المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1435
التوضيح
ما هو دور اليقين في عمليّة السلوك؟ وهل يختلف يقين السلاك بالطريق، أم لا؟ وهل ينبغي على السالك أن يفتخر بتعرّفه على الطريق؟ وهل كلّ من عرف الحقّ عمل به؟ وكيف كان تعامل الأئمّة مع أعدائهم سببًا في يقين هؤلاء الأعداء بحقّانيتهم عليهم السلام؟ وهل ينحصر السلوك بالسلوك الاصطلاحي؟ هي أسئلة سعى سماحة السيّد قدس سره تعالى الإجابة عنها في هذه المحاضرة، علاوةً على أسئلة ومواضيع أخرى.
هو العليم
أهمّية اليقين في السير والسلوك
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٥ هـ ق - المحاضرة الثالثة عشرة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنًّا»
يا سيّدي ومولاي، أنا عائذ بفضلك وكرمك، وهارب منك إليك، ولي يقين بما وعدت به من العفو عن الخطايا والزلاّت بالنسبة للأشخاص الذين لديهم حسن ظنّ بك.. وأنا ثابت عليه، وقد بنيت أساس أموري على ذاك الوعد.
اختلاف يقين الأشخاص بالطريق بحسب اختلاف سعتهم الوجوديّة
في هذه الأيّام، تحدّثنا للرفقاء عن مسألة التنجّز، وقلنا بأنّ هذه الفقرة من دعاء الإمام السجّاد تعتبر بشكل عامّ برنامجًا سلوكيًّا للإنسان، والسلوك من دون هذه الفقرة غير ممكن؛ إذ ينبغي أن يكون في السلوك يقين واعتقاد.. نعم، يبقى أنّ اليقين التامّ الذي لا يقبل التزلزل ـ بأيّ وجه وفي أيّ زمان ـ لا يحصل عليه الإنسان إلاّ في المراتب العليا؛ فذلك اليقين الذي حصل عليه العظماء الذين طووا هذا الطريق وسلكوا هذا السبيل وبذلوا مهجهم فيه وخاضوا التجارب مختلف تمامًا عمّا لدى أمثالنا نحن الذين لا زلنا نتخبّط في مدارس العظماء والأكابر؛ مثل ذاك الشخص الذي تحدّث عنه المرحوم العلاّمة دون أن يذكر اسمه، لكنّنا نعرف من هو، حيث كان من العظماء الذين صار لديهم مجلس -فيما بعد وتلامذة في إحدى المدن، وكان ـ بحسب زعمه ـ يعمل على تربية الناس، وقد توفّي فعلاً؛ فاذكروا موتاكم بالخير.۱
حيث نجده يقول للمرحوم السيّد القاضي بعد أن حضر عنده لمدّة طويلة: هل المطالب التي تذكرها هي مطالب حتميّة ويقينيّة وواقعيّة؟! سلمت يداك!! بعد هذه السنوات المديدة، تأتي لتسأل هذا السؤال! حسنًا، يبقى أنّه غير مقصّر في ذلك؛ لأنّ سعته الوجوديّة هي بهذا المقدار.. فكلّ شخص له درجته الخاصّة من الفهم والإدراك والتصديق، وليس جميع الأشخاص سواسيّة في ذلك؛ إذ بعضهم يأخذ الكلام ـ بحسب تعبير العلامة ـ من الهواء! فما إن يلفظ حرف الفاء حتّى يكون قد فهم بأنّ المراد هو "فرح آباد"، ولا يكون بحاجة إلى إكمال الكلمة، بل يفهم المراد سريعًا. وبعضهم الآخر ينبغي أن تُحدّثه بالمسألة ليدخل الكلام إلى عقله، وتُعيد له الحديث مرارًا وتكرارًا إلى أن تجده بعد خمسين جلسة يقول: الآن فقط صرت أفهم بعض الأشياء! وبعضهم حتّى بعد خمسين جلسة يبقون متجمّدين كالحائط، من دون أن يختلفون عنه أبدًا!
فالأشخاص مختلفون، والقابليّات مختلفة، والسعة الوجوديّة مختلفة، واستعداد الناس مختلف، وميولاتهم مختلفة، ودوافعهم وهِمَمُهم متفاوتة، وأذواقهم مختلفة، وشوقهم ورغبتهم للوصول إلى الكمال مختلفة.. فكلّ واحد منهم مختلف عن الآخر.
نقل لي أحد علماء طهران الأحياء فعلاً ـ حفظه الله وسلّمه ـ حينما ذهبتُ إلى منزلته لرؤيته بعد وفاة المرحوم العلاّمة، حيث كان مع المرحوم العلاّمة لسنوات في مدرسة "الحُجّتية"، وهو عالم وفاضل جدًّا وشخص متديّن وله نفس طيّبة.. فبكى طويلاً، ولعلّه استمرّ بالبكاء لمدّة عشرة دقائق أو ربع ساعة، بحيث لم أستطع أن أتحدّث معه، وبعد ذلك قال: لي مع والدك قصص وحكايات كثيرة ـ وقد ذكر اسمه في كتاب الروح المجرد ۱ـ قال: ذهبنا يومًا إلى مجلس أخلاق المرحوم الشيخ عبّاس الطهراني الذي كان في قمّ يدرّس الأخلاق، وكان رجلاً من أهل المعنى؛ نعم، لم يكن من أهل التوحيد، وإن كان المرحوم العلامة ينقل عنه بعض الأشياء، لكنّ أهل التوحيد لهم حساب آخر، بل كان من أهل المعنى وأهل المكاشفات.. وحاصل الأمر، أنّه كان مختلفًا كثيرًا عن الآخرين.
يقول: ذهبنا معًا إلى درس الأخلاق الذي يعطيه ـ وقد صار بعد ذلك صهرًا للشيخ عبّاس ـ وبعد أن انتهى المجلس وأكمل خطبته، خرجنا، وفي الطريق، نظر إليّ السيّد محمد حسين وقال: يا فلان، لقد استفدت اليوم أمرًا من درسه، لن أعدِل عنه إلى آخر عمري!
يعني: لاحظوا إلى أيّة درجة يُمكن للإنسان أن يثبت على اعتقاده، بحيث نجده بضرس قاطع وبشكل محكم وبإتقان، يرى مستقبله محقّقًا أمام ناظريه، ويقول: ما سمعته اليوم من هذا الرجل والتأثير الذي أثّره كلامُه في نفسي سوف يبقى ولن يذهب إلى آخر عمري! وهذا الذي حصل؛ إذ عمل بنفس تلك الكيفيّة وبنفس تلك الشروط، ثمّ التقى بعد ذلك بأساتذة آخرين، وحصلت له في طريقه مسائل أخرى، فتعامل معها، ووصل إلى هدفه المنشود، وانتهى الأمر.
فهذه المسألة هي من المسائل التي ينبغي على الإنسان أن يتلقّفها في الهواء؛ أي مسألة: كيف يمكن للإنسان أن يُهيّء نفسه ويكون له استعداد، بحيث إذا سمع حقًّا وكان صحيحًا بنظره، فإنّه يبادر إليه من دون تردّد أو انتظار.
كلّما كان فهم الإنسان لمسألة السلوك أكثر كلّما كان اهتمامه بنفسه أكبر
نعم، ما لم يصل الإنسان إلى الحقّ، عليه أن لا يجزم بسرعة، وهذا صحيح! فالأشخاص الذين يجزمون سريعًا ينسحبون سريعًا أيضًا؛ فبمقدار ما يأتون بسرعة إلى الإمام، يرحلون عنه بسرعة أيضًا، وأمّا الشخص الذي يبقى ثابتًا، فهو الذي فهم المطالب ونفذت فيه بشكل كامل واستقرّت في قلبه؛ فهؤلاء ليسوا أصحاب كلام فارغ وضوضاء، بل عادةً ما يجلسون جانبًا ولا يسمع لهم صوت، ولا يريدون أن يعرفهم أحد ولا يسعون وراء التظاهر والظهور؛ فهم يعيشون في أجوائهم الخاصّة، اللهمّ إلاّ أن يكون لديهم تكليف بغير ذلك، لكنّهم هكذا يكونون عادة، لا أنّهم يطرحون أنفسهم وغير ذلك..
لقد كنت في محضر المرحوم العلاّمة ومحضر أساتذته لسنوات عديدة؛ نعم، في حياة المرحوم الأنصاري، كنت صغيرًا، وقد شاهدته مرّتين أو ثلاث مرّات فقط في أيّام طفولتي عندما كنت أبلغ أربع أو خمس سنوات من العمر، بخلاف السيّد الحدّاد، حيث كنت مطّلعًا على أوضاعه وتردّداته وعلى الأشخاص المرتبطين به؛ والحاصل، أنّنا في هذه المدّة التي خضنا فيها تجربة الحضور عند العظماء، كانت المسألة تبتني على أنّه: كلمّا كان الإنسان لديه إدراك وفهم أكثر لمسألة السلوك، كلّما كان كتمانه أكثر وتظاهره أقلّ وظهوره بين الناس أبْهَت؛ فتراه ثانيًا عطفَه مهتمًّا بنفسه ومبتعدًا عن الالتفات لأعمال الآخرين.
واهًا لنا ثمّ واهًا واهًا!! وكأنّ التكليف الذي أُسند إلينا هو أن ننظر إلى الذي يفعله ذاك الجالس بجانبنا، لا أن نلتفت إلى أنفسنا وما الذي نفعله نحن وكيف هي أعمالنا! وكأنّنا موظّفون ونأخذ راتبًا شهريًّا لننظر إلى ذاك الجالس هناك ماذا يفعل، وإلى هذا الجالس هنا أين ذهب صباحًا وإلى منزل من دخل ومع من تحدّث وبمن اتّصل؟! وذاك الذي هناك مع من يتحدّث! فلأذهب إليه وأسأله: ماذا قال لك السيّد؟ وما كانت مسألتك؟ وأمثال ذلك.
إنّ مثل هؤلاء الأشخاص لن يصلوا إلى أيّ مكان! فأولئك الذين وصلوا، لم يكن لديهم أيّ شُغل بالآخرين، بل كان همّهم منصبًّا على أنفسهم، وكانوا يهتمّون بأنفسهم فقط، وبما يرتبط بطريقهم، وبماذا عليهم أن يفعلوا وحسب؛ فلا تجدهم يسألون عن ذاك الجالس بجانبهم والجالس أمامهم والموجود خلفهم، وعن من يأتي ومن يذهب، وعن هذا الذي أتى من أين أتى؟ وذاك الذي ذهب لماذا ذهب؟ فليذهب.. إلى جهنّم ذهب! فما دخلك أنت بعلّة ذهابه أو رجوعه؟! فكلّ شخص له طريقه ومسيره! فما دخلنا نحن بذلك؟! وبجدّ أقول لكم ذلك، فهذه مسألة مهمّة!
وهذا الذي قمنا به بعد وفاة المرحوم العلاّمة؛ إذ رأينا أنّ لكلّ شخص مسيره الخاصّ، فقلنا: لنُعرض عن كلّ ذلك، ولنذهب ونراقب أنفسنا، ونهتمّ بأمورنا.. نعم، لقد سعيت خلال برهة من الزمان إلى بيان مواضع البطلان والانحراف بشكل صريح وواضح، وبعد ذلك، عندما اتّضح لي أنّ تكليفي يقتضي أن أترك الأمر، تركته من دون أن أهتمّ لما سيحصل، حيث رأيت أنّه لا يوجد لديّ تكليف أكثر في بيان تلك المطالب.
فأحيانًا، يريد الإنسان أن يبقى نائمًا؛ فمن يريد أن يبقى نائمًا ماذا يمكنك أن تفعل له؟ الإنسان النائم تهزّه قليلاً، وتقول له: انهض، فينهض، وأمّا من يتظاهر بالنوم، فكيف يُمكنك أن توقظه؟! أو يريد أن يتجاهل.. فالجاهلُ جهلاً بسيطًا يُمكنك أن تبيّن له الأمر وتأتيه بالقرائن والشواهد... .
لكنّ بعضهم تُبيّن له المسألة، فيقول لك: الأمر هو هذا! فما الذي يعنيه ذلك؟ يعني أنّه لا يريد أن يسمع منك! عندئذٍ سنقول نحن: حسن جدًّا، جزاك الله خيرًا، لا تريد أن تسمع لأنّك هكذا، نحن أيضًا هكذا! فالسنّة أيضًا يقولون: نحن هكذا! وعمر وأبو بكر كانا يقولان: نحن هكذا! والجميع يقولون ذلك؛ فبنو العبّاس وبنو أمّية كانوا أيضًا يقولون: نحن هكذا! ويزيد كان يقول: نحن هكذا! بايعني وإلاّ..!! لماذا نبايعك؟ هكذا! نحن هكذا! إمّا أن تبايع أو نفعل بك كذا! فنحن هكذا!
والظاهر أنّ كلمة (نحن هكذا) موجودة دائمًا وفي كلّ مكان؛ ولهذا، فنحن نحترم هذه الكلمة، ونحترم جميع من يقولها ـ وهم كثر ـ !! ولذلك، لا ينبغي على الإنسان أن يصرف وقته على مثل هؤلاء الأشخاص، فليتركهم لحالهم، وليمض لمعالجة مرضه وألمه!
وعليه، لا ينبغي على الإنسان أن يصرف وقته على هؤلاء "النحن هكذائيّين"، ولا ينبغي أن يتأسّف عليهم أو يشغل فكره بهم؛ فهؤلاء الأشخاص كانوا دائمًا على امتداد التاريخ يعيشون في أجواء من الإنغلاق الفكري والتحجّر، وواقعين في قبضة العصبيّة الجاهلية؛ وحينئذٍ، إمّا أن يأخذ الله تعالى بأيديهم، وإمّا أن يرحلوا عن الدنيا كما هم! فهذه هي نتيجة: نحن هكذا! إمّا أن يأخذ الله تعالى بأيديهم، وإمّا أن يبقوا مبتلين بهذا الأمر.
على الإنسان أن يشكر الله تعالى على نعمة الطريق ولا يفتخر بذلك على الآخرين
أجارنا الله من ذلك، ولا جعلنا الله نُبتلى بهذا الأمر؛ وهنا تتبيّن حقيقة كلام المرحوم العلاّمة حينما كان يقول: لو أنّنا سجدنا سجدة الشكر إلى يوم القيامة [على نعمة هذا الطريق]، فلن نكون قد فعلنا شيئًا.. وحقيقةً، فإنّ شعر جسم الإنسان يقف[من الخوف] أحيانًا عندما تخطر على بالِه مسألة أنّه: بماذا نختلف نحن عن غيرنا؟ وما الذي يجعلنا نختلف عن الذين كانوا في عصر النبيّ الأكرم؟ فهل لنا حساب مختلف عنهم؟ كلاّ يا عزيزي! بل نحن مثلهم، وهم يُشبهوننا في الفكر والفهم، ولا فرق بيننا وبينهم أبدًا! فلماذا يحصل هذا إذن؟! ولماذا تقول لأحدهم: ضرب الإثنين في الإثنين أربعة، فيقول لك: ضرب إثنين في إثنين خمسة عشر أو سبعة! هكذا! هكذا؟ وكيف يُمكن للإنسان أن يعلُق في هذه المسألة؟ وهذا ما يدلّ على أنّ الإنسان ينبغي أن يلوذ بالله، ولا يعتبر بأنّ هذا الأمر منه، ولا يفتخر على الآخرين بكونه في هذا الطريق؛ نعم، عليه أن يشكر الله بأنّه وقع محلّ هداية وإرشاد.. هذه هي المسألة!
وهذا أمر واجب، ولا مزاح فيه، ولا تقتصر المسألة على الشكر، بل لو بقي إلى يوم القيامة يشكر، لما أدّى حق الشكر! فسجدة الشكر ليست شيئًا! فيجب على الإنسان أن يشكر الله على أن هداه وأخذ بيده وبيّن له الحقّ في المسائل المختلفة والقضايا التي تحصل؛ وقد جرّبنا جميع هذه الأمور في زمان المرحوم الوالد.
فحينما كان الأشخاص يراعون رأيه [المرحوم العلاّمة] في بعض المسائل، لم يكونوا يندمون على ذلك أبدًا؛ لأن المسؤوليّة كانت تقع على عاتقه حينئذ، وبعد ذلك، كانت تتبيّن حقيقة الأمر. وأمّا الموارد التي لم يكن يُؤخذ فيه رأيه بعين الاعتبار، وكان الأشخاص يُدخلون أذواقهم الشخصيّة في رأيه، فكانوا هم بأنفسهم يقولون: يا ليتنا سمعنا كلاّم العلاّمة هنا! لماذا فعلنا هنا هكذا؟! وماذا علينا أن نعمل الآن؟
فحينما تحدث قضيّة من هذا القبيل، كم يكون مقدار تدخّلنا وتأثيرنا فيها؟ ففي نهاية الأمر، حتّى شخص واحد يكون له تأثير في المسألة؛ فجيش عمر بن سعد عندما أتى لقتال ذراري رسول الله، كان مؤلّفًا من مجموعة من الأشخاص المتفرّقين الذين اجتمعوا وصار عددهم ثلاثين ألفًا؛ أحدهم أتى من هنا والآخر من هناك حتى وصلوا إلى ثلاثين ألفًا، فهم لم يخرجوا دفعة واحدة من تحت الأرض! فكلّ شخص من هؤلاء الثلاثين ألفًا سيحاسب عن كلّ رجفة حصلت لأولاد الإمام الحسين عليه السلام، ولو لم يضرب بالسيف أبدًا، هذا بغضّ النظر عن أولئك الذين ضربوا بالسيف، فحسابهم نور على نور.. فهم قاموا بالأعمال الأهمّ؛ كالشمر وغيره.. فهؤلاء لا نتكلّم عن حسابهم! بل أولئك الذين أتوا وأخافوا أولاد النبيّ، وذاك الشخص الذي أخافهم بسيفه وفرسه ورمحه.. فهؤلاء الثلاثين ألف شخص سيُحاسبون بهذا المقدار، ولا مجال في ذلك!
وأمّا ماذا سيفعل الله بهم يوم القيامة، فنحن لا علم لنا بذلك! فقد يكونوا تابوا، حيث أنّ بعضهم تاب وخرج مع التوّابين وقُتل في سبيل ذلك و... فنحن لا نعلم، والله وحده هو العالم ماذا سيفعل بهم، فالحساب حساب، ويبدو أنّه لدينا رواية عن الإمام الباقر يقول فيها لأحد الأشخاص: ألم تروّع قلوبهم بذهابك مع هؤلاء؟ فسوف تحاسب بهذا المقدار!
فحينما يكون الطريق واضحًا للإنسان، سوف لن يكون للقرارالذي يتّخذه في هذا المجال أيّة تبعات في حقّه؛ لماذا؟ لأنّ قراره كان صحيحًا!
ففي كلّ قضيّة تحصل، سوف يُحاسب كلّ من يكون له سهم في حصولها؛ ولو كان شخصًا واحدًا، ولو كان يُمثّل رأيًا واحدًا، ولا مزاح في ذلك! لماذا؟ لأنّه في النظام الإلهي، جميع المسائل تخضع للمجهر.
نماذج لأشخاص تيقّنوا بالحقّ ولم يعملوا به
ففي كتاب معرفة الإمام أو معرفة المعاد، يذكر المرحوم العلاّمة قصّة سعد بن أبي وقّاص الذي تخلّف عن بيعة أمير المؤمنين عليه السلام۱ واعتزل الناس، كما أنّه لم يأت في زمن أبي بكر وينصر أمير المؤمنين عليه السلام، ثمّ يقول بعد ذلك: لقد كنت يا سعد قائدًا في جيش الإسلام ـ حيث كان قائد فرقة الرماة وكان راميًا ماهرًا جدًّا وهو الذي فتح المدائن وإيران ـ ؛ فلماذا اعتزلت مع ما لَكَ من مقام، ولم تأت وتدافع عن الحقّ؟ ونحن لدينا سؤالاً لك: أكان عليّ حقًّا أم لا؟ إذا لم يكن حقًّا، فلا توجد مشكلة، ولا يحقّ لنا الاعتراض؛ لأنّك ستقول: أنا رأيت بأنّ عليًّا ليس على الحقّ لهذا السبب ولهذا العلّة؛ ولذلك لم أُقدم! حسن جدًّا، فالله لن يحاسبه أبدًا. وحقيقةً، لو كان ـ بينه وبين الله ـ يرى أنّ ضرب إثنين في إثنين تُساوي عشرة، وكانت المقدّمات التي يعتمد عليها تؤدّي إلى ذلك، ولا يوجد من يردّ عليه قولَه بأنّ عليًّا ليس على الحقّ (لا هو ولا أبي بكر ولا أيّ أحد)؛ ولهذا السبب فهو يمضي في هذا الطريق؛ ففي هذه الحالة لن يعترض عليه أحد، والله تعالى لن يفعل له شيئًا.
لكنّ المفروض أنّك عالم بأنّ عليًّا على الحقّ، وقد شهدت يوم الغدير وسمعت وشاهدت كلّ تلك المطالب عن رسول الله، وكنت حاضرًا في هذه القضيّة، ومطّلعاً على ما بيّنه النبيّ في حقّ علي؛ فأنت لست طفلاً صغيرًا ذا خمس سنوات حتّى يستطيع أحد أن يخدعك!
ولهذا، لم يستطع أن يجيب معاوية عندما ذهب إليه،۱ بل لم يحترمه معاوية من الأساس، وقال له: اذهب لحال سبيلك! إذ كان معاوية رجلاً فهيمًا جدًّا، وكان يناقشه بشكل دقيق ويأتيه بالأدلّة، حيث قال له: لا تحتاج أن تحدّثني بهذا الأمر، فأنت لم تفهم بأنّ عليًّا كان على الحقّ! فكان معاوية بنفسه يقول له ذلك: أنت لم تفهم، وأنا معاوية أرى أنّ عليًّا على الحقّ.. هو لم يقل له، لكنّه كان يُحدّث نفسه بهذا الأمر، وإلاّ لو كان معاوية لا يعلم بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام على الحقّ، لما بكى عليه بعد شهادته.
ولو لم يكن المأمون يرى بأنّ الإمام الرضا على الحقّ، لما بكى عليه بعد شهادته، ولما أقام عليه مجلس العزاء؛ وعندما سُئل: لماذا تبكي عليه بهذا الشكل؟ قال: لا أحد يعرف قدر هذا الرجل مثلي! فهؤلاء الملاعين يعرفون ما الذي فعلوه، وهم أنفسهم يعرفون أحسن من الجميع ماذا فعلوا! الإمام الرضا عمل عملاً مع المأمون بحيث أنّ المأمون ـ الذي كان أفسد وألعن وأجرم وأفسق شخص يُمكن وجوده حتّى يستطيع أن يقوم بقتل الإمام بالحقّ وأشرف شخص على وجه الأرض بهذه القسوة ـ جعله الإمام الرضا يبكي عليه.
وماذا فعل أمير المؤمنين في حكومته، بحيث صار أسوأ وأخون إنسان في العالم يبكي عليه بعد شهادته؟ فعندما كان معاوية يذكر أمير المؤمنين مع بعض الأشخاص الذين كانوا يأتون إليه، كان يبكي.. حتّى أنّه لم يكن يتباكى لذلك، بل كان يبكي فعلاً؛ لأنّه لم يكن في حاجة للتباكي!
يقين أعداء الأئمّة عليهم السلام بحقّانيتهم من خلال سيرتهم معهم
يعني: أنّ أمير المؤمنين تعامل مع معاوية بطريقةٍ صار معها معاوية يعرف من هو علي! فمعاوية يعلم ماذا فعل هذا الرجل في الحرب، وهو على علم برجولة عليّ.. فهؤلاء الملاعين والمحتالون السياسيّون مطّلعون أكثر من غيرهم على حقائق الناس، وهؤلاء السياسيّون ـ الذين هم أكثر الناس خداعًا ـ يعرفون المحيطين بهم جيّدًا؛ لأنّهم هم المعنيّون، ويعرفون الحقائق.. فمعاوية هو الذي يعرف من كان عليّ! فما دامت لم تقع الحرب بينهما ويخرج علي من الكوفة باتّجاه الشام وتحصل تلك الأمور، وما دام لم يستول جيش معاوية على النهر، فيُحرّره أمير المؤمنين، ثمّ يسيطر عليه معاوية مرّة أخرى، ويمنعه عن جيش الإمام عليه السلام، وما دام لم تحصل قضيّة صاحبنا عمرو بن العاص وغيرها من القضايا التي كانت تحصل كل يوم، فكيف كان يُمكن لأمير المؤمنين أن يُظهر نفسه؟! فلو كان بقي جالسًا في منزله ولم يتحدّث مع أحد، فهل سيعرفه أحد؟!
نعم، فمادام الإنسان جالسًا على مائدة فيها أطباق الأرز الزعفراني والحلوى، ويضحك ويتبسّم أمام الجميع، فسيُقال: كم هو رجل بشوش وباسم وخلوق! لكن ما إن تحصل مسألة مالية مثلاً أو إرثيّة أو أيّة مسألة أخرى غير متوقّعة، حتّى يُعلم من هو الرجل الخلوق ومن هو السيّئ الأخلاق، ومن هو الأصيل، ومن هو الشهم، ومن هو المؤدّب ومن هو غير المؤدّب... فهذه الأمور لا تبدو على مائدة الأرز والمرق! فهناك الكلّ يضحك ويبتسم! وهناك لا يُختبر الإنسان، بل لا بدّ من الحرب، ووصول الحرب إلى نقطة حسّاسة، بحيث أنّه بضربة واحدة ينتهي كلّ الأمر، لكنّه يترك تلك الضربة ويخسر الحرب! فمن الذي يُمكنه فعل هذا؟ ومن يفعل هذا واقعًا؟!
ينبغي أن تُترجم هذه المسائل والأحداث والقضايا إلى اللغات المختلفة وتُعطى لرؤساء الدول، ويتحتّم إعطاء هذه الأعمال والأمور والمسائل المنقولة عن أئمّتنا للقادة العسكريّين في جميع أنحاء العالم، وإعطاؤها للسياسيّين ولمن بيده أزمّة أمور الشعوب؛ أفهل ما لدينا عن سيّد الشهداء قليل؟! إنّ في كل خطوة خطاها الإمام لوحة وإعلان.. إعلان إنسانيّة وإعلان حرّية.
لقد أتى عدوّه ليقتله ويقطع عليه الطريق وكان هذا العدوّ عطشانًا، بحيث لو تُركوا ساعة واحدة، لماتوا جميعًا من العطش، لكنّه قال: اسقوا القوم! ونزل هو بنفسه عن فرسه وحمل قربة الماء وأدناها من فم ذاك الجندي الذي أغشي عليه من العطش! فمن الذي يفعل هذا واقعًا؟! يعني: حينما ننظر اليوم في عالم البشريّة والمجتمع الإنساني إلى الأمور والأحداث والمجريات والعلاقات والمعاملات والتصرّفات التي تجري الآن في الشعوب الإسلاميّة والشيعيّة واليهوديّة وغيرها.. هل تعثرون على نموذج واحد يتطابق مع هذا النوع من الثقافة والتربية؟! هل لدينا نموذج واحد عن ذلك؟
أم لا، بل نرى بأنّ الصاروخ يأتي ويمرّ من هذه الجهة على الساعة الثانية بعد نصف الليل، ويهوي على رؤوس النساء والأطفال في الجهة الأخرى ويمزّق جميع من في البيت ويقذف بهم في الهواء! هل هذه هي الإنسانية؟ فإذا كنتم تتحدّثون هنا عن الإنسانيّة، فأيّ ذنب ارتكبه هؤلاء؟ فصحيح أنّ هناك جماعة يتقاتلون، لكن ما الذي ارتكبه هذا؟ وأي ذنب فعله؟!
هناك دولتان تتقاتلان، فتأتي إحداهما وتطلق صاروخًا على طائرة فيها نساء وأطفال ومسنّون وأشخاص أبرياء ورضّع، فتمزق أشلاء جميع الركّاب الثلاثمائة! أيّ نوع فكر هذا الذي يبعث الإنسان على القيام بمثل هذه الفعلة؟! إذا كنت تريد تدمير الطائرة فاذهب ودمّرها في المطار، فلماذا تقتل الركّاب؟! ولماذا تُمزّقهم أشلاء؟! إذا كنت تريد أن تضرب، فاذهب إلى هناك واضرب هذا ودمّر ذاك؛ فالحرب حرب ولا تُوزّع فيها الحلوى! فهذا يُطلق وذاك يُطلق.. لكن ما سبب هذه الأمور؟! سببه هو أنّنا ـ والمراد هو المجتمع الدولي ـ ابتعدنا عن التعاليم الإلهيّة والإنسانيّة والتوحيديّة والفطريّة؛ فأصبح الهدف هو الوصول إلى المقصود فقط لا غير، وليحصل ما يحصل!
الفعل الصحيح يستحقّ الثناء من أيّ جهة صدر
وحقيقةً، إنّه لأمر عجيب؛ ففي أحد المواضع، كنت أستمع إلى كلامٍ عن أحد السياسيين الإفريقيّين الذي قضى مدّة طويلة في السجن، وكان من المناضلين في وجه الاستعمار، وبعد ذلك خرج من السجن وحصلت معه بعض المسائل، فكانوا يُعدّدون الأعمال التي قام بها؛ ومن جملة ذلك أنّه قام بهذا الفعل وبذاك الفعل، وعفى عن هذا وعفى عن ذاك، وأنّه جعل ذلك الشخص الذي أدخله السجن مسؤولاً! فقلت: انظروا، فإنّ جميع الناس في العالم يمدحون هذا الرجل على فعله، مع أنّه لم يكن نبيًا ولا إمامًا، بل كان رجلاً مسيحيًّا، لكنّ عمله عمل إنساني ويستحقّ الثناء، وعلينا نحن شيعة أمير المؤمنين عليه السلام أن نثني عليه أيضًا، ونقول له: بارك الله فيك! هذا مع أنّه مسيحي ونحن مسلمون وشيعة، لكن بما أنّه قام بفعل يستحقّ الثناء بناء على الموازين الفطرية التي لدينا، فقد أثنى عليه جميع الناس في العالم، وشارك الجميع في تشييع جنازته؛ لماذا؟ لأنّهم رأوا بأنّ عمله صحيح.
لاحظوا! فإنّ جميع الناس في العالم ـ بما فيهم السياسيّون ـ لديهم فطرة، لا أنّهم لا فطرة لهم؛ يعني: مع أنّه يقول: أنا لست أهلاً لمثل هذه الأعمال؛ فلو ظفرت بعدوّي لقضيت عليه، لكنّه في باطنه لا يمكنه أن يُدين عدوّه، وفطرتُه لا تدعه يقدح به، بل تقول له ـ شاء أم أبى ـ : أحسنت! وتعطيه درجة عشرين، فتجده ـ شاء أم أبى ـ يمدح أخلاقه ويشارك في تشييعه.
هذه هي أخلاق الأنبياء؛ فماذا فعل النبيّ؟ لقد قام بنفس هذا العمل! فمن كان من المشركين أسوأ حالاً من أبي سفيان، بحيث أنّه كان السبب في ابتلاء النبيّ بجميع تلك المصائب والمشكلات؟ فجميع الحروب كانت بتدبير أبي سفيان، بما فيها حرب بدر وأحد والأحزاب و... ، وجميع المكر والخداع وإعطاء المال لهذا ولذاك كان من طرفه، كما أنّ استشهاد حمزة كان بسبب زوجة أبي سفيان، فجميع المؤامرات كانت بسبب هذا الرجل!
يعني لو أراد النبيّ بعد دخوله مكة أن يتصرّف بحسب حكمنا ومنطقنا نحن، فمن هو أوّل إنسان كان عليه أن يشنقه؟ إنّ الشنق أمره سهل، بل لوضع قنبلة في بطنه، ولأعدمه ألف مرّة! لكن انظروا ماذا فعل: فهو لم يقتصر فقط على إعلان العفو العامّ ... عجيب! يا سيّدي، لقد أخرجك هؤلاء من مكّة وأرادوا أن يقتلوك ليلة المبيت! وذلك عندما بات أمير المؤمنين مكان النبيّ، حيث أرادوا أن يقتلوا النبي، فقاموا برمي مكان نومه بالحجارة، فكانت تقع على أمير المؤمنين من دون أن يتحرّك، وذلك حتّى يطمئنّ بأنّ النبيّ قد غادر المكان نهائيًّا، ثمّ وقف بعد ذلك حاملاً سيفه؛ وقال لهم:
ـ ماذا هناك؟!
ـ من أنت؟!
ـ فلأكن من كنت! أنا من ترونني واقفًا أمامكم!
ـ أين النبيّ؟
ـ هل جعلمتوني وكيلاً عليه!
ـ فقالوا: لقد كنّا إلى الآن نرمي هذا بالحجارة... فقام بعد ذلك وبدأ يقوم بهذه الأفعال!
فكّل هذه الأمور التي حصلت ـ نظير تحريض المنافقين ورمي أحشاء الذبائح على رأس النبيّ ـ كانت كلّها بسبب أبي سفيان؛ وحقيقةً، لو كنّا نحن مكانه، ماذا كنّا سنفعل؟ واضح جدًّا ماذا كنّا سنفعل! لكنّ النبي حسابه يختلف عن حسابنا، ونظره يختلف عن نظرنا، وفكره يختلف ومنطقه يختلف عنّا؛ فهو له منطق ونحن لنا منطق مغاير.
فمنطقنا يبتني على الحقد والكيد والانتقام والاستفادة من السلطة والمسائل النفسانيّة والقضاء على الخصم؛ بدعوى القضاء على أساس الفساد والمؤامرة، لكن ماذا عن النبيّ؟ إنّه يرى بأنّ جميع هؤلاء هم عباد لله تعالى، وأنّ كافّة الأعمال التي قاموا بها كانت عن جهل، والآن قد جاء الإسلام، وجاء معه فصل جديد: "الإسلام يجبّ ما قبله"۱، لننظر من الآن فصاعدًا ماذا ستفعل! فنجده لا يقتصر فقط على إعلان العفو على الجميع، بل يجعل منزل أوّل فاسق وفاسد وشرير ولعين مأمنًا لسائر الناس، وأنّ من يدخل هذا المنزل فهو آمن، ولا يحقّ لأحد التعرّض له.
وهنا نرى بأنّ نفس هؤلاء قد بهتوا من هذا العمل؛ يعني أن نفس أهل مكة قد احتاروا وقالوا في أنفسهم: إنّ هذا الرجل لا ينبغي أن يكون بشرًا عاديًّا، فالإنسان العادي لا يقوم بمثل هذه الأمور؛ فما هي القصّة؟ فالملك لا يفعل ذلك، ورئيس الجمهورية لا يفعل ذلك، والحاكم العسكري لا يفعل ذلك، والقائد العسكري لا يفعل ذلك، بل يقتل ويمضِي لحال سبيله ويصل إلى هدفه! لكنّ هذا لا يقتصر على العفو فقط، بل يجعل منزل ذاك الرجل مأمنًا! فإذًا، حساب هذا يختلف عن الآخرين، فلنذهب ولنر ما حقيقته، ومن أين أتى بهذه الثقافة؟! وذاك الشخص المسيحي الذي قام بنفس هذا العمل لا بد أنّه أخذه عن الأنبياء؛ فقال: لو كان عيسى مكاني، لقام بهذا العمل! فنجده يتحدّث بدوره عن عيسى... وصحيح ما يقوله، وصحيح ما فهمه! ولذا، فإنّ جميع ذوي الفطرة الحيّة في العالم تمدحه على هذا، مع أنّه كان مسيحيًّا! يعني: على المسلمين أيضًا أن يمدحوه.
فالفعل الصحيح صحيح دائمًا! ولذا، فإنّني أقول لكم دائمًا بأنّ الفعل الصحيح صحيح من أيّ شخص صدر! والفعل القبيح قبيح من أيّ شخص كان! فالخمر نجس، سواء تمّ احتساؤه في أمريكا أو في إيران.. كلاهما نجس؛ فإن أصاب الثوب فلا يمكن الصلاة فيه، ولا فرق بينهما. والكذب كذب، سواء ارتُكب في أستراليا أو في السعودية أو هنا. والسرقة سرقة كذلك، والقمار قمار، والخيانة خيانة، والغشّ غشّ، والصدق صدق، والصفاء صفاء، والفطرة فطرة؛ فالمباني الفطريّة واحدة في كلّ مكان.
بعض الأشخاص سالكون مع عدم اطّلاعهم على السلوك
ولذا كان المرحوم السيّد الحداد يقول: إنّ بعض الأشخاص سالكون حتّى لو لم يتحرّكوا بعد! يعني أنّهم لا يعرفون شيئًا عن السلوك، ولا يعرفون أساسًا ما هو الطريق وما هي المراقبة والأستاذ والبرنامج والتكليف... ولا اطّلاع لهم أساسًا على هذه الأمور، لكنّ العمل الذي يقومون به هو العمل الذي يأمر به الأستاذ تلميذه؛ فهو سالك إذن، أي أنّ حاله ونفسه لا تسمح له بالكذب أبدًا، حتّى لو كان الصدق بضرره؛ فهل السالك يفعل غير هذا؟!
وتجده لا يقدر على الغشّ؛ يقول: هذا قيمته كذا وهذا كذا، ولكن برأيي أنّ الأفضل لك تأخذ هذا! فيُصارح المشتري، ولا يقول في نفسه: لندع هذا يُباع أوّلاً، فهو قد فسُد وتعفّن! فيقول للمشتري: هذا النوع [أي النوع الرديء]أفضل، صدّقني هذا أفضل من ذاك، وقد لا تجد مثله أبدًا! فالبضاعة المتعفّنة لا يشتريها أحد؛ ولهذا فإنّه يقول مع نفسه: فلنبع هذه البضاعة المتعفّنة أوّلاً، وأمّا البضاعة الأخرى، فلا زالت تُلاقي إقبالاً! بل نجده يقول بكلّ صراحة: انظر يا عزيزي، فهذه قد تعفّنت، بينما الأخرى لا تزال طازجة والناس يرغبون بها وأنا أربح فيها كثيرًا، بينما أربح في الأخرى قليلاً؛ وأنا أخبرك بكلّ ما عندي، فاختر أنت بنفسك أيّها تشاء! فمن يفعل هذا؟! لو كان النبيّ موجودًا، لقام بنفس هذا العمل!
في إحدى ليالي الثلاثاء، كان المرحوم العلاّمة يتحدّث عن مثل هذه المسائل، وعن طبيعة المعاملات في الإسلام، وما هي المعاملات وفقًا للمباني الدينيّة والتوحيديّة؛ وعندما انتهى كلامه إلى هذا الموضع، نظر إليّ ـ فجأة ـ أحد الأصدقاء كان يجلس بجانبي ـ وهو لا يزال على قيد الحياة ـ وقال لي: "أنعم بنا وأكرم! انظر إلينا، فكأنّنا طيلة هذه الخمسة عشر أو الأربعة عشر سنة لم ندخل إلى البستان أساسًا!" والواقع هو هذا! فلو أردت أن تصل إلى ذلك الهدف المتعالي، فتفضّل على بركة الله؛ هذه هي الشروط، وأمّا إذا أردت مراتب أخرى، فلا بأس، فلكلّ مرتبة مقتضياتها الخاصّة وشروطها الخاصّة. فإن أردت هذا المقدار، فعليك كذا، وإن أردت كذا، فعليك كذا، وإن أردت الوصول إلى السقف [فعليك كذا]وأما إن أردت العرش فذاك شيء آخر؛ فإذا أردت الوصول إلى العرش، عليك أن تنظر إلى ما فعل أمير المؤمنين وتفعل مثله! فعليك دائمًا أن تكون واضحًا ومستقيمًا، ولا تخون ولا تخدع، وأن لا تضع في بالك غير الصدق والصفاء.
فيأتي النبيّ ويجعل منزل أبي سفيان مأمنًا للناس ويعتبره مكانًا آمنًا.
وأمّا معاوية، فيأتي ويعقد صلحًا مع الإمام الحسن على أساس أنّ: الحكومة لي ما دمت حيًا، فإن متّ، فأنت الحاكم لا أولادي، ولا يحقّ لأحد أن يُلاحق أحدًا من الموالين لأبيك علي... فيأتي ويُمضي على جميع هذه الأمور، لكن ما إن يُوقّع الإمام الحسن عليها حتّى يأتي ويقف في مسجد الكوفة ويقول علنًا: كلّ ما تصالحنا عليه أضعه تحت قدميّ! لقد وصلت إلى السلطة، وسأفعل ما يحلو لي! فتلك الحكومة هي حكومة النبيّ، وهذه الحكومة هي حكومة أهل الدنيا؛ فحكومة أهل الدنيا هي هكذا: ما إن يعبر الحمار من على الجسر حتّى ينتهي الأمر!۱فينسون كلّ ما قالوه وتعهّدوا به ويضعونه تحت أقدامهم، ويقولون: نحن تعهّدنا في ذلك الوقت، وأمّا الآن، فالظروف اختلفت! يا للعجب! فلماذا لم تفكّروا في ذلك الوقت بأنّ الظروف قد تتغيّر، بل قلتم: سوف نبقى دائمًا كذلك! ففي ذلك الوقت، كانت المصلحة هذه، والآن المصلحة شيء آخر؛ حسنًا، فالجميع يقول هكذا، وكلّ شخص يقول شيئًا في يوم، ثمّ يقول غيره في يوم آخر! فبما أنّ الناس كانوا يمتلكون الفهم والاطّلاع في ذاك الوقت، كان من الجيّد، لو أنّ الكلام كان سيتغيّر طبقًا للظروف، أن تقول لهم: يا سادتي، إنّ المسألة فعلاً هي بهذا الشكل، لكن من الممكن بعد مرور عدّة سنوات أن تنقلب إلى الضدّ! فما الذي كان سيحصل؟!
ففي ذاك الزمان الذي كان يتابع فيه المرحوم العلاّمة تلك المسائل التي تحدّث عنها في كتابه وظيفة الفرد المسلم ـ مع أنّ ما كتبه هو جزء من هذه المسائل فقط ـ ، اعتبر رضوان الله عليه أنّ المحور الذي ترتكز عليه جميع هذه القضايا والمسائل هو الصدق وعدم كتمان الحقائق عن جميع أفراد العالم، حيث كان يقول: علينا أن نقول الصدق للجميع، ونحن نعمل على هذا الأساس؛ سواء انتصرنا أم لا، فعلينا أن نقول الحقّ! وأمّا الأشخاص الآخرون، فكانوا يقولون: لا، علينا أن ننتصر! ومن المعلوم أنّ الانتصار له مقدّماته ومقتضياته، بينما هو كان يقول: إنّ الانتصار لا يقع في طريقنا؛ فطريقنا هو إعلاء كلمة الحقّ وإعلانها، وهذا الذي ينبغي أن نقوله.
أفهل انتصر النبيّ في كلّ المواطن؟! وهل انتصر أمير المؤمنين في كلّ مكان؟ لو كان عليه السلام هدفه هو الانتصار، لما هُزم في صفّين، ولو كان الإمام الحسين عليه السلام يرغب في الانتصار، لما وقعت كربلاء أبدًا، بل لكان قد بايع يزيد ونصّبه على المدينة ومكّة والكوفة وجميع هذه البلدان، وبعدما يستقرّ وضعه، ينقلب على يزيد ويأخذ الحكومة منه؛ فلم يكن الأمر يتطلّب جهدًا كبيرًا!
لكن لماذا قال الإمام الحسين عليه السلام: لا يُمكنني أن أفعل شيئًا خلاف تكليفي ولو لثانية واحدة؟ ولا علاقة لذلك بالانتصار أوالهزيمة. فكانت نتيجة ذلك هي القتل والأسر وأمثال ذلك؛ فليكن! أفهل من المفترض أن يموت الجميع بسكتة قلبيّة أو نتيجة وباء ومرض؟! لا، بل البعض ينبغي أن يموت بالسيف، وأنا [والكلام للإمام الحسين عليه السلام] من الأشخاص الذين سيموتون بالسيف، وبعض الأشخاص يموت بالمرض وبالحوادث وبسقوط حجر على رأسه.. فكلّ شخص يموت بطريق خاصّة، لكنّ المهمّ ليس هو الموت، بل هو كيفيّة الموت، وبأيّ حال ستموت! وهل ستموت وأنت على طريق الحقّ أم على طريق الباطل؟ هذه هي المسألة.
على الإنسان أن يطلب من الله تعالى أن يرفع له من اطمئنانه ويقينه
ولذا، مع الالتفات إلى هذه المسألة، على الإنسان ـ كما ذكرت سابقًا ـ أن يكون لديه اطمئنان بطريقه ومسيره، ويطلب من الله تعالى أن يُقوّي هذا الاطمئنان ويرفع هذا اليقين، وأن يمنّ عليه باليقين الذي منّ به على العظماء والأولياء.. هذه هي المسألة.
الليلة هي ليلة السابع والعشرين من شهر رمضان، ولدينا في بعض الروايات أنّها ليلة إحياء؛ والحاصل أنّ إحياء هذه الليلة هو أمر مؤكّد، ويُمكن أن تكون ليلة السابع والعشرين تتمّة لليالي القدر، وأنّ الله جعلها فرجة ورحمة لعباده الذين لم يُوفّقوا في الليالي السابقة للحصول ـ كما يجب وينبغي ـ على ذلك العزم والجدّية والاهتمام اللازم من أجل التغيير، وذلك بأن يكون لديهم فرصة أخرى كي يلتحقوا بتلك القافلة؛ ولذا، يُمكننا أن نعدّ ليلة السابع والعشرين داخلة في مجموع ليالي القدر؛ وقد كان العظماء يوصون بإحياء هذه الليلة، وأنّه من الجيّد للإنسان أن يُحييها بما يحيي ليالي القدر السابقة ـ طبعًا غير الصلاة ـ ، وأن يطلب من الله تعالى أن يمنّ عليه بلطفه وكرمه إذا كان هناك تساهل وتلكّؤ في عزمه وإرادته على تغيير مساره وطريقه.
فهذا الشهر قد انتهى، ولا زالت الحسرة في قلوبنا، وأنا أذكر بأنّه في مثل هذه الليالي عندما كنّا نذهب إلى المرحوم العلاّمة، كان يتأوّه من صميم قلبه؛ كمن افتقد أعزّ شخص لديه، وكان يقول: يا سيّد محسن، أرأيت: هذا شهر رمضان قد انتهى، وقد رحل وأيدينا لا تزال خالية. يعني أنّنا كنّا نشعر حقيقةً كيف كان يتحسّر على انتهاء شهر رمضان، وينزعج من ذهاب هذه الأيّام المباركة.
وعلى كلّ حال، فالقصّة هي هذه! فهو ليس أكثر من شهر واحد، وينبغي علينا في هذه الأيّام الأخيرة أن نطلب من الله تعالى بشكل جادّ أن يوفّقنا في مسيرنا المستقبلي ويرزقنا السير على ما ثبّت عليه أولياءه؛ لأنّ هذا المقدار يُمكننا أن نطلبه من الله وأن نقول له: إلهي، نحن على يقين بأنّ هذا الطريق هو طريق حقّ، ولا شكّ لدينا في ذلك؛ فقد شاهدنا أهل الدنيا، وكم لنا أن نشاهد؟! وشاهدنا السياسيّين وتصرّفاتهم، وشاهدنا الاجتماعيّين والمجتمع، وشاهدنا أهل المال والتجارة والمعاملات، وشاهدنا أهل التزوير والرياء والخداع والاحتيال.. لقد شاهدناهم جميعًا، فكفانا ذلك! وشاهدنا الأشخاص العاديّين، وشاهدنا شعوبًا ومذاهب مختلفة، وشاهدنا الدعاة إلى الحقّ من غير المأهّلين للدعوة؛ وها نحن ذا نراهم بأجمعهم!
ومن بين جميع هؤلاء الأشخاص، نشعر حقيقةً.. فهذا الأمر نعرفه، فحتّى لو لم نكن من أهل العمل، إلا أنّنا نعرف بأن من عمله صحيح هم هؤلاء فقط، وهذا ما لدينا يقين به، ولا يُمكننا إنكاره؛ فعندما نضع هذه التصرّفات بأجمعها إلى جانب بعضها البعض ونقارن بين الأعمال والأقوال، نرى بأنّ حساب هؤلاء مختلف عن الآخرين.
ففي نهاية الأمر، نحن بشر ولدينا عقل وفكر، ويُمكننا أن نقيس الأمور بعقولنا؛ فهذه المسألة ليست أحجية وسرًّا لا يمكن لشخص أن يصل إليها.. كلا يا عزيزي، بل يُمكن للإنسان أن يحصل على هذه المطالب، وعليه فقط أن لا يخادع ولا يضع رأسه تحت التراب ولا يتغافل، وإلاّ، فذاك حديث آخر؛ فإن لم نتغافل، سوف نكتشف بأنّنا نرى! فلنطلب من الله أن يُبدّل فهمنا هذا إلى عمل وإلى عينيّة وتحقّق، وأن يُغيّره إلى وصول و شهود، وأن يُبدّل فهمنا وفكرنا إلى اطمئنان القلب، وأن يمنحنا ما منحه لأوليائه وللعظماء في هذا الشهر.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمد