المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1415
التوضيح
وهي جلسة من سلسلة محاضرات شرح دعاء أبي حمزة لسماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني، وقدتناول فيها شرح فقرة من الدعاء: من أين لي الخير يا رب ولا يوجد إلا من عندكوأشار إلى تأكيذ القرآن الكريم على أنّ الله تعالى هو مبدأ الخير والبركة والنعمة والوجود والكمال، فلا كمال ولا خير إلا منه، وما في الوجود من الفرش إلى العرش مظهر ومجلى له تباركت آلاؤه، فحريٌّ بالمرء أن ينال مقام العبودية والذلة اتجاه مقام الربوبية والعزة، كما ذكر تأثير كلام الأنبياء والأولياء عليهم السلام في إيجاد حالات شرح الصدر والرحمة والرأفة في نفوس الناس؛ لمكان اتصالهم بالمبدأ الحقّ وشهودهم الحقائق الكلية.
هو العليم
منشأ خيرات العالم
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي-سنة ۱٤۱٥ هـ ق- المحاضرة الأولى
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله (عليه السلام):
«من أين لي الخير يا ربّ ولا يوجد إلاّ من عندك» ۱
تقدّم أنّ الخير الذي يصدر عن الإنسان إنّما يصدر عنه بالعرض، أي بلحاظ أنّه مظهر، ولا بدّ من رجوع هذا الخير إلى ذات يصدر عنها بالذات تستقلّ بالفيض. ولذا لا يمكننا نحن أن ننسب الخيرات الصادرة عنّا إلى أنفسنا، وإلاّ عدّ خيانة وتصرّفاً في ملك المولى؛ لوضوح أنّه لا يمكن للعبد أن ينسب ثروة مولاه إلى نفسه، فالثروة ملك للمولى، وإذا أراد أن يوقّع توقيعاً بالنيابة عنه فلا بدّ أن يخبر الطرف الآخر أنّه يقوم بذلك كنائب، لا بدّ أن نخبر أنّ هذه العنايات التي نتمتّع بها هي من الله، فإن أخبرنا عنها زادها الله، وإلاّ جعلها لنا حجاباً.
الفارق بين مدرسة الأنبياء والأولياء ومدرسة غيرهم
كنّا يوماً بخدمة المرحوم العلاّمة وكان هناك أحد الأشخاص الطيّبين الواعين، وكان لديه جملة من الاستسفارات مع المرحوم العلاّمة، وبعد أن أجابه العّلامة عن أسئلته أصبح في غاية السرور والبهجة، وبعد مدّة التفت إلى المرحوم العّلامة وقال له: سبحان الله! هل يمكن أن نجد إنساناً بهذا العلم؟! وكان هناك أحد الحاضرين ولم يكن حاله على ما يرام، وكانت أطواره آنذاك غريبة، إلاّ أنّ العلامة كان جالساً بهدوء وسكينة بلا تصنّع ولا هوى، لا يرى في نفسه قدرة ولا علماً. فانظر كيف يفكّر المرحوم العّلامة؟ وانظر إلى ذاك! وكلامه هذا درسٌ لنا.. بحرٌ من العظمة والعلم والكمال الوقار لا يرى في نفسه شيئاً، وعندما كنّا ننظر إليه كنّا نجد أنّه في الواقع لم يكن يشعر بأنّه مالكٌ لشيء.
وفي تلك المدّة كنّا يوماً جالسين في محضر العلاّمة إذ دخل أحد الأشخاص ـ وهو الآن من الأساتذة والمدرّسين ـ فلمّا دخل انخطف لوننا نحن! وسأل العلاّمة سؤالاً فأجابه، ثمّ قمتُ بطرح إشكال ٍعلى هذا السائل، وبعد أن اتّضح المطلب قال: لقد كان في هذه المطالب تأمّل، ولم يكن سؤالي عنها بغير وجه. فانظروا كم هي سعة قابليّته؟ ثمّ انظروا في المقابل إلى العلاّمة! إن هي إلّا بعض المطالب والأسئلة والأجوبة، ولكنّه يقول: هذه المطالب محلّ تأمّل وكذا وكذا...! أما العلاّمة فقد وصل إلى حقيقة «من أين لي الخير؟».كلّ هذه الخيرات يراها من الله، أمّا ذاك العالم الآخر فهو يرى الخير من نفسه، و هو صاحب علم، إلاّ أنّه إذا يرى هذا العلم من نفسه، فإنّه يتأثّر لأدنى مؤثّر لا يرضاه، أمّا لو كان لا يراه من نفسه لما كان تأثّر.
بناء على ذلك فالفرق بين مدرسة الأنبياء ومدرسة غير الأنبياء هو أنّ الأنبياء يقودون الناس كلّهم إلى المبدأ المفيض بالذات، أمّا غيرهم فإنّهم يجرّون الناس كلّهم إلى أنفسهم، وبما أنّ أنفسهم مبدأ شرّ، فاتّباعهم شرّ أيضاً، ولا معنى لأن يكون اتّباعهم خيراً. والمميز بين الأولياء وغيرهم هو أنّ الأولياء لا يدعون إلى أنفسهم؛ كالأنبياء والأئمة عليهم السلام، أمّا أولئك فيدعون إلى أنفسهم قائلين: لماذا لا تحضرون مجالسنا؟ فنحن أيضاً لدينا مجلس!
بعد وفاة المرحوم الأنصاريّ تميّزت مدرسة الأنبياء عن مدرسة غيرهم، تميّز مدّعو الولاية عن المتمسّكين بها فعلاً. لقد عرف هؤلاء المرحوم الحدّاد بمستوى من المعرفة قلّ أو كثر؛ حيث كان المرحوم الأنصاريّ في حياته يحدّثهم عنه. فبينما كان السيّد الحدّاد جالساً في كربلاء ساكتاً غير ملتفت إلى ما يقال، انفصل الشيخ حسن علي نجابت مع جماعة ووقف في مواجهة الحدّاد، وفي زيارتنا إلى كربلاء أثناء عودتنا من مكّة كنّا جالسين بخدمة المرحوم الحدّاد وتحدّث عن أنّ الشيخ حسن علي قال له: بعض التلاميذ يسألون أسئلة أعجز عن الجواب عنها؛ فهي أرفع من مستواي، فقال له المرحوم الحدّاد: فلترسلهم إلى من بإمكانه أن يجيبهم، ثمّ ابتسم ابتسامة وقال للمرحوم الوالد: من لم يكن حمّالاً فلماذا يحمل الأثقال؟! لماذا يترك النفوس المستعدّة هكذا؟! لقد كان هؤلاء من الشبّان ذوي الاستعداد ولهم حالات، فلماذا تحتفظ بهم حولك؟! هذا ليس منهج الأنبياء، بل يُلاحظ في مدرسة الأنبياء الإنصاف، وليس من الإنصاف ترقّب الإنصاف، أن يترقّب الإنسان الإنصاف من الغير،مع عدم كونه منصفاً،فليس ذلك من الإنصاف، وليس هذا من مدرسة الأنبياء في شيء. مدرسة الأنبياء هي مدرسة الإنصاف، أن تجعل الحقّ في مكانه، إذا وجدتُ إنساناً جامعاً للشرائط فلا آتي أنا وأطرح نفسي وأفتح متجراً في مقابله، إن كنت لا تستطيع قيادة الأفراد فالنتيجة معلومة في النهاية، ومن الواضح ما هي المسائل التي ستبتلى بها... من يذهب باستعدادات النفوس فلا بدّ أن يقدّم جواباً في ذلك العالم.
ولكن كان هناك جماعة أخرى خرجت وقالت: لا حاجة بنا إلى الأستاذ، وقد كنت أجلس في مجالسهم، وإنّما أنقل لكم حالهم كما شهدتها. لقد كانوا يقرؤون أشعار حافظ في الليل، وأما في النهار فيفعلون ما يحلو لهم ـ لقد كنت بينهم ورأيت ذلك منهم،فاقبلوا منّي هذا الخبر كأصل من الأصول الموضوعة ـ ويقولون: لا صلاة ولا ورد، بل نحن مطّلعون،وقد كنّا لبضعة أيام بخدمة المرحوم الأنصاري،وهذا هو كلّ شيء. وكأنّ الولاية قد ختمت بالمرحوم الأنصاري،كما ختمت الإمامة بصاحب الزمان. والمسألة الوحيدة التي كانت تدور على ألسنتهم هي فقط: كنا يوماً بخدمة المرحوم الشيخ وفعلنا كذا وكذا، وهكذا، ولا شيء سوى ذلك.
ولكن الأمر الذي كان مشهوداً من منهج المرحوم السيّد العّلامة ـ أنا كنت صغير السنّ ولكني الآن أتذكّر ولا زال ذلك في ذاكرتي وعلى أساسه أقوم بالمحاكمة لما كنت أرى ـ هو أنّه منذ البداية لم يكن قد ترك شيئاً لنفسه، ففي يوم من الأيام كان قد تحدّث في همدان أو في طهران وأظنّ أنه كان في منزل المهندس فلان،والخلاصة أنّ حالاً عجيبة كانت قد حصلت له وكان ذلك أمام هؤلاء أنفسهم، فقد كانوا يدعون هناك بأدعية عجيبة وكان المجلس عجيباً جّداً، ومن تلك الأدعية التي دعا بها: إلهي أوصل أيدينا في أسرع وقت إلى وليّك المطلق، ونجّنا من الحيرة. لقد كان هو على اطّلاع ٍ وعلم، ولكن كان يقول ذلك من أجل المساكين. أمّا هو فكان قد جاء بأمر من المرحوم الحدّاد، حينها التفت بعض الحاضرين إلى مراده. أمّا الآخرون فبعد أن توفّي المرحوم الأنصاري قاموا بما لا ينبغي القيام به، حيث صار هؤلاء مدّعين.. فنسبوا الأمور إلى أنفسهم، وربطوا القضايا بأشخاصهم، هذه الخيرات التي لديك متى نلتها وتحققت بها؟! أنت قبل المرحوم الأنصاري لم تكن شيئاً، ولم يكن أحد لينظر إليك، ولم يكن أحد ليقلي إليك السلام، من أين جاء هذا السلام عليك والاهتمام بك؟!
الآن إذا وضعت انتسابي إلى المرحوم العّلامة جانباً فأنا واحد من الطلبة، هناك خمسة عشر ألف طالب،وأنا واحد من بينهم، ومنهم الأعلم،ومنهم المساوي،ومنهم الأقلّ علماً. حسناً فهل الداعي إلى حضوركم وقيامكم احتراماً عند دخولي المجلس سوى انتسابي إلى المرحوم الوالد؟ هذا هو السبب، لماذا لا أعترف وأنا أعلم أنّ كلّ ذلك هو بسبب الانتساب إليه؟ هل أنتم بحاجة إلى علمي؟ لا فهناك الكثير من الكتب والكثير من الأساتذة وأنتم على درجات من العلم، هل أنتم بحاجة إلى طريقي ورؤيتي؟ لا فلكلّ منكم طريقه ورؤيته. كلّ القضيّة أنّكم على محبّة للمرحوم العّلامة ومحبّة الشيء تسري إلى لوازمه ومتعلّقاته!! فنحن متنعّمون بحمد الله بهذه النعمة!!! الحمد لله وحده! ولكن لماذا ننسبها إلى أنفسنا؟ لماذا لا بدّ أن تترسّخ هذه المسائل عند الإنسان؟ لماذا نبدل هذه العرضيّات إلى ذاتيّات؟
لقد جاء أولئك إلى المرحوم العّلامة وقالوا له: نحن نقبل منك ولكن لا نقبل بالسيّد الحدّاد! إلاّ أنهّ مع ما هو عليه من المقام واليد البيضاء كان يقول: أنا لا شيء أمام السيّد الحدّاد ، والصفر لا يملك شيئاً. فهذه الفئة من الرفقاء كانت كذلك، أمّا سائر الرفقاء فقد اتّجهوا اتجاهات مختلفة وجمعوا الناس من حولهم. ففي المدرسة الفيضيّة هذه كان هناك أحد السادة ممّن ذكر اسمهم المرحوم العّلامة، كنّا يوماً جالسين فجاء وقال: السلام عليكم كيف حالكم؟ قلت: الحمد لله... ثمّ سألته ـ ولم أكن أعلم أنّ له هنا مريدين أيضاً ـ فقلت له: أيّها السيّد هل يستفيد هؤلاء الأفراد الذين جمعتهم من حولك أم لا؟ فقال: كلّ يستفيد بمقدار ما لديه من استعداد. قلت: هل ترى في نفسك فاعليّة لتؤثّر في قابليّتهم واستعدادهم؟ فلم يجب، فغيّرنا مجرى الكلام وتابعنا سؤاله عن أحواله.
حسناً فهؤلاء يأتون ويقطعون الطريق أمام الناس ويتكلّمون بالكلام الخاطئ، وعلى هؤلاء أن يجيبوا على كافّة هذه الأسئلة! جيّد؟ وكلّ ما كان عندهم كان من المرحوم الأنصاريّ، وكانوا يعرفون من هو السيّد الحدّاد، ولكن مع ذلك كانوا ينكرون. يقول السيّد الحدّاد: لقد جاء أكبر آقا ـ أحد مريدي المرحوم العّلامة ـ إلى كربلاء وقد رأيت عياله في تشويش واضطراب ـ وهؤلاء كانوا يرون؛ أنّهم أصحاب ولاية ـ فجئت إلى محلّ سكنه ووجدتهم جالسين فقلت له: أنت إذ جئت إلى زيارة الإمام الحسين عليه السلام فهل الإمام راض ٍعن زيارتك مع أنّ زوجتك الآن تعيش الألم والاضطراب مع ما هي عليه من الخصوصيّات؟! ولم يكن أحد مطّلعاً على ذلك، فأطرق برأسه إلى الأرض، فتدخّل حينها ذاك الرجل وقال: الموضوع الذي لا يرتبط بكم لا تتدخّلوا به! إنّ السيّد الحدّاد يريد أن يقوم بهداية إنسان، فلماذا تقف في طريقه؟ لماذا؟ يريد أن يكسر كلام الأولياء ويقلّل من شأنه. إمّا أن يكون الكلام كاذباً فتقول: هذا الكلام كاذب. فيأتي بزوجته من طهران إلى كربلاء بطرفة عين ويكشف الحقّ. إن كان كاذباً فقل: كلامه كاذب، وإن كان كلامه صادقاً فلماذا تأتي وتتكلّم بذلك؟ لماذا تأتي وتقلّل من شأن كلام الأولياء؟ لماذا عندما تعجز أمامهم تتشبّث بمسائل أخرى؟ فهذه المسألة مهمّة، فما حصلنا عليه من هذا البيت لا بدّ أن نعترف أنّه من هذا البيت، لا أن ندّعي أنّه من عند أنفسنا.
لقد كان هناك أحد الأشخاص ـ وهو الآن ليس بيننا ـ حصلت له على أثر الارتباط بالمرحوم العلاّمة حالات ومكاشفات، وكان له مسائل أخرى في ذلك الزمان، وكان يأتي إلى المرحوم العلاّمة وينقل له مكاشفاته. وفي يوم من الأيام كنت قرب مسجد القائم فأخذ بي جانباً وقال لي: لماذا قطع فلان علاقته بالعلاّمة؟ وهل يمكن أن يرى إنسان الشمس ثمّ ينكرها؟! فقلت له: اذهب وتوكّل على الله ولا تدع الأمور تصل إلى هذه الحال؛ فإنّها إذا وصلت يمكن للإنسان أن يرى الحقّ وينكره. وهذا ما حصل بالفعل، وقد جاء هذا الشخص يوماً وحدّثني بكلام فنصحته أن لا يتكلّم به، فهو وإن كان صحيحاً،إلّا أنّ التحدّث به خطأ، وإفشاؤه كشف للسرّ، فليس كلّ ما يعلم يقال، إلاّ أنّه لم يلتفت.
وفي أحد المجالس عناه المرحوم العلاّمة بالكلام ولم يكن هو حاضراً فقال من جملة ما قال رضوان الله عليه: لماذا عندما نقول لك: افعل ذلك العمل لا تفعله؟! وعندما نقول: لا تتكلّم بذلك الكلام فلماذا تتكلّم؟! أفهل ما حصلت عليه من المكاشفات كان من جيبك أنت؟! ألم تكتسبه من هنا؟! فكيف تقوم وتتصرّف به من دون إذن صاحب المنزل؟ ألست تعترف أنّك لم تكن تمتلك ذلك قبل مجيئك إليه؟ فلماذا تتصرّف بدون إجازته؟ هو يقول لك: لا تتصرّف! فماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أنّهم لم يفهموا جيّداً معنى الدعاء: «من أين لي الخير ولا يوجد إلّا من عندك؟».من أين جاء هذا الخير، ومن أين جاءت هذه الحالات التي كانت لهم؟ وهذا يسمّى ادّعاءً،وهذا يسمّى خيانة، خيانة للمولى، والله غيور.. يقول: هذه لي.. كلّ ما هو موجود هو لي.. كلّ عالم الوجود هو ملكي.. أنا مالك جميع الرقاب. الله يقول: إن شتمني عبد من عبيدي فليشتمني، ولكن أن يرى نفسه مالكاً لشيء أو أن يقول لا أريدك فلا !! فليقل: أحبّك، قل: أحبّك لأعلم أنّك تحتفظ فيما بيني وبينك ولو بمقدار رأس إبرة، إذا علمت منك ذلك فلا يهمّني ماذا تقول وتصنع، تطردني خارجاً؟! اطردني! ما يزعجني منك هو ذلك فقط، هذا هو حديث الله مع عباده ـ دعونا نبيّن اليوم ما يزعج الله !!! (ضحك) ـ ليس عند الله أيّ مشكلة مما نقابله به، المهمّ أن يكون واقع حالنا أن يا إلهنا كلّ ما لدينا من خير فهو منك، ولا نملك من أنفسنا شيئاً، حينها يقول لنا: لا بأس، هذا يُصلح منكم ذلك. ولكن إذا قلنا: لا إنّما أنا نلت كلّ ما لديّ، أنا الذي أتيت بالعلم. ماذا كان يقول قارون؟ {إِنَّما أُوتيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدي}۱ ما حصلت عليه إنّما هو بعلمي أنا.
ضرورة الحذر عن الدعاوي وملازمة الإنصاف
بناء على ذلك، على الإنسان في مسير التكامل أن يسعى مهما أمكن أن ينسب الخير إلى الله، وينبغي أن لا نكون عندما ندعو كأولئك الذين يصفهم المرحوم الحدّاد حين يأتون إلى الزيارة فيقولون: اللهمّ أعطنا.. اللهمّ أعطنا الجنّة.. أعطنا علماً.. أعطنا ثواباً.. أعطنا الدنيا.. أعطنا الآخرة... ولا يقول أحدهم: اللهمّ خذ منّا، هل تدرون ماذا تعني عبارة: اللهمّ خذ منّي؟ تعني: إلهي قرّبني من عبوديّتك، بيني وبين العبوديّة فاصلة كبيرة، أنا لا زلت سيّداً. عندما نقول: إلهي أنا لا أملك هذا العلم، عليّ أن أشعر واقعاً بذلك في داخلي، بل حتى لو كان مجازاً فهو حسن؛ فقد كان المرحوم العلّامة يقول: المجاز قنطرة إلى الحقيقة. الآن قلها ولو مجازاً فإنّي أقبلها منك. عندما أقول: إلهي أنا لا أملك علماً عليّ أن أشعر في وجودي بذلك.. إلهي أنا لا كمال لي، عليّ أن أشعر في ذاتي أن لا كمال لي، إلهي لا عزّة لي، عليّ أن أشعر بذلك، إلهي أنا لا قيمة اجتماعيّة لي، وكلّما زاد شعورنا بذلك كلّما اقتربنا خطوة نحو العبوديّة، وأرجعنا الخير إليه.. أرجعناه وأرجعناه حتّى نصل إلى مرحلة ننظر فيها إلى أنفسنا فلا نجد شيئاً.. صفراً محضاً، حينها ندرك كلام المرحوم العلاّمة: أنا صفر أمام الحدّاد.
هل هذا الكلام كان على سبيل الهزل؟ لم يكن العلاّمة يمازح أحداً آنذاك، عندما تكلّم المرحوم العلاّمة بهذا الكلام كنّا نشاهد فيه بعض الحالات، ومع ذلك كان يشعر واقعاً بالعبوديّة أمام السيّد الحدّاد. ويُلاحظ أنّ أمير المؤمنين عليه السلام حينما كان يقول: «ما قلعت باب خيبر بالقدرة البشريّة»، كان يقول واقعاً: «أنا عبد من عبيد محمّدٍ»۱، كان يقولها واقعاً، وواقعاً كان عبداً، وواقعاً كان أمام النبيّ صفراً، والله كان صفراً.. صفراً صفراً. كان أمير المؤمنين صفراً، لم يكن يملك شيئاً، ولأنّه لم يكن مالكاً لشيء صار علياً.. لأنّه كان صفراً صار علّياً، لو كان (واحداً) لما كان علّياً، لكان مالك الأشتر مثلاً، لكان أبا ذرّ.. المقداد.. وكلّ واحد من هؤلاء هو واحد أو اثنان أو ثلاثة... وكلّما تقدّمت أكثر ساءت النتيجة!! بعض الناس مائة!! ما شاء الله!!! بعضهم ألف !!! يتناقص الإنسان ويتناقص إلى أن يصير واحداً ثمّ نصفاً ثمّ صفراً، إذا صار صفراً صار علّياً، فيقول: أنا عبد. العبد لا بدّ أن يكون صفراً، أن يرجع جميع الخيرات إلى أصلها، وهذا هو الطريق!! أنتم الآن اقبلوا منّي هذا الكلام، وإن شاء الله نصل إلى حقيقته فيما بعد، في هذه الدنيا أو فيما بعدها، وحتّى أنا من غير المعلوم أنّي أدرك حقيقة هذا الكلام،و إنّما أنقل لكم ما سمعته!! ولكن في النهاية في ذلك العالم ستكون الأمور واضحة، هناك سيتّضح كيف أنّ علّياً كان صفراً، وكيف كان النبيّ يقول: «الفقر فخري»٢ . أفتخر بكوني فقيراً. ليتني أكون ثريّاً،ليتني أكون كذا وكذا، ولا سمح الله أن أكون غير ذلك.. لا! فالفقر فخري، هذا هو فخري.
هذا المقام هو مقام العبوديّة، هذا هو المقام الذي يجعل الإمام السجّاد يرى نفسه صفراً عندما يقول: «من أين لي الخير؟». والله لقد كان الإمام السجّاد يرى نفسه صفراً عند تلاوته لهذا الدعاء.. يرى أنّه ليس بإمكانه أن يظهر وجوده بمقدار ذرّة في عالم الوجود، ماذا يصنع؟ ليس الأمر بيده، لا يمكنه أن يصنع شيئاً، ولو أمكنه لما صدرت منه تلك الأدعية، ومن أين لي النجاة ولا تستطاع إلا بك؟! لا الذي أحسن استغنى عن عونك ورحمتك... لقد كنّا يوماً في مشهد فقال أحد الإخوان: أنا لا أدري كيف صدرت هذه الأدعيّة عن الإمام السجّاد؟! وهل يعقل أن تصدر عنه على نحو الحقيقة؟! إنّه تفوّه بها من أجلنا فقط. قلت له: لو كانت فقط من أجلنا فما ذلك البكاء؟! فالإمام السجّاد هو ممثّل يؤدّي دوراً في تمثيليّة؟! الإمام يذهب إلى غرفة مستقلّة ويغلق الباب ولا يراه أحد ويشرع بالبكاء، فلماذا يبكي؟
عندما نجد السّيد الحدّاد يقول: عندما أنظر إليك يا رب فأنا من الملوك أرى التاج على رأسي، وعندما أنظر إلى نفسي أكون من الأذلّاء والتراب على رأسي. كان السيّد الحدّاد يقول: عندما أنظر إلى نفسي فالمسألة هي كذلك؛ كان يقول: عندما أنظر إلى عظمته وعزّته أجد نفسي غارقاً في عالم الربوبيّة، ولكن عندما أنظر إلى نفسي يقول: أجدها أدنى من شمر ويزيد، كيف يمكن أن يصدر هذا الكلام عن أمثاله؟! وقد سمعته منه بنفسي، ما معنى النظر إلى النفس؟ إنّه النظر إلى الدنيا، النظر إلى ما يصنع منه الناس دكّاناً لأنفسهم، وما يتنازعون عليه ويضرب بعضهم بعضاً من أجله. هو يقول: أنظر إلى ذلك فأجد المصائب! فما نعطيه نحن القيمة هم يرونه لا قيمة له، بل إنّ ثقافة الأولياء تختلف كلّيّاً عن ثقافتنا ورؤيتنا؛ فهؤلاء يصلون إلى مرحلة العبوديّة المحضة، وإذا وصلوا إلى العبوديّة المحضة صار الخير عندهم بالذات، ذاتهم تتغيّر. النحاس لونه أصفر، لكن صفاره كاذب وعارض يشبه صفار الذهب وليس منه. متى يتبدّل هذا الصفار إلى شيء من ذاتيّات النحاس؟ عندما نضع عليه من الإكسير فيستحيل ذهباً، حينها يصير الصفار ذاتيّاً له.. حينها لا يعود شبيهاً بالذهب وذهباً كاذباً، بل يكون ذهباً حقيقّياً. إذن لا بدّ من الوصول إلى العبوديّة الصرفة، عندما يصل إليها الإنسان تتّضح وتختلف جميع الأمور لديه.
وللموضوع تتمّة سيأتي الإشارة إليها في المجالس اللاحقة إن شاء الله تعالى.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد