الرسول الأكرم ولم نفهمه نحن؟ وإلاّ لماذا حينما يُذكر اسمه صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا يتحرّك لنا جفن، بينما ينفعل هو، ويتأثّر، ويغرق في التفكير؟!! فما هي الحالة التي يعيشها، وما هي المعرفة التي يحصل عليها، بحيث يصير بهذا النحو؟ ففي نهاية المطاف، ينبغي أن يكون هناك سرّ في المسألة، وهذا السرّ غير متحقّق فينا نحن!
لقد كنت حاضرًا بنفسي في أحد المجالس والتي كانت بمناسبة مجيء أحد هؤلاء العظماء لرؤية المرحوم العلاّمة حينما جاء إلى قمّ، فقال بكلّ صراحة: «في الحادثة الفلانيّة، قمت بالعمل الفلاني، فانكشف لي أنّ ظهور الإمام عليه السلام في سنة ۱٤۱٦ هـ»؛ فكم سنة مرّت الآن على ذلك التاريخ؟! فنحن الآن في سنة ۱٤٣٩ هـ، فتكون قد مرّت ٢٣ سنة على ذلك، من دون أن يحصل أيّ شيء! وفي حادثة أخرى، سمعت بنفسي أحدهم [يُوقّت ظهور الإمام عليه السلام]، لكن، حينما واجهته بالأمر بعد ذلك، يبدو أنّه كان قد نسي ذلك، فأنكر حصوله!
ما المراد من قوله تعالى ﴿رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾
لقد كان هؤلاء من العظماء، والصلحاء، و...، لكن، هل يقتصر الأمر على ذلك؟! فتلك الآية التي تلاها على مسامعنا أخونا المعظّم سماحة الشيخ ...، والتي تقول: ﴿رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾۱ لهي آية عجيبة جدًّا! فلا تظنّوا أنّ المراد من هذه الآية هو طاعة صدّام واتّباعه، أوطاعة نيرون وأضرابه من الظلمة؛ لأنّه لا يوجد من يتّبع هؤلاء؛ فقد كان صدّام معروفًا عند الجميع، وكذلك الأمر بالنسبة لنيرون وجنكيز خان وهولاكو وبقيّة الطغاة؛ فلا يوجد هناك من يتّبع هؤلاء، بل المراد من تلك الآية هو طاعة الذين لا يتحلّى كلامهم بأيّة قيمة علميّة، ولكنّهم يستغلّون إمام الزمان، ليقولوا للناس: «لقد أمركم إمام الزمان بالقيام بالعمل الفلاني!» هل التفتّم إلى المظلوميّة التي يعيشها إمام الزمان الآن؟! فهو أكثر مظلوميّة من الجميع! إنّ هناك بعض الأفراد الذين لو أرادوا أن يأمروا الناس بأداء بعض الأفعال، فإنّ أحدًا لن يُصغي إليهم؛ فيدّعون رؤية إمام الزمان في المنام يأمر بتلك الأفعال! ألم يحصل ذلك؟! ألم يقولوا ذلك؟!
﴿فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾؛ فتعال حينئذ، وانظر! فهل أدركت الآن عاقبة الأمر؟! هل تتذكّر حينما كان يُقال لك في ذلك الحين: «يا عزيزي، لا تُصغ إلى هذا الكلام»؟! لكنّك لم تقبل النصيحة و قلت: «إنّ ذلك الشخص من العظماء، واسمه يُذاع في كلّ مكان، وله مكانة خاصّة».
إنّ ما أتحدّث به الآن يجري بنفسه على لساني، ولم أفكّر فيه مسبقًا!!! لكنّني كنت قد فكّرت سابقًا، وقرّرت أن أتحدّث للرفقاء عن تلك الآية التي سمعتها من المرحوم العلاّمة لو وفّقني الله تعالى للحديث...
﴿فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾؛ فترى أنّ سنة كاملة قد مرّت، ثمّ انقضت عشر سنين وعشرون سنة، ثمّ تكتشف بعد ذلك حجم الخطأ الذي وقعت فيه! عليك يا عزيزي أن تفتح عينيك منذ البداية! لقد منحك الله تعالى عينين ظاهريّتين، وعينين باطنيّتين؛ ويا ليتك استفدت فقط من عينيك الظاهريّتين فهي كافية؛ لأنّ المسائل الظاهريّة التي تكشف لك الحقيقة هي من الكثرة بمكان، بحيث لا تحتاج حتّى إلى عينيك الباطنيّتين؛ فهو تعالى وهبك عينين ظاهريّتين، وعينين باطنيّتين، وأعطاك عقلاً، ومنحك شعورًا وإحساسًا؛ وهذا معنى ما جاء في ذيل الآية التي تلونها في مطلع الكلام، حيث يقول تعالى: ﴿كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون﴾۱؛ أي: ماذا عسانا أن نفعل لكم؟! وكيف لنا أن نبيّن لكم؟! وما هي الوسيلة التي ينبغي لنا أن نتّبعها حتّى نُفهمكم أنّ هذا ليس هو الطريق الصحيح؟! وكيف يُمكننا أن نفهمكم بألاّ تميلوا بأسماعكم إلى كلّ ناطق؟! وبألاّ تتّبعوا أيّ كلام صدر من أيّ فم؛ وألا تكونوا نظير الحيوانات التي تقتفي أثر كلّ صوت مهما كانت الجهة التي صدر منها.. أتباع كلّ ناعق؛ فهل تعلمون المراد من ناعق؟ المراد منه صوت الحمار! فترى أحدهم بعد مرور فترة من الزمان، يقول: «آخ!» والآخر بعد مرور عشر سنوات، يقول: «آخ!»، والآخر بعد مرور خمسة عشر سنة، يقول: «آخ!».. يا سيّدي، لماذا لا تقول «آخ!» منذ البداية، وليس بعد مرور خمسة عشر سنة، أو عشر سنوات، أو خمس سنوات؟!! تراه بعد كلّ هذه السنوات يقول: «يا للعجب.. يا له من خطأ ارتكبته! يا ليتني لم أكن أُصغي إلى كلامه! يا للعجب! يا للعجب!»، فهل يصحّ هذا؟! وهل هذا التعجّب يحلّ المسألة؟!
لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: «إنّنا بسطنا المائدة، لكن، هل يوجد من يأتي ويجلس عليها؟!»، فهذه المسألة كانت موجودة حتّى في زمانه، وفي تلك الأيّام السابقة التي كان يمشي فيها الجميع في طريق خاصّ، وكانت كافّة الأصوات منساقة في اتّجاه واحد، حيث يتذكّر الرفقاء القدامى أنّنا كنّا ننتظره حينما يأتي لنستمع إلى ما يريد قوله، ونتحيّن الفرصة لينطق بكلمة، لكنّه كان يأتي ويجلس، ويبدأ في التحديق بنا، فنُدرك [أنّه لا يريد الكلام].. وكان لسان حالنا: بالله عليك يا سيّدي، تحدّث ولو بكلمة واحدة؛ إمّا مؤيّدة أو غير مؤيّدة [لما كان يقع من أحداث]، لكنّه لم يكن قادرًا على الكلام؛ لأنّه لو تكلّم في هذه الجهة، فإنّ في ذلك محذورًا، ولو تكلّم في الجهة المقابلة، فإنّ في ذلك محذورًا آخر، ولذا كانوا يعترضون عليه: «ما هذا؟! انظروا إلى هذا السيّد الذي جلس منزويًا لا يتحدّث بشيء! وفي المقابل ألا ترون إلى كثرة المؤيّدين! وانظروا إلى الناس الذين ملؤوا الشوارع بأعداد كالسيل!»، لكنّه في المقابل، كان يبقى ساكتًا، ويكتفي بالنظر؛ وقد كنت متواجدًا في بيته آنذاك، فاطّلعت على كلّ الأحداث، وتمكّنت بعقلي الناقص أن أفهم بعض الأشياء، حيث كان يأتي أصدقاؤه، ويخبرونه عمّا يقع، وأنّ فلانًا تحدّث بالكلام الكذائي، وأنّ علاّنًا صاحب المنصب المهمّ قال كذا... فكان يقول: «يا للعجب! يا للعجب!»، لكن، ماذا بعد ذلك؟! وكان السامع ينتظر منه أن يبيّن شيئاً أكثر غير التعجّب! لكنّه كان يقتصر على التعجّب إلى نهاية المطاف، بل وإلى الآن!! حيث يأتي عندي بعضهم ويُخبرونني ببعض الأشياء، فأقول لهم فقط: «إنّه لعجيب جدًّا!»، حيث يحضرني كلام المرحوم العلاّمة في هذا الصدد.. هل التفتّم؟! لقد كان هؤلاء [الأولياء] يرون بعض الأشياء التي لا نراها نحن، ويمتلكون معرفة لا نمتلكها نحن..
فقوله تعالى: ﴿فَأَضَلُّونَا السَّبيلاَ﴾؛ أي أنّ الآخرين أرونا الطريق الخاطئ، لكن، متى نلتفت؟! لا نلتفت بل نظلّ نمشي ونمشي ونمشي، حتّى تحدث العديد من المسائل ـ ويا لها من مسائل!! ـ ، ثمّ يبدأ الإنسان في الانتباه بالتدريج، فيقول: «يا للعجب!»؛ فيا ليتنا أصغينا لكلام العظماء منذ البداية، وأرحنا أنفسنا منذ ذلك الحين، وأزحنا عنّا المخاوف في تلك اللحظة!
ففي نهاية الأمر فإن أولئك الذين يقولون هذا الكلام مسلمون أيضًا، ومن أهل الصلاة والصيام، ولكنّهم يواجهون بعض الأمور والمشاكل، وعندما تواجههم بعض المشاكل، ما الذي يحصل لهم؟ يشعرون بالضيق وبعدم الارتياح؛ [فيقررون أن يفعلوا شيئاً و يتحركوا] فهم متدينون وملتزمون، وهذا واضح وملموس فيهم.
المسلمون في عهد أمير المؤمنين عليه السلام لم يتمسّكوا بحبل الله
إنّ التاريخ عجيب واقعًا! فنظير هذا الأمر حصل في عهد أمير المؤمنين عليه السلام، حيث جاء الناس إلى أمير المؤمنين وقالوا له: نريد أن نذهب إلى هذا الخليفة الثالث ونقضي عليه؛ ويبرّرون ذلك بذكر ظلمه وجنايته لأمير المؤمنين عليه السلام، فكان عليه السلام يجيبهم قائلاً: إني أعرف ظلمه أكثر منكم. وكذلك عندما كان يأتيه أحدهم ويقول له: فلان فعل كذا وكذا. يقول له أمير المؤمنين: إني أعلم عشر أضعاف ما تعلمه مما فعله؛ فلا تعلّمني!
أجل، فالناس لا تحتمل ما يقوم به هذا الخليفة من مخالفات وجنايات وآثام، ومن تقسيم أموال بيت المال بينه وبين أفراد عائلته، ومن الظلم الذي يقوم به وغير ذلك، فيقولون لعلي عليه السلام: نريد أن نذهب ونقتله. فيقول لهم عليه السلام: اتركوه ولا دخل لكم به، فإن الخلافة التي تدافعون عنها هي حقّي، وأنا لا أريدها، فلمن تريدون أن تأخذوا الخلافة؟ إنكم تريدون أن تعطوها لي، وأنا لا أريدها، فها أنا ذا قد جلست في منزلي طوال خمسة وعشرين سنة، نعم خمسة وعشرين سنة من دون أن أتدخّل؛ هذا إن كنتم تريدونها لأجلي؛ وأمّا إن كنتم تريدون أن تتصرفوا من تلقاء أنفسكم، فلماذا تأتون إلي؟ إنّكم حينما تأتون إلى عليّ فإنكم تأتون إلى صاحب العقل الأحسن والأكمل، وإلا [لو لم تكونوا بحاجة إلى رأيي] فإنكم تشاورتم فيما بينكم واجتمعتم وعقدتم مجلسًا وأفتيتم بقتل عثمان، وأنهيتم المسألة فلماذا تأتون إلي؟! اذهبوا وافعلوا ما يحلو لكم! إنكم عندما تأتون وتستشيرونني فأنا لا أقدر أن أعطي رأيًا طبقًا لما يناسب إرادتكم ورغبتكم، فأنا عليٌّ وينبغي عليَّ أن أعطي رأيًا طبقًا لطريقة عليٍّ، وأنا عليٌ فينبغي أن أعطي رأيًا يتناسب مع نظر عليٍّ، وهكذا كانت طريقة رسول الله، فأنا أقول لكم: لا تفعلوا الأمر الفلاني [يعني قتل عثمان].
فيقولون له: كيف ذلك؟!! فقد أتينا الآن وحاصرنا المدينة، ورسمنا الخطّة، وجهّزنا العتاد، واحتِلنا للأمر؛ ثم تأتي وتقول: لا تفعلوا !
فما الذي يفعله أمير المؤمنين عليه السلام في هذه الحالة؟ واقعًا ما الذي يفعله؟ سيعتزلهم، هذا ما سيفعله، ويقول لهم: اذهبوا وافعلوا ما يحلو لكم. فيذهبون ويقدِمون على هذا العمل ومن بعدها تبدأ المصائب، هل التفتم؟
فأمير المؤمنين يقول لهم: إنّكم إذ أتيتم إلى هنا فإنكم أتيتم إلى حبل الله، لا إلى حبال الناس، فكلّ واحد من الناس لديه حبله الخاصّ به، والناس لديهم حبال مختلفة، لديهم حبل الرئاسة، ولديهم حبل المال، ولديهم حبل الجمال، ولديهم حبل السلطة، ولديهم حبال المنصب. فمثلًا أحدهم يقول لآخر: هل نقوم بالعمل الفلاني؟ فيقول له: عندي صديق في المديريّة الفلانيّة يستطيع أن ينجز لنا هذا العمل؛ فهذا هنا يصير حبلًا.
أو ترى أحدهم يقول لآخر: هل نقوم بالعمل الفلاني؟ فيقول له: نعم فإنّ عندي صديق في المكان الفلاني يده طائلة يستطيع أن يخلّصنا من كل مشكلة تخطر على بالك! فهذا يصير حبلًا.
وعلى سبيل المثال لو قال أحدهم لآخر: هل نقوم بالعمل الفلاني؟ يقول له: ما دام عندك فلان فلا تقلق، وهكذا تجد أنّنا عوضًا عن جعل الله هو حبلنا فإننا نضع ألف حبل غيره ـ شئنا أم أبينا ـ في أذهاننا وفي قرارة أنفسنا؛ ولكن تظهر هذه الحبال في الوقت المناسب، فعندما نقع في مشكلة يظهر لنا حبلٌ ما، وبمجرّد أن نقع في مشكلة أخرى نأخذ بالحبل الآخر، وهكذا نتعلّق في الموارد والظروف المختلفة بالحبال المختلفة، ففي الموارد المختلفة تظهر تلك الحبال وتطفو على السطح.
يقول المرحوم العلامة: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ﴾. أي فقط حبل الله، فعلى السالك أن لا يكون في ذهنه أيّ شيء آخر، ولا يكون في فكره أي شيء، وينبغي عليه أن لا يخطر في ذهنه أي شيء، ولا يتعلّق بشيء سوى حبل الله، وحينئذٍ فكلّ ما يأتي به الله فليأتِ به، وكلّ ما يقدّره الله للإنسان فعلى الإنسان أن يرتضيه لنفسه.
سبب العداوة هو الجهل، و طريق الله يؤلف بين القلوب
ثم إنّ هذه المسألة هي التي كانت مثيرة للاهتمام بالنسبة لي، وهي ما يقوله تعالى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً﴾. فما هو سبب هذا العداء والعداوة؟ كلّ ذلك يرجع إلى الجهل، وكلّ ذلك ناشئ عن عدم المعرفة، فعندما لا يكون عند الشخص معرفة ويكون جاهلًا، فإنه يسلك طرق الاختلاف لا الطريق المشترك، فعندما يكون الشخص جاهلًا تراه يقول: لماذا تعامل فلان معي بهذه الطريقة؟! سأقطع علاقتي معه! يا عزيزي إن كان قد عاملك بهذه الطريقة فإنما عاملك بها مرّة واحدة، وحتى لو فرضنا أنه كان مخطئًا في تعامله هذا؛ ولكن لماذا تقول سأقطع علاقتي معه؟! هل التفتم؟! يقطع علاقته مباشرة! وبالطبع فهو يقطع العلاقة معه إذا لم يجد أنّ هناك نفعًا يعود عليه من هذه العلاقة، وأمّا إذا رأى بأنّ هناك نفعًا يعود عليه من هذه العلاقة فإنّه يتغاضى عن ذلك الخطأ ويقلّل من حجمه و أهميته؛ أليس هذا هو الوضع الذي نحن عليه؟! [يقول سماحته ممازحاً] إن لم يكن الأمر كذلك وكنت مخطأً فصحّحوا ما أقوله، أي إن رأيتم أني مخطئ فقولوا: صحيح! يعني قولوا: صحيحٌ أنّك مخطئ!
لا ترانا نبني علاقاتنا على أساس الأمور المشتركة التي بيننا، وإنما نبنيها على أساس المسائل الخلافيّة فنقول: الشخص الفلاني لم يأت إلى هنا.. الشخص الفلاني لم يقم بهذا العمل.. الشخص الفلاني قال الكلام الفلاني.. والشخص الفلاني قام بكذا.
يا عزيزي اجلس وفكّر وقل في نفسك: إنّ جميع هذه الأعمال التي قام بها ناشئة من الأهواء، ومن ضيق الأفق، ومن عدم المعرفة، [وليست ناشئة من الخبث، فينبغي الإضاء و التسامح وسعة الصدر]. إنّ هذه الأمور التي [أقولها لكم من ضرورة الجلوس والتأمّل بذلك والنظر إلى زاوية الإتفاق] هي أوامر سلوكيّة، فلا تعتقدوا بأنّ السلوك هو بالتفوّه بالأذكار وما شابه ذلك فقط، كلّا، وقد قلتها لكم عدّة مرّات: إن المسائل السلوكيّة هي هذه المسائل، فلو كان السلوك مائة وِحدة، فإنّ خمسة وتسعين بالمئة منه هي هذه المسائل وخمسة بالمئة منه باقي المسائل، فالمهم بالأمر هي هذه المسائل.
إنّ ما كان في أيام الجاهلية والمسائل التي كانت فيها في مكانها؛ ولكن نحن الآن ما هو وضعنا؟! نحن الآن نعيش ونتحرّك في ضمن أهوائنا، وفي حدود نظرنا، ونتحرّك في إطار الاعتبارات التي وضعوها لنا، فيأتي الله ويأتي أولياؤه ليزيحوا هذه الأهواء عنّا وهذه الأمور، ويأخذوا النقطة المشتركة بيننا، فيقولون لنا: هل هذا الشخص من رفقائك أم لا؟ حسنٌ جدّا. أيؤمن بالله أم لا؟ حسن جدّا. هل هو تابع لله أم لا؟ حسن جدّا. هل هو تابع للإمام أم لا؟ حسن جدّا. أليس هو من أتباع هذا المنهج؟ حسن جدًّا. ما دام هو كذلك والأمر على هذه الحالة فخذ هذه المسائل [المشتركة]واترك المسائل الأخرى، وهكذا يحصل: ﴿فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾ أي أنّه ألّف وجمع من خلال هذا الطريق وهذا المنهج وهذه المدرسة بين القلوب والنفوس. ما الذي جمعنا نحن هنا؟ هل نحن مجتمعون لأنّ اليوم هو يوم عيد ويقام العيد هنا؟! إن كان الأمر كذلك فإنّ جميع المساجد والحسينيات والأماكن الأخرى قد احتفلت بالعيد. هل التفتم؟!
إنّي هنا أريد أن أنبّهكم على نقطة دقيقة فالتفتوا؛ إنّ العيد قد أقيم في كلّ مكان، فهل أتيتم إلى هنا لأجلي أنا؟ لم يأتِ أحد منكم إلى هنا لأجلي أنا، فأنا واحد مثلكم لا فرق بيني وبينكم، فيومٌ أكون هنا ويومٌ لا أكون، وأشارك في المجالس يومًا ولا أشارك فيها يومًا، ألم يحدث ذلك في هذه الفترة؟ بلى حدث كثيرًا، فمجيئي بحسب ما يقتضيه حالي، فإن اقتضى حالي المجيء أتيت، وإن لم يقتض حالي المجيء لم آتِ، وإذا كان [مجيئكم] لأجل الاستماع لكلامي، فكلامي ليس بذلك الشيء المهم.
إذًا ما هو [الذي يدفعنا للمجيء إلى هنا]؟ هو شيء منطوٍ في أذهاننا جميعًا، وهو أننا جئنا باحثين عن ذلك الطريق الذي اتّخذه العظماء طريقًا ومسيرًا لهم، باحثين عنه في مكانٍ ما، فهو يحتاج إلى مكانٍ معيّن وأجواءٍ خاصّة وكلامٍ مخصوص، هل التفتّم؟
حينما ترَوْن أحد العلماء المعروفين يكتب كتابًا ـ وهو عالم معروف وكتابه الآن موجود في السّوق وفي كلّ مكان ـ يتحدّث فيه عن العظماء من أهل المعرفة مثل المرحوم العلّامة الطهراني والسيّد الحدّاد ويعدّهم من العرفاء الكذّابين! فمن الطّبيعي أن تبحثوا بأفكاركم وأذهانكم وقلوبكم عن مدرسة أفضل، وكذلك غيره [من الذين يتّهمون العرفاء] فهذا نموذج واحد ليس إلاّ، وقد نشر كتابه، وكتابه موجود الآن في السّوق فاذهبوا وخذوه، هل التفتّم؟
حسنًا حينما يكون الوضع بهذا الشكل، ألن يخطر في بالنا أن نذهب إلى مكانٍ آخرٍ يكون فيه أمورٌ قيمة واقعاً، فما عند [غير العرفاء] هو هذا، وكل ما عندهم هو على هذه الشّاكلة وبنفس هذا الإطار.
يقول تعالى: ﴿إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ﴾، يعني أنّ الله يُخرجنا من هذه الأجواء ومن هذا الذهاب والمجيء الذي لا فائدة منه ومن هذه الدّعايات ومن هذه الإعلانات، ويأتي بنا إلى أين؟ يأتي بنا إلى مكان نتعرّف فيه ماذا يوجد يوجد هناك في عالم الآخرة، وماذا يقول أهل الله وأصحاب المعرفة، فقد رأينا الآخرين وماعندهم، رأيناهم جميعًا، رأينا صغيرهم وكبيرهم، ولم يعجبنا فلنذهب لتلك الناحية ونرى أيّ نسيم سيأتي من هناك، هل التفتّم؟ لهذا السّبب نحن أتينا إلى هنا، وأنا أيضًا لهذا السّبب آتي إلى هنا، وأنتم تأتون إلى هنا لهذه العلّة، جميعنا أتينا وهمّنا هو ذلك المقصد وذلك الهدف، وإلا فإنّ الأمر لا علاقة له بالحقير، فأنا يومًا أكون موجودًا وآخر لا أكون موجودًا، فسواء كنت موجودًا أم لا، ينبغي لهذه المجالس أن تبقى قائمة هنا، سواء في حياتي أم بعد مماتي، وهذه نفس وصيّة المرحوم العلّامة التي أوصاني بها في حياته حينما كان في المستشفى، أن يا فلان، يجب أن تبقى هذه المجالس قائمة هنا حيًّا وميّتًا، وأنت عليك أن تكون النّاظر على هذه المسألة، ففي هذه المدرسة لا محورية لشخصٍ معيّن أو فردٍ ما، هل التفتّم؟
من هنا نحن نتيقّظ وننتبه إلى كُنه القضيّة، ونفهم لماذا المرحوم العلّامة بعد مكثه في قم لمدّة سبع سنوات وبعد تتلمذه على يدي العلّامة الطباطبائي في هذه السّنوات السّبع، فقد كان تلميذًا له في الظّاهر والباطن أيضًا، ومكثه سبع سنوات أخرى في النّجف لتصبح أربع عشرة سنة، وأربع سنوات تتلمذ على يدي المرحوم الحاج الشيخ محمّد جواد الأنصاري، وأخذ منه الأوامر السّلوكيّة، وبعد أربع عشرة سنة يقول: (لقد وفّقني الإمام الحسين عليه السلام بسبب ذهابي لزيارته في النّصف من شعبان مشيًا على الأقدام، لأن ألتقي بالسيّد الحداد).
من الذي يقول هذا الكلام؟ يقوله ذلك الشّخص الذي أمضى بنفسه أربع عشر سنة في هذا الميدان، سبع سنوات تحت تربية العلامة الطباطبائي في قم، وكذلك في النجف، جيث أنه حينما كان في النّجف كان يعمل بدساتير العلّامة الطباطبائي أيضًا، كما أنّه لازم الشيخ الأنصاري أربع سنوات، فما هي القضيّة هنا؟ بحيث يأتي مثل هذا العالم الذي يقول علماء النّجف في حقّه: (لو بقي السيّد محمّد حسين في النجف، لانحصرت مرجعيّة الشيعة فيه)، شخص كهذا يقول عندما حظي بلقاء السيّد الحدّاد عندما ذهب إلى كربلاء مشيًا على الأقدام ـ وقد قرأتم ذلك في كتاب الروح المجرد ـ قال: (لقد وصلت إلى كلّ شيءٍ بلقائي بالسيّد الحدّاد) فإذن هنا يوجد شيء، وهذا هو معنى ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّه﴾ فهل فهمتم الآن كم علينا أن نعرف قيمة النعمة التي منحنا الله إياها؟ ونعرف قيمة هذا المنهج؟ ونعرف قيمة هذه المدرسة؟ ـ وأنا أبيّن هذه المسائل للإخوة الأعزاء الذين سيرتدون العمامة خصوصاً ـ أجل، علينا أن نعلم أيّ هدف ينبغي لنا أن نضع نصب أعيننا، وأن نعرف بأيّ حبلٍ نتمسّك ونضع سائر الحبال الأخرى جانبًا، فلا نفكّر بما سيحدث لنا [لو اتّبعنا الحق] ونضع كل ذلك جانبًا، علينا أن ننظر فقط وفقط إلى ما قاله الإمام الصّادق وانتهى، ولا شيء آخر.
في إحدى كتاباتي، تجاسرتُ أو تجرّأتُ أو أيًّا ما كان اسمها، فذكرتُ أحد العلماء العِظام والذي انتقل إلى رحمة الله، وواقعًا كان رجلًا عظيمًا، والآن لا يوجد من يُساوي إصبعه، فذكرتُ بعض الأمور بمقتضى بعض المسائل [التي صدرت من ذلك الرجل]، وبعدها أتى إليّ بعض المعارف والأقرباء مستائين واعترضوا على ما كتبتُه، فأجبتهم وقلتُ لهم: (نحن في يوم القيامة علينا أن نحضّر جوابنا لشخص واحد فقط، وهو الإمام الصّادق والسّلام، و بعده لن يسألني شخص آخر عن الأمر، ونفس ذلك المرحوم في ذلك العالم يقول لي: لا فضّ فوك؛ فقد ذهب إلى هناك وفهم حقيقة الأمور)
نحن علينا أن نحضّر جوابنا للإمام الصّادق فقط والسّلام، ينبغي أن يكون هدفنا منحصرًا في الوصول إلى رأي الإمام. نعم، من الطبيعي أن يخطئ الإنسان أحياناً، فنحن لسنا معصومين بل نحن نخطئ ونشتبه، ولكنْ هناك فرقٌ كبيرٌ بين أن يجعل الإنسان لنفسه طرقاً وأئمة متعدّدين، أم يكون له إمامٌ واحدٌ فقط؛ الإمام الصّادق فقط، وإمام الزّمان فقط والسّلام، فهناك فرقٌ كبيرٌ.
نأمل إن شاء الله أنّه كما جعل الله عيديّة المرحوم العلّامة المرحوم الوالد في هذا اليوم ملاقاة الأولياء، أن يتفضّل علينا اليوم ويجعل عيديّتنا هي الظهور الباطني لولاية صاحب الزمان عجّل الله فرجه الشريف.
اللّهم صلّ على محمّد وآل محمّد