المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1434
التوضيح
كثير من الناس يعتقدون أن الغاية إن كانت صالحة، فيمكن للإنسان أن يستخدم أيّة وسيلة للوصول إليها، و هو ما يعبّر عنه بأنّ الغاية تبرّر الوسيلة. فهل هذا المبدأ صحيح ؟ أجاب سماحة آية الله السيد محمد محسن الطهراني عن هذا السؤال من خلال تحليل مواقف أمير المؤمنين ، و دراسة حركة الإمام الحسين عليهما السلام.
هو العليم
هل الغاية تبرر الوسيلة؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٤ هـ ق – المحاضرة الثامنة
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
و صلَّى اللهُ عَلَى سيّدنا ونَبِيّنا أبي القاسِمِ مُحمّد
اللهمّ صلّ على مُحمّد وآل مُحمّد
و عَلَى آله الطّيّبين الطّاهِرينَ واللّعنة عَلَى أعدائِهِم أجمَعينَ
عظُم يا سيّدي أملي و ساء عملي فأعطني من عفوك بمقدار أملي و لا تؤاخذني بأسوء عملي؛ فإنٌّ کرَمَك يجلّ عن مجازات المذنبين و حلمك يكبر عن مكافات المقصِّرين.۱
هل "الغاية تبرّر الوسيلة" ؟
ذكرنا للرفقاء في المجالس السابقة بأنَّه لا تجانس بين ذينك الأمرين وهما: الأمل والهدف المتعالي للغاية، والذي هو عبارة عن الورود في حرم القُدس الإلهي، والاندكاك التّام والأتمّ في الذات اللامتناهية، والتصفية من كافة القذارات الدنيويّة ومن الأنانيّة والاستبداد ورذائل الصفات، والمحو والفناء في ذات الله. فذلك هو أكبر أمل يمكن للإنسان التفكير في الوصول إليه. [هذا هو الأمر الأول]
و أمّا الأمر الآخر فهو الطريق المُوصِل إلى هكذا أمل؛ و الذي هو عبارة عن خلوص النيَّة، واخلاص العمل وصفاء الباطن ومحو شعور النفس باستقلاليتها في العمل؛ وهذه أمور لا يمتلكها الإنسان بالطبع؛ فالإنسان غير معصوم عن الخطأ؛ إذ إنَّ العمل الذي يقوم به الإنسان، قد يكون صائباً، وقد يكون خاطئاً. والعمل الخاطئ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يُوصل الإنسان إلى الغاية المرجوّة والهدف الصحيح.
إنّ أولئك القائلين بأنَّ الغاية تُبرِّر الوسيلة، يطرحون كلاماً متناقضاً؛ إذ إنَّ الغاية إنْ كانت طالحةً، فالمقدَّمة الموصلة إليها ستكون مقدَّمة طالحةً أيضاً؛ وإن كانت الغاية غايةً صالحةً، فكيف يمكن أنَّ تكون المقدَّمة الموصلة إليها مقدَّمةً طالحة، والسبيل الموصِل إليها سبيل خاطئ؟! وهذا هو الفرق بين الحكومة الإلهيّة وهي تلك الحكومة التي تكون تحت ولاية الإمام المعصوم عليه السلام وبين سائر الحكومات التي نشاهدها في هذا العالم.
فجميع هذه الحكومات تعمل وفقاً لمبدأ الغاية تُبرِّر الوسيلة مهما كانت تلك الوسيلة؛ فسواءً كانت تلك الوسيلة وسيلةً فاسدةً أم وسيلةً صالحةً. فالجُرم يعدّ جُرماً عندهم ما لم يكن في إطار الوسائل التي يُراد منها الوصول إلى أهدافهم؛ وإلاّ فهو يفقد طبيعته كجُرم، و يتبدَّل بذلك إلى عملٍ حَسَنٍ. والخطأ يكون خطأً فيما لو لم يكن في إطار الوصول إلى الهدف؛ وإلاّ لكان عملاً صحيحاً وصائباً! فهذا هو المبدأ الذي ينتهجه السياسيّون في هذا العالم؛ فهم يسيرون على هذا النهج ويعملون وفقاً لهذا المبدأ؛ وها أنتم تشاهدون هذا الأمر في برامج عمل الأحزاب السياسيّة في بلدان العالم.
أمير المؤمنين يرفض قاعدة " الغاية تبرّر الوسيلة"
جاء المغيرة إلى أمير المؤمنين عليه السلام وطرح عليه نفس هذا الأمر قائلاً: لماذا تواجه معاوية؟ فحكومتك ما زالت يافعة، فاصبر عليه حتّى يمضي بعض الوقت وتتوطّد أركان حكومتك، ويعرفك الناس كحاكم، كما سيعرفك أهل سائر البلدان ـ بما فيها الشام ـ كحاكم؛ فعليك تثبيت معاوية في مكانه، وتقول له: إنَّك ستبقى في هذا المنصب ولن يمسّك منَّا أيّ سوء، وحينئذٍ فسيكون مجبوراً على الثناء عليك من على المنبر أيام الجمعة أو غير الجمعة (فهو كان يصلِّي بالناس صلاة الجمعة في يوم الأربعاء؛ لقد كان يفعل ما يحلو له!!).
لقد ذهب رجل إلى مكان ما وكان لديه جمل، فجاء شخص وقال: إنَّ هذه ناقتي كنتُ قد فقدتها وها هي لدى هذا الرجل.
و كلَّما كان صاحب الجمل يقول: إنَّه جمل.
كان ذلك الشخص يقول: لا، إنَّها ناقتي...
فقال: ما كان بعيرك؟
قال: إنَّها كانت ناقة.
قال: فهذا جمل!
قال: هكذا كان لونها، فلا حاجة لي بكونها ناقة أو جمل! كان لونها نفس لون جملك، فهو يعود لي!
فانتهى الأمر إلى معاوية؛ فقال له معاوية: أعطه الجمل، وسأعطيك ثمنه، بل وأكثر منه إن شئت. دعك عن ذلك لكي تخمد تلك الغائلة، ولا تُسبِّب فتنة.
خلاصة الأمر أنَّ معاوية قال لذلك الشخص: خذ الثمن وأعطه الجمل ...
فقال الرجل لمعاوية: إنَّه يقول بأنَّ بعيرهُ الذي فقده كان ناقةً، وهذا جملٌ...
فقال معاوية: أجل، أبلغ عليًا بأنَّني سأقابله بمائة ألف ما فيهم من يُفرِّق بين الناقة والجمل! فلتعرف بأيّ طيف من الناس سأقدم لقتالك، سأقاتلك بمن لا يُفرِّق بين الناقة والجمل!
هل التفتّم؟ هكذا هم أهل السياسة.
لقد قال المغيرة لأمير المؤمنين: دعك من معاوية هذه الأيام، حتّى إذا ما استحكم أمر حكومتك ، [فعلت معه ما شئت]... ولو كنَّا مكانه لقلنا إنَّه رأي حَسَن، فالحكومة في أوائل أيامها لم يستحكم أمرها بعد، والخصم المتربَّص في الطرف المقابل هو معاوية، والذي هو أكبر مكَّار ومحتال في العالم؛ إذ ينبغي أن يحسب الشخص للأمور حسابها.
قال أمير المؤمنين: ما دامت الحكومة بيدي، و ما دمتُ حاكماً للبلاد الاسلاميّة وخليفةً للمسلمين، فإنَّني لا أستطيع أن أرى هكذا شخص يحكم على جمع من المسلمين بالنيابة عنِّي ولو ليوم واحد. لا أستطيع أن أرى وأتحمِّل هكذا أمر.
إنّ هذا الاقتراح هو بعينه مفهوم العبارة "الغاية تُبرِّر الوسيلة"؛ فأنت تُريد أن تضمَّ الشام إلى حكومتك، إذاً فلا بدَّ من الإبقاء على معاوية في مكانه من أجل تحقيق هذا الهدف؛ فإن كان معاوية شارباً للخمر، فليشربها؛ وإن كان زانياً، فليزنِ؛ وإن كان متعدِّياً على أموال وأرواح وأعراض الناس، فليفعل؛ فكل ذلك مما لا ضير فيه، لأنَّه واقع ضمن إطار ذلك البرنامج الموصِل إلى الهدف المقدَّس والمبارك وهو الحكومة والخلافة الاسلاميّة. لقد كان ذلك هو المبدأ الذي استند إليه المغيرة في استدلاله كما هو واضح.
لو كنَّا مكانه لقلنا: إنَّ كلام المغيرة كان صحيحاً، بينما نرى أمير المؤمنين يقول للمغيرة: لا مكان للتبرير في منهجنا، لا مكان لـ "لغاية تبرِّر الوسيلة" في مرامنا؛ وذلك بأن نعتبر كلَّ ما من شأنه الإبقاء على النظام الاسلامي صحيحاً، وإن كان ذلك الأمر عملاً مُحرماً.
فلو أردنا القيام بذلك، فما هو الفرق بيننا وبين سائر السياسيّين في العالم إذاً؟ فهم يعملون وفقاً لهذا المرام أيضاً. فالبريطانيون، والفرنسيّون يعملون وفقاً لذلك؛ بل ما من دولة يمكنكم ذكر اسمها إلاّ وهي تنتهج هذا النهج. فهم يقولون: بأنَّ كل ما يمكن توظيفه في خدمة نظامنا، فهو أمر مقبول؛ وكل ما يقف بوجه هذا النظام و يمكن أن يُحدِث خللاً فيه، فهو مرفوض، ولو كان ذلك الأمر من الأمور الواجبة، بل ولو كان ذلك هو حكم الله ورسوله!
أتذكّر بأنَّه في بداية الثورة، كانت هنالك صحيفة تصدر في إيران ـ و لا أعلم فيما إذا كانت لا تزال تصدر إلى الآن أم لا ـ و كان رئيس تحريرها الذي لن أذكر أسمه لأنَّه لا يزال على قيد الحياة و لا ضرورة لذكر اسمه، كان من هؤلاء المتصدّين في الوقت الحاضر للمطالبة بإقامة العدل، فهؤلاء المدّعون كانت سيرتهم بهذا الشكل و ما تزال.
كان رئيس التحرير هذا في ذلك الوقت من الأشخاص المشهورين جداً لدى الناس ولدى المؤيِّدين، وقد نشرت هذه الصحيفة في أحد الأيام مقالاً تتَّهمّ فيه شخصاً معمماً باتّهاماتٍ ظالمة ـ وقد طالعت هذا الموضوع بنفسي ـ و كان هذا الشخص المعمم شخصاً محترماً، كنت قد التقيت به. إنَّه من أهالي إصفهان ، وكنت قد التقيت به في أحد أسفاري.
لقد اتُّهِم ذلك الشخص بتهمة كاذبة؛ فذهب أحد أقاربي في ذلك الوقت إلى رئيس تحرير تلك الصحيفة وقال له: بأيّ دليل وعلى أيّ أساس قمتم بتوجيه هكذا اتّهام لهذا الشخص؟! فهو رجل يحظى بالاحترام في مدينته، وأنتم بعملكم هذا تكونون قد شوهتم سمعته؟ وهذه التهمه هي تهمة كاذبة، فلماذا لم لم تحقّقوا في هذا الأمر قبل نشره ؟!
فقال: لا، ليس الأمر كما تقول، فمراسلونا و أولئك الذين يقومون بإجراء التحقيقات لدينا هم أُناس لا يُخطئون.
قال: كيف لا يُخطئون ؟! فنحن نعرف هذا الشخص ...
فتقرَّر أن يقوم شخصان بالتحقيق في هذا الموضوع، فذهب الثلاثة ـ الشخصان المكلَّفان بالتحقيق إضافةً إلى هذا الشخص ـ إلى تلك المدينة وأخذوا بالاستفسار والتحرِّي عن الموضوع من أهل المدينة، فتبيَّنَ لهم عدم صحة الموضوع وأنَّ التُهمة كانت كاذبة، فالشخص المتهم لم يرتكب هكذا عمل. فرجع هذان الشخصان و أخبرا رئيس التحرير بأنَّ تلك القضية التي تم نشرها كانت قضيّة كاذبة.
فقال: حسناً، لقد اتّضح لنا الأمر، ولكنَّنا سوف لن نتراجع عن الموضوع، لأنَّ تكذيبنا للموضوع سيُلحق الضرر بصحيفتنا، سيؤدي ذلك إلى التشكيك في سمعة الصحيفة ومصداقيّتها واحترامها!!
هل تلاحظون أيها الرفقاء، فالله لا يفعل شيئاً بدون أن يكون لذلك ما يُوجبه، إنّ كلّ ما يحصل في هذا العالم فهو مبنيٌ على أساسٍ رصين؛ إذ كيف يمكن أن يكون تشويه سمعة إنسان مؤمن، من الأمور التي لا ضير فيها؟ أمّا تدارك الخطأ و إصلاحه والاعتراف بكون تلك التهمة كانت كاذبة، واصلاح سمعة ذلك المؤمن [ تعتبر أمراً خاطئاً لا يمكن احتماله حفاظاً على سمعة الصحيفة]!! علينا أن نكون حذرين لأنَّه من الممكن أن تحصل استجابة لتأوّه المظلوم في لحظة! فليس الأمر متروكاً بهذا الشكل، وليس لنا أن نفعل ما نشاء، ثم نمضي هكذا وبكل سهولة، و نقول: آه! لقد أخطأنا، و لكن الأمر بسيط، فما الذي جرى؟! كلّ ما حصل أننا قد ذكرنا أمراً، وتشوَّهت سمعة أحد الأشخاص و...، إنَّ لدينا ما هو أهم من ذلك؛ فهذه الصحيفة عائدة إلى حزب مهم، حزب له علاقة بالثورة؛ فإذا ما اعترفنا بأنَّ هذه الصحيفة قد أخطأت، فإنَّ سمعة الصحيفة ستتشوَّه.
و الحال أنَّ سمعتها في الحقيقة لن تتشوَّه! بل هم يظنون ذلك ، و الحقّ هو على العكس من ذلك، إذ إن ذلك سيؤدّي إلى ازدياد احترام الناس وثقتهم بتلك الصحيفة؛ سيقول الناس: لقد أخطأوا في أمرٍ ما، وها هم يتداركون خطأهم، فكم هو منهج لطيف! كم هي ثقافة عالية! كم هي أخلاق جيدة!
ولكنَّهم ـ لأنّ الله قد سلب عقولهم و إدراكهم ـ فهم يرون الأمور على عكس حقيقتها.
ـ يقال له: إنَّ سمعة رجل مؤمن قد تشوَّهت؟
ـ فيجيب: إنَّه ليس بالأمر المهم! دعك من الأمر، فإن كانت قد تشوَّهت فلتتشوَّه؛ فالمهم هو مكانة الصحيفة ومكانة الحزب، فالحزب سيتعرَّض للخطر! سيُقال بأنَّه نشر خبراً كاذباً...
إنّ الله سيحفظ له هذا التصرّف عنده سنة أو سنتين حتّى يحين الموعد المناسب فيقدّمه له كوجبة شهيّة تحفظ في الثلاجة ثم تقدّم حينما يحين موعدها !
ولقد رأينا جميعاً ذلك بأمّ أعيننا من خلال تجاربنا في الحياة، أليس كذلك؟ كما قلت: إنَّ ما يجري في هذا العالم ليس من الصدفة في شيء؛ فذلك الشخص الذي يتظلّم الآن، ويطالب بإقامة العدالة في الوقت الحاضر، ويدّعي أن حقوقه قد ضُيّعت: كيف كانت سابقته؟ هل كان مثل سلمان الفارسي والمقداد وأبا ذر؟! كلاّ، بل هذا هو الذي قال: لا يجب أن تتشوَّه سمعة صحيفتنا ومكانتها! و إن كلّف ذلك أنّ سمعة شخص مؤمن قد تشوَّهت، فلتتشوَّه، ليس في ذلك ضير!
كيف يمكن أن ينسجم هذا الأمر مع نهج أمير المؤمنين؟! كيف ينسجم هذا مع نهج الحكومة الإسلاميّة؟ فنحن ندَّعي إقامة حكومة إسلاميّة، وندَّعي اتّباع منهج أهل البيت عليهم السلام؛ فكيف يمكن أن يكون ذلك؟!
قال أمير المؤمنين للمغيرة: أنا لا أفعل ذلك، لا يصدر من مثلي أمر كهذا.
فجاء المغيرة في الغد وقال: يا علي، لقد تفكَّرت فيما قلته لي بالأمس، فرأيت بأنَّ الحقّ كان معك.
فقال أمير المؤمنين: إنَّك تكذب، بالأمس كنت صادقاً، أمّا اليوم فأنت تكذب؛ وذلك أنّك إنَّما تقول ما تقوله اليوم من باب التملّق و المحاباة، أما كلامك بالأمس فقد كان عن إخلاص، فأنت لم تقبل رأيي بالأمس، ولكنَّك لمّـا علمت عزمي على هذا الأمر، جئتني اليوم لتقول بأنَّ الحق معك. أمّا كلامك بالأمس فرغم أنّه رأي باطل، إلاّ إنَّ قصدك فيه كان التقرّب والإخلاص.
منهج أمير المؤمنين: الغاية الطاهرة لا تتحقق إلا بوسيلة طاهرة
هكذا هو مرام أمير المؤمنين وأئمتنا: الهدف لا يمكن أن يُبرَّر الوسيلة؛ فتلك المقدَّمة التي نفعلها بهدف الوصول إلى الغاية وذي المقدَّمة، يجب أن تكون مقدَّمة خالصة صافية، فالعمل المُلوَّث لا يمكن أن يُوصل الإنسان إلى النتيجة الخالصة.. الأمر المُلوَّث لا يمكن أن يُوصل الإنسان إلى النورانيّة؛ لأنَّ الكدورة لا تتجانس مع النورانيّة، و هذا أمر ثابت لا يتغيَّر سواءً وقع هنا أو هناك.
لقد كنت قد قلت للرفقاء: بأنَّه عندما يرتكب الإنسان ذنباً، فإنَّ التأثير السلبي لذلك الذنب ينعكس على نفس الإنسان أولاً، قبل ظهور آثاره في الخارج.
فإذا كان الأمر بهذا الشكل وهو إنَّنا نؤمن بأنَّ جميع الأمور هي بيد الله، فلماذا هذا نقلق من أنَّه هل سيُوصلنا عملنا هذا إلى النتيجة المرجوَّة أم لا؟ إذ لعل الله لا يريد تحقّق هذا الأمر؛ فمن قال: إنّ تحقِّقه واجب و حتميّ؟!
لقد خاض أمير المؤمنين ثلاثة حروب في فترة تولّيه الحكم : الحرب الأولى كانت حرب الجمل، والثانية صِفِّين، والثالثة النهروان. ففي حرب الجمل قال أمير المؤمنين: سيكون الظفر لنا في هذه المعركة، كما قال ذلك بشأن معركة النهروان أيضاً، أمَّا في حرب صِفِّين، فلم يقل شيئاً؛ قال: نذهب لمقاتلة معاوية الغاصب؛ ولكن هل قال: سننتصر في هذه الحرب؟ هل قال: سيُهزم معاوية؟ لم يقل أمير المؤمنين ذلك؛ كلّ ما كان قد قاله هو: علينا أن نتجهَّز ونذهب.
فذهب وتحمَّل حرارة الشمس الحارقة والبرد الشديد لمدّة ثمانية عشر شهراً، ثم عاد بدون أن يُحقِّق أيَّة نتيجة ظاهريّة له وللإسلام، وانتهى الأمر لصالح معاوية؛ فلقد خدع عمرو بن العاص أبا موسى الأشعري الأحمق؛ فرغم إصرار أمير المؤمنين بأنّه: لا ترسلوا هذا الشخص الأحمق للتحكيم، بل أرسلوا مالك الأشتر أو ابن عبَّاس، إلاّ أنّهم لم يصغوا لقوله وأصرُّوا على إرسال أبي موسى الأشعري، فخدعه بن العاص وانتهى الأمر بالخسارة.
ما هو الهدف الحقيقي الذي كان أمير المؤمنين لتحقيقه ؟
والسؤال المهم هنا هو: ما هو الهدف الذي كان يبتغي أمير المؤمنين تحقيقه في حرب صِفِّين، ولم يتمكَّن من تحقيقه؟ ماذا كان؟ لا يمكن بأيّ حال من الأحوال أن يبتغي الإنسان تحقيق هدفٍ، ويكون ذلك الهدف هدفًا إلهيًّا، ثم يعجز عن تحقيقه.
نحن نتصوّر الآن بأنَّ هدف أمير المؤمنين من تجهيز الجيوش وإرسال الجند لمقاتلة معاوية، هو القضاء على معاوية وضمّ الشام إليه، واستقرار حكومته الإسلامية في بلاد الشام؛ هذا هو ما نتصوّره و نقوله؛ فإذا كان ذلك هو هدف أمير المؤمنين فعلاً، فأمير المؤمنين لم يستطع تحقيق هدفه، فلقد خسِرَ الحرب.
إذا كان ذلك هو هدف أمير المؤمنين من خوض تلك الحرب، فإنّه قد فشل في تحقيق هدفه؛ لأنَّه عاد إلى ما كان عليه، ولم يتحقق له ذلك الهدف.
عليكم التمعّن فيما أريد أن أطرحه عليكم هذه الليلة.
فإن كان الأمر على ما نراه، وهو أنَّ أمير المؤمنين كان يدعو الناس بهذا الشكل: سأجهدُ في أن أُطهِّرَ الأرضَ من هذا الشخص المَعكوس، والجِسم المَركوس.۱
(يقول الإمام سأبذل جهدي لتطهير الأرض من هذا الشخص الذي يظهر بمظهر الإنسان، ولكنَّه في واقع الأمر شيطان مُجسَّم).
فهذا الشخص كان يُصلي، ويصوم، و يؤمُّ الجماعة والجمعة، ويرتقي المنبر ويخطب بالناس، ويحج، ولكنَّه شيطان. فهذا معنى الشخص المعكوس: إنّه شيطان بصورة إنسان. إنَّ معاوية لعجيبٌ حقاً، فهو مختلف عن الآخرين؛ إنَّه كان يشبه المأمون، فهذان الاثنان كانا متشابهين.
هل يعدّ هارون والمأمون من مفاخر الإسلام بسبب إنجازاتهم ؟
لقد قرأت لأحدهم مقالاً عجيباً جداً، لقد تعجّبت كثيراً منه؛ يقول فيه بأنَّ هارون والمأمون كانا من الخلفاء الذين قدَّموا خدمات جليلة للإسلام، فلقد كانوا قد أفشوا العدل بين الناس، وقاموا بإنجاز أعمال كبيرة في رقعة الخلافة الإسلاميّة؛ على أنَّه كانت لهم خلافات مع بعض الأئمة. فمع تحقيقهم ورعايتهم للعدل، ومع تلك الإنجازات الجليلة والمفيدة للإسلام، فلا بدَّ من الفصل بين هذا الموضوع و موضوع معارضتهم للأئمة... بخٍ بخٍ!! جُعِلتَ فداءً لعمتي على ما كتبت وعلى هذه الأباطيل و الترّهات! أتقول: لقد أفشى هارون والمأمون العدالة؟!
هل يُعدُّ الإلقاء بإمامٍ معصومٍ لمدّة ثمان سنواتٍ في السجن ضرباً من العدالة؟! هل يُعدُّ استدعاء الإمام من المدينة إلى مرو ومن ثمَّ دس السمّ إليه وقتله نوعاً من العدالة؟! فمخالفتهم للأئمة هذه لا تُعدُّ شيئاً مهماً؟! إذن تفضَّل وقل لي: أيّ أمر يُعدُّ أمراً مهماً ؟! فإن لم يكن يُعدُّ كل ذلك أمرًا مهمّاً، فما هو الأمر المهم؟! أخبرني: في عهد أيٍّ من الخلفاء العبَّاسيِّين قد شُرِّدَ ذريّة الأئمة في البيادي والقفار وقُتلوا؟ إنَّ تسعين بالمائة ممن شُرِّد وقُتل من ذريّة الأئمة كان في عهد هارون والمأمون؛ لقد جرى مثل ذلك في عهد المتوكّل وأمثاله أيضاً، إلاّ إنَّ تسعين بالمائة ممن شُرِّد وقُتل منهم كان في عهد هذين الشخصين؛ فأيّة عدالة هذه؟! إنّ الجناية التي ارتكبها المأمون تُعدُّ أكبر من جناية يزيد بمائة مرة! فيزيد حمارٌ ليس إلاّ... فهو شاب مهووس، مطيع لشهواته، وذلك واضح من مظهره وهيئته، إذ هل يُعدُّ إنساناً ذلك الذي يلعب بالكلاب والقردة؟! إنَّه لم يستمع إلى نصيحة معاوية؛ فقد أوصاه بعدم التعرُّض للحسين بن علي مهما فعل، و مع ذلك لم يسمع كلامه وارتكب واقعة كربلاء.
أمَّا المأمون، فلقد كان خبيثاً، سياسيّاً، وكان متعلِّماً إلى حدٍ ما، وله معرفة بالأمور؛ وكان أدهى من يزيد بمائة مرة بحيث إنَّه استطاع التصرَّف بالشكل الذي تمكَّن فيه من جلب الإمام، والتخلّص منه بدهاء؛ ثم قام بعدها بالبكاء والحِداد على الإمام، ليذهب بعد ذلك إلى المدينة ويقوم بقمع واستئصال بني هاشم وكلّ من كان هناك من دون إثارة أيّةِ ضجَّة، و بدون حصول أيّ أمرٍ مثير! هذا هو ما فعله المأمون عن طريق اسلوبه السياسي والشيطاني والقاسي.
ثمّ يأتي هؤلاء السادة ليقولوا بأنَّ علينا أن نضع مخالفة هارون والمأمون مع الأئمة جانباً، فذلك لا يهمّنا كثيراً، علينا الاهتمام بما أقاموه من عدل، وعلينا أن نلاحظ إدارتهم الجيدة للبلاد وما شابه ذلك.
كم يكون الإنسان بعيداً عن الواقع وعمّا حصل في ذلك العصر حتّى يتكلم بشيء كهذا؟! فإذا ما كنت تريد التكلم عن موضوع كهذا، فهلاّ ضربت مثلاً بعمر بن عبد العزيز على الأقل؛ فلقد كان مختلفاً عن الآخرين شيئاً ما، وقد تحدَّثتُ في الجزء الثالث من كتاب أسرار الملكوت عن مسألة عمر بن عبد العزيز، وبيّنا بعض الحقائق بهذا الشأن.
فهلاّ تكلَّمتَ عن عمر بن عبد العزيز، لا أن تأتي لتضع يدك على أسوء الخلفاء؛ كهارون الخبيث الذي ارتكب كل تلك الفجائع؛ فلقد ضرب أعناق ستين علويّـاً في ليلة واحدة، وألقى بجثثهم في الجبّ!
فيا من تلقي مثل هذه المطالب: هل قرأت هذه المسائل في التاريخ وهل كنت مطّلعاً على هذه الجرائم قبل أن تأتي و تتفوّه بمثل هذا الكلام؟! كان عليك مطالعة شيء مما جاء في التاريخ قبل التصدّي لهذا؛ فأولئك القرّاء العاديّون الذين ليس لهم اطّلاع على هذه المواضيع، سوف يضلَّون عند قراءة هذا الذي تطرحه.
إنَّه لعجيب جداً بأن يأتي أحد علماء الشيعة ليطرح مثل هذه الأباطيل وهذا الهراء. فعمر بن عبد العزيز كان مختلفاً شيئاً ما؛ فعلى الرغم من غصبه للخلافة، إلا أنه قد اعترف بذلك ـ بعد ما حدث من أمور ـ فقال: إنَّ الخلافة هي من حقِّ الإمام السجّاد والإمام الباقر؛ كما أنّه قد أعاد الكثير من الحقوق المغصوبة، كـ"فدك" وغيرها، وعندما مات عمر بن عبد العزيز كانت الناس تبكي عند تشيِّيعها لجنازته، في الوقت الذي لم يحصل فيه شيء كهذا ليزيد والمأمون ومعاوية.
إنَّ ذلك ناجم عن عدم المعرفة الحقيقيّة بالدين، فنحن لا نرى من الدين سوى هذا الظاهر. و أنا أقول هنا: لو كنَّا نعرف هذا الظاهر فقط، فذلك كافٍ لكي لا نطرح أمثال هذه المطالب الباطلة؛ فلا أدري ما الذي كان قد حصل له لكي يتكلَّم بشيء كهذا.
أولياء الله لهم هدف ظاهري و هدف حقيقي واقعي
إنّ ما يمكن أن نُدركه من تجهيز أمير المؤمنين للجيوش هو هذا الأمر الظاهري، وهو القضاء على معاوية وضمّ الشام إلى الخلافة؛ فهذا هو الذي نفهمه ونلمسه من تصرفات أمير المؤمنين وخطبه وإرساله للكتب إلى هذا وذاك، ثم نرى بعد ذلك بأنَّ أمير المؤمنين لم يصل إلى مبتغاه.
لنرى الآن ما الذي يجري في نفس أمير المؤمنين؟ فلقد كان ذلك هو تصوّرنا عن الموضوع. فلو أتينا الآن لنسأل أمير المؤمنين خفية ونقول: يا عليّ، أخبرنا عن ذلك الهدف الذي تبتغيه أنت؟ ونَعِدك بِألاّ نُخبر به أحداً [يبتسم سماحة السيد ممازحاً]، سنحفظ هذا السِّر؛ فما نسمعه من خطبك من على المنبر، ومن رسائلك التي تبعث بها هو: علينا أن نذهب للقضاء على معاوية، ذلك الغاصب، الظالم، الجائر، الفاسق و... وكل ذلك في محله وصحيح؛ و لكنَّنا نريد منك أن تُخبرنا سِرَّاً بما يدور في قلبك، بذلك الهدف الذي لا تُخبر به أحداً سوى سلمان ـ على أنّ سلمان كان قد انتقل إلى رحمة الله في المدائن في عهد عمر ـ ذلك الهدف الذي لا تُخبر به سوى خواصّ أصحابك، والذي تكتمه حتّى عن مالك الأشتر، فهو لا يستطيع تحمَّله (فمالك الأشتر وعلى الرغم من قربه من أمير المؤمنين وعلى الرغم من مكانته والتي نرجو فيها شفاعته، على الرغم من كل ذلك، فهو لا يستطيع تحمَّل ذلك الأمر!) ذلك الهدف الذي تحفظه في قلبك وتحتفظ به لنفسك أكبر من ذلك بكثير؛ نريد منك أن تخبرنا به سِرَّاً، قل لنا ما هو؟ لو أنَّنا كنَّا قد قلنا ذلك لأمير المؤمنين، لقال لنا: إنَّ هدفي وغايتي هي العمل بموجب تكليفي، لا التغلّب على معاوية. فالأمران مختلفان: العمل بموجب التكليف شيء، والقضاء على معاوية شيء آخر. و أنا أسرُّ لكم هذا الأمر وهو إنَّنا سوف لن ننتصر على معاوية؛ لقد قلت لكم ذلك خُفيَّة، فلا تُفشوا هذا السِر، وإلاّ فسينفضُّ من حولي العسكر! سيقولون: فعلامَ نذهب للقتال إذاً؟ فإذا كان المقرّر أنَّنا سوف لن ننتصر عليهم، فلماذا نذهب لقتالهم؟ فلماذا فراق الأهل هذا، ولماذا هذا المسير وتجهيز الخيول وحدِّ السيوف و...
إنَّه لأمر عجيب حقاً!
يقول أمير المؤمنين: لا تُفشوا ذلك، فهذا سرٌّ ولغزٌ، هذا هو لغز و سرُّ مسيري، وحلاوته في هذا! وسترون بأنَّني سوف لن أتخلف بمقدار أنملة عن هذا النهج وهذا الاعتقاد في سيري نحو تحقيق ذلك الهدف.. إنَّني سوف لن أنحرف أو أزيغ يميناً أو شمالاً؛ ولن يدفعني علمي بما ستؤول إليه الأمور إلى التساهل و التهاون في اداء تكليفي، بل سأنجز عملي بأحسن صورة، و سأؤدّي تكليفي كاملاً وسأقوم بتنظيم الميمنة والميسرة والقلب بكلّ دقة، وسأحسب لدقائق الأمور حسابها وفقاً للخطّة التي يمكن أن يضعها قائد جيشٍ يريد أن يكسب معركته؛ وسوف لن يكون عملي بالشكل الذي لا أبذل فيه قصارى جهدي بسبب علمي بأنَّنا سوف لن نكسب المعركة التي نخوضها.
بينما لو كنَّا نحن مكانه لقلنا: دع الأمر إذاً؛ فلو كان الله قد أزاح ذلك الستار عنَّا، وأعلمنا بما سيؤول إليه الأمر، أما كان سيحصل لدينا تهاون في القتال؟! بلى، سوف يحصل لنا التهاون قطعاً؛ في أفضل الحالات سيحصل لنا تهاون بنسبة ثلاثين بالمائة على الأقلّ.. يعني إذا كنَّا جادِّين بما فيه الكفاية فإنَّنا سننجز أعمالنا وسننظِّم أمورنا وفقاً للمعتاد بنسبة السبعين بالمائة، وسنتهاون و سوف لن نعطي للموضوع أهميته بنسبة الثلاثين بالمائة.
عمل أولياء الله لا يتغيّر حتّى لو علموا أنّ الهدف الظاهري لن يتحقّق
أمّا أمير المؤمنين فسينجز عمله بنسبة مائة بالمائة وكأنَّه لا يعلم شيئاً عن واقع الأمر وعمّا هو موجود خلف السِتار، بل سيتعامل و كأنّه ينظر للأمور كما ننظر إليها نحن، وكأنّ له نفس الشعور و الإدراك الذي عندنا؛ فما الذي سنفعله نحن إذا ما أردنا التغلّب على عدوّنا؟ سنقوم بإعداد خطة محكمة، سنفعل كذا، سوف لن ننام حتّى الصباح، ارصد هذا وذاك، انشر هذا الخبر بالشكل الفلاني...
نحن نفعل كل ذلك لغرض التغلّب على الخصم؛ كلّ ذلك من أجل الثبات على الوعد الذي وعدناه و لي لا يظهر أنّنا لم نتمكّن من الحفاظ على كلمتنا.. لكي لا يقول الناس بعد ذلك: لماذا أصبح الأمر بهذا الشكل؟ لماذا لم يتحقّق ما وعدونا به؟! فنحن خوفاً من عدم تحقَّق ما كنَّا قد وعدنا الناس به، ولكي لا يُقال: لماذا انتهى الأمر بهذا الشكل؟ ولأجل الحفاظ على مكانتنا.. لأجل ذلك، نحن مستعدون أن ننزل السماء على الأرض، و نبذل كلّ ما يمكن بذله، و لكنّنا نفعل ذلك للحفاظ على كلمتنا وصيانة موقعيّتنا في أعين الناس! ها! لقد صار هاهنا هدفان اثنان!
لقد أمسى في البين هدفان اثنان؛ فتارةً يكون غرضنا و هدفنا هو السعي لتحقيق الوعد الذي قطعناه للناس، و الحفاظ على كلمتنا التي أعطيناها، و تارةً يكون الهدف هو تحقيق أمر ذاك [يشير سماحته بيده إلى أعلى كنايةً عن الله سبحانه] و جعل كلمته هو العليا، كلمة ذاك الذي هو موجود في الأعلى. [يبتسم سماحته و يقول:] و من الواضح أنّ المقصود بالعلو هنا هو العلو الطوليّ الرتبيّ والمعنوي، لا العلو الظاهري الماديّ.
حسناً، أيّ الهدفين نحن نسعى لتحقيقه؟ الأوّل أم الثاني؟ ما دام للإنسان نفس، وما دام الإنسان مُتعلّقاً بالدنيا، وما دام الإنسان لم يُهذِّب نفسه بعد، و لم يُزكِّي نفسه بعد؛ فهو يسعى نحو تحقيق الهدف الأول، وإن كان يدَّعي بأنَّه رجلٌ إلهيٌّ يعمل بموجب التكليف! فكل ذلك مما لا قيمة له وكذبٌ يتَّضح أمره بمجرد أن تتذبذب الأمور صعوداً ونزولاً. فما دام الإنسان غير متحرِّر من قيود النفس، فإنَّ الهدف الثاني والموجود في قلب أمير المؤمنين، لا يمكن أن يتحقَّق في قلبه أبدًا أبدًا.
لكي يتحقّق هذا الهدف في قلبه، يجب عليه التحرّر من قيود النفس وتعلّقاتها، ويجب أن تضمحلّ وتنمحي هذه النفس من الوجود؛ على أنّ ذلك ليس بالأمر اليسير، فذلك ليس من قبيل الوجبات السريعة، بل إنّ ذلك لا يُنال إلاّ بشقّ الأنفس، أتتصوَّرون بأنَّ الأمر يكون بهذه السهولة، و أنّ الأمر ينتهي بأن يُقال: إنّ فلاناً قد عبر مرحلة النفس، أو إنَّه يُقيم صلاة الليل وكان يُدَّرس الدروس الأخلاقية ؟! كلاّ، ليس الأمر بالكلام و الادّعاء؛ و إلاّ فأنا كنت أُدرِّس الدروس الأخلاقية، وهأنذا أُدرّسها الآن. فهل ذلك ينفعني؟! و هل يتمّ الأمر به؟ تستطيعون أنتم كذلك أن تضعوا شريطاً مسجلاً، فيبدأ بالدوران ويعطي بذلك درساً أخلاقياً، وإن شئتم فضعوا عمامة عليه! سيُعطيكم درساً أخلاقياً راقياً وبليغاً ستبتهجون بأجمعكم لسماعه!
فهذا ليس هو المطلوب؛ إنَّ أهم ما في الموضوع هو: ما الذي يجري في القلب؟
ليست الإنجازات الظاهريّة هي المهمّة، بل المهمّ ما ينطوي عليه قلب الإنسان!
لقد كان لأمير المؤمنين نشاطاً وفعاليّة في جميع أوقات الحرب؛ ففي ليلة الهرير، تلك الليلة العجيبة، كان يخوض القتال وكان يُرسل الحسنين ومحمّد بن الحنفية فيعودون مخضَّبين بالدماء وقد أصابتهم الجِراح، لقد كان الدم ينزف من كافّة أعضاء بدن محمّد بن الحنفية. فرغم أنّ أمير المؤمنين كان يرى بعينيه النهاية الخاسرة لهذه الحرب، إلاّ إنَّه لم يكن ليخبر بذلك أحداً غير الخواصّ من أصحابه ممّن له القدرة على تحمَّل الموضوع، وهم بدورهم لا يُخبرون أحداً سوى أمثالهم ممّن لا يبوح بالسِّر، فتراهم يقفون باستقامةٍ و ثبات، ويتصرّفون بشكلٍ طبيعي، ولكنَّهم يضحكون على الآخرين بقلوبهم، ويقولون ستَّتضح النتيجة في نهاية المطاف!
فلو نظرت إليهم في الظاهر، فستجدهم هادئين ثابتين، يقولون: أجل، لنذهب للقتال، لنحمِل البنادق، والسيوف، والمدافع، والصواريخ، وما شاكل ذلك، ولكن ما الذي يجري في داخل نفسهم؟ لا يخطر ببالهم سوى العمل وفقاً للتكليف الإلهيّ. ما الذي يعنيه هذا؟ هذا يعني أنّ هذا هو هدفهم و مقصدهم، و هذا الهدف قد تمّ تحقيقه!
إن كان الهدف إلهيّاً، فإن العوائق لا تقف أمامه
ألم يتمكَّن أمير المؤمنين من تحقيق هدفه؟ بلى، لقد تمكَّن من تحقيقه وبأفضل وجه. إنَّ تحقيقه لهدفه هذا كان بالشكل الذي جعل الجميع يضعون أيديهم على أفواههم من التعجُّب؛ كتصرّفه في قضيّة فتح شريعة الماء أمام أهل الشام بعد غلقها من قبل معاوية، أو امتناعه عن قتل عمرو بن العاص، أو منحه لتلك الفرص للخصم لكي لا ينهزم، وما شاكل ذلك من دقائق الأمور؛ لماذا؟ لأنَّه يريد الوصول إلى هدفه، ولا بدَّ من اختيار هذا الطريق للوصول إليه. فما هو هذا الهدف؟ إنَّه الهزيمة الظاهريّة! فأمير المؤمنين قد تمكَّن من تحقيق هدفه.
لو كان أمير المؤمنين قد انتصر في هذه الحرب، لما كان قد حقَّق هدفه؛ فهدفه هو الهزيمة الظاهريّة، وفي هذه الهزيمة الظاهريّة يجب أن يُصاب بالسهم والسيف وينزف الدَّم، ويتحمَّل الحرَّ والبرد، وعليه أن يخاطب القوم ويحرّضهم على القتال.
ولكن و بما إنَّه إمام و بما إنَّه واسطة لتنزيل المشيئة الإلهيَّة من عالم التقدير إلى عالم التنزيل وعالم الشهادة، فهو يعرف كيف يُقَدِّر الأمور: فهو يكون مُتشدِّداً تارةً، ومُتسامِحاً أخرى؛ يُقاتل في بعض المواطن، ويترك القتال في أُخرى؛ يعفو أحياناً ويُعاقب في أحيان أُخرى. كلّ ذلك التدبير وتقدير الأمور يكون في إطار تحقيق المشيئة الإلهيّة والمتمثِّلة في الهزيمة الظاهريّة في هذه الحرب. فالمشيئة الإلهيّة تقتضي عدم وقوع الشام في قبضة أمير المؤمنين. فما دامت تلك هي المشيئة الإلهيّة، فكيف يمكن تقديرها؟ وكيف يمكن ترتيب الأمور من أجل تحقيقها؟ إنَّه يعلم بأنَّ ذلك هو التقدير الإلهيّ، وأنّه يجب السير بموجبه. و حينئذٍ فإذا ما جئتَ أنت واتّبعت عليّاً في حركاته وسكناته و أطعت أوامره: إن قال لك تحرَّك، تتحرَّك ولا تُهمهم وتتذمَّر دائماً في هذا المسير وتقول: ما الذي يحصل يا عليّ؟ فها هو شهر قد مضى، وأهلنا قد اشتاقوا إلينا!
[يبتسم سماحة السيد و يقول ممازحاً:] يقول أمير المؤمنين: ليس أهلك هم الذين اشتاقوا إليك، لعله أمر آخر... الظاهر أنّك من اشتاق إليهم، و لكنّك تتحجّج بهم.
فيجيبه أمير المؤمنين: إذا كنت لا تريد مواصلة القتال، فارجع، فهدفنا هو الذهاب لإزاحة معاوية، هذا هو واجبنا. ثم يتكلَّم معهم ويشدَّ من عزمهم، يُطمئنهم، يُشجِّعهم؛ فأمير المؤمنين ليس من النوع الذي يجلس في محلِّه ويُعطي الأوامر مثلنا؛ اذهبوا، لتُقتلوا، ما دام مكاني الذي أنا فيه دافئ، وسريري مريح. كلاّ، بل إنَّه كان يتقدَّم الجيش بنفسه، ويُصيبه ألف سهم ورمح. فإذا كان الدم عبارة عن كريات حمراء وبيضاء وبلازما، فدمُ عليٍّ كان على هذه الشاكلة أيضاً، ولم يكن يحتوي على عناصر إضافيّة؛ فدمه مثل دمائنا، ودمائنا مثل دمه. فلا أعلم ما الذي جرى الآن: هل تغيّر تركيب الدم أم لا ؟! غير إنَّه لا يبدو وجود أيّ تفاوت في طبيعة الأشخاص الذين كانوا يعيشون في الزمن الماضي ومن يعيش في زماننا هذا.
لقد كان أمير المؤمنين عليه السلام يتقدَّم أمام العسكر؛ كما كان النبي و الذي كان هو عمود الإسلام الوحيد، يكون أقرب الجميع من العدوّ. فأمير المؤمنين يقول في نهج البلاغة: فلم يكن منَّا أقرب إلى العدو منه۱. فجبين مَنْ كان ذلك الحجر قد شجَّ في معركة اُحد؟ وجسم مَنْ كان قد جُرِح؟ أليس جسم النبي؟! فلماذا لم يبق النبي في المدينة؟! لماذا لم يقل: "اذهبوا وقاتلوا، واجلبوا لي بشارة النصر والفتح، وأنا أدعوا لكم من هذا المكان، وأطلب لكم من الله التوفيق" ؟!
كلاّ، بل كان يقف في المقدَّمة، لماذا؟ لأنَّه على النبي أن يُتابع هذا الهدف أيضاً ويسعى لتحقيقه، وإلاّ لما كان نبيّـاً، لما كان خاتم الأنبياء. فكما أنَّ من واجب كافّة جنود الإسلام السعي لتحقيق هذا الهدف، فهو واجبٌ على النبيّ أيضاً.
لا ينبغي لك الجلوس في البيت، فأنت واحد منهم. كيفما كانت مشيئة الله فلتكن، فالأمر غير عائد لك. يقول الله: تلك هي مشيئتي، وعليك أن تُنَّفذ تقديري. ليس لك البقاء في الخلف، ولماذا تبقى؟ فإذا كان الأمر يقتضي مقاتلة العدو، فأنت أحد المكلَّفين، فتقدَّم بسم الله؛ ولعل رسول الله كان سيُستشهد في معركة أُحد؛ فليُستشهد.
من الذي أوصل النبي إلى مقام النبوَّة، وجعله علماً للإسلام؟ هل كان أحداً غير الله؟ فإذا ما شاء الله أن يُستشهد النبي، فما الضير في ذلك؟ ألم يُستشهد الإمام الحسين؟ فهل قُضي على الدين؟ هل انتهى كل شيء؟ كلاّ، كلاّ، لا أنَّه لم يُقضَ على الدين فحسب، بل كانت شهادته عليه السلام سببًا لارتفاع شأن الدين! ولقد استُشهد كافّة الأئمّة عليهم السلام أيضًا: إمّا بواسطة السّم، أو في ميدان القتال وبواسطة السيف وآلات الحرب الظاهريّة. فنبي الله قد استُشهِد كذلك عندما دسَّتا له السُّم: إنَّهما سَمَّتاه۱؛ أي أنَّ عائشة وحفصة هما اللتان سمَّتا رسول الله كما جاء ذلك في الرواية المذكورة في بحار الأنوار عن الإمام الصادق عليه السلام.
فنهج رسول الله هو نفس نهج أمير المؤمنين، ونهج أمير المؤمنين هو كذلك.
فإذا ما كان الأمر يستوجب التقدُّم إلى الأمام، فليتقدَّم الجميع، لا أن يقول أحدهم: إنَّ لي واجبي ولك واجبك، لماذا؟ لأنَّه إذا ما كان التصدِّي لأعداء الله واجب، فهو واجب على الجميع.
ما هو الفرق بين هدفنا ، و هدف أولياء الله ؟
حسناً، يجب علينا أن نتمعّن في هذا الموضوع، وهو كيف أنَّ الهدف الذي نبتغيه يختلف عن ذلك الهدف الذي يسعى لتحقيقه أولياء الله، العرفاء بالله، أولئك العالِمين بالمشيئة والتقدير الإلهيّ، أولئك الذين يقولون سَلوني قبلَ أن تَفقدوني٢؛ فأولئك على علم بالأمور، ولكنَّهم لا يتفوَّهون بها؛ وهذا أمر آخر. لقد قلت للرفقاء مراراً بأنَّ أولئك الذين يعلمون زمان ظهور إمام الزمان، لا يتكلمون بهذا الموضوع؛ أمّا أولئك الذين ليس لهم علم بذلك فترون منهم في هذا المجال إلى ما شاء الله... فما الذي سيقوله إمام الزمان؟ لا يوجد في العالم من هو أكثر مظلوميّة من إمام الزمان. فلتقولوا مراراً: سيظهر إمام الزمان غداً، وسيظهر بعد غد، فسيجيبكم عليه السلام: أنا لن أظهر في الوقت الذي عيّنتموه، فقولوا ما شئتم!
لقد كنت في مكانٍ ما، فقال أحد عباد الله: بأنَّني عندما كنت في النجف قمت ببعض الحسابات، فوجدتُ بأنَّ الإمام سيظهر في عام ۱٤۱٦، ثم أردف قائلاً: أنا أتوَّقع ذلك وسيظهر الإمام إن شاء الله.
ما هو العام الذي نحن فيه الآن؟! إنَّه عام ۱٤٣٤. كم مضى على ذلك التاريخ؟ لقد مضى ثمانية عشر عاماً على ذلك ولم يحصل الظهور!
قلت له بعد ذلك: لقد كنت قد سمعت منك هذا الأمر.
فقال: كلا، إنَّني لم أقل ذلك.
يا للعجب! كم هو يسير عليك إنكار الأمر! فلقد سمعت ذلك بأذناي هاتين واللتان ستشهدان يوم القيامة بسماعهما ذلك من لسانك المبارك، بأنَّك قلت: إنَّني كنت قد حسبت زمان الظهور و سيكون في العام ۱٤۱٦. وعند تجاوز هذا التأريخ تقول: لم أقل ذلك، بل قلت بأنَّ زمان الظهور قريب.
فقلت: جيد جداً، لقد عرفتك إذاً، فلأذهب للبحث عن شخص آخر.
لذا لم نرَ المرحوم العلاّمة أو المرحوم الحدّاد ـ رضوان الله عليهما ـ وهم من أولئك الذين لهم علم بهذه الأمور يتحدَّث عن ذلك. إنَّكم لا تستطيعون أن تجدوا بأنَّ المرحوم العلاّمة قد حدَّد زمانًا لظهور الإمام في أيٍّ من مؤلفاته، أين كان ذلك؟ دلّوني على ذلك، هل هناك موضع واحد؟! في الوقت الذي نرى فيه الآخرين يخوضون في هذا المجال في أحاديثهم ومؤلفاتهم؛ على أيِّ شيء يدلُّ هذا؟ إنَّه دلالة على النقصان في الفهم والمعرفة؛ فلو كانت لهم معرفة تامّة، لما كانت هنالك حاجة لذكر زمان ظهور الإمام. فما هو الأمر الموجِب لذلك؟
فلو فرضنا بأنَّ الإمام سيظهر غداً، فما الذي يجب علينا فعله؟ فها أنا أقول لكم بأنَّ لديَّ خبر موثوق بأنَّ الإمام سيظهر في صباح يوم غد الثلاثاء عند آذان الصبح في المدينة الفلانيّة، فما الذي ستفعلونه ؟ سننهض الآن ونتسلل ونذهب إليه؟ جيد جداً، فأقدامه على أعيننا وعلى رؤوسِنا، ونسأل الله أن يجعلنا من تابعيه و من السامعين والمطيعين له، ولكن ما الذي سنفعله؟ سوف لن نضرب رؤوسنا بالجدار! أو أن نعمل عملاً خارقاً! فلو قيل لنا بأنَّ الإمام سيظهر بعد سنة، ما الذي سنفعله؟ سنعمل على إصلاح أنفسنا، ونكون على استعداد: سنضبط ألسنتنا، و نراقب محالّ تردّدنا، ونراقب أنفسنا لكي لا نرتكب معصيّة، حسناً، إنَّ هذا هو ما يريده الإمام منَّا في الوقت الحاضر، فلماذا أقول بأنَّ الإمام سيظهر بعد سنة أو سنتين، ما المُبرر لذلك؟ لماذا؟
لذا فإنَّ طرح هكذا أمور تكون مخالفة لنهج الإمام بالكامل؛ فلو أنَّك علمتَ وتيقَّنت بأنَّ الإمام سيظهر بعد سنة، وبناءً على هذا العلم قمت بإصلاح نفسك، فإنَّك لن تكون قد فعلت الكثير، وليس هذا بالأمر الصعب. الكياسة تتمثَّل في البدء بإصلاح النفس بدون العلم بزمان الظهور، فهذا أمرُ له الكثير من التأثير، أمَّا الحالة الأولى فليس لها ذلك التأثير. بالطبع فإنَّني لا أُريد أن أقول : إنّه عمل سيّء. لا، بل هو عمل جيد جداً؛ ولكن لو أعطينا لعملية المبادرة بإصلاح النفس من دون العلم بزمان الظهور درجة المائة، فسوف لن يُعطى للحالة الأُخرى سوى العشرة أو الخمسة عشر ولن تصل الدرجة إلى العشرين. يعني سيكون التأثير الكبير لتلك الحالة، وهي أن يسعى الإنسان ـ مع عدم علمه بزمان الظهورـ إلى إصلاح نفسه، و يقوم بتزكيتها، وبالسعي للوصول إلى تجرّد النفس؛ سيكون التأثير العميق لهذه الحالة.
ما هو الهدف الحقيقي لخروج الإمام الحسين عليه السلام؟
فبناءً على هذا تكون العبارة القائلة بأنَّ "الغاية تُبرِّر الوسيلة" عبارةً خاطئةً من الأساس؛ فسيّد الشهداء عليه السلام قد وصل إلى هدفه في يوم عاشوراء، وتحققت له تلك الغاية المُدَّخرة له، ألم يقل عليه السلام: "إنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً"۱، فأنا ساعٍ لتحقيق هذا الهدف، فليس هدفي هو هزيمة عساكر وجُند بن سعد، بل هدفي هو تحقيق ما أُمرت به وهو "إنَّ الله قد شاء أن يراك قتيلاً"، وقد تحقَّق ذلك.
وكذلك الحال بالنسبة للنساء والأطفال، "إنَّ الله قد شاء أن يراهنَّ سبايا"٢ وقد تحقق هدفهم أيضاً. فلقد وصلت زينب إلى ذلك الهدف، كما وصل إليه الإمام السجَّاد وأمُّ علي الأكبر والرباب؛ فقد وصلوا إلى ذلك الهدف بأجمعهم؛ فما هو ذلك الهدف؟ هو أن يؤخذوا سبايا مقيَّدين بالسلاسل، يُطاف بهم في المُدن. لقد وصلوا بأجمعهم إلى هدفهم وإلى مقامهم وإلى تلك الغاية التي عاهدوا عليها الإمام الحسين عليه السلام، وخرجوا معه من أجلها؛ فالبعض منهم كان مُكلَّفاً بالقتال كالإمام الحسين عليه السلام، وأبي الفضل وإخوته وعلي الأكبر والأصحاب؛ ولقد طوّوا هذا الطريق وانتهى الأمر. أمّا الآخرون فلم يكونوا مُكلَّفين بالقتال، بل كانوا مكلَّفين بالسير، وقد طوّوا الطريق وأوصلوا النداء إلى أهالي المدن والقرى. فلقد كان التكليف على نحوين: تكليفٌ للرجال، وتكليفٌ للنساء والإمام السجَّاد والآخرين الذين كانوا معهم، وهؤلاء قد وصلوا إلى هدفهم أيضاً.
نحن نرى بحسب الظاهر أنَّ حركة الإمام الحسين عليه السلام كانت بناءً على الرسائل التي جاءت من الكوفة، فقد أرسل أهل الكوفة أربعة آلاف رسالة: أن أقبِل يا حسين، وما شاكل ذلك. هذا بحسب ظاهر الأمر، أمّا الباطن: فماذا كان الباطن؟ يقول الإمام: لا عودة لهذه القافلة فهي سائرة والموت يحدوها، القوم يسيرون و المنايا تسير بهم.
كان الإمام عليه السلام يُبيِّن هذه الأمور في طيِّ أحاديثه، كان يقول: لا تتوقَّعوا بأنَّ طريقنا مفروش بالورود، فظاهر الأمر هو أنَّنا سائرون لفتح الكوفة وإسقاط حكومة يزيد لعنه الله، ولكنَّ واقع الأمر هو أنَّنا سنُستشهد في أرض كربلاء؛ حتّى إنَّه كان قد قال للقاسم رضوان الله عليه: وأنت ستُستشهد أيضاً يا ابن أخي، ثم بكى وقال: "بعدَ أن تُبتلى ببلاء عظيم"۱. وهو ذلك البلاء المتمثِّل في لحظات احتضار القاسم وهو أمر له قصة... نعم، لقد أخبر القاسمَ بذلك ليلة عاشوراء.
ثم يقول الإمام عليه السلام: بل إنَّهم سوف لن يتوانوا عن قتل ابني الرضيع هذا ـ عبد الله الرضيع والذي نُسميه بعليّ الأصغر ـ فسيُستشهد هو أيضاً.
هل تلاحظون كيف كان الإمام يُبيِّن تفاصيل الأمور، فكان يقول: من يشأ، فليَعُد؛ فنحن لا نقصد يزيداً أو ابن زياد أو السيطرة على الكوفة، نعم ذلك هو هدفنا في ظاهر الأمر؛ ولكنَّنا نرمي ونسعى لتحقيق شيء آخر، ألا وهو لقاء الله وإمضاء صحيفة أعمالِنا؛ فنحن نسعى لإمضاء هذه الصحيفة في يوم عاشوراء؛ فمن شاء أن تُمضى صحيفته فليبقَ معنا على الرحب والسعة. فقال بعضٌ منهم: نحن نريد أن تُمضى صحيفتنا، فنحن معك أينما ذهبت.
قال زهير: لو قُتلتُ ألف مرة، لما تركتك! نعم، لقد كانوا صادقين بأجمعهم فيما قالوا، وكذلك قال مسلم بن عوسجة وعابس. فكان كلّ ما قالوه يقينًا محضًا، إيمانًا محضًا، نيّةً محضةً، خلوصًا محضًا، توحيدًا محضًا، ولايةً محضةً؛ فلقد وضعوا أقدامهم حيث وضع الإمام الحسين عليه السلام قدمه. لقد عرفوا ما هي الغاية وما هو الهدف.
فمَنْ مِن هؤلاء الاثنين والسبعين كان قد جاء إلى كربلاء من أجل إسقاط يزيد؟! لقد كان ذلك هو هدف أولئك الذين جاؤوا مع الإمام الحسين ولكنّهم غادروا في ليلة عاشوراء وتركوا الإمام عليه السلام، فلقد كان هدفهم هو القضاء على يزيد وابن زياد، ولمّا رأوا بأنَّ ذلك الهدف سوف لن يتحقّق فرّوا بأجمعهم، فقال الحسين: أطفِئوا المصابيح لكي لا يخجلوا. اذهبوا ودعونا نواصل عملنا، فنحن لا نستطيع ذلك مع وجودكم؛ فهنالك قمامة كثيرة، ولا بُدّ من التخلِّص منها، ولا بُدّ من غربلتها و فرز الجيّد من الرديء؛ فمن كان يحب زوجته و أولاده و متعلقًا بهم فليذهب إليهم، و من كان حريصاً على الضِيَاع والبساتين فليرجع إليها، ومن كان يحبّ الحفاظ على حياته فليذهب أيضاً، ليذهبوا ولا يخجلوا؛ ولقد ذهبوا بالفعل.
كم هو عجيب أمر هؤلاء الناس! يجب علينا أن نسأل الله بألاّ يبتلينا بهكذا امتحانٍ في وقت من الأوقات، وإذا ما ابتلانا به، فنسأله أن يأخذ بأيدينا، ولا يجعلنا من أولئك الذين يغتنمون فرصة إطفاء المصابيح، فينتعلون بهدوء ويُغادرون. فتلك الثانية الأخيرة هي التي تُعيِّن السعادة الأبديّة أو الشقاء الأبديّ، نعم تلك الثانية أو الثانيتين، فذلك هو الموقف الحسّاس والحرج ...
خدایا چنان کن سرانجام کار | *** | تو خشنود باشی و ما رستگار |
(يقول: إلهي اجعل عاقبة أمرنا بالشكل الذي تكون فيه راضياً عنَّا، ونكون فيه من المُفلحين.)
لقد كنتُ أنوي التحدِّث في موضوع آخر، ولكنَّني جُذبتُ للحديث بهذا الاتجاه، على أنَّني لست مُنزعجاً من ذلك؛ فابقوا على انتظاركم أيّها الرفقاء، وليُضف هذا إلى ذلك البرنامج [و إلى قائمة الأمور التي وعدنا بالحديث عنها]...، لقد كنت أقول لأحد الأصدقاء هذه الليلة: لقد كانت المواضيع التي تحدَّثت بها في جميع هذه الليالي تأتي على غير ما كنت مُصمِّماً عليه، فمرحباً بها إذاً.
فبأيّ اتجاه ينجرَّ الحديث، فمرحبًا به، فهو إن شاء الله يدور في إطار تلك الحقائق النورانيّة و العرفانية، وهذا هو المطلوب؛ فالأمر المهم هو أن يعلم ويفهم الإنسان، أن يفتح فهمه، ويُصَحِّح إدراكه؛ وأن يكون النهج الذي ينتهجه نهجاً صحيحاً ومُتقناً ومُتوافقاً مع ما يرضاه الله.
نسأل الله أن يفتح عقولنا، ويُعرَّفنا بتكاليفنا ويرشدنا إليها، ويُعرَّفنا حقيقة الأمر وأن يوفّقنا لكي لا ننحرف ذات اليمين وذات الشمال عن ذلك الطريق الذي سلكه العظماء والأولياء؛ وألاّ يجعل مسيرنا ممزوجاً بتلك الأوهام والتخيّلات وأن يُبعدنا عن القاذورات الدنيويّة، إن شاء الله.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد