المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةرياضة النفس
التوضيح
ماهي حقيقة الرياضة والمجاهدة؟ وهل الأهم فيها المشقة والتعب الجسدي أم أمر آخر! وما هما التفسيران المختلفان لقول النبي "لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله"؟ وهل مراتب المعرفة متساوية أم لا؟ أسئلة أجاب عليها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في هذه المحاضرة، بالإضافة إلى تناوله الأذى الذي تحمّله العظماء من الأئمة والأولياء الذي هو أحد مصاديق الرياضة، وأنّ ما يجري على هذه الأمة هو عين ما جرى على الأمم السابقة تماماً. وذَكر أيضاً كيفيّة الصلاة الحقيقيّة وهل أن الصلاة الظاهريّة تؤثّر؟ ثم تعرّض لكيفيّة إحياء مجالس الإمام الحسين عليه السلام، وأنّ عاشوراء فرصة ومائدة لترقية الروح والفهم والتأمّل لا للصراخ، خاتماً كلامه بتوصيات لخطباء المنبر الحسيني ولكيفية إحياء هذه المناسبة العظيمة.
هو العليم
الرياضة: تنظيم الحياة لرفع الموانع
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ۱٦٣
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسمِ اللَه الرَّحمنِ الرَّحيم
وَصَلَّى اللَه عَلى سَيَّدنا وَحَبيبِنا، أبي القاسِمِ المُصطَفى مُحمَّد
وَعَلى آلِه الأطْيَبينَ الأطهَرين الهُداةِ المَعصومين
لاسِيَّما بقيَّةِ اللَه في الأرَضين، أرواحُنا لِتُراب مقدَمِهِ الفداء
وَاللَعنة عَلى أعدائهم وَمُخالِفيهم ومُنكِري حُقوقِهِم وَفَضائِلِهِم وَمَناقِبِهم
إلَى يوم الدّين
من معاني الرياضة: تنظيم الحياة من أجل الثبات
تعرّضنا في الجلسة السابقة لهذه الفقرة الواردة عن الإمام الصادق عليه السلام حيث يقول:
«أما اللواتي في الرياضة, فإياك أن تأكل ما لا تشتهيه, فإنّه يورث الحماقة والبله»
أي ما دامت شهيّتك ورغبتك للطعام لم تصل لحد ودرجة الحاجة له فلا تأكله.
لقد ذكرنا للإخوة بأنّه سوف يأتي الكلام حول كيفيّة تناول الغذاء وتنظيم المأكل, وتحديد كمّيته وتعيين وقته وموعده, كذلك تحديد الهدف من الأغذية؛ ولكن قبل ذلك ينبغي أن نتعرّض لأصل مسألة الرياضة، فهل هي لازمة وضروريّة أم لا؟ بعضهم يرسلون استفهامات حول ذلك, ويكتبون أو يقولون لي بشكل مباشر: ألا يمكن أن نبلغ تلك المقامات بدون رياضة وبدون تحمّل هذه المشقات؟! فهؤلاء يتصوّرون الرياضة هي مجرّد تحمّل المشقّة, لا ليس الأمر كذلك، بل المقصود منها هو ترتيب الأمور وتنظيمها بحيث يعمل الإنسان برنامجًا؛ ثم يتحرّك على أساس هذا البرنامج ويطبقه؛ ثم لا يدع أحدًا يمنعه من تطبيق هذا البرنامج. وهذا الأمر الثالث هو المهم, وكل شيء يرجع إليه. ففي بعض الأحيان يقوم الإنسان بوضع برنامج لنفسه, وينوي القيام بعدّة مسائل، أو يريد طرح مطلبٍ معيّن أو يُقدم على عمل مشخّص.. ولكن قبل تحقّقه وإنجازه, يعترضه بعض الأشخاص ويبدؤون بالوسوسة له وثنيه وتثبيطه عن ذلك, وقد تصل الأمور إلى حدّ التهديد والمنع.. ولكن لا بدّ للإنسان حينما يشخّص صحّة الطريق أن لا يفكّر بشيء آخر بعد ذلك, فلا يحسب الحسابات. لا أن يفكّر ويحسب حساب للمسائل [الاعتباريّة] ثمّ بعد ذلك يتّخذ القرار، لا.
لا أدري إن كان الأصدقاء يذكرون قصّة كانت قد حدثت سابقاً, حيث كنت قد ذكرتها للإخوة؛ وهي أنّ أحد الأقرباء كان قد أتى إلى منزلنا لتناول الغداء، وكان المرحوم العلامة حاضراً أيضاً، بالإضافة إلى بعض الأقرباء والأرحام. واتّفق آنذاك أن طُرحت مسألة في الأثناء، تعود إلى هذه المسألة بالذات، لا بأس بذكرها الآن للإخوة؛ حيث كنّا جالسين، ودار الكلام حول أنّ الابن إذا أراد أن يدعو والده أو أمّه إلى منزله, فما هو الأسلوب الأفضل للقيام بذلك؟ مثلاً يريد أن يدعوهم إلى مأدبة, فهل يقول لهم: تفضّلوا لتناول الغذاء أو العشاء أو الفطور؟! أو أنّ أصل الدعوة هي أمر خاطئ بالنسبة للأب والأم!
والحقير كان يرى أنّ توجيه الدعوة للوالدين يعدّ إهانة لهما، كأن يقول الابن لأبيه: تفضّل يا والدي في اليوم الفلاني إلى المنزل, فهذا غير مناسب للوالدين.. إلا أنّ رأي أحد الحاضرين في المجلس كان مخالفاً, حيث كان يقول بأنّه كيف يمكن لي إذاً أن أدعوهما؟! فلا بدّ في آخر المطاف من إيجاد عبارة للدعوة، فما هي تلك العبارة؟! يعني لا بدّ أن يصرّح لهما بذلك.. لا بدّ وأن يقول تفضّلوا! فقلت: لا.. بل لدينا الكثير من العبارات التي توصل هذا المعنى، إذ ليس من اللازم أن تستعمل عبارات الدعوة أصلاً. والمرحوم الوالد كان يستمع ويضحك.. إلى أن استطعنا في النهاية أن نتغلّب عليه! وبعد ذلك قال المرحوم العلامة: ما يقوله صحيح؛ فلا ينبغي للابن أن يدعو الأب! فمنزل الابن هو منزل الأب, والأب له ولاية عليه، كما له ولاية على أبنائه أيضاً. والحال أنّ الدعوة تكون للغريب لا لصاحب المنزل, تماماً كما يقوم الإنسان بدعوة صديقه أو أحد الأشخاص الغرباء إلى أحد المجالس أو إلى تناول الغداء. وهذه المسألة أنقلها لكم عن الوالد والتي خطرت ببالي الآن لكي تعلموا أنّ مسألة الأب والأم ليست مزاحاً, وإنّما هي جدّية وواقعيّة إلى هذا الحد.
بعد ذلك سألني المرحوم الوالد ما رأيك في هذه المسألة؟ فقلت: من الجيّد أن يكون بنحو الاطلاع والإبلاغ؛ كأن يقول لوالده: لقد دعونا الأرحام في اليوم الفلاني، فما هو رأيكم! قال نعم هذا جيد! فهو ممّا لا إشكال فيه, وهو جيّد..
اتهام المرحوم العلاّمة بالتصوّف وبيان معنى التصوّف الحقيقي
وعلى كل حال [وهنا موضع الشاهد]كان قد شرّف المرحوم العلامة بالمجيء إلى ذاك المجلس، وكان هناك أحد الأقرباء السببيين، وطرح مسألة أخرى أيضاً؛ وقال بأن وضعنا قد تبدّل، وأحوالنا وميولنا قد تغيّرت, وأصبحتْ علاقتنا بكم واضحة وشاخصةً للجميع وأمام العائلة .. والحال أنّ بعض الأشخاص لم يكونوا على علاقة جيدة بالمرحوم العلامة، بل كانوا ينظرون إليه بوصفه صوفياً! وأعتقد بأني قد ذكرت ذلك في الجزء الأول [من أسرار الملكوت]، وكانوا يرونه من الصوفيين والدراويش! وكان يجيبهم المرحوم الوالد ويقول: إنّ "شوارب" الدرويش طويلة جداً, وللدرويش كشكول وعصاة يحملها، فأين شاربنا نحن وأين الكشكول والعصاة، فشاربهم يصل إلى هنا.. وقد رأيت بنفسي الدراويش ورأيت أحد أقطابهم الذي كان من المعمّمين أيضاً.. لا أدري أين كنا مرة حينما نقلت للإخوة عن أحد أقطاب هذه السلسلة؛ حيث كان شاربه طويلاً إلى هذا الحد! وقد قرأت في أحد كتبه بأنه قد يُعترض علينا بأنّ إطالة الشارب فيه إشكال، ولماذا تطيلون شعركم وشاربكم؟! وأجاب بجواب غير صحيح برأيي حيث كتب: بأنّ الدين لم يرتبط بهذا الشعر.. ونحن أيضاً نجيبهم: بأنّه صحيح أنّ الدين لا يرتبط بالشعر، ولكنكم ربطتم قلبكم ونفسكم بهذا الشارب، فلو قال لا! قل له: اذهب وقصّ شاربك! فلن يقصّه!! فإذن قلبك ونفسك صارت مرتبطة به، نعم الدين لم يرتبط به، والإنسان ينبغي عليه أن يمشي على طبق الشرع؛ فحينما يكون إطالة الشارب مكروهاً كراهة شديدة في الشرع، فلماذا يأتي الإنسان ويخالف هذا الحكم؟! فهل صحيح أن تكون بخصوص هذا الزي وهذا اللباس وهذا الشكل؟! فما معنى ذلك؟ ما الذي تريد أن تثبته للناس؟ أتريد أن تقول لهم أنا درويش؟! إن كنت درويشاً فكن كذلك في باطنك، لا في ظاهرك, وأنا أقول بأنه ينبغي أن يكون الإنسان درويشاً، لكن الدرويش في القلب والباطن، لا في الظاهر! الدرويش هو الذي يخرج من نفسه، هو الذي يشعر بالفقر.. فثوب الفقر الذي كان يلبسه رسول الله صلّى الله عليه وآله ويقول: "الفقر فخري"، اذهب والبس ذاك اللباس، لا أن تأتي وتلبس قبعة كذا، وتحمل عصاة كذا، وأن يكون شكلك كذا.. فأنت بمجرد أن تغيّر في شكلك تكون قد خرجت عن دائرة الدراويش، وصرت من أهل الدنيا، فأهل الدنيا عدة أنواع؛ بعضهم يحلق لحيته بالكامل, وبعضهم يطيل لحيته إلى أن تصل إلى الأقدام.. لكن كلاهما من أهل الدنيا.. يعني يرسلونها بشكل ملفت جداً وغير مألوف ليظهروا لحيتهم للآخرين. ما الذي يريدون إبرازه للآخرين؟! كلّ ذلك خطأ, بل ينبغي أن يبقى الشيء بمقداره وبحدّه, فكلّ ما يجعل الإنسان مهتمّاً بنفسه بدلاً عن الاهتمام بالواقع هو دنيا, مهما كان. فحينما تطيل شاربك خلافاً لما أمرتْ به الروايات, فأنت إنّما تسير وفق ما تمليه نفسك, أتريد [أن تمتثل للروايات] اذهب واحلق شاربيك! عندها ستقول: آه لقد تغيّر شكلي! آه.. آه..، فهذا التعجّب إنما هو لأنك لست درويشاً حقيقياً, بل درويش مزيّف، فالدرويش الحقيقي هو الذي يعمل طبقًا للتكليف وما يؤمر به، هو المتّصل باطنه بالله تعالى, وقلبه منقطع عمّا سوى الله, وحالة الفقر والحاجة مخيّمة على قلبه. وأمّا لو أراد أن يوجّه قلبه نحو الأمور الظاهريّة، ونحو اللباس وكيفية ظهوره الخاص بين الناس، فنفس ذلك يجعله متوجهاً إلى ما سوى الله، وهو انقطاع عن الفقر, وابتعاد عن الممشى والمرام الأصلي. قل لي: هل كان الإمام الصادق يفعل ذلك؟ هل كان يرسل شاربيه؟! أو أمير المؤمنين أو الإمام الرضا؟! أو أنّكم أنتم كذلك؟! وأنتم قمتم بذلك مقابل تلك المدرسة الشامخة, وعرضتم أمراً جديداً مقابل تعاليم المذهب الحنيف. ففي بعض الأحيان لا مشكلة في أن يقوم الإنسان بفعل بعض الأمور التي يراها صحيحة؛ سواء في الزي أو الشكل, بشرط أن لا يكون هناك شيء مخالف له من قبل الشرع, أو من الأئمّة عليهم السلام، هذا لا إشكال فيه. ولكن لو تأمّلنا في هذه المسائل, ولاحظنا عدم الاكتراث بما وردنا من ضوابط وتعاليم عن الأئمّة، نعلم بأنّ جميع ذلك مخالف لمسلك أهل البيت؛ فتطويل الشارب مخالف للسنّة ومخالف للأحاديث الشريفة, وعلى الإنسان أن لا يفعل ذلك, تماماً كما أنّ حلق اللحية مخالف أيضاً، لكن طبعاً حلق اللحية حرام, بينما إرسال الشارب ليس حراماً, وإنّما هو مكروه كراهة شديدة, فعلى الإنسان أن يلتزم بالدستور ويعمل بما قيل له فقط.
وليعلم أنّه كلّما كان العمل مخالفاً لنفسه وهواه، فإنّ مخالفة النفس في عمل واحد أفضل بعشرات ومئات المرات من القيام بالصلوات التي يقوم بها الإنسان عند توجّهه إلى هذه الظواهر.
كيف نصلي حتى يكون لصلاتنا أثر عميق؟
فهل تتصوّرون أنّ القيام بالصلاة كيفما كانت وبأيّة كيفيّة، هي قربان كلّ تقي؟! أفهل تخال نفسك أنّك بهذه الصلاة العاديّة قد وصلت إلى الأعلى وعبرت المراتب؟! لا أبدًا! فالصلاة التي لا توجّه فيها لا تترك هذا الأثر, الصلاة إنّما تكون مؤثّرة فيما لو كانت صادرة على أساس توجّه العبد مقابل ربّه, لا عند توجّه العبد إلى نفسه، فحينما يكون توجّهي مقتصراً إلى نفسي، وصلّيت [فلن يكون هناك أثر]. كذلك حينما أكون متوجّهاً إلى لباسي أثناء الصلاة، أو حينما يكون همّي هو ظاهر القراءة فحسب...
كنت ذات مرّة في أحد المساجد، وكان صوت إمام الجماعة يبث من مكبّر الصوت، فوجدته يهتمّ بكيفيّة مخارج الحروف وضبط القواعد بشكل عجيب وغريب!! مولانا.. هل تقرأ في منزلك بهذا الشكل؟! فحينما تكون في المنزل ولا يكون هناك من يسمعك.. علماً أنّه قد يكون كذلك في منزله.. وذلك من باب التمرين كي يتقن ذلك في الخارج! فما هي هذه الصلاة؟ هي لا شيء! هي مجرّد صورة وشكل واستعراض ظاهري ليس إلا. بل قد يقوم بأكثر من ذلك, بأن يسجّل صوته ثمّ يستمع إليه ويرى كيفيّة أدائه لـ {وَ لاَ الضَّالِّينَ} أو {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ}كي يصحّح القراءة لنفسه ويرفع إشكالاتها فيما بعد! هل هذه هي الصلاة التي يريدها الله؟ جميع ذلك هو نوع من التعلّق بالدنيا, وكلّ ذلك توجّه إلى ما سوى الله, واهتمام بالظواهر, فلا تأثير لجميع ذلك.. فإذا أردتَ أن تصلّي فصلّ بشكل عادي؛ سواء كان هناك أحد يصوّرك أم لا، صلّ فقط! كيف تصلّي في منزلك؟! صلَّ كذلك، ولو وقعت عباءتك عن كتفيك فلا تلتفتْ.. فلتقع العباءة لا ترفعها!! فلا معنى لرفعها وترتيبها وسحبها إلى اليمين واليسار.. الإنسان عندما يصلي، عليه أن لا يتوجّه أثناء صلاته إلى غير الله, ولا يلتفت إلى غير تلك المعاني والمطالب التي يشعر بها أثناء الصلاة, فحينما يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ} عليه أن يقولها من كلّ قلبه وبشكل جاد، فلا يتساهل حينما يتلفّظ بها، ولا يقصد الحكاية والإخبار كما يقول البعض؛ حيث يقولون بأنّه عندما نقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ}، لا نقصد القول ذلك واقعاً، وبالتالي علينا أن نقصد الحكاية والإخبار، وأن نقولها فقط لكوننا مأمورين بها.. كلا هذا خطأ! ولو كان الأمر كذلك لصارت هذه الصلاة عبارة عن صلاة آليّة مثل (الروبوت), بل علينا أن نقصد هذا المعنى بكل ما لدينا من قدرة, نعم نطلب من الله أن يزيدنا في ذلك، لا إشكال حينئذٍ، نقول إلهي لا نستطيع أن نقول إياك نعبد كما يقولها أمير المؤمنين عليه السلام, وواقعاً لا نستطيع أن نقولها كذلك إلى يوم القيامة، لا يمكننا أن نقول إياك نعبد كما يقولها الإمام الصادق عليه السلام, ولكن لا أقلّ فلنحاول تحقيق واحد من مليون منها، نقول إلهي نحن لا يمكننا الآن الإتيان بذلك، لكن نقولها بهذا الشكل على أن تلبسها أنت لباس الحقيقة! يعني علينا أن نتقدّم، وعلينا أن لا نقصّر في إحضار أنفسنا في محضر الله, ولا نقصّر بذلك ولا نقلّل من الاهتمام بذلك, فلا نيأس من حضورنا عند الله ومجيئنا إليه, بل علينا أن نعرف بأنّ الله لطيف بنا، وهو يوفّقنا ويرحمنا، ولذلك أجاز لنا أن نقف الآن أمامه، وأذن لنا أن ندعوه ونصلّي له, ولو شاء لمنعنا من ذلك, فكثير من الأشخاص لم يوفّقوا لأداء هاتين الركعتين اللتين نصليهما، وقد لا يوفّقوا لها أصلا!! فبعد أن وُفّقنا إلى ذلك، فلماذا لا نستفيد بشكل أكبر من هذه السُفرة المبسوطة, ولا ننتفع منها بأحسن وجه؟!
لماذا يوصينا العلماء بأنّه: حينما تشرعون بالصلاة عليكم أن تؤدّوا هذه المعاني بشكل واقعي وحقيقي, حتى يشعر الإنسان بالاتصال بملكوت هذه الألفاظ, ويتّصل باطنه ومثاله بمفاهيمها، وبما هو أعلى من المثال والصورة، فهناك أعلى من المثال أيضاً! أي عندما تتّصل بما هو أعلى من المثال وهو المفاهيم ومعاني هذه الكلمات، عليك أن لا تقف عندها، بل ادخل إلى عمق ذلك, اقترب أكثر.
افرضوا أنّنا أثناء صلاتنا التي نصلّيها, نوحي لأنفسنا أنّنا لا نفهم شيئاً, فحينما نقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ} نقول في أنفسنا: نحن لا نفهم معنى الحمد!! وكذلك عند قولنا: {الرَّحْمنِ الرَّحيمِ } نحن لا نفهم معنى ذلك كما يفهمه الآخرون، ثم حين قولنا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ} فنحن الآن على الصراط المستقيم، فلا معنى للهداية الآن، فبعد أن هُدينا إلى طريق التشيّع فلا يبقى أمامنا شيء لنهتدي إليه! كذلك {صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} حيث نقصد من هذه العبارات: اللهمّ اجعلنا من أولئك الذين أنعمت عليهم.. فلو صلّينا بدلا من الأربع ركعات أربعين ركعة لن نحصل على فائدة أبداً، فأيّة نتيجة نحصدها من هذه الصلاة؟! وأيّة حالة حصلنا عليها من هذا الفعل؟! ما هو التغيير الذي حصل لأنفسنا بعد الصلاة؟! ألم يردنا أنّه: راقب نفسك بعد الصلاة, فإن شعرتَ بتبدّل حالك فاشكر الله, وإلا فاعلم أنّ هذه الصلاة التي صلّيتها إنّما قمت بها من باب العادة ليس إلا! ألم يقولوا لنا ذلك؟! وعليه فهل هذه هي الصلاة التي تبلغ بالإنسان المراتب العالية؟! يعني هل من الجيّد أن نتلفّظ بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمينَ} لمجرّد الاقتداء والتأسّ بالنّبي, دون أن نفهم المعنى الذي كان يفهمه النبي؟! فنقرأها فقط كي لا تبطل الصلاة، هل هذا جيّد؟! يعني لأنّ النبيّ كان يقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} نحن نقول ذلك أيضاً، وبما أنّه يقول {الْحَمْدُ لِلَّهِ} فنحن نكرّر ذلك أيضاً، وحينما يقول: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} فنحن نقولها أيضاً.. الطفل يقولها كذلك، والمسجّلة تقولها كذلك!! والقرص يقول ذلك، كما أقولها أنا! فهذا المسجّل الذي يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} هل يفهم ما يتفوّه به؟! هل يعقل ما يقوله؟! هل يدرك معنى العبودية، أو عندما يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} هل يفهم معنى الحمد ومعنى الشكر؟! ماذا يفهم، لو كرّرها مائة مرّة فهو ما زال من حديد وبلاستيك.. فهو هو.. صحيح؟!
فحينما قيل لنا صلوا! فما هي هذه الصلاة؟! أتصوّر أنّ الإخوة بدأوا يفهمون ما نروم إليه، فالأولياء حينما يقولون: حينما تصلّي عليك أن تفهم تلك المعاني على نحو الإنشاء, تماماً كأنّ هذه الصلاة نازلة عليك أنت, وكأنّك الآن كُلّفتَ بها من الله بشكل مباشر, وكأنّ سورة الحمد قد نزلت الآن على قلبك وأمرك الله بأن تتلوها في الصلاة وتخاطب الله بها، وكأنّ الله يقول لك: ما أنزلته عليك وعلّمتك إياه, عليك أن تتلوه في الصلاة، أنا الذي علّمتك أن تقول {الْحَمْدُ لِلَّهِ}.. فهل يحسن أن تقول: أنا لا أعرف ذلك، أنا الذي علمتك أن تقول {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعينُ} ثم تأتي وتقول أنا لا أقدر على ذلك؟! أنا الذي علّمتك كيف يمكن أن تجعل نفسك في طريق الهداية؛ {صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}.. نَعَم هديتني الصراط المستقيم، لكن هبني الاستمرار والمتابعة عليه، ولا تجعلني أنحرف إلى هذا الطرف وذاك الطرف؛ لذا على الإنسان أن يدعو الله بشكل دائم، وأن يطلب منه ذلك دائماً، فهل الصلاة هي مجرّد الإتيان الظاهري بهاتين الركعتين ليرتفع التكليف وينتهي الأمر؟! لا، الصلاة هي دعاء والتماس وطلب، بأن يقول: إلهي اجعلني في طريق العارفين بك؛ {صِراطَ الَّذينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من هم الذين أنعمت عليهم؟ الجواب ما ورد في الرواية الصحيحة عن الرسول الأكرم هو صراط علي؛ وشيعة عليّ, شيعة علي هم سلمان وأبو ذر والمقداد وهؤلاء.. ندعو الله أنْ يجعلنا في زمرتهم, فهل نحن واقعاً في طريق سلمان؟ هل نحن نتحرّك ونسير إلى الله من ذاك الأفق العالي؟ هل أفكارنا هي بذاك الأفق؟ فإذا أتى سلمان وجلس معنا الآن في هذا اليوم يوم الجمعة وتحدّث إلينا، ألا يضحك علينا ويتعجّب منا!! والحال أنّه هو شيعي ونحن شيعة أيضاً, فلو سألنا عن كيفيّة توحيدنا ومعرفتنا للإمام..
بساطة تصوّرنا لمقام الولاية وتفسير السيّد الحدّاد لحديث لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان
يا عزيزي! جاء سلمان وتكلّم كلمتين مع أبي ذر، فلم يتحمّل! فقام وذهب إلى النبيّ وقال له: انظر ماذا يتكلّم سلمان؟! فقال النبيّ لسلمان: يا سلمان! عليك بمداراة أبي ذر، فهو لا يتحمّل! هذا مع كون أبي ذر في ذاك المقام الرفيع، وقد قال فيه النبي: "لو علم أبو ذر ما في قلب سلمان لقتله أو كفّره"۱.. فلو علم أبو ذر بما هو موجود في قلب سلمان وبأفكاره وبمرتبته، وباعتقاداته..
هل تصوّرتم ذلك؟ فكل ما جاء في الدين والمعاد والمبدأ والولاية.. نعلمها كلّها، فهل هناك شيء آخر؟! ومع ذلك إذا عرفنا ما في قلب أبي ذر لفعلنا به نفس الأمر، فما الذي نعرفه نحن؟! ماذا نعرف عن الولاية؟! ما الذي نعرفه نحن عن حقيقة الإمام عليه السلام؟! ما الذي نعرفه عن كيفيّة الربط والحقيقة الربطيّة؟! فنحن بعد مضي سبعين سنة من عمرنا, نأتي ونقول: الإمام كان يشتبه.. ومطالب الإمام وعلومه مخالفة للحقائق العلميّة التي ثبتت!! أليس ذلك مضحكاً؟! واقعاً أليس ذلك مضحكاً؟ وهذه المسألة ليست مختصة بنا، بل هي جارية على جميع الناس! حسناً، كنت أنوي أن أذكر هذه المسألة في آخر الكلام, ولكن الظاهر أنّ الآن جاء وقتها.. في يوم من الأيّام جاء شخص لزيارة المرحوم الوالد, حيث كنا قد تشرّفنا بزيارة مشهد, فجاء أحد العلماء الكبار, وقد توفي الآن وانتقل إلى رحمة الله, وطرح ضمن كلامه مسألة ولاية الإمام عليه السلام, حيث بدأ الكلام حول ولاية الفقيه, وبعد ذلك انتقل الكلام إلى ولاية الإمام, وكان يرى أنّ أحد إنجازاته العلميّة التي توصّل إليها بعد الكثير من التحقيقات والدراسات هي: أنّه لو أمر الإمام عليه السلام شخصاً بطلاق زوجته، مثلاً, فهذا يجعله ساقطاً من رتبة الإمامة, ولا ينبغي بعد ذلك أن يُلتفت إليه. يعني لو أتى الآن صاحب الزمان عجّل الله فرجه, وقال لأحد الأشخاص: ليس من الصلاح أن تستمر حياتك مع زوجتك، بل عليك أن تترك زوجتك من الآن، فما إن يتفوّه الإمام بهذه الكلمة, فذلك يدلّ ـ بحسب اعتقاد هذا الشخص ـ على أنّه ليس إماماً!! لماذا؟ لأنّه أمر بما هو خلاف للشرع! فبقاء حياتنا الأسريّة بيدنا نحن, والشرع قد فوّض ذلك إلينا, وهي بإرادتنا واختيارنا نحن, فهل يقدر الإمام على الحكم بما هو مخالف للشرع؟ بل أصل الإمامة إنما هي لأجل العمل بما يوافق الشرع، فلو تكلّم الإمام بكلام مخالف للشرع، فكيف سيكون كلامه حجّة، والحال أنّ حجيّة كلام الإمام عليه السلام إنّما ثبتت بالشرع؟ هكذا كان يقول.. والمرحوم الوالد كان ينظر إليه ويضحك! يعني ماذا يقول له أصلاً!؟ لا أنّه كان يضحك بحيث يظن ذاك أنّ كلامه صحيح. فبعض الأحيان يضحك الإنسان من باب الاستهزاء, وبعض الأحيان يضحك لأنّ كلام الطرف المقابل مضحك واقعاً.. فبعد سبعين سنة، نعم خمس وسبعين سنة من الدراسة وقراءة الأحاديث و... يأتي ويقول: إذا جاء الإمام وقال كذا وكذا فهو ساقط عن مقام ورتبة الإمامة.. هل هذا هو ميزان معرفتنا بالإمام عليه السلام!؟ فلو يتذكّر الإخوان أنّنا تعرّضنا إلى ذلك في المجلد الأول أو الثاني من أسرار الملكوت.. صحيح. واقعاً إذا أتى سلمان وجلس أمامنا, وشرعنا نحن ببيان عقائدنا ومعتقداتنا, ألا يضحك سلمان منا؟! حسناً.. فلو أتى سلمان وعرض علينا بعض تلك المطالب التي هي في ذهنه وفي قلبه, تلك المسائل التي توصّل إليها وبلغ حقيقتها, لا التي سمعها من النبي وأمير المؤمنين كرواية عنهم، بل تلك التي وصل إليها هو، فما هو حالنا لو سمعنا هذه المسائل؟! أذكر لكم ذلك لتعلموا بأنّ هذه الرواية لها معنى آخر غير المعنى المشهور بين العوام، فالمعنى المعروف بين الناس هو أنه: لو علم أبو ذرّ بما في قلب سلمان، فبما أنّه لا يتحمّل إدراك هذا المطلب, إما أن يقول له صرت كافراً؛ تماماً كما قال ذاك الشخص: لو تكلّم إمام الزمان بهذا الكلام، فهو ساقط عن رتبة الإمامة! ماذا يعني ذلك؟ يعني تكفيره، فأنت تكلّمت بكلام مخالف للشرع، تكلّمت بخلاف نصّ القرآن الصريح، وبخلاف ضرورة الدين.. ومن يتكلّم كلاماً أو يعمل عملاً مخالفاً للضرورة يخرج عن الإسلام، هذا هو معنى كفّره. أو قتله، بمعنى أن يصدّر حكماً بارتداده، والمرتد حكمه الإعدام، فيقوم بقتله فوراً؛ لأنّه خرج عن الإسلام وتكلّم بأمر مخالف للتوحيد ومخالف للوحدة؛ فقد تكلم بوحدة الوجود, وهي باطلة كافر صاحبها [هكذا يدّعي الظاهريّون] فسلمان كافر يجب قتله.. هذا هو المعنى الأوّل.
والمعنى الثاني: لقد فسّر المرحوم السيد الحداد رضوان الله عليه الرواية بمعنى آخر، خذوا رأيه من التوضيح التالي: لو جاء سلمان وجلس هنا في هذا المجلس, وشرع بإلقاء مطلب أو سرٍّ من أسراره، والحال أنّ إدراكه خارج عن سعتي, فحيث أنّي أعتمد على سلمان, وأعرف أنّه لا يتكلّم كلاماً جزافاً؛ فهنا إمّا أن يسقط اعتمادي عليه! تماماً مثل ذاك الشخص الذي حكم على الإمام بخروجه عن رتبة الإمامة؛ لأنّه خالف ما في ذهنه وما هو مرتكز عنده؛ إذ كثيراً ما يفترض الإنسان شيئاً صحيحاً ويبني عليه سائر الأمور [لكنه في الواقع يكون خطأ]، فهل الشرع الذي بين أيدينا الآن متطابق مع الشرع الواقعي، وهل هو الدين الحقيقي؟ وهل هذه المعارف التي بأيدينا هي معارف واقعيّة وحقيقيّة؟ فمن يعتقد بأنّ الإمام عليه السلام لا يعلم بما يجري خلف هذا الحائط.. فهل اعتقاده ذلك صحيح؟! ومن يعتقد بأنّ الإمام لا يمكنه أن يلتقط بعوضة تطير في الهواء!! هل هذا دين واقعي؟! وذاك الذي يكتب كتاباً ليثبت فيه أنّ الإمام يشتبه كسائر الأفراد, فهل ذلك دين واقعي؟! ومن يعتقد بأن معنى الطهارة الواردة في الآية الكريمة {إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً} (جزء من الآية ٣٣ من سورة الأحزاب) ـ والتي هي بمعنى أن مشيئة الله وإرادته قد تعلّقت بالطهارة المطلقة بأهل البيت، بحيث لا يبقى أي نّقص أو شين في وجودهم المبارك, وثبتت لهم العصمة المطلقة في مرحلة لا يبقى في الوجود إلا الله, في تلك المرتبة، أي في مرتبة أعلى من مقام الإخلاص وانطباق العمل مع مقام الرضا الإلهي, حتى يصير فيها فعل الإنسان عين فعل الله, هذا هو مقام الطهارة ـ والحال أنّ بعضهم يقول بأن الإرادة في الآية {إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهيراً} هي الإرادة التشريعيّة فقط لا غير، يعني الهداية والبيان، بمعنى أنّ الله يقول يا رسول الله ويا أصحاب الكساء ويا أئمة ويا جميع الناس: سنبيّن لكم الهداية، وإرادتنا التشريعيّة تبتني على أن تصلوا إلى هذا المقام؛ فإن عملتم وصلتم إلى مراتب القرب، وإن لم تعملوا فلا، فالأمر بيدكم أنتم، ولا دخل لي أنا بذلك. يا عزيزي! إن كان معنى هذه الآية ذلك، فهذا الأمر متحقّق للجميع، حتّى ليزيد وللشمر, فلماذا اختصّت الآية الكريمة بهؤلاء الخمسة فقط؟! ولو كان الأمر كما تقول، فسوف يلزم عن ذلك هذا اللازم الباطل، وهو أنّه ليس لله إرادة بالنسبة إلى سائر الناس، فبمجرّد أنّ هؤلاء الناس الذين أتوا إلى هذه الدنيا ليسوا من الأئمة وغير داخلين تحت هذه السلسلة، فليس لله إرادة في أن يصلوا إلى الطهارة والكمال، بل ينبغي أن يبقوا في ظلمتهم وكما هم.. ومن الواضح عدم صحته! فهل هذا الدين دين واقعي، وهل هذه الشريعة صحيحة؟ أم أنّها شريعة مجعولة ومبتدعة!! فلو واجهنا مثل هذه المسائل, وجاءنا سلمان وطرح علينا واحدة من العقائد المتحقّقة والكامنة في قلبه, فكيف نواجه ذلك وماذا نعلّق؟ فنحن الآن في يوم الجمعة, فلو جاء سلمان وتكلّم معنا, وطرح مسألة معيّنة, فأنا لا أعرف ماذا سيتكلّم.. فلو شرع بالإفصاح عن بعض المطالب التي لا نتوقعها، والتي لا تنسجم مع تخيّلنا وقوانا المثالية وطبعنا, بحيث لا نقدر على إدراكها، وعندئذٍ سوف نحكم عليه بأحد أمرين: إما أن نسقطه عن مرتبة العدالة, ونحكم عليه بالجنون أو الخبل أو البلاهة.. وإما أن نحكم عليه بالارتداد!! نعم نقول له: أنت مرتدّ وأمرك قد افتضح!! فنتّهمه ونقوم فوراً بضرب عنقه وقتله! هذا معنى لقتله.. أي يقتله, وهو المعنى العامي والشائع, لا مراد السيّد الحداد رضوان الله عليه. أو أن لا نقتله، بل نحيل أمره إلى القضاء ونرفع عليه دعوى قضائيّة، فلا نوجع رأسنا به وبقتله، بل نوكله إلى المراجع القانونية والحقوقية لينظروا فيه ويصدروا حكمهم عليه، لكن على الأقل نحن نكفّره.. وهذا هو المعنى الأوّل.
إلاّ أنّ السيد الحداد كان يرى أنّ أمامنا معنيين في هذه الرواية؛ فإمّا يكون معناها أنّا نكفّره لأنّ ما يقوله لا يطابق مدركاتنا ولا يندرج تحتها, وهذا هو دأبنا دائماً؛ فبدلاً من أنْ نرفع أنفسنا ونخضعها لتلك المرتبة من المعرفة التي تلقى علينا، نقوم بتغليب مرتبتنا الفعليّة ونسقط تلك المرتبة التي هو فيها، وبالتالي نكفّره.. وهذا ما يحصل عادة معنا, فكيف نتعامل عادة مع الكتب التي نقرؤها أو المطالب التي نسمعها؟ فهل نتعامل معها بعين الإنصاف؟! هل نواجهها بعين التحقيق والدراسة؟! أم أنّنا ما إنْ نرى أنّ المعنى المنقول مخالف لمدركاتنا حتى نقول بأنه كذب وافتراء، ولا نقول لأنفسنا: قد يكون ما قاله صحيحاً، وبما أنّه يحتمل صحّة كلامه فلا بدّ أن نرى لماذا قال ذلك؟! ما هي المسألة! فبدلاً من إتعاب أنفسنا، وبدلاً من الارتقاء بعلومنا، وهذه مصيبتنا ومصيبة مجتمعنا، إذ لا نريد أن نرفع مجتمعنا ونطوّره، بل نقول فلنبق هنا، ويقال لنا يا عزيزي هناك مراتب أعلى من هذه بدرجات، فنقول: لا بل نبقى هنا، نريد أن يبقى فكرنا في هذا المستوى، وذهننا في هذه الحدود، فنقول: نحن لا نريد أكثر من هذا أساساً، بل أريد أن لا تتكلم أصلاً، ولا أريد أن أسمع كلامك، أريد أن أبقى في هذه الحدود، هذه هي مصيبتنا! والحال أنّ شيعة أمير المؤمنين لا يوقفون أنفسهم في حدّ معيّن، ولا ينزلون الآخرين بدلاً من الارتقاء إليهم، ولا يستبدلون ارتقاءهم الروحي بإسقاط الآخرين.. أمّا نحن فلسنا كذلك، بل ما إن نواجه مطلباً لا يتوافق مع مزاجنا أو نرى أمراً أو نسمع شيئاً.. حتّى نقول هذا يكذب، هذا لا يفهم! هذا جاهل، هذا مخطئ، فإذا أردنا أن نحسن الظن به نقول: لقد اشتبه! عجيب!! فقد نكون نحن المشتبهين في هذه المسألة! لكننا لا نقول ذلك، عجيب قد نكون نحن الذين اشتبهنا، فلنرى ما هي حقيقة المسألة، إلى الآن كانت المسألة تعرض علينا بهذا الشكل، وهذا الذي نسمعه أمر جديد! فلنرى هل المسألة صحيحة وواقعيّة أم لا، فإن كانت واقعيّة علينا أن نذهب ونصلح أنفسنا، لكننا لا نقول ذلك، بل سريعاً نقول: هذا كذب!
من معاني الرياضة: رفع الموانع النفسيّة من الوصول، شواهد من "كربلاء" و"الجمل"
وهذه هي حقيقة الرياضة التي كنّا نتكلّم عنها, فهي تعني أن يعمد الإنسان أثناء مواجهته للحقائق المختلفة إلى تلك الأغطية والستائر التي أحاطت بنفسه بسبب تجاربه الاجتماعيّة والفرديّة وعلاقاته العائليّة وشؤونه الشخصية.. يعمد إلى تلك الستائر ويرفعها ولا يجعلها مانعاً له من الوصول إلى الحق تعالى! هذه هي الرياضة، أصل الرياضة ولبّها هو هذا, وليست الرياضة بتقليل الطعام أو عدم تناوله.. ولا بالاعتزال في الغار، ولا القيام بالمسائل الشاقّة وما شابه ذلك.. ليست الرياضة بذلك، الرياضة المستفادة من لسان الأئمّة عليهم السلام هي أن لا يرى الإنسان نفسه عند مواجهته للمسائل الواقعيّة مقيّداً؛ فالله خلقك حرّاً طليقاً. ماذا يقول سيّد الشهداء عليه السلام، يقول: "لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حرّاً"۱, فلماذا جعلت نفسك وضيعاً؟! ولماذا أنزلت نفسك من ذاك المقام الذيٍ يغبطك عليه الملائكة.. لماذا حرمت نفسك من ذاك المقام وأهبطتها إلى حضيض الاتباع لأسوأ شخص في عالم الدنيا! لماذا؟! الإمام هذا الذي يريد أن يقوله لنا، وهذا الذي تريد عاشوراء أن تقوله لنا. يريد أن يقول: أنا الإمام الحسين ابن رسول الله مع ما لديّ من المقام أضع نفسي تحت سلطة يزيد؟! يزيد هذا اللاعب بالكلاب، واللاعب بالقمار والشطرنج!! آتي وأقبل بخلافتك؛ ليصير أمرك أمري ونهيك نهيي!! أيّة مصيبة هي تلك.. نعوذ بالله.. أيّة مصيبة هي هذه المصيبة.. أقول له حكمك حكمي.. فهذا هو معنى البيعة، فعندما أرسل يزيد رسالته إلى الوليد واليه على المدينة, ذكر له في الرسالة ضرورة أخذ البيعة من الحسين بن عليّ على هذا الأساس: على أن يكون أمره أمري, ونهيه نهيي, وكلّ ما يريد أن يقوم به ويعمله عليه أن يقوم به من خلالي أنا، عليه أن يطيعني في كلّ ما أقوله له: قمْ يقوم.. اقعد يقعد.. فإنْ بايع على هذا الأساس فبها, وإلا فابعث إليّ برأسه!! حسناً, هل يقبل الإمام الحسين بتلك البيعة؟! فهذان اليومان اللذان يقضيهما الإنسان في هذه الدنيا هل يستحقّان أن نُمضي مثل هذه البيعة؟!
لا تكن عبدَ غيرك, أيّة عبوديّة هي؟! عبوديّة لحاكم لا يتورّع عن أيّة جناية في هذه الدنيا في سبيل البلوغ إلى الحكومة والرياسة.. يقول له: عليك أن تأتي وتبايعه، عليك أن توقّع أسفل هذا الكتاب وتمضي جميع ما فيه، فقد جعلك الله عبداً لي, فأنا فوق الطبيعة، أنا فوق العوالم.. أنا في أفق أعلى من عالم الإمكان وعالم التقيّد.. أقول لكم تعالوا إليّ، وعندما تأتون إليّ فعندئذٍ افتخروا وتعزّزوا بي! يقول الناس: لا بل تعالوا إلى جلساتنا وتشرّفوا بمجلسنا، لا تذهبوا إلى مجلس آخر، تعالوا إلى مجلسنا المقام للعزاء، فبدلاً من الذهاب إلى جلسة الجمعة أقول لكم تعالوا إلى هنا، فبذلك تصير الحشود غفيرة ويزداد عدد الأحذية [خارج المجلس]، ويكتظّ الشارع بالسيارات التي تتوقف في الخارج ليُعرف كثرة الحضور، لا عزيزي! كلّ ذلك دعوة إلى الذات والأنا. هذا لا يختلف عن كونه تصنّعاً وفيلماً ومسرحيّةً تمثيليّة، لا فرق بين عرض فيلم أو المجيء إلى هنا؛ فحينما تكون النيّة من هذا القبيل لا يختلف الحال, الذي يختلف هو صورة المسألة، أما أصل المسألة فلا تختلف أبداً.
ما يجري على أمة الإسلام هو عين ما جرى على الأمم السابقة ومحاربة عائشة لأمير المؤمنين
ألم يقل النبيّ: كلّ ما وقع في الأمم السابقة فسوف يحصل لأمّتي طابق النعل بالنعل.. فلو وضعنا النعلين بجانب بعضهما فما الفرق بينهما؟ لا فرق سوى أن إحداهما يمين والأخرى يسار، وفي القديم كانوا يصنعون النعلين على قالب واحد تماماً, دون فرق بين اليمين واليسار منهما حتّى ولا ميلاً واحداً.. فانحناؤهما واحد وتدويرهما واحد وشكلهما واحد وجنسهما واحد ووزنهما واحد.. يعني تجدهما متّفقين تماماً.. والقذّة بالقذّة, وهي السهام التي يصنعونها للحرب, فهي على وزان ونسق واحد؛ بحيث أنك إذا أخذت واحداً منها ووضعته بقرب الآخر لا تجد فرقاً بينهما أبداً. فالنبيّ يقول: الامتحانات التي وقعت لتلك الأمم سوف تبتلى بها أمّتي بعينها دون أيّ تفاوت.. فبعد وفاة النبي موسى, كان أوّل من قام ضدّ وصيّه هي زوجته, حيث شرعت بجمع الناس وتجييشهم, مستفيدة من موقعيّتها كزوجة للنبيّ موسى, ولا بدّ أنّها ترقّت في ليلة واحدة عدة درجات، إذ لم يكن هناك جندي ولا ضابط، حيث ادّعت كونها القائد الأعلى للقوات المسلّحة!! فقادتْ جيش بني إسرائيل والأقباط وتحرّكت نحو وصيّ النبيّ موسى لتأخذ الحكومة من يده.. وعملت على إرسال الرسائل إلى هذا وذاك، وإلى هنا وهناك.. ووقفت في وجه وصي النبي موسى، فكم من الدماء أراقت!! إلى أنْ تغلّب عليها وصيّ النبيّ موسى وأسرها, ثمّ أطلقها لحرمة النبي موسى، وقال لها حسابك على الله. هذا الأمر بنفسه جرى بعد النبيّ صلى الله عليه وآله, حيث ثارت القائد الأعلى لقيادة الجيش عائشة!! (لا تقولوا الضابط، فهي كانت أعلى من الضابط، فزوجة النبي ينبغي أن لا توصف بهذه الأوصاف العادية، لا أعرف هل هناك عبارة أرفع من القائد الأعلى) حيث جاء إلى جناب القائد الأعلى للقوات المسلحة عائشة أمثال طلحة والزبير، فقالت ما شاء الله.. تعالوا انظروا لقد وقع ما كنا نحذر، فهذا عليّ أصبح خليفة للنبيّ!!
تلك التي كانت تقول: اقتلوا عثمان؛ لأنّه قطع عطاءها من بيت المال أو قلّله، وكانت تروح وتأتي وتقول: اقتلوا نعثلاً فقد كفر!! حيث كانت تشبّهه بشخص يهوديّ أعرج، ولهذا كان يقال لعثمان بأنه أعرج. تلك التي كانت تقول ذلك، أتت الآن وبدأت بتحريك الناس بقولها: إن علي بن أبي طالب هو الذي قتل عثمان، وأنّ عثمان قُتل بتحريض من علي.. بدأت بالكذب والخداع، إذ لا يمكنها المضي بسلوك طريق الحق، ولا يمكنها أن تحارب علياً من طريق الصدق؛ لأن علياً هو الصدق المجسّم، والصدق لا يقاتل الصدق، والصفاء لا يحارب الصفاء, فالذي يقابل الشيء هو خلافه. أمير المؤمنين عليه السلام صدقٌ فما يقابله هو الكذب, هذا هو المعيار, الذي يخالف الصفاء هو الاحتيال والنفاق, وخلاف الصدق هو التلاعب والكذب, لذلك شرعوا بالاحتيال وكيل التهم على أمير المؤمنين؛ بأنّ عليّاً قتل عثمان!! فيجب أن يقتل به.. وكتبت الكتب في ذلك؛ من عائشة أمّ المؤمنين زوجة رسول الله إلى فلان... فحينما كانت الرسالة تصل إلى شخص من الأشخاص كان يهتزّ لذلك، فهذه زوجة النبي ترسل له رسالة! وهذا الأحمق.. بدلاً من أن يذهب ويحقّق في الأمر, كان فوراً يحترق قلبه ويرقّ لكلامها ويبدأ بتجييش عشيرته ويشرع بالتجهّز للحرب.. نعم هناك بعض الأشخاص كانوا يجيبونها بأن ارجعي إلى منزلك وقري فيه، فقد كان مثل هؤلاء موجودًا أيضاً.. ففي النهاية هذا أمير المؤمنين، وينبغي أن يحصل امتحان، ويخضع الجميع له، فكل من يدّعي ينبغي أن يخضع للامتحان؛ حيث أعد الله لهم الضابط عائشة ـ عفواً القائد الأعلى عائشة!! ـ ولكن في ذاك الجانب أمير المؤمنين, فيقفان وجهاً لوجه, وبذلك يبدأ الامتحان للأمّة.. فانقسم الجميع صفين: صفّ وقف فيه أهل الكذب والخديعة وأهل الدنيا والذين لا يتحمّلون عليّ المرتضى، والصف الآخر ـ وهم على مراتب أيضاً ـ وقف فيه عمّار ومقداد وحذيفة وحبيب وحجر بن عديّ وأمثالهم... بهذا الشكل على اختلاف مراتبهم في الطرفين..
فجاءت وحاربت, ومهما سعى أمير المؤمنين أن يمنع من وقوع هذه الحرب، ما كانت لتسمع أو تُصغي.. حتّى أرسل إليها أخاها محمّد بن أبي بكر لينصحها, لعلّها تسمع منه وترجع.. فطردته من خيمتها.. إلا أنّه أبلغ في نصيحتها وقال لها: ليت أمّك لم تلدك!! لقد سوّدت وجه الإسلام, وألبست بيت النبوّة العار, فقد شاهد الناس خروجك بينهم، والحال أنك مشمولة للآية الكريمة: { يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ... * وَ قَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى}۱ يا نساء النبيّ! لستنّ كسائر النساء الأخريات!! أنتنّ منتسبات إلى شخص النبيّ.. فهل عرفتم من أنتن؟! فلستنّ كسائر النساء العاديّات.. {وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى} ؛ فلا تخرجْن إلى هنا وهناك.. {وَ قَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى} احفظوا حرمة رسول الله.. فهل حفظتم حرمة رسول الله؟! فهل يمكنها أن تدّعي أمام أخيها بأنّ عليّاً قتل عثماناً؟! لا تقدر أن تقول ذلك لأخيها؛ لأنّ المسألة واضحة عنده, نعم تستطيع أن تدّعي ذلك أمام الناس البسيطين والعامّيين الذي لا يفهمون, وأمّا أخوها فلا تقدر أن تتلاعب به وتخدعه!! هنا تفصح عن مكنون منوياتها وتظهر حقيقة أمرها في كونها تريد الحكومة لها دون عليّ!! لذلك بعد أن رجع أخوها وأخبر أمير المؤمنين, قال له عليّ: حسناً.. ما دام الأمر كذلك فلا مناص من المواجهة.
شرعت الحرب وبدأ النزال, وسقط العديد من القتلى من الطرفين, ثمّ انتصر أمير المؤمنين ووقعت عائشة أسيرة, فجاؤوا بها إلى أمير المؤمنين, ماذا صنع؟ هل أعدمها؟ هل اقتصّ منها؟ هل سلب عن رأسها الخمار كي يراها الجميع ويروا ما الذي فعلته؟! لو كنّا نحن آنذاك لفعلنا ذلك بها.. ولكن أمير المؤمنين تذكّر النبي مباشرة، فهو لم يكن ينظر إلى عائشة أصلاً, بل كان ينظر إلى النبي، ولم يكن ينظر إلى ما فعلته واقترفته، فما فعلته أتت به وانتهى.. لكن المهمّ عنده هو النبيّ فحسب.. المهمّ هو حرمة النبيّ.. المهمّ هو حفظ مرتبة النبي.. فهناك فارق كبير بين عليّ وبين أولئك الذين جاؤوا بعد وفاة النبيّ إلى دار الزهراء وأضرموا النيران فيها.. هناك فرق كبير وشاسع، هذا هو عليّ اللائق للخلافة.. هذا هو عليّ الذي يستحقّ الحكومة.. ماذا قال أمير المؤمنين حينئذ؟ قال: وأمّا عائشة فقد أدركها ضعف عقل النساء... فلها بعد ذلك حرمتها الأولى والحساب على الله يعفو عمّن يشاء ويعذّب من يشاء.. ۱أصلاً حينما يقرأ الإنسان هذه العبارات يقشعرّ بدنه!! فماذا كان هذا الرجل؟! وأيّ إنسان هو ومن أيّ أفق ينظر إلى الأمور؟! يقول: إنّ عائشة قد فعلت فعلتها, وأتعبتنا وأرهقتنا، وأدّى فعلها إلى قتل المؤمنين.. فقد استشهد بعض أصحاب أمير المؤمنين الخواصّ في هذه الحرب.. كلّ ذلك مسؤوليّة من؟ كلّ ذلك على عهدة عائشة.. ففي حرب الجمل كان قد استشهد العديد من خواصّ أصحاب الإمام.. ونتيجة لهذه الحرب وقعت حرب صفين بعد ذلك!! ولكن أمير المؤمنين لم يكن لينظر إلى كلّ ذلك.. لا ينظر إلى الجراحات التي أصابته.. فالحرب ليست قطعة حلوى!! وأمير المؤمنين لم يكن مثل من يأمر بالحرب وهو جالس في منزله ومأمنه!! بل كان دائماً في الصفّ الأوّل من الجهاد, كان أقرب إلى العدوّ من الجميع.. وكان يحمل سيفه بيده ويركب على البغل ـ لا على الفرس ـ كي لا يقول أحدهم عليّ يركب الفرس!!
تذكرت الآن أمراً، لا بأس بذكره لكم؛ كنّا ذات يوم مع المرحوم العلّامة قبل ثلاث سنوات من وفاته, فذهبنا إلى خارج مشهد لمدة أسبوع أو أسبوعين، إذ كان يعاني من مشكلات صحيّة فأوصاه الأطباء بالخروج من مشهد، فذهبنا إلى بلدة أَخْلَمَتْ، وكان يمارس رياضة المشي هناك. وفي ليلة من الليالي فُتحَ موضوع وهو: لماذا كان أمير المؤمنين يركب بغلة؟ وكنت قد قرأت في الكتب بأن بغلة الإمام كانت قويّة جداً، فقلت له: كانت بغلته مختلفة عن سائر البغال، حيث كانت قويّة! فقال: لا.. إنّما كان ذلك لأجل التواضع! فهذا أمير المؤمنين الذي كان قائد الجيش، كان يضع نفسه في مرتبة أدنى من الآخرين في الميدان! ثم قال هذه الجملة: ما الذي لم يفعله جدنا!! هذه الجملة ينبغي أن يفكر الإنسان بها جيداً، ويضعها نصب عينيه! واقعاً هكذا كان أمير المؤمنين.. هل ترك خيراً لم يفعله!! فنحن الآن بعد ألف وأربعمائة سنة نريد أن نبلغ رتبة الفهم.. نريد أن لا نكون كالبهائم صمّ بكم.. فبمن علينا أن نقتدي؟! نريد أن نكون بشراً مستقيمين.. ما الذي فعله أمير المؤمنين؟! ماذا فعل في معركة الجمل؟!
بحسب ما ينقل لنا التاريخ أنّه كان قد أصيب سلام الله عليه بعشرات الجراح.. هو لم يكن في الصف الأخير، ولم يكن من الذين يأمرون الناس بالقتال وهم بعيدون.. كان قد أصيب بعشرات الجراح؛ إذ كان بدنه ينزف دماً حينما وقف أمام عائشة بعد أنْ وقعت في الأسر!! فقال لها: هل رأيت نتائج فعلتك؟ انظري إلى هنا وهناك!! فسكتت وطأطأت رأسها إلى الأرض.. ثمّ قال عليه السلام: وأمّا عائشة فقد أدركها ضعف عقل النساء.. ولها بعد ذلك حرمتها الأولى.. يعني أن الحرمة التي كانت لها في زمن رسول الله لا زالت موجودة، والحساب على الله!! وهذه الجملة الأخيرة تهز الإنسان هزاً، وقوله: لها حرمتها الأولى, لا تبلغ رتبة قوله: والحساب على الله يعني: إنّ الله هو الذي يحاسب وليس عليّاً!! فأنا إنّما قمت بتكليفي ووظيفتي، ووصلت إلى هنا، ومن الآن فصاعداً ليس الأمر لي، فالله يقول: يا عليّ! عليك أن تغض النظر عن فعل عائشة, انتهى الأمر! يا علي: لقد أوصلت الأمور إلى هنا، وعليك أن لا تتخطّى ذلك, يا عليّ! قد قمتَ بوظيفتك, ومن الآن فصاعداً عليك أن تترك الأمر إلينا. نحن نقول بأنّ رسول الله محترم, ويجب أن يكون لزوجته احترامها, وليس عليك أن تحاسبها على خطئها.. والحساب على الله؛ يعفو عمّن يشاء ويعذّب من يشاء..
لذلك أصدر أمير المؤمنين أمراً لعشرين امرأة أن يتلثّمن ويلبسن لباس الرجال ويحملن السيوف, دون علم عائشة بالمسألة.. فجئن وكأنهنّ رجال ملثّمون, وأخذن عائشة من البصرة إلى المدينة؛ أي مائتي فرسخ؛ كي لا يتعرّض لها أحد في الطريق.. فلم يتركها ترجع لوحدها!! بل أرجعها محفوظة ومعزّزة مكرّمة حتّى وصلت إلى المدينة.. وكانت طوال الطريق تقول: انظروا ماذا فعل عليّ!! انظروا ما الذي فعله بي!! أرسلني مع عشرين رجل غير ذي محرم.. هذا الكلام على ماذا يدلّ؟ يدلّ على أنّها لا تزال في هواها وهوسها، فشرعت بالكيل على أمير المؤمنين وقالت: انظروا ما الذي فعله عليّ بي!! أهكذا يتعامل مع زوجة النبيّ؟ أليست زوجة النبي معززة ومحترمة؟!
لو كنت محترمة وعزيزة, هل كان لك أن تفعلي ما فعلتيه؟! وحينما أوصلنها إلى المدينة, نزعنَ النقاب عن وجوههنّ.. فيا للدهشة!! ليس لهنّ شوارب ولا لحى.. حينئذ طأطأت رأسها مرة أخرى.. صحيح؟! هذا هو فعل أمير المؤمنين..۱
افرضوا أنّ سلماناً أتى ونقل لنا بعض هذه المطالب ومن هذا الأفق.. فإمّا أنْ تغلب علينا نفسنا فنشرع بتكفيره ونقول له: أنت كافر, ورأينا هو الصحيح، أنت مرتدّ ونحن الصواب، فنكفّره بسرعة.. نعم قد لا نضرب عنقه.. فذاك مسؤوليّة كبيرة, ولكن على الأقل نكفّره فهذا أمر سهل!!
وإما أنْ نعجز عن إنكار ما يأتي به؛ لأنّه سلمان!! ولا نقدر على القول بأنه أخطأ.. فألف رحمة بذلك.. فهذا سلمان الذي كان النبيّ يمدحه، كذلك أمير المؤمنين، وهناك حكايات ومسائل تنقل عنه.. فلا نقدر على تكفيره, فقد عاشرناه سنين، ورأينا صدقه وديانته، وعرفنا أن دينه وعلمه ومعرفته كانت في أعلى المراتب.. لكنه الآن بدأ يتكلّم بهذه الأمور التي لا تدخل عقولنا ولا تهضمها حلومنا!! فمن جهة لا نقدر على تكفيره، ومن جهة أخرى لا نستطيع أن ندرك كلامه الصادق، فهنا تقع المصادمة الحادّة في أنفسنا, حيث إنّنا عاجزون عن إدراك عمق كلامه بسبب ضعفنا وعدم قدرتنا على الفهم والاستيعاب, فما الذي يحصل حينئذ؟ يشرع الإنسان بالتساؤل ما هذا الكلام؟ وما يعني ذلك؟ ويبدأ بالتفكير، والحال أنّ سعتنا وظرفيتنا لا تقدر على فهم المطلب.. وذلك ما يؤدّي إلى تدميرنا نهائياً.. هذا ما يعنيه قوله: لقتله!! أي لقتل أبا ذر بكلامه.. لا قتله أبو ذر بالسيف، وذلك بسبب عدم تمكّنه من الإدراك وعدم تمكّنه من تكفير سلمان.. لذا سيؤدّي ذلك إلى صدمة في نفسه تقتله.. هل رأيتم كم هو هذا التفسير الذي ذكره السيد الحداد عميق؟ بالطبع من الناحية الفنّية والأصولية والفقهية هذا المعنى هو المعنى الصحيح.. لا المعنى الأوّل.
لو اطّلع أبو ذرّ على ما في قلب سلمان لقتله هذا الاطلاع والعلم. إذ لا ينبغي له أن يعلم؛ لأنّه بمجرّد أن يعلم ويطّلع على ما في قلب سلمان فسوف يموت ويفقد عقله.. وسيصيبه ألف بلاء ومرض، لماذا؟ لأنّه يثق بسلمان أشدّ الثقة، وهذه الثقة والتصديق هما اللتان ستقتلانه، أو يفقد هذه الثقة ويخسرها ويتخلّى عنها, وعندها يصدق عليه أنّه "كفّره", وبطبيعة الحال، فالمسألة ضمن هذا الشقّ الثاني أوضح وأسهل.
صور من التهم الموجّهة إلى أهل الحقّ وثباتهم أمامها
كان ذاك الشخص [المذكور في بداية المحاضرة] يتحدّث مع المرحوم الوالد ويشتكي قائلاً (سيّدنا، لقد سلكت هذا الطريق، واطّلع الأفراد من حولي على ذلك، وعرفوا أنّني مرتبط بسماحتكم، فلا شك في أنّهم يتكلمون ويعترضون عليكم)، وهكذا هو الأمر دائماً، وهكذا كان الأمر من الأول، حيث كانوا يرسلون إلى [المرحوم العلامة] رسائل ويتكلّمون عليه بالكثير من الانتقادات اللاذعة، فلم يكن أحد يمتلك الجرأة لمواجهته بكلامه، بل كان يرسل له رسالة.. [ثم قال له ذلك الرجل:] فهل علينا أن نجيبهم، أو نبقى ساكتين؟ أو نعمل عملاً ما؟ فما هو رأيكم في التصرّف مع أمثال هؤلاء؟؟ فأجابه: يا عزيزي، عندما ذهبنا لتحصيل العلوم الدينيّة، كانوا يسمعوننا أكثر من هذه الكلمات؛ فتارة يقولون عنّي بأنّني درويش، وأخرى ينعتونني بالصوفيّ، وتارةً يتهمونني بالانحراف عن مدرسة أهل البيت عليهم السلام، بل إنّهم منعوا الأفراد من السلام علينا، وقطعوا علاقتنا بالذين كنّا على ارتباط بهم؛ ولكنّنا رددنا عليهم بشيء واحد؛ وهو أننا وضعنا في أذنينا قطعة كبيرة من القطن! بحيث لم نكن لنسمح بدخول ذلك الكلام إليها أصلاً، حتى نفكر فيه !!)
ما معنى ذلك؟ إنّها الحريّة.. نعم هذه هي الحريّة.. هذه هي الرياضة، فالرياضة هي أن يمشي الإنسان في طريقه دون الالتفات يميناً وشمالاً، سواء أَمدحه الناس أم ذمّوه، هذه هي الرياضة.. أعجبهم منهجه وأثنوا عليه، أم لم يعجبهم واعترضوا عليه وقالوا: ما هذا الطريق، وما هذه الأفكار الخاصّة، وما هذا المنهج والمسلك الخاص المختلف عن الآخرين؟! وأمثال ذلك من الخزعبلات، التي بحمد الله تظهر بين الحين والآخر!!
ينبغي للإنسان أن يتّبع طريق أهل البيت عليهم السلام فحسب، ولا يتخطّاه ولو بمقدار رأس إبرة، فحتى لو انتقده جاره ـ مثلاً ـ في غيبته، فلينتقده حتى يتعب!! وليأت قريبه وليتكلّم حتى يكلّ!! لقد انتقدوا العظماء والأولياء وتكلّموا عليهم واغتابوهم كثيراً؛ تكلموا على المرحوم الأنصاري رضوان الله عليه في غيبته، وكذلك كالوا التهم والانتقادات العجيبة للمرحوم السيد القاضي، وكذلك فعلوا مع الآخوند ملا حسينقلي الهمدانيّ، كذلك فعلوا مع العلاّمة الطباطبائي رضوان الله عليهم أجمعين... لقد كان الحقير في محضر العلامة الطباطبائي عندما وصلته رسالة مكتوبة من أحد الأشخاص في قم مليئة بالانتقاد والذمّ بشكل عجيب.. العلامة الطباطبائي كان شخصية عظيمة.
المرحوم الوالد.. اتهموه في أحد الكتب ـ الذي لا يزال مؤلفه حياً ـ بأنّه من العرفاء الكذّابين!! لقد اعتبر المرحومَ الوالد وأستاذه من ضمن العرفاء الكاذبين!! والحال أنّ السيّد الوالد كان شخصيّة قال فيها المرحوم آية الله السيد أحمد الخوانساري لي ـ وأنا أشهد بقوله هذا ـ بأن والدكم من مفاخر عالم التشيّع!! ثمّ يأتي هؤلاء ليجعلوه من ضمن العرفاء الكذابين!! فليقولوا ما يريدون! ما المشكلة في ذلك؟! فهذه هي الرياضة، الرياضة أن تمضي في طريقك وتغمض عينيك وتسدّ أذنيك عمّا يقوله الآخرون.
ألم يقولوا أمثال ذلك عن أمير المؤمنين؟؟ ألم يتّهموا الإمام الحسن، والإمام الصادق عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين؟ ألم نقرأ في كتب التاريخ أنهم أعطَوا سمرة بن جندب أربعمائة ألف مثقال من الفضّة كي يصعد على المنبر ويقول إنّ عليّاً هو أشقى الناس، وأنّ قوله تعالى {وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ}۱ قد نزل في عليّ، فصعد على المنبر أمام المئات من الناس وقال لهم: لقد سمعت رسول الله بأذنيّ هاتين يقول إنّ هذه الآية قد نزلت في عليّ. بينما ادّعى أنّ الآية الكريمة من قوله تعالى {وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْري نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ} ٢والتي نزلت واقعاً في أمير المؤمنين عليه السلام ليلة المبيت في فراش النبي ليحول دون قتله من قبل المشركين.. ادّعى أنّها نزلت في حقّ ابن ملجم!!
لقد أعطوه أربعمائة ألف مثقال.. لقد أنفقوا الكثير من هذه الأموال لتحقيق هدفهم والوصول إلى مرادهم، لكن ذلك ذهب وانتهى.. فقد أنفقوا في هذا الاتجاه حتى أنه حينما وصل خبر شهادة أمير المؤمنين في المحراب إلى أهل الشام تعجّبوا وقالوا: وهل كان عليّ يصلّي؟! إنّ هذا الكلام عجيب جدّا!! إذ كيف يمكن أن يقوموا بغسل عقول أمّة بأكملها؟! وهل هذا الذي في رؤوس هؤلاء عقل أصلاً؟ بل يوجد في رؤوسهم تبن أو حجارة.. كانوا يتساءلون بينهم: كيف قتل عليٌّ أثناء الصلاة؟ وهل كان عليّ يصلّي أصلاً حتى يقتل أثناء الصلاة؟! من الواضح أنّهم لم يتمكنّوا من إخفاء أمر قتل أمير المؤمنين واستشهاده في المحراب؛ فقد شاهد الجميع ذلك.. لقد لعبوا بعقول الناس حتى قلبوا اعتقادهم وصار عندهم الأسود أبيضاً والأبيض أسوداً. هكذا زيّفوا المسألة أمام الناس؛ ولكن ماذا فعل أمير المؤمنين؟ لقد مضى في طريقه مستقيماً وبكل ثباتٍ وصلابة دون أن يتأثّر.
لقد بقي المطلب الذي أردنا توضيحه غير تامّ، وإن شاء الله سيأتي توضيحه في فرصة أخرى وفي جلسة أخرى.
كيف كان العرفاء يحيون عاشوراء ؟
نحن في أيّام شهر محرّم الحرام، وقد أردتُ في الجلسة الماضية أن أبيّن بعض المسائل للإخوة الأعزّاء بشكل مجمل، ولكن لم يكن وضعي يسمح بذلك، ولذا أودّ الآن أن أذكِّر الإخوة بهذه النكات، مع أنّني متأكّد أنّهم ملتفتون إلى ما يخصّ أيّام العزاء في شهري محرّم وصفر، ولكنني سأذكرها من باب {وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنينَ}، ومن الجيّد أن يتذكّر الإنسان هذه الأمور، ويتبّع الطريق الذي سلكه الأولياء العظام.. فهم قد سلكوا هذا الطريق ووصلوا، لا أنهم ذهبوا ولم يصلوا!! لقد ذهبوا ووصلوا.
في أيام محرم وصفر، لم يكن دأب العرفاء الإلهيين والعرفاء بالله والأولياء الإلهيين, منصبّاً على مجرّد إحياء الشعائر فقط، بل كان جلّ اهتمامهم في أيّام عزاء سيّد الشهداء عليه السلام هو الاغتنام والاستفادة!! ما معنى ذلك؟ يعني كما أنّ الله سبحانه قد بسط سفرة نورانيّة في شهر رجب، وكذلك بسط سفرة نورانية في شهر رمضان دعانا إلى ضيافته فيها، فكذلك كان سيّد الشهداء، لذا يجب على الناس أن يأتوا وينهلوا من هذه السفرة، ويتزوّدوا منها، ويعمد الإنسان إلى تلك الأمور النفسيّة التي لديه والتي لا يمكن أن تتغيّر وتتبّدل في غير هذا الوقت من الأوقات العادية، ويسعى لتغييرها في هذا الوقت. وهذا أمر عجيب! فما قام به سيّد الشهداء ليس مسألة عاديّة، ولا ينبغي للإنسان أن ينظر إليها كما ينظر إلى الأحداث اليوميّة التي تمرّ عليه، ولا ينبغي أن يقصُر نظره على مجرّد إقامة مراسم العزاء فقط، بل ينبغي أن يضع نفسه داخل حادثة عاشوراء، وعليه أن يحاول ـ بأقصى ما يستطيع وإلى الحدّ الذي يسمح به فكره وباطنه ـ أن يشارك بنفسه في هذه القضيّة؛ فلا ينبغي لنا أن نذهب إلى مجلس العزاء بنيّة أننا سنُؤجر على ذلك ونثاب فحسب، فمن يفعل ذلك يحصل على الأجر والثواب، ولكنّه أجر قليل بالنسبة لذاك؛ فلا نذهب لكوننا نريد أنْ نحافظ على إقامة هذه المجالس فقط.. هذا جيد، لكنّه جيد للعوام، فلا يذهب إلى مجالس عزاء الإمام الحسين عليه السلام لتغيير حالته فقط، بل ينبغي أن نذهب بهذه النيّة وهي أنّنا نريد أن نكون في هذا المجلس مع سيّد الشهداء، فنحن نريد أن نكون ضمن أولئك الأفراد الذين بقوا معه في الخيمة ليلة عاشوراء.. بهذه النيّة ينبغي الذهاب، لا بنية أننا أقمنا مجلساً وحصلنا على ثواب، لا بنية أننا قمنا بإحياء الشعائر فحسب.. صحيح أنّ الأئمّة عليهم السلام قد أمرونا بحفظ ذكرهم، ولكن كيف نحفظ ذكرهم؟ إنّما نحفظه بأن نغيّر أنفسنا ونصلح أحوالنا، لا بمجرّد المشاركة في المجالس والصراخ والعويل!
لقد كنت أشاهد أحوال المرحوم الوالد والعظماء ـ وأنا هنا أدعو أولئك الذين يزعمون في كلامهم وكتابتهم أنّ أولياء الله ليس لهم ارتباط بالأئمّة.. أدعوهم أن يأتوا ويسمعوا هذا الكلام ـ فقد كان المرحوم السيّد الحدّاد يأمر الأفراد الحاضرين عنده في العشرة الأولى من محرم أن يقرؤوا زيارة عاشوراء بعد صلاة الصبح.. وكنت أشاهد حالات المرحوم الحدّاد في وقت الصلاة ووقت التشهّد وغيرها من الأعمال، حيث كان يقرأ سورة يس بعد الصلاة كل يوم، وبعدها التعقيبات، ثم يطوي سجّادته. وكانت حالته عجيبة عند الصلاة وعند قراءة سورة يس بشكل خاص، لكن حينما كانت تُقرأ زيارة عاشوراء فإنّ أحواله كانت تتبدّل بشكل مختلف؛ فكان يضع نفسه في واقعة كربلاء، وكان ذلك واضحاً من وجناته، لا أنّه كان يحزن ويبكي و... كلاّ، وقد ذكر المرحوم الوالد ذلك في الروح المجرّد.. كنا نشعر بأنّه كان يضع نفسه إلى جانب سيّد الشهداء عليه السلام، وكأنّه كان معه يوم عاشوراء، بحيث يقرأ الزيارة حضوريّاً هناك، في ذلك المكان والزمان الذي وقعت فيه المصيبة.
وقد نقل لنا المرحوم الوالد أمراً آخر ـ اسمعوا ذلك أيضاً ـ يقول: لا أنّا كنا نحسّ بذلك فقط في يوم عاشوراء، بل عندما كنّا نذهب مع المرحوم الحدّاد وبعض الأصدقاء لزيارة الإمام الحسين عليه السلام، وندخل الحرم، كان السيّد الحداد يطلب من أحد الأشخاص أن يقرأ الزيارة؛ يقول السيّد الوالد: عندما كان يشرع بقراءة الزيارة، كانت تتملّكنا حالة عجيبة، بحيث لم نكن لنقدر أن نصحّح لهذا القارئ اشتباهاته في القراءة (كما لو قرأ الفتحة ضمةً مثلاً)؛ وذلك لأنّه قد تملّكنا حال لم نعد نرى فيه غير سيّد الشهداء عليه السلام، ولم نكن لنقوى على الالتفات إلى غيره! إذ لم يكن هناك غيره!
هكذا يجب أن نذهب لزيارة سيد الشهداء، وهذه المسألة سامية جداً، تأملوا فيما ذكرته لكم، هكذا ينبغي أن نحضر في مجالس سيد الشهداء، فسيد الشهداء يحضر في مجالس العزاء التي تقام له، طبعاً لا في تلك المجالس التي تقام للسمعة والتظاهر ولفت الأنظار، فسيّد الشهداء ليس فقط لا يحضر في تلك المجالس، بل هو يفرّ منها.. سيّد الشهداء إنما يحضر في المجالس التي تقام على أساس الإخلاص، لا مجالس الرياء والتظاهر؛ إذ لا يضع سيد الشهداء ولا أبو الفضل قدميهما في مجالس الرياء والتظاهر، بل في خصوص المجلس الذي فيه إخلاص.. لذا علينا أولاً أن نحقّق الإخلاص في نفوسنا، ونوجد الصدق والصفاء والطهارة في قلوبنا، ونزِن أنفسنا من هذا الموقع، وعند ذلك سوف نرى النتيجة بأنفسنا. عندما نستمع لعزاء سيّد الشهداء ينبغي علينا أن نستحضر أثناء المجلس أنّنا في يوم عاشوراء، وننظر في أعماق وجداننا ونفوسنا بأننا لو كنّا في كربلاء ماذا سنفعل؟! هل سنكون في جيش يزيد أم في جيش الإمام الحسين؟ وإذا رأينا ضعفاً في أنفسنا وتراجعاً عن ذلك، فلنتوجّه إليه عليه السلام طالبين منه العون والمدد، وأن يأخذ بأيدينا ويساعدنا. فبدل الصراخ والعويل نستحضر مفاهيم العزاء والمطالب التي ألقيت ونطبّقها على أنفسنا، وإذا شعرنا عند استماعنا لعزاء سيّد الشهداء برغبة في البكاء فلا نمنع أنفسنا من البكاء أبداً، بل يجب أن نبكي ونتفاعل، ولكن لا بشكل صراخ ولا تمثيل وتظاهر! فلماذا نقوم بتخريب أجواء المجلس وحاله؟! فعندما يقول الإمام الصادق عليه السلام : اللهمّ ارحم هذه الصيحات والعبرات التي كانت لمصابنا، فإنّه لا يقصد البكاء والصراخ المتصنّع والتظاهر أمام هذا وذاك؛ أنْ انظروا ما أعلى الصرخة التي أُطلقُها أنا!! بل المقصود هو تلك العبرة والصرخة التلقائية النابعة من القلب، فالبكاء المطلوب هو الذي يكون نابعاً من القلب ودون تصنّع، لا أن يفتعل الإنسان الصراخ حتى يكاد السقف أن يخرّ على الرؤوس بسببه! لا، فهذا لا نفع فيه، بل إنّه يذهب بأجواء المجلس وروحانيّته، ويحوّله إلى مسرح وتمثيليّة. ومن ناحية أخرى, على الخطيب الذي يتعرّض لذكر أهل البيت عليهم السلام أن يشرح حالات سيد الشهداء، وأن يبيّن كلمات الإمام الحسين سلام الله عليه التي قالها, لا أن يكتفي بعرض كيفيّة استشهاد الإمام عليه السلام، فهذا وحده لا فائدة فيه، عليه أن يركّز على أحوال الإمام وتصرفاته ومواقفه وظرائف كلامه، فإنّ التوجّه إلى هذه الظرائف هو الذي يجعل الإنسان يلتفت إلى تلك الحالة. وإلاّ فمجرّد الحديث عن الضرب بالسيوف ووقوع السهام والسقوط على الأرض و.. ليس فيه عظيم فائدة، بل المهم كيف حصل ذلك وكيف كانت أحواله وأوضاعه؟!
كان المرحوم القاضي رضوان الله عليه يقول ـ وذلك نقلاً عمّا سمعته بنفسي من المرحوم السيد الحداد ـ : لقد بتّ في كل شبرٍ وشبرٍ في صحن حرم سيّد الشهداء عليه السلام. فلِمَاذا فعل ذلك؟ لأنّه كان لديه مطالب وحاجات يريدها من الإمام الحسين؟! فهو ليس مثلنا عاطلاً عن العمل!! بل كان لديه عمل مع الإمام، ولديه أسرار معه، ولديه كلام معه، ولديه معاملة معه، يريد أن يستفيد منه، وأن يضع حاجته عنده.. يقول: أنا لست بحاجة إلى أن أذهب إلى هنا وهناك لأنام.. بل سآتي للنوم على هذه الأحجار، التفتّم؟ لقد كان السيد علي القاضي يعلم أشياءً ويفهم أموراً بحيث كانت هي التي تقضي له حوائجه. من هنا ينبغي أن تكون مجالس عزاء سيّد الشهداء حاوية على الإدراك والفهم. ويجب أن تكون مجالس الإمام الحسين ذات طابع واحد، لا اختلاف فيه، لا أن تجلس مجموعة على أطراف المجلس متَّكئين أو على الكراسي، والبقية جالسون في وسط المجلس. أو عندما يُشرع باللطم تقوم مجموعة باللطم والبقية جلوس! لا.. بل ينبغي أن تكون مجالس الإمام الحسين على نسق واحد, فيجلس الجميع مع بعضهم البعض ـ فما المانع أن يجلس فلان بجانبك؟! هل يختلف دمهم عنك؟! ـ وإذا وقفوا للَطم الصدور فينبغي أن يقف الجميع، لا أن يجلس البعض ويقف البعض الآخر، فهذا التقسيم إهانة لمجلس سيّد الشهداء عليه السلام! وليس مناسباً ولا صحيحاً! يجب أن يجلس الجميع على الأرض، وأن ينهض الجميع للطم أو يجلسوا جميعاً.
وهذه القاعدة تنطبق أيضاً حتّى على المعمّمين والفضلاء؛ انظروا إلى جلستنا هذه التي نحن فيها، فما أكثر المعمّمين والفضلاء والعلماء، والحال أنّ أكثرهم قد جلس في وسط المجلس لا متكئاً على الحائط. كان المرحوم الوالد يقول: إنّ الفرق بين مجلسنا ومجالس الآخرين هو أنّ مجلسنا لا فرق فيه بين المعمّمين وغير المعمّمين، فإذا جاء المعمّم ووجد مكاناً يتكئ فيه جلس, وإلاّ فإنه يجلس في الوسط مثل الأفراد الآخرين. وكنّا نذهب معه إلى المجالس فيتصرّف بهذا الشكل.. أذكر أنّني ذهبت مع السيّد الوالد يوماً إلى مجلس فاتحة بوفاة السيد الحكيم في المسجد الجامع في سوق طهران، وعندما دخلنا لم يكن هناك مكان في المجلس يتّكأ فيه، فذهبنا إلى الوسط وجلسنا، وكلانا كان معمّماً، جلسنا في الوسط، ولم يقم أحد من الحاضرين بدعوتنا إلى الاتكاء، فجلسنا في الوسط حتى انتهى المجلس، ثمّ غادرنا.. هل التفتّم؟
فهل يجب أن نبقى واقفين ونلتفت يمينا وشمالاً وننظر حتى يوسّعوا لنا مكاناً لكي نجلس في الأطراف و..! ما هذا الكلام؟ إنّ هذا الكلام يذهب بحال الإنسان ونيّته، وينقص من مرتبته التي ينبغي أن يكون عليها، ويتنازل بها حتى تصبح أعماله مجرّد أعمال وحركات ظاهريّة ويحوّلها إلى عادة خالية من أيّ روح. أمّا بالنسبة للمواكب والمسيرات المقامة لأجل الإمام الحسين عليه السلام، فعزف الموسيقى فيها حرام.. الموسيقى وقرع الطبول والأبواق كلّها مخالفة لرضا الله سبحانه ولرضا سيّد الشهداء عليه السلام، فلماذا نقرع الطبول والأبواق؟ لا يوجد مثل هذه الأمور عندنا. بل ينبغي أن تكون المسيرات والمواكب باللطم والضرب بالزنجير، ولا مانع منه، ويمكن أن تكون المسيرات بدون لطم أيضاً، ويتم فيها إطلاق الشعارات.. تلك الشعارات الواقعية التي تحيي القلوب.. وتبعث الحياة والحرّية في النفوس، لا تلك العبارات التي لا تحمل معنىً عميقاً، بل ينبغي استخدام العبارات التي تبيّن هدف الإمام عليه السلام، وتوضّح مباني مدرسته، وتقلب حال الإنسان رأساً على عقب وتغيّر أحواله، فمثل هذه العبارات والشعارات هي التي ينبغي إطلاقها وترديدها، لا تلك الشعارات والعبارات التي تؤدّي إلى تقليل احترام أهل بيت النبوة، من قبيل ما نسمعه هذه الأيّام : (.. خرجت زينب بلا ستر ولا غطاء..) وما شابه ذلك، فما هذا العزاء؟! بل ينبغي أن يكون العزاء بعبارات تبيّن هدف الإمام وتتماشى مع مدرسة الإمام، وما أجمل أن يستفاد من عبارات سيّد الشهداء التي تكتب على اللوحات ويتمّ استخدامها في العزاء والشعارات.
فلو أراد الإنسان أن يشارك في مسيرات سيد الشهداء في خصوص هذه المرتبة، لبقي فيها ولم يتطوّر، ويكون قد أبقى نفسه في هذه الحدود، لكنّه إذا وضع هذه المطالب جانباً وأتى بكلمات العظماء وكلمات الأئمة، فكلماتهم ليست ككلامنا، حديثهم يختلف عن حديثنا، فكلامهم يتنزّل من النفس القدسيّة ويجري على نفس الإمام عليه السلام، ذاك الكلام يضعه بين أيدينا ويبيّنه لنا. فما أجمل أن يقوم الإنسان باتّخاذها شعاراً له، وما أعظم الفرق بين مثل هذا الشعار وذلك الشعار الخالي من أيّ محتوى.. الناشئ من مستوى متدنّي مليءٍ بالإحساسات، لا من العقلانية والفهم والإدراك السليم. على كل حال، ينبغي لمن يذهب إلى مجلس الإمام الحسين عليه السلام، أن يذهب بكامل الاحترام والتعزيز، وأن يكون على وضوء وطهارة، وينبغي له أن يغتسل ويتنظّف ويلبس أنظف الثياب، لا ثياباً تسبّب أذيّة الآخرين، بل يجب أن تكون ثيابه نظيفة (قد غُسلت في ذلك اليوم أو الذي قبله) ثمّ يأتي بهذا الحال ليشارك في مجلس العزاء. وليعلم الإخوة الأعزاء أنّ التأثير الحاصل من الجلسات التي تقام بين الطلوعين أعظم من التأثير الحاصل في الأوقات الأخرى، لا أقول إنّ التأثير منعدم في الأوقات الأخرى، ولا أقول إنّ المجالس لا ينبغي أن تقام في الأوقات الأخرى كالعصر أو الليل، بل على العكس، لا مشكلة في إقامتها أبداً، إذ قد لا يتمكّن بعض الأفراد من الحضور في المجالس الصباحيّة، فيمكنهم أن يذهبوا إلى مجلسٍ أقيم عصراً أو مساءً، أو قد يكون هناك مجلس فيه خلوص، فيذهب ويستفيد منه.. ففي النهاية هو مجلس لسيد الشهداء.. ولكن السيد الوالد كان يقول: اعرفوا أهميّة الجلسات التي بين الطلوعين، فالتأثير الحاصل منها هو أعظم بكثير وكثير من تأثير سواها، خصوصاً إذا علمنا أنّ الملائكة تكتب رزق الإنسان المعنوي بين الطلوعين.
كان المرحوم الحدّاد يقول لنا: إنّ الملائكة يقسّمون رزق الإنسان المعنويّ في كلّ يوم بين الطلوعين، ومن هنا نفهم لماذا أوصونا بضرورة البقاء مستيقظين بين الطلوعين؛ فالشخص الذي ينام بين الطلوعين، ليس له رزق معنويّ لذلك اليوم؛ فهو يصلّي لكنّ صلاته لا رزق فيها.. وكذلك إذا قرأ القرآن فهو بدون رزق.. وبدون فائدة. وأمّا من يبقى مستيقظاً بين الطلوعين وفي حالة من التوجّه، فإنّ صلاته ستكون مختلفة، ودعاءه مختلف.. وزيارته التي يقرؤها مختلفة، فالاختلاف إنما هو لأجل ذلك.
على كل حال، هذان الشهران محترمان جداً، وينبغي على الرفقاء فيهما أن لا يُحضروا الحلوى والمكسرات إلى بيوتهم، ولو جاءهم ضيف فليقدّموا له الفاكهة فقط، ويوكلوا تلك الأمور إلى ما بعد هذين الشهرين. وينبغي وضع شعارات سيد الشهداء في المنزل، ونصب الأعلام واللوحات السوداء؛ بحيث يظهر بوضوح أنّ حال شيعة أمير المؤمنين تتغيّر وتختلف في هذه الأيّام، لا نقول إنّ علينا أن نملأ البيت كلّه بالسواد بحيث يخاف الأطفال.. فهذا أيضاً خطأ، إذ لكلّ شيء حدّ مناسب يجب الوقوف عنده، بل المطلوب إظهار حالة الحزن والتأثّر في المنزل، ومن الأفضل أن تحوي هذه اللوحات على الأشعار والأذكار والبيانات التي قالها سيّد الشهداء نفسه، ولا ينبغي أن تكون هذه اللوحات ذات ألوان متعدّدة مبهجة ـ كما نرى مؤخراً ـ فهذا النوع من اللوحات غير متناسب مع المصيبة، ومن الممكن أن يشدّ ذهن الإنسان إليها ويصرفه عن المصيبة.. كلاّ ! بل ينبغي أن تكون اللوحات بسيطة ونظيفة ومرتّبة.
كانت هذه بعض الملاحظات التي أحببت أن أذكرها للرفقاء الأعزّاء، ولعلّ الله سبحانه يوفقنا لبيان بعض المسائل الأخرى في فرصة ثانية إن شاء الله.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لأعلى مراتب الاستفادة من هذه الأيّام، وأن يرفع مستوى فهمنا وإدراكنا لأهل بيت العصمة عليهم السلام، وأن يزيد من توفيقنا لأداء تكاليفنا.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.