المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1435
التوضيح
ورد في هذه الفقرة عبارة (وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ) ، كما ورد نظير هذا المعنى في العديد من الآيات و الروايات، فما هي حقيقة الهرب إلى الله تعالى؟ و كيف نعرف مدى تحقّق ذلك في أنفسنا؟
هو العليم
ماذا يعني الهرب إلى الله؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٥ هـ ق - المحاضرة الثالثة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنًّا»
أي: أنا يا سيّدي عذت بفضلك، ودائماً ألوذ بفضلك، وأهرب منك إليك، وأنا مترقّب لذلك الوعد الذي قطعته على نفسك بالعفو عمّن أحسن ظنّه بك؛ فمتنجّز تعني مترقّب ومعتقد، وأنا أنظر إلى ذاك الوعد الذي قطعته؛ فما هو ذاك الوعد؟ عجيب جداً.. هو أن تعفو عن الأشخاص الذين لديهم حسن ظنّ بك، لكن ماذا بالنسبة إلى من كان لديه سوء ظنّ؟ طبعاً لن يعفو عنهم! فالله وعد وقال: من لديه حسن ظنّ بي، فأنا أعفو عنه! حسناً، إلهي، نحن لدينا حسن ظن بك، وبالتالي سيكون وضعنا جيّدًا!!! وبحقّ، إنّ هذه الفقرة عجيبة جداً، ومن الفقرات الجوهريّة لحركة الإنسان وترقّيه، وسنبيّن ذلك لاحقًا إن شاء الله تعالى.
ما هي حقيقة الهرب إلى الله؟!
تقدم الكلام في أنّ معنى الهرب هو العدو السريع والفرار؛ فعندما يقال: فلان يمشي باتجاه فلان، لا يقال له: يهرب إليه، بل يقال: يتحرك نحوه، يميل إليه، يسلك إليه، يطرق إليه، يمشي نحوه، يطوي الطريق نحوه، يميل إليه، وأما يهرب إليه، فيعني الفرار والهرع.
فمن أيّ شيء يهرب الإنسان؟ وما الذي يفرّ منه؟ هناك أمران متصوّران في المقام؛ فمن يكون لديه ميل نحو شيء، فتارة يكون هذا الميل ميلاً عادياً، فيقال له: بائع الفاكهة الفلاني قد أحضر نوعاً من الفواكه الطازجة والجديدة! فيقول: حسناً، فلأذهب لكي أشتري هذا النوع من الفواكه قبل أن ينفد؛ كأن يحلّ وقت الخيار أو التفاح أو البرتقال؛ فيقول: فلنذهب ونشتريه، أو أن يكون هناك ضيف يريد أن يزوره، فيسأل زوجته: هل لدينا فواكه؟ فتقول: لا، ليس لدينا شيء، فيقول: حسناً، سأذهب وأشتري فاكهة! فهذا يُعبّر عن وجود ميل عنده نحو الشراء؛ ولهذا، فإنّه يرتدي ثيابه، ويخرج إلى الشارع، ويذهب إلى البائع، ويشتري الفاكهة ليضعها أمام ضيفه؛ فهذه مرتبة من الميل، وهناك مرتبة من الميل أعلى منها قليلًا، بأن يقال: هناك فاكهة جديدة أحضرها البائع الفلاني في المكان الكذائي، حيث رأيت الناس مجتمعين هناك، فإن لم تذهب الآن، قد ينفد ما لديه بسرعة؛ فالبائع لم يحضر سوى صندوق أو صندوقين منها! فيقول: هل ما تقوله صحيح؟ فيرتدي لباسه، ويسرع بالذهاب قبل أن تنفد الفاكهة، ويشتري منها كيلو أو كيلوين؛ فهذه الدرجة من الميل أعلى من تلك الأولى، والميل فيها أشد؛ لأنّ ذلك الشخص في الحالة الأولى يقول: إن لم أجد الفاكهة عند هذا البائع، يمكنني الذهاب إلى بائع غيره. أما هذا، فيقول: إنّ هذه فاكهة جديدة! أو: إنّ هذا النوع من الفاكهة لم أذقه حتى الآن! فهو في عجلة، ويقول: عسى ألاّ تنتهي الفاكهة! فقوله: "عسى ألاّ تنتهي" يفيد سرعة وحركة أسرع من سابقتها، لكن مع ذلك لا يقال عنها أنها هرب وهرع، نعم، يقال لها عجلة وسرعة بنحو معين، لكن لا يقال لها هرب!
وتارة أخرى يقول أحدهم مثلًا: سمعت بأنّ الصيدليّة الفلانيّة قد أحضرت الدواء الفلاني؛ والحال أنّ هناك مريض، والدواء مفقود، ولا وجود له، فيكون ذلك المريض جالسًا في منزله، وإذا بصديقه يتّصل به ويقول له: إن الصيدلية الفلانية في المكان الفلاني عندها هذا الدواء! فيقول: لماذا لم تشتره لي؟ فيقول: لقد ظننت أنك اشتريته و.. والحاصل أنه لا ينتظر، بل يرتدي لباسه فوراً ويستأجر سيارة ويقول للسائق: كم تريد؟ عشرة آلاف تومان.. خذ أكثر وأوصلني بسرعة إلى تلك الصيدلية قبل أن يأتي مريض آخر ويأخذ هذا الدواء! فهذه المرتبة من العجلة أعلى من الثانية؛ لأنّ المسألة هنا مسألة مرض وحياة، وأمّا بالنسبة للمسألة الأخرى، فلا تعدو كونها مرتبطة بفاكهة جديدة؛ فإن لم يأكل منها الآن، فلا إشكال؛ لأنّه سيأكل منها في الأسبوع القادم، أو بعد خمسة عشر يوماً أو عشرين يوماً؛ إذ سوف تصير متوفّرة عند كل الباعة بعد مدة، لكنّ هذا الدواء إذا لم نحصل عليه الآن، فإنّه قد قارب على الانتهاء عندي؛ فينبغي عليّ أن أجده بسرعة، وإلا سيخرج المرض عن السيطرة؛ وبالتالي، فإنّ الشوق الذي لديه للذهاب إلى ذلك المكان هو أقرب ـ نوعًا ما ـ إلى الهرب، يعني: يمكن أن يصدق عليه لفظ الهرب؛ ولهذا تراه يقول للسائق: أسرع، وتجاوز الضوء الأحمر بسرعة! فحتى لو ضبطتك الشرطة، فأنا سوف أدفع عنك الغرامة، المهمّ أن تصل إلى الصيدلية سريعاً وإن حرمت من رخصة القيادة، فسوف أعوض لك كلّ شيء! أسرع حتى لا ينفد هذا الدواء! فهذه السرعة فيها حياته، والمسألة هنا مسألة حياة؛ هل التفتم؟!
وتارة أخرى تكون المسألة أعلى من ذلك، حيث يقال لك: أنت مبتلى بالمرض الفلاني، وعندك فرصة ساعتين لكي تجرِي العمليّة، وإلاّ سوف تموت! أو أنك مصاب بالتهاب الزائدة الدوديّة، وعندك فرصة ساعة لكي تجري عمليّة، وإلاّ فإنّه من المحتمل أن تنفجر الزائدة الدوديّة، وينتقل الالتهاب إلى الدم وتموت، بحيث يكون الموت حتمياً بعد ساعة! فهنا نرى أنّ المسألة تختلف عن المسألة الأولى؛ حيث تقول للطبيب: أنا مستعد لأن أعطيك ما تريد مقابل إجراء العملية الآن، فلا تؤخّرها حتى إلى الثانية التالية! فكلما كانت الإرادة والغرض والميل والرغبة لدى الإنسان أكثر أهمية، وإمكانية تداركها أقل، كلّما كانت عجلة الإنسان أكثر للوصول إلى ذلك المقصود؛ وهذا ما يقال له هرب! فالحالة الأخيرة نطلق عليها كلمة "هرب"، حيث رأينا أنّ ذلك المريض لا يريد أن يتأخر ولو لثانية واحدة؛ لأنّ تلك الثانية قد تترك أثراً في هذه الحالة، فلو لم يأت، يُقال له: آخ! لماذا لم تأت قبل دقائق، لماذا لم تأت قبل عشر دقائق، وكثيراً ما نسمع كلمة "آخ" في المستشفى! لماذا لم تأت قبل دقيقتين أو خمسة دقائق! فيرى أن الوقت قد تأخر لديه والفرصة تتضاءل أمامه.
فهذا نوع، وهناك نوع آخر يرى الإنسان فيه بأنّ هناك خطراً يهدّد وجوده؛ كأن يرى سيلاً آتياً ليقتلعه، فإن تأخّر قليلًا، سيجرفه ذلك السيل، فإن كان لديه رجلان، فسيقترض أربعة أخرى ليركض بها، بحيث أنه لا يشعر بما يجري حوله!!! أو أن نفترض أن حيوانًا مفترسًا يقبل نحوه؛ فهو لا يشعر كيف فرّ منه، أو مثل أن نفترض وجود حريق أو ما شابه ذلك، فقد رأيتم في الصور عندما يواجه بعض الأشخاص خطرًا ما، فإنّه ينسى ولده من الأساس! فالأب يفرّ ويترك ابنه ذا الخمس سنوات.. هذا هو الهرب الحقيقي.. الذي ينسى فيه الوالد ولده. يا عزيزي، عندما تريد أن تفرّ، خذ معك هذا الطفل البريء ذا الأربع سنوات! لكن قد يكون الخطر حقيقيّاً والهلاك جدّيًا إلى درجة ينسى الإنسان معها طفله! وقد حصل هذا الأمر فعلًا.
كنت يوماً في سفر، وتوقفنا في مكانٍ ما، ورأيت الناس فجأة تهرب من مكان قريب يبعد ثلاثين متراً تقريباً، وفهمت أنّ هناك احتمال أن ينفجر الغاز ويحترق المكان، ثم رأيت أمًّا تركت طفلها عمره سنتان وهربت، فذهبت وحملت ذلك الطفل، وأخذته إلى أمّه؛ والحال أنها تركته وفرّت.. يعني أن المسألة كانت قريبة من الخطر بثوانٍ بحيث أن الأم تركت طفلها وهربت؛ فهذا هو الهرب والفرار الحقيقي: أن تترك الأمّ ابنها وتهرب! والظاهر أنّ الآباء في تعاملهم مع هذه القضية أكثر علمًا وفهمًا!!! فأخذته إلى أمه، فقالت: أوه ولدي! فقلت لها: لا تخافي، فقالت: كان الغاز سينفجر، فقلت: فلينفجر، كما أنّه كان على بعد بضعة أقدام، وقد حملته وأتيت به من دون أن يحدث أيّ شيء، فلم يكن هناك ما يستدعي القلق!
هذا هو الهرب الحقيقي؛ يعني أن الخطر وصل إلى حدّ أن الأم تترك ولدها! هل التفتم الآن إلى معنى الهرب ومعنى الفرار؟ فلنأتِ الآن، ونر ما هو المراد منهما في هذا المقام؟ فهذا هو الذي يقال له هرب وفرار وهرع، حيث يقول الإمام السجاد عليه السلام لله تعالى: أنا هكذا أمشي وأسرع نحوك! لكن هل قمنا نحن بنفس الشيء؟!!فهذا هو معنى الهرب: إلهي، أنا أتّجه نحوك بهذا الشكل! وأتحرك إليك بهذا النحو! فالمسألة هي هكذا، وهكذا ينبغي أن تكون، فهذا الإمام السجاد، وهو يعلم ماذا هناك، ويعلم ماذا يوجد في هذا الطرف وماذا يوجد في ذلك الطرف، أي أنّ المسألة صادقة هنا بكلا طرفيها، وسنبيّن لاحقًا إن شاء الله كيفية هذا الصدق والانطباق .
علينا أن نسابق لنيل الرحمة و نغتنم الفرصة
ولهذا، نرى أنّ هذه المسألة قد طُرحت بعبارات مختلفة؛ فمثلاً، لدينا آية كريمة تقول: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذيرٌ مُبين}۱، يقول: فروا إلى الله، ولا يقول: تحركوا وامشوا إلى الله، وفي آية أخرى يقول: { سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُم}٢، أي ليسبق أحدكم الآخر في طلب المغفرة من الله؛ فعندما يفترض أن تأتي نعمة ونفحة وجذبة معيّنة، لا تتلكّؤوا حتى لا تنتقل هذه النفحة إلى الآخرين، وتبقون محرومين! بل اسبق الآخرين لنيل هذه المسألة، وكن أنت المبادر وأنت المتقدّم، وأما إذا تحركت متأخراً، فسوف تنتقل إلى غيرك، وسوف يأخذها غيرك، وسوف يحوز هذا الطعام الممدود على المائدة ويجمعه شخص آخر.. اسبقه أنت؛ لأنّ الطريق مفتوح أمامك أيضًا! ففي بعض الأحيان، يكون الطريق مغلقاً أمامك ومفتوحًا أمام الآخرين، فيعلم الإنسان أنّه من نصيب شخص آخر، وأنّه قد قدّر له شيء آخر، لكن حينما يكون الطريق مفتوحاً أمام الإنسان، ومع ذلك يبقى جالساً ينظر، فهذه مصيبة كبيرة! إذ إنّ الطريق مفتوح أمامه، والمائدة مبسوطة له، والباب مشرع في وجهه، وجميع العلل والأسباب مهيأة له، ومع ذلك ينتظر ويقول: إلهي، ماذا أفعل؟ هل أذهب أو لا أذهب؟ أين أذهب: في هذا الاتجاه أو ذاك؟ أذهب إلى منزل هذا الشخص أم ذاك؟ أذهب إليه لأرضيه وأعتذر منه، أم أجلس وأنتظر ما الذي سيحصل؟ إذا بقيت منتظراً ما الذي سيحصل، فجأة ترى الباب قد طرق، وعندما تفتحه، ترى أنّ ذاك الشخص الذي ينبغي عليك الذهاب إلى منزله قد أتى هو إلى منزلك، فتكون قد خسرت! وانتهى الأمر! فهذه النفحة قد ذهبت إلى ذاك! فحينما يكون الباب مفتوحاً أمامك، وعندما يلقي الله تعالى هذا الأمر في ذهنك، ويُخطر في قلبك أن تذهب إلى منزل ذلك الشخص، وتذهب لرؤية فلان لترفع الكدورة الحاصلة بينكما وتخرجها من قلبه، فلا تبق منتظرًا ما الذي سيحصل واضعاً إحدى يديك على الأخرى، وتقول: إن لم يحصل اليوم نتركه إلى الغد، فلدينا وقت، وهكذا تأخّره إلى أن يرنّ جرس الهاتف: السلام عليكم.. كيف الحال.. أريد أن آتي لزيارتك! يا للتعاسة، فذاك الباب قد فتح أمامك، وبقيت أنت تنظر إليه من دون تخرج! يا عزيزي، البس ثيابك، واخرج من المنزل، واستأجر سيارة، واذهب إلى منزله! فعندما فتح الباب أمامك، لماذا بقيت جالساً هكذا تنظر إلى الباب؟ هذا ليس فراراً إلى الله، بل هذا جلوس!
وهو تحدّث واستئناس وسؤال عن الأحوال، وليس فراراً إلى الله؛ هل تعلمون ما معنى فرّوا إلى الله؟ هو كفرار تلك الأم خوفاً من انفجار الغاز وتركها لولدها ذي السنتين! هو هذا الفرار المطلوب؛ فبمجرّد أن ترى شيئاً تقفز مسرعاً.
كنا يوماً عند المرحوم الحداد، وكنت في السادسة عشرة أو السابعة عشرة من العمر، وكان المرحوم العلاّمة موجوداً، وجرى الكلام عن مسألة كيف يمكن أن يُوفّق الإنسان أحيانًا للحصول على بعض الأمور، فما إن يأتي شيء، ويكون معلّقًا في الهواء (هكذا كان يشير السيد الحداد)، ولم يتعيّن بعد على من سوف ينزل، حتّى يأتي شخص ويأخذه؛ فلم يصر معلومًا بعد على رأس من سيهبط طائر السعد؛ هل على رأس هذا أم على كتف ذاك، فحتى الآن لم يتعيّن وضعه، ثمّ يأتي شخص ويأخذه ويمشي، ويقول: انتظروا الثاني حتى يأتي، فالأوّل صار في جيبي! أما البعض الآخر، فيأتي طائر السعد ويحطّ على رأسه، ومع ذلك يطرده بعد أن يحطّ عليه؛ فهذا في غاية التعاسة والشقاء: أن يأتي طائر السعد فوق رأسه، وأن تأتي النفحة الإلهية والجاذبة التي تصرف عنه الكثرات، [ثمّ يطردها]؛ يا عزيزي، إنّ حصول مثل هذا الأمر ـ بحيث ينفتح أمامك الباب ثمّ يُغلق ـ لا يُمكن جبره بعشرين سنة من صلاة الليل! فلو أنّك صليت صلاة الليل وتهجّدت عشرين سنة، لكنّك ارتكبت فعلًا واحدًا من هذا القبيل، لما أمكنك جبر ذلك بتلك العشرين سنة؛ فأيّة صلاة ليل يُمكنها أن تقوم بما تقوم به تلك القاطعية وتلك السكين التي تأتي وتقطع تعلّق نفسك وقلبك عن التوغّل في الكثرات؟! هذه هي المسألة.
كيف يمكن الجمع بين عزّة المؤمن و بين المبادرة في طلب الإصلاح؟
تذكرت الآن أنّ أحد الإخوة طرح سؤالاً منذ مدّة في ضمن الأسئلة التي ترد في الموقع، حيث قال: لقد ذكرتم أنّ والدكم كان لديه اهتماماً خاصّاً بهذه المسألة [المبادرة إلى صلة الآخرين].. وقد شاهدنا الكثير من نظائر هذه القضية منه؛ ففي أحد الموارد (ولعلّي قد ذكرت لكم هذه القضية سابقاً)، ذهب إلى منزل أحد أقاربه ثلاث مرات ولم يفتحوا له الباب، والحال أنهم كانوا في المنزل، وكان منزلهم بعيداً عنه في طهران، وفي المرّة الرابعة أو الثالثة (أنا أشك في ذلك، لا ادري هل فتحوا في الثالثة أم الرابعة؟ ولكنّ المتيقّن أنه ذهب مرتين ولم يفتحوا له فيهما) و في النهاية فتحوا له الباب، والذي فتحه زوجة ذلك القريب، باعتبار أنّها كانت من محارم العلاّمة، ومن أرحامه القريبين؛ ففي المرة الثالثة أو الرابعة عندما عرف ذلك الشخص بالأمر قال: لقد أسقط فلان ما بأيدينا، و أخجلنا من أنفسنا، فعلينا الآن أن نذهب إلى منزله! لقد تغلّب علينا وأفحمنا، فلا بدّ من الذهاب إلى منزله! وقد أتى فعلاً من طهران إلى منزل المرحوم العلاّمة عندما كان في مشهد.
حسناً، لقد سأل هذا الأخ: بأن هذا الأمر يتنافى مع عزّة نفس المؤمن؛ إذ المؤمن عزيز، فكيف يمكن الجمع بين هذا الكلام وبين قولك بأن والدك فعل هذا الفعل، والحال أن المؤمن عزيز وله كرامة وماء وجه؟ فذهابه مرة واحدة كافٍ؛ فهو لا يطلبه بشيء حتى يكرّر الذهاب إليه، ولا شيء له عليه، خصوصاً مع ملاحظة أنّه كان عالماً وله مكانته الخاصّة وذاك رجلاً عادياً؛ وعليه، كيف يتوافق هذا مع عزّة المؤمن ومناعة طبعه؟ حسناً، أعتقد بأنّه لا يوجد إشكال في الجواب عن هذا السؤال؛ فتارة يشعر الإنسان بضرورة هذه المسألة، وكذا في سائر الموارد الأخرى: في صلة الأرحام والارتباط بالرفيق وبقيّة الأشخاص، وبعض الأمور التي تحصل؛ ففي الواقع، كان يسأل ذلك الأخ عن المعيار في هذه المسألة، ومتى نُقدم ومتى لا نُقدم؟ وإلى أين نذهب وأين لا نذهب؟ إنّ المعيار في ذلك هو: ـ التفتوا جيداً فالمسألة دقيقة جداً وما أقوله لكم هو ما سمعته من العظماء فيما يرتبط بهذا الأمر ـ إذا شعر الإنسان بأنّ ذلك الشخص ـ حينما حصل بينهما شيء وتكدّرت العلاقة بينهما ـ قد وضع نفسه في موقف نفساني، بحيث إنّ الذهاب إليه يوجب زيادة نفسانياته وأنانيته وتكبره، فهنا لا ينبغي أن يذهب الإنسان إليه، فغاية الأمر أنّ خطأً ما قد حصل، وعليه أن يتجاوز عنه، فنحن لم نأت إلى هذه الدنيا معصومين؛ فتلك العصمة والبراءة التي كانت لدينا حالة الطفولة قد انتهت، وهي لا تجدي شيئاً؛ لأنّها عصمة غير اختيارية. فإذاً، نحن غير معصومين وقد نشتبه؛ فسواء قلنا بأن فوق عينك حاجب أو لم نقل، ففي النهاية لدى كلّ واحد منّا حاجب فوق العين!! فلم يحدث شيء مهمّ، وينبغي إنهاء الأمر [والخلاف]. وأمّا إذا شعر الإنسان أن نفسيّة الطرف المقابل غير قادرة على رفع هذه الكدورة.. انظروا، هنا توجد مسألة دقيقة! فلا تقل مع نفسك بأنّه لا قدرة لك على الأمر، بل إنّ هذا ضعف منك؛ فبما أنّك ضعيف هنا وغير قادر، ولا تملك الجدارة والأهليّة، ولا ترى هذه القدرة فيك تقول: لماذا ينبغي عليّ أن أذهب أنا؟ لماذا لا يأتي هو؟ فهذا ليس بسبب قدرتك وعظمتك، بل بسبب عجزك وصغرك ودنوّ همّتك، ولأجل عدم أهليّتك.. وكلّها أمور سلبيّة؛ إذ لا يوجد في ذلك أي أمر إيجابي. حسناً، فإن شعر الإنسان بمواجهته لمثل هذا الشخص في هذه القضيّة، فعليه أن يقدم هو على هذا الفعل؛ لكي يعمل على تعويض الضعف الموجود في الطرف المقابل بقوّته هو، فإن ذهبت أنا إلى منزل فلان، فمعناه أنّني أنا القوي، لا أنّني ضعيف! وأمّا الناس، فيقولون: انظروا إلى هذا ذهب إلى منزل ذاك! هذا لأجل قوّته ذهب إلى منزل ذاك، وذاك لضعفه وعدم جدارته بقي في مكانه؛ فهذا لقوّته يذهب ويطرق الباب، وذاك لضعفه لا يمكنه أن يقدّم جواباً! هذا يمكنه أن يجبر المسألة لوجود استعداد لديه، وذاك لا يتقبّلها وتأنف نفسه عنها بسبب ضعفه وخسّته.. فالناس والعرف ينظرون إلى المسألة بأنّ هذا ذهب إلى منزل ذاك، وذاك جالس في منزله يقول: "هذه المرّة الأولى التي يأتي فيها، فلندعه يأت مرّة ثانية وثالثة و..."! ويبدأ يلوي برأسه هكذا كالديك الرومي، لكنّه لا يعلم بأنّه عندما يفعل ذلك، فإنّ لسان حاله يقول: "أنا أفتقد للأهليّة، أنا خسيس، أنا ضعيف، أنا ناقص!"؛ وهو يظنّ أنّه عظيم. وذاك يذهب إليه، والحال أنّه لا يقلّ عنه قيمة، فخلاياه كخلاياه، وكذلك دمه، إن لم يكن أكثر منه! ووضعيّته مثله، بل أفضل منه؛ فشخصيّةٌ كشخصيّةِ المرحوم العلاّمة أين، وهذا أين؟ لا ربط بينهما! ومع ذلك يأتي المرحوم العلاّمة مع ما يمتلكه من مكانة ومنزلة إلى منزل ذلك الشخص، ويطرق الباب، فلا يفتح له، ويتبسم قائلًا: لقد جاء إلينا ولم نفتح له! ويفرح بأنّه قد خرج منتصراً من هذه المعركة، وظنّ أنه استطاع بخياله أن يحطّ ـ نوعًا ما ـ من قدر الطرف المقابل، لكنّه لا يعلم بأنّه هو المغبون في ذلك! فهذا صار مخدوعًا ومغبونًا، وذاك ارتفع درجة؛ ككفّتي الميزان حين تتغلّب إحداهما على الأخرى، فهذا استطاع بذهابه أن يتجاوز العديد من التعلّقات، ويقطع مسائل وبوادي ومشاكل عويصة بين نفسه وبين التعلّق بالدنيا والتوغّل في الكثرات؛ فبذهاب واحد استطاع أن يحصل على آثار عشر سنوات من صلاة الليل، بل أكثر؛ فليس بإمكان صلاة الليل أن تفعل ذلك، نعم، هي تساعده على هذا الفعل، فلا نريد أن نستخفّ بصلاة الليل؛ لأنّها تساعده على ذلك، لكن على الإنسان أن يأتي إلى الآثار التي تحصل له من صلاة الليل وإلى تلك البوارق، فيترجمها عمليًّا في الخارج وفي المجتمع وفي علاقته مع الأشخاص؛ كي تترك تأثيرها الحقيقي على النفس. وأما مجرّد أداء صلاة الليل، فلا يكفي، وصرف قراءة القرآن لا يكفي؛ لأنّ القرآن يعلّمنا: {ادْفَعْ بِالَّتي هِيَ أَحْسَن}۱، فالقرآن عبارة عن وصفة طبيب؛ فمن الذي ينبغي أن يعمل بها؟!! فعندما تذهب إلى الطبيب وتأخذ الوصفة منه وتضعها في جيبك، سوف يبقى المرض لديك ولن تتحسنّ صحّتك! وعليه، يجب علينا أن نعلم بأنّه إذا فعلنا مثل هذا الأمر، وأقدمنا على هذا الفعل المخالف للنفس.. فهذا الفعل مخالف للنفس، إذ الناس لا تفعل ذلك عادة، ونحن نرى هذه المسألة في أنفسنا، فلماذا نذهب بعيداً؟!! وعلينا ألاّ نداهن، فهذه القضيّة متحقّقة فينا، والرفقاء يعلمون بأنّ البناء في هذه المجالس على أن نتحدث كلاماً أخويّاً، ونترك المداهنة جانباً؛ فنحن في نهاية الأمر، نريد أن نحصل على فائدة، لا أن نأتي ونجلس إلى بعضنا فقط، ونُصغي إلى كلام العظماء وبما سمعناه منهم، وليس فقط سمعناه منهم، بل كنّا نراهم يطبّقون ذلك عملياً بأنفسنا؛ سواء في علاقتهم بمعارفهم أم في علاقتهم برفقائهم؛ وقد كان ذلك عجيباً جدًّا!
أولياء الله لا يتعاملون مع الآخرين من منطلقات النفس و أهوائها
كان هناك شخص في مشهد يأتي إلى المجالس ويشارك فيها، وذات يومٍ كنّا نقرأ دعاء الجوشن عصر يوم الجمعة، وطلب منّي المرحوم العلاّمة أن أشرح بعض فقرات دعاء الجوشن. فشرحت هذه الفقرات، وبسبب طبيعة الفقرات انجرّ البحث إلى مسألة وحدة الوجود، وصرافة الوجود، وبساطة الوجود، وغيرها من هذه المسائل. وكان ذاك الرجل بعيداً عن المطالب الفلسفية، و من ناحيةٍ أخرى كان مطّلعاً على مذاق ذاك الفضاء الآخر [المخالف للعرفان والفلسفة]، لذا كان هذا الكلام ثقيلاً عليه.
فبعد أن انتهينا من الكلام، أتى إلى المرحوم العلاّمة وقال: (هذه المسائل التي ذكرها السيد في حديثه، كيف يمكن تقبّلها، إذ هي تتنافى مع أمور مسلمة، و يلزم منها محاذير؟! فقد سمعت الآن أحد الرفقاء يقول: لا تستند إلى الله [مشيراً إلى الوسادة]! وكأننا نستند إلى الله! فكيف يمكن هذا الأمر؟!).
والحاصل أنه جرت بعض الأمور، فأدت إلى رسوخ هذه الإشكالات التي كانت في ذهنه أكثر، و الظاهر أنّه قد طرح هذه المسألة مع أشخاصٍ آخرين أيضاً، و كانوا في ذاك الجوّ المخالف للفلسفة، فزادوا الطين بلّة، و قالوا كلّ ما كان يجول في قلبهم! والحاصل أنّ علاقة هذا الشخص مع المرحوم العلاّمة قد تزلزلت، وصار يصلّي خلفه صلاة فرادى، فقلنا: عجباً! إلى أين وصلت الأمور به؟ نسأل الله أن يحفظنا! وبعد ذلك فهمنا أنه قال لأحدهم: الصلاة التي أصليها مع العلاّمة، أعيدها في المنزل!
فقلت: أنعم و أكرم، خيراً إن شاء الله . [يضحك سماحة السيّد]. نحمد الله أنّه لم أكن أنا الذي أصلي جماعة، وإلاّ لكان قد وزّع منشوراً في حقي، فعلى الأقل ّ هو كان يحترم المرحوم العلاّمة، فكان يصلّي خلفه ثمّ يكررها في منزله!
وبعد مضي أيّام على هذه القضية شاهدت المرحوم العلاّمة خارجاً من المنزل، فقال لي: أنا ذاهب إلى منزل فلان لأتحدث إليه. فتعجبت من ذلك! وقلت في نفسي: لا داعي للذهاب إليه، ففي ذهن هذا الرجل ألف خيالٍ ووهمٍ زرعها هو و بعض الأشخاص، فلماذا يذهب الإنسان إليه؟! فإن كان فكره منحرفاً فليكن، ماذا نفعل له؟ إنّ المطلب الذي يعترض عليه صحيحٌ و واقعيّ و حقّ، وهو لا يريد أن يفهمه، فدعه وشأنه! فهذا الشخص كان البحر إلى جانبه، ومع ذلك كان يذهب إلى فلان الذي لا يعرف شيئاً ويسأله عن هذه المسائل، أتذهب إلى مثل هذا والعلاّمة إلى جانبك، مع أنّ ذاك لا يصل إلى ظفر المرحوم العلاّمة في الفهم و العلم! فما معنى ذلك؟
كانت هذه الأفكار تجول في ذهني، فأدرك المرحوم العلاّمة من وجناتي هذا الأمر، وقال: يا سيد محسن، إنّنا ليس لدينا مشكلة ولا حزازة في متابعة هذه المسائل و معالجة هذه المشاكل!
وقد ذهب إليه جلسة أولى وجلسة ثانية وجلسة ثالثة، ومع ذلك لم ينفع معه ذلك ولم ينفع ولم ينفع! لكن أريد أن أقول ما هي المراحل التي طواها هذا الرجل [أي العلامة رضوان الله عليه]؟!
علماً أنّه في النهاية لم يكن لهذه الجهود فائدة مع هذا الرجل، بل إنّه اتّخذ لنفسه مسيراً خاصّا. لقد قام الآخرون برمي سهامهم المسمومة في قلبه فأصابته في مقتل، وتركت أثرها، وفي النهاية قطع علاقته بالسيّد العلاّمة، وبقيت العلاقة مقطوعة إلى آخر حياته، بل سمعت أنه بعد وفاة السيّد العلاّمة، أراد بعض الأشخاص أن يضعوا إعلاناً عن مجلس الفاتحة، فرفض هذا الشخص بحزم، وقال: أنا أختلف معه في المنهج!
حسناً، هذا نوعٌ من أنواع الناس، ونسأل الله أن لا يبتلينا بذلك، فنحن لا نرضى بهذا الطريق، بل نحن نتبرّأ في كلّ ذرّة من وجودنا من هذا الطريق المخالف لطريق الأولياء، فالمسير هو مسير العظماء.
وبعد هذه القضيّة التي حصلت مع هذا الشخص، خطر في ذهني أن أذهب إليه وأحتجّ عليه، فنحن طلبة علم، وحسابنا يختلف عن حساب المرحوم العلاّمة مع مااله من الشخصيّة والعلمية؛ إذ لا مجال للمقارنة في ذلك. أجل، قلت في نفسي: فلأذهب وأبيّن له وأفحمه.. إفحاماً تامّاً يكون بمثابة الضربة القاضية التي لا يقوم بعدها.. و المسألة سهلة ليست صعبة، إذ أنّ مستواه العلمي لم يكن عالياً.. والحاصل أنني ذهبت إلى المرحوم العلاّمة وقلت له: اسمح لي أن أحلّ المسألة بربع ساعة فقط! فقال: لا، لا داعي لذلك! اذهب واشتغل بدرسك وبحثك.. [يضحك سماحة السيد و يقول:] كان يحدث نفسه بالقول: يكفي ما فعلته.. لم يقل ذلك، بل كان لسان حاله يقول: "الفتنة التي أوجدتها تكفي! فلا داعي للذهاب وفعل أمور أخرى!!" [يضحك سماحة السيد] وعلى كلّ حال لم نوفّق للذهاب وإصلاحه!! وبعد موت المرحوم العلاّمة أرسلت له: بأنّه إن كان لديك استعداد للبحث في المسائل التي كانت موضع خلاف بينك وبين المرحوم العلاّمة فأنا مستعدّ للتحدث، وبطبيعة الحال لم يكن لديه استعداد لذلك.
حسناً، انظروا ماذا فعل هذا الرجل ۱؟ وما الذي حصل عليه؟ وما الطريق الذي طواه؟ بحيث يقول: "يا سيد محسن! هذه المسائل ليست شيئاً بالنسبة إلينا، فأنا لست أستعظم الذهاب إليه وتوضيح الأمر له"، مع أنّني كنت لا أرى هذا الشخص يستحقّ ذلك من العلامة، وقد قلت لسماحته: لماذا تذهب إليه، دعه وشأنه، و حتّى لو طرأت عليه شبهة، فليكن! فهذه ليست مسألة مهمّة لكي تبذل لها وقتك، وتذهب إلى منزله.. لكن الأولياء والعظماء والعرفاء وأهل المعرفة قد تجاوزوا هذه المسائل! وتركوا هذه الأمور، هؤلاء وصلوا إلى آخر مراتب "فروا إلى الله"، وصلوا إليها بحركتهم وبطريقهم وبمنهجهم الذي بيّنوه في حياتهم، و من خلال علاقتهم بالأفراد المختلفين، و قد دوّن سماحته بعض نماذج ذلك في كتبه، و لا شكّ أنّكم قد رأيتم ذلك بأنفسكم وقرأتموه.. فأنتم تسمعون باسم العلاّمة الطهراني و تظنّون أنه كان عالماً صالحاً، و أنه كان قد قرأ عدة كتب وذهب إلى النجف، و هكذا صار العلامة الطهراني !! كلاّ يا عزيزي، إنّ هؤلاء العظماء قاموا بأمثال هذه الأمور حتّى وصلوا، بل لقد كانوا يقومون بأمور أهم من هذه حتّى، بل أهمّ بكثير من هذه.. ونحن كنّا معاصرين و شاهدين لما جرى عليه من أمور، وكنا نرى المطالب عن قرب.
متى على الإنسان ألاّ يـُقدم ويتنازل للطرف المقابل؟
أمّا الحالة المقابلة لهذه فهي أنه لو شعر الإنسان بأن الشخص الآخر في موقعية بحيث أنّ الذهاب إليه والاهتمام به لا أنّها لن تنزله وتخرجه من حالاته وتوهّماته فحسب، بل إنّها ستضيف على توهّماته وتزيد من استكباره وأنانيته، وتقوّي من أهوائه النفسانية؛ فعندئذٍ لا ينبغي الذهاب إليه، وهنا تأتي مسألة عزة المؤمن، فالإنسان ينبغي أن يفعل أمراً يكون منه نتيجة.. فالأمر بالمعروف ينبغي أن يكون في محلّه، والنهي عن المنكر في محلّه! فعندما لا يكون للأمر بالمعروف نتيجة، فلسنا مأمورين بالأمر بالمعروف، وفي المورد الذي لا يكون هناك نتيجة للنهي عن المنكر، فلا ينبغي فعله؛ فالنهي عن المنكر له مراتب ومواقع؛ إذ ينبغي أن يكون الجوّ المحيط موائماً، والكيفية مناسبة، وشخص الناهي يجب أن يكون بصيراً ومطلعاً على الكليّات من جهة وعلى المصاديق وموارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من جهة أخرى.
إنّ المعيار في هذا الموضوع ليس الكبر والصغر والمساواة، فهذه مسائل اجتماعية وعرفية، بل ما هو المعيار عند الله تعالى هو أنّه إذا كان ذهاب الإنسان وميله وتحركه باعثاً على خروج الطرف المقابل من الضلال ورفع الكدورة والظلمة وسوء التفاهم، فلا إشكال، ولا اعتبار للصغر والكبر في هذا المورد؛ إذ لا فرق بين طفل في الخامسة من عمره وبين شيخ في الثمانين في خصوص هذا الأمر. وأمّا إذا كان هذا الذهاب والعمل موجباً لزيادة أنانيّته، أو أن تلك الوضعية توجب زيادة أنانية، ففي هذه الحالة ينبغي أن لا يذهب أصلاً، إذ كثيراً ما يكون هذا الذهاب موجباً لزيادة توغله وزيادة نزوله؛ كما حصل فعلاً، ففي هذه الموارد على الإنسان أن لا يُقدم، عسى أن يكون تعزّزه و عدم تنازله هذا منبّهاً لذلك الشخص أن: ما الخبر؟ لماذا تتعالى بنفسك هكذا؟ إذ من تحسب نفسك؟! أ إذا سلّم الإنسان عليك مرّتين، ظننت نفسك مهمّاً؟ لا، بل أنت إنسان عادي، بل أدنى من الإنسان العادي بكثير، لكنك لا تعرف شأنك، فطننت أن تسليم الناس عليك إنما هو لأجل سواد عينك وجمالك طلعتك؟! لا يا عزيزي! بل كان هناك تكليف على عهدة الإنسان لمدّة يومين، وكان يؤدّي تكليفه معك لا أكثر! فلا تذهبنّ بك المذاهب! وعندما يتغيّر التكليف، فسوف يتغيّر التصرّف معك وكأنّه لم يكن هناك شيء أبداً! كأنّه لم يكن هناك شيء من قبل أبداً! إنّ كلّ ما لدينا هو طريقنا، فهو منشأ القيمة والأهميّة؛ فكلّما كان الإنسان مهتمّا بطريقه وثابتاً عليه، كان له قيمة، وصفات الإنسان إنّما تكون مستحسنة، ومورد مدح عند الاشتراك في المسير و الثبات على الحقّ، وإلا فلو أراد الإنسان أن يبتعد عن الطريق وينحرف عن المسير و يترك المباني، وأراد أن يتحرّك في عالم الأنانية والكثرة والتوغلات، فسنقول له حينئذٍ: اذهب غير مأسوفٍ عليك.. اذهب بغير رجعة!
إنّ هذه القاعدة هي ما كنّا نراه ونستنبطه من مرام العظماء، وكنّا نرى أنّ الصحيح هو هذا، هكذا هو الصحيح! أمير المؤمنين كان كذلك، والنبيّ كان كذلك، والأئمة كانوا كذلك، وجميع العظماء والأولياء كانوا كذلك، فقد سلكوا هذا الطريق، وحفظوا لنا هذا الطريق حتى أورثونا إياه، حسناً فهذا الفرس وهذا الميدان!
أما الجلوس والحديث وذكر العظماء فلن يوصل الإنسان إلى شيء؛ يقول: لقد رأينا المرحوم العلاّمة، وشاركنا في جلساته.. فحتى لو رأيته، فماذا هناك! إنّ النبي صلّى الله عليه و آله أعلى من المرحوم العلاّمة، وقد ورآه الناس، فماذا نفعهم؟ لو كان يكفي أن نرى العظماء و نسمع كلامهم دون الالتزام بالموازين والمعايير والمباني، يعني لو أردنا أن نترك المعايير و لا نلتزم بالمباني، فما الفرق حينئذٍ بيننا وبين ابن زياد؟ ما الفرق؟! إنّ القرب و البعد هو على أساس الالتزام بالمباني! على أساس الواقعيات والملاكات، وإلاّ فإن تركنا تلك ملاكات والمباني، فلماذا هذا النوع؟ إذ هناك ألف نوع آخر يمكنه أن يرتبط بهم، فهؤلاء الناس في الشارع كثيرون..
هذه المسألة مهمة جداً، إذ هنا يقول الإمام السجاد عليه السلام: بأن هذا الهرب نحو الله والفرار نحو الله موجود في عباراتنا ومناجاتنا وأدعيتنا، وفي الآيات القرآنية كذلك، في الأدعية المختلفة، مثلا جاء في أحد الادعية: "يا من إليه يهرب الخائفون" هذا هو نفس المعنى، فالخائفون يهربون إليك، و لكن هو خائف من أيّ شيء حتّى يهرب إليه؟ وإلى أيّ حدّ قد تبلور هذا الخوف في وجودنا؟ وهل وصلنا إلى مرحلة الفرار فعلاً؟ هل وصلنا إلى هذه المرحلة؟ إنّ لازم هذه المسألة هو الاطلاع والبصيرة؛ بأن يكون الإنسان مطلعاً على موقعيته.
حسناً، الفرصة انتهت، وإن شاء الله نصل إلى هذه المسألة وهي أنه ما لم يكن لدينا اطّلاع، ما لم يكن لينا بصيرة، ما لم يكن لدينا إشراف على موقعيّتنا و إدراك حقيقيّ لها، فلن يحصل الخوف في أنفسنا؛ فلا بدّ أوّلاً من الاطّلاع، ولا بدّ أوّلاً من البصيرة، ولا بدّ أوّلاً أن يحصل للإنسان إدراك و فهم لمآله، و أنّه ما الذي سيحصل؟ وما هي حقيقته هو؟ وما هي موقعيته، وما هي قدرته؟ وفي الطرف المقابل أن يرى الله تعالى : ما القدرة التي؟ وما الكبرياء والعظمة التي لديه، و أيّ جمال و جلال عنده؟ فعندما يتّضح له ما الموجود في هذا الطرف وفي ذاك الطرف، عند ذلك تأتي الشرارة، تأتي الشرارة وتحرق أكداس القطن لديه وتبدلها إلى شعلة فلا تبقي منها أثراً، تأتي لتحرق المسائل التي تقيّد يدي وقدمي الإنسان وتفنيها.
إن شاء الله نسأل الله أن يحقّق في أنفسنا هذه المعاني ببركة هذا الشهر المبارك، وأن يمنحنا الفهم والشعور، وأن يمنحنا الشعور بالألم والعطش، ويعطينا الوله.. ماذا يقول الإمام أمير المؤمنين في المناجاة الشعبانية ۱؟ يقول: «واجعل قلبي بحبك متيّماً»، فنحن لدينا حبّ وشوق، نعم لدينا حب وشوق بحدّ ما، ولكنّنا نبقى كذلك على هذا الحال، يعني مراتب المحبة مختلفة، و لكن في النهاية كلّ شخصٍ ثابت على تلك الرتبة و على ذلك المقدار من المحبة، ويبقى على ما هو عليه. أما أمير المؤمنين عليه السلام فيقول: ما الشوق والحب والميل؟! فهذه ليست موجودة في قاموسنا! إنّه يقول: اجعل قلبي بحبّك متيّماً، أي اجعله كالمجنون والهاً في حبّك، فالمتيّم يعني المجنون، معنى أن يكون الشخص متيّما هو أن يفقد الإنسان بسبب ورود الواردات جميع قدرته وعلمه وثباته! المتيّم هو الواله والحيران.
نسأل الله تعالى ببركة نفس هؤلاء الأولياء والمقربين من ساحته أن يأخذ بأيدينا ويمتعنا برشفة من ذلك النبع الذي قسمه لهم.
اللهم صل على محمد وآل محمد