المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالولاية والهداية
التوضيح
يعتقد البعض أن طريق السير و السلوك هو طريق مبهم و معقد، و أنّه يخالف طريق العقلانية و اتباع الحق. فهل هذا الاعتقاد صحيح؟ فما هي حقيقة السير و السلوك إلى الله و ما هو معناه ؟ و ما هو منهج الأولياء في دعوتهم إلى الله و تربية التلاميذ؟أجاب آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني عن هذه الأسئلة في هذه الجلسة من جلسات عنوان البصري، الملقاة في تاريخ 30 صفر 1419هـ ق.
هو العليم
ما هي حقيقة السير و السلوك إلى الله؟
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٥
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد للـه ربّ العالمين
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
ورسول ربّ العالمين
أبي القاسم المصطفى محمّد وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين
السلوك يعني العمل بمرضاة الله تعالى
لقد تعرّضنا سابقاً لبعض المسائل حول هذه الفقرة من حديث عنوان البصري التي يقول فيها الإمام: إنّي رجلٌ مطلوب (أي أنّني محاط ومراقب ومحاصر من طرف الدولة)، حيث ذكرنا أنّ هداية الله وأخذه بيد الإنسان لا تخضع لمعيار واحد مشخّص ومحدّد، بل إنّ الله تعالى قد جعل العديد من الطرق التي تتناسب مع استعداد كلّ شخص وقابليّته، بحيث من الممكن أن يختلف طريق كلّ واحد عن طريق الآخر، وبالتالي فما ينبغي على السالك أن يلتزم به هو التسليم مقابل المشيئة الإلهيّة والتقدير الإلهي، والعمل بما يعلم قطعاً أنّه صلاح وحقّ وأنّه موجب لرضا الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكرنا في الجلسة السابقة أنّ جمعاً من العلماء أتوا عند المرحوم القاضي رضوان الله عليه، وطلبوا منه برامج ودستورات لسيرهم وسلوكهم إلى الله، فقبل أن يخوض في هذا الموضوع، قال لهم: أَعملتم بما تعلمون لكي تسعوا الآن وراء الأمور المجهولة؟! فهو يريد أن يقول لهم: إنّ طريق السير والسلوك إلى الله ليس أمراً مبهماً وصعباً ومعقّداً، وليس مسألة غريبةً عجيبةً كما قد يتخيّل البعض، وليس طريقاً عاجيّاً متميّزاً عن مسير الحقّ يُطلق عليه اسم السير والسلوك، أو طريق الله، أو طريق التربية.. لا ليس الأمر كذلك!
فالسلوك إلى الله عبارةٌ عن القيام بجميع ما يُرضي الحقّ سبحانه.. هذا هو معنى السلوك، وكلّ من يتصوّر غير ذلك فهو مخطئ تماماً.
في أحد الأيّام قبل وفاة المرحوم الوالد بسنتين أو ثلاث ، جمع رضوان الله عليه أصدقاءَه من مشهد وأتمّ الحجّة عليهم قائلاً لهم: لا تتخيّلوا أنّكم قد سمّيتم أنفسكم سلاّكاً، وأنّكم ـ بحسب ظنّكم واعتقادكم ـ قد صرتم بمأمن ومعقل، وأنّكم بهذا الشكل قد أنهيتم الأمر! وبعبارة أخرى أنّكم ترون بأنّ حالكم قد صلُح بهذه المسألة! أيّها الرفقاء، اعلموا أنّكم لا تستطيعون التقدّم خطوةً واحدةً إلاّ بالعمل برضا الله، وأنّكم لن تتحرّكوا من مكانكم مقدار شعرةٍ إلاّ من خلال العمل بهذه المطالب! فالانتساب إلينا والكون معنا ليست ملاكاً.. بل الملاك هو العمل، فتسلية النفس بأنّنا محاطين بحراسة الولاية وحفظها لا تعدو أن تكون وهماً وخيالاً!! فإن عملتم بهذه المطالب التي تُبيّن لكم، فسوف تتقدّمون، وإن لم تعملون بها، فحتّى لو أطلقتم على أنفسكم اسم السلاّك لمائة سنة، فلن تتقدّموا إلى الأمام بمقدار سنتمتر واحد!
هذا هو السلوك.. السلوك يعني العمل وفقاً لرضا الله واليقينيّات، والسلوك يعني حفظ الأمانة في كلّ ظرف وفي كلّ مكان، حتّى وإن كان على خلاف مصلحة الإنسان، والسلوك يعني الصدق مع النفس والناس في كلّ مكان وزمان ولو كان ذلك مخالفاً لمصالح الإنسان، والسلوك يعني الاحتراز عن الغيبة مهما اختلف الزمان والمكان، حتّى وإن كانت تلك الغيبة ستجلب النفع والربح للإنسان.. هذا هو معنى السلوك! وقد كان المرحوم الشيخ [محمد جواد] الأنصاري يقول: السلوك عبارة عن العمل بالأحكام الخمسة: الواجب والمستحبّ والحرام والمكروه والمباح.
هذا هو معنى السلوك، فما أكثر الأشخاص الذين كانوا مع العظماء والأعلام، وكانوا يعتقدون أنّ نفس المجيء إليهم والحضور عندهم ومرافقتهم تكفي لإصلاح حالهم، إلاّ أنّ الأمر ليس كذلك، ولقد كنّا نشاهد العديد من الأشخاص الذين كانوا يأتون ويشاركون في المجالس، غير أنّ عملهم كان شاهداً على عدم يقينهم بالطريق، وبالنتيجة لم يخرجوا سالمين، وانحدروا في وادي الهلاك. كلّ ذلك لماذا؟ لأنّ طريق الله لا مزاح فيه، وليس بين الله وبين أحد صداقة ولا قرابة.. فالمسألة هي بهذا الشكل!
ليس بين الله و بين أحد قرابة و مناط القرب من الله هو العمل و التطبيق
نقل لي أحد الإخوان مؤخّراً مسألةً تستجلب الأنظار عن آية الله الشيخ حسن زادة الآملي (وفّقه الله تعالى لمرضاته).. قال: كنت يوماً عنده وكان الكلام يدور حول المرحوم القاضي وأولاده، إذ أنّ أحد أولاد المرحوم السيّد القاضي كان يتواجد بقمّ ويُدعى المرحوم السيّد مهدي القاضي، وقد زرته بنفسي عدّة مرات، ويُمكننا أن ندّعي بأنّه لم يوجد له في عصرنا نظير في علم الأعداد والعلوم الغريبة. فقال [الشيخ حسن زادة الآملي]: لقد طرحت في يوم من الأيّام سؤالاً على السيّد مهدي القاضي مفاده: يا سيّدي! إلى أيّ ولد من أولاد المرحوم القاضي انتقلت تلك الحقيقة وذلك السرّ الذي كان يحمله ذلك المرحوم؟ وبعبارة أخرى: أيّ أولاد المرحوم القاضي تمكّن من الاغتراف من الجنبة المعنويّة والروحيّة التي كان يمتلكها؟ وقد كان مرادي أن أقول له: هل استفدتم شيئاً من هذه الحقيقة، أم لا؟ فأجاب قائلاً: لا يا عزيزي! من أين لنا أن نرث تلك الحقيقة والواقعيّة التي كان يمتلكها والدنا؟! فمن بيننا ـ نحن الإخوة من أولاد المرحوم القاضي ـ توجد أختٌ تمكّنت لوحدها من وراثة تلك الحقيقة وذلك السرّ، غير أنّها رحلت عن هذه الدنيا. ثمّ قال بعد ذلك: لقد كان للمرحوم الآخوند الملاّ حسينقلي الهمداني ـ قدّس الله رمسه ـ ما يُناهز الثلاثمائة تلميذ، وكان كلّ واحد منهم نجماً في سماء المعرفة ومنارةً لهداية الناس، فالمرحوم السيّد أحمد الكربلائي، والسيّد محمد سعيد الحبّوبي، والشيخ محمد البهاري هم من بين العظماء الذين كانوا تلامذة للملا حسينقلي همداني.. وكان يقول: لقد تمكّن ثلاثمائة شخص من الاغتراف من معين المرحوم الآخوند والاستفادة منه استفادةً تامّة، والحال أنّ ابنه المباشر ـ والذي كان يسكن معه في منزله ـ لم يكن له أيّ علم بهذه الأمور! فهذه المسألة هي من الأهميّة بمكان، بحيث أنّه حينما يُقال أنّ طريق الله والسير إليه لا مزاح فيه، فإنّ المراد من ذلك أنّ الله ينظر إلى عباده نظرةً واحدة.. فالجميع سواسية، والجميع مخلوقون لله، ولا معنى أن تكون له تعالى نظرة إلى أحد الأشخاص تختلف عن نظرته لشخص آخر، لكن يبقى الكلام حول من الذي يلتحق بهذا الطريق ويسير فيه! هذا مربط الفرس: هل نمشي ونتحرّك بكلّ وجودنا، أم لا؟!
ففي تلك الرسالة التي وصلت إلى الشيخ المفيد من الناحية المقدّسة، يقول إمام الزمان عليه السلام: «و لَو أنَّ أشْياعَنا وَفَّقَهُمُ الله لِطاعَتِه علَى اجْتِماعٍ مِن الْقُلوبِ فِي الْوَفاءِ بِالْعَهدِ عَلَيْهِم، لَما تَأخَّرَ عَنهُمُ الْيُمنُ بِلِقائِنا، و لَتَعَجَّلَتْ لَهُمُ السَّعادَةُ بِمُشاهَدَتِنا علَى حَقِّ الْمَعرِفَةِ و صِدقِها مِنهُم بنا؛ فما يَحْبِسُنا عنهم إلاّ ما يَتَّصلُ بنا مِمّا نَكرَهُه و لاَنُؤْثِرُهُ مِنْهُمْ».۱
يقول الإمام عليه السلام: لو أنّ شيعتنا يؤدّون ـ حقيقةً ـ الأمور التي في عهدتهم، ويعملون بتلك العهود التي التزموا بها، ويجعلون من طاعتنا ومتابعتنا شغلهم الشاغل، فسوف يتمكّنون من لقائنا، ولن يُحرموا من مشاهدتنا. فالمراد من ذلك ليس مجرّد المشاهدة الظاهرية واللقاء الظاهري. لا! بل المراد هو سيطرة حقيقة الولاية ونورها على قلوبهم، فيغدون قادرين على رؤية الطريق وتشخيص مسيرتهم بواسطة هذا النور. فما يُبعدهم عنّا هو تلك الأعمال الصادرة عنهم والتي نكرهها. فصاحب مقام الولاية الكلّية يُريد أن يقول: إنّ أعمالهم هي التي تُبعدهم عنّا، والحال أنّنا أقرب إليهم من أنفسهم!! و إذا عمل الإنسان بما يعلم واقعاً من دون أن يخدع نفسه، فإنّه قريب منّا ومعنا.
الادعاء بالكلام سهل و لكن التطبيق صعب: العمل الاجتماعي نموذجاً
في يوم من الأيام ـ في زمن حكم الشاه ـ جاء أحد الأشخاص إلى المرحوم العلامة رضوان الله عليه ـ وقد توفّي هذا الشخص قبل عدّة سنوات ودُفن في قم ـ ، وطلب منه دستوراً وبرنامجاً عمليّاً، وقد لاحظت أنّه كان يأتي مرّة كلّ يومين، ثمّ جاء مرّتين أو ثلاثة مرّات، وبعد ذلك لم يأت وانقطع ارتباطه بالمرحوم العلاّمة بشكل كلّي، وقد كان من الأشخاص المسنّين و ـ بحسب الاصطلاح ـ من علماء قم المشهورين، وقد توفّي قبل ثلاث أو أربع سنوات. حسناً، بحكم علاقتي [بالمرحوم العلاّمة] وتردّدي عليه، فقد حصل لي علم ـ إلى حدّ ما ـ بأحواله، وبالكلام الذي كان يدور بينهما، فسألت المرحوم العلاّمة في أحد الأيّام: يا سيّدي! لِمَ ذهب ذلك الشخص، ثمّ لم يرجع بعد ذلك؟ فقال: لقد جاء ذلك الشخص إلى هنا ليصاحبنا، و من أجل الاستفادة كذلك من مسائل السير والسلوك والبرامج الأخلاقيّة، فقلت له: هل أنت جادّ في طلبك إلى الحدّ الذي يجعلك تنفّذ كلّ ما أقوله لك من دون شكّ أو تردّد؟ فالمسألة ليست بهذه السهولة؛ إذ أنّ الكلام يدور هنا حول سعادة الإنسان وشقائه، وصلاحه وفلاحه، ومن الممكن جدّاً أن تخطر بعضُ المسائل بذهن الإنسان تكون متعارضة مع رغبات الوليّ، فكم هو ـ في هذه الحالة ـ مقدار استعداد الإنسان وتحمّله؟ ففكّر هذا الشخص قليلاً، ولأنّه كان في ذلك الوقت منخرطاً في بعض الأحداث، قال لي: يا سيّدي، سأطيعك في كلّ ما تأمرني به، إلاّ بالنسبة للمسألة الفلانية، فإنّني لا أستطيع أن أرفع يدي عنها. فأجابه المرحوم العلاّمة: هنا توجد نقطة ضعفك، ولا يُمكنني التوافق معك؛ لأنّ أوّل شيء عليك أن تقوم به هو التخلّي عن المشاركة في هذا الأمر! فذهب من دون أن يتمكّن من اغتنام هذه الفرصة، ثمّ توفّي بعد ذلك.
فالكلام هنا هو حول أنّ من يريد أن يصل إلى الواقع وحقيقة الأمر، فلا مجال لديه في ذلك لطلب التخفيض، فما دمت تعدّ ذلك الشخص على حقّ، وتضع نفسك رهن إشارته على الرغم من العلم الذي تحمله والتجربة التي تمتلكها والإدراك والبصيرة اللذان تتوفّر عليهما.. فما الذي يعنيه كلّ هذا؟! يعني أنّه يعيش في أفق أعلى، وأنّ نظرته غير محدودة بالعلوم الكسبيّة والحصوليّة، ورؤيته غير مقيّدة بالتجارب الشخصيّة والاجتماعيّة، ونظره غير خاضع لقانون الإدراك والفهم العرفي العادي، و أنت لهذا السبب جئتَ إليه، وإلاّ ما الذي يدعوك لأن تأتي إليه؟! فهناك أشخاص غيره كثيرون، وحينما يُصبح هذا الأمر واضحاً لديك، فلماذا لا يُمكنك أن تترك ما نهاك عنه؟! هاهنا سيستوقف الله الإنسان و يحاسبه.
افرضوا أنّ المرحوم العلاّمة قال له: اذهب وألق بنفسك من السطح! أفهل كان سيفعل ذلك أم لا؟ أفلا يكون هذا هو مقتضى قوله: "سوف أطيعك في كلّ ما تأمرني به"؟! وإلاّ لكان عليه أن يقول: يا سيّدي! اعذرني عن الطاعة في المسائل المرتبطة بالنفوس والجُروح والدماء، والمرتبطة أيضاً بالشرف والعرض، وبالأموال. حسن جدّاً! فما هي نتيجة ذلك إذن:
شير بى يال و دم و اشكُم كه ديد | *** | شير بى يال و دم و اشكُم كه ديد |
(يقول: هل رأى أحدٌ أسداً من دون عُرف ولا ذيل ولا بطن، إنّ هذا لم يعد أسداً والله لم يخلق الأسد بهذا الشكل.)
ولكن كلامنا في هذا الفرض و هو أنّه لو كان يقول مثلاً: يا سيّدي، إذا أمرتني بإلقاء نفسي من السطح، فسأفعل ذلك، بمعنى أنّه لو وصل اعتقاده إلى هذا الحدّ، أي أنّه يقبل أن يسلّم نفسه لو قيل له ارمِ نفسك من السطح، يعني يسلّم نفسه للموت المستوجب لانقطاعه عن حياته إذا كان ذلك تكليفه، ويطيع الأمر إلى هذا الحدّ.. فما دام تسليمه إلى هذا الحدّ، فلماذا لا يقبل التخلّي عن تلك المسألة إذن؟!! لأنّ الأمور النفسانيّة تطفو على السطح، هاهنا تأتي النفس و تمنعه من مواصلة الطريق ، فتجده يصغي لمن يقول له: يا سيّد، لماذا تُريد التخلّي [عن هذه الأمور]، ولماذا تريد أن تنفصل عن رفاق الطريق، أتريد أن تترك مع هذا العمر الطويل الذي قضيته في النضال والكفاح؟! إنّ العديد من الأشخاص يتطلّعون إليك! وما الذي سيحلّ بنا يا سيّدي لو تنحيّتم؟
إنّ هذه المسائل التي أذكرها جدّية وواقعيّة، ونسأل الله ـ إن شاء تعالى ـ أن يأخذ بأيدينا، ففي بعض الأحيان، تكون للإنسان نظرة خاصّة لبعض الأحداث، وقبل أن يخوض فيها، تكون له رؤية معيّنة حولها، بحيث أنّه قد يتعرّض لها بالذمّ والقدح، بل إذا اقترحوا عليه الدخول فيها، فإنّه لا يقبل، ويكون رفضه حقيقياً وواقعياً، بل ويذمّ ذلك ويذكر المفاسد المترتّبة عليه، ولكن ما إنْ يدخل في هذه الأحداث ـ بأيّ نحوٍ كان ـ، وتمرّ عليه سنة أو سنتين، فلو قيل له: عليك الآن أن تُغادر! فإنّ ذلك سيصعب عليه كثيراً مع أنّ المسألة لم تختلف؛ لكنّه قد دخل في خضمّ هذه الأحداث، وتعرّف على بعض الأشخاص والأقرباء، وحصل على منزلةٍ خاصّة، وأصبح يمتلك شخصيّة معيّنة، وصاروا يحسبون له ألف حساب ويعتمدون عليه، وصار يرى في نفسه شخصيّة مهمّة، وأصبح مرموقاً أمام زوجته وأولاده.. (انتبهوا فنحن هكذا أيضاً!)، ثمّ يأتون فجأةً ويقولون له: يا عزيزي، أنت تعلم بأنّ هذا العمل و الأمر لم يختلف بين الآن والسابق، فنحن نشكرك على ما قمت به إلى حدّ الآن، لكن عليك الآن أن تتنحّى جانباً! إذا حصل ذلك فإنّ الأمر سيصعب عليه كثيراً.
ومن باب المزاح، يُحكى أنّ شخصين ذهبا إلى محلّ بيع تذاكر الحافلات العموميّة،۱حيث تدفع المال من أحد الجوانب، وتأخذ التذكرة من خلال ثقب صغير تحت الزجاج، فسأل أحدهما الآخر: كيف دخل هذا السيّد ـ مع حجمه الكبير ـ إلى الداخل من خلال هذا الثقب الصغير؟! (حيث لم يكن ملتفتاً إلى أنّه للغرفة باب)، فأجابه الثاني: بأنّه كان صغيراً في الأوّل، ولكن بعد أن أدخلوه إلى الداخل أصبح كبيراً!! والآن بعد أن أصبح كبيراً، لا يمكنه أن يخرج!!!
رحمة الله على المرحوم الحاجّ محمد علي الكني الذي كان من العظماء ومن كبار العلماء، وكان المرجع الأعلى لطهران في زمن الشيخ الأنصاري، وقد كانت طهران هي العاصمة زمان ناصر دين شاه الذي كان يخاف منه كثيراً، حيث كان هو الحاكم الشرعي وكان مبسوط اليد، حتّى أنّه يُحكى أنّه في يوم من الأيّام، ذهب ناصر دين شاه إلى خارج طهران من أجل الصيد، وحين حلّ العصر، قال لهم: علينا أن نرجع إلى طهران بسرعة! فقالوا له: يا صاحب الجلالة، ما زال هناك وقت طويل قبل حلول الغروب، فقال: لا، علينا أن نرجع، هل تعلمون ماذا خطر على بالي؟ خطر على بالي أنّه لو أمر الآن الآخوند بإغلاق الباب بوجه الشاه، فإنّنا سنبقى خلف الباب، ولن يجرؤ أحد عل فتحه. يعني أنّه [الآخوند الكني] كان رجلاً ذا سلطة وجهاز تنفيذي، وله أعوان وأنصار عديدون، و كان ذلك بمقتضى المصلحة و الضرورة؛ لأنّه كان يريد الوقوف في وجه الشاه.
في ذاك العصر، جاء الأجانب، وأرادوا مدّ خطّ السكّة الحديديّة، لكنّ ذلك كان ـ بأجمعه ـ وسيلة للدخول إلى إيران والتسلّط عليها، واستعمارها والقضاء على ثقافتها، وغير ذلك، فقد كان ظاهره جميلاً، لكنّه يُخفي تحته العديد من الأهداف والخطط التي كانت معروفة عند الكثير من الأشخاص، ولمّا وصل الخبر إلى المرحوم الآخوند الحاج ملاّ علي، عارض ذلك وخالفه، واستعمل حقّ الفيتو ـ كما يُقال ـ، فجاءت جماعة وقالوا: ما دخل علماء الدين بهذه الأمور؟ فهؤلاء يُريدون أن يبقى الناس على تخلّفهم، فقد صار التطوّر الذي عرفه العالم بهذا الشكل، وتغيّرت الأمور وتبدّلت، فماذا يعني هذا؟! حتّى أنّهم قاموا بعقد مجلس في منزل المرحوم الآخوند، فجاؤوا إلى هناك، وحينئذٍ، قال المرحوم الآخوند لأحد الخدّام الذين كانوا حاضرين هناك: اذهب، وأحضر البقرة الفلانيّة من الحظيرة وائت بها إلى وسط الغرفة. فذهب وأتى ببقرة عجيبة وغريبة، ووضعها وسط الغرفة، وكان وزراء ناصر الدين شاه ومندوبو ثلاث دول أجنبيّة جالسين هناك عندما جاءت "حضرة" البقرة، فنظر الآخوند إلى ذلك الخادم وقال له: أخرج البقرة من هذا الباب ـ وكانت باباً يستعملها الناس للدخول والخروج ـ، فلم تتمكّن البقرة من عبور الباب؛ لأنّها كانت بقرة كبيرة جداً يبلغ ارتفاعها ضعفي ونصف الضعف من ارتفاع الباب، فنظر إليهم المرحوم الآخوند، وقال لهم: حينما جئنا بتلك البقرة أوّل مرّة إلى المنزل، أدخلناها من نفس هذا الباب الذي لا تستطيع العبور منه الآن؛ لأنّها كانت صغيرة، ولكنّها الآن كبرت، ولم يعد بإمكانها الآن العبورُ من هذا الباب!! هذا هو جوابكم.
كلامنا الآن هو عن نفس الإنسان، فطالما أنّ هذه النفس لم توضع في بعض الظروف الخاصّة، فإنّها تتباهى و ترتجز منتقدة الآخرين: نعم يا سيّدي، إنّهم يقومون بهذه الأعمال، ويرتكبون المخالفات.. يوجد هنا إشكال يا سيّدي، وتوجد هناك معصية ونظائر هذه الأمور. وأمّا حينما يوضع الإنسان في نفس تلك الظروف، وتُحكم هذه الظروف قبضتها على جميع أرجاء وجوده، إلى درجة أنّ الاستعدادات التي يمتلكها الإنسان وحريّته الفكريّة والنفسيّة تُصبح ـ بالتدريج ـ محاطة بالأهواء النفسانيّة ومقهورة لها، ثمّ يكتشف الإنسان فجأةً أن لا طريق أمامه للفرار، وبأنّه لا يمتلك أيّ قدرة على تخليص نفسه من هذه الورطة.. حينئذ، يشرع بالتبرير، فنراه الآن يمتدح ذلك الشخص الذي كان ينتقده ويذمّه قبل عامين، ويُبرّر له أفعاله.
في يوم من الأيّام، كنّا متواجدين في أحد المجالس الذي كان يحضره العديد من الأشخاص ـ ولا أرغب الآن في ذكر خصوصيّاته ـ، فتكدّر خاطري نوعاً ما، حيث كان يتمّ تداول بعض المسائل من هنا وهناك، وكان هناك بعض الأشخاص الذين لهم اطّلاع كامل على بعض شؤون الدولة، فلم تكن تُطرح هناك المسائل الجيّدة والمناسبة، بل كان يُؤتى في بعض الأحيان على ذكر اسم بعض الأشخاص، وعموماً، لم يُعجبني ذلك، وعندما دعوني في المرّة اللاحقة، رفضت الدعوة، وقلت: إنّ هذه المطالب هي مطالب لا فائدة من الكلام عنها أو الاستماع إليها، فما علاقتي أنا بالعمل الكذائي الذي قام به الشخص الفلاني؟!! و نحن بواسطة ما منحنا الله إياه من الشعور والبصيرة ندرك هذا على الأقل ، فلماذا يسمح الإنسان لنفسه أن يسيء الظن بالآخرين ؟! إن هذا خطأ و غير صحيح.
على كلّ حال، كان يوجد في ذلك المجلس شخصٌ يُبدي حميّة وحرارة أكثر من الآخرين في رفض أولئك الأشخاص المتصدّين وذمّهم.. وخلاصة القول أنّ مفاد كلامه هو: بعض الأشخاص لهم جانب واحد ـ نظير المحلّ التجاري الذي له واجهة واحدة فهو يرتبط بالخارج من خلال جهة واحدة ـ، وبعضهم الآخر عنده واجهتين، فتارة يميل إلى هذا الجانب أحياناً ، ويتدحرجون أحياناً أخرى إلى الجانب الآخر بحسب الحاجة، وبعضهم عنده ثلاثة...
ثمّ قال غامزاً لامزاً أولئك المسؤولين: في مثل هذه الظروف، نجد أنّ المتصدّين للمناصب في الحكومة يجب أن يكون عندهم ستّة واجهات: باتّجاه الشمال والجنوب والشرق والغرب والأعلى والأسفل؛ فمثل هذا الشخص هو الذي ينفع ويصلح، وهو الذي يُمكنه القيام بعملٍ ما، وإلاّ ما إن يشرع الإنسان في الكلام [من دون أن يكون متوفّراً على جميع هذه الجوانب ] حتّى تُواجهه العديدُ من المشاكل. وكان يقول: إنّ الأشخاص المتّصدين للأمور الآن لهم ستّة جوانب، فاليوم يقولون كلاماً، وغداً يقولون كلاماً آخر...
ومرّت هذه الحادثة، ثمّ حصل ذلك الشخص على منصب ومقام في الدولة، فطرح عليه أحد الأصدقاء ـ يوماً ما ـ سؤالاً، وقال له: يا سيّدي، لماذا ينبغي أن يكون الأمر بهذا الشكل؟ فقال له: حسناً، هذا واضح جدّاً، فعلى الإنسان أن يكون تابعاً للدولة والحكومة، وبما أنّ الحكومة هي حكومة إسلاميّة، فإنّ مصدر جميع الأوامر هو الجهات العليا وينبغي طاعتها. لاحظوا معي، كم هي المدّة التي استغرقها ذلك [أي تغيير مواقفه]؟ فعلى ما يبدو أنّ الإنسان ينبغي أن يكون متوفّراً على ستّين جانب (ووجه) حتّى يتفوّه بمثل هذا الكلام!! فما هو السبب في ذلك؟ هي النفس الأمّارة يا عزيزي! فهذه النفس الأمّارة تأتي وتسلب من الإنسان الحرّية في الفكر والعمل، وتضعه في إطار ومجالٍ خاصّ يُؤدّي إلى تغيير وتحويل جميع استعداداته وقابليّاته، فيعمد إلى التبرير تلو التبرير، والتأويل بعد التأويل.. عجيب! إنّ السبب في كلّ ذلك هو أنّ الإنسان لا يرغب ـ واقعاً ـ في وضع قدمه على الطريق، وإلاّ لو كان يرغب في ذلك ويسعى نحو العمل، فإنّ عناية الله ولطفه سيُعينانه وينصرانه.
رند عالم سوز را با مصلحت بينى چكار | *** | كار مُلك است آن كه تدبير و تأمل بايدش |
(يقول: إنّ ذلك الحاذق الذي أدبر عن الدنيا برمّتها لا حاجة له بالتفكير المصلحي، فطالب المُلك هو الذي يحتاج للتفكير والتأمّل والتدبير)
فمن أراد أن يتحرّك، ويصل إلى المقصد والهدف المنشود في هذين اليومين اللذين أعطيا له في هذه الدنيا، فهل يأتي وينشغل بفضول الأمور.. ويضيّع الوقت هنا وهناك، ويجلس هنا وهناك، يسأل عن أوضاع هذا وذاك؟! كلاّ.. فهذه الأمور ليست لنا ، ولا علاقة لنا بها!
السالك مثل التلميذ في ليلة الامتحان
فالتلميذ الذي تفصله عن موعد الامتحان أيّامٌ معدودة، فهو يقضي كلّ وقته في الدراسة والمطالعة، لو جاء أحد وقال له: تعال إلى هنا لنشاهد برنامجاً تلفزيونيّاً! فإنّه سيردّ عليه قائلاً: التلفاز ليس لي بل هو لك ولأمثالك، فلو أردتُ أن أشاهد الآن هذا البرنامج التلفزيوني، فإنّني سأرسب في الامتحان، ولن أحصل على العلامة المطلوبة، أو لو قيل له: تعال لنذهب في نزهة يوماً أو يومين إلى مكان ما، ونتجوّل قليلاً، فسيجيبهم بأنّ الذهاب في نزهة يُناسبكم أنتم، أمّا أنا فلا، ولذا كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يقول: يجب أن يكون السالك في هذه الدنيا كالطالب ليلة الامتحان؛ فلا يُمكن لأحد أن ينام ليلة الامتحان؛ لأنّ مصيره سيُحدّد في الغد، فإذا حصل منه تقصير فإنّه سيرسب ويبقى مكانه:
كاروان رفت و تو در خواب و بيابان در پيش | *** | كى روى ره ز كه پرسى چكنى چون باشى |
(يقول: رحلت القافلة وأنت غارق في النوم وأمامك صحراء طويلة، فمتى ستشدّ الرحال ومن الذي سيهديك إلى الطريق؟!)
اى دل ار عشرت امـروز به فــردا فكــنى | *** | مايه نقـد بقـا را كه ضمان خواهـــد شــد |
(يقول: لماذا تُؤجّل أيّها القلب فرحة اليوم وأنسَه إلى الغد، فمن الذي سيضمن لك أن تبقى إلى الغد؟!)
فاليوم هو لليوم وغداً للغد.. لا تقولوا: سيأتي الغد، لا يا عزيزي! ففي لحظة واحدة، يتوقّف القلب، وينتهي كلّ شيء، وفي لحظة واحدة، يأتي حضرة عزرائيل عند الإنسان، وينتهي الأمر؛ إذ لم يُقدّم لنا أيّ أحد ضماناً بالبقاء. و ما يقوله البعض بأنّ: "المصلحة تقتضي بأن أقوم بهذا العمل وذاك العمل من أعمال الدنيا"، فلا يجوز إلاّ بمقدار ما تسمح به الضرورة، وإلاّ فإنّ أداء ذلك العمل الزائد ـ علاوةً على إشغاله لوقت الإنسان وفكره ـ فإنّه مضرّ للسالك ، و مثل هذا العمل يخصّ الأشخاص العطّالين البطّالين والذين لا همّ لهم ولا يحسّون بالألم والوجع؛ فالإنسان الذي يشعر بالمرض والألم يعرض نفسه فوراً على الطبيب؛ إذ من الممكن أن يكون هناك ثمّة مشكلة، فإذا لم يتصرّف بسرعة، قد يوقع نفسه في الخطر.
ابتعاد أكثر الناس عن طريق الحقّ و العقلانية
تأمّلوا الآن ـ وأقولها بجدّ ـ في هذه الأجواء الحاكمة علينا، وهذه الأوضاع السائدة بيننا، وانظروا ما هي الأوضاع التي يمشي عليها الناس؟! وكيف هي الأحوال والأجواء؟
يُحكى أنّه قيل لأحد المدّخنين: اترك التدخين!! فقال: يا عزيزي، أنا أبات أحلم بالسيجارة، وأنتظر اللحظة التي أستيقظ بها كي أدخّن!! فبماذا تحلمون أنتم؟! فانظروا كيف نحن نحكم عليه وننظر إليه وكيف هو يحكم علينا وينظر إلينا!! هؤلاء هم الناس.. يعني هل نحن وصلنا إلى ذلك المستوى من العلم والعقل، بحيث صرنا لا نهتمّ إلاّ بما يُفسد أعصابنا ويُتلفها، ويُخرّب أفكارنا من دون أن يُضيف عليها أيّ شيء جديد، فبدلاً من ذلك، تعالوا لندرس ثلاث أو أربع صفحات من ذاك الكتاب أو ذلك العلم لكي تتغيّر بذلك حالتنا السابقة عن اللاحقة، فمتى سنصل إلى هذه المرحلة؟ فإذا وصلنا إلى هذه المرحلة، حينئذٍ نصبح سالكين، وليس الآن! فلا يُمكننا الآن أن نعثر على سالك!! أين هو السالك؟! حينما نصير نحسّ بالألم (ونحن الآن لا نحسّ بالألم..) ، وحينما نصبح نمتلك اهتماما وحرصاً، ونحن الآن لا حرص ولا اهتمام لنا.. وحينما يكون لنا عقل وفهم وإدراك.. في ذاك الوقت يصحّ أن نطلق على أنفسنا اسم السالك وليس الآن.
على السالك أن ينشغل بإصلاح نفسه و تحصيل ما ينفعه
لقد أدركنا محضر العظماء، ورأينا بأنّ بعض الأشخاص كان غاية ما يهدِفون إليه من حضورهم عند هؤلاء العظماء هو مراقبة الآخرين وملاحقة هذا و ذاك.. هذا ماذا يعمل ؟! وذاك ماذا يفعل؟! هذا كيف يصلّي!! وذاك كيف يصوم؟!
ما علاقتك بهذا يا سيّدي؟! أنت تمتلك جوهرةً ثمينةً، فلماذا تُريد الاطّلاع على ما في جيب الآخرين؟! هذا فوق، وذاك تحت، هذا ماذا يقول... إلى متى سنظلّ جاهلين إلى هذا الحدّ، ونتتبّع الآخرين، ونحن غافلين عن مصائبنا و أوجاعنا نحن؟!! يا عزيزي، إنّنا مبتلون بالآلاف من المصائب والنقائص.
لقد شهدت لمرّات عديدة أنّ المرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه كان يقول لأحد الأشخاص: ما دخلك بالذي يفعله فلان؟! ما علاقتك بذلك؟! ماذا يهمّك في أنّه يأتي إلى هنا ويقوم بالعمل الكذائي؟ أفهل أنتَ القيّم عليه؟! وهل أنت وليّه أو وكيله؟! يا عزيزي، تعال إلى هنا، وحصّل فائدتك واهتمّ بنفسك واعمل على تطبيق هذه الأمور!
لقد كان المرحوم الوالد هو الشخص الوحيد من بين جميع أولئك الأشخاص الذي يهتمّ بعمله وطريقه فقط، حيث كان يأتي ويجلس من دون أن ينشغل بأي شيء آخر.. لماذا؟ لأنّه كان لديه ألم و وجع، بينما لم يكن أولئك يحسّون بالألم، ولأنّه كان يشعر بالمرض ويسعى لعلاجه، بينما لم يكن أولئك يحسّون بالألم.. لقد كان كلّ همّهم يدور حول مسائل من قبيل: أنت فعلت هذا، أنت فعلت ذلك .. هذا ذهب إلى هنا، وذاك ذهب إلى هناك.. فينقضي عمر هذا المسكين ـ بتمامه ـ في هذه الأمور.
كثيراً ما كنت أقول لبعض الأصدقاء والإخوان: يا عزيزي، إنّ هذا الذي تشعر به وتحسّ به يرتبط بك أنت شخصيّاً، ولا يقبل الانتقال للآخرين.. ومع ذلك، كنّا نرى أنّه يذهب وينقله لشخص آخر.. يا أخي، لماذا تتدخّل في شغل غيرك؟! وواقعاً إنّ هذه لمسألة مهمّة! فما علاقتك بذلك؟! فحينما نقول بأنّ ذلك لا يقبل الانتقال للآخرين، فماذا يعني ذلك؟ يعني أنّه عليك أن تسلك طريقك من دون أن تهتمّ بأيّ شخص آخر، فلماذا تعمد إلى نقل الكلام إلى من ليس له طاقة وتحمّل، بحيث قد يُؤدّي ذلك إلى حصول المفسدة؟ ما الذي يدفع الإنسان أن ينقل بعض المطالب ويفشيها من تلقاء نفسه، بحيث يُفضي ذلك إلى حصول مفاسد وتبعات لا يُمكن السيطرة عليها، وتُفضي للوقوع في الخطر!! أفهل جعل الله تعالى أزمّة أمور الدين والدنيا بيدك؟! أفهل اُوحي إليك بذلك؟! أفهل تمّ تكليفك بمهمّة الأخذ بيد هذا وذاك؟!
واعلموا أنّ مثل هؤلاء الأشخاص لن يصلوا أبداً لأيّ مكان، ولن يتقدّموا ولو خطوة واحدة؛ فالذي ينحصر اهتمامه بالذهاب إلى هنا وإلى هناك ليذكر هذا المطلب وذاك المطلب، أنا أضمن له هنا ـ وأنا مسؤول عن هذا الكلام يوم القيامة ـ بأنّه لن يتحرّك بمقدار ذرّة واحدة، ولا تتصوّروا أّنني أنا المتكلّم أمتلك شيئاً من تلك المراتب العالية، ولهذا أتحدّث معكم، بل حديثنا مع الإخوة هو من باب الاجتماع مع الإخوة و الأنس بصحبتهم ، و لكننّي أقول هذه المطالب بضرس قاطع لأنّني شاهدتها أمام عيني. فمتى ما رأيتم أحداً قد أطرق برأسه إلى الأسفل، وهو منطوٍ على نفسه، ومنهمك في التفكير بنفسه، فاعلموا أنّه يشعر بالألم، ويحسّ بالألم، اللهمّ إلاّ أن يكون عنده تكليف بالكلام والبيان، وهذا أمر آخر خارج عن كلامنا.
منهج الأولياء: إعطاء الملاكات و تعليم المباني
ولهذا، فإنّه من بين المسائل التي كانت موضعاً للاهتمام على الدوام، وكان المرحوم العلاّمة يؤكّد عليها كثيراً: مسألةُ إعطاء الملاكات والضوابط للناس؛ فقد كنّا نرى أنّه كان في زمان حياته يتحدّث كثيراً، حيث كان يتحدّث في ليالي الثلاثاء، وأذكر أنّه كان يتعرّض لشرح الأحاديث القدسيّة، كما قام ـ في بعض الليالي ولفترة من الزمن ـ بتفسير بعض الآيات الخاصّة من القرآن الكريم، كتفسيره لآية {اللَّهُ نُور}،۱ وقد تعرّض لسنوات متمادية لشرح الأحاديث القدسية المصدّرة بـ "يا أحمد!" و "يا عيسى!"، وفي سائر الليالي كان هناك تفسير للقرآن، وفي يوم الجمعة كانت هناك الجلسات التي كان يتحدّث فيها بنفسه، حيث كانت في أحد الأوقات عبارة عن جلسات متنقّلة، ثمّ انتقلت بعد ذلك إلى مسجد القائم و استقرّت فيه. فما هو السبب في كلّ ذلك؟ فهل كان دوره مجرّد إلقاء الكلام، نظير جهاز التسجيل الذي نضع فيه شريطاً، ثمّ ينتهي الشريط ونمضي؟! لا، لم يكن الأمر كذلك.
إقامة مجالس العزاء بين الحقيقة و الشعارات الفارغة
فمن باب المثال، تُعدّ إقامة مجالس العزاء إحدى المسائل التي يهتمّ بها الناس. فنفس مسألة إقامة العزاء هي مسألة جيّدة ومطلوبة، وما يُهدف فيه من إقامة مجلس العزاء على سيّد الشهداء هو أن يعمد الناعي والذاكر إلى الحديث عن مناقبه عليه السلام، وعن المسائل التي بيّنها هو وأصحابه وبيّنها العظماء في يوم عاشوراء وغيره من الأيّام، ليستفيد منها الناس، لا أن يقتصروا على الجلوس والبكاء، ثمّ يذهبوا بعد ذلك! نحن نظنّ الآن أنّ إقامة مجالس العزاء تنحصر في أن نأتي ونجلس، ثمّ نذهب، أي أنها تقتصر على نفس المجلس.. ليس الأمر بهذا الشكل! فالإمام الحسين بعث إلينا في يوم عاشوراء برسالة.. نحن الجالسين هنا هذه الليلة؛ فالمسائل التي صدرت منه عليه السلام في يوم عاشوراء هي لنا نحن الحاضرين هذه الليلة، وكذلك المسائل التي صدرت من الإمام السجّاد، ومن السيّدة زينب، ومن الأئمّة.. فكلّها هي لنا نحن. حينئذٍ، أتينا واقتصرنا على القشور، متغافلين بشكل كلّي عن ذلك اللبّ والنتيجة والهدف الأصلي، وتمسّكنا بذلك الشعار وحافظنا على الظاهر وتخلّينا بشكل كلّي عن بقيّة المطالب.. لا، ليست المسألة بهذا الشكل!
فالإمام الحسين بعث إلينا في يوم عاشوراء برسالة.. لماذا؟ لأنّه لو كان من المقدّر أن يتكرّر يوم عاشوراء مرّة ثانية، فلا نكوننّ ضمن جيش عمر بن سعد!! هذه هي الرسالة التي أرسلها لنا، فمن هم الأشخاص الذين كانوا في جيش عمر بن سعد؟ يا عزيزي، إنّهم لم يكونوا حليقي الذقن ولا لابسين ربطة عنق، بل كانوا جميعهم من المصلّين، وقد كان عمر بن سعد إمام جماعة وعالماً من علماء الكوفة؛ فهو ابن سعد بن أبي وقّاص، كما أنّ شمر بن ذي الجوشن كان من الأشخاص الذين يُلجأ إليهم للشهادة في المحاكم، وأمّا الصور التي تُشاهدونها الآن، والتي يُظهرون فيها الشمر ـ وغيره ـ بأسنان مخيفة ومظهر عجيب، فليست صحيحة، فشمر بن ذي الجوشن لم يكن ذلك، لقد كان الشمر قبل ذلك قائداً عسكريّاً، ومن أمراء الجيش في صفّين، حيث كان يُقاتل في ركاب أمير المؤمنين عليه السلام، وكان يضرب بالسيف إلى درجة أنّه تلقّى ضربة بالسيف على وجهه، فلو كانت تلك الضربة أقوى بقليل، لكان قد نال الشهادة!۱
انتبهوا فهذه المسألة مهمّة جدّا! لقد كان هؤلاء الذين قتلوا سيّد الشهداء في بادئ أمرهم اشخاصاً وجهاء بحيث أنّ شهادتهم في المحاكم كانت مقبولة، و كلمتهم مسموعة، فما الذي حصل حتّى آل أمر الواحد منهم إلى هذا؟ ما حصل أنّه: لم يعمل بما كان يعلم !!
الأولياء هم المصداق الأبرز لقوله عليه السلام: كونوا دعاة بغير ألسنتكم
إنّ الإنسان واقعاً عندما يشاهد أخلاق العظماء و تصرّفاتهم يتعجّب كثيراً ، بل يصاب بالحيرة؛ فنفس أخلاق العظماء وتصرّفاتهم ومعاملتهم كانت تجذب الأشخاص، وعلى حدّ قول الإمام السجّاد عليه السلام: كُونُوا دُعَاةَ النَّاسِ بِغَيْرِ أَلْسِنَتِكُم.
فبناء على كلّ ما تقدّم، لماذا كان العظماء يتحدّثون عن هذه المطالب؟ لأجل بيان الملاك، أي لكي يضعوا بين أيدينا الملاكات والقواعد والمباني.. الملاكات مثل: العفو، والإنفاق، والإيثار، والتعقّل، والتفكّر، وعدم متابعة الهوى والعواطف، وتقييم الظروف الحاكمة، ووضع الإنسان نفسه على نفس المستوى مع بقيّة الناس والعبوديّة في مقابل الله تعالى، وأن لا يرى لنفسه أيّ اختيار والتسليم لإرادة الله ومشيئته.. هذه هي المسائل التي كان يتحدّث عنها المرحوم الوالد طيلة الاثني وعشرين سنة بعد هجرته من النجف إلى طهران، و إنّي لأحسب أنّه لم يكن أحد غيره يعمل بهذه المطالب [إلى هذه الدرجة]؛ فقد كان يقول فيعمل في نفس الوقت، و لم يكن أحد ليسبقه أو يتفوّق عليه، وطبعاً، الالتزام بهذه الأمور له درجات، وواقعاً كان رحه الله ملتزماً بذلك إلى أعلى حدّ؛ فإذا كان الحديث عن الصدق، فقد كان سبّاقاً في ذلك، وإذا كان المقام هو مقام العدالة، فقد كان هو فارس الميدان ـ وقد كنّا نرى منه ذلك ـ، وكذلك كان سبّاقاً في مقام حفظ الأمانة والإيثار والإنفاق والرجولة والشهامة والغيرة؛ أي أنّ عمله كان يسبق قوله، بل كان يعمل بما هو أكثر من ذلك.
و في ذلك الزمان أذكر أننّي قلت لبعض الأشخاص: إنّ الكلام الذي تحدّث عنه السيّد [المرحوم العلاّمة] هذه الليلة ينبغي عليه أن يعمل به هو فقط، يعني هو فقط القادر على تنفيذ هذه الرتبة العليا، ولقد المرحوم العلاّمة كذلك، فقد التزم بما قال، وقد صبر وصمد حتّى النهاية، فاستفاد ونال نتائج عمله وربح، كما أنّ كلّ شخص سيحصل على الفائدة بالمقدار الذي يعمل به.
وسنتعرّض ـ إن شاء الله ـ في الفقرات اللاحقة من حديث عنوان البصري لبعض المطالب المرتبطة بهذا المجال. وقد كنت أرغب هذه الليلة في التطرّق إلى بعض المسائل المهمّة، نظير: الحالات المختلفة للسلوك: علاقة الإنسان بالوليّ، وعلاقة الإنسان بالوصيّ، وعلاقة الإنسان بالله تعالى إذا لم يعثر على وليّ أو وصيّ؛ وهي من المطالب الحسّاسة جدّاً. فعلى الرغم من أنّنا وعدنا في الجلسة السابقة بالتعرّض لها هذه الليلة، لكنّنا سنكل هذا الوعد إلى الجلسة اللاحقة، إذا بقي من عمرنا شيء إن شاء الله. وأظنّ أنّ موعد الجلسة اللاحقة سيطول قليلاً، فنرجو من الإخوان ألاّ ينسونا من صالح دعائهم؛ لأنّني على أبواب سفر قد يطول بي قليلاً، وسأكون رهن إشارة الإخوان عند الرجوع من السفر.
اللَهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَ آلِ مُحَمَّد