المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1435
التوضيح
تختلف نظرة العرفاء عن غيرهم بالنسبة للصوم و لشهر رمضان، فأهل المعرفة يرون بأنّ شهر رمضان فرصة استثنائية و نعمة كبرى منّ الله بها على الإنسان، و أن على الإنسان أن يغتنمها و يستغلّها بأحسن ما يمكن، فكيف يمكن اغتنامها ؟ و ما هي الامور التي تحرم الإنسان من بركات هذا الشهر ؟ هذه بعض المواضيع التي تحدّث عنها سماحة آية الله السيّد محمد محسن الحسيني الطهراني في هذه المحاضرة الأولى من المحاضرات التي يلقيها في ليالي شهر رمضان في شرح دعاء أبي حمزة الثمالي. و من الجدير بالذكر أن سماحته سيشرع هذا العام في شرح الفقرة التالية من الدعاء الشريف: (وأنا يا سيّدي عائذٌ بفضلك هاربٌ منك إليك متنجِّزٌ ما وعدت من الصّفح عمّن أحسن بك ظنّاً)
هو العليم
شهر رمضان فرصة لا تعوّض و غنيمة لا تفوّت
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي – سنة ۱٤٣٥ هـ ق - المحاضرة الاولي
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
يقول الإمام السجّاد عليه السلام: «وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنّاً»
أي: أنا يا سيّدي ويا مولاي مستعيذٌ بفضلك، وبفضلك أحتمي و أستعيذ، وأنا هاربٌ منك، إلّا أنّ هربي وفراري هو إليك أنت؛ فالهرب يعني الفرار بسرعة، لا مجرّد الفرار، سواء كان هذا الفرار إلى الخلف أو إلى الأمام.. هذا هو معنى الهروب.
«مَتنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بِكَ ظنًّا»، أي: أنا أتوقّع وأنتظر أن تغفر وتصفح عن الشخص الذي يُحسن الظنّ بك، وأنا أعتقد بهذا الأمر، فمتنجّز يعني: راسخ وثابتٌ، ومطمئنٌ لكلامي بحيث أقسم به؛ هذا هو معنى "التنجّز".
حسنًا، نحمد الله تعالى على أن منّ علينا، ووهبنا عمرًا، فوفقنا ـ مرّة أخرى ـ لكي ندخل في شهر رمضانٍ جديدٍ، ونستفيد من بركاته، إن شاء الله.
هناك مسألة تستحقّ التأمّل بشكلٍ جادٍّ، وهي: لماذا ينبغي أن يكون شهر رمضان شهرٌ واحدٌ فقط؟ ما السرّ وراء ذلك؟ لماذا لم يكن أكثر من شهر واحد؟ لماذا ليس شهرين؟ لماذا لا يتكرّر مرّة واحدة في كلّ ثلاثة أشهر؟ حسنًا، فالله وحده هو من يعلم حقيقة هذا الأمر!
الأعاظم يدركون عظمة الشهر المبارك و يشكرون الله عليه بزيارة الأئمة و أبنائهم
وحقيقةً: إنّ الأجواء والحالات التي يشعر بها الإنسان في شهر رمضان هي أجواءٌ وحالات استثنائيّة، بحيث أنّني أتذكّر بأنّ أولياء الله تعالى ـ نظير المرحوم الوالد والمرحوم الحداد رضوان الله عليهما ـ كانوا ينتظرون في شهري رجب وشعبان قدوم شهرَ رمضان؛ فكانوا يقولون: "سيقبل علينا شهر رمضان.. سيقبل علينا.. بقي له خمسة عشر يومًا"، هذا مع أنّ نفس شهر شعبان ليس بالشهر القليل، وكذلك شهر رجب! فمع كلّ الفضائل التي ذُكرت عن هذه الأشهر، حيث ورد أنّ رجب شهر الله، وشعبان شهر رسول الله، وشهر رمضان شهر الأمّة؛ فإنّنا و رغم كلّ ذلك حينما كنّا نجلس للاستماع إليهم، وكان يدور حديث حول هذا الأمر، كنّا نراهم يتكلّمون حول شهر رمضان بنوع من الشوق والشغف؛ وكأنّ حالهم هو حال من ينتظر معشوقه الذي سيأتي، وكنّا نرى في محيّاهم البهجة والسرور والابتهاج والنشاط بالنسبة لشهر رمضان.
في يوم من الأيّام، كنّا جالسين مع المرحوم الوالد ـ ولا أذكر في أيّ يومٍ من أيّام شهر شعبان كان ذلك ـ فقال لي: يا سيّد محمّد محسن، هل تعلم كم اليوم من شعبان؟ فقلت له مثلًا: السابع أو الثامن أو العاشر [لا أذكر]، فقال عندها: لقد بقي إذن عشرون يومًا، أو خمسة عشر يومًا [لا أذكر] على مجئ شهر رمضان.
حسنًا، ما هو الإدراك الذي كان عند هؤلاء الأعاظم، و بماذا كانوا يشعرون بحيث كانوا يستقبلون حلول شهر رمضان بهذا النحو؟ يعني ما الذي أدركوه واقعًا؟ الله هو وحده العالم، ونحن ليس لدينا اطّلاع، ولا نعلم ما الذي يشاهدونه في عوالمهم، بحيث يعيشون حالةً من الترقّب والانتظار لهذا الشهر؛ فالإنسان عادةً ما يترقّب الأشياء الجيّدة والمهمّة التي يفترض أن تأتي إليه أو يحصل عليها وليس الأشياء التي يتوفّر عليها و يمتلكها مسبقاً، ثمّ ما هي تلك النعمة العظمى التي جعلت أولياء الله تعالى يسنّون هذه السُنّة بعد انتهاء شهر رمضان المبارك ويجعلونها من ضمن برامجهم ودساتيرهم، حيث كانوا يذهبون لزيارة العتبات المقدّسة، كلٌّ بحسب مكانه؛ فمثلًا من كان في قم، يزور السيّدة المعصومة والأعاظم في مقبرة "شيخان" وحضرة علي بن جعفر، ومن كان في طهران كان يزور السيّد عبد العظيم الحسني؛ وهو من ورد بحقّه أنّ الذي يزوره يكون كمن زار سيّد الشهداء عليه السلام۱، وكذلك الأمر بالنسبة لمن هو في مشهد، أو أنّهم كانوا يذهبون إلى مشهد لزيارة الإمام الرضا عيه السلام، وكذلك الأمر في بقيّة الأماكن: في شيراز مثلًا، حيث كانوا يذهبون لزيارة الأعاظم هناك، وكذلك الحال بالنسبة لأصفهان.
لكلّ واحد من أبناء الأئمة مقامه الخاص ولزيارته أثرها الخاصّ
ففي الواقع، لكلّ واحدٍ من أبناء الأئمّة عليهم السلام مقامه ومنزلته الخاصّة به، وله أيضاً حاله وأثره الخاصّ به؛ فالأمر ليس جزافًا، يعني: حينما يقوم الإنسان بالزيارة، فإنّه يحصل لديه اتّصال! وهذا الاتّصال يترك أثره في نفس هذا الزائر، وهذا الأثر يصحّح له طريقه، ويهيّئ له الأرضيّة المناسبة لحلول الواردات والنفحات الإلهيّة القدسيّة؛ فمن باب المثال: قد تكون جالسًا، وإذا بك تشعر بحالةٍ من السرور والانبساط؛ فمن أين أتت هذه الحالة؟ هل أتت من منزل خالتك؟! أم أنّ ذلك كان وفقاً لحسابٍ خاصّ؟ علينا أن نرى ما الذي فعلناه؟ وما العمل الذي قمنا به [بحيث أدّى ذلك للشعور بهذا الانبساط]؟
فقد يقوم الإنسان ببعض الأعمال قبل ستّة أشهر، لكنّها تأتي الآن وتأخذ بيده، ويظهر أثرها في هذه اللحظة، حيث يكون الله تعالى قد احتفظ له بها في ملفّه قبل ستّة أشهر، فإذا وصل إلى هذا الموضع، فإنّها تساعده. وبالعكس: إذا ارتكب الإنسان عملاً مخالفاً، فإنّ هذه المخالفة تبقى في ملفّه، وفي اللحظة المناسبة التي ينبغي له أن ينعطف فيها بهذا الاتّجاه، فإذا به ينعطف بالاتّجاه المعاكس! وهذا سببه تلك المخالفة، فلكلّ عملٍ من الأعمال آثاره الخاصّة به.
لقد سمعت أنّ المرحوم الحداد رضوان الله عليه، وحتّى المرحوم الوالد في بعض الأسفار التي كان يذهب فيها إلى كربلاء والعتبات، وكانت سفراته تمتدّ إلى شهر أو شهرين، وأحيانًا كانت تمتدّ إلى سبعين يومًا في تلك الأيّام، حيث كان يذهب مع السيّد الحداد وأصدقائه هناك للقيام بزيارة شاملة۱يذهبون فيها إلى سامرّاء والكاظمين، وكانوا يزورون أبناء الأئمّة كذلك ـ كحضرة السيّد محمّد بن الإمام الهادي عليه السلام ـ والذين يمكن القول في حقّهم بأنّهم كانوا يلون المعصوم عليه السلام في الفضل، غاية الأمر أنّهم لم يمتلكوا مقام الإمامة؛ فمقام الإمامة له حسابه الخاصّ، والإمامة لها قواعدها الخاصّة؛ وبسبب ذلك يختلف الإمام عن غير الإمام وغير المعصوم، وإن شاء الله سأقوم بتوضيح هذا الأمر ـ إذا وفقني الله تعالى ـ في الكتاب الذي أنا بصدد تأليفه تحت عنوان: "معالم عاشوراء ومدرستها"، حيث سأتعرّض هناك لهذا الموضوع، وأوضّح هذا الأمر.
فالإمامة أمرها مختلفٌ، ولها حسابها ووضعها الخاصّين، لكن مع ذلك يبقى أنّ أبناء الأئمّة كانوا أفرادًا صالحين، ثمّ إنّه ليس بالضرورة أن يكونوا أبناءهم المباشرين بلا فصل؛ أليس السيّد الحداد من أبناء الأئمّة؟ بكم فاصلة؟! أفهل ينبغي أن يكون الشرف والفضل في الولد المباشر بلا فصل؟! ليس بالضرورة، بل يمكن أن يكون حتّى في غير أبناء الأئمّة من الأشخاص العامّيين٢، غاية الأمر أنّهم يكونون من أولياء الله تعالى، ممّن وصلوا إلى ذلك النبع. نعم، يبقى أنّ الإنسان حينما يكون ابناً للإمام، فهناك نوع من الشرف والسيادة، وهو أمر آخر، وأمّا الوصول إلى تلك المراتب والمقامات، فلا يختصّ بأبناء الإمام الظاهريين، بل يمكن لأبنائهم الباطنيين أن يصلوا أيضًا؛ فمثلاً أنا لا أذكر أنّ السيّد العلاّمة الطهراني رضوان الله عليه كان يذكر أحداً من الأولياء الإلهيين كذكره للمرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني رضوان الله عليه، مع أنّه كان عامّيًا، ولم يكن من السادة، وكثيرًا ما كنت أرى أنّ وجه المرحوم الوالد يتغيّر عندما يرد ذكر اسم المرحوم الآخوند الملا حسين قلي الهمداني، وكانت ملامحه تتبدّل؛ فما هو المقام الذي كان يحوزه الآخوند بحيث يُؤدّي إلى تغيير ملامح وجه ولي الله والذي كان بحدّ ذاته بحرًا زاخراً؟ فمع كلّ تلك العظمة التي كان يتّصف بها المرحوم العلاّمة، نجده يستعمل عباراتٍ في حقّ الآخونذ قلّما سمعته يستعملها في حقّ غيره، نعم يبقى أنّ مسألة السيّد الحداد هي مسألة أخرى.
فجميع هؤلاء هم أبناءٌ باطنيّون وحقيقيّون للأئمّة، غاية الأمر أنّ الأبناء الظاهريّين لهم شرفٌ آخر أيضًا من باب انتسابهم الظاهري إليهم، والخصائص المرتبطة بذلك؛ وذاك أمرٌ آخر.
فزيارة مثل هؤلاء العظماء لها أثرها الخاصّ؛ ولهذا كان الأولياء يذهبون إلى زيارة حضرة السيد محمد وحضرة السيد حمزة وحضرة القاسم الذي كثيراً ما كنت أسمع أنّ جميع الزيارات الشاملة التي كان يقوم بها السيّد الحدّاد كانت تتضمّن زيارته أيضًا، وكان يحزّ في نفسي لعدّة سنوات أنّني لم أتمكّن من زيارته لحدّ الآن، إلى أن وفّقت لذلك قبل سنتين تقريباً عندما تشرفت بزيارة العتبات برفقة بعض الأصدقاء، حيث قلت لهم حينما أردنا الخروج من كربلاء: إنّني أرغب كثيرًا في زيارة حضرة القاسم أيضًا؛ فأنا لم أوفّق حتى الآن لزيارته، وقد سمعت من المرحوم العلاّمة مدحاً كثيراً في حقّه، حيث كان يذهب لزيارته برفقة المرحوم السيد الحداد، وكذلك كان يذهب لوحده، كما أنّ المرحوم السيد الحداد كان يذهب لزيارته لوحده أيضاً.
فقالوا: حسناً، فلنذهب! فاستأجرنا سيارة، وقلنا للسائق: نريد الذهاب أوّلاً إلى مدينة القاسم ـ نسبةً إلى السيد القاسم بن موسى بن جعفر ـ، ولدينا رواية صحيحة واردة في حقّه تفيد بأنّه: لو لم تتعلّق المشيئة الإلهية بإمامة الإمام علي بن موسى، لكنتُ [والقائل هو الإمام موسى بن جعفر عليه السلام] أحبّ أن تنتقل الإمامة إلى ولدي القاسم۱.
فأيّ مقام كان يحظى به؟ وكم كان يحبّه والده موسى بن جعفر حتى يذكره بهذه العبارة؟! فعندما يقول الإمام: إنّ الإمامة ليست بيدي؛ لأنّ تعيين الأئّمة الإثني عشر إنّما هو بمشيئة الله تعالى، وهذه هي أسماؤهم، ولو كان الأمر باختياري أنا، فأنا أحبّ أن تصل الإمامة إلى ابني القاسم، فإنّ ذلك يدلّ على شدّة اهتمامه به، لكنّ الإمامة وصلت إلى علي بن موسى الرضا، فقد صرّح بأن الإمام بعده هو علي بن موسى.
حسناً، ألا ينبغي علينا الالتفات إلى هذه الأمور؟! يجب الالتفات إليها! فالإمام له مكانته وهؤلاء لهم مكانتهم أيضاً! أمّا أن نقول: "بما أنّنا ذاهبون إلى كربلاء لنزور الإمام، فلا شأن لنا بهؤلاء"، فلا يصحّ! بل هؤلاء لهم مكانتهم أيضًا؛ فإن سنحت لنا الفرصة وكان حالنا مساعداً، فينبغي أن نذهب إليهم ونستفيد من كلّ واحد منهم.
والحاصل، أننا قرّرنا في هذا السفر الذهاب لزيارته، حيث قلنا للسائق: خذنا أوّلاً إلى زيارة السيّد قاسم، ثمّ من هناك إلى النجف؛ فذهبنا ورأينا ماذا هناك! رأينا الجلال والعظمة والمقام الرفيع، فقلت لنفسي: أيّها الغافل، لقد بقيت طوال هذه المدّة دون زيارته؟ انظر ماذا هناك! فهذا الكلام [الذي كان يقوله العظماء ليس جزافاً]… طبعاً نحن لا نفهم شيئاً، فأين كلامنا من كلام السيد الحداد والعظماء؟! لكن ليس عبثاً أن يقول السيّد الحدّاد: إنّ عظمة الإمام الكاظم وبهائه قد تجلّتا في ابنه هذا! يعني أنّه مظهر لعظمة الإمام وبهائه، وقد قال لي كثير من الإخوة: هل يمكننا أن نغضّ الطرف عن الذهاب إلى النجف، ونبقى هنا ونبيت إلى جانب المقام، ونسرّح السائق، حيث كنت مع بعض الأصدقاء، وكان عددنا أربعة أو خمسة أشخاص، فقلت لهم: لقد أدّينا الزيارة، ونرجو من الله تعالى أن يتقبّلها منّا، ولنترك ذلك للمرّات القادمة إن شاء الله حينما تكون الفرصة أكبر.
أو نظير ما حصل معي في هذا السفر الأخير حيث سافرت بمفردي، وكان برفقتي شخص واحد أو شخصين، وكان ذلك في أيّام النوروز بحسب الظاهر، وقد وفّقت مع أحد الأصدقاء ـ وكنت مع أهلي كما كان هو مع أهله كذلك ـ للذهاب من النجف إلى زيارة قبر حضرة رشيد الهَجَري ـ والظاهر بحسب ما أذكر أنّها بفتح الهاء على الرغم من أنّهم كتبوا هناك: رشيد الهِجري ـ ورأينا هناك أنّ عظمة رشيد الهجري ـ الذي كان من خواصّ أمير المؤمنين ـ كانت واضحة لنا، ويمكن القول أنّها كانت بحدود عظمة ميثم، إلّا أنّ ميثم كان أقوى، ولكن يبقى أنّهم كانوا جميعاً يجلسون إلى سفرةٍ واحدةٍ، وكانوا يشربون من نفس الكأس كما يقول الدراويش، ويشربون من شراب " لن تراني"، ومن شراب الجنّة، وتلك الأمور التي كان يمنحهم إيّاها أمير المؤمنين.. رحمهم الله جميعًا. بعد ذلك، ذهبنا من هناك إلى مزار جدّنا نحن.. حضرة زيد بن عليّ؛ وعندما دخلنا، انتابني الضحك! فقال لي ذلك الرفيق حفظه الله: لماذا تضحك؟!! فقلت له: إنّني أسمع الآن لسان حاله يقول لي: يا رجل، لقد اعترضت عليّ و حكمت عليّ بالخطأ في كتابك الذي كتبته۱، ثمّ تأتي الآن إلى هنا لكي تزورني في قبري؟! ما أعجب أمرك من ولدٍ عاقّ وغير صالح!!! [يضحك سماحة السيد و الحضور] فقلت: منك العذر، فنحن قد تجرّأنا وتجاسرنا عليك، والعفو مأمول عند الأعاظم؛ وهكذا كنّا نضحك!!!
ثمّ رأيت أنّه فعلًا يمتلك مقامًا عاليًا؛ أي أنّه كان عظيمًا بحقّ، لكن مع ذلك و مع كلّ ما ذكره المرحوم الوالد عن حضرة زيد فيما يتعلّق بالمقامات التي كان يحظى بها ـ فكلّ ذلك محفوظ في محلّه ـ إلاّ أنّه لم يكن إمامًا، وقد ارتكب بعض الأخطاء، وثورته لم تكن بإجازة من الإمام، ونحن قلنا له: انظر، نحن ذريّتك التي لا تليق بك، ويمكنك أن تقول فينا ما شئت من الأوصاف والنعوت، ولكن في النهاية نحن في المسائل الواقعيّة والمسائل الحقيقيّة لا نتنازل، يعني: في المسائل المتعلّقة بالإمامة وشؤون الإمامة، وأنت قد ذهبت من الدنيا وأمكنك ـ حيث أنت ـ أن تعلم أنّ ما قاله ابنك لم يكن جزافًا وليس فيه مجانبة للصواب، رغم أنّني تجاسرت وتجرأت، ولكن هناك في ذلك العالم تظهر الحقائق للإنسان وتتجلّى وتنكشف، وخلاصة الأمر، قلت: أنت جدنا، ولنا أمل بشفاعتكم، وإن شاء الله تشفعون لنا، ولكن بهذا المقدار ينبغي أن تجيزوا لنا أن لا نتنازل حينما تكون القضيّة متعلّقة بالإمامة وشؤون الإمامة والولاية، فهناك المأمور معذور، وعليك أن تعذرنا، وهو بلطفه يعذرنا وقد عذرنا.
على كل حال، إنّ زيارة هؤلاء الأعاظم لها أثر، والإنسان يشاهد هذا الأثر في نفسه، ويرى أثر هذا الارتباط؛ فهذا العظيم يرى الآن أنّ فلانًا قد جاء إليّ من المكان الذي يبعد كذا وقصدني…، فهل الأمر لا قيمة له؟! لا، لا يمكن ذلك، بل يوفّونه أجره، ويحصل على الأثر، وكم هو جيّد أن يصل الإنسان إلى هذه المطالب؛ ولذا فإنّ المرحوم السيّد الحداد، وبعده المرحوم العلامة الطهراني كانا يؤكّدان جدًا على الزيارة في شهر رمضان المبارك، وقد تمّت الإشارة إلى ذلك في دستورات الميرزا علي القاضي للأشهر الثلاثة، وهذا الأمر مؤكّد خصوصًا في شهر رمضان المبارك، فعلى الإنسان أن يذهب إلى زيارة أولياء الله في هذا الشهر المبارك، فلها أثر مختلف حال الصيام! وهكذا زيارة الأئمّة وأبناء الأئمّة، حيث على الإنسان أن يذهب إليها؛ فهذه الآثار كلّها متصلةٌ ببعضها البعض.. أجل، هي متصلة، فكثيرًا ما حصل للأصدقاء أن زاروا حضرة عبد العظيم الحسني، ثمّ يلتفتون بعد ذلك ـ كلٌّ بحسب مرتبته ـ إلى أنّهم زاروا الإمام الحسين أو أنّ سيّد الشهداء تقبّل منهم الزيارة، أو أولئك الذين ذهبوا لزيارة حضرة السيّدة المعصومة، التفتوا إلى أنّ الإمام موسى بن جعفر قد اعتنى بتلك الزيارة، فهؤلاء متّصلون ببعضهم.. جميعهم متّصلون بحبلٍ واحدٍ؛ وذلك الحبل هو حبل الولاية التي تظهر بمظاهر مختلفة، وظهورها يختلف في الأشخاص وفي القوالب المتعدّدة.
ضرورة الاحتراز عن بعض الأمور التي تحرم الإنسان من بركات شهر رمضان
الحمد لله، الحمد لله أنّ هذا الشهر المبارك قد أتى، وأنّنا دخلنا في هذا الشهر، وأنّه شملتنا رحمة الله الواسعة التي تختصّ بالأشخاص الذين يهتمون به كما ينبغي؛ فكلمّا كان مقدار الاهتمام ومقدار العناية بما ذكره الأعاظم أكثر، كلّما ربحنا وكسبنا أكثر؛ إذ لا يمكن أن نحمل بطيختين بيدٍ واحدةٍ! فالإنسان يمكنه أن يحمل واحدةً في كلّ يدٍ، ولذا عليه أن يقلّل من الأشياء التي توجب زيادة التوهمات والتخيّلات في الشهر المبارك؛ ومن جملة ذلك (علمًا أنّي ذكرت العديد من المسائل سابقًا):
التكلّم، فكلمّا زاد كلام الإنسان، كلّما زادت قوّته المخيّلة والمتوهّمة، والأفراد الذين يتكلّمون بنحوٍ أقلّ، يتمتعون بسكون في النفس واطمئنانٍ في القلب، وطمأنينة في الخاطر، ويتمتّعون بسكون وأمانٍ خاصٍّ.
كذلك رؤية الأخبار وسماعها من هنا وهناك، وليكن في علمكم أنّ كلّ خبرٍ يصل إلى مسامعكم ـ سواءً أردتم أم لم تريدوا ـ سيكون له أثرٌ في قلبكم، حتّى ولو كان ذلك الخبر صحيحًا، مثلًا: لقد وقع زلالٌ في المكان الفلاني! فمع أنّه صحيح، وليس خبرًا كاذبًا، لكنّ هذا الخبر بحدوث الزلزال له أثرٌ في القلب، وهذا الأثر يبقى، ويأتيك في الصلاة: "لقد حصل زلزال"، ويأتيك عند قراءة القرآن: "لقد حصل زلزال". يا عزيزي، لقد حصل زلزال، فليحصل، وما شأني أنا؟! وماذا يُمكنني أن أفعل؟ فبعضهم مات، وبعضهم بقي على قيد الحياة، وبعضهم يحاولون سحبه من تحت الأنقاض، في ذلك الجانب من العالم، لكن ما نفعي أنا من معرفة ذلك؟! أليس كذلك؟ لقد ذكرت مراتٍ عديدةٍ للرفقاء: كلمّا كان الذهن خاليًا من الأخبار، كلما كان توجّهه أكثر، لكن يُستثنى من ذلك بعض المسائل الضروريّة، وهذا يختلف من إنسان إلى آخر بحسب ظروف كلّ شخص والمسائل الاجتماعيّة التي تحتّم على البعض أن يعلموا بما يدور، ولكن ما ليس بضروري، ولا فائدة فيه، ولا نتيجة ترتجى منه سوى زيادة القلق وتلف الأعصاب ـ مثلًا: "لقد حصل الفعل القبيح الفلاني في المكان الفلاني" ـ فما شأننا بذلك؟ أو مثل: "في المكان الفلاني حصل الأمر الإيجابي أو حصل الأمر السلبي، أو كذبوا هكذا، أو قال فلان كذا، أو حصل كذا"... إنّ هذه المسائل تعمل دائمًا على تضخيم قوّة الإنسان المتخيّلة، وتعمل على تشديد خيالاته، وتولّد الأفكار في ذهنه؛ فلا تقولوا: نحن نستطيع أن نتغلّب عليها! لأنّنا لا نستطيع أن نتغلّب عليها! والله لا نستطيع أن نتغلّب عليها! وليس بإمكان أيّ واحدٍ منّا أن يتغلّب على ذلك الأثر الذي تتركه الأخبار على أنفسنا، وذلك الأمان وحالة الاستقرار اللذان نفقدهما، وطالما أنّ الأمر كذلك، فكلّما كانت أقلّ، كلما كان الوضع أفضل.
وكذا متابعة المسائل المختلفة: "فلان لديه هذا المرض وفلان عمل هذا العمل"، فلا داعي ليعير الإنسان أذنه إلى أيّ خبر، فالله عندما خلق هذه الأذن، خلقها لتوصلنا إلى الهدف والمقصد؛ فعندما يريدون صناعة سيّارة، يجعلون لكلّ شيء أمراً؛ فيجعلون المقود لأداء مهمّة، ويجعلون الفرامل لأداء مهمّة، ويجعلون المصابيح لغرض خاصّ؛ وهكذا، يجعلون لكل غرض أمراً معيناً؛ فهذه الأذن التي جعلها الله فينا، هل جعلها لكي نسمع أيّ شيء؟ أن نفتح الراديو ونستمع إلى كل ما يبثّ فيها من لغو وأمور من الصباح إلى المساء.. هل وضعها الله لهذه الأمور؟ أم أنه جعلها لسماع موعظة أو لسماع كلام يؤثّر فيه وفي قلبه، ويكون تذكراً له ومطرقةً تدقّ عقائده الفاسدة والأخطاء التي يرتكبها؟! إنّما جعل الله الأذن لأجل ذلك، وقد خلق الله الأذن للإنسان لسماع تلك النغمات التي يرسلها سبحانه إلينا لتشدّنا نحوه والاستفادة منها، ولكي تستمع إلى الأصوات التي تلطّف النفس، ولسماع الموعظة وسماع القرآن، وسماع الأشعار التي تُحرّكه وتخرجه من التعلّقات والتوجّه إلى المادة؛ فتارةً تقرأ شعر حافظ، وتارةً أخرى تأتي وتستمع إلى شخص يقرأه لك بصوت جميل؛ فهذا له أثر آخر! أَنظرُ إلى نفسي وأرى التأثير الكبير الذي تركه هذا الصوت.. عجباً، لقد قرأت هذا الشعر بنفسي! فلماذا لم يترك هذا الأثر؟! فحتى لو قرأته وحدك ففيه أثر، لا أنّه لا أثر له.
وتارةً تقرأ مطلباً من الكتاب مباشرة، وتارةً أخرى تستمع إلى نفس هذا الأمر بصوت المرحوم العلامة مثلاً، فترى أن هذا شيء آخر، مع أنه هو بعينه موجود في الكتاب.. كتاب معرفة الإمام، أو معرفة المعاد، أو معرفة الله أو كتاب آخر، لكن عندما تستمع إلى صوته، ترى أنّه ترك أثراً مختلف على نفسك، فما سبب ذلك؟ سبب ذلك هو التأثير الذي تركه ذلك الصوت؛ فمع أنه نفس الكلام، لكن بما أن هذا الصوت ناشئ من نفسٍ قدسية ونفسٍ طاهرة ومطهرة، ترى أنّ أثرها عجيب.
أو أن يقرأ لك شخص شعر حافظ أو شعر مولانا الرومي، فتشعر أنه أثّر فيك؛ وكأنّك لم تسمع هذا الشعر من قبل، حتى لو كنت قد قرأته عشر مرات أو عشرين مرة..
فالله تعالى جعل السمع لهذه الأمور، والعين كذلك واللسان كذلك، لكنّنا نأتي ونستخدمها في كل ضارّ ونافع، فتجد أنّه ما إن نفتح أعيننا، حتّى نشغّل التلفزة ونسمّر أعيننا لساعتين على الكرة؛ هذا يضربها إلى هنا، وذاك إلى هناك.. هذا ما تحصل عليه العين من هذه الأمور! والأذن نستخدمها في سماع الغناء والأمور الفارغة، والأخبار التي لا طائل منها، والقصص والأساطير.. فجميع هذه المطالب التي تحصل تؤدّي إلى إحداث تخيّلات في نفس الإنسان؛ فيجد الإنسان أن شهر رمضان قد أتى وانتهى، لكنّ حاله لم يتغيّر! لماذا لم يتغيّر؟ لأنّك يا عزيزي لم تهيّء أسباب ذلك! ولم تعمل على إيجاد الفضاء المناسب لورود النفحات! فتلك العين التي تنظر ـ عندما تفتح الكمبيوتر ـ إلى الأمور [المشينة] الموجودة فيه، كيف لها أن تتوجّه إلى تلك الحقيقة وذلك المبدأ؟ فهل يمكنها ذلك؟ كلاّ، لا يمكنها ذلك!
من الاشتباهات الخطيرة اعتقاد الإنسان أنّ بعض الأمور المضرّة هي من الله
إنّه من العجيب جدًّا كيف يشتبه كثير من الناس حينما يرتكبون أمرًا مخالفًا وينسبونه إلى الله، ويقولون: إذا كان الله تعالى لا يريد حصول ذلك، فلماذا وقع؟ من قال لك أنّ الله هو الذي فعل ذلك؟! بل الشيطان هو الذي فعله، فلماذا تنسبه إلى الله؟! إذا كان لدى الإنسان عزم جدّي في أن يستخدم فكره وذهنه وأذنه وحواسّه في المسير الذي يُرضي الله، فإنّ الظروف التي تحصل من حوله سوف تتبلور جميعها وفقاً للمسار الذي يوصله إلى ذاك الهدف، من دون حتّى أن يتدخّل الإنسان في ذلك، وإذا أراد أن يمشي في مسير آخر، فسوف تكون هذه الظروف متناسبة مع المسير في ذاك الاتجاه.
إن الحديث مع فلان سمّ بالنسبة إليك! فمن باب المثال: تذهب إلى مكان معيّن وترى ذلك الشخص موجودًا هناك، فتسلّم عليه وتسأله عن أحواله، ثمّ تقول مع نفسك: من المحتّم أنّ الله تعالى هو الذي أراد هذا اللقاء وليس أنا، ولو لم يرد الله ذلك، فلماذا كان هذا الرجل هناك عندما ذهبت إلى الدكّان لشراء الجبن؟ من أين علمت أنّ الله أراد ذلك؟!! فقد يكون الشيطان هو الذي أراد ذلك! فعندما ذهبت لتشتري الجبن، الشيطان هو الذي ألقى في ذهن ذلك الشخص أن يذهب إلى نفس الدكان ويشتري الكركم، فيصادف وجودكما معاً هناك! أنت تريد شراء الجبن وهو يريد شراء الكركم؛ عليك أن لا تهتمّ به! ولا تقل بأنّ الله أراد ذلك حتماً، وأنا لم أرده! من أين علمت أن الله أراد ذلك؟!!
أو لا تكون لك رغبة في التحّدث مع فلان، وإذا بالهاتف يرّن، فتحمله وترى أنّ رقم فلان هو المتصل.. لماذا تفتح الهاتف؟ لا تفتحه! لا تقل: لعلّ الله أراد ذلك، فأنا لم أرد! من أين علمت بأن الله أراد ذلك؟! إذ لعلّ الشيطان أراد إغواءك، فألقى في ذهنه أن يتّصل بك: "سلام! أنا مشتاق إليك، ومرّت مدّة لم أرك فيها"! وتجدر الإشارة إلى أنّ الكثير من الأشخاص يسألون عن هذا الموضوع.
لماذا الأمر هكذا؟ لأنّ نظام العالم هو نظام تربوي، والتربية إنّما هي بيدك أنت! فبحسب الأسلوب التربوي الذي تختاره، يقول الله لك: سوف أربّيك كذلك! فإن كانت نيتك أن تتربّى على يديّ وأن تأتي إليّ وأن تصّفي قلبك، فعندما يريد ذاك الشخص المخالف أن يتّصل بك، فما إن يُقدم على ذلك، حتّى يُطرق باب منزله، فينشغل بشكل كلّي عن الاتصال بك؛ إذ يرى أنّ صديقه أتاه، فيطلب منه الدخول للمنزل، وينشغل به ساعة وينتهى الأمر! أمّا إذا أردت أن تمشي باتّجاه آخر، فسوف ترى أنّ هاتفك قد رنّ، وأنّ فلاناً يقول لك: "لم أرك منذ مدّة "، فتقول له: "تعال إلينا"؛ فعندها تنتهى المسألة، وتكون قد وقعت الواقعة!
نظام العالم نظام التربية، فكيف تريد أن تتربّى؟!
التربية هي بيدك ونظام العالم هو نظام تربية، فبأيّ طريقة تريد أن تتربّى؟ حدّد مسارك! فالقرآن قد صرّح أن: {كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ}، هل هناك أوضح من هذا؟! أي أنّ الله سبحانه يقول: كما نهيّئ الظروف لهذا الطرف، فإنّنا نهيّئ الظروف لذلك الطرف أيضاً.. لكليهما.. نهيؤها لكليهما؛ فنطعمهما كلاهما، ونوفّر المضجع لهما كليهما، ونمهّد الأرضية لهما كليهما، ويبقى عليك أن تختار أنت أيّهما تريد؟ أخبرنا أنت.. هذا كلام الله، فهو يقول لنا: بّينوا لي كيف تريدون أن أتعامل معكم، فأيّ طرفٍ تختارونه سأوفّره لكم.
هناك رواية عن الإمام العسكري عليه السلام ـ وقد قرأتها لكم في السابق أيّها الرفقاء ـ يقول فيها: من يريد أن يتّبعنا، ويؤيّدنا، ويعظّم أمرنا، فإنّ الله يقيّض له مؤمنًا يقف به على الصواب؛ فيأخذ بيده، وبسبب عمله بأوامر ذلك المؤمن ودستوراته، فإنّ الله تعالى يجمع له خير الدنيا وصلاح الآخرة.
وفي المقابل فإنّ من لا يرغب أن يمشي في طريقنا، فالبعكس، يقيّض الله شيطانًا ليأخذ بيده في الطريق الآخر.۱
حسنًا، لقد صار معلومًا ما هي النتيجة، وصار معلومًا ما هو أثر أعمالنا التي نقوم بها، وكلامنا الذي نتكلّم به، والمنابر التي نذهب إليها، والأحاديث التي نجريها، والأمور التي نتواطؤ عليها، والمؤامرات التي نخطّط لها؛ فجميع هذه الأمور ينبغي أن تقع إمّا في هذا الاتّجاه أو ذلك الاتّجاه، لكن في أيّهما؟ ففي النهاية، هي لا تخرج عن هاتين الحالتين، وهذا الكلام لا يخرج عن هاتين الحالتين، وهذه الخطط لا تخرج عن هاتين الحالتين، وهذه المؤامرات لا تخرج عن هاتين الحالتين؛ فإمّا أن تكون رحمانيّةً وإمّا شيطانيّة، وليس هناك من شقٍّ ثالثٍ للأمر.
فلا نتصوّر بأنّه إذا حصل لنا أمر غير عادي فلا بدّ أن يكون ذلك رحمانيًّا، كلا، بل قد يكون شيطانيًّا! فمن قال بأنّه ينبغي أن يكون رحمانيًّا؟! ألم يرد في الآية الشريفة: {وَ إِنَّ الشَّياطينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِم}؟! فالله تعالى جعل يد الشيطان مبسوطة، وقال له: كلّ من ترى أنّه قد هيّأ في قلبه الأرضيّة المناسبة لنفوذك، فيمكنك أن تنفذ فيه! فتراه يخطط ويحتال ويفعل ويكتب ويحذف ويعمل كذا… من الذي يفعل كلّ هذا أيّها الأحمق؟ إنّه حضرة الشيطان، لكنّك تظنّ أنه الله.. لا أنّك تظنّ، بل تعلم بأنّه من الشيطان وتعلم بأنّه احتيال، لكنّك تتغاضى، وتقول: لنحتل على هذا ولنتقدّم على ذاك! ولنقم بهذا العمل حتى لا نتأخّر عن فلان، ونفعل ذاك حتى يبرز اسمنا أوّلاً، وحتى يصدر هذا الكتاب أولاً! إنّ هذا كلّه من الشيطان! فعبارات مثل: "أن نكون أوّلاً" و"أن نسبق الجميع" و"أن يكون اسمنا في الصدارة" هي عبارة عن إلقاءات شيطانيّة، لكنكّ تتوهّم بأنّها صدرت منك! إنّها لم تصدر منك أنت، بل أنت هيّأت الأرضيّة المناسبة لحضور الشيطان، فقال لك الشيطان: على بركة الله، بما أنّك فتحت قلبك لي، وأوجدت في نفسك فكراً شيطانياً، فسوف أضع بدوري بين يديك الأدوات والوسائل اللازمة لذلك.. افعل كذا، لا تفعل كذا! ادع فلاناً ولا تدع فلاناً! اكتب هكذا! فما حقيقة كلّ هذه الأمور؟ كلّها خطط صادرة من مولانا حضرة الشيطان!! فالشيطان يقول: أنا لست عديم الوفاء! وقد فتحت لي باب قلبك، فدخلتُه محمّلاً بالوسائل والهدايا والعطايا التي يستحقّها هذا المضيف المحترم! فبما أنّه تفضّل عليّ وجعلني أدخل إلى قلبه ـ والحال أنّ هذا القلب هو بيت الله، حيث ورد في الروايات بأنّ القلب بيت الله، فلا ينبغي أن يدخل أحد غير الله إلى بيته ـ٢وأخرج الله تعالى منه، فإنّني سأرد إلى منزله بيد مليئة بالمنح والهدايا: اكتب هذا الكلام ضدّ فلان، واكتب ذلك الكلام حتّى لا تسمح لفلان الآخر بالبروز والظهور، وافعل كذا ولا تفعل كذا، ادع فلاناً ولا تدعُ فلاناً الآخر، اتّصل بالمسؤول الفلاني… وهكذا يهيّء له الوسائل والأمور اللازمة للوصول إلى غايات ظلمانيّة ومكدِّرة! ما هو سبب ذلك؟ لأنّه هو الذي أراد ذلك! فإذا أردت هذا النوع من التربية، فتفضّل {كلاً نمدُّ} يعني: نمدّك ولا نحرمك، فإن أردت أن تمشي في غير الطريق الموصل إلينا، فلن نقطع الطريق عليك، بل سوف نفتحه أمامك ونعبّده لك جيّداً.. يقال: بأنّه حينما يريدون في بعض الأماكن أن يعبّدوا طريقاً، فإنّهم يشرطون على المقاول ومتعهّد البناء بأن يضعوا كوب ماء في سيارة، فإذا تحرّكت السيّارة على هذا الطريق، ينبغي أن لا يتحرّك الماء في الكوب، لشدّة ما ينبغي أن يكون عليه ذلك الطريق من استواء وإتقان في التعبيد! فالله يقول: سوف نعبّد لك الطريق، وسوف يكون هذا التعبيد على درجة من الإتقان والاستواء، بحيث أنّ السيارة سوف تمشي عليه بشكل تلقائي من دون الحاجة إلى الدفع بالوقود!!! فتتقدّم إلى الأمام إلى أن تصطدم، فلا تعلم من أين تلقّيت الضربة! وهذا هو المهمّ في الأمر: لا تعلم من أين تلقّيت الضربة!
هذا بالنسبة إلى هذا الطرف، وهكذا بالنسبة إلى الطرف المقابل أيضاً، حيث يأتي الإنسان ويقول: إلهي، أنا مطيع لك وأنت تعلم بحالي.. فهذه الأدعية والكلمات الصادرة عن الإمام السجّاد ـ التي كنا نردّدها ونترنّم بها مع الرفقاء في السنوات السابقة ـ تقول: يا إلهي، نحن فقراء، ولا نملك شيئاً، ومذنبون؛ فخذ أنت بأيدينا وهيئ لنا الأسباب بنفسك، وأعدّ لنا العلل والعوامل؛ فنحن نريد [السلوك إليك]، لكنّنا جاهلون ومخطئون، ولا قدرة لنا.. انتبهوا! لا يأتي علينا يوم نقول فيه لله تعالى: "نحن نفعل هذا العمل!"، فلا ينبغي أن يصدر منّا مثل هذا الخطأ! أونقول له: "نحن لدينا القدرة والاختيار ويُمكننا السلوك بأنفسنا"، فإن صدر منّا ذلك، يقول الله لنا: حسناً، إذا كان الأمر كذلك، فسوف أضع اللجام على عاتقك، فاذهب ولننظر إلى أين ستصل!
في حياة المرحوم العلامة، كان هناك شخص حصلت معه مسألة ـ وقد تكرّرت منه هذه المسألة أكثر من مرّة إلى أن اضطررنا للردّ عليه ـ حيث كان يقول: "أشعر بأنّني صرت من الأشخاص المنتجبين"! إذ كان من أهل القلم والتأليف، لكن كانت كتاباته فارغة ككلامه هذا! فكان يقول: أشعر بأنّني أصبحت من المنتجبين الذين يمكنهم إكمال المسير والوصول وحدهم إلى المقصود.
حسناً، قد يقع الإنسان أحياناً في مثل هذه الأخطاء، لكن في أحيان أخرى قد ترديه وتوقعه، وقد أوقعت هذا المسكين، بحيث أنّه وصل إلى حال ومآل أخجل أن أذكره لكم.
والحاصل، علينا أن نعترف ونقول: إلهي، نحن نريد المسير إليك، لكنّنا لا نقدر على ذلك، ولسنا أهلاً له، ولا همّة لدينا.. قلبنا يحبّ ذلك ويحبّك ويحبّ محبّيك، فساعدنا أنت بنفسك! فعندما يرى الله تعالى هكذا إنسان بمثل هذا الحال، فسوف يساعده، ويهيّئ له الوسائل.
أهل المعرفة يرون في شهر رمضان فرصة لا تعوّض، و غنيمة لا تفوّت
هذا الشهر هو شهر مبارك جدّاً، ورحمة الله تعالى واسعة فيه إلى درجة أنّ رسول الله قال: «فإن الشقي من حرم رضوان الله في هذا الشهر»؛ فالشقي هو الذي يُحرم من الاستفادة من مطر الرحمة هذا الذي ينزل على رؤوس الجميع، فيذهب ويجلس تحت السقف! أو يحمل مظلّة حتى لا يتبلّل بهذه الرحمة الإلهيّة! فالتعبير بلفظ الشقيّ ليس بالتعبير السهل أو البسيط، بل هو تعبير قاس؛ فالشقي هو الذي أغلق جميع أبواب الرحمة في وجهه.. على من نطلق لفظ شقي؟ نطلقها على يزيد وابن زياد وأمثالهم؛ فالشقي هو الذي بقي في هذا الشهر محروماً من رحمة الله.. عجيب جداً! ومع ذلك تعالوا لنر كيف يتعامل بعضهم مع هذا الصوم؟ ينظرون إليه بعنوان كونه واجباً، بل واجباً مشروطاً؛ فإن كنّا هنا، صمنا، وإن لم نكن، نقضيه لاحقاً! لا يا عزيزي، فإنّ فعلك هذا حرام!
{يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُم} لم يقل الله: إنّ الصوم "واجب" أو "لازم" أو "لا يجوز تركه"، بل يقول: "كتب عليكم"! و هذا التعبير غاية في التأكيد على الإلزام بالأمر، فيقال مثلاً: هذا الأمر مكتوب عليك، وهذا الأمر مختوم ومكتوب، الكتابة تعني أن المسألة صارت أمراً محتوماً، و من يظهر أنّ الصوم واجب مطلق، وليس مشروطاً؛ بحيث يمكن للإنسان أن يترك الصوم.
الواجب المطلق هو الواجب الذي يجب على الإنسان أن يقدم عليه من تلقاء نفسه و يتحرّك إليه، كما هو حال الصلاة مثلاً، يعني: إذا جاء وقت صلاة الصبح، فيجب عليكم أن تصلّوا الصبح خلال هذا الوقت، وإذا رأيتم أنّكم إذا قتم بعملٍ ما، فإنّ ذلك العمل سيسبّب فوات الصلاة، لتصبح قضاءً، فإنّ ذلك العمل المانع يصبح حرامًا. هل صار الامر واضحًا؟ لا ينبغي أن يتصوّر الأمر بنحوٍ خاطئ بأنّ الصلاة قبل حلول الوقت ليست واجبةً بعدُ، فوقت الصلاة ليس من شروط الوجوب، بل من هو شرط وجوديّ، و هو من [العلل] المعدّة، فشرط وجود الواجب هو حصول طلوع الفجر، أو زوال الشمس، أو غياب الشمس، وهي ليست شرط وجوب.
ففي شرط الوجوب، يمكن للإنسان أن يقوم بعملٍ ليمنع حصول الشرط، [وبالتالي يسقط الواجب عنه من رأسً]، وهذه مسألةٌ أخرى، مثلًا: صلاة الآيات التي تجب عند حصول الزلزال، فقد يعلن بعض الأفراد، وترصد الآلات أنّه ـ مثلًا ـ بعد ساعة من الآن سيحصل زلزال هنا في قم، عندها يمكن للأفراد أن يغادروا إلى طهران قبل حصول الزلزال، وعندما يذهبون إلى طهران، يسمعون أنّ هناك زلزالاً قد وقع في قم، فهؤلاء لا يجب عليهم أن يصلّوا صلاة الآيات، لماذا؟ لأنّ شرط الوجوب لم يتحقّق بالنسبة لهم بعد، فصلاة الآيات واجبة على من كان في قم، وأحسّ بالزلزال، لكنّه يمكن للإنسان أن يدفع عن نفسه تحقّق هذا الشرط [من خلال السفر]، يمكن له ذلك، أو مثلًا يعلنون أنّه سيحصل في هذا النصف من الكرة الأرضيّة خسوفًا للقمر، فيركب الإنسان الطائرة ويغادر إلى مكانٍ يكون القمر قد خرج من خسوفه فيه، ولم يعد هناك من خسوفٍ لتلك المنطقة، فهذا الإنسان لا يجب عليه أن يصلّي صلاة الآيات حينئذٍ؛ لأنّ شرط وجوبها لم يتحقّق بحقّه، لأنّه غادر قبل تحقّق الشرط.. فرّ من الخسوف، ولا مشكلة في ذلك، وليس في ذلك أيّ معصيةٍ أبدًا، فهو لم يُرد أن يصلّي صلاة الآيات هناك، فلا بأس في ذلك، والله لا يحاسبه، ولكن إذا قمت أنت قبل صلاة الظهر، وأخذت حقنةً أو شربت قرصًا، وهي تبعث على النوم عدّة ساعات، بحيث ستصبح صلاتك قضاءً، فهذا العمل يصبح عملًا محرّمًا، لماذا؟ لأنّ وجوب صلاة الظهر ليس وجوبًا مشروطًا، بحيث لو زالت الشمس تصبح واجبةً وإذا لم تزل فهي ليست واجبةً، بل صلاة الظهر واجبةٌ على كلّ حالٍ، غاية الأمر أنّ شرط وجودها هو الزوال، فيقولون: الآن عليك أن تصبر ولا تصلّي حتّى يتحقّق، لا تصلّ قبل نصف ساعة أو عشرين دقيقة أو عشر دقائق، بل عندما يحصل الزوال عندها يتحقّق شرط وجودها، يعني: هو مِن المقدّمات الوجوديّة، عندها يصبح وقت صلاة الظهر، والصيام له نفس الحكم.
أو مثلًا: الاستطاعة بالنسبة للحج، فالحجّ ليس بواجبٍ مشروط، وخلافًا لما هو مشهور ومعروف، الحجّ واجبٌ مطلقٌ وليس بواجبٍ مشروط، يعني: لا ينبغي أن تجلس هكذا إلى أن تصبح مستطيعًا، فتنتظر إلى أن تنزل عليك النقود من السماء مثل المطر، و تخرق سقف المنزل و تسقط في يدك، أو تنتظر حتّى يحضروا لك هديّة، ويضعوها بيدك، ويقولوا لك: الآن تفضّل واذهب بواسطة هذه الهديّة إلى مكّة لتحجّ! كلاّ أبدًا ليس الأمر كذلك!
بل الحجّ واجبٌ مطلقٌ، و هذا معناه أنّه يجب على البالغ والمكلّف أن يسعى منذ ابتداء بلوغه لأن يهيّء أسباب الحجّ ومعدّاته ولوازمه، فإن تمّ له ذلك خلال سنةٍ، كان بها، وإن حصل ذلك في سنتين، فبسنتين، وإن حصل ذلك بعشر سنوات، فليكن في عشر سنوات، وإن حصل ذلك بعشرين سنة، فكذلك؛ لا أنّه ينتظر إلى أن يصبح في الخامسة والأربعين أو الخمسين أو الستين، ثمّ يبدأ بالتفكير في طريقة للذهاب: إمّا أن أذهب إلى ذلك الشخص أو ذلك الشخص ليساعدني، أو أن يحصل على كنزٍ ما. كلاّ، بل على الإنسان أن يخصّص صندوقًا للادّخار، وأن يدّخر المال فيه، إلى أن يصل مقداره إلى الحدّ الذي يستطيع أن يذهب به، فعليه أن يذهب عندها.
هذا يسمّى "الواجب المطلق"، إنّ الاستطاعة بالنسبة للحجّ هي مقدّمةٌ وجوديّة، وليست مقدّمةً وجوبية أو شرطًا للوجوب. كلاّ، ليست شرطًا للوجوب، بل الاستطاعة شرطٌ للواجب، أمّا الوجوب فهو باقٍ على حاله.
والصيام له نفس الحكم! فالصيام واجبٌ مطلقٌ، نعم، من هذا الواجب المطلق استُثني شيئان طبقًا لنصّ الآية الشريفة: {يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون} إلى أن يصل إلى قوله: {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، فهناك طائفتان استثنيتا من حكم الصيام، الأولى: من يكون مريضًا، والثانية: من يكون مسافرًا، وهنا بالنسبة للسفر، فإنّ الله استثناهم من باب المنّة عليهم، فمن يكون مسافرًا لا يجب عليه الصوم، ولا يشترط أن يكون سفره ضروريًّا جدًا، لكن بالطبع ليس من الجيّد السفر في شهر رمضان، وهو مكروه؛ لأنّه يفوّت الصيام على الإنسان إلّا أن يكون السفر من النوع الذي يهتمّ به الإنسان، وقد منّ الله على المسافر واستثناه من الوجوب المطلق.
ولكن لو أنّ الإنسان أراد في شهر رمضان أن يسافر لكيّ لا يصوم! حينئذٍ، هذا العمل يصبح عملًا محرّمًا! لا يشتبه عليكم الأمر، ففي بعض الأحيان يسافر الإنسان لداعٍ ما ولغرضٍ معيّن يريد تحقيقه، وعندها يشمله حكم الآية، {فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَريضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}، لكنّني رأيت أنّ البعض اشتبهوا، فأفتوا بفتوى خاطئةٍ، مثلًا: يقولون سيدنا، نحن لا نريد أن نصوم، فيقول: سافر، ثمّ اقض يومًا آخر. و هذا خطأ؛ فهذا السفر سفرٌ محرّم، وصومه لم يبطل، يعني: الذي يسافر لهذا الغرض لا يبطل صومه [ولا يجوز له أن يفطر]؛ لأنّه سافر من أجل أن يتخلّص من الصيام، لا أنّه كان يريد السفر مسبقًا، بل سفره كان من أجل الوقوف بوجه الواجب المطلقّ! وهذا السفر سفرٌ محرّمٌ، وحكمه كحكم أيّ سفرٍ محرّم، فلا تصبح صلاته قصرًا، كذلك من يسافر بهذا النحو ليسقط الصوم فسفره حرامٌ، وصيامه ليس باطلاً ولا يسقط، بل ينبغي أن يعود وأن يصوم.
نعم، بعض الأحيان يكون لدى الإنسان سفرٌ من أجل العمل، أو ليرى شخصًا ما، أو هناك ضرورةٌ تقتضي أن يسافر؛ فهنا لا إشكال في ذلك، وينبغي عليه أن يقضيه في يومٍ آخر.
إذن بناء على ذلك، حكم هذا الأمر من الناحية الفقهيّة كما بيّنا، ولكن أنا أريد أن أقول لكم أمرًا آخر و هو أنّه: انظروا كم تختلف نظرة أهل المعرفة للأمور عن نظرة الآخرين؟! فالنبيّ صلى الله عليه وآله يقول: «فَإِنَّ الشَّقِيَ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيم»۱، فالشقي و البائس هو الإنسان الذي يحرم نفسه من نعمة الصوم وبركاته، فهذا هو معنى الرواية، ومن جهة أخرى يأتي الحقير [مثلًا] ويقول: (اكسر صومك، فلا بأس بذلك، سافر واكسر صيامك، وكرّر ذلك حتّى ينتهي شهر رمضان.. سافر غدًا و بعد غدٍ إلى ثلاثين يومًا، ثمّ بعد ذلك اذهب واقضِها في وقتٍ آخر!) كم هو الاختلاف بين النظرتين للأمر؟! هل يمكن أن نقول: (إنّ هذا الحكم حكمٌ إلهي)؟! كيف والنبي يقول: من يأتي عليه شهر رمضان ولا يستفيد منه فهو شقيٌّ؟!، هذه الرؤية للأمور هي رؤية أهل المعرفة، وهي نظرة النبيّ، وهي نظرة الهداة، نظرة من بإمكانهم أن يهدوا الإنسان ويوصلوه، هذه نظرتهم.
أمّا تلك النظرة فما هي؟ هي النظرة التي تجعل الإنسان ينحرف! يقولون له: (لمَ تصوم؟! لا تصم، فليس ذلك بالأمر المهمّ، اذهب الآن واقضه لاحقًا، فلديك فرصةٌ أحد عشر شهرًا، فيمكنك أن تقضيها في الشتاء، فالنهار في الشتاء قصير، والهواء سيكون باردًا، فالصيام فيه أكثر راحةً! ما الذي يجبرك أن تصوم في هذا الحرّ لمدّة أربعة عشر ساعة أو خمسة عشر ساعة .. خمسة عشر ساعة مع العطش وهذه المسائل، اذهب وأبطل صومك ... )، أليس هذا ما يقال؟!
ماهذا الكلام؟! ما معنى "اذهب وأبطل صومك"؟! هل ترون الأمر على أنّه توقيع حضورٍ و انصراف في إدارة؟! هكذا نذهب ونوقّع الحضور ونمضي؟! هذا هو الأمر؟!
إنّ الله كتب علينا هذا الصيام ليصحّحنا! ليجعل الواحد منّا آدميًا! لكي يزيد من توجّهنا! ولكي يجذبنا نحوه! فهل فعلَ ذلك عبثًا؟! هل كان كلامه جزافاً حينما قال: عليك أن تصوم من الصباح إلى المغرب لمدّة شهرٍ كاملٍ؟! ثمّ نأتي نحن ونفتي هذه الفتوى: "اذهب وأبطل صومك بالسفر، واقضه في الشتاء فهذا أفضل ولن تشعر بالعطش!"، ففي الشتاء إذا أكل الإنسان طعاماً في الصباح فإنّه أصلًا لا يشعر بالجوع و العطش و لا يشتهي الطعام و الماء حتّى الليل، سواءٌ صام أم لا!
إنّ الله كتب علينا الصيام لكي نفهم، لكي نعاني ونجوع، ليخرجك قليلًا من تعلّقاتك، ليزيل عنك بعض أوهامك، لكي يخرجك قليلًا من تخيّلاتك، ثمّ بعد أن ينتهي الصيام وينتهي شهر رمضان، سترى في نفسك: آه واعجباه! أيُّ حالٍ حصلت عليها؟! لقد اختلف وضعي عمّا قبل شهر رمضان!
ها! نعم، هذا هو الذي يريده الله من الصيام، ألا يحسّ الإنسان بأنّ حاله قد تغيّر و اختلف بعد شهر رمضان عن حاله قبل شهر رمضان؟! لا شكّ أنّكم تحسون بذلك، إنّنا نرى أنّ حالنا قبل شهر رمضان كان بنحوٍ، والآن صار بنحوٍ آخر في أواخره، فيصبح قلبنا متعلّقًا به، يتمنّى الإنسان لو أنّ شهر رمضان يمتدّ أكثر وأكثر، فعندما يأتي اليوم الخامس والعشرين أو السادس والعشرين، ترى أولئك الذين أثّر فيهم فتعلّقوا به.. تراهم يندبون: (وا أسفاه لقد أشرف شهر رمضان على النهاية، وا حسرتاه! لم يتبقّ إلّا ثلاثة أيام، وا أسفاه لم يتبقّ إلّا يومين)، هذا التأسّف ما سببه؟ سببه أنّه قد شعر بالفائدة والسعادة واللذة به؛ إذ لو لم يكن سعيداً به لقال كما يقولون: (الحمد لله، لم يتبقّ إلّا يومين ونرتاح! وعندها يمكن لنا أن نأكل ما نشاء!)، فهؤلاء الذين يقولون ذلك من المعلوم أنّهم لم يستفيدوا الفائدة المرجوّة.. لم يحصلوا على شيء! أليس كذلك؟
حسنًا ينبغي لنا أن نفهم أنّ النبيّ عندما يقول: «فَإِنَّ الشَّقِيَ مَنْ حُرِمَ غُفْرَانَ اللَّهِ» فماذا يريد أن يوصل لنا؟ ما هو الأمر المهم الذي يريد أن يقوله؟ يريد أن يقول: يا ابن آدم، يا من أتيتُ لأهديك: لقد جئت لآخذ بيدك، لقد أحضرت التشريع من أجلك، وأحضرتُ هذه الأحكام من أجلك، فاعلم أيّ أمرٍ مهمٍ وضعتُ في يدك! وأيّ كيمياء أهديتك! وأي جوهرٍ ثمينٍ!عليك أن تعرف قيمتها. لا تكوننّ شقيًّا! لا تكونّن ممّن يأتي عليه شهر رمضان ثمّ يمضي دون يحصل على النتيجة المقصودة والمطلوبة.
حسنًا، نسأل الله أن يوفّقنا في أيّام هذا الشهر المبارك، وأن يأخذ بنفسه بأيدينا، وأن يهيّء هو المعدّات لنا، وأن يرفع عنّا بنفسه كلّ ما يمنع نزول الرحمة.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد