المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1435
التوضيح
يعتقد الكثير من تلاميذ الأولياء أن وصولهم إلى الأستاذ الكامل يعني الحصول على ختم السعادة، و ضمان النجاة، هل هذا الاعتقاد صحيح؟ و ما علاقة ذلك بمقام الخوف و الرجاء؟ وما هي حقيقة الضمان الذي يلوح من كلام الأولياء أحياناً؟ أسئلة أجاب عنها سماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني في ضمن شرحه لفقرة (وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنّاً) من دعاء أبي حمزة الثمالي، التي ألقاها في الليلة الخامسة من شهر رمضان لعام 1435 هجري قمري في بلدة قم المقدّسة
هو العليم
ما هو الضمان الذي يعطيه الأولياء لأتباعهم؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٥ هـ ق - المحاضرة الثانية
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنّاً».
أي: أنا يا سيّدي ومولاي ومن يملك زمام أموري أعوذ بفضلك وأهرب مسرعاً منك إليك، وأنا متنجّز ومتأكّد ومطمئنّ ـ بسبب حسن ظنّي بك ـ من صفحك وعفوك، ومحوك لأعمالي السيّئة التي أنت مطّلع عليها، كما أنّني أعتبر هذه المسألة مسألةً واقعيّة وحقيقيّة، وليست مجرّد وعدٍ وإحالةٍ على المستقبل.
مقام الخوف و الرجاء من أركان السير و السلوك
في هذه الفقرات، يُشير الإمام السجّاد عليه السلام إلى نقطة مهمّة وحيويّةٍ جدّاً في السلوك والطريق إلى الله تعالى، ألا و هي مسألة مقام الخوف والرجاء؛ فالإنسان من دون خوفٍ ورجاءٍ لا يستطيع أن يطوي الطريق، ولهذا ينبغي عليه أن يحقّق في نفسه هذه المسألة على الدوام؛ لكي تكون بمثابة وقودٍ يستعين به في حركته وطريقه، وإلاّ سيكون عرضةً للتوقّف، بل ومن المحتمل أن يسقط في المهالك ويُبتلى بالأخطار؛ فالذين يفتقدون للخوف والرجاء من المحتمل جدّاً أن يتعرّضوا لأخطار الطريق وابتلاءاته، وأن يسقطوا في الانحراف.
وهذه المسألة (تحقّق الخوف و الرجاء في النفس) مسألة مهمّة وحيويّة جدّاً قد شاهدناها عند جميع الأنبياء والأولياء والعرفاء، و قد بيّنا ذلك سابقاً حينما دار الحديث معكم ومع الرفقاء في ليالي شهر رمضان من الأعوام السابقة حول هذه الفقرات من دعاء أبي حمزة، أو نظير ما نشاهده عند أمير المؤمنين في أدعيته ومناجاته في مسجد الكوفة، وفي مناجاته الشعبانيّة (التي من المؤكّد أنّكم كنتم تقرؤونها في أيّام شعبان المباركة)، وحقيقةً إنّ هذه المناجاة عجيبة، وإنّ مضامينها لعجيبةٌ.
وليس بإمكاننا القول بأنّ هذه الأدعية قد نشأت من عالم شعري وشاعري، ومن سائر الحالات التي تعرض للإنسان في مقام الحديث مع محبوبه ومعشوقه، حيث يضع نفسه في مثل هذه الأجواء، و يرسم لنفسه صورة ثمّ يبدأ بالتحدّث بمثل هذا الكلام؛ فمثل هذه الأمور لا علاقة لها بما يعيشه العارف حينما يكون في مناجاةٍ وحديثٍ مع الله تعالى. يعني واقعاً لو كنّا نحن في ذلك الزمان عندما كان أمير المؤمنين يقرأ المناجاة الشعبانية في الليالي المظلمة، ويقول فيها ذلك الكلام.. لو كنا بالقرب منه، أو بالقرب من الإمام السجاد عندما كان متعلّقاً بأستار الكعبة ويقرأ تلك الأشعار ولديه ذاك الحال الذي نقل عنه، وكذا الحال في سائر الأئمة عليهم السلام.. لو كنا نحن بالقرب منهم وسمعناهم يقرأون هذه الأدعية و المناجاة، فماذا سنقول فيهم؟ هل سنقول بأنهم كانوا يمثّلون كما يزعم البعض الآن؟ فبعضهم يقولون: (إنّهم عليهم السلام كانوا في حالة تمثيل كما لو كانوا في المسرح.. فهم إنّما كانوا يقولون هذا الكلام لأجلنا نحن). هكذا يوجّه بعضهم هذه الفقرات من الدعاء، ويقولون: أنى للإمام أن يتحدّث هكذا؛ فالإمام لم يذنب أصلاً، والإمام ليس فاسقاً، فإذن الإمام قال هذا الكلام لنا ومن أجلنا!!
الإمام عليه السلام يعيش حالة الخوف والرجاء واقعاً ولا يتصنّعها
و لكن واقعاً، لو كنا بالقرب من أمير المؤمنين في مسجد الكوفة ورأينا الإمام يقرأ هذا الدعاء، ورأينا دموعه تنهمل من عينيه، فماذا سنقول؟ هل يمكننا أن نوجّه كلامه بهذا الشكل؟! هذا غير منطقيّ ولا هو مقبولٌ أبداً! أو عندما يقرأ الإمام المناجاة الشعبانية مع الله، أو عندما يقرأ الإمام السجاد عليه السلام هذه الفقرات التي نقرأها في كلّ ليلة من شهر رمضان المبارك...
لقد كان الإمام يكرّر الدعاء في كل ليلة؛ فلو كان ذلك للتعليم، لكان يكفي أن يقرأها مرّةً واحدةً، فلماذا يكرّره في كل ليلة من شهر رمضان؟! إذاً هذه التوجيهات ليست صحيحة، إذ لو كان الإمام قد قالها من أجلنا، لكان يكفي أن يقولها مرة واحدة فقط، لأنّ ذلك يكفي لكي نتعلّم الدعاء! و بطبيعة الحال، لم يكن في ذلك الوقت آلة تسجيل وما شابه، فإذا كان غرضه مجرّد التعليم كان سيقول: اكتب وقل هكذا: إلهي أنت الغني وأنا الفقير حتّى آخر الدعاء... ولكفى أن يكتب مرّةً واحدةً فقط، ويعلن للناس والشيعة ويقول: من الآن فصاعداً اقرأوا هذا الدعاء، وليكن دعاؤكم في شعبان هذه المناجاة، ولانتهى الأمر بذلك، فلماذا يكرّرها إذاً في الليلة الثانية والليلة الثالثة؟ ولماذا يقرأها في السنة القادمة؟! فتكرارها مرّة، ثمّ قراءتها مرّة ثالثة ورابعة وثلاثين مرة، ما الغرض منه وما الفائدة المرجوّة من ورائه؟!
هناك شريطٌ مسجلٌ سجّله أحد رفقاء المرحوم العلامة رضوان الله عليه، ولا زال هذا الشخص على قيد الحياة ـ حماه الله وسلّمه ـ، وكان من الأصدقاء السابقين. في ذلك الزمان كنت صغيراً في حدود العاشرة أو الثانية عشرة، وكنت أراه يأتي إلى المنزل، والمرحوم العلامة يسجّل له أدعية شهر رجب وشعبان وشهر رمضان، حيث كان من أصدقائه الذين كانوا يقرأون الدعاء في الجلسات، ثمّ بعد ذلك كان العلاّمة يستمع إلى تلك الأدعيّة التي قام هذا الشخص بتسجيلها، فقد كان يستمع إلى المناجاة الشعبانية بعد عودته من المسجد مساءً، وكان يغرق في حاله الخاص. و أنا بدوري قد سمعت هذه المناجاة الشعبانية حوالي خمسمائة مرة حتّى الآن، والشريط موجود عندي، ولو استمعت إليه الآن سأكون كأني لم أسمعه من قبل! وكأني أسمعه للمرة الأولى!
حسناً، لو كان أمير المؤمنين عليه السلام يكرّر هذه المناجاة الشعبانية، وكنا بالقرب منه وسمعنا منه هذه المطالب وهذه الفقرات، وعايشنا حالة المسكنة والذلّة والعبودية وحالة الخضوع والتواضع والفناء التي كانت لديه، ومن جهة أخرى نرى أنّه يذكر حالة الربوبية وحالة الكبرياء والعظمة و البهاء وحالة العلو والاستعلاء والمقام المنيع والرفيع لله تعالى، وكذلك لو عاينّا و سمعنا المطالب التي يذكرها الإمام السجاد في دعاء أبي حمزة هذا.. لو اتّفق لنا ذلك، فما الذي كنّا سنفهمه من هذا الكلام؟ هل كنّا سنقول: إنّه ذكر ذلك لأجلنا نحن، و كان يمثّل هذه الحالة لأجلنا، كما يصنع الممثلّون؟! إذ ما الذي يفعله الممثلّون عند تمثيلهم للفيلم؟ يأتي الواحد منهم ويتقمّص دور شخص آخر، وعمله ووظيفته، يعني أنه يُخرج نفسه ويظهرها في قالب آخر، حتى يتسنى له أن يرسم موقعية ذلك الشخص، بقدر طاقته. هذا يقال له تمثيل، و يدعى مثل هذا الشخص ممثّلاً! حسناً، إذا تبيّن ذلك فلا شكّ كلام الإنسان في الدعاء ليس من هذا القبيل، يعني واقعاً ليس كذلك، فهو لم يأت ويمثّل أمامنا والعياذ بالله! ولا كان يحاول تقمّص دور إنسان عاصٍ ومذنب، فهذا كما هو واضح ليس هو مراد الإمام، والمسألة ليست بهذه الكيفية قطعاً.
فالممثلون يؤدّون أداورهم بإتقان أحياناً، فيخرجون بشكل شخصٍ آخر بحيث يظن المشاهد أنّه هو! يعني أنّه يقوم بتحويل شخصيته إلى شخصية أخرى ويغيّر حاله بحيث تتغيّر هويته بشكل كامل، وهذا فنّ كسائر الفنون. بعض الأشخاص إذا أرادوا التمثيل، فإنّهم لا يقومون به بإتقان، بل ينكشف حالهم سريعاً، لكنّ بعضهم يمثّلون عليك بإتقانٍ كبير ـ نستجير بالله ـ ويتقمّص الدور بدقّة بحيث لا يخطر ببال المخاطب أنه يلعب دوراً أمامك، فتعتقد أنّ الواقع هو ما يبيّنه! وهذا بنفسه فنّ يدرّس ويعلّم؛ بأنه كيف يمكن للإنسان أن يعيش أجواء أخرى و يغيّر فضاءه إلى فضاء آخر، وأن يغيّر في حاله ليتقمّص شخصية أخرى، فهذا بحاجة إلى عمل وتمرين ووقت.. ففي النهاية هذا الأمر موجود.
ولكن مع ذلك، فإنّ التمثيل يبقى معروفاً مشخّصاً، فبكاء الأم الثكلى ليس كبكاء النائحة، (وليست الثكلى كالمستأجرة).
در عزائي گر بود صد نوحه گر | *** | آه صاحب درد را باشد اثر |
[إذا كان في العزاء مائة نائح، فصوت صاحب المصيبة هو الذي يترك الأثر]
فذاك الصوت الذي يأتي من صاحب المصاب هو الصوت المؤثّر، أما النائح الآخر فهو يحكي صوت هذا فقط ويقلّده، وهو في الواقع يمثّل الحزن و البكاء، بل ربما كان يضحك في قلبه ويقول: جيد أن تنزل هذه المصيبة على رأس هذا الرجل.. فهو وإن كان ينوح في الظاهر، لكنّه في قلبه يفكر في ذلك، إذ قد يكون بينهما حساب وعتاب أو شيء آخر، والحال أنّ الآخرين قد يظنون بأنّ صاحب المصاب هو هذا لما يتظاهر به من الحزن، ولكن مع ذلك يبقى صوت صاحب المصاب هو المؤثّر.
حسناً، إذا نظرنا الآن إلى الإمام عليه السلام، فماذا يا ترى تكون حالته عندما يقول هذا الكلام؟ و ما هي الحقيقة التي في قلبه و باطنه التي يظهر منها هذا التضرّع و المناجاة؟ و هذا البكاء و التضرّع، عن أيّ حقيقة يحكي في ضمير الإمام عليه السلام و نفسه وقلبه؟ و كيف يمكننا أن نتصوّر مثل هذا الأمر من الإمام عليه السلام؟
من آفات الطريق: غلبة الرجاء على السالك فيعتمد على انتسابه إلى الأولياء فقط
ولقد كنّا نشاهد هذه الحالة في حياة العظماء و الأولياء أيضاً، أجل كنّا نراها بعيننا، و كما ذكرت سابقاً فإنّ من جملة الأخطاء والاشتباهات التي كنّا نراها في زمان حياة المرحوم العلامة بين الكثير من الرفقاء والإخوة هي أنّهم كانوا يتصوّرون بأن المرحوم العلاّمة قد انتهى عمله، و أغلق ملفّه، فصار يمكنه أن يفعل أيّ شيء يحلو له، ولا شيء عليه! فقد وصل إلى المقام المنيع لعزّ الربوبية، وليس لديه بعد ذلك أيّ مشكلة، بل المشكلات إنما هي من نصيبنا نحن، وكلّ السعي والمراقبة والعمل إنما هو منوطٌ بنا فقط! كان يوجد هذا التصوّر بين الجميع، دون استثناء، إلا بعض الأفراد الذين فهموا المسألة إلى حدّ ما! فكان الأكثر يظنّون بأنّه قد انتهى ولا شيء عليه وأنّه يمكنه أن يفعل ما يحلو له. وليس هذا الأمر فقط كان موجوداً عند الإخوة، بل إنّ بعضهم قد ذهب إلى أبعد من ذلك، فقالوا بأنّك عندما تضع رجلك في منزله تحصل على ضمان وصكّ الأمان! أو كما يقال: عندما يختم السلطان رسالتك، فقد وصلت إلى مرادك، فوا عجباً من ختم السلطان هذا!
حسناً، هذا كلّه بسبب عدم فهم المطلب، وهو ناشئ عن عدم الإدراك الصحيح: فهؤلاء لم يلتفتوا إلى هذه الفقرات من دعاء أبي حمزة، وهم قد غفلوا عن أنّه بشكل عام عندما يصل الإنسان إلى معرفة مقام العزّ الربوبي ويطّلع على عناية الله وصفاته، فإنّه يمسي في حالٍ وموقعيةٍ خاصّة، ونحن ما دمنا لم نصل إليها، فلا يمكننا فهمها، فهو يصل إلى حال بحيث أن شعورنا نحن الذين نرى بأننا لم نمشِ شيئاً وأننا لم نطوِ من هذا المسير الطويل شيئاً، وأنه "كم بقي أمامنا من الطريق للوصول.."، فنحن هكذا نفكر، أليس كذلك؟ أم أنّنا نعتقد بأن المسألة قد انتهت بالنسبة إلينا و أنّنا قد وصلنا؟! [يبتسم سماحة السيّد، و يقول:] إذا كان لدينا إنصاف، فلن نمنح أنفسنا درجة عشرين، بل أقصاها سنمنح أنفسنا درجة ستة عشر أو سبعة عشر لا أكثر! ونترك ثلاث درجات أو أربع للمسائل التالية. فإننا في مثل هذه الحالة؛ حيث نرى أنّه كم أمامنا من الطريق! وكم نحن مقصّرون! وكم لدينا من ذنوب وجهل وتقصير وقصور.. فنحن نرى هذه الأمور كلها في أنفسنا، وبعد ذلك نضع أنفسنا في حالة من الخوف والرجاء، ونقول: إلهي إن لم تشملنا عنايتك فسوف يصير كذا، وإذا أنزلت علينا غضبك وسخطك فسوف يكون مصيرنا كذا! حسناً، عادة نحن في مثل هذه الوضعية، إذا كان لدينا إنصاف فهذا سيكون حالنا، لا مثل ذاك الرجل الذي ذكرت لكم بالأمس قضيّته.. ذاك الذي قال: "أشعر بأنّي قد وصلت إلى مقامٍ بحيث أنّني صرت من المؤهّلين لطيّ هذا الطريق".. ثمّ بعد ذلك رأينا ما الذي حلّ به وأين صار! إنّ الإنسان ليخجل واقعاً من ذكر ما آل إليه أمره.
وبحمد لله لقد رأينا جميع الأصناف، فأحياناً يترك الإنسان ويتّخذ طريقاً مغايراً، و يغادر مبتعداً بسلام: في أمان الله! ولكن بعضهم ينفصل و يترك، إلاّ ذلك يكون أوّل عملٍ له، وأوّل ألطافه التي ستتوالى عليك عبر خطاباته وكتاباته وإملائه وإنشائه..
نسأل الله أن لا يبتلي أحداً بذلك! فإنّني عندما أتحدّث معكم بهذه المسألة يرتجف بدني لها؛ وأقول: (إلهي، لو كانت عنايتك بي ستنقطع يوماً ما، فسوف نكون مثل هؤلاء تماما)ً.. لقد بلغ بهم الأمر أنّهم كانوا يرسلون رسائل للمرحوم العلاّمة، لا داعي لذكرها؛ فيها عباراتٌ لا يستخدمها الأفراد السفهاء وأبناء الشوارع، وفيها سبّ وفحش... وهذا ممّن صدر؟ لقد صدر من شخص كان يقول: "لا يوجد مثل هذا الشخص [أي السيّد العلاّمة رضوان الله عليه] على وجه الأرض أبداً!".
أين يكون الإنسان وأين يصير؟! لماذا صرنا هكذا؟ ولماذا يصل الإنسان إلى هذا الموقع؟! فمَن يقول: "لقد بحثت في الأرض (طبعاً هو بحث بمستوى حاله ومقامه ومستوى إدراكه، ولا ندري كيف بحث بزعمه!)، بحثت على وجه الأرض، فلم أعثر على شخصٍ مثله"، ثمّ مع ذلك يأتي ويكتب مثل هذه الرسالة إلى المرحوم العلامة! وقد قرأتها، ذكر فيها كلاماً لا يستخدمه أبناء الشوارع فيما بينهم! فما سبب ذلك؟ لأنّه لم يكن لديه خوفٌ ورجاءٌ، بل كان لديه جانبٌ واحدٌ فقط، كان يظنّ بأنّ "ختم السلطان" قد خُتم على صفحته وانتهى الأمر! وبما أن ختم السلطان قد طبع على صفحته، فقد ضُمن له الأمر واستلم صكّ الأمان! هل التفتّم؟! نسأل الله أن لا يصيبنا بذلك.
فالإنسان ههنا يكون في حال يتصوّر بأنه في أمان، ويمسي فارغ البال مرتاحاً، لا يشغله همّ ولا غمّ! لقد كان المرحوم العلاّمة يقول: عندما يأتي رفقاؤنا إلى هنا، يتصوّرون بأنّ المسألة قد انتهت! لا يا عزيزي! فأنت عندما جئت إلى هنا إنّما تكون قد عثرت على الطريق فقط، فأين انتهت المسألة؟ فأنت وصلت إلى الطبيب للتوّ! فمن الآن عليك أن تأخذ وصفته وتشتري الدواء من الصيدلية وتتناوله في وقته بشكل منتظم، وعليك مراعاة الأمور التي نهاك عنها أيضاً، فهذه الأمور عليك أن تقوم بها من الآن.
الوصول إلى الأستاذ الكامل هو أوّل الطريق لا آخره
ثم يقول العلامة: هؤلاء يعتقدون بأنهم وصلوا إلى النبي! ولكن يا عزيزي حتّى النبّي لم يكن كذلك؛ إذ ماذا حصل للأشخاص الذين كانوا مع النبيّ؟! {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِر}۱، إنّ الله يقول للنبي: أنت لست محيطاً بأعمالهم ومسيطراً عليها؛ بحيث تقول لهم: اذهب يميناً واذهب شمالاً فيمتثلون، لا، بل أنت مذكّر فقط، عليك أن تبيّن المطلب وتوضّح الطريق فقط، لا أنّه لك الأمر في تحريكهم في هذا الاتجاه وذاك الاتجاه! عليك أن تبيّن الأمر لهم، فمن أتى واستجاب لك، فبسم الله، عليك أن تقول لهم: حقيقة المطلب هو هذا، والطريق القويم هذا، والطريق المعوجّ هو ذاك، والصحيح هذا، وتبيّن المسائل بهذا الشكل! ما الدليل على هذا الكلام؟ دليله هو ما حصل عندما ارتحل النبيّ صلّى الله عليه و آله عن هذا العالم، فما الذي حصل عندئذٍ؟ لقد تركوا طريقه ومشوا كالأنعام إلى سقيفة بني ساعدة لتعيين خليفة له! ألم يعلن النبي بالأمس على هذا المنبر وأمام الجميع بأن علياً هو الخليفة من بعده؟! أوَلم يقل: «إني تارك فيكم الثقلين...»؟! إنّ هذا الأمر لعجيبٌ! انظروا علينا أن نجعل أنفسنا في ذلك الموقع! فهل الأشخاص المحيطين بالنبي أقلّ منّا؟ هل كان عدد كريّات الدم عندهم أقل؟ أم أنّ دماغهم كان أصغر من دماغنا، أم قلبهم أصغر؟! بل كانوا مثلنا؛ فقد كانت دماؤهم كدمائنا وأدمغتهم كأدمغتنا، وكانت أحجامهم مثلنا؛ طولهم متر وستون سنتيمتر، أو متر وسبعون، أو متر وثمانون، أو متران.. وكان أكلهم كهذا الأكل وكلامهم هكذا، وإدراكهم كذلك.. فما الذي حصل واقعاً؟ هل فكّرنا في ذلك بالجدّ؟ يعني لو كنّا في زمن النبي هل سنكون كسلمان وأبي ذر وعمّار الذين ظلّوا على استقامتهم بعد رحلة النبي؟ أم لا، كنّا سنخضع لذاك الفضاء والجوّ الإعلامي الذي كان، و كانت ستؤثّر علينا تلك الدعايات التي حصلت وتلك الأحداث التي وقعت، فنتحرّك مع أولئك الناس الذي تحرّكوا؟! فعندما يفكّر الإنسان برزقه وعياله وأولاده، عندما يفكر بحياته ومستقبله.. سيقول عندها:
"وا ويلاه، لقد خرج الأمر من يد عليّ! وا ويلاه، لقد فعلوا فعلتهم! لكن ماذا عنّي أنا؟ ما الذي ينبغي عليّ فعله الآن؟ بأيّة جهة ألتحق؟ والحال أنّ جميع هؤلاء الناس قد ذهبوا كالسيل إلى تلك الجهة! لقد انتهى الأمر وصار الذي صار، لقد حصل انقلاب وانتهت المسألة!". ولكن يا عزيزي، صحيح أنّ المسألة قد انتهت، ولكن لماذا تنتهي أنت أيضاً؟! صحيح أنّ انقلاباً قد حصل ... نعم، فسقيفة بني ساعدة كانت انقلاباً، حيث عملوا انقلاباً واستولوا على الحكم.. أولئك الأوباش والأراذل والظلمة الذين كانوا يتآمرون في حياة رسول الله ويعقدون الاجتماعات السرّية؛ فسقيفة بني ساعدة لم تكن وليدة ساعتها، بل كانت تُعقد الجلسات من قِبل هؤلاء قبل شهادة النبي بسنوات مديدة، حيث كانوا قد خطّطوا وهيّئوا الأمور، وكانوا ينتظرون ارتحال النبيّ فقط، وحتّى أنّهم عملوا على قتل النبي، وفي النهاية سمّموه، فمات النبي بالسم! وعليه، فما هي حقيقة هذه المسألة؟
إنّ الله تعالى يُهيّئ الأمور للإنسان ويضعها أمام عينيه، يا عزيزي، إنّ سقيفة بني ساعدة موجودة الآن، ففي نفس هذه اللحظة توجد سقيفة بني ساعدة، وتوجد الدعايات، نعم، الآن، في هذه الليلة.. ليلة الخميس، حيث نتحدّث هنا، والإخوة والأصدقاء يستمعون إلى هذه المطالب. (إنّ هذه المطالب التي أذكرها لكم قد سمعتها بعينها من المرحوم العلامة، نعم، بنفسها، بل حتّى بنفس العبارات) أجل إنّ سقيفة بني ساعدة موجودة الآن، وطريق أمير المؤمنين موجود الليلة، والمسألة ليست مزاحاً يا عزيزي! فإذا كنت مستقيماً، فأنت في هذه الجهة، وأمّا إذا أردت أن تحتال على نفسك وتدفن رأسك في الرمال وتقول: "لا يراني أحد"، فالحجّة دائماً تامة، والدليل واضح دائماً، والمطلب جلي دائماً؛ فإن وضعت رأسك في التراب، فاعلم أنّك في سقيفة بني ساعدة! ولا مجاملة في ذلك.
في أحد الأيّام، أرسل لي أحدهم رسالة قال فيها: "يا سيّد، ينبغي عليك أن ترفع اليد عن هذه الأفكار التي لديك وما يدور في خلدك، وتعال واقبل بهذه المطالب [واتّبع طريق فلان]!"، فقلت له: "أنا بدوري أقترح عليك أن تتخلّى عن أفكارك وما يدور في خلدك، وتعال واقبل بكلّ ما أقوله لك أنا!"، هذه بتلك! فإذا كان لديك دليل مقبول على كلامك، وارتضيتُ هذا الدليل، فسمعاً وطاعة! وأمّا إذا لم تأتني بدليل وقبلتُ كلامك من دون دليل، فسوف أكون في سقيفة بني ساعدة! إذا شعرتُ بأنك مخطئ بناء على ما لديّ من معلومات ومرتكزات وعقل وفطرة وما حصلت عليه حتى الآن، (فما تعلّمته إنما ينفعني في مثل هذا اليوم، وسوف يكون منجياً لي وفاتحاً للطريق أمامي) .. فإذا أردت أن أرفع اليد عن هذه الأمور، فسوف أكون مثل أولئك الذين لم يعملوا بأوامر رسول الله، بل خالفوها، وعملوا وفقاً للشائعات والدعايات، فاستولوا على السلطة وجرّوا معهم مجموعة من الناس؛ إذ أيّ فرق حينئذٍ سيكون بيني وبين هؤلاء؟! لا فرق أبداً!
إنّ كلامنا هذا يبتني على أساس اعتقادنا بأنّ الإمام لا يفرق حاله بين الحياة والموت؛ لأنّ حقيقة الإمام عليه السلام حيّة دائماً، بخلاف بدنه الذي يكون حياً في زمان ما، وفي زمان آخر لا يكون حيّاً؛ فسيّد الشهداء عليه السلام كان حياً ما دام يمشي، وأما بعد أن استشهد، فقد تهاوى بدنه، لكنّه بنفسه لم يتهاو.. نفس سيد الشهداء لم يمت ولم يدفن، بل بدنه الذي دفن، حيث أتى الإمام السجاد ودفنه تحت التراب، ثمّ جاؤوا بعد ذلك وصنعوا له قبّة وضريحاً؛ فهل يعني ذلك أنّ الإمام الحسين موجود تحت تلك القبة فقط؟ لا، ليس كذلك؛ لأنّ تلك الحقيقة لا تختصّ بمكان، بل هناك بدنه فقط! وإلا، لو كان ذلك صحيحاً، إذا قلنا الآن: "السلام عليك يا سيد الشهداء، السلام عليك يا ابن رسول الله"، فسوف يكون سلامنا هذا لغواً؛ إذ الإمام الحسين ليس هنا، فمع من نتكلم؟ فالإمام الحسين في كربلاء، تحت تلك القبّة! فلمن تقول: "السلام عليك يا ابن رسول الله"؟ عندما تقول: "السلام عليك يا ابن رسول الله"، فإنّ ذلك يعني أنه الآن إلى جانبك.. إلى جانبك الآن يستمع إليك، ولديه خبر عن حالك ووضعك، ومطّلع على مقدار إيمانك بطريقه، وكم أنت صادق عندما تقول: "يا ابن رسول الله"!!
تذكرت الآن مسألة مضحكة.. لقد كان لدينا أستاذ يدرسنا المنطق ـ رحمة الله عليه ـ، وكان من منطقة تبريز، وهو غير المرحوم الغروي رحمة الله عليهم أجمعين. قال لنا ذلك الأستاذ: في يوم من الأيّام، كنت أمشي في نواحي آذربيجان۱ وتبريز وتلك المناطق، فوصلت إلى مكان، وكنت في غاية الجوع والعطش، حتى أنني كدت أن أفقد الوعي لشدّة غلبتهما عليّ، فوصلت إلى أرض مزروعة بطيخاً، فقلت في نفسي: أكاد أموت من شدة الجوع والعطش، وهذا هو وقت الأكل من هذا البطّيخ، خصوصاً وأنّ بريقها يعمي الأبصار، فالأكل منها الآن ليس مستحباً فقط بل هو من أشد الواجبات!!! والحاصل أنني ذهبت وتناولت بطيخة وشرعت بأكلها؛ فما إن بدأت بالأكل وإذا بصاحب المزرعة ـ وهو رجل طويل ـ قد أتى حاملاً الرفش والعصا بيده، فقال لي: ماذا تفعل هنا يا شيخ؟! جئت لتأكل أموال الناس؟ فلم أدر بماذا أجيبه، فقلت له: إني جائع! فقال: وإن كنت جائعاً.. أفهل لأنّك جائع، تأتي وتأكل أموال الناس؟! وشرع بتوبيخه باللغة التركيّة ـ فليتفضّل الأخوة الترك بترجمة كلماته ـ!!! قال الأستاذ: فوجدت أنّه لم يعد أمامي شيء أقوله، فقلت له: أنا مجنون! فقال: هل أنت مجنون؟ مجنون من؟ فقلت مجنون سيد الشهداء! فقال: عجباً! ثم قال: إنّ العاشق إلى درجة الجنون إذا نادى معشوقه، يجيبه! فإن كنت صادقاً في كونك مجنوناً، فانهض وسلم على حبيبك! فإن أجاب، وإلا ضربتك بهذه العصا على رأسك! فقلت في نفسي: يا سيد الشهداء، أنا لم أرد أن آكل البطيخ، والآن جاء هذا الرجل العظيم يريد أن يضربني بالعصا على رأسي، افعل شيئاً وأنقذني.. [ضحك] هذا ما يقال له اضطرار، يعني حصلت له حالة اضطرار، فقلت: السلام عليك يا أبا عبد الله! فوضع المزارع يده على أذنه وقال: لا بأس، لا بأس.. فقلت: الحمد لله لقد نجاني الإمام الحسين، وإلا لكان نصيبي هذه العصا، وانتهى أمري!!!
حسناً، فهم يفهمون ميزان صدقنا في الدعوى التي نقول بها، ومدى صدقنا عندما نقول: السلام عليك.
فالإمام الحسين عليه السلام حيٌّ، وحقيقته خالدة أبداً؛ يعني أنّه بإمكان الإنسان أن يجعل هذا الأمر محكّاً له في كلّ ظرف، ليعلم أهو في السقيفة أم في مكان آخر؟ فالأئمة عليهم السلام والعظماء والعرفاء والأولياء لديهم من الخوف والرجاء الذي نشعر به أمام غضب الله (أو لطفه) مضروباً في ما لا نهاية؛ فهؤلاء لديهم هذه الحالة بالنسبة إلى الله! لا أن نظنّ بأنّ حالهم قد وصل إلى حدّ قد انتهت المسألة عندهم وأنهم فعلوا ما عليهم، وأنهم حصلوا على ضمان..
ما هو الضمان الذي يعطيه الأولياء لأتباعهم؟
بعضهم هكذا يقول: فلان أعطانا ضماناً! ما هذا الضمان؟ وما هذا الكلام؟ فالضمان إنما يحصل من خلال الاختيار والعمل، يعني: إذا كنت ترغب في المشي في طريقنا، وتعمل على هذا الأساس، فسوف نأخذ بيدك، ولن نتركك؛ وهذا هو معنى الضمان، لا أن تذهب وتفعل ما يحلو لك من أمور ومن أخطاء، وتقول: لقد أعطينا الضمان! حسناً، افعل ذلك، لنر كيف سيوصلك ذلك إلى المقصود!! إنّ معنى الضمان هو: أننا متوجّهون إليك، ونسدّدك ونراقبك ونحافظ عليك ونحفظك من الأخطار؛ هذا هو معنى الضمان، لا أن تجلس في منزلك وتقول: لقد ضُمن لنا كلّ شيء! فالجلوس في المنزل لن يوصلك إلى أيّ شيء، ولا يترتّب عليه أي أثر أو نتيجة، كما أنّ الذهاب إلى أيّ مكان وموضع ـ كيفما كان ومن دون حساب ـ لن يثمر أيّ شيء! نعم، إذا كان الإنسان سائراً في الطريق، وكان له قصد ونيّة، فسوف نذكر إن شاء الله في الجلسات القادمة كيف يعمل الإمام عليه السلام على إيجاد تلك الومضة في قلبه، وأنّه لماذا أنت جالس كالماء الراكد، وتقضي حياتك هكذا على أمل أن يحصل شيء؟!! فالمسألة ليست بهذا الشكل!
لكن يبقى أنّ جميع هذه الأمور ترجع إلى الفهم والإدراك؛ فما دام الإنسان لم يدرك مكانته الحقيقيّة بشكل جادّ و يقيني، و طالما أنّه لم يعِ خطورة أمره، ويفكر في عاقبته وما ينتظره في المستقبل وما هي المكانة التي منحها الله إياه وما الشيء الذي يخسره.. ما دام غير مطلع على هذه الأمور، فلن يكون لديه الدافع الكافي، والمحفّز اللازم، والاهتمام اللائق، وتلك الحركة التي عبّر عنها الإمام عليه السلام بعبارة "هارب" حينما يقول: "هارب منك إليك"! فهل نحن في حالة هرب؟ من منّا لديه هذه الحالة؟ هل نحن واقعاً نهرب إلى الله؟ يعني: هل إنّ حركتنا هذه وفعلنا ومنهجنا في الحياة هي هرب نحو الله؟ ـ فالإمام يقول: أنا في حالة هرب إليك ـ أو أنّ الأمر بالنسبة إلينا أن نعيش ونقضي أوقاتنا هكذا (لا يجوع الذئب ولا يفنى الغنم)، وتنقضي أعمارنا بشكل من الأشكال، وتنحلّ المسألة في الأخير وتتّضح بشكل معين؟!
في يوم من الأيّام، كانت هناك جلسة في منزل المرحوم العلامة، وكانت الجلسة صباحاً على الفطور، وكنت صغيراً في وقتها؛ ولعل عدد الأشخاص الذين كانوا يأتون إلى تلك الجلسات لم يكن يتجاوز سبعة أو ثمانية أشخاص، وكانوا من رفقائه وكان لديهم أنس خاص به، وقد كان واضحاً بالنسبة لي كيفية مجيء هؤلاء ومقدار اهتمامهم؛ إذ ترى بعضهم يأتي قبل طوع الشمس ويقف على الباب، وترى بعضهم يصل بعد وضع المائدة، وبعضهم يأتي بعد شروع المرحوم العلاّمة بالمحاضرة، هذا مع أنّ عددهم لم يكن يتجاوز سبعة أو ثمانية أشخاص، وترى أحدهم يأتي في آخر المحاضرة ويبدأ بالاعتذار بأنه لم يجد سيارة وكذا وكذا، وإذا سألته: منذ متى خرجت من منزلك،؟يقول لك: منذ عشرين دقيقة! ـ فهذا نوع آخر من الأشخاص!!! ـ ثمّ يقول: حتى لو وصلت متأخراً، يكفي أن نأخذ بركة المجلس! لكن بعد مضي الزمان وانقضاء سنوات على تلك الجلسات، أرى أنّ بعض هؤلاء الذين لا زالوا على قيد الحياة ـ حيث أنّ بعضهم قد توفي وانتقل إلى رحمة الله ـ هم أثناء سير حياتهم على نفس الحالة التي كانوا عليها عندما كانوا يأتون إلى الجلسة في ذلك الوقت، وكل منهم يعمل بحسب سهمه، أي أنّ منزلتهم ومرتبتهم وأعمالهم هي بنفس تلك الكيفية التي كانت في ذلك الوقت! فذاك الذي كان يأتي في الأخير تخلّى الآن عن هذا المسير، وقد اقتصر على بعض الصلوات وقنع بها؛ وكأنه لا خبر جاء ولا وحي نزل!!! وكذلك الأمر بالنسبة للآخرين، حيث نجد أنّ حال كلّ واحد منهم الآن مرتبط بالحال الذي كان عليه في ذلك الوقت؛ وهذا أمر عجيب! فعجيب كيف أنّ همّة الإنسان وفكره وبصيرته وذكاؤه الثاقب وفهمه ودركه للمسائل هو الذي يحدّد له حياته في المستقبل إلى آخر عمره؛ فهناك من كان يأتي قبل وضع السفرة؛ وهو المرحوم السيد مرتضى الرضوي، حيث كان يأتي قبل فتح الباب ويقف من دون أن يطرق الباب حتى لا يسبب إزعاجاً، وهناك من كان يأتي بعد ذلك ـ ولا أريد هنا أن أذكر الأسماء ـ، وأما من كان يأتي في آخر خطبة العلامة، فقد كان ينطلق من منزله قبل عشرين دقيقة من انتهاء الكلام.. لقد كلفت نفسك كثيرًا!!! يقول مع نفسه: فلنذهب لنر ماذا هناك، ونحصل على بعض الصفاء، ونتمشى قليلًا، ونشم الهواء العليل، فإن صادفنا وجود سيارة، نصل وتنتهي المسألة..
من باب الاتّفاق، رأيت هذا الشخص في مكان ما منذ مدة ـ لا أدري السنة الماضية أو التي قبلها ـ، فوجدته في حال مختلف تماماً، فتبيّن أنّني لم أكن مخطئاً في القانون الذي بيّنته؛ فذلك الشخص هو نفس الشخص الذي كان يصل عند نهاية كلام العلامة.. انظروا، كل شيء يخضع لحساب خاصّ! لقد كان المرحوم العلامة يقول مراراً: بمقدار ما تدفع مالاً تأخذ طعاماً.. فمقدار ما تعطي مالاً تأخذ طعاماً! وهذا الأمر هو الذي يشكّل حياة الإنسان في طريقه نحو الوصول إلى الحقائق.
حسناً، نحن غير مجازين بالتحدّث أكثر من هذا المقدار، فعلى الإخوة أن يقبلوا عذرنا، وقد قطعنا على أنفسنا أن لا نتحدّث بدءاً من الليلة أكثر من ثلاثة أرباع الساعة، ولا أعلم إن كنت قد وفيت بذلك أم لا! نأمل من الله تعالى أن يُحقّق هذه الحقائق في أنفسنا، وأن يستبدل بلطفه نقصنا إلى قدرة وقوة وهمّة؛ وكما يقول الخواجة حافظ الشيرازي:
بر سر تربت ما چون گذرى همّت خواه | *** | كه زيارتگه رندان جهان خواهد شد |
[عندما تمرّ بقبري اطلب الهمّة هناك، فسوف يصير هذا القبر محلاًّ لزيارة شطّار العالم]
فالهمّة أمر مهمّ جداً؛ إذ كل شيء ينشأ منها.
نسأل الله أن يوفقنا ويمنحنا ما منحه لخواص عباده؛ من الهمّة والتوفيق والحركة والسير نحوه، وأن يمنحنا شمّة من تلك الأمور حتى نرى ماذا هناك، وما هي حقيقة المسألة حينما يقول الإمام السجاد عليه السلام في هذه الفقرات: أهرب إليك! وسوف نبيّن إن شاء الله في الجلسات القادمة معنى الهرب ومما الهرب.. يقول: أنا هارب إليك، لا أنّي أمشي إليك، بل مسرع نحوك بجميع قواي؛ وجميع وجودي أضعه في سبيل هذه المسألة.. وإنّه لأمر عجيب حقًّا! اللهم ارزقنا فهم هذه المطالب، ثم امنحنا الهمّة للمسير في طريق هؤلاء العظماء والثبات عليه.
اللهم صل على محمد وآل محمد