المؤلّف آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسم الفقه والأصول
التوضيح
وقد ألّفت هذه الرسالة الشريفة باللغة العربيّة، وهي تقريرات لدرس الخارج لسماحة آية الله الحجّة السيّد محمود الشاهرودي في الفقه، قام بتقريرها سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد طبعت مع تعليقات المؤلّف المحترم.
المقدِّمة
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
الحمد للّه ربّ العالمين
و الصلاة على خير خلقه و أشرف رسله
محمّد صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم
و على أهل بيته و عترته المطهّرين المعصومين
الّذين أذهب اللَّه عنهم الرّجس أهل البيت و طهّرهم تطهيراً
قال اللَّه تعالى في كتابه:
{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}۱
[سيرة النبي صلي الله عليه و آله و سلّم في أداء صلاه الجمعة]
لا يخفى أنّ صلاة الجمعة إحدى الفرائض القطعيّة في الشريعة الإسلاميّة، كسائر الصلوات المفروضة و الفرائض و قد شرِّعت قبل نزول النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم في المدينة بقليل، و هو بنفسه أقامها في أوّل جمعة بعد نزوله بها. و هكذا كانت مستَمرّةً و مقامةً بعد النّبي طيلة الأعوام و القرون في جميع الحكومات،
الجائرة منها و الإسلامية المحقّة، في كافّة البقاع و البلدان.
[في إهمال هذه الصلاة بعد النبي ص عند الشيعة]
و من العجيب و الأسف الشّديد، أنَّ إخواننا من العامّة ملتزمون أشدّ الالتزام بإقامة هذه الفريضة المؤكّدة في أي حال، و نحن قاطبة الشيعة المدّعين اتّباع سنّة الرّسول الأعظم وخلفائه المعصومين عليهم السّلام، قد تركنا هذه الفريضة العظمى و أهملناها، و اشتغلنا بالبحث عن وجوبها و جوازها و حرمتها و إباحتها بحيث يظنّ الباحث الفاحص كأنّه لم يرد أمرٌ من الشّارع بوجوبها و الالتزام بإقامتها، مع ما فيها من الآثار الثمينة و البركات و النتائج القيّمة. و هناك أسبابٌ أدّت إلى إهمالها و عدم الاعتناء بها و العمدة فيها هي الأدلّة المبحوثة في كتبهم، في بعضها اضطراب في الدّلالة و ضعف في السّند بالإرسال و غيره، على ما يُرى من ظاهرها قبل التّأمّل و التدبّر.
و من جملتها عدم قيام الأئمّة عليهم السّلام بهذه الفريضة، حتّى مع الخواصّ من أصحابهم، إلّا في بعض أزمنة التّصدّي للرئاسة العامّة.
و من جملتها إجماع الفرقة على عدم الوجوب التّعييني في غير زمان الحجّة عليه السّلام.
و منها مخالفة نفس هذه الفريضة و منافاة ماهيّتها للإجراءات السّياسيّة و المناهج الحكوميّة مطلقاً.
و منها السّيرة المستمرّة من زمن النّبي إلى آخر زمن الخلفاء في نصب إمام الجمعة و عدم الرّدع من ناحية الأئمّة عليهم السّلام لذلك. و كذلك عدم عدّها مخالفة للسّيرة المحقّة في الكتب المدوّنة المعمولة بها.
و لهذا نرى في الكتب التّشتّت في الفتوى و التّردّد في الحكم، فمِن قائلٍ
بالوجوب العيني و التّعييني مطلقاً في كل زمان و مكان، و مِن رافضٍ للتّعيين و حاكمٍ بالتّخيير حتّى في زمن الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و من مُفتٍ بالوجوب في زمنه و التّخيير في غيره، و من مُرجِّح لها على صلاة الظهر في عصر الغيبة، و من محرِّمٍ بدون الإذن من قِبَل الإمام عليه السّلام، معتقداً أنّها بدعة. و الّذي يقتضيه التأمّل في الأدلّة و التّدقيق فيها أنّ الحكم بعدم الوجوب التعييني إطلاقاً بأنحائه غير تامٍّ كما سننبّه عليه في تعاليقنا على هذه الرسالة المنيفة حيث سيتبيّن لك أنّ صلاة الجمعة مشرّعةٌ كإحدى الصلوات المكتوبة عقداً و اجتماعاً، لا فرق بينها و بين صلاة الظهر في سائر الأيّام على الإطلاق، بل هي أشدّ ضرورة و تأكيداً و أبرم خطوة كما سترى عن قريب في الرّوايات إن شاء اللَّه تعالى.
[تأثير هذه الصلاة على حياة المجتمع]
و لعلّه بل المتيقّن أنّ لهذه الفريضة تأثيراً إيجابيّاً راسخاً على حياة المجتمع و نظام الامّة، و تحوّله إلى المنهج المفروض على الناس بواسطة السّلطات الحكوميّة، سواء كان حقّاً أم باطلًا لحكومات خلفاء الجور كبني اميّة و بني مروان و بني العبّاس و غيرهم.
و لهذا كان العلّامة الوالد قدّس سرّه يصرّ على إقامة السيّد القائد آية اللَّه الخميني- رحمه اللَّه تعالى- صلاة الجمعة بنفسه في بلدة قم و طلب منه الموعد لاقتراحه هذا المطلب و البحث معه و إلزامه، و مع الأسف أثناء البحث تغيّر المجال و دخلت فجأة عائلة بعض المصابين۱، و لم يقدر السيّد الوالد- رضوان اللَّه عليه-
على استمرار المباحثة و الكلام و ذوع السيّد الخميني و خرج من البيت مهموماً مغموماً متفكّرًا. و قال السيّد الوالد للسيّد الخميني: يلزم عليكم القيام بشخصكم بإقامة صلاة الجمعة لعدّة امور:
أوّلًا: أنّ هذا الاجتماع كان سنّة في الإسلام من زمن النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم مستمرة في زمن الخلفاء، و كان الإمام هو الحاكم إمّا النّبي أو الإمام عليه السّلام أو سائر خلفاء الجور و الظّلم، و أنتم حالياً الحاكم في المسلمين و لا ينبغي أن تعدلوا عن هذه السنّة و تفوّضوها إلى غيركم و ربّما يُعَدّ إهانة و عدم الاعتناء بها.
ثانياً: إقامة الصلاة مباشرة مشوّقة للشّعب كلّهم في أقصى نقاط البلد الإسلامي، فإذا رأوا أنّ رئيس المسلمين يصلّي بنفسه في مدينته سيكون هذا شوقاً لهم للحضور في بلادهم و هو أقرب إلى المقصود و الغاية، و كذلك سيكون مشوّقاً لأئمّة جمعة سائر البلاد و يرون أنفسهم مع الزّعيم في حدّ سواء في رعاية التّكليف و القيام بالواجب و سدّ منافذ ورود الشّيطان في القلوب في هذه المجالات و الظروف، و كذلك بالنّسبة إليه لأنّه يرى نفسه في حدّ سواء مع سائر أئمّة صلاة الجمعة كما أنّه هو الواقع و في نفس الأمر عند اللَّه تعالى و لا تمايز بينهم إلّا بحسب التّكليف و أداء الوظيفة، كلّ بحسبهم.
ثالثاً: نفس حضور الزّعيم في صلاة الجمعة و إن لم يكن لجهة الإمامة بل يكون مأموماً فإنّه عند اللَّه أقرب إلى العبوديّة و أبعد عن الاستقلال و التّفرّد و كلّنا سائرين نحو هذه الجهة، و هي تحقّق العبوديّة و رفض الأنانيّة، و لهذا تكون الرّوحانيّة و الصفاء أكثر و أشدّ، و نزول الملائكة و البركات من قِبَل اللَّه تعالى أقوى و أوفى.
ولكنّ السّيد الزعيم مع ذلك كلّه لم يقبل أن يتصدّى بنفسه لهذه المسؤوليّة و لم يتمّ البحث للجهة المذكورة.
و لكنّنا كنّا نرى في وجهه ارتياحاً و نشاطاً و شوقاً للحضور في صلاة الجمعة و كان ينتظر من جمعة إلى جمعة حضور الوقت و كان يوصي بشدّة و تعصّب تلامذته و مقلّديه للحضور فيها و لم نر منه- رضوان اللَّه عليه- مرّة واحدة ترك الصّلاة بدون علّة رادعة حتّى في وسط الشتاء و الثلج و أواسط الصّيف و إزعاج الحرارة و الازدحام، و كان مقلّدوه يعدّونه من أهمّ الواجبات و ألزمها شرعاً و سلوكاً، و لم أر أحداً من العلماء و أئمّة الجماعات كلّهم يعتنون بهذه المسألة كاعتنائه و اهتمامه روحي له الفداء، و كان هذا ينشأ عن ينبوع علم و حكمة و بصيرة لم يكن في غيره، و هو الإشراف الرّبّاني و الاتصال بعالم الملكوت و مقام الشّرع و التّنزيل و الاطّلاع على المباني و الملاكات نفس الآمريّة و الإشراب من صقع حضيرة القدس و عالم المشيّة و الإرادة الإلهيّة، و هذا هو المقصود من العالِم بالله و بأمر اللَّه في محاورات أهل المعرفة والعرفان.
و نرى أنّ أئمّة الجمعة في البلاد الإسلاميّة كلّهم مُنَصَّبون من ناحية إدارة الأوقاف و الشّؤون الدّينيّة، و هي المركز الوحيد لوضع البرامج و الخطب الملقاة إلى المخاطبين، و تنظيم الخطّة المعدّة من قبل السّياسيّين و زعماء الدّولة و تحميلها على الأفكار و النّفوس بما يرون من الصّلاح لبقاء حكومتهم و سيطرتهم على النّفوس و الأعراض، و لا يجوز في هذا المجال تخلّف الإمام عن البرنامج المكلّف به بمثقال ذرّة مطلقاً، و ليس من حقّه أن يقول ما يراه من الصّلاح للأمّة إن كان مخالفاً لسيرة و منهج الحكومة، و بمجرد تخلّفه عن المنهج الدستوري، نرى أنّهم
سيعزلونه فوراً و يطردونه و يجرون عليه العقوبات السّيّئة من السّجن و التّعزير و التّهجير و ما إلى ذلك ... .
[سبب منع الأئمّة عليهم السّلام إقامة الصّلاة بشكل عامّ]
و من البداهة أنّ الأئمّة عليهم السّلام لم يكونوا قادرين على إقامة الصلاة و نصب الأئمّة في البلاد في هذه الظّروف و الأزمنة أبداً. أفليس هذا إلّا إعلانٌ عن القيام في وجه الحكومة و تحرّك فعلي على المواجهة و إشعال نيران الثورة و تحريك الشّعب و الهجمة عليها؟
و هذا هو السّبب في منعهم عليهم السّلام إقامة الصّلاة بشكل عامّ و بارز في البلاد و اشتراطهم حضور الإمام عليه السّلام أو المنصوب من قِبله أو الحاكم الإسلامي للتصدّي لهذه الفريضة كما يظهر من بعض الرّوايات.
و أمّا إقامة الصّلاة بغير الشكل الرسمي أمام الملأ و إبرازها جهاراً في المساجد و التجمّعات المعروفة أمام الناس، بل في القرى أو المجموعات غير المكثّفة من الشيعة كسبعة أشخاص على الأقلّ، أو في البلاد الّتي لا يعتنى بها و لا تعدّ محطّ نظر الحكومات؛ فلا محذور فيها أصلًا. فتكون عندها مطلوبةً من الشارع، و مأموراً بها بالوجوب التّعييني الإطلاقي بلا شبهة أو كلام كما هو المستفاد من الروايات في الباب.
و حيث إنّ كثيراً من الفقهاء- رضوان اللَّه عليهم- لم يمعنوا النظر في هذه الملاحظة الدّقيقة و النكتة الأساسيّة و المحوريّة في الجمع بين الروايات المتخالفة بظاهرها؛ فلم يسلكوا الطريق الوسط، بل فاتهم الرّأي السّديد و الحُكم الرّشيد، و ذهبوا إلى مذاهب شتّى و مختلف الآراء و الفتيا، حيث حرّم بعضهم مطلقاً في زمن الغيبة استناداً إلى بعض الأدلّة، و رجّحها آخرون على صلاة الظهر، و رُبَّ قائلٍ
بالتخيير مطلقاً، و في مقابله قيل بالوجوب التعييني مطلقاً في العقد و الاجتماع و هكذا ....
[اعتقاد المصنّف قدّس سرّه بلزوم إيجاد الحكومة الإسلاميّة]
و المصنّف العلّامة العَلَم و الطَّود الأعظم سيّد العلماء الرّبّانيّين و سند الفقهاء الإلهيّين و قدوة الأولياء العارفين سيّدنا و مولانا الوالد المرحوم روحي له الفداء كان له رأي خاصٌّ به في المقام، منحازاً عن سائر الفتاوى متفردٌ به من بين المسالك و الآراء، و هو: الوجوب التّعييني عقداً و اجتماعاً، من دون أي شرط فيه بنحو الواجب المشروط كالحجّ و الصلاة بالنّسبة إلى الاستطاعة و الوقت، بل وجوبها في ظرف حضور الإمام عليه السّلام أو تحقّق الحكومة الشّرعيّة الإسلاميّة الحقّة بنحو الواجب المطلق بالنّسبة إلى شروط الوجود و التّحقّق في الخارج و الصّحّة كالطهارة و الاستقبال و لبس الطاهر بالنسبة إلى الصلاة. و كان قدّس سرّه يعتقد أنّ الحُكم بوجوب القيام لتحقيق الحكومة الإسلاميّة على كافّة المسلمين حكماً بتّيّاً لا يُرَدّ و لا يُبدَّل، و كذلك كان ملتزماً بترتّب الإثم و العصيان عليهم عند عدم القيام بهذه الفريضة حتّى انعقادها و تحقّقها. فعلى فتواه، تكون صلاة الجمعة: فريضة واجبة على الإطلاق على كافّة المسلمين بدون أي شرط لا في العقد و لا في الاجتماع، لكنّ شرط التّحقّق و الصّحّة هو حضور الحاكم الجامع لشرائط الفتيا المبسوط اليد و الاختيار. و السّبب فيه أنّ بعض الرّوايات ناطقة بذلك، و يرى قدِّس سرّه أنّها مقتضى الجمع بينها و بين الروايات الاخرى المطلقة في الوجوب الآبية عن التقييد و الاشتراط.
و كان المصنِّف قدّس سرّه معتقداً جازماً بلزوم إيجاد الحكومة الإسلاميّة، قاطعاً في إنجازها، مبرماً في وجوبها مِثل سائر الفرائض، بل آكدها و ألزمها على
الامّة الإسلاميّة بالوجوب العيني التّعييني. و بعد رجوعه من عند القبة المقدّسة العلويّة على ثاويها آلاف الصلاة و التّحيّة، بدأ بنشر و تبليغ هذه الفكرة الرّشيقة السّامية في محافله الاسبوعيّة ببيان بديع نافذ في القلوب، بحيث لو حضر شخصٌ مخالفٌ في الرأي و النظر إحدى هذه المحافل لتبدّل رأيه و تحوّلت أفكاره بشكل تامّ، لصفاء قلبه و نفوذ كلمته و صدق نيّته و خلوص إرادته و جامعيّته في المباني الشّرعيّة و تضلّعه في حقائق الوحي و بواطن الشّرع بما لا يصل إليها إلّا الأوحدي ممّن اختاره اللَّه للإفاضات الربّانيّة و جعله مهبطاً للأنوار الإلهيّة و الملائكة المقرّبين، {الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}۱ كما أنّه قدّس اللَّه نفسه القدسيّة كان يقول دوماً: لا يجوز لأحدٍ و لو بلغ ما بلغ التّصدّي لهذا المنصب و تقبّله لهذه المسؤوليّة إلّا لمن اتّصل قلبه بعالَم الجبروت، فصار من القاطنين في ذروة اللاهوت فتبدّلت نفسه و تحوّل قلبه من الأهواء الرّديئة و الأوهام البشريّة و الميول النفسانيّة، فصار مرآة لإرادة اللَّه و مشيّته، و مجلى لجلواته و ظهور أسمائه و صفاته و أفعاله و مصداقاً لكلامه:
عبدي أطعني حتّى أجعلك مِثلي- أو مَثَلي- أقول للشيء كن فيكون و تقول للشيء كن فيكون٢.
أو:
«لا يزال عبدي يتقرّب إلى بالنوافل حتّى أحبّه فأكون أنا سمعه الّذي يسمع به
و بصره الذي يبصر به و ...»۱.
و مع ذلك كان قدِّس سرّه تحت رعاية العارف الكامل الإلهي العظيم و تربيته، السيّد هاشم الموسوي الحدّاد- قدَّس اللَّه رمسه و أفاض علينا من بركات أنفاسه القدسيّة-.
و لم يعهد من أحد من العلماء قبله القيام بهذه المسألة في زمن الطاغوت بهذا المنهج الفريد، و إن صدر من بعض الأعلام بعض المؤلَّفات في مسألة ولاية الفقية و غيرها.٢
و كذلك قد وسّع قدّس سرّه نشاطاته في المسجد عبر إقامة الجلسات الدّينيّة و إحياء الشعائر بالوعظ و مباشرته الخطابة بنفسه الشريفة، و كذلك دعوة الوعاظ و الخطباء العظام السائرين على هذا النهج و السالكين في هذا المسلك، و نشر الإعلانات في المناسبات المختلفة المؤثِّرة و المحيية بحيث صار مشاراً إليه بالبنان في طريقته الوحيدة و مسيرته الفريدة، و في بعض هذه المناسبات (ليلة الخامس عشر من شعبان ميلاد قطب عالَم الإمكان و رحى دائرة الوجود الحجّة بن الحسن المهدي أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) قد أصدر بلاغاً و أرسله إلى كافّة المدن في إيران و إلى كثير من العلماء و الشخصيّات البارزة في البلاد، و قد ذكر فيه:
«اللهمّ إنّا نرغب إليك في دولة كريمة، تعزّ بها الإسلام و أهله، و تذلّ بها النفاق و أهله، و تجعلنا فيها من الدعاة إلى طاعتك، و القادة إلى سبيلك، و
ترزقنا بها كرامة الدنيا و الآخرة»۱.
و بعض فقراتٍ من التوقيع المبارك من النّاحية المقدّسة إلى جناب الشّيخ السّند و الرّكن المعتمد المفيد- رضوان اللَّه عليه- في الحثّ على ائتلاف القلوب و اجتماع الامّة على المقصد الأعلى و الغاية القصوى، مع بيانٍ منه في لزوم قيام كافّة المسلمين لتحقيق هذه الفريضة و المحور الأصلي لحياة الامّة الاجتماعيّة و الروحانيّة.
فَبَهر هذا البلاغ و الإعلان مسالك الشعائر الدّينيّة في سائر المجالات حتّى سمع من بعض روّاد السّياسة و الثّورة٢: في حين كنّا لا نسمع صوتاً من أحد فقد سمعنا هذا النّداء من هذا المسجد، فأثّر أثراً كبيراً حتّى بين أركان الحكومة الجائرة و زعمائها و أيقظهم من نوم الغفلة و الغرور و نبّههم إلى تكوّن هذا المولود و نشأته.
و كان- رضوان اللَّه عليه- قد بسط بلاغه و نداءه هذا لجميع أبناء الشّعب في كلّ مرتبة و مرحلة، العالي منهم و الدّاني، الحكومي و العادّي، العالِم و الجاهل، الملتزم و غيره، بل حتّى السّافرات، و حتّى السّلطات في جميع مراتبهم، سيّما نفس الشاه و ذويه. و هذا من مميّزاته و مختصّاته، فإنّه كان يرى نفسه الشريفة مرآة لنفس النّبي الأكرم و الأئمّة المعصومين صلوات اللَّه و سلامه عليهم في تبليغ الشّريعة الرّفيعة، و مجلى لتجلّيّات الأنوار المقدّسة المطهّرة، و كان يعتقد أنّ عليه المسؤوليّة الكبرى و القيادة العظمى بالنّسبة إلى كافّة أهل الأرض بنفس المسؤوليّة
و الزّعامة المعتبرة في حقّ المعصومين عليهم السّلام تحت إشراف صاحب العصر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء و ولايته الكلّيّة الإلهيّة، و كان يرضى و يحبّ و يختار من صميم قلبه و صافي ضميره لأدنى نَسَمَةٍ في أقصى بقاع الأرض من مسلم أو غيره من الكفّار و المشركين، ما يرضى و يحبّ و يختار لنفسه القدسيّة. و لَعمري إنّ هذا ليس بمزاح و لا إغراق، و اقسم بالعظيم إنّي كنت أرى من حالاته الشريفة و أقواله المنيفة طيلة الحياة هذا المعنى و المسلك الملكوتي الإلهي بدون أي مسامحة و مجاملة و لا فضول كلام.
[إرسال المصنِّف قدِّس سرّه رسائل إلى كثير من العلماء و المراجع العظام]
و كان يرسل الرسائل إلى كثير من العلماء و المراجع العظام يرغّبهم و يحثّهم للورود في هذا النهج و السير في هذا المسلك، منهم الآيات و الحجج: السيّد محمّد هادي الميلاني و السيّد روح اللَّه الخميني و الشيخ الآخوند ملّا على الهمداني و السيّد محمّد على القاضي التبريزي و الشيخ بهاء الدّين المحلّاتي و السيّد عبد الحسين دستغيب الشيرازي و الشيخ صدر الدّين الحائري و السيّد صدر الدين الجزائري و الشيخ مرتضى المطهّري و السيّد عبد الهادي الشيرازي و غيرهم من الأعاظم و الفحول، رضوان اللَّه تعالى عليهم أجمعين.
و كان السيّد محمّد هادي الميلاني يقول لرفقاء السيّد الوالد: كنت إذا وَصَلَت إلى رسالة منه أضعها في جيبي بضعة أيّام و اطالعها كل يوم مرّة أو مرّتين.
و كان في جميع هذه الرسائل يوجّههم إلى الطريق الأقوم و الهدف الأسنى و يبثّ روح الشريعة في نفوسهم و ضمائرهم ممّا يؤدّي إلى تقوية نشاطهم الدّيني و نشر عرق الحميّة الشّرعيّة و إخلاص العمل و تصفية الباطن و الخاطر من الغفلات و الكثرات و الاعتبارات الدّنيويّة، و ما عليه السّياسيّون من التّغلّب على حطام
الدّنيا و الرّئاسات المادّيّة. و كانوا جميعاً معترفين بذلك، و يقولون إنّ كلامه يختلف عن سائر الكلمات، و رسائله مختلفة عن سائر الرسائل.
و كان يتداول في جميع هذه المسائل مع استاذه الوحيد الفريد و مقتداه و مراده فخر الشّريعه الغرّاء و عماد الحنيفيّة البيضاء العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي و يستشيره. و كان له علاقة خاصّة و اتّصال وثيق بالآية الحجّة السيّد روح اللَّه الخميني قدّس سرّه، و كان يذهب إلى بيته في قم المقدّسة كراراً و مراراً لهذه الجهة، و يتباحث معه في كيفيّة تحريك الامّة و الشّعب و تسييرها نحو الثورة الإسلاميّة، و كان له أثرٌ قاطع غريب في تصحيحها و إصلاحها، و ممّا يكشف عن موقعيّة و شأنٍ خاصّ لديه، و كان يعدّ محوراً أساسيّاً في جميع هذه الامور، و كان السيّد القائد لا يصدر إعلاناً إلّا بعد مراجعة السيّد الوالد و إمضائه، و كان هو الرابط فيما بينه و بين المرتبطين معه و المتعلّقين به من خواصّ العلماء و رجال السّياسة و فِرَق المجاهدين و المقاتلين، كالهيئة المؤتلفة و غيرها، و قد ذكر بعض هذه المسائل في كتابه المسمّى بـ «وظيفة الفرد المسلم في إحياء حكومة الإسلاميّة» و مع ذلك كلّه لم تستمرّ له المشاركة و المساعدة و لم يتيسّر له الإشارة على السيّد القائد بسبب بعض الامور.
وبالجملة كانت فكرته السّامية و رأيه الصائب و العلّة لإقامة صلاة الجمعة في ظرف تحقّق الحكومة الإسلاميّة هي اهتمامه البليغ لتشكّل الحكومة العادلة، و إلّا فهو ممّن كان يرى الوجوب التعييني في إقامة هذه الصلاة بدون أي شرط فيها بنحو الواجب المشروط، و هكذا سرد كلامه في الاستدلال بالوجوب عَبر هذه الرسالة على ما يلاحظ فيها من أنّه قدّس سرّه قد غيّر رأيه في أواخرها و حكم
باستحسانها و رجحانها على كلّ حال في زمن الغيبة و عدم وجود النائب الخاصّ و انعقاد الحكومة العادلة، و لهذه النّكتة فقد استحسنّا أن نعلّق عليها بعض التعليقات على ما يخطر ببالنا القاصر و رأينا الفاتر.
و الّذي تحصّل لنا بعد البحث و التّأمّل في الأدلّة مع إخواننا الفضلاء الأجلّاء كثّر اللَّه أمثالهم حول هذه المسألة، هو الوجوب العيني التعييني عقداً و اجتماعاً و مطلقاً في كلّ حال و مجال، بدون أي شرط لا في الوجوب و لا في الصّحّة. و اللَّه هو العالم.
الكلام فى صلاة الجمعة يقع فى الجهتَين، السياسيّة و الأخلاقيّة
و أمّا الكلام في صلاة الجمعة و كيفيّة انعقادها بعد الفراغ من حكمها الوجوبي فيقع في الجهتَين، السّياسيّة و الأخلاقيّة
أمّا الجهة الاولى: [السّياسيّة]
لا شكّ أنّ لطبيعة هذه الصلاة علاقة خاصّة بالمسائل الاجتماعيّة و الشّؤون الحكوميّة. فمن حيث إنّ لكلّ حكومة مخطّطاً خاصّاً بها و هي تدير الشّعب و تدبّر أمره في هذا المخطّط، فيجب أن تعلن و توضّح هذا برنامجها بشكل عامٍّ، من القيام بشؤون الملّة و ما كان فيه من الصّلاح و الفساد و المسائل الاجتماعيّة و عمران البلاد و العلاقات الخارجيّة و إعداد الشّعب للمواجهة مع الأحداث و الحوادث الطارئة و هكذا.
و من ناحية اخرى فإنّه لم يكن في سالف الزّمان وسيلة للإعلام و الإعلان كالجرائد و الأجهزة الإعلاميّة الحديثة، و لهذا كانوا يستثمرون صلاة الجمعة فرصة لهذا المطلب لتوجيه الشّعب نحو المقاصد و المخطّطات المرسومة. و لهذا فقد ورد في الأحاديث بأنّه لا تقام هذه الصلاة إلّا في بلاد تقام فيها الحدود، كما في الدّعائم
عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال:
«لا جمعة إلّا مع إمام عدل تقي».۱
و عن علي عليه السّلام أنّه قال:
«لا يصحّ الحُكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمامٍ عدل».٢
و نحوها ... .
و لهذه العلّة كانت إقامة هذه الصلاة من الوظائف الحكوميّة، و لا يسمحون لأحدٍ أن يقيم الصّلاة من تلقاء نفسه، و كانوا يُنصِّبون لهذه الفريضة أئمّة من قِبَلهم موالين لهم. و من ناحية اخرى كان نفس هذا الاجتماع و الحضور الشعبي العظيم يعدّ تأييداً لزعماء الحكومة، مشيّداً أركانها مقوّياً دوامها و بقائها، و كانوا ينظرون إلى مَن حضر و من لم يحضر، حتّى أنّ أئمّتنا عليهم السّلام كانوا يحضرونها تقيّة و خوفاً على دماء الشّيعة و أعراضهم.
الجهة الثانية و هى الجهة الأخلاقيّة أهمّ من الاُولي
فهي أهمّ من الاولى، لأنّ فيها الحثّ و التّرغيب على المسائل الأخلاقيّة و التّقوى، و هذه هي النّكتة الّتي قد غفل عنها كثيرٌ ممّن تصدّى لهذه المسؤوليّة فظنّوا أنّ الأصل في صلاة الجمعة هو الحيثيّة السّياسيّة فيها، و أنّ ذكر التّقوى فيها فرع لها، بل قد يسمع أنّ بعضاً يذكر اسم التّقوى في الخطبة على سبيل الاحتياط و لا يلتفت إلى كون الاشتغال بالسّياسة بدون رعاية التّقوى و الاهتمام بها و جعلها نصبَ العين في كلّ حال و مقام لا قيمة له أصلًا بمقدار مثقال ذرّة و هذه السّياسة
هي سياسة حكّام الجور كخلفاء الظلم و العدوان من بني اميّة و بني مروان و غيرهم، و هذه النظرة بعيدة عن الإسلام و الشريعة، قريبة من الكفر و الزندقة.
والسرّ في ذلك أنّ مسألة السّياسة و الحكومة في الإسلام و غيره من الأديان الإلهيّة معدّة لإقامة العدل و الحدود و إصلاح المجتمع لتحصيل الأمان و إعداد الأسباب لكلّ فرد من أفراد الشّعب للوصول إلى أعلى مراتب الفعليّة و التّوحيد، و هذا حقّ مُسَلَّم إلهي معطى مِن قبل اللَّه تعالى إلى جميع أفراد المجتمع من الصغير و الكبير و العالى و الداني بلا اختلاف أبداً. و إلّا فلا فرق بين الحكومة في الأديان الإلهيّة و المدارس المادّيّة كما نشاهدها في العالم و شاهدناها في حكومات الخلفاء الغاصبين و بني اميّة و بني العبّاس و غيرها.
قال اللَّه تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}۱.
و قال: {وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}٢
الظُّلمة هي الشهوات و الرئاسات و الشؤون الدّنيويّة و عالَم الوهم و الاعتبار، أمّا النور فهو عالَم التوحيد و البهجة و البهاء و عالم الحقائق و الأنوار و عالم الملائكة و الأرواح القدسيّة و عالم الجبروت و اللاهوت و عالم الفَناء و الأحديّة، و هذا هو المراد من كلام مولى الموَحّدين و قطب العرفاء و الأولياء و الأنبياء و
الأوصياء أميرالمؤمنين عليه السّلام حيث يقول:
«و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء أخذ على الوحي ميثاقهم و على تبليغ الرّسالة أمانتهم لمّا بدّل أكثر خلقه عهد اللَّه إليهم، فجهلوا حقّه و اتّخذوا الأنداد معه، و اجتالتهم الشّياطين عن معرفته و اقتطعتهم عن عبادته، فبعث فيهم رسله و واتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته و يذكّروهم منسي نعمته و يحتجّوا عليهم بالتّبليغ و يثيروا لهم دفائن العقول و يروهم الآيات المقدّرة، من سقف فوقهم مرفوع و مهاد تحتهم موضوع ...»۱.
[اختصاص التصدّي لهذا المقام بخلفاء اللَّه و أصفيائه]
و لهذا نرى أنّ الإمام سيّد الساجدين و زين العابدين علي بن الحسين عليهما السّلام يخصّ التصدّي لهذا المقام بخلفاء اللَّه و أصفيائه و مواضع أمنائه المخصوصين بكرامته حيث يقول:
«اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع أمنائك في الدّرجة الرّفيعة الّتي اختصصتهم بها قد ابتزّوها و أنت المقدّر لذلك، لا يغالَب أمرك و لا يجاوز المحتوم من تدبيرك، كيف شئت و أنّى شئت و لما أنت أعلم به غير متّهم على خلقك و لا لإرادتك، حتّى عاد صفوتُك و خلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلًا و كتابك منبوذاً، و فرائضك محرّفة عن جهات أشراعك و سنن نبيّك متروكة. اللهمّ العن أعداءهم من الأوّلين و الآخرين و مَن رضي بفعالهم و أشياعهم و أتباعهم. اللهمّ صلّ على محمّد و آل محمّدٍ، إنّك حميدٌ مجيدٌ، كصلواتك و بركاتك و تحيّاتك على أصفيائك إبراهيم و آل إبراهيم و عجّل الفرج و الرّوح و النّصرة و التّمكين و التأييد لهم. اللهمّ و اجعلني من أهل التّوحيد و الإيمان بك و
التصديق برسولك و الأئمّة الذين حتمت طاعتهم ممّن يجري ذلك به و على يديه آمين ربّ العالمين»۱.
و إلى هذا المعنى السامي و الدرجة العليا من التوحيد و العرفان يشير صاحب الولاية الكّليّة الالهيّة مولى الموحّدين أميرالمؤمنين عليه السّلام و يقول:
«سبحانك أي عين تقوم نصب بهاء نورك و ترقى إلى نور ضياء قدرتك؟ و أي فهم يفهم ما دون ذلك؟ إلّا أبصارٌ كشفتَ عنها الأغطية و هتكت عنها الحجب العميّة، فَرَقَتْ أرواحها إلى أطراف أجنحة الأرواح فناجَوك في أركانك و ولجوا بين أنوار بهائك، و نظروا من مرتقى التربة إلى مستوى كبريائك، فسمّاهم أهل الملكوت زوّاراً، و دعاهم أهل الجبروت عمّارا»٢.
فينبغي لهذا الشخص القدسيّ أن يقبل مسؤوليّة الهداية و الإرشاد و تربية النفوس فيسوقهم نحو عالَم الملكوت و يأخذ بزمام الإرادة و السّداد و يجعلها على مستوى الرُّقي و الصّلاح بالنحو الأتمّ الأوفى. ففي هذا المجال يعتمد الإنسان على الإجراءات و الأنشطة السّياسيّة و الحكوميّة و يتقبّلها بقبول حسن. و في هذا الموقع يحقه لنا أن نقول بعدم الفصل بين السّياسة و الدّيانة في الإسلام. و هي السّياسة الّتي تنبعث من النفوس المطهّرة اللاهوتيّة بعين الدّيانة المنبعثة من صقع عالَم الوحي و التشريع، فافهم و تأمّل.
و إلّا فكلّ فريق يعمل في عالم السّياسة بمقتضى عقيدته و ديانته، و كان الحجّاج بن يوسف الثقفي لعنه اللَّه يستدّل على صحّة أعماله الشنيعة و فعاله الوقيحة بالآيات القرآنيّة و وجوب الإطاعة لُاولي الأمر!
[تصنيف المصنّف العلّامة رضوان اللَّه عليه سِفراً قيّماً في مسألة ولاية الفقيه]
و السّيّد الوالد- روحي له الفداء- قد صنّف سِفراً قيّماً راقياً في مسألة ولاية الفقيه و تصدّيه للحكومة في أربعة أجزاء، و لله درّه و عليه أجره فجزاه اللَّه عن الإسلام و أهله خير جزاء المصنِّفين و المعلِّمين، فبيّن فيه حقيقة الولاية و البصيرة في الفقه، و حقّق فيه مراتب الإشراف و السّيطرة على عوالم الأحكام و الملاكات بالنّفس القدسيّة المتّصلة بمصدر التّشريع و منبع الوحي المستضيئة بصفاء سرّه و خلوص ضميره من صقع عالم الجبروت و ينبوع الشّريعة و التّنزيل. و هذا هو الفقيه و المفتي الّذي يجب علينا إطاعته و يلزم علينا اتّباعه، و هو الّذي يكون دينه عين سياسته و سياسته عين ديانته، و كلامه حُكم و فعله دليل، و اولئك و اللَّه الأقلّون عدداً و هم و اللَّه نور اللَّه في ظلماتِ الأرض و مهالك الدّهر، و هم الّذين فتح اللَّه أبصار قلوبهم فيشاهدون بواطن الامور و مقادير اللَّه في عوالم المُلك و الملكوت و صلاح العباد بواقع الأمر و حقيقة البصيرة، و أنّى لنا بإدراك هذه المرتبة؟ هيهات هيهات أن ندرك هذه الذروة العليا بعقولنا القاصرة و أوهامنا، فكيف تصل إليها أيدينا و ندّعي الوفود إليها؟!
و لهذا كان الوالد- قدِّس سرّه- يقول: لا يجوز الورود و الإقدام في هذا المجال إلّا بالإذن الصّريح و الأمر المباشر من صاحب الولاية الكلّيّة مولانا الحجّة بن الحسن المهدي أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، أو الّذي اتّصل قلبه و ضميره به بحيث يراه بقلبه و سرّه في كلّ لحظة و آن، و يكون بمحضره القدّوسي و مرآه، فيكون لسانه الّذي ينطق به و يده الّتي يأخذ بها و إرادته الّتي تنبعث من نفسه المطهّرة. و لهذا رأينا في النهضة الدستوريّة و الثّورة المشروطة كيف لعبوا بالعلماء و الأعاظم و الأجلّاء من الأفاضل، و بدّلوا الكلمة و حرّفوا المسير و أدخلوا الملّة في المهالك و البلايا و فعلوا
ما فعلوا بالدّين و الدّنيا و ضلّوا و أضلّوا و هلكوا و أهلكوا ....
و كلّ يدّعي وصلًا بليلى | *** | تَبيّن مَن بكى ممّن تباكى |
فكم هناك فرق بين مَن رأى أنّ صلاة الجمعة صلاة مربّية للنّفوس، مهذّبة للأخلاق، محرّكة نحو الفعليّات و الغايات الكماليّة، محيية للأرواح الخامدة، مبصِّرة للعيون الرّمدة، منوّرة للقلوب و الأفكار، و مَن لا يرى فيها إلّا الاشتغال بالمسائل السّياسيّة و الاجتماعيّة و لا ينظر إليها إلّا من هذا المنظار الوضيع السخيف، و هكذا يكون الرأي و النّظر و العقيدة في جميع أفكارهم و ممارساتهم و تصرّفاتهم و منهجم، فلقد سمعت من بعضهم يقول:
الأصل في القيام بعزاء الأئمّة عليهم السّلام، خصوصاً أيّام عاشوراء، و الخروج إلى الشوارع هو الاجتماع و التظاهر سواء أضممت العزاء إليه أو لا.
فيا للأسف لهذه الفكرة الرديّة المُردية المبيدة لروح التّشيّع و الولاية في الامّة و المحرّفة للشّعب عن مسلك الأئمّة عليهم الصلاة و السلام!
و هم غافلون عن أنّ حقيقة الشّريعة و قوامها و أصلها و عمادها هي الولاية و الرّكون إليها، و هي بدون الإمام عليه السّلام ميّتة فانية صلبة جامدة مِثل الخشب و الحجر فاقدة للنشاط الروحاني و روح التّقوى و التّحرّك نحو الأعلى و الغاية القصوى. فالصلاة بدون الولاية لا أثر لها إلّا التّحرّك في العضلات، و الحجّ بدون الولاية ليس إلّا صرف المال، و الأفعال العباديّة و الجهاد بدون الولاية ليس إلّا تصرّف البلاد كسائر التّصرّفات، و الحكومة بدون الولاية هي التّرأس على الأنام و السّيطرة على النفوس و الأعراض مع ما فيها من المفاسد و المهالك الموبقة و التّوغّل في الإنانيّة و الأهواء الدّنيّة الرّذيلة.
[الامور اللازم على أئمة الجمعة]
و هكذا فاللازم على أئمّة الجمعة توجيه العباد نحو صاحب الولاية الإلهيّة و إحياء النّشاط الرّوحاني نحوها بشكل جدّي و واقعي فيوضّحوا لهم حقيقة الاتّباع و كيفيّة الإطاعة و الالتزام بطوق الانقياد له عليه السّلام و انتظار الفرج و الظهور بفعليّة الاستعدادات و التهيؤات، لا بصِرف الأقاويل الباطلة المُعَيّنة للظهور كما يسمع عن الكثير و لا واقع وراءه و لا طائل تحته إلّا اللعب بعقائد الأنام و صرف الأيّام و الأوقات بالقيل و القال.
ففي الكافي بسند صحيح عن محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليهما السّلام في خطبة يوم الجمعة، و ذكر خطبة مشتملة على حمد اللَّه و الثّناء عليه و الوصيّة بتقوى اللَّه و الوعظ ...: «و اقرأ سورة من القرآن و ادع ربّك و صلّ على النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم و ادع للمؤمنين و المؤمنات، ثمّ تجلس قدر ما يمكن هنيئة ثمّ تقوم و تقول: ... و ذكر خطبة الثانية و هي مشتملة على حمد اللَّه و الثّناء عليه و الوصيّة بتقوى اللَّه و الصلاة على محمّد و آله و الأمر بتسمية الأئمّة عليهم السّلام إلى آخرهم و الدّعاء بتعجيل الفرج ... و يكون آخر كلامه أنّ اللَّه يأمر بالعدل و الإحسان الآية ...»۱.
و في العلل و العيون عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام قال:
«إنّما جُعِلَت الخطبة يوم الجمعة لأنّ الجمعة مشهد عامّ، فأراد أن يكون للأمير سبب إلى موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة و ترهيبهم من المعصية و توقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم، و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق و من الأهوال الّتي لهم فيها المضرّة و المنفعة، و لا يكون الصّائر في الصلاة منفصلًا و ليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة و إنّما جُعِلَت
خطبتان لتكون واحدة للثناء على اللَّه و التمجيد و التقديس لله عزّ و جلّ، و الاخرى للحوائج و الإعذار و الإنذار و الدعاء و لما يريد أن يعلّمهم من أمره و نهيه ما فيه الصّلاح و الفساد»۱.
فالإمام عليه السّلام يبيّن كيفيّة الخطابة و التعلّق و الارتباط بالله تعالى ابتداءً بالثناء و التمجيد و التقديس عليه لاستجلاب فيضان الرّحمة و العطوفة منه تعالى كما نشاهده في جميع الأدعيّة المأثورة عن الأئمّة عليهم السّلام كدعاء كميل و الافتتاح و أبي حمزة الثّمالي و غيرها.
[المطالب الّتي يجب أن تكون الخطبة مشتملة عليها]
و بالتحقيق يجب أن تكون الخطبة بأفصح لسان و أبلغ بيان باعتماد الخطابة المعمّقة، و إيراد قصص من الأولياء الصالحين و المواعظ البليغة من درر الأخبار و عباراتٍ من نهج البلاغة لمولى المتّقين أميرالمؤمنين عليه السّلام، لا سيّما الخطب الّتي يتحدّت فيها عن فَناء الدّنيا و الموت و اعتباريّة الدنيا، و الحوادث الّتي جرت على أهل بيت الوحي للاعتبار، و كذلك حالات العرفاء الرّبانيّين و أهل البصيرة، و إنشاد أشعارٍ راقيةٍ من شعراء العرب و العجم كابن الفارض المصري- رضوان اللَّه عليه- و المولى جلال الدين البلخي و حافظ الشيرازي و غيرهم من العرفاء و الأولياء الرّبانيّين كما نبّه عليه المولى محمّد تقي المجلسي في كتابه المسمّى بـ «لوامع صاحبقرانية» بالفارسية٢- رحمة اللَّه و رضوانه عليه- بحيث يوجب اشتعال لهيب الشوق في المخاطبين، و زوال الرغبة إلى حطام الدنيا و الأهواء الدنيّة، و
نشاط القلوب في التّوجّه إلى عالَم الملكوت و رفض الرذائل من الإقبال على الرّئاسات الدنيويّة، و الحبال و الشباك المهلكة في أيدي الشّياطين، بحيث إنّ كلّ من يحضر في هذه الصلاة يجد في نفسه تحوّلًا و فَرْقاً بين حاله قبل الحضور و حاله بعده و يتشوّق إلى الحضور في الجمعة الآتية طيلة الاسبوع.
فمن الضروري أن يطالع الخطيب الكتب الرّوائيّة و الأخلاقيّة ساعات طويلة و مدّة يُعتدّ بها، و يصرف أوقاته لاستفادةٍ أكثر و إفادة أوفى و يجتنب عن التكرار المتسلسل المملّ المتعارف، و ما يَعْلمُه أكثر الناس من المسائل المطروحة في الجرائد و المجلّات و ما تبثّه وسائل الإعلام الاخرى، و أن يكون مستقلًا في رأيه صائباً في نظره، و يلقى خطابه بما يراه مصلحة و نافعاً للمخاطبين بدون الملاحظات الاعتباريّة و المصالح الشخصيّة، بل اللازم أن لا يتوجّه إلّا إلى اللَّه سبحانه و لا ينظر إلّا إلى اللَّه تعالى شأنه، و لا يفكّر إلّا في ما كلّفه اللَّه تعالى و وجّهه إليه {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ}۱، و يستنّ في إقامة الصلاة بسنّةِ الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، و يصعد على المنبر، و يجتنب عن الوقوف وراء المنصّة المعروفة حاليّاً بـ «تريبون»، فهي آلة مستوردة من بلاد الكفر و لا ينبغي للخطيب أن يلقى خطابه منها، فنحن جماعة الشّيعة يجب أن نلتزم بإقامة الشعائر من على المنبر و رفض الآثار الدّخيلة في ثقافتنا الإسلاميّة كلّيّاً، و لبس الرداء بدلًا من العباية.
و اللازم على زعيم الامّة أن يخطب بنفسه و يقيم الصلاة، و أن يحضر في الصلاة كلّ الأفراد و جميع الفِرَق من العلماء و غيرهم، و لا يكتفون بالمشاهدة و
السّماع من خلال الوسائل الإعلاميّة، فهذا يوجب الوهن و الضّعف، و ينصّب لجميع المناطق في البلاد خطيباً من أوجه الناس منزلةً و علماً و خطابةً و رعايةً للتّقوى و التّجنّب عن الدّنيا و زخارفها، بحيث يوجب الشّوق و الرّغبة لحضور الناس، و لا يكون في نفوسهم شيئاً منه و من تصرّفاته، و اللازم على الخطيب أيضاً الدعاء لجميع الامّة الإسلاميّة في أقصى نقاط العالم، و لا يعدّ مسلماً خارجاً عن الحكومة الإسلاميّة، بل كلّ مسلم في أبعد بقاع الأرض يكون داخلًا في البلد الإسلامي و شرائطه و حقوقه، و يوضّح و يبيّن سياسات دول الكفر و العناد و كيفيّة مؤامراتهم على البلاد الإسلاميّة، و لهذا فاللازم على الخطيب أن يكون خبيراً نافذ البصيرة بالمسائل السّياسيّة، محلّلًا للقضايا و الأحداث في العالم و لا يكتفى بالتحليلات الموجودة في الجرائد و الوسائل المتعارفة، و كذلك يجب على الخطيب أن لا يستثنى في النّصيحة و الموعظة أحداً بل يُراعى ما أوصاه النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم حيث قال: «و النصيحة لأئمّة المسلمين»۱، و أن يوسّع بلاغه و نصحه إلى جميع الشعوب و الفرق في العالم و يدعوهم إلى الصّلاح و الرّشاد من رعاية الشؤون الإنسانيّة و التّوجّه إلى التّوحيد، فإنّهم عباد اللَّه جميعاً مثلنا، و يرى مقامه مقام النائب عن النّبي و الإمام عليه السّلام في الرّسالة و البلاغ، و ممثّلًا من ناحيته، و لا يخاطبهم بلسانٍ حادٍّ، فهذا لا يعدّ فخراً و مباهاة بل: {وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}٢ {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى}.٣
و أن لا يرى نفسه موكَّلًا من اللَّه تعالى على العباد مولَّى عليهم بحيث يرى أنّه يجب عليهم أن يطيعوه و يقبلوا قوله، بل عليه أن يرى نفسه أقلّ عباد اللَّه و خليقته، و يعدّل كلماته و لا يتجاوز العُرف و السّيرة العقلائيّة في المحاورات و العلاقات. و بعبارة اخرى يلزم على الخطيب أن يكون خطابه جاذباً مقنعاً شافياً شاملًا لكلّ المصالح المتعلّقة بالعباد في بلده و سائر البلاد من البلدان الإسلاميّة و غيرها، ليسوقهم إلى معرفة حقيقة الإسلام و التّشيّع و {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ}۱ و هو دين الرّحمة و العطوفة و الودّ و المحبّة و الإيثار و العلم و الحكمة و التّعقّل و الحرّيّة، بعيدٌ عن التّعصّب و التّحجّر و الجاهليّة، متقدّم في جميع المجالات و النّشاطات العلميّة، متطوّرٍ في كافّة أنحاء التطوّرات الحيويّة، و يذكّرهم بالآيات القرآنيّة كهذه الآية: {قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}٢ و يبيّن لهم سيرة المعصومين عليهم السّلام و السّنّة النبويّة مع المخالفين من سائر الأديان و الملل، و يعرّف لهم حقيقة التّشيّع و مبانيه، و يوجّههم إلى محوريّة الولاية و الوجود الحي القيّوم في إدارة عالم الإمكان و الظهور، و كيفيّة غيبوبته عنّا و سيطرته و ولايته على عالم الوجود ببيانٍ مقنع لطيف جذّاب جميل.
[الامور الّتي تجب على خطباء الجمعة]
و كذلك يلزم على الخطباء توجيه المخاطبين و تنبيههم على التّكاليف
الاجتماعيّة من رعاية الموازين الأخلاقيّة في مجتمعاتهم و محاوراتهم و كيفيّة معاشرتهم و القيام بإقامة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و تحكيم المؤانسة و المواصلة، و تبيين الطّرق في ذلك، و كذلك القيام بالتّكاليف الشّخصيّة و الامور المتعلّقة بهم من العبادات و المناسبات الدّينيّة لهم و إحياء شعائر الدّين و ذكر أهل البيت و مجالسهم و هكذا.
و البحث في هذه المسائل يقتضي مجالًا واسعاً لا تسعه هذه المقدّمة و نكتفي بهذا المختصر، و فيه تنبيه للغافلين و تذكرةٌ لمن أراد أن يتذكّر أو يخشى.
و لهذه المهمّة نرى أنّ في بعض الروّايات ما يخصّ الصلاة بحضور الإمام عليه السّلام أو النّائب عنه أو قيام الفقيه العادل المبسوط اليد بإقامة هذه الفريضة في البلاد لإيضاح أنّ الإتيان بصلاة الجمعة بهذه الكيفيّة في البلاد لا يتمّ إلّا من شخص يمتاز بهذه الخصوصيّات، و هذا ممتنع مع قيام حكّام الظلم و خلفاء الجور في زمن الأئمّة عليهم السّلام و غيره ضرورةً و بداهةً، و لكنّ القواعد الموجودة لدينا كالحديث النّبوي الشريف: «إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه، ما استطعتم»۱ و «الميسور لا يترك بالمعسور»٢ و «ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه»٣ و غيرها، بغضّ النظر عن الروايات المُثبتة للوجوب حتّى في غير زمن الأئمّة و في حكومة الجائرين و الغاصبين، لا يبقى مجالًا للشّك في وجوبها عيناً و تعييناً عقداً و اجتماعاً.
و هذه الرسالة المصنَّفة في صلاة الجمعة من الرواشح الثمينة بِيَدِ العالم العامل
الكامل فخر الشّريعة و ركن الطّريقة و عماد الحقيقة سند الفقهاء و المجتهدين و قدوة العرفاء الكاملين سيّدنا و مولانا و والدنا العلّامة آية اللَّه العظمى السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني- رضوان اللَّه عليه- مدّة إقامته و اشتغاله في العتبة المقدّسة العلويّة، و كان قد دَرَسَ هذا الباب عند الآية الحجّة السّيّد محمود الشاهرودي- رحمة اللَّه عليه- و كان نظره على عدم الوجوب في زمن الغيبة، لكنّ السيّد الوالد ألزمه في أثناء المباحثة على مبناه و سدّ عليه الطريق من جميع الجوانب، و أقنعه بالالتزام اجتهاداً- نتيجة الأدلّة- بالوجوب التعييني، و لكن مع ذلك كلّه لم يقبل التعيين فتوى و ألزمه الإجماع المتوهّم على عدم الوجوب و رفض الأدلّة المثبتة له و هذا أحد مصاديق التّمسّك بالإجماع الواهي و الموهوم و رفض كلام المعصوم، فيا للأسف لهذه السّيرة المستمرّة، و نحن بحمد اللَّه تعالى و توفيقه قد كتبنا رسالة مستوفاةً لوهن الإجماع في طريق الاستنباط و عدم موقعية له اصلًا في الاجتهاد، و قد أثبتنا بما لا مزيد عليه على عدم حجّيّته و أنّه أمرٌ مختلق مستوردٌ من ناحية العامّة و لا أصل له أبداً في الرّوايات و الاصول المأثورة عن المعصومين عليهم السّلام، و يجب علينا رفضه و نسيانه بالكلّيّة و نحوّله و نفوّضه إلى العامّة فهم أولى بالاستناد و الاستفادة منه، و إذا سلب هذا من اصولهم لا يبقى لهم شيء لا في الأساس و الاصول و لا في الفروع، و هو- قدّس سرّه- قد راجعها في أواخر عمره الشّريف و علّق عليها بعض التعليقات، و لكنَّ التأمّل فيها و في التعليقات يُقوِّي مسألة كونه- قدّس اللَّه رمسه- قد غيّر رأيه و بدّل فتواه في رجحانها على كلّ حال حيث إنّه كان من القائلين بالحرمة و البطلان في غير زمن الحضور و الحكومة الشّرعية، و لكنّه في آخر الرسالة قد تبدّل رأيه و التزم
بالرجحان في كلّ حال و مجال.
[إنّ الأصل في صلاة الجمعة الوجوب العيني التعييني]
و نحن مع الاعتراف بالعجز و القصور و النقصان، و بعد الفحص و البحث و التّأمّل في الأدلّة و المتون فقد رأينا أنّ الأصل في صلاة الجمعة هو الوجوب العيني التعييني عقداً و اجتماعاً بدون أي شرط لا في الوجوب و لا في الصّحّة مع الأمن من الخوف عند اجتماع الشرائط و تحقّق الموضوع. و قدّمنا بعض التعليقات۱ ببضاعة مزجاة و قلّة باع متوخِّين في ذلك مزيداً للبصيرة و إتماماً للفائدة.
و الحمد للّه أوّلا و آخراً و ظاهراً و باطناً، و الصلاة و السّلام و التحيّة و الإكرام على صاحب الشّريعة الغرّاء و الحنفيّة البيضاء خاتم الأنبياء و المرسلين محمّد و على آل بيته امناء الوحي و حَمَلة الرسالة، سيّما قطب عالم الوجود صاحب العصر و الزمان بقيّة اللَّه على الأنام أرواحنا لتراب مقدمه الفداء و جعلنا من شيعته و مواليه و الذّابّين عنه بمحمّد و آله.
و أنا الراجي عفو ربّه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني في يوم الجمعة التاسع من رجب المرجّب من سنة ۱٤٢۷ الهجريّة القمريّة في المشهد المقدّس الرّضوي على ثاويه آلاف التحيّة و الثناء
الفصل الأوّل: في الرّوايات الواردة في صلاة الجمعة
[كلام للمصنف رحمه الله]
بسمه تعالى شأنه العزيز
هذه الرّسالة في صلاة الجمعة
أوردت فيها استدلال المذاهب المختلفة
و ذكرت فيها وجوب هذه الفريضة تعييناً في كلّ زمان و مكان
بوجوه عديدة و أشرتُ إلى بعض المطالب العالية
و المباحث السّامية ببيان واضح و نسأله تعالى
أن يجعلها ذُخراً لي في يوم المعاد
و أنا الرّاجي السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني
٩ صفر ۱٣۷٢
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين
و الصّلوة و السّلام على سيّدنا و نبيّنا محمّد
و على آله الطيّبين الطّاهرين
و لعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين
الروايات الواردة في صلاة الجمعة
صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام: «الجمعة واجبة على من إن صلَّى الغداة في أهله، أدرك الجمعة»۱. (الحديث)
خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام: «إنّما وجبت الجمعة على من يكون على فرسخَين لا أكثر»٢.
صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الجمعة فقال: «تجب على من كان منها على رأس فرسخَين فإن زاد على ذلك فليس عليه شيء»٣
رواية حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليهما السّلام قال: «ليس على أهل القرى جمعة و لا خروج في العيدَين»۱.
صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام قال: سألته عن اناس في قرية، هل يصلّون الجمعة جماعةً؟ قال: «نعم يصلّون أربعاً إذا لم يكن مَن يخطب»٢.
صحيحة الفضل بن عبد الملك، قال: سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: «إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يخطب بهم، جمعوا إذا كانوا خمسة نفر. و إنّما جُعِلَت ركعتَين لمكان الخطبتَين»٣.
رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن على عليهم السّلام قال: «لا جمعة إلّا في مصرٍ تقام فيه الحدود»٤.
موثّقة ابن بُكير قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قومٍ في قرية ليس لهم من يجمع بهم، أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: «نعم إذا لم يخافوا»٥.
في العيون و العلل عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام قال: «فإن قال قائل: فَلِم صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين، و إذا كانت بغير إمام ركعتين و ركعتين؟ قيل: لعلل شتّى، منها: أنّ الناس يتخطّون إلى الجمعة من بُعدٍ فأحبّ اللَّه عزّ و جلّ أن يخفّف عنهم لموضع التّعب الّذي صاروا إليه. و منها: أنّ
الإمام يحبسهم للخُطبة و هم منتظرون للصلاة، و من انتظر الصلاة فهو في الصلاة في حكم التّمام. و منها: أنّ الصلاة مع الإمام أتمّ و أكمل؛ لعلمه و فقهه و عدله و فضله. و منها: أنّ الجمعة عيدٌ و صلاة العيد ركعتان، و لم تقصّر لمكان الخطبتين، فإن قال: فَلِم جعل الخطبة؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عامّ، فأراد أن يكون للأمير (و في العلل: للإمام كما عن العيون) سبب إلى موعظتهم و ترغيبهم في الطّاعة، و ترهيبهم من المعصية، و توقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم، و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق۱ الّتي لهم فيها المضرّة و المنفعة، و لا يكون الصائر في الصلاة بل منفصلًا و ليس بفاعل غيره ممّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة. فإن قال: فَلِمَ جعل الخطبتين؟ قيل: لأنْ يكون واحداً للثناء على اللَّه و التمجيد و التقديس لله عزّ و جلّ، و الاخرى للحوائج و الإعذار و الإنذار و الدّعاء و ما يريد أن يعلمهم من أمره و نهيه و ما فيه الصّلاح و الفساد». (ذكر في الوسائل أنّ قوله: «و ليس بفاعل غيره» غير موجود في العيون)٢
موثّقة سماعة، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الصلاة يوم الجمعة فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان، و أمّا لمن صلَّى وحده فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة»٣.
موثّقة سماعة، قال: سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الصلاة يوم الجمعة فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان و أمّا من يصلّى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظّهر
يعني إذا كان إمامٌ يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة»۱.
دعائم الإسلام عن علي عليه السّلام أنّه قال: «لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا للإمام أو من يقيمه الإمام». و المروي عن كتاب الأشعثيّات مرسلًا: «أنّ الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين»٢.
عن رسالة الفاضل بن عصفور مرسلًا عنهم عليهم السّلام: «أنّ الجمعة لنا و الجماعة لشيعتنا»٣.
أرسل عنهم عليهم السّلام: «لنا الخمس و لنا الأنفال و لنا الجمعة و لنا صفو المال»٤.
في النبوي: «أربع إلى الولاة: الفَيء و الحدود و الجمعة و الصدقات»٥.
في النبويّ: «أنّ الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين»٦.
في الصّحيفة السّجّاديّة في دعاء الجمعة و ثاني العيدين: «اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع امنائك في الدّرجة الرّفيعة الّتي اختصصتهم بها، قد ابتزّوها و أنت المُقدّر لذلك ... إلى أن قال: حتّى عاد صفوتك و خُلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين، يرون حكمك مبدّلًا ... إلى أن قال: اللهمّ العن أعداءهم مِنَ الأوّلين
و الآخرين و مَن رضي بفعالهم و أشياعَهم لعناً وبيلًا»۱.
خبر إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه أنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: «إذا اجتمع عيدان للنّاس في يوم واحد، فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للنّاس في الخطبة الاولى، إنّه قد اجتمع لكم عيدان فأنا أصلّيهما جميعاً، فمن كان مكانه قاصياً فأحبَّ ان يَنصرف فقد أذِنت له»٢.
خبر سلمة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: اجتمع عيدان على عهد أميرالمؤمنين عليه السّلام فقال: «هذا يوم اجتمع فيه عيدان، فمن أحبّ أن يجمع معنا فليفعل، و من لم يفعل فإنّ له رخصةً، يعني من كان متنحّياً»٣.
خبر الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الفطر و الأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة فقال: «اجتمعا في زمان على فقال: من شاء أن يأتي إلى الجمعة فليأت، و من قعد فلا يضرّه، و ليصلّ الظُّهر. و خطب خطبتين جمع فيهما خطبة العيد و خطبة الجمعة»٤.
موثّقة سماعة الواردة في العيد قال: قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام متى يذبح؟ قال: «إذا انصرف الإمام. قلت: فإذا كنت في أرض ليس فيها إمام فأصلّي بهم جماعة؟ فقال: إذا استقلّت الشّمس، و لا بأس أن تصلّي وحدك، و لا صلاة إلّا مع إمامٍ»٥.
حسنة زرارة، قال: كان أبوجعفر عليه السّلام يقول: «لا تكون الخُطبة و الجمعة و صلاة ركعتين على أقلّ من خمسة رهطٍ، الإمام و أربعة»۱.
حسنة محمّد بن مسلم، قال: سألته عن الجمعة فقال: «أذان و إقامة، يَخرج الإمام بعد الأذان فيصعد المنبر». (الحديث)٢.
صحيحة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين و لا تجب على أقلّ من خمسة منهم الإمام و قاضيه و المدّعي حقّاً و المدّعى عليه و الشاهدان و الّذي يضرب الحدود بين يَدَي الإمام»٣.
صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «صلاة الجمعة فريضة و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فمن ترك ثلاث جمع ترك ثلاث فرائض، و لا يترك ثلاث فَرائض من غير عذر و لا علّة إلّا منافق»٤.
صحيحة زُرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «فرض اللَّه على النّاس من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة، منها صلاة واحدة فرضها اللَّه عزّ وجلّ في جماعة، و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة: عن الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة و المريض و الأعمى و مَن كان على رأس فرسخَين»٥.
صحيحة أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: إنّ
اللَّه عزّ و جلّ فرض في كلّ سبعة أيّام خمساً و ثلاثين صلاة، منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة: المريض و المملوك و المسافر و المرأة و الصبيّ»۱.
صحيحة أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «مَن ترك الجمعة ثلاث جمعات متواليات طبع اللَّه على قلبه»٢.
صحيحة زرارة قال: قال أبوجعفر عليه السّلام: «الجمعة واجبةٌ على [كلّ] من إن صلَّى الغداة في أهله أدرك الجمعة. و كان رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم إنّما يصلّي العصر في وقت الظهر في سائر الأيّام، كي إذا قضوا الصلاة مع رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم رجعوا إلى رحالهم قبل اللّيل، و ذلك سنَّةٌ إلى يوم القيامة»٣.
صحيحة منصور عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، و الجمعة واجبة على كلّ أحدٍ، لا يعذر النّاس فيها إلّا خمسة: المرأة و المملوك و المسافر و المريض و الصبي»٤.
قول أميرالمؤمنين عليه السّلام في خطبةٍ: «و الجمعة واجبة على كلّ مؤمن إلّا على الصبي». (الخ)٥
النبوي: «الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم إلّا أربعة»۱.
النبوي: «من ترك ثلاث جمع متهاوناً بها طبع اللَّه على قلبه»٢.
النبوي: «من ترك ثلاث جمع متعمّداً من غير علّة طبع اللَّه على قلبه بخاتم النفاق»٣.
النبويّ: «لينتهينّ أقوام من [عن] ودعهم الجمعات أو ليختمنّ اللَّه على قلوبهم ثم ليكوننّ من الغافلين»٤.
النبويّ: «إنّ اللَّه فرض عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد موتي استخفافاً بها أو جحوداً لها، فلا جمع اللَّه شمله، و لا بارك اللَّه في أمره، ألا و لا صلاة له، ألا و لا زكاة له، ألا و لا حجّ له، ألا و لا صوم له، ألا و لا برّ له حتّى يتوب»٥.
حسنة ابن مسلم أو صحيحته عن أبي جعفر عليه السّلام: «إنّ اللَّه أكرم بالجمعة المؤمنين، فسنّها رسول اللَّه بشارة لهم و توبيخاً للمنافقين، و لا ينبغي تركها، فمن تركها متعمّداً فلا صلاة له»٦.
صحيحة عمر بن يزيد عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: «إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة، و ليلبس البُرد و العمامة، و ليتوكّأ على قوس أو عصى،
و ليقعد قعدة بين الخُطبتَين، و يجهر بالقراءة و يقنت في الركعة الاولى منهما قبل الركوع»۱.
صحيحة زرارة قال: «حثّنا أبو عبد اللَّه عليه السّلام على صلاة الجمعة حتّى ظننت أنّه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك؟ فقال: لا، إنما عنيت عندكم»٢.
صحيحة زُرارة قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: على مَن تجب الجمعة، قال: «على سبعة نفر من المسلمين، و لا جمعة لأقلّ من خمسة أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمَّهم بعضهم و خطبهم»٣.
موثّقة ابن بُكير عن زُرارة عن عبد الملك عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال: «مثلك يهلك و لم يصلّ فريضة فرضها اللَّه؟! قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة. يعني الجمعة»٤.
خبر عمر بن حنظلة قال: «قلت لأبي عبد اللَّه عليه السّلام: القنوت يوم الجمعة؟ فقال: أنت رسولي إليهم في هذا، إذا صلّيتم في جماعة ففي الركعة الاولى، و إذا صلّيتم وحداناً ففي الرّكعة الثانية»٥.
«دعائم الإسلام» عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: «يجتمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فصاعداً، و إن كانوا أقلّ من خمسة لم يجتمعوا»٦
الشيخ جعفر بن أحمد القمّي في كتاب «العروس» عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لا جمعة إلّا في مصرٍ تقام فيه الحدود»۱.
و عنه عليه السّلام أنّه قال: «ليس على أهل القرى جماعة و لا خُروج في العيدَين»٢.
«دعائم الإسلام» عن أبي جعفر محمّد بن على عليهما السّلام أنّه قال: «تجب الجمعة على من كان منها على فرسخَين إذا كان الإمام عدلًا».٣
«الجعفريّات» مسنداً عن الحسين عن أبيه عليهما السّلام قال: قال: «العشيرة إذا كان عليهم أمير يقيم الحدود عليهم فقد وجب عليهما [عليهم] الجمعة و التشريق»٤.
«الجعفريّات» مسنداً عن الحسين عن أبيه عليهما السّلام قال: «لا يصحّ الحُكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام»٥.
«الجعفريّات» مسنداً عن الحسين عليه السّلام «أنّ عليّاً عليه السّلام سُئل عن الإمام يهرب و لا يخلف أحداً يصلّي بالنّاس، كيف يصلّون الجمعة؟ قال: يصلّون أربع ركعات»٦.
«دعائم الإسلام» عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال: «لا جمعة إلّا مع إمام عدل تقي. و عن علي عليه السّلام أنّه قال: لا يصحّ الحكم و لا الحدود و لا
الجمعة إلّا بإمام عدل»۱.
السيّد علي بن طاووس في كتاب «كشف اليقين» عن الثّقة محمّد بن عبّاس في تفسيره عن محمّد بن همام بن سهيل مسنداً عن موسى بن جعفر عن آبائه عليهم السّلام عن رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله في حديث المعراج قال: «أوحى اللَّه إليه: هل تدري ما الدّرجات؟ قلت: أنت أعلم يا سيّدي. قال: إسباغ الوضوء في المكروهات، و المشي على الأقدام إلى الجمعات معك و مع الأئمة من ولدك، و انتظار الصلاة بعد الصلاة، الخبر»٢
الفصل الثّاني: أقوال الأصحاب حول مسألة صلاة الجمعة
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم و به نستعين
و الصّلوة و السّلام على سيّدنا و نبيّنا محمّد
و على آله الطيّبين الطّاهرين
و لعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدّين
[التأمل في الروايات]
أمّا بعد، فإنّي لمّا تأمّلت في الروايات الواردة في صلاة الجمعة، و راجعت كتب القوم على قدر الميسور، و نظرت في أدلّتهم الّتي كانوا يستدلّون بها على آرائهم المختلفة، أردت أن أكتب ما قوى بنظري القاصر و بالي الفاتر، كي يكون تذكرة لي عند المراجعة، و تبصرة لغيري، و نسأله جلّ و علا أن يوفّقنا لما يحبّ و يرضى، فأقول و بالله الاستعانة:
لا إشكال في أنّ من تدبّر في هذه الروايات مع كثرة أسانيدها و وضوح دلالتها و اعتبار رواتها، ينبغي أن يحصل له الجزم على أنّ صلاة الجمعة تكون من الواجبات العينية التعيينية في كلّ زمان كسائر الفرائض، بل من أعظمها، بل لا يكون شيء من الفرائض بهذه المثابة من الأهمّيّة في نظر الشارع، كيف؟!
و هو علامة الإيمان و معرّفه، و قوام الإسلام و شعاره، و عمود الدين و حياته، كما تدلّ على هذا روايات عديدة.
ففي حسنة ابن مسلم أو صحيحه عن أبي جعفر عليه السّلام:
«إنّ اللَّه أكرم بالجمعة المؤمنين، فسنّها رسول اللَّه بشارةً لهم و توبيخاً للمنافقين، و لا ينبغي تركها، فمن تركها متعمّداً فلا صلاة له»۱
إنّ ترك صلاة الجمعة مساوق لذهاب روح الإسلام و حقيقته
فإذَن نستكشف إنّاً، أنّ تركه مساوق لذهاب روح الإسلام و حقيقته، و موجب للتفرقة بين المؤمنين، و لقطع البركات النازلة بها، و لسلب التوفيق لسائر العبادات، بل مطلق الخيرات، و إسوداد القلب و انطباعه كما في النبوي:
«إنّ اللَّه فرض عليكم الجمعة فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي استخفافاً بها أو جحوداً لها فلا جمع اللَّه شمله و لا بارك اللَّه في أمره، ألا و لا صلاة له، ألا و لا زكاة له، ألا و لا حجّ له، ألا و لا صوم له، ألا و لا برّ له حتّى يتوب٢».
و في النبوي الآخر:
«مَن ترك ثلاث جُمع متهاونًا بها طبع اللَّه على قلبه»٣.
و في الثالث:
«من ترك ثلاث جمع متعمّداً من غير علّة، طبع اللَّه على قلبه بخاتم النفاق»٤
إلى غير ذلك من الروايات الّتي وردت للحثّ عليها و لذمّ تاركها. لكنّه مع
ذلك قد حصلت شبهة في وجوبها التعييني لكثير من الأعاظم الأعلام- رضوان اللَّه عليهم- فلم يفتوا عن شدّة ورعهم و احتياطهم بوجوب إقامتها على الإطلاق، زعماً منهم أنّ وجوبها مشروطٌ بوجود الإمام و أنّ إقامتها من مناصب الإمام و مختصّاته، و من العجب أنّ الرسول الأكرم قد أخبر عن ذلك، ففي النبوي:
«ليَنتهينّ أقوام من [عن] ودعهم۱ الجمعات أو ليختمنّ اللَّه على قلوبهم ثمّ ليكوننّ من الغافلين»٢.
اختلاف العلماء في هذه المسألة إلي أربعة أقوال
و اختلف هؤلاء عند عدم إقامة الإمام أو المنصوب من قِبَلِه على أقوال أربعة:
القول الأوّل: أنّها حرام عند عدم إقامة الإمام أو المنصوب من قبله
سواء كان ذلك في زمان حضوره عليه السّلام و عدم اقتداره على الإقامة أو في زمان غيبته، و هو ظاهر الشيخ قدّس سرّه في «الخلاف». و حكي عن صريح سلّار و ابن إدريس و «كاشف اللثام» و الشيخ إبراهيم القطيفي و الشيخ سليمان بن أبي ظبية و العلّامة في جهاد «التحرير» و صلاة «المنتهى»، و ظاهر المرتضى في «أجوبة مسائل المحمديّات و الميّارفاقيات» أنّهم ذهبوا إلى الحرمة، و إن ذهب الأخيران في غير هذه الكتب إلى الوجوب التخييريّ، وكذا نسب القول بالحرمة إلى «كاشف الرموز» و صاحب «رياض المسائل»، و كذا نسب إلى الشهيد في «الذكرى» و لكنّه ليس بصحيح كما يظهر بالتّأمّل في عبارته.
القول الثّاني: أنّها واجبة تخييراً، و لا يشترط في إمامها إلّا شروط مطلق إمام الجماعة من دون اشتراط الفقيه، فتارةً يعبّر بالوجوب التخييريّ و اخرى بالجواز، و ثالثة بالاستحباب المُسقِط للوجوب، و هو صريح العلّامة في «التذكرة»، و الشيخ في
«النهاية» و «المبسوط» و «المصباح»، و المحقّق في «الشرايع» و «النافع» و «المعتبر»، و عن الشهيد في «البيان» و «الذكرى» و «الحواشي»، و العلّامة في «المختلف» و «التذكرة» و «المنتهى»، و كذا عن «جامع الشرايع» و «التلخيص» و «غاية المراد» و «الموجز الحاوي» و «المقتصر» و تعليق «الإرشاد» و «الميسيّه»، و الشهيد الثّاني في «الروض» و «الروضة» و «المقاصد العليّة» و «تمهيد القواعد»، و ظاهر «غاية المراد» و «نهاية الأحكام» و «كشف الغطاء»، و كذا في «الجواهر» و «مصباح الفقيه».
القول الثالث: أنّها واجبة تخييراً مع الفقيه الجامع الشرائط، و هو خيرة الشَّهيد في «اللمعة» و «المقاصد العليّة» و «جامع المقاصد» و «شرح الألفيّة» للمحقق الثّاني و رسالته في الجمعة، و عن «التنقيح» و «فوائد الشرائع» و «الجعفريّة» و «إرشاد الجعفريّة» و «الغريّة» و «الدروس».
القول الرابع: أنّها واجبة تعييناً عند إقامة الإمام أو المنصوب من قِبَلِه، و مستحبّة عند عدم قيام أحدهما، و لا يجتزى بها عن الظهر، هذا و قد ذهب بعض الأعلام من المتأخّرين،۱ و بعض السادة من أساتذتنا إلى أنّها واجبة اجتماعاً لا عقداً بمعنى أنّ أصل عقدها لم يكن واجباً تعييناً، ولكنّه على فرض عقدها و تحقّقها يجب السعي للجميع و حضورهم، و ربّما نسب إلى الشهيد في «غاية المراد» و الفاضل المقداد في «التنقيح» القول بأنّ عقد الجمعة و الاجتماع إليها مستحبّ لكنّه بعد العقد و الاجتماع يتعيّن الجمعة، فهذا قول آخر، فعلى هذا أنّ جميع الأقوال على ما ظفرنا إليها سبعة.
الفصل الثالث: في أدلّة القول المختار
۱.الكتاب
٢.الرّوايات الصريحة
٣.الإطلاقات الواردة
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
فى أدلّة القول المختار
إذا عرفت هذا فاعلم أنّ المذهب المنصور عندنا كما أشرنا إليه هو الوجوب التعييني إلى يوم القيامة بلا شرط في وجوبها و لا في عقدها بإقامة الإمام أو المنصوب من قبله۱، و الدليل على هذا امور:
... ۱
الدليل الأول من أدلّة قول المختار: الكتاب الشّريف [آية الجمعة]
الأوّل: الكتاب، و هو قوله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}۱ وجه الاستدلال أنّه تعالى أوجب السعي إلى صلاة الجمعة عند النداء، و من المعلوم أنّ السعي مقدّمة لها سواء كان المراد به المشي سريعاً أو شدّة الاهتمام بها، و لا معنى لإيجاب المقدّمة دون ذيها، مضافاً إلى أنّ التعبير بمثل السعي و نظائره كالتسريع دلّ
على لزوم شدّة الاهتمام بالمقدّمة خوفاً من عدم الإتيان بها على وجهها كي لا توصل إلى ذي المقدّمة، فالآية تدلّ على وجوب صلاة الجمعة بأبلغ وجه۱ هذا مع أنّ اللَّه تعالى نهي عن البيع عقيب إيجابه السعي، و من المعلوم أنّ هذا النهي إرشادي يدلّ على عدم جواز كلّ ما كان منافياً للصلاة، و هذا أيضاً ممّا يدلّ على شدّة أهمّيّة هذه الصلاة عند الشارع و إلّا فنفس إيجاب الصلاة كافية للمنع عن الإتيان بالمنافيات عقلًا، و لعلّ تخصيص البيع بالذكر لمكان أنّ عمدة اشتغال الناس في امور دنياهم ممّا فيه منفعتهم هو البيع و المبادلة، أو لمكان أنّ التجّار لمّا أوردوا أمتعتهم في المدينة يضربون بالطبل كي يطّلع الناس على ورودهم فيقبلون على شرائها فلذا عقّبه سبحانه بقوله: {وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها}٢ الخ. و على كلّ حال تكون دلالة الآية على الوجوب ممّا لا يكاد يخفى، لكنّ القائلين بالعدم
الإشكالات الواردة من جانب القائلين بعدم الوجوب و الجواب عنها
أوردوا على الاستدلال بها بوجوه:
منها: أنّه علّق في الآية وجوب السعي على النداء، و التّعليق إنما هو بكلمة
«إذا» و ليس لها عموم كي يدلّ على أنّه كلّما نودي للصلاة يجب السعي إليها، بل إنّها موضوعة لبيان التوقيت على وجه الإهمال.
و فيه ما لا يخفى لأنّها و إن لم توضع للعموم ولكن لا مجال لإنكار الإطلاق فيها لتماميّة مقدّماته، كيف و لو لم تكن مطلقة تُخرِج الآية من كلام الحكيم؟! مضافاً إلى أنّ إنكار الإطلاق في نظائر هذا المورد مستلزم لتعطيل جلّ من الاحكام بل كلّها إلّا ما شذّ و ندر موجب للخروج عن الدين، لأنّ مدارك غالب الأحكام إطلاقات لا تزيد عن هذا الإطلاق قوّةً۱.
و منها: أنّ وجوب السعي مشروط بالنداء و من المعلوم أنّ المراد منه ليس كلّ نداء و لو من قبل خلفاء الجور كمعاوية و يزيد لعنهم اللَّه بل المراد منه نداء خاصّ و هو النّداء مع النّبي و الأئمّة عليهم السّلام، و قرينة أنّ المراد منه إرادة خصوص المعصوم أنّ الأمر بالسعي الدالّ على الوجوب لا يكون إلّا في زمانهم عليهم السّلام لأنّ الأصحاب لا يقولون بالوجوب تعيينًا حال الغيبة بل غايتهم القول بالوجوب التخييريّ.
و فيه۱ أنّ المراد بالنّداء هو دخول الوقت، فهو كناية عنه بشهادة الفهم العرفي، كما أنّ أمثال هذه الكنايات الواقعة في كلامهم أمارةً عن أوقات خاصّة كثيرةٌ جدّاً، و يدلّ على هذا أنّا نقطع أنّه لو لم يُؤَذِّن المؤذّن و لم ينادِ المنادي في زمن النّبي و الأئمّة عليهم السّلام نسياناً أو غفلةً أو عصياناً مع بنائهم عليهم السّلام على عقدها لما انتفى الوجوب، و هذه قرينة على عدم خصوصيّة في التعليق على النداء، و لذا ذهب جمع كثير إلى وجوب الأذان لصلاة الجمعة كفايةً كي يطّلع الناس على دخول الوقت فيسارعون إليها، هذا مضافاً إلى أنّه يجب الحضور إلى الجمعة لمن كان بَعُد عنها بفرسخَين، و من المعلوم أنّ مَن كان بعيداً عنها بهذا المقدار لا يتمكّن من السّعي عند النداء، بل لابدّ و أن يسعى إليها أوّل الصبيحة كي يصل إلى الجمعة عند الوقت، و لذا صرّح في الرواية بأنّها واجبة لمن كان إن صلَّى الغداة في أهله يتمكّن من الحضور للجمعة، و بالجملة أنّ ما أجبنا هو الجواب الصحيح عن هذا الإشكال.
و لكنّ بعض الفقهاء المعاصرين٢ تصدّوا لجواب آخر: و هو أنّ النداء في الآية مطلق و الشارع جعل الملازمة بين وجوب السعي و بين طبيعة النداء أيّاً ما كان، و إنّما يكون نداء النّبي و الإمام من أحد مصاديقه غاية الأمر أنّه لو تصدّى لإقامة الجمعة مَن لم يكن له أهليّةٌ لها كمن كان يقدّم على الإمام يكون نداؤه خارجاً عن إطلاق النداء للقطع بحرمة التقدّم على المعصوم بالضرورة من المذهب،
لكنّه غير جيّد لأنّا لو التزمنا بإطلاق النداء لزم خروج أفراد كثيرة منه و لم يبق في الملازمة إلّا أفراد نادرة منه جدّاً۱، مثلًا إذا نادى إلى الصلاة كاذب أو ناسٍ عن الجمعة أو غافلٌ أو كان النداء من قِبَل الفاسق أو الجائر أو لإقامة اخرى فيما دون الفرسخ سواء كان في زمان المعصوم أو غيبته فلا إشكال في عدم وجوب ترتيب الأثر على هذا النداء، و ينحصر وجوب ترتيب الأثر على نداء مَن كان له أهليّة للإقامة و هو المعصوم أو العدول على تقدير وجوبها التعييني، و لا يخفى أنّ جعلَ الملازمة الواقعة في مقام الثبوت بين وجوب السعي و بين نداء من كان له أهليّة للإقامة مع التعبير عن الملازمة في مقام الإثبات بين وجوب السعي و بين مطلق النّداء الذي كانت سعته بهذا المقدار من المستهجن، غايته فلا مناص إلّا بأن يقال: إنّ الظاهر من الكلام هو نداء مَن كان له أهليّةٌ، و هذا القيد من قبيل القرائن المتّصلة العقليّة الّتي تمنع الكلام عن انعقاد ظهوره في الإطلاق، فعلى هذا لو خلّينا و أنفسنا لا يمكن استفادة وجوب السعي في زمن الغيبة عند إقامة من كان بصفات أئمّة الجماعة من نفس الآية، بل لابدّ و أن ينظر في دليل آخر و تشخيص أهليّته لذلك
كما أنّ الآية بمنطوقها لا تدلّ على أنّ المراد من النداء نداء من قبل المعصوم، بل المراد أنّ نداء المعصوم من مصاديق نداء من كان له أهليّة له للضرورة من المذهب على أنّ المعصوم يكون أهلًا له، و من ذلك يُعلم أنّ ما ذكره بعض المعاصرين۱ في رسالته و سمعت منه قدّس سرّه مشافهةً من دلالة الآية عقلًا على حرمة صلاة الجمعة في زمان الغيبة غير سديد.
بيان ذلك: أنّه قدّس سرّه استدلّ على حرمتها بأنّ المراد من النّداء في الآية حين نزولها هو خصوص النّداء من قبل النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم فلو نادى أحد للصلاة مع غيره لم يجب إجابته بل تحرم، فكما تحرم في حضوره تحرم مع غيبته لأنّها خلاف للكتاب.
وجه الفساد، أوّلًا: ما ذكرنا من عدم اختصاص النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم في كونه منادياً للصلاة. و ثانياً: أنّ حرمة نداء غيره مع حضوره إنّما هو بدليل آخر و هو حرمة المزاحمة مع النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم بالضرورة من المذهب. و أين هذا من دلالة الآية على حرمة إقامة غيره في زمان الحضور، فلذا لو لم يحضر النّبي أو الإمام للجمعة لمصلحة يجب الحضور لغيره٢، بل الآية تدلّ على وجوب السعي عند النداء إذا كان من قِبَل مَن كان له أهليّة له، و في زمان الحضور دلّ الدّليل عل حرمتها تقدّماً للمعصوم و ليس هذا الدليل في زمان الغيبة٣
هذا كلّه على تقدير موضوعيّة النداء لوجوب السعي و قد عرفت ضعفه۱
اختلاف الإصحاب في قضية القيام بإيجاد الحكومة الإسلاميّة( ت)
... ۱
...۱
الإشكالات الواردة من جانب القائلين بعدم الوجوب و الجواب عنها
منها: أنّ الاستدلال بالآية دوري، لأنّ مشروعيّة الصلاة معلّقة على مشروعيّة
النداء، و مشروعيّة النداء متوقِّفة على مشروعيّة الجمعة للقطع بأنّها لو لم تكن مشروعة لم يصحّ النداء لها أيضاً، و فيه ما ذكرنا آنفاً من أنّ النداء كناية عن دخول الوقت فلا إشكال.۱
و قد أجاب الشهيد الثّاني في رسالته بجواب آخر و حاصله: أنّ الأمر بالسعي معلّق على مطلق النداء للصلاة الصالح لجميع أفراده و خروج بعض الأفراد بدليل خارج و اشتراط بعض الشرائط فيه لا ينافي أصل الإطلاق، و كلّ ما يدلّ دليل على خروجه فالآية متناولة له و به يحصل المطلوب، و فيه ما ذكرناه آنفاً من أنّ المراد من النداء في الآية ليس النداء على الإطلاق يقيناً٢.
و قد أجاب في الحدائق بجواب آخر:
و هو أنّ المنادي للصلاة يوم الجمعة لم ينادِ لخصوص صلاة الجمعة لأنّ بعض المكلّفين كانت وظيفتهم الإتيان بأربع ركعات كالمريض و المجنون و المرأة و العبد و غيرهم، و بعضهم كانت وظيفتهم ركعتين لا غير كالمسافر، بل ينادي لمطلق الفريضة أيّما كانت، فعلى هذا ليس الأذان لخصوص صلاة الجمعة حتّى تكون مشروعيّته معلّقة على مشروعيّتها، و كأنّه قيل: إذا نودي يوم الجمعة لطبيعة الصلاة المختلفة أفرادها على حسب اختلاف أشخاص المكلّفين فاسعوا أيّها الحاضرون البالغون الرجال الأحرار إلى خصوص صلاة الجمعة، فأين الدَّور؟
و هذا الجواب جيّد جدّاً۱.
و منها: أنّ الأمر بالسعي على تقدير النداء المذكور ليس عامّاً بحيث يكون المنادي جميع المكلّفين للإجماع على أنّ الوجوب مشروط بشرائط خاصّة كالعدد و الجماعة و غيرهما، و حيثما لم تذكر الشرائط في الآية فالآية تكون مجملة بالنسبة إلى الدلالة على الوجوب المتنازع فيه.
و فيه: أنّه لا وجه لرفع اليد عن الإطلاق من هذه الجهة٢، غاية الأمر أنّه كلّما ثبت قيد نأخذ به فنقيّد به الإطلاق كما هو الشأن في سائر الموارد.
و من الغريب تمسّك صاحب «الجواهر» رحمه اللَّه بهذا الإشكال و ارتضاؤه به حيث قال: بل قد يقال لا يتمّ الاستدلال بها بناءً على إجمال العبارة و شرطيّة ما شكّ فيها إذ لم تثبت صلاة الجمعة إلّا مع المعصوم و نائبه، مع أنّ مبناه قدّس سرّه على خلاف ذلك
و منها: ما حُكي عن «المستند» و هو أنّ إرادة الأذان عند الزوال من النداء غير معلومة، لجواز أن يراد منه أذان الفجر الّذي هو أيضاً للصلاة يوم الجمعة، و فيه الخدشة الظاهرة من وجوه:
الأوّل: ما حُكي من إجماع المفسّرين على أنّ هذه الآية نزلت لصلاة الجمعة، بل كان ذلك متواتراً عندهم.
الثّاني: ما عقّبه بقوله تعالى {وَ ذَرُوا الْبَيْعَ}۱ لأنّه من المعلوم أنّ أهل المدينة ما كانوا يبايعون عند طلوع الفجر.
الثالث: قوله تعالى عقيبه {فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ}٢ حيث فُسِّر «ابتغاء الفضل» بطلب المعيشة، و من المعلوم أنّ التكسّب في صبيحة يوم الجمعة مكروهٌ كما دلّت عليه الرّوايات، بل دلّت الرّوايات على استحباب التهيّؤ لصلاة الجمعة و الدعاء بخلاف عصر يوم الجمعة.
الرابع: قوله تعالى عقيبه {وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً}٣ الخ. حيث إنّ نزول التجّار في أوّل طلوع الفجر و إعلامهم الناس بالطبل، فمع بُعده في نفسه قد دلّت التفاسير على أنّ ترك المصلّين للنّبي و الفضّ إلى التجّار إنّما كان في صلاة الجمعة.
و منها: أنّ المراد من «ذكر اللَّه» هو رسول اللَّه كما دلّت عليه رواياتٌ، أو المراد منه هو الخطبة، أو الخطبة و الصلاة معاً لا خصوص الصلاة، فعلى الأوّل فلا دلالة في الآية على وجوب السعي إلى الصلاة، و على الأخيرين فإنّ استماع الخطبة ليس بواجب إجماعاً، و إذَن لابدّ و أن يحمل الأمر بالسعي على الاستحباب فلا دلالة حينئذٍ على وجوب الخطبة و الصلاة كما لا يخفى.
و فيه: أنّ «الذّكر» إنّما هو بمعنى إخطار الشيء بالبال، و هذا معنى جامع شاملٌ لجميع العبادات الّتي كانت مذكّرة لله تعالى و من ذلك يصحّ أن يقال: إنّ رسول اللَّه و المعصومين حتّى الأولياء و العلماء ذِكر اللَّه لأنّ التوجّه و النّظر إليهم
يوجب التوجّه إلى اللَّه.
إذا عرفتَ هذا فقد علمتَ أنّ استعمال الذِّكر في الآية من باب استعمال الكلّي و إرادة بعض أفراده و هو الصلاة لأنّها ذكر اللَّه، و قد ورد في القرآن {وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}۱ و في الرّواية «الصلاة قربان كلّ تقي» و يدّل على هذا اتّفاق جميع المفسّرين على أنّ المراد من الذكر في خصوص الآية هو صلاة الجمعة أو خطبتها أو هما معاً، و لم أدرِ كيف أصَرّ المخالفون بأنّ المراد منه رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم؟! مع وضوح أنّه لو قلنا بأنّه تعالى هو المراد من الآية لسقطت الآية عن البلاغة خصوصاً بعد تفريع قوله سبحانه فإذا قضيت الصلاة، الخ. بل لا يزال يزيدني تعجّباً ما حكي في «الجواهر» عن «كشف اللثام» من التعريض على القائلين بالوجوب حيث قال: إنّ الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم أظهر من إرادة الخطبة أو الصلاة في الآية٢.
و لا تُصغ إلى ما يدّعى من إجماع المفسّرين على إرادة أحديهما خصوصاً إذا كنت إماميّاً تعلم أنّه لا إجماع إلّا بقول المعصوم٣، و من ذلك يعلم أنّه لا يحتاج في الجواب إلى ما أجاب عنه الحلبي قدّس سرّه من أنّ للقران ظهراً و بطناً و أنّ الصلاة هي من المعاني الظاهريّة للذكر و الرسول من المعاني الباطنيّة كما ورد في
تفسير قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}۱ أنّ المراد من العدل هو رسول اللَّه و من الإحسان هو أميرالمؤمنين و من الفحشاء و المنكر و البغي هو الخصوص الثلاثة فعلى هذا لم يكن إرادة الصلاة من الذكر منافِيَة لإرادة الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم.
أقول: قد ورد في الروايات المستفيضة أنّ القرآن يجري مجرى الشمس و القمر، فهذه معانٍ حقيقيّة ظاهريّة للقرآن كقوله {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}٢ حيث فسّر بالإسلام و بالإيمان و بصراط علي بن أبي طالب عليه السّلام، و لا إشكال في أنّ كلّها صراط مستقيم، فما ذهب إليه قدّس سرّه لعلّه فهم من هذه الامور معانٍ مختلفة مع ذهابه إلى عدم جواز استعمال اللفظ في أكثر من معنى، لكنّك عرفتَ أنّ اللفظ لم يستعمل في خصوصيّات هذه المعاني بل في جامعها.
و منها: أنّ الآية خطاب للمؤمنين و هو مختصّ للحاضرين، و إسراءُ الحُكم الثابت به إلى الغائبين الموجودين في زمان الغيبة يحتاج إلى التمسّك بذيل قاعدة الاشتراك في التكليف الثابت بالإجماع، فيما إذا لم نحتمل خصوصيّة لزمان الحضور في الخطاب، و أمّا فيما نحن فيه فلمّا كنّا مُحتملِين لذلك فلا إجماع للاشتراك.
و فيه: أنّ الحقّ هو شمول الخطاب للغائبين بل المعدومين مطلقاً، و بيان ذلك يحتاج إلى تمهيد مقدّمة، و هي أنّه ربّما قيل: بأنّ النزاع في شمول الخطاب للمعدومين و عدم شموله لهم عقلي، و الكلام إنّما هو في إمكان المخاطبة مع
المعدوم و استحالته، لكنّه ليس بسديد، لأنّ توجيه الخطاب الحقيقي إلى الحاضر في مجلس التخاطب غير الملتفت بالخطاب ممّا لا إشكال في قبحه فضلًا عن توجيهه إلى الغائب أو المعدوم، كما أنّه لا إشكال في توجيه الخطاب الإنشائي بالنسبة إلى المعدوم فضلًا عن الغائب. فالنّزاع إنّما هو في إمكان شمول أدوات الخطاب للمعدومين وضعاً، فمن يقول بأنّها وضعت للمخاطبة الحقيقيّة يذهب إلى الامتناع، و من يقول بوضعها للخطاب الإنشائي ذهب إلى شمولها لهم، و الأقوى أنّها وضعت للخطاب الإنشائي لأنّا نرى أنّ استعمالها للخطاب الإنشائي بأي داعٍ من الدّواعي كإظهار الحسرة و التلهّف و كذا إظهار الشعف و التيمان كقول الشاعر:
أيا جَبَلَي نعمان بالله خليّا | *** | نسيم الصّبا يخلصْ إلى نسيمها۱ |
و قوله أيضاً:
أسِربَ القَطا هل مَن يُعير جناحه | *** | لَعلِّي إلى مَن قد هويت أطيرُ٢ و ٣ |
لم يكن مغايراً لاستعمالها في الخطاب الحقيقي و لا يحتاج إلى إعمال مؤنة
زائدة، و هذا أدلّ دليل على أنّ خصوصيّة التفهيم الخارجي و كذا سائر الدّواعي ليست ممّا هي دخيلة في الموضوع له من اللفظ، فإذا خاطب الغائب أو المعدوم بداعي التفهيم في ظرف الاطّلاع و الوجود لم يكن مجازاً، فإذا وضعت للخطاب الإنشائي فحال الموجودين في زمن الغيبة مع حال الحاضرين في المدينة في زمان الحضور بل الحاضرين في مجلس التخاطب على حدّ سواء، و على فرض تسليم اختصاصها بالمشافهين وضعاً نقول: لا إشكال في عدم اختصاص الخطابات القرآنيّة بالحاضرين في مجلس الوحي الموجودين في المسجد و غيره، فيكون هذا قرينة على أنّها تستعمل مجازاً حتّى تشمل غيرهم، و ادّعاء استعمالها في خصوص الموجودين في زمان الحضور مجازاً بحيث لا تشمل الباقين مجازفةٌ.
هذا كلّه على فرض أن يكون المخاطبة من اللَّه مع المشافهين بلسان الرسول بحيث يكون صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم واسطة صرفة في الحكاية، و أمّا على ما هو الحقّ من أنّها وردت على قلبه المبارك ثمّ بيّنها تدريجاً فلا ريب حينئذٍ من عدم وجود مخاطب حقيقة عند الوحي، فتشمل المعدومين و الغائبين بعين شمولها للحاضرين، فهذا الإشكال باطل من رأسه.۱
كان رسول الله صلى الله عليه و آله و سلّم كالمرآة بالنسبة إلى تلؤلؤ أنوار الشّمس( ت)
...۱
فكلٌّ محلٌّ لتنزيل القرآن و تلقّيه (ت)
...۱
وجه فساد ما ذهب إليه المحقِّق السبزوارى
و مما ذكرنا يعلم فساد ما ذهب إليه المحقّق السبزوارى قدس سرّه حيث إنّه جعل الآية من مؤيدات الوجوب التعيينى لأن أدلّته بملاحظة هذا الإشكال، و المحصل فى الجواب إنكار اختصاص الخطاب بالمشافهين، و أما علي تقدير التسليم و الاحتياج بقاعدة الاشتراك لا مدفع له بوجه لأنّ القاعدة توجب سراية
الحُكم الثابت للمشافهين بجميع ما له من الشرائط و القيود، و لا تدلّ على نفي اشتراط حضور الإمام في تكليف الحاضرين، فإذا احتملنا مدخليّة الحضور في حكمٍ من الأحكام فكيف يمكن إثبات هذا الحكم لزمان الغيبة۱.
وجه فساد ما ذهب إليه صاحب الحدائق (ره)
و من هذا تعرف أيضاً فساد ما أجاب به صاحب «الحدائق» عن هذا الإشكال من أنّ الروايات المستفيضة دلّت بالمضامين المختلفة على أنّ حلال محمّد حلال إلى يوم القيامة و حرامه حرام إلى يوم القيامة و من أنّ الإجماع المدّعى للاشتراك لم يكن في خصوص مسألة مسألة حتّى نتوقّف فيما لا ينعقد الإجماع عليه، بل معقد الإجماع أمر واحد و هو اشتراك جميع المكلّفين إلى يوم القيامة في جميع الأحكام الثابتة٢.
و منها: أنّ الآية تدلّ على وجوب السعي إلى الجمعة المنعقدة، و لا دلالة لها على وجوب عقد الجمعة، و قد جعله صاحب «الجواهر» من أقوى الإشكالات الواردة عليها.
و فيه ما مرّ كراراً من أنّ المراد بالنداء هو دخول الوقت أو الأذان لمطلق
الصلاة الواجبة في ظهر يوم الجمعة، لا النداء لخصوص صلاة الجمعة، و سيأتي إن شاء اللَّه تعالى ما يوضِّح لك الجواب على تقدير كون النداء بنفسه ممّا له مدخليّة في وجوب السعي عند جواب القائلين بوجوب صلاة الجمعة اجتماعاً بعد عقدها.
و أمّا ما أجاب عنه بعض المعاصرين: من أنّه لا معنى لإيجاب مقدّمات شيء أو بعض مقدّماته مع عدم وجوب ذلك الشيء. فيه نظر واضح، لأنّ المستشكِل لم يكن بصدد استظهار وجوب السعي من دون وجوب الصلاة، بل كان بصدد وجوب الصلاة و السعي إليها عند النداء۱.
هذا تمام الكلام في دلالة الآية و قد عرفت قوّتها و ضعف الإيرادات الواردة على الاستدلال بها، و من العجب العجاب ما ذهب إليه صاحب «الجواهر» قدّس سرّه تبعاً لبعضٍ من منع إطلاقٍ لهذه الآية فقال: إنّها وردت في مقام بيان مجرّد التشريع كقوله تعالى {وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ}٢ و قد تبعه بعض من تأخّر عنه أيضاً على هذا المنع.
أقول: إنّه إذا لم يكن لهذه الآية الّتي أمر اللَّه تعالى فيها المؤمنين بوجوب السعي بعد دخول الوقت ثمّ زجرهم عن البيع و الاشتغال بما ينافيها ثمّ رخّص لهم الاشتغال في الامور الدنيويّة بعد أدائها إطلاقٌ للوجوب، فمن أين نجد إطلاقاً في آيةٍ أو روايةٍ٣؟! و من الغرائب أنّهم كانوا بصدد إثبات الإطلاق في بعض المقامات
بتمحّلاتٍ بعيدةٍ و تعسّفات غريبة و أنكروا إطلاق هذه الآية مع أنّه من أظهر موارده۱.
و ربّما استدلّ على وجوبها في «الحدائق» بقوله تعالى: {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ}٢ على ما فسّر الصلاة الوسطى بصلاة الظهر الشاملة لصلاة الجمعة، و بقوله تعالى {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ}٣ بناءً على أنّ المراد من الذِّكر هو صلاة الجمعة، و فيهما ما لا يخفى.
الدّليل الثّانى علي القول المختار: صحيحة زرارة
الثّاني من الأدلّة: صحيحة زرارة:
قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: على مَن تجب الجمعة؟ قال: «على سبعة نفرٍ من المسلمين، و لا جمعة لأقلّ من خمسةٍ أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعةٌ و لم يخافوا أمّهم٤ بعضهم و خطبهم»٥.
بيان الاستدلال: أنّ زُرارة سأله عن شرائط الجمعة على من جرى عليه قلم التكليف، فأجاب الإمام عليه السّلام أوّلًا بأنّ الشرط للوجوب إنّما وجود سبعة من المسلمين بحيث كلّما تحقّقت تجب الصلاة، و هذا بإطلاقه۱ يدلّ على نفي الاشتراط بالنسبة إلى حضور الإمام و كذا سائر الشّرائط من الحُرِّيّة و السَّلامة و غيرهما، غاية الأمر أنّه كلّما دلّ الدليل على اشتراط الوجوب ببعض القيود نقيّده به و نتمسّك بالإطلاق، بالإضافة إلى ما لم يثبت الاشتراط به كما هو الشأن في سائر موارد الإطلاقات، ثمّ بيّن الإمام عليه السّلام بأنّ السبعة إنّما هي شرط الوجوب٢، و أمّا الانعقاد فقد يتحقّق بمجرّد وجود خمسة منهم و ليس إمامهم خارجاً عنهم بل هو محسوب من العدد، فلمّا لم يُبيّن بأنّ إمام السبعة أيضاً داخل في العدد فَرَّع عليه السّلام ثانياً على ما ذكره أولًا بأنّ الإمام في السبعة أيضاً ليس خارجاً عنهم، بل كلّما تحقّقت السبعة تجب الصلاة بأن يامّهم بعضهم، و لا يخفى أنّ هذه الفقرة في نفسها لها أقوى ظهور في عدم اشتراط إقامة المعصوم أو نائبه في الوجوب، لأنّ المراد من ظاهر البعض هو أي بعض يكون و ليس فيه خصوصيّةٌ لا بعضاً مبهماً
حتّى لا ينافيه إرادة شخصٍ خاصٍّ للإمامة من المعصوم أو المنصوب من قِبَله.
و قد تمحّل في «مصباح الفقيه» لتوجيه هذه الرواية لما ذهب إليه مع اعترافه بظهورها في الوجوب التعييني بحملها على: الاستحباب، أو بيان مطلق المشروعيّة، أو يكون المقصود بأمّهم بعضهم البعض المعهود عندهم لا مطلقه، و أنت خبير بأنّ هذه التوجيهات الّتي لا يتحمّله اللفظ تكون في حكم طرح الرّواية بتعبير آخر۱.
الدّليل الثالث علي القول المختار: موثّقة ابن بكير
الثالث: موثّقة ابن بكير:
عن زرارة عن عبد الملك عن أبي جعفر عليه السّلام:
قال: قال: «مثلك يهلك و لم يصلّ فريضةً فرضها اللَّه، قال: قلت: كيف أصنع؟ قال: «صلّوا جماعة، يعني الجمعة»٢.
و لا يخفى أنّها نصّ في الوجوب، فيدلّ على شدّة الاهتمام بها من وجوه خمسة:
الأوّل: أنّ كلمة «مثل» مُصَدَّر بالاستفهام المَحذوف و ظاهره التوبيخ على تركها، و من المعلوم أنّه لا يوبّخ إلّا عند ترك أمرٍ إلزامي.
الثّاني: الإيراد بكلمة مثل، و الإيراد بها في أمثال المقام إنّما هو لبيان أنّ شدّة قبح التّرك بلغت بمرتبة يخجل المتكلّم من أن يَنْسِبَه إلى المخاطب فحينئذٍ يُعبِّر بأنّ مَن كان مثلًا لك في الصفات لا يجوز له أن يرضى بالترك.
الثالث: كلمة الهلاك، و هو لغة الموت على وجه سوء.
الرابع: كلمة الفريضة، و الفرض لغة بمعنى الوجوب.
الخامس: انتساب الفريضة إلى اللَّه، فإنّه و إن كان جميع الفرائض من قِبَل اللَّه سبحانه إلّا أنّ بيان نسبة هذه الفريضة إلى اللَّه و تخصيصها بالذكر لمكان تفهيم المخاطب كي يتوجّه دائماً بأنّ هذا الأمر صدر من اللَّه الملك السُّلطان القادر القاهر على جميع الامور، فَتَرْك هذه الفريضة إنّما هو مساوق للخروج عن تحت رِقِّيّته و عبوديّته، مع أنّه من أعظم القبائح، و هذا نظير ما إذا قيل لأحدٍ من الرعايا: أنت تركت أمراً أمر به السلطان، و هو أبلغ بمراتب ممّا إذا قيل: أأنت تركت الأمر الفلاني؟
و لمّا كان عبد الملك عالماً بأنّه لا يجوز عقد جمعتين في محلّ واحد مع علمه بأولويّة الإمام في الإمامة و عدم جواز تقديمه نفسَه عليه فقد تحيّر من كلامه عليه السّلام فقال: كيف أصنع بدونكم؟ فأجاب: صلّوا عندكم جماعةً؛ و هذه الرِّواية أدلّ دليل على أنّ عدم جواز إقامة الجمعة في زمان الحضور مع قيام الإمام بها ليس لاشتراطها به بل لأنّه عليه السّلام كان أولى الناس بإقامتها، كما كان هذا ضروريّاً من المذهب فإذا لم يتمكّن عليه السّلام من الإقامة كان الوجوب باقياً بالنسبة إلى الباقين، و سيأتي توضيح ذلك إن شاء اللَّه تعالى.
و من الغريب استدلال صاحب «الجواهر» و بعض من تبعه بهذه الرواية على استحباب الجمعة مع عدم حضوره و سلطنته عليه السّلام بأنّ عبد الملك من أجلّاء الأصحاب، و هذه الرواية دلّت على استمرار تركه إيّاها و لذا تأسّف من عدم تمكّنه لها لعدم تمكّن إمامه عليه السّلام فأجازه الإمام عليه السّلام بإقامتها.
أقول: إنّ استمرار ترك عبد الملك بل جميع الأصحاب و إن كان ممّا لا خدشة فيه إلّا أنّه كان لمكان التقيّة الرافعة للتكليف- كما سيأتي توضيحه- فلمّا
ضعفت التقيّة بحيث كان عبد الملك متمكّناً من عقدها فاعترض الإمام عليه السّلام بتركها و وبّخه على ذلك؛ فلا يقال: إن كان ترك عبد الملك مع جلالة قدره و عظم شأنه لعذرٍ لا محالة فكيف يصحّ التوبيخ؟! لأنّا نقول: إنّ تركه مدّة استمرار التقيّة و إن كان لعذرٍ إلّا أنّ توبيخه عليه السّلام لم يكن لذلك بل كان في زمان ضعفت التقيّة و صار متمكّناً من عقدها مع نَفَرٍ يسير من المؤمنين لمكان انتظاره بأن يؤمّ بهم الإمام عليه السّلام كما يظهر من قوله: كيف أصنع؟ فالإمام وبّخه على تركه حينئذٍ و دلّه على أنّ بقاء التقيّة بالنسبة إليه عليه السّلام لا يوجب رفع التكليف بالنسبة إلى الباقين۱.
الدّليل الرابع علي القول المختار: سائر الإطلاقات الواردة فى المقام
الرابع من الأدلّة: سائر الإطلاقات الواردة في المقام:
منها صحيحة أبي بصير و محمّد بن مسلم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال:
«إنّ اللَّه عزّ و جلّ فرض في كلّ سبعة أيّام خمساً و ثلاثين صلاة منها صلاة واجبة على كلّ مسلم أن يشهدها إلّا خمسة: المريض و المملوك و المسافر و المرأة و الصبي»٢.
و لا يخفى دلالتها على العموم لأنّها دلّت على أنّ في كلّ اسبوع إلى يوم القيامة أوجب اللَّه تعالى خمساً و ثلاثين صلاة على المكلّفين و كان منها صلاة الجمعة، فإنّه لو لم يجب في يوم الجمعة صلاة الجمعة بل وجب أربع ركعات لزم أن يزيد مقدار الفرائض عن هذا المقدار و حُمِل الفرض في يوم الجمعة على الجامع
بين أربع ركعات و بين ركعتين مع الخطبتين، كي لا تزيد الفرائض على القدر المذكور۱.
يدفعه أوّلًا: خلاف السّياق من الرواية، لأنّها في مقام بيان الفرائض التعيينية كما أنّ الأمر كذلك في سائر الصلوات.
و ثانياً: خلاف صريح الرّواية بأنّ المراد من صلاة يوم الجمعة الّتي هي إحدى من الخمسة و الثلاثين صلاة هو خُصوص الصلاة الّتي يجب الإتيان بها جماعة و هي الركعتان مع الخطبة لأنّها هي الساقطة عن الخمسة دون الجامع بين الفرضَين.
و الحاصل أنّ ظهور الرّواية في الوجوب التعييني من جهة تعداد الفرائض أوّلًا، و من جهة إطلاق الوجوب ثانياً، و من أجل اقترانها مع الواجبات التعيينية ثالثاً، و من أجل استثناء الخمسة المعلوم أنّه من الوجوب التعييني لا مطلق الوجوب رابعاً ممّا لا يكاد يخفى.
و منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام
قال: «فرض اللَّه على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة منها صلاة واحدةٌ فرضها اللَّه عزّ و جلّ في جماعةٍ و هي الجمعة، و وضعها عن تسعةٍ، عن: الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة و المريض و الأعمى و مَن كان على رأس فرسخين»٢.
و الظاهر أنّ المقصود الأصلي من هاتين الروايتين هو بيان حُكم الجمعة بقرينة ذكر الاسبوع في الاولى، و من الجمعة إلى الجمعة في الثانية، لأنّ تعداد الصَّلَوات و وجوبها كان أمراً مفروغاً عنه من زمن النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم بل يعدّ من الضروريّات فلا يحتاج إلى عدّها خصوصاً لمثل زرارة و محمّد بن مسلم و أبي بصير، بل كما ذكره بعض المعاصرين: لو كان المراد منه بيان تعداد الصلوات لما كان وجه لبيان تعداد صلوات الاسبوع، بل كان الأنسب أن يبيّن تعداد الصلوات اليوميّة بأن يقول: فرض اللَّه على الناس في كلّ يوم و ليلة خمس صلاة، بل كان عدّها تمهيداً لبيان اشتراك صلاة الجمعة مع باقي الصلوات اليوميّة في كونها فريضةً مثلها و امتيازها عن غيرها بكون تشريعها على وجه الجماعة و وضعها عن التسعة دون غيرها من الصلوات۱.
و منها صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام
قال: «يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة نَفَر فما زاد، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، و الجمعة واجبةٌ على كلّ أحدٍ لا يعذر الناس فيها إلّا خمسة: المرأة و المملوك و المسافر و المريض و الصبي»٢.
و هذه الرواية في دلالتها على العموم لا تقصر عن الروايتين السابقتين إن لم
تكن أقوى بملاحظة ذيلها و هو قوله عليه السّلام «لا يعذر الناس» نعم، لابدّ من رفع اليد عن ظهور صدرها في الوجوب لتصريح رواياتٍ اخر على عدم وجوبها لما دون سبعة نفرات.
و منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام
قال: «صلاة الجمعة فريضة، و الاجتماع إليها مع الإمام فريضة، فمن ترك ثلاث جُمَع ترك ثلاث فرائض، و لا يترك ثلاث فرائض من غير عذر و لا علّة إلّا منافق»۱.
و منها صحيحة عمر بن يزيد عن الصادق عليه السّلام:
«إذا كانوا سبعة يوم الجمعة فليصلّوا في جماعة و ليلبس الرّداء و العمامة و ليتوكّأ على قوسٍ أو عَصاً و ليقعد بين الخطبتين و يجهر بالقراءة و يقنت في الركعة الاولى منها قبل الركوع»٢.
و منها كلام مولانا أميرالمؤمنين عليه السّلام في خطبة:
«و الجمعة واجبة على كلّ مؤمن إلّا على الصّبي»٣، (الخ).
و منها النبوي:
«الجمعة حقّ واجب على كلّ مسلم إلّا أربعة»٤.
و منها رواية حفص بن غياث عن بعض الموالي:
«إنّ اللَّه عزّ و جلّ فرض [الجمعة] على جميع المؤمنين و المؤمنات و رخّص
العبد و المرأة و المسافر لا يأتوها»۱.
إلى غير ذلك من الروايات المتقدّمة في صدر البحث و الآتية عند استدلال القائلين بالوجوب التخييريّ على كثرتها حتّى بلغت حدّ الاستفاضة، بل لا يبعد ادّعاء تواترها المعنوي على وجوبها لكلّ مسلم، حتّى أنَّ الشيخ الأجلّ الشيخ حسين بن عبد الصمد والد شيخنا البهائي قدّس سرّه قال في رسالة الجمعة على ما حُكي عنه: إنّ مجموع الروايات الدالّة على وجوب صلاة الجمعة لكلّ أحد نصّاً و ظهوراً و تحريصاً تزيد على مِائَتَي حديثٍ، و من الغرائب دعوى صاحب «الجواهر» تبعاً لُاستاذه كاشف الغطاء من أنّ هذه الرّوايات تدلّ على وجوبها على وجه الإجمال لأنّها في مقام بيان أصل التشريع، و هذا ممّا لا ينكره أحد، بل هو من ضروريّات المذهب و يدلّ عليه عدم إمكان التمسّك بها في كلّ ما يُشكّ مدخليّته في صحّتها من عدالة الإمام و سائر الأجزاء و الشرائط، و تبعه على ذلك المحقّق الهمداني في «مصباح الفقيه» حيث قال:
أمّا عدم إطلاق وجوبها في مثل قوله «الجمعة واجبة على كلّ مسلم» و نحوه واضح إذ المقصود بها الجمعة الجامعة لشرائط الصّحّة، فلو شكّ في صحّة إمامة الفاسق أو ولد الزّنا أو ذو العاهة، لا يصحّ التمسّك لمثل هذه الأخبار.
و أمّا ما ورد في صحيحة منصور بن حازم من قوله عليه السّلام «يجمع القوم إذا كانوا خمسة فما زاد» لكان في مقام بيان العدد الّذي ينعقد به الجمعة و هكذا الأمر في سائر الروايات.٢
أقول: غير خفي أنَّ المدّعي للإطلاق في هذه الرّوايات لا يدّعي إطلاقَها من
أجل شرائط الواجب و هو صحّة الصلاة، بل الكلام في شرائط الوجوب، و أي إطلاق في جميع الفقه أظهر من هذه الإطلاقات في كونه بصدد البيان، بل كان وجوب صلاة الجمعة في بعض هذه الرّوايات مستفاداً من العموم الوضعي لا الإطلاق.
تقييد هذه الإطلاقات بصورة إقامة الإمام أو المنصوب من قبله مستهجن
[الوجه الأول خروج الكلام عن درجة البلاغة]
و بالجملة أنّ دلالة هذه المطلقات على وجوبها لا يكاد يخفى بحيث يكون تقييدها بصورة إقامة الإمام أو المنصوب من قبله يعدّ من المستهجن و خروج الكلام عن درجة البلاغة إلى حدّ الرّكاكة، و هل يقبل الذوق السليم و الطبع المستقيم أن يتفوّه بإمكان تقييد قوله عليه السّلام في صحيحة زرارة بأنّهم إذا لم يخافوا أمّهم بعضهم بما إذا كان هذا البعض هو الإمام كلّا؟!
[إباء هذه المطلقات عن التقييد من وجهين آخرين:]
مضافاً إلى أنّه يمكن أن يقال بإباء هذه المطلقات عن التقييد و لو على فرض وجود دليل ظاهر في التّقييد من وجهين آخرين:
الوجه الأوّل: أنّه لا يخفى في المقام أنّ هذه المطلقات البالغة حدّ المِائَتَين أو أزيد كلّها صادرة من الصّادقَينِ إلّا القليل، فلو كان المراد منها اختصاص حكم الجمعة بالمعصومين أو المنصوب من قِبَلِهم فما فائدة إيراد هذه الأخبار؟! لأنّ المراد من حضور الإمام لو كان سلطنته عليه السّلام و قيامه بهذا الأمر فلا إشكال في أنّ هذا كان مختصّاً بالنّبي و أميرالمؤمنين عليهما الصلاة و السلام و زمان قيام الحجّة القائم عجّل اللَّه فَرجه الشريف مع أن خلافة أميرالمؤمنين كانت مدَّةً يسيرةً آخر عمره الشريف، و أمّا زمان الخلفاء الثلاثة فهو عليه السّلام كان يحضر جمعتهم تقيّةً، هكذا الأمر في زمان الأئمّة عليهم السّلام مطلقاً من زمان الحسن عليه السّلام إلى زمان صاحب العصر عجّل اللَّه فرجه الشريف، كان الأئمّة مهجورين مغلوبين
تحت أيادي الأشرار فيصير مفاد هذه الأخبار بناءً على هذا هو الإخبار عن وجوب القيام بهذه الوظيفة للموجودين في زمان النّبي أو مَن وُجِدَ بعده في زمان ظهور قائم آل محمّد روحي و أرواح العالمين فداه و لا تترتّب ثمرةٌ عمليّة لهذه المطلقات لِعَدم كون المكلّفين في غير هذين العصرين موضوعاً لهذا الحكم، بل تصير فائدة هذه الرّوايات مجرّد الإخبار و الحكاية عن أحكام غيرهم، و هو كما ترى مع ما في هذه الروايات من بيان الحثّ و الترغيب بما هو غير خفي على النّاظر إليها، و إن كان المراد من الحضور مجرَّدَ وجوده عليه السّلام بين الناس، و إن لم يتمكّن لإقامة الجمعة فلا وجه لتخصيص المذكور إذ لا فرق بين حضوره مع التقيّة و الخوف و بين غيبته و عدم تمكنّه من الصلاة بنفسه و تعيين نائب من قِبَلِه الّذي هو المناط في الوجوب التعييني عند مَن أنكره في زمان الغيبة.
الوجه الثّاني: يتّضح بعد تمهيد مقدمتين، الاولى: أنّ المناط في تقديم دليل المقيّد على دليل المطلق و حمل المطلق على المقيّد إنّما هو من جهة فهم العُرف حيث يُقدَّم الأظهر على الظاهر فهو تابع لإمكان الجمع العرفي الدّلالي بعد عدم إمكان الجمع بين الدليلَين و الأخذ بكِلا المفادَين لاتّحاد الحُكم، فلابدّ حينئذٍ إمّا مِن رَفْع اليد عن الإطلاق و حمله على المقيّد، و إمّا مِن رَفْع اليد عن ظهور المقيّد و حمله على كونه من أحد مصاديق المطلق، و حيث كان ظهور المقيّد في التقييد أجلى من ظهور المطلق في الإطلاق نرفع اليد عن الثّاني فنحكّم ظهور المقيّد عليه لأنّه بمنزلة القرينة الصارفة عن ظهور ذي القرينة.
إذا عرفت هذا فاعلم: أنّ المناط في تقديم المقيّد على المطلق هو أظهريّة ظهوره منه و هو المدار في تشخيص القرينة عن ذي القرينة، و أمّا ما ربّما يظهر من
المحقِّق النائيني و تبعه بعض أساتذتنا بأنّه يجب تقديم القرينة على ذي القرينة و إن كانت أخفى ظهوراً منه، فهو كلام لا يرجع إلى محصّلٍ، إذ لا ملاك للقرينيّة إلّا الأظهريّة، و تمام الكلام في محلّه.
فعلى هذا إذا ورد مطلق و مقيّد فلابدّ من النّظر إليهما بما هما محفوفان بالقرائن الحاليّة و المقاليّة السابقة و المقارنة و اللّاحقه، فإذا كان ظهور القيد أجلى من ظهور الإطلاق فنحمله عليه، و إلّا فلو كان ظهور المطلق في الإطلاق أجلى من ظهور المقيّد في التقييد لكون المتكلِّم في مقام البيان في المطلق فلا مجال لحمله عليه بل نحمل المقيّد على أحد الوجوه المذكورة في محلّه من كون المتكلِّم في بيان أحد المصاديق أو أفضل الأفراد و غير ذلك.
المقدِّمة الثانية: أنّ الأصل في كلّ حاكم بل كلّ متكلّم أن يبيّن حكمه أو كلامه بجميع ما له من الخصوصيّات و الشرائط فلذا كان الأخذ بالإطلاق أمراً ثابتاً عند العُرف و كان عليه بناء العقلاء في دعاويهم و محاوراتهم في باب الاحتجاجات و غيرها و مع ذلك يرفعون اليد عن الإطلاق إذا أورد المتكلِّم دليلًا مقيّداً بالبيان المنفصل فيما إذا لم يكن عدم بيان القيد حين إيراد الإطلاق مستلزماً لمحذورٍ أو استهجانٍ في الكلام كما إذا كان القيد موجوداً فلا يحتاج إلى ذكره حينئذٍ. أو كان وقت العمل متأخّراً عن زمان بيان الحكم فيؤخّر بيان القيد إلى زمان اقتضى بيانه لمصالح في تأخير البيان أو لمفاسد في تقديمه و إلّا كانوا يأخذون بالإطلاق كما إذا لم يرد المتكلِّم دليل المقيّد من رأس.
إذا عرفت هاتين المقدمّتين فنقول:
إنّ هذه المطلقات الكثيرة صدرت من الصّادقَين عليهما السّلام و إنّهما كانا مهجورَين غير باسِطَي اليد في تمام مدّة
حياتهما حتّى أنّا لم نظفر بروايةٍ أو نقل تاريخٍ على أنّهما أقاما جمعةً واحدةً، فلا يمكن أن يكون مصلحة عدم ذكر القيد وجوده فعلًا، و من المعلوم۱ أيضاً أنّ وقت العمل بهذه الروايات لم يكن زمان حضور الحجّة حتّى تكون الإطلاقات لمجرّد بيان الحكم إجمالًا، فحينئذٍ نقول: بأي داعٍ من الدّواعي لم يقيّد الإمام عليه السّلام وجوب هذه الفريضة بإقامة المعصوم أو المنصوب من قِبَلِه و أهمل هذا القيد في جميعها مع كونه بصدد بيان جميع شرائط الوجوب كما هو غير خفي على مَن تأمّل فيها؟ فإيراد هذه المطلقات الكثيرة في طول زمان يسع حياتهما يدلّ على أنّ اشتراط الجمعة بوجود من يخطب في الرّوايات الآتية، غالب الحصول غير محتاج إلى التقييد و إلّا فلو كان التقييد غير غالب الحصول كما إذا كان المراد بمن يخطب خصوص الإمام أو المنصوب من قِبَلِه فلا ريب في أنّ إيراد مِائَتَي حديث في الوجوب بنحو الإطلاق لعدّ من المستهجن٢
الإشكالات الواردة من جانب المخالفين علي الأخذ بالإطلاق و جوابها
هذا كلّه إذا سلّمنا وجود دليل ظاهر في التّقييد، و ستعرف عدم نهوض دليل ظاهر فيه.
الإشكال الثّاني: أنّ الأخذ بالإطلاق إنّما هو بعد إجراء مقدّمات الحكمة، و هي إنّما تجري إذا لم يكن في البين ما يوجب انصراف المطلق إلى بعض أفراده، و أمّا معه فلا مجال للأخذ بالإطلاق، و معلوم أنّ السيرة المستمرّة من زمن النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم و كذا الخلفاء من بعده هي النصب لإقامة الجمعة بحيث كان اشتراط الجمعة بوجود المنصوب أمراً مرتكزاً في أذهانهم، و أمّا نصب خلفاء الجور الإمام للجمعة و إن كان أمراً شنيعاً عند الشيعة كسائر تصرّفاتهم في ما هو حقّ للإمام، لكنّ بشاعة هذا النصب لم يكن إلّا لعدم اهليّتهم للنصب لا لأجل أنّ النّصب من بدعهم الاقتراحيّة من عند أنفسهم، و هذا الأمر المفروغ عنه عند الشيعة يوجب انصراف هذه المطلقات بما إذا أمّ الإمام بنفسه للجمعة أو نصّب أحداً من قِبَله، و هذا عمدة ما اعتمد عليه السيّد الاستاذ العلّامة- آية اللَّه العلامة البروجردي
مدّ ظلّه- في مجلس الدرس فمال إلى حرمة صلاة الجمعة في زمن الغيبة بعد أن قوّى دلالة روايات مَن يخطب و إخواتها في التقييد.
[الجواب عن هذا الإشكال]
و فيه أوّلًا: أنّا سنبيّن إن شاء اللَّه تعالى أنّ تنصيب النّبي أئمّة الجمعة لم يكن لأجل اشتراط الجمعة بوجود المنصوب، بل لأجل نظام الإجتماع و عدم إيجاد الاغتشاش.
و ثانياً: أنّه على فرض التّسليم لا تكون هذه المفروغيّة بمثابة القرينة العقليّة الحافّة بالكلام حتّى تمنع عن انعقاد الظهور في الإطلاق رأساً، بل كانت بمنزلة الدليل المنفصل في أنّ العرف يرى التّنافي بينه و بين الإطلاق، فإذَن لا إشكال في أنّ هذه الإطلاقات صالحة للرّدع عن ما تخيّلوا من اشتراط الوجوب بالنصب۱.
و ثالثاً: أنّا ذكرنا أنّ غالب هذه الروايات كان الوجوب المستفاد منها بنحو العموم مثل قوله: «في كلّ اسبوع و على كلّ مسلم إلى يوم القيامة»٢ و غيرها فلا ريب في أنّ أصالة العموم محكّمة في كلّ ما شكّ في التّخصيص فالإشكال غير
وجيه من رأسه۱
و ربّما يقرّب هذا الإشكال بوجه آخر و هو أنّ الأخذ بالإطلاق إنّما هو على تقدير عدم إيراد المتكلِّم بما يكون صالحاً للتقييد و بما أنّه يمكن في المقام أن يعتمد الإمام على بيان التقييد بمثل هذه السيرة فلا تتمّ معه مقدّمات الإطلاق، لكنّ ضعفه يتّضح ممّا مرّ.
الإشكال الثالث: أنّه يجب رفع اليد عن الإطلاق بالإجماع المحصّل و المنقول على اشتراط الجمعة بوجود الإمام أو المنصوب من قبله.
المانع الأساسي في ذهاب المشهور إلى عدم وجوبها التعييني
و لا يخفى أنّ هذا هو المانع الأساسي في ذهاب المشهور إلى عدم وجوبها التعييني في زمان الغيبة مع اعترافهم بدلالة المطلقات على وجوبها كذلك لو خلّيتها
و طبعها كما يتّضح هذا من التّتبّع في كلماتهم. قال المجلسي- رحمه اللَّه- في البحار: الأخبار واضحة الدلالة على وجوبها العيني إلّا أنّ المخالِف خالف لشبهة الإجماع، و قال السيّد صاحب المدارك في حاشيته على ألفيّة الشهيد ما هذا لفظه:
«و بالجملة فالمستفاد من الكتاب العزيز و السنّة المستفيضة بل المتواترة هو الوجوب العيني فإن تمّ الإجماع على خلافه وجب المصير إلى التخييريّ و إلّا تعيّن المصير إليه».
الجواب عن الإجماع المحصّل المدّعَي
و الجواب أمّا عن الإجماع المحصّل۱ من وجهين:
الوجه الأوّل: أنّ حجّيّة الإجماع عندنا ليس بما هو الحجّة عند العامّة من كونه دليلًا مستقلًا مقابلًا للكتاب و السنّة، بل حجّيّته إنّما هو بمناط كشفه عن قول المعصوم عليه السّلام فحّجيّته تنحصر في موردين:
الأوّل: حصول العلم بوجود قول المعصوم في جملة أقوال المُجمعين، و هذا مختصّ بزمان الحضور.
الثّاني: كشفه عن ظفر المُجمعين بدليل معتبر قطعي مفقود عندنا، و هذا إنّما هو إذا لم يكن في البين ما يكون موجباً لاحتمال اعتماد المجمعين عليه في فتواهم، و أمّا لو كان الأمر كذلك لكان الإجماع مدركيّاً لا مجال لحّجيّته، و هذا أيضاً مفقود لأنّ الامور الّتي تحتمل أن تكون موجبةً لحصول الشبهة عند المجمعين في المقام كثيرة، من ترك الأصحاب الجمعة و من بعض الروايات الّتي سيأتي ذكرها. و معها كيف يقطع بأنّ مدركهم كان مفقوداً لنا، و أمّا سائر الوجوه المذكورة
في بيان حجّيّة الإجماع على كثرتها من قاعدة اللطف و الملازمة بين اتّفاق المرؤوسين مع رضا رئيسهم و غيرهما فقد بيّن ضعفها في الاصول.
الوجه الثّاني: أنّ ادّعاء الإجماع المحصّل في المقام مكابرة لأنّ المخالفين من القدماء و المتأخّرين كثيرة جدّاً.
الأوّل: شيخنا المفيد في «المقنعة» على ما حكاه عنه في «الحدائق» تماماً و في «مفتاح الكرامة» و «الجواهر» بعضاً من كلامه قال ما هذا لفظه:
«و اعلم أنّ الرواية جاءت عن الصادقين عليهما السّلام: إنّ اللَّه جلّ جلاله فرض على عباده من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة لم يفرض فيها الاجتماع إلّا في صلاة الجمعة خاصّة فقال جلّ من قائل: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}۱ و قال الصادق عليه السّلام: «مَن ترك الجمعة ثلاثاً من غير علّة طبع اللَّه على قلبه، ففرضها وفّقك اللَّه الاجتماع على ما قدّمناه إلّا أنّه بشريطة حضور إمام مأمون على صفات يتقدّم الجماعة و يخطبهم خطبتين يسقط بهما، و بالاجتماع عن المجتمعين من الأربع ركعات ركعتان، و إذا حضر الإمام وجبت الجمعة على سائر المكلّفين إلّا من عذّره اللَّه تعالى منهم و إن لم يحضر إمام سقط فرض الاجتماع و إن حضر إمام يخلّ شرائطه بشريطة من يتقدّم فيصلح به الاجتماع، فحكم حضوره حكم عدم الإمام.
و الشرائط الّتي تجب في من يجب معه الاجتماع أن يكون: حرّاً بالغاً طاهراً في ولادته، صحيحاً من الأمراض، الجذام و البرص خاصّة في خلقته، مسلماً مؤمناً معتقداً للحقّ في ديانته، مصلّياً للفرض في ساعته، فإذا كان كذلك و
وجود المخالفين من القدماء و المتأخِّرين ناقضٌ لإجماع المحصّل و المنقول فى المقام
اجتمع معه أربعة نفر وجب الاجتماع، و من صلَّى خلف إمام بهذه الصفات وجب عليه الإنصات عند القراءة و القنوت في الاولى من الركعتين في فريضته، و من صلَّى خلف إمامٍ بخلاف ما وصفناهُ رَتَّب الفرض على المشروع في ما قدّمناه، و يجب حضور جمعة مع من وصفناه من الأئمّة فرضاً، و يستحبّ مع من خالفهم تقيّةً. إلى أن قال: فإذا اجتمعت هذه الثمانية عشر خصلة وجب الاجتماع في ظهر يوم الجمعة على ما ذكرناه و كان فرضها على النصف من فرض الظهر للحاضر في سائر الأيّام. انتهى.»۱
و أنت خبير بأنّ هذه العبارة نصّ في عدم اشتراط الإمام أو المنصوب من قِبَله، و من الغريب ما عن «كشف اللثام» و في «مفتاح الكرامة» و «الجواهر» من حملها على بيان صفات المنصوب، و هو كما ترى و يظهر من الشيخ قدّس سرّه موافقته في الوجوب التعييني في «التهذيب» لأنّه بعد ما نقل عنه هذه العبارة استدلّ على وجوبها بجملة من الأخبار و لم يذكر في الاشتراط شيئاً، و ظاهره الموافقة كما لا يخفى
و قال في كتاب «الأشراف» على ما حكي كلاماً كان بهذه المثابة في الصّراحة في عدم الاشتراط حيث إنّه عدّ من صفات إمام الجمعة ثمانية عشر خصلة و لم يعدّ منها كونه إماماً أو منصوباً من قِبَله، و من العجب ما في «مفتاح الكرامة» و «الجواهر» من تأويل هذه العبارة أيضاً كعبارة «المقنعة» بأنّها في مقام بيان صفات المنصوب، و قالا: و الّذي يدلّك على ذلك أنّه قدّس سرّه لم يعدّ العدالة من جملة الخصال، قال في «مفتاح الكرامة»: فلو ثبت منه الخلاف بمجرّد عدم ذكر السلطان العادل لزم أن تكون عدالة إمام الجمعة أيضاً خلافيّة، و أنت كما ترى أنّ خلافه باشتراط السلطان لا يكون مستلزماً لخلافه في العدالة، بل تَرْك عدّه العدالة
من جملة الخصال لمكان معلوميّتها دونه. و قال في «الجواهر»:
إنّه ترك اشتراط النّيابة لمعلوميّته، كما أنّه ترك ذكر العدالة في أوصافه لذلك، و هذا أيضاً كما ترى۱.
ثمّ إنّ هذين العَلَمَين ذكرا عبارته في «الإرشاد» و استدلا بها على أنّه قائل بالاشتراط، قال في «الإرشاد» في باب ذكر طَرْفٍ من الدلائل على إمامة القائم بالحقّ محمّد بن الحسن عليه السّلام:
من الدلائل على ذلك ما يقتضيه العقل بالاستدلال الصحيح من وجود إمامٍ معصومٍ كاملٍ غني عن رعاياه في الأحكام و العلوم في كلّ زمان، لاستحالة خلوّ المكلّفين من سلطان يكونون بوجوده أقرب إلى الصلاح و أبعد عن الفساد، و حاجة الكلّ من ذوي النقصان إلى مؤدّبٍ للجُناة مقوّمٍ للعُصاة ... إلى أن قال: مقيم للحدود حامٍ عن بيضة الإسلام جامعٍ للناس في الجمعات و الأعياد. انتهى٢.
وجه الاستشهاد: أنّه قدّس سرّه جعل الجمع في الجمعات من منصب الإمام و خواصّه كالعصمة و الكمال و الغِنَى عن الرّعايا.
و فيه٣ ما لا يخفى، لأنّ الجمع في هذا الكلام لا يكون متعيّناً في كونه إمام الجمعة، بل المراد منه هو المراد من الجمع الوارد في دعاء النُّدبة «أين جامع الكلمة
على التقوى» و في قوله تعالى {رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ}۱ فالمعنى أنّه هو السّبب لاجتماع الناس في يوم الجمعة في بلاد مختلفة، و هذا التعبير يكون بمنزلة التعبير الوارد في زيارة الوارث «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة» أي أنّك السبب لإقامة الصلاة٢.
هذا و اعلم: أنّ صاحب «الجواهر» قدّس سرّه استشهد بعبارتين اخريَين في «المقنعة» على أنّ مراده قدّس سرّه هو الاشتراط، إحديهما: في باب صلاة العِيدَين و هي قوله- قدّس سرّه-: و هذه الصلاة فرض لازم لجميع من لزمته الجمعة على شرط حضور الإمام، سنّة على الانفراد عند عدم حضور الإمام.
ثانيهما: في باب الأمر بالمعروف بعد أن ذكر أنّ إقامة الحدود إلى سلطان الإسلام المنصوب من قِبَل اللَّه تعالى و هم أئمّة الهدى من آل محمّدٍ و مَن نصّبوه لذلك من الأُمراء و الحكّام، و قد فرضوا النَّظر إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان، قال و للفقهاء من شيعة آل محمّد أن يَجمعوا بإخوانهم في الصلاة الخمس و صلاة الأعياد و الاستسقاء و الخوف و الكسوف إذا تمكّنوا من ذلك.
و في استشهاده قدّس سرّه بهما ما لا يخفى.
أمّا الأوّل: فالعبارة صريحة في أنّ صلاة العيد فَرض بشرط حضور الإمام لمن يجب عليه الجمعة، و هو غير التّسعة المذكورة في الأخبار، و سنّة عند عدم حضوره انفراداً، و أين هذا من الدّلالة على الاشتراط في صلاة الجمعة؟! فكأنّه
(قدّه) تخيّل أنّ الظرف في قوله (على شرط حضور الإمام) متعلّق بقوله (لزمته) فاستفاد منها المفهوم و هو: عدم لزومها عند عدم حضوره. و فيه ما لا يخفى.
أما الثّاني: فلأنّ المفيد- قدّس سرّه- لم يتعرّض لذكر الجمعة أصلًا، بل ذَكَر جواز إقامة الفقهاء لهذه الصَّلوات لا من أجل المنصبيّة، لضرورة الفقه بعدم المنصبيّة في هذه الصلوات، و ما أدري ما وجه الاستشهاد بهذه العبارة؟! و لعلّه لأجل شمول صلاة الأعياد لصلاة الجمعة بناءً على أنّ الجمعة عيد، و فيه ما لا يخفى.
و بالجملة لا ريب في أنّ المفيد قدّس سرّه قائل بالوجوب التعييني۱، فما ذهب إليه هؤلاء الأعاظم في توجيه كلماته على ما يوافق مذهبهم غير وجيه.
الثّاني: الشيخ محمّد بن يعقوب الكليني لأنّه أورد في كتابه «الكافي» جملةً من الأخبار، و لم يأت بكلام يدلّ على الاشتراط، و ظاهره عدمه لأنّه ذكر في صدر كتابه بأنّ الأخبار الواردة في هذا الكتاب كلّها صحيحة.
الثالث: الشيخ الصدوق في «الفقيه» حيث إنّه ذَكَر بعض الأخبار الدّالة بعمومها على وجوب صلاة الجمعة على الإطلاق و لم يأت بكلام يدلّ على الاشتراط مع أنّه ذكر في صدر كتابه أنّه ما أورد في هذا الكتاب إلّا الروايات الصحاح الّتي أفتى هو- قدّس سرّه- على طبق مضمونها، و قال في «الأمالي» في وصف دين الإماميّة:
و الجماعة يوم الجمعة فريضةٌ واجبةٌ و في سائر الأيّام سنّة، فمن تركها رغبة عنها و عن جماعة المسلمين من غير علّة فلا صلاة له، و وضعت الجمعة عن
تسعةٍ. ثمّ عدّ هؤلاء۱.٢
و قال في المقنع:
و إن صلّيتَ الظهرَ مع إمام الجمعة بخطبةٍ صلّيت ركعتين، و إن صلّيت بغير خطبة صلّيتها أربعاً بتسليمة واحدة٣.
و قد فرض اللَّه سبحانه من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة، واحدةٌ فرضها اللَّه تعالى في جماعةٍ و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة، عن: الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد والمرأة و المريض و الأعمى و مَن كان على رأس فرسخَين. و لم يذكر شيئاً من الشرائط، نعم قال في «الهداية»:
إذا اجتمع يوم الجمعة سبعةٌ و لم يَخافوا أمَّهم بعضهم و خطبهم، ثمّ قال: و السبعة الّذين ذكرناهم هم: الإمام و المؤذِّن و القاضي و المدّعي حقّاً و المدّعى عليه و الشاهدان٤.٥
و لا يخفى أنّه قابل للتّوجيه و هو لزوم كون الأفراد الّتي تنعقد بها الجمعة بقدر أفراد هذه السّبعة و إلّا فلو يُؤخَذ بظاهره كان مخالفاً للإجماع القطعي و السنّة المتواترة، بل الضّرورة من المذهب من عدم دخالة هؤلاء الستّة الباقين.
الرابع: الشيخ أبوالصلاح التقي الحلبي في كتابه «الكافي» على ما حُكي عنه قال:
لا تنعقد الجمعة إلّا بإمام الملّة أو المنصوب بمن قبله أو مَن تكامل له صفات إمام الجماعة عند تعذّر الأمرين۱.
و هذه العبارة صريحةٌ واضحةٌ في أنّ تقديم الإمام يكون من باب الاولويّة لا من باب الاشتراط كما ذكرنا سابقاً و سنبيّن إن شاء اللَّه تعالى٢.
و هكذا المَحكي عنه في قوله في باب الجماعة من هذا الكتاب حيث قال:
و أولى الناس بها إمام الملّة أو من نَصبه، فإن تعذّر الأمران لم تنعقد إلّا بإمام عدل٣.
و من الغرائب أنّه قد نقل عن «الإيضاح» و «غاية المراد» و «المهذّب البارع» و «المقاصد العليّة» و «الروض» و «المقتصر» و «الجواهر المضيئة» نسبة استحباب الاجتماع في زمن الغيبة إلى أبي الصلاح، و نقل عن الفاضل بن العميدي في «تخليص التلخيص» و الشهيد في «البيان» و الفاضل المقداد في «التنقيح» نسبة المنع من إقامتها إليه في زمن الغيبة كإبن إدريس.
الخامس: الشيخ أبوالفتح الكراجكي في كتاب «تهذيب المسترشدين» على ما حُكي عنه حيث قال:
و إذا حضرت العدّة الّتي يصحّ أن ينعقد بحضورها الجماعة يوم الجمعة و كان إمامهم مرضيّاً متمكّناً من إقامته الصلاة في وقتها و إبراز الخطبة على وجهها و كانوا حاضرين آمنين ذكوراً بالغين كاملي العقل أصحّاء وجبت عليهم فريضة الجمعة۱.٢
السادس: الشيخ عماد الدّين الطبرسي في كتابه المسمّى بـ «نهج العرفان» على ما حُكي عنه أنّه بعد نقل الخلاف بين المسلمين في شروط الجمعة قال:
إنّ الإماميّة أكثر إيجاباً للجمعة من الجمهور و مع ذلك يُشنِّعون عليهم بتركها حيث إنّهم لم يجوّزوا الائتمام بالفاسق و مرتكب الكبائر و المخالف في العقيدة الصّحيحة٣.
و هذه العبارة كما ترى دلّت على عدم اشتراط الجمعة بالإمام أو منصوبه عند الشيعة، و إلّا فلو فرض أنّهم كانوا يعتقدون ذلك كيف يمكن أن يكونوا أكثر ايجاباً؟! مضافاً بأنّ قوله حيث إنّهم لم يجوّزوا ... الخ صريح في أنّ المعتبر عندهم عدالة الإمام لا غير، كما في سائر الصَّلَوات الخمس.
السابع: الشيخ حسين بن عبد الصمد- والد شيخنا البهائي- في رسالته المعروفة بـ «العقد الطهماسبي».
الثامن: الشيخ محمّد باقر المجلسي صاحب «بحار الأنوار».
التاسع: والده الشيخ محمّد تقي المجلسي قدّس سرّه.
العاشر: الشيخ أحمد بن شيخ محمّد الحظي تلميذ المجلسي على ما حُكي عنه في رسالته.
الحادي عشر: الشيخ الجليل فخرالدين بن طريح النجفي.
الثّاني عشر: الشيخ زين الدّين الشهيد الثّاني في «خصائص الجمعة».
الثالث عشر: ولده المحقّق الشيخ حسن صاحب «المعالم» في رسالته الاثنى عشريّة.
الرابع عشر: الشيخ محمّد ولد صاحب «المعالم».
الخامس عشر: السيّد صاحب «المدارك».
السادس عشر: المحقّق السبزواري في «الذّخيره».
السابع عشر: الشيخ الجليل العلّامة الجامع لجميع العلوم المُحدِّث الكاشاني في «المفاتيح» و «الوافى» و رسالته المعروفة ب «الشهاب الثاقب».
الثامن عشر: المحقّق الدّاماد على ما حُكي عنه في «الحدائق».
التاسع عشر: مولانا الشيخ الحرّ العاملي في «الوسائل».
العشرون: محمّد بن يوسف البحراني على ما حُكي عنه في «الحدائق».
الحادي و العشرون: السيّد الماجد البحراني.
الثّاني و العشرون: الشيخ سليمان في رسالته.
الثالث و العشرون: الشيخ أحمد الجزائري في «الشافية».
الرابع و العشرون: السيّد على الصائغ.
الخامس و العشرون: الشيخ نجيب الدين.
السادس و العشرون: المولى الخراساني.
السابع و العشرون: السيّد عبد العظيم بن السيّد عبّاس الإسترابادي على ما حُكي عن هؤلاء السّتّة الأخيرة في «مفتاح الكرامة».
الثامن و العشرون: الشيخ يوسف البحراني صاحب «الحدائق».
إلى غير ذلك من العلماء الأعلام الذين لم يصنّفوا في وجوبها التعييني تصنيفاً و لا رسالةً من المتقدّمين و المتأخِّرين و من معاصرينا و ممّن قرب عصرنا في البلاد المختلفة هذا.
واعلم: أنّ الغرض من عدّ هؤلاء الأساطين إنّما هو مجرّد التّنبيه على أنّ الإجماع المدّعى الّذي أصرّ عليه بعض الأعلام ك د «كاشف اللثام» و صاحَبي «مفتاح الكرامة» و «الجواهر» إنّما هو صرف ادّعاء ناشئ عن اعتمادهم على الإجماعات المنقولة، مع أنّك تعرف أنّ الإجماع المنقول مع الظّفر بالمخالف عياناً خصوصاً مع كثرة المخالفين بحدٍّ لو لم يكونوا بحسب العدد أزيد من القائلين بالوجوب التخييريّ لا يكونون أقلّ منهم حتماً ممّا لا يمكن أن يقرّر له محلٌّ إلّا فرط حبّ هؤلاء بما ذهبوا إليه من إنكار الوجوب التعييني، و في «المدارك» أنّ كلام أكثر المتقدّمين خالٍ عن ذِكْر هذا الشرط، و في «الذخيرة» عبارات كثيرة واضحة الدلالة على خلاف هذا الشرط. هذا كلّه في الجواب عن الإجماع المحصّل.
الجواب عن الإجماع المنقول المدّعي
أمّا الإجماع المنقول، فالجواب عنه أيضاً بوجوهٍ.
الأوّل: أنّه على فرض حجّيّته إنّما هو إذا لم نظفر بخطأ ناقله في وصوله بفتاوى العلماء و تتبّع موارد خلافهم و إلّا فهو مطروح بلا ريب، و قد عرفت آنفاً أنّ ادّعاء الإجماع مكابرةٌ محضةٌ مع ذهاب هؤلاء الأساطين من المتقدّمين و المتأخِّرين و متأخِّري المتأخِّرين إلى وجوبها التّعييني.
الثّاني: أنّه في نفسه غير حجّة إلّا كونه مشمولًا لأدلّةِ حجّيّة الخبر الواحد، و معلوم أنّها لا تشمل الأخبار الحدسيّة، فاتّفاق الكلّ إن كان موجباً للقطع بقول المعصوم فكان ادّعاء الإجماع بمنزلة الخبر الحسّي و إلّا فهو حدسي لا دليل على حجّيّته.
الثالث: أنّا نعلم علماً يقينيّاً بأنّ جلّ الإجماعات المنقولة إن لم يكن كلّها كما يظهر من تتبّع أقوالهم و التفحّص في كلماتهم ناشئٍ عن مجرّد ظنّهم بالاتّفاق أو بالشّهرة، أو بمجرّد مطالعة كتابٍ أو كتابين إذا ذكر فيه الإجماع، أو كانوا يدّعون الإجماع على المسألة الفرعيّة بمجرّد الظفر بخبرٍ واحدٍ، أو بقاعدةٍ اتّكالًا على أنّ العمل بالخبر الواحد كان مجمعاً عليه عند الأصحاب، و لذلك نجد في كثير من المسائل ادّعاء بعضهم الإجماع عليه مع وجود الخلاف فيه، بل من المدّعى نفسه في كتابٍ آخر سابقٍ عليه أو لاحقٍ عنه، و كذلك نجد أنّ كثيراً منهم يدّعون الإجماع على حُكم و يدّعي الآخرون الإجماع على خلافه، حتّى قد اتّفق كثيراً ما أنّ واحداً منهم ادّعى الإجماع على حُكمٍ ثمّ هو بنفسه ادّعى الإجماع في كتاب آخر على خلاف هذا الحُكم. و حسبك في هذا الباب ما وقع للمرتضى و الشيخ في «الانتصار» و «الخلاف» من الإجماعات المدّعاة المتناقضة كثيراً مع كونهما إمامَي الطائفة و مقتدَيها. و من ذلك ادّعى السيّد الإجماع على عدم حجّيّة الخبر الواحد، و ادّعى الشيخ الإجماع على حجّيّته، و ما ذهب بعضهم إلى توجيه ذلك بأنّ إجماع السيّد في ذلك على الخبر الواحد الغير الموثوق به و إجماع الشيخ على الخبر الواحد الموثوق به غير وجيه، كما يظهر من ملاحظة قولاهما في ذلك الباب، كيف؟ و هل يعقل أن لا يفهم الشيخ معقد إجماع السيّد و مراده منه مع أنّه كان من تلامذته مدّة ثلاث و عشرين سنة، و لم يدرِ ماذا أراد بإجماعه حتّى لم يَدَّعِ الإجماع على خلافه و لم يردّه في كلامه؟؟!
و في «الحدائق» قال:
و قد وقفتُ على رسالةٍ لشيخنا الشهيد الثّاني رحمه اللَّه قد عدّ فيها الإجماعات الّتي ناقض الشيخ فيها نفسه في مسألة واحدة انتهى عددها إلى نيّف و سبعين مسألة، قال قدّس سرّه: أفردناها للتّنبيه على أن لا يغترّ الفقيه بدعوى الإجماع [المنقول]۱.
و عدّ جملة من المسائل فرداً فرداً.
لا قيمة للإجماع بمقدار فَلسٍ فى المقام
أقول: و إذا كان ادّعاء الإجماع في كلام أساطين المذهب بهذه المثابة، فكيف نعتبرهم في دعاويهم؟!
قال الشهيد الثّاني في درايته:
إنّ أكثر الفقهاء الذين نشأوا بعد الشيخ كانوا يتبعونه في الفتاوى تقليداً له لكثرة اعتقادهم به و حسن ظنّهم به فلمّا جاء المتأخّرون وجدوا أحكاماً مشهورة قد عمل بها الشيخ و متابعوه فحسبوها مشهورة بين العلماء و ما دَرَوا أنّ مرجعها إلى الشيخ [وحده] و أنّ الشهرة إنّما حصلت بمتابعته٢.
و من هذا كلّه تعرف أنّ ادّعاء الإجماع لا قيمة له بمقدار فلَسٍ في المقام٣ و
لا يمكن الاستدلال بها و إن بلغت الإجماعات المنقولة غايتها في الكثرة، و فرض أنّها بلغت حدّ الثلاثين كما عن «حاشية المدارك»، أو أكثر من الأربعين كما عن شرح «مصابيح الظّلام» أو أكثر من حدّ التواتر كما عن «كشف الغطاء»، أو أكثر بضميمة الإجماعات المنقولة في صلاة العيدين من السبعين كما في «الجواهر».
قال المجلسي في «البحار» في باب صلاة الجمعة:
إنّ الأخبار واضحة الدّلالة على وجوبها العيني إلّا أنّ المخالف خالف بشبهة
الإجماع ... إلى أن قال ما معناه: و حجّيّة الإجماع إنّما هو لدخول المعصوم عليه السّلام، و أين هذا من المقام ... إلى أن قال ما لفظه:
ثمّ إنّهم قدّس اللَّه أرواحهم لمّا رجعوا إلى الفروع كأنّهم نسوا ما أسّسوا في الاصول فادّعوا الإجماع في أكثر المسائل سواء ظهر الاختلاف فيها أم لا، وافق الرّوايات المنقولة أم لا ... إلى أن قال: فيغلب على الظنّ أنّ مصطلحهم في الفروع غير ما جَروا عليه في الاصول بأن يسمّوا الشّهرة عند جماعةٍ من الأصحاب إجماعاً كما نبّه عليه الشّهيد في «الذكرى» و هذا بمعزلٍ عن الحجّيّة و لعلّه إنّما احتجّوا به في مقابلة المخالفين ردّاً عليهم و تقويةً لغيره من الدّلائل الّتي ظهرت لهم۱. انتهى موضع الحاجة.
أقول: و إن شئت مزيد اطّلاع لوهن الاجماعات المنقولة فراجع رسالة «كشف القناع» للمحقّق الشيخ أسد اللَّه التُّستري صاحب «المقابيس» قدّس سرّه.
الثالث من أدلّة القائلين بالوجوب التعيينى: الإجماع
الثالث: أنّ جملةً من القائلين بالوجوب التعييني ادّعوا الإجماع عليه أيضاً و قد حُكي عن «المفاتيح» و «الماحوزيّة» أنّ ادّعاء الإجماع على اشتراطه مقلوبٌ على مدّعيه، و ادّعى أيضاً والد شيخنا البهائي على ما حُكي عنه الإجماع على الوجوب التّعييني، ثمّ قال: إنّ خلاف السّلّار و ابن إدريس و الشيخ بل العشرة و العشرين غير مضرّ لما تقرّر في مذهبنا عدم الاعتداد بالمخالف المعلوم النَّسَب، و قال المحدِّث الكاشاني في «الشهاب الثّاقب»:
و إنّه ممّا اتّفق عليه علماء الإسلام في جميع الأعصار و سائر الأمصار و الأقطار كما صرّح به جمٌّ غفير من الأخبار [الأخيار]، و إنّ جميع علماء الإسلام طبقة بعد طبقة قاطعون بأنّ النّبي صلَّى اللَّه عليه وآله استمرّ بفعلها
على الوجوب العيني طولَ حياته المقدّسة، و إنّ النسخ لا يكون بعده، و لم يذهب إلى اشتراط وجوبها بشرط يوجب سقوطها في بعض الأزمان إلّا رجل أو رجلان من متأخّري فُقهائنا الّذين هم أصحاب الرأي و الاجتهاد دون الأخباريّين من القدماء الّذين هم لا يتجاوزون مدلول ألفاظ الكتاب و السنّة و أخبار أهل البيت عليهم السّلام، فإنّه لا خلاف بينهم في وجوبها العيني الحتمي و عدم سقوطها أصلًا إلّا لتقيّةٍ ... إلى أن قال: مرادنا من الرّجلَين هما ابن إدريس و سلّار.
وجه ترديدنا لإمكان تأويل كلام سلّار بما يرجع إلى الحقّ ... إلى أن قال: و ذهب شِرذمةٌ من أكابر الفقهاء إلى الوجوب التخييريّ و بعضهم إلى اشتراط وجوبها بوجود الفقيه، و كلّ ذلك لشبهةٍ حَصَلَت لهم من ترك الأئمّة و أصحابهم، مع أنّه لا مورد له إلّا التّقيّة. انتهى ملخّصاً.۱
أقول: هذا كلّه مضافاً إلى التّصريح في كلام بعض الأصحاب أنّ موضع الإجماع المدّعى إنّما هو حال حضور الإمام و تمكّنه، و الشرط المذكور إنّما هو مع إمكانه لا مطلقاً، و الدّليل على ذلك أنّهم يطلقون القول باشتراطه في الوجوب و يدّعون الإجماع عليه أوّلًا ثمّ يذكرون حال الغيبة و ينقلون الخلاف فيه٢٣
...۱
الأضبط تفريق الرّوايات و تقسيمها إلى وجوه قبل النظر في المسألة (ت)
...۱
هذا تمام الكلام في أدلّة القول المنصور من الوجوب التّعييني و ذبّ بعض الإشكالات الواردة عليه، و سيأتي ذبُّ بقيّة الإشكالات عند التعرّض لأدلّة سائر الأقوال فنقول:
قد اشترك القائلون بالوجوب التّخييري في زمن الغيبة على الإطلاق، أو مع وجود الفقيه مع القائلين بالحرمة في استدلالهم بجملة من الأدلّة، ثمّ تفرّد كلّ من هذه الطوائف الثلاثة في الاستدلال بما يختصّ لمذهبه، و نحن نبحث أوّلًا في أدلّتهم المشتركة ثمّ فيما تفرّدوا به من الأدلّة.
الفصل الرّابع: في الأدلة المشتركة بين القائلين بعدم وجوب صلوة الجمعة تعييناً
۱ـ الأصل
٢ـ الإجماع
٣ـ السّيرة المستمرة
٤ـ الرّوايات
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
الدّليل الأوّل المشترك بينهم: الأصل
فاعلم أنّهم استدلّوا على وجوب صلاة الظهر، و عدم الوجوب التعييني لصلاة الجمعة في زمان الغيبة بأدلّةٍ:
الأوّل: الأصل.
و فيه: إن كان مرادهم من هذا الأصل الأخذ بإطلاقات وجوب صلاة الظّهر لكلّ من المكلّفين في كلّ يوم عند الشكّ في اشتراط صلاة الجمعة بحضور الإمام فلا ريب أنّه تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص، لأنّ آية الجمعة و الروايات الواردة فيها تُخصّصها لا محالة، و القدر المتيقّن منه في زمان الحضور و الشكّ في زمان الغيبة ليس شكّاً في التخصيص الزائد بل يكون شكّاً في سعة دائرة المُخصّص و ضيقه، و قد تقرّر في الاصول عدم جواز التمسّك بالعامّ حينئذٍ۱
و إن كان مرادهم به هو الأصل العملي بمعنى أنّ صلاة الظُّهر أربع ركعات كانت واجبةً قَبْل نزول الآية و بعد نُزولها قد ارتفع الوجوب لا محالة في زمان الحضور كما يستفاد هذا ممّا رواه المشايخ الثلاثة في الصحيح عن زرارة عن أبي جعفر في حديث طويل قال فيه:
«و قال اللَّه تعالى {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا}۱ و هي صلاة الظهر، و هي أوّل صلاة صلّاها رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و هي وسط النّهار و وسط الصّلاتَين بالنَّهار- صلاة الغداة و صلاة العصر- ... إلى أن قال عليه السّلام: و نزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم في سفر فقنت فيها و تركها على حالها في السفر و الحضر و أضاف للمقيم ركعتين، و إنّما وُضِعَت الركعتان اللّتان أضافهما رسول اللَّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلَّى يوم الجمعة في غير جماعةٍ فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيّام»٢.
فعَلى هذا إذا شككنا في دخالة الحضور في وجوبها لا مجال لاستصحاب وجوب الجمعة، لأنَّ ما عُلِمَ وجوبه في السابق هي الجمعة مع الإمام أو منصُوبه و هذا ممّا لا شبهة فيه، و أمّا وجوبها مع غيره فلم يثبت من أوّل الأمر، فمقتضى الأصل عدم شرعيّتها، أو عدم وجوبها على تقدير ثبوت مشروعيّتها، لكنّ
استصحابَ وجوب أربع ركعات الثابت قَبْل نزول الآية بمكان من الإمكان.
و فيه أوّلًا: أنّ هذه الصَّحيحة لا تدلّ على أنّ الأصل في يوم الجمعة صلاة أربع ركعات، و لا تدلّ على أنّ الرّسول صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم صلَّى في الحضر أربع ركعات، بل تدلّ على أنّه أضاف للمقيم ركعتين و أسقطهما لمن تجب عليه الجمعة، فيمكن أن صلَّى صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم في الحضر صلاة الجمعة من أوّل الأمر.۱
و بعبارة اخرى لا دلالة فيها على أنّ نُزول آية الجمعة يكون بعد مضي مدّةٍ صلَّى صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم فيها بأربع ركعات، فعلى هذا لا مجال لاستصحاب الظّهر أربع ركعات، لعدم اليقين السابق بإتيان الظّهر على هذا النّهج. و أمّا رواية حفص بن غياث أيضاً لا تدلّ على أنّ الأصل أربع ركعات، ففي «التهذيب» مسنداً عن حفص بن غياث قال:
سمعت بعض مواليهم يسأل ابنَ أبي ليلى عن الجمعة هل تجب على المرأة و العبد و المسافر؟ فقال ابن أبي ليلى: لا تجب الجمعة على واحدٍ منهم، و لا المخالف. فقال الرّجل: فما تقول إن حضر واحد منهم الجمعة مع الإمام فصلّاها معه هل تَجزيه تلك الصلاة عن ظهر يومه؟ فقال: نعم. فقال له الرجل: و كيف يجزي ما لم يفترضه اللَّه عليه عمّا فرضه اللَّه؟! و قد قلتَ إنّ الجمعة لا تجب عليه، و مَن لم تجب الجمعة عليه فالفرض عليه أن يصلّي أربعاً، و يلزمك فيه معنى أنّ اللَّه فَرض عليه أربعاً. فكيف أجزأ عنه ركعتان مع ما يلزمك أنّ من دخل فيما لم يفرضه اللَّه عليه لم يجز عنه ممّا فرض اللَّه عليه؟
فما كان عند ابن أبي ليلى جواب و طلب إليه أن يفسّرها له فأبى، ثمّ سألته أنا عن ذلك فقال: إنّ اللَّه عزّ و جلّ فرض على جميع المؤمنين و المؤمنات و رخّص للمرأة و المسافر و العبد أن لا يأتوها، فلمّا حضروها سقطت الرّخصة و لزمهم الفرض الأوّل، فمن أجل ذلك أجزأ عنهم، فقلت: عمّن هذا؟ فقال: عن مولانا أبي عبد اللَّه عليه السّلام۱.
هذا و أنت كما ترى تدلّ هذه الرّواية على أنّ الفرض على الجميع هو صلاة الجمعة و إنّما رخّص للمرأة و العبد و المسافر في السعي فقط و أمّا بعد تحقّق السعي منهم فقد وجبت عليهم أيضاً، و لا تدلّ على أنّ الأصل هو صلاة الظهر بوجه بل يمكن أن يستشعر منها أنّ الأصل هو صلاة الجمعة كما لا يخفى.٢
و ثانياً: أنّك قد عرفت دلالة روايات ظاهرةٍ بل صريحةٍ على وجوبها لكلّ أحدٍ في جميع الأزمان لا يعذر الناس فيها إلّا أفراداً معدودة، و كيف يقابلها الأصل مع أنّه دليل حيث لا دليل.٣
و ثالثاً: لابدّ في الاستصحاب من اتّصال زمان اليقين بالشّكّ، فلو كان بينهما فصلٌ لا مجال لجريانه كما تقرّر في الاصول، و مع فرض اليقين بوجوب أربع ركعات أوّلًا قد ارتفع هذا الوجوب في برهة من الزّمان بوجوب الجمعة يقيناً فلا
يمكن إسراء حكمه في زمان الغيبة مع هذا الفصل الطَّويل.۱
و رابعاً: أنّ استصحاب الوجوب في مرحلة المجعول يكون معارضاً
باستصحاب عدم الجعل فيتساقطان، فلذا لا يجري الاستصحاب الحكم الوجودي في الشبهات الحُكميّة أصلًا كما تحقّق في محلّه.۱
الدّليل الثّاني و الثالث المشترك بينهم: الإجماع والسيرة
الثّاني: الإجماع على اشتراطها بحضوره و تمكّنه من الإقامة أو بوجود المنصوب من قِبَلِه.
و فيه ما فيه بما لا مزيد عليه.
الثالث: السيرة المستمرّة من زمان النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم و كذا الخُلفاء بعده على النَّصب لإمام الجمعة
كما أنّهم ينصبون القضاة للقضاوة بين النّاس، و من الظاهر أنّ فعل النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم حجّة و نصبه لإقامة الجمعة دليل على الشرطيّة فلولاه لما كان وجه للنصب، و قد نقل عن المحقّق من أنّه احتجّ بفعل النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم فإنّه كان يعيّن لإمامة الجمعة و كذا الخلفاء بَعده كما يعيّن للقضاء، فكما لا يصحّ أن ينصب الإنسان نَفسه قاضياً من دون إذْن الإمام فكذا إمام الجمعة.
قال: و ليس هذا قياساً بل استدلال بالعمل بالسّيرة في الأعصار، فمخالفته خرق للإجماع. انتهى.
و أمّا عمل الخُلفاء الجائرين بعده و إن لم يكن حجّة علينا إلّا أنّهم كانوا يدّعون الخَلافة النبويّة و كانوا يقتفون النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم في أعماله و سيرته و كلّما كانوا ينحرفون عن طريقة النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم و يبتدعون في الامور كان مضبوطاً في التأريخ، و كانت الشيعة يشنِّعون على العامّة
لأجل انحرافهم عن سيرة النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم، و من المعلوم أنّ أحداً من علماء الشيعة لم يعدّ نصبهم لإمامة الجمعة من بدعهم و هذا دليل على أن النّصب لإمامة الجمعة كان لازماً حتماً على رئيس الملّة و لا تصحّ الجمعة بدونها
و قال في «الجواهر»:
و منها، أي من الأدلّة: السّيرة الّتي أشار إليها أساطينُ المذهب ... إلى أن قال: و يشهد لها أيضاً ما في أيدي المخالفين الآن الّذي لم يعدّه أحد أنّه من بدعهم و مُخترعاتهم مع أنّهم حصروا مبتدعاتهم في الفروع و الاصول و لم يتركوا لهم شيئاً إلّا ذكروه حتّى الأذان الثّاني لعثمان في الجمعة، و أنّه كانت تُصلّي في ذلك الوقت مع غير النائب في رأس كلّ فرسخ لشاع و ذاع و صار معلوماً عند الأطفال فضلًا عن العلماء الماهرين، إلى آخر كلامه۱.
و فيه: أنّ هذه السيرة المستمرّة على النَّصب و إن كانت مسلَّمة إلّا أنّه لا دلالة لها على الاشتراط، لأنّ العامّ لا يدلّ على الخاصّ، بل النّبي صلَّى اللَّه عليه وآله و سلّم حيث كان أعرف بمن يليق بتصدّي امور الناس في إقامة الجمعة و غيرها فكان ينصّب رجلًا لائقاً لذلك.
و لذلك ترى أنّه صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم كان ينصّب أئمّة الجماعة لصلاة الخَمس و للأذان و لسقاية الحجّ و لإمارة الحجيج و قبض مفاتيح الكعبة و ترتيب الجيش و سائر الامور، مع أنّ واحداً من هذه الامور غير مشروط بوجود المنصوب، بل لأجل أنّ الانتظام الصّحيح و وقوع هذه الامور على وجه أحسن منوطٌ بنظره صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم خصوصاً مع كون الإسلام ديناً مدنيّاً حافظاً للنّظام في
جميع الامور المَعَاديّة و المعاشيّة، و بالتأمّل يُعرَف أنّ مداخلة رئيس كلِّ قومٍ في بعض امورهم ليس لأجل اشتراط إيجاد هذه الامور بوجوده بل لأجل أنّه أعرف بالصّلاح و الفَساد و إيجاد الامور على وجه أحسن، و لذلك ترى أنّ أهل القبيلة يراجعون إلى زعمائهم في طرق مكاسبهم و معالجة مرضاهم و دَفن جنائزهم و الدفاع عن خصمائهم مع أنّه لاريب أنّه إذا فقدت زعماءهم لا يُهملون هذه الامور بل يتصدّونها بأنفسهم على ما أدّت إليه آراؤهم.
و بعبارة اخرى أنّ من الامور اموراً ممّا لابدّ من إيقاعها غاية الأمر يكون إيجادها بنظر شخصٍ خاصٍّ أكمل و أحسن فإذا كان هذا الشخص موجوداً فالعقل يحكم بوجوب الرُّجوع إليه، كما أنّه إذا كان لهذا الشخص سلطنة و اقتدار يجب عليه المداخلة و النظر في إجراء هذه الامور، و إذا لم يكن موجوداً أو كان مسلوبَ السلطنة لم يكن لرَفع اليد عن أصل إيجادها موقع۱
إن قلت: هذا مسلّمٌ إذا علمنا لزوم إيقاع هذه الامور، و أمّا إذا شككنا و احتملنا أنّ إيجادها مشروط بنَظر شخص خاصّ فعند فقدانه من أين نحكم بلزوم إيقاعها حتماً؟ و الظّاهر أنّ كلّما كان من الامور المُخترعة الّتي لم يكن لعامّة الناس إليها سبيل يكون من هذا القبيل.
لانّا نرى مثلًا أنّ الطبيب الكيمياوي الذي يركِّب الأدويّة لو مات لا يصحّ لتلامذته تركيب الأدوية و إرسالها إلى الأسواق مع شكّهم في كون نظر الطبيب دخيلًا في صحّة التركيب، و الامور المخترعة من هذا القبيل فمن الممكن أنّ المصلحة القائمة بصلاة الجمعة قائمة بحضور شخصِ المعصوم أو المنصوب من قِبَلِه، هذا في مقام الثبوت. و أمّا في مقام الإثبات فنقول: إنّ نفس عمل الرئيس بما هو رئيس في تعيين وظائف المرؤوسين ظاهرةٌ في قيام هذه الوظيفة المجعولة
بوجود الرئيس و نظره، و لذا لو لم ترد أخبار مستفيضة على جواز ائتمام كلِّ عادلٍ جامعٍ للشرائط للصلوات الخمس لقلنا بالاشتراط فيها أيضاً بوجود المنصوب و كذا الأمر في الأذان و غيره من الامور.
قلت: هذا كلام متين و لولا روايات صريحة صحيحة بوجوب صلاة الجمعة يقيناً في كلّ زمان بنحو العموم و الإطلاق لما حكمنا بوجوبها، لكنّا ندّعي أنّ الكتاب و السنّة المتواترة دلّت على وجوبها على الإطلاق و هي كافية في رفع الاشتراط المتوّهم من نَصب النّبي صلَّى اللَّه عليه و آله و سلّم كما كان الأمر كذلك في سائر الجماعات.۱
و أمّا ما أورده في «الجواهر» من أنّ عدم تشنيع الشيعة على العامّة دليل على أنّ النّصب ليس من مخترعاتهم فهو من الغرائب.
أمّا أوّلًا: لأنّا لا ندّعي أنّ النَّصب لم يكن في زمان النّبي بل ندّعي أنّ الأخبار دلّت على عدم الاشتراط.
و أمّا ثانياً: فلأنّ تشنيع الشيعة عليهم إنّما يصحّ لو لم تكن المسألة خلافيّة بين الخاصّة أيضاً، و أمّا إذا كان كذلك فكيف يشنِّعون عليهم مع أنّ جماعةً منهم بل أكثرهم قائلون بذلك؟ و بتعبير آخر: إن كان التشنيع من القائلين بالاشتراط فهذا غير معقول لأنّه مساوق لتشنيع أنفسهم، و إن كان من القائلين بالعدم فهو مساوق لتشنيع أصحابهم و إخوانهم في المذهب!
الدّليل الرابع المشترك بينهم: الروايات
الرابع: الروايات، و هي على طوائف:
الطائفة الاولى: الأخبار الّتي تدلّ على أنّ الجمعة واجبة لمن كان منها على دون فرسخين و ساقطة عمّن بَعُدَ عنها بفرسخين.
منها صحيحة محمّد بن مسلم قال:
سألتُ أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الجمعة، فقال: «تجب على مَن كان منها على فرسخين، فإن زاد على ذلك فليس عليه شيء»۱.
و منها خبر فضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام:
«إنّما وجبت الجمعة على مَن يكون على رأس فرسخين لا أكثر»٢.
و منها صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام:
«الجمعة واجبة على مَن إن صلَّى الغداة في أهله أدرك الجمعة»٣، (الحديث).
تقريب الاستدلال بها من وجهَين:
الأوّل: أنّ صريح هذه الأخبار هو وجوب الجمعة لمن كان منها على ما دون فرسخين فلو جاز عقدها بلا إذْن لم يتعيّن على مَن بَعُدَ عنها بفرسخين السعي إليها، بل كان لمن بَعُدَ عنها بثلاثة أميال إن يعقدها في مكانه مع جماعة من أهله من غير أن يتحمّل هذه المشقّة الشديدة.
و فيه: أنّ مقتضى إطلاق هذه الروايات و إن كان ذلك إلّا أنّ مقتضى الجمع بينها و بين روايات دلّت على جواز انعقاد الجمعة على رأس ثلاثة أميال هو حملها
على ما إذا لم ينعقد هناك جمعة اخرى.
الوجه الثّاني: أنّ هذه الرّوايات صريحةٌ في سقوطها عمّن بَعُدَ عنها بفرسخين، فلو كان وجوبها غير مشروط بإمام خاصّ لوجب على البعيدين الاجتماع و الانعقاد للجمعة في أماكنهم و لا يصحّ تنزيل هذه الأخبار على السقوط فيما إذا لم يوجد في تلك الأماكن و ما حولها إلى فرسخ أو فرسخين عدّة أشخاص تنعقد بهم الجمعة كخمسة نفر، لأنّه فرضٌ بعيد لا يصحّ تنزيل إطلاق الأخبار عليه.
و فيه: أنّ المراد من بُعد الفرسخين ليس بالنسبة إلى الجمعة المنعقدة فعلًا لوضوح أنّه بعد انعقادها لا مجال للسعي إليها، بل المراد منه إمّا البعد بالنسبة إلى المكان الذي يمكن أن تنعقد الجمعة فيها. و إمّا البعد بالنسبة إلى المكان الذي لو بنى على انعقاد الجمعة لانعقدت في ذلك المكان. و على التقديرين لا دلالة لهذه الروايات على سقوط الجمعة عمّن بَعُدَ بفَرسخين عن محلّ انعقاد الجمعة فعلًا، لأنّه على الأوّل إذا انعقدت الجمعة مثلًا في نقطة لأمكن انعقادها بفاصلة ثلاثة أميال و ما زاد فلابدّ من ملاحظة نسبة بُعد الفرسخين إلى هذا المكان الممكن انعقادها فيه. فحينئذٍ نقول: إذا انعقدت جمعة في مكان من المدينة مثلًا فمن بَعُدَ عنه بفرسخين إذا اجتمع شرائط الجمعة بالنسبة إليهم من العدد و الخطيب فيمكن انعقاد الجمعة في هذا الموضع فلا يصدق بالنسبة إليهم البُعد إلى الجمعة الممكن انعقادها، نعم لو لم يجتمع شرائط الجمعة عندهم لصدق بالنسبة إليهم ذلك.
و بعبارة اخرى: أنّ الروايات دلّت على سقوط الجمعة عمّن بَعُد عن طبيعي الجمعة الممكن إيقاعها في أي موضع لا عن جمعة خاصّة إلّا أنّه يرد على هذا التقريب أنّه قَبْل انعقاد الجمعة في الجامع المعدّ لإقامة الجمعة في المدينة مثلًا
لأمكن انعقاد الجمعة في كلّ موضع موضع من المدينة لأنّ وصف الإمكان يرتفع بمجرّد الانعقاد.
و أمّا قَبْله و إن بنى على الانعقاد لكان إمكان انعقادها في محلّ آخر على حاله، فإذا فرضنا أن تكون سعة المدينة مثلًا فرسخين۱ مربّعاً و بنى على انعقاد الجمعة في وسطها فلازم هذا التقريب وجوب الجمعة لمن كان بُعده عن هذه الجمعة الّتي بنى على انعقادها ثلاثة فراسخ، لأنّ المفروض إمكان إقامة الجمعة عند جانب المدينة بفرسخ فمن كان يَصدُق عليه أنّه بَعُدَ عن هذه الجمعة الممكن إيقاعها في هذا المكان بفرسخين صدق أنّه بَعُدَ عن الجمعة الّتي بنى على انعقادها في وسط المدينة بثلاثة فراسخ، مع أنّ من الضّروري عدم وجوب السعي إلّا لمن كان دون فرسخين لا مَن كان دون ثلاثة فراسخ.
فالأولى التقريب الثّاني كما هو الأظهر و هو سقوط الجمعة عمّن بَعُدَ عن مكان لو بنى على انعقاد الجمعة لعقدوها في ذلك المكان حتماً، فعلى هذا مَن كان بعيداً عن مكان يكون البناء على انعقاد الجمعة فيه بفرسخين لو بنى على إقامة الجمعة عند اجتماع الشرائط فقد كان اقامته للجمعة في محلّه، فلا يَصدُق عليه أنّه بَعُدَ عنها بفرسخين، فينحصر مورد صِدْق البُعد بفرسخين بمن لم يجتمع عنده من الشرائط الّتي يكون منها العدد.
إلّا أنّه يرد على هذا التقريب أيضاً أنّه لو بنى أهل المدينة على إقامة الجمعة خارجها بفرسخين أو بنى مَن بَعُدَ عن المدينة بفرسخين أن يسعى إليها و صلَّى مع جماعة يصلّون في المدينة لكان لازم هذا التقريب عدم وجوب الصلاة بالنسبة
إليهم للفرض بأنّ وجوبه إنّما هو على مَن كان دون فرسخين بالنسبة إلى المكان الذي لو بنى على انعقاد الجمعة لانعقدت في ذلك المكان، مع أنّا فرضنا أنّ هؤلاء يأتون على عقد الجمعة على بُعد فرسخين.
و يمكن أن يردّ هذا الإيراد بأنّه على تقدير هذا البناء يجب على من يبقى في المدينة إقامة صلاة اخرى في بُعد فرسخين عن الجمعة المنعقدة خارج المدينة، هذا و على تقدير أن يكون المراد من البُعد بفرسخين هو البعد عن المكان الذي بنى على انعقاد الجمعة فيه فعلًا حتّى تدلّ هذه الروايات بإطلاقها على سقوط الجمعة بالنسبة إلى النّائين بهذا المقدار كمل عددهم و وجد فيهم الخطيب أم لا، فإنّا نقول حينئذٍ: تقع المعارضة بين هذه الروايات و بين الروايات الّتي دلّت على أنّ القوم تجب عليهم الجمعة إذا كانوا سبعة نفر مطلقاً سواء كانوا فيما دون فرسخين أم خارجهما۱ فتتساقطان في مورد المعارضة، فيرجع إلى عموم الرّوايات الّتي دلّت
على وجوب الجمعه لكلّ مسلم و لم يقيّد فيها قيد الفرسخين، كصحيحة زرارة المتقدّمة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: صلاة الجمعة فريضة، و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام، (الحديث).۱
و بالجملة أنّه لو لم تقع المعارضة و الرجوع إلى عدم الفرق لكان للاستدلال بهذه الروايات على المنصبيّة وجهٌ خفي، لكنّ الفقيه لابدّ من أن ينظر إلى جميع الروايات و يأخذ النتيجة الحاصلة منها، لا أن يأخذ واحدة منها و يستدلّ بها على مراده و يترك البواقي، نعم على هذا التّقريب تدلّ هذه الرّوايات على وجوب السعي إلى الجمعة الّتي بنى على انعقادها، و لا تدلّ على وجوب أصل انعقاد الجمعة.
و بعبارة اخرى أنّ المستفاد من هذه الرّوايات حينئذٍ وجوب الجمعة اجتماعاً بعد العقد لا عقداً، فلا يناسب جعلها من الروايات المطلقة بالنسبة إلى العقد و الاجتماع، و كذا الرّوايات المتقدّمة المطلقة الّتي يستثنى فيها مَن كان على رأس فرسخين، لأنّ مفاد هذه متّحد مع تلك و هي مع الرّوايات المتكفّلة لحكم البعيدين عن الفرسخين، و أمّا الروايات الّتي استثنى فيها خمس طوائف من وجوب الجمعة فحيث لم يستثن فيها مَن كان على رأس فرسخين كانت مطلقةً بالنسبة إلى عقد
الاجتماع كما لا يخفى.
و ممّا ذكرنا قد عرفتَ أنّه يمكن توهّم الاستدلال بهذه الروايات على عدم الوجوب التّعييني في زمان الغيبة المشترك بين الحرمة و الاستحباب كما عرفت جوابه، و قد أشرنا إلى انفراد كلّ من القائلين بالحرمة و الاستحباب في الاستدلال بروايات مدّعين أنّها ظاهرة في ما ذهبوا إليه.
[استدلال القائلين بالحرمة بطوائف من الرّوايات]
أمّا القائلون بالحرمة فقد استدلّوا بطوائف من الروايات.
الطائفة الاولى من الرّوايات والجواب عنها
الطائفة الاولى: الرّوايات الدالّة على عدم انعقاد الجمعة أو عدم وجوبها إلّا عند وجود من يخطب.
منها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام:
قال: سألته عن اناس في قريةٍ هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال: «نعم يصلّون أربعاً إذا لم يكن من يَخطب»۱.
و منها: صحيحة الفضل بن عبد الملك قال:
سمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول: «إذا كان قوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فإن كان لهم من يَخطب بهم جمعوا إذا كانوا خمسة نفر، و إنّما جُعلتْ ركعتين لمكان الخطبتين»٢.
و منها: موثّقة سماعة قال:
سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان، و أمّا مع من صلَّى وحده فهي أربع ركعات بمنزلة الظّهر»٣.
يعني إذا كان إمام يخطب، فإن لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة بدعوى أنّ الظاهر ممّن يخطب في هذه الروايات هو الإمام أو المنصوب من قِبَلِه لا كلّ من يقدر على مجرّد الخطبة، و ذلك لأنّ العادة تقضي على أنّ كلّ من يقدر على فعل الصلاة يتمكّن من الإتيان بأدنى ما يجزي من الخطبتين، فلو كان وجوبها عيناً لكانت معرفة الخطبة الّتي هي ميسورةٌ لكلّ أحدٍ و كذا الإقامة بها واجباً كفائيّاً على الكلّ، فلا يصحّ تعليق وجوبها على وجود من يخطب بهم فإنّه حينئذٍ بمنزلة ما لو قال: يجب الصلاة على الميّت إن كان فيهم من يصلّي عليه.
و فيه: أنّه لا دليل و لا قرينة على أن يكون المراد ممّن يخطب هو الإمام أو المنصوب من قِبَلِه، بل الظاهر منه هو كلّ من يقتدر على التكلّم و الخطابة و الوعظ و النّصيحة. و بعبارة اخرى كلّ ناطق متكلّم متبحّر مطّلع على الحوادث الواقعة خبير بالوقايع المتجدّدة الّتي ينبغي أن يخبرها العموم، كي يطّلعوا عليها لجلب ما يمكن أن يعود إليهم من المصلحة و دفع ما يمكن أن يتوجّه إليهم من الضرر، مضافاً إلى كونه متّصفاً بصفات إمام الجماعة من كونه عدلًا مرضيّاً، لا كلّ من يقدر على أقلّ ما يجزي من الخطبتين، و هذا النحو من الرجال موجود في كلّ زمان من الفقهاء و من دونهم من العلماء و الأتقياء و الصلحاء، و معلوم أنّا لا ندّعي وجوب صلاة الجمعة تعينياً على الإطلاق حتّى بالنسبة إلى وجود الخَطيب كي يكون التمكّن من الخُطبة واجباً كفائيّاً من مقدّمات الواجب، بل ندّعي كون الخطيب من مقدّمات الوجوب ضَرورة تقييد الوجوب في الأخبار بالعدد و وجود من يخطب، لكنّ الخطيب ليس منحصراً بالإمام أو المنصوب من قِبَلِه و إن كان منطبقاً عليهما في زمان الحضورِ لتعيّن الإمامة بهما من باب الاولويّة، و ليس المراد منه كلّ من
يقدر على أقلّ ما يجزي من الخطبتين حتّى يكون التقييد لغواً هذا.
و ربّما قيل: إنّه على فرض الشكّ في كون من يخطب هو المنصوب أو كلّ من يقتدر على الخطابة، يكون القدر المتيقّن هو المنصوب للشكّ في الوجوب مع غيره، و لكنّه توهّم فاسد؛ ضرورة أنّ الإطلاقات تدلّ على الوجوب لكلّ أحد و لابدّ من تقييدها بمقدار يفي دليل المقيّد على التقييد، فإذا كان دليل المقيّد مجملًا مردّداً أمره بين الأقلّ و الأكثر، فالقدر المتيقّن من التقييد هو المقدار الأقلّ، و حينئذٍ نقول: إنّ الإطلاقات دالّة على وجوبها لكلّ أحدٍ، و إنّما دلّ دليلُ مَن يخطب على سقوطه عن جماعةٍ لم يكن عندهم من يَخطب بهم، فالقدر المتيقّن من التّقييد هو ما إذا لم يكن عندهم من يقتدر على الخطبة، و أمّا مع فرض وجوده و عدم وجود المنصوب فالإطلاقات جاريةٌ بلا إشكال.
الطائفة الثانية من الرّوايات والجواب عنها
الطائفة الثانية: الرّوايات الدّالّة على أنّ الجمعة لا بدّ و أن يكون مع الإمام:
منها: ما في «العيون» و «العلل» عن الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام:
قال: «فإن قال قائل: فَلِمَ صارت صلاة الجمعة إذا كانت مع الإمام ركعتين و إذا كانت بغير إمام ركعتين و ركعتين؟ قيل: لعلل شتّى، منها. أنّ الناس يتخطّون إلى الجمعة من بُعدٍ فأحبّ اللَّه عزّ و جلّ أن يخفّف عنهم لموضع التعب الذي صاروا إليه. و منها: أنّ الإمام يحبسهم للخطبة و هم منتظرون للصلاة، و من انتظر الصلاة فهو في الصلاة في حكم التمام. و منها: أنّ الصلاة مع الإمام أتمّ و أكمل، لعلمه و فقهه و عدله و فضله. و منها: أنّ الجمعة عيد و صلاة العيد ركعتان و لم تقصر لمكان الخطبتين. فان قال: فَلِمَ جعل الخطبة؟ قيل: لأنّ الجمعة مشهد عامّ فأراد أن يكون للأمير سببٌ إلى موعظتهم و ترغيبهم في الطّاعة و ترهيبهم من المعصية و توفيقهم على ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق [الأهوال] الّتي لهم
فيها المضرّة و المنفعة و لا يكون الصائر في الصلاة بل منفصلًا و ليس بفاعل غيره ممَّن يؤمّ الناس في غير يوم الجمعة. فإن قال: فَلِمَ جعل الخطبتين؟ قيل لأن يكون واحداً للثناء على اللَّه و التمجيد و التقديس لله عزّ و جلّ و الاخرى للحوائج و الإعذار و الإنذار و الدّعاء و ما يريد أن يُعلمهم من أمره و نهيه و ما فيه الصّلاح و الفَساد»۱. انتهى.
بدعوى أنّ المراد من الإمام فيها هو إمام الأصل، و هو المعصوم أو المنصوب من قِبَلِه، فالرواية صريحة في سقوط الجمعة إذا لم يكن فيهم الإمام.
و فيه: مضافاً إلى عدم صحّة سندها، لا شاهد فيها على أنّ المراد من الإمام فيها هو إمام الأصل، بل المراد منه هو الإمام اللُّغوي، و هو مَن يقتدي الناس به في صلواتهم، غاية الأمر- كما ذكرنا- لابدّ و أن يكون مضافاً إلى كونه بصفات إمام الجماعة من كونه عادلًا أن يكون خطيباً، و قد ذكرنا أنّ من يخطب ليس هو مجرّد من يقدر على الخطبة، بل من كان له مَلَكةُ الخطابة و النّصيحة و الإخبار. و الإمام في هذه الرّواية أيضاً كذلك كما يدلّ عليه قوله: «إنّ الصلاة مع الإمام أتمّ و أكمل لعلمه و فقهه و عدله و فضله» نعم ربّما قيل: بأنّ قوله «و لا يكون الصائر في الصلاة بل منفصلًا و ليس بفاعل غيره ممّن يؤم النّاس في غير يوم الجمعة» صريحة في عدم انعقاد الجمعة بإمام يصلّي بالناس في غير يوم الجمعة.
لكنّه مدفوع، أولًا: أنّ هذه الفقرة عن صلاة الظهر، كما ذكر في «الوسائل» ليست مذكورة في «العيون» و ثانياً: قد ذكرنا أنّ المراد بالإمام ليس هو مجرّد من له مَلَكة العدالة مع كونه قادراً على أقلّ ما يجزي من الخطبتين، بل من يكون العارف
بالوعظ و الخطابة، العالِم بالمصالح و الحوادث الواقعة ممّا يكون لها ربط بالعموم۱.
هذا و على فرض تسليم ظهورها في إمام الأصل لابدّ إمّا من تأويلها بمطلق من يَخطب، أو حملها على صورة وجود الإمام و سلطنته، جمعاً بينها و بين الإطلاقات المتقدّمة الآبية عن التّقييد.
و منها: موثّقة سماعة المتقدّمة.
و منها: موثّقته الاخرى:
قال: سألتُ أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الصلاة يوم الجمعة، فقال: «أمّا مع الإمام فركعتان، و أمّا لمن صلَّى وحده فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة»٢.
و جوابهما يظهر ممّا مرّ.
الطائفة الثالثة من الرّوايات والجواب عنها
الطائفة الثالثة: الروايات الدالّة على أنّ الجمعة من مناصب الإمام:
منها: مرسلة ابن عصفور عنهم عليهم السّلام:
«إنّ الجمعة لنا، و الجماعة لشيعتنا»٣.
و منها: ما ارسل عنهم أيضاً:
«لنا الخمس و لنا الأنفال و لنا الجمعة و لنا صفو المال»٤.
و منها: ما في النّبوي:
«إنّ الجمعة و الحكومة لإمام المسلمين»۱.
و منها: ما في النّبوي الآخر:
«أربع إلى الولاة الفيء و الحدود و الجمعة و الصدقات»٢.
و هذه الروايات و إن كانت ظاهرة في الاختصاص لكن لا يمكن الأخذ بظهورها، أولًا: لمكان ضعف سندها و إرسالها. و ثانياً: إنّ الاختصاص المستفاد منها إنّما هو لمكان أولويّة الإمام من غيره بهذا المَنصب عند وجوده لا اختصاصه به مطلقاً حتّى لا يصحّ الانعقاد مع فرض غيبته أو عدم سلطنته أيضاً، و كم فرق بين المقامين؟! و قد ذكرنا سابقاً أنّ الإمام مقدّم في جميع الامور الدّينيّة و الدّنيويّة و لا يصحّ لأحدٍ أن يتقدّم عليه إذا أراد عليه السّلام إقامتها من صلاة أو جهادٍ أو أخذ خراجٍ أو زكاةٍ و هكذا، هذا و على فرض استفادة الاختصاص منها على الإطلاق لابدّ من حملها على زمان الحضور جمعاً بينها و بين الإطلاقات و العمومات الصّريحة في وجوبها لكلّ أحدٍ إلى يوم القيامة.
إنّ صاحب الدعائم من أجلاّء الإماميّة
و منها: ما عن «دعائم الإسلام» عن علي عليه السّلام أنّه قال:
«لا يصلح الحُكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا للإمام أو من يقيمه الإمام»٣.
و يظهر جوابه ممّا مرّ مضافاً إلى إمكان ادّعاء أنّ ظهورها في الإمام اللّغوي أقوى بقرينة الرّواية الاخرى أيضاً و هي ما في «مستدرك الوسائل» عن «دعائم الإسلام» عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال:
«لا جمعة إلّا مع إمام عدل تقي»، و عن علي عليه السّلام أنّه قال: «لا يصحّ
الحُكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام عدل»۱.
لأنّ الظّاهر فيها أنّ قوله عليه السّلام «عدل» صفة للإمام لا أنّه ممّا يضاف إليه الإمام، و من المعلوم أنّ الإمام العدل بالتوصيف يكون في مقابل إمام الفسق بخلاف الإضافة لأنّه في قبال أئمّة الجور، فإذا ذُكِرَ الإمام العدل بالإضافة يراد منه المعصوم، و إذا ذُكِرَ بالتّوصيف يراد منه الإمام العادل غير الفاسق مطلقاً.٢
و الظاهر أنّ الإمام العدل في هذه الرّواية يكون بنحو التوصيف لا الإضافة خصوصاً بإيراد لفظ «التّقي» بعد «العدل» فإنّه صفة بعد صفة كما لا يخفى.
نعم، في روايته الثالثة و هي ما في «المستدرك» أيضاً عن «الدَّعائم» عن أبي جعفر محمّد بن على عليهما السّلام أنّه قال:
«تجب الجمعة على مَن كان منها على فرسخين إذا كان الإمام عدلًا»٣.
يحتمل الأمران، و لكن لابدّ من حملها على إمام العدل في قبال إمام الفسق بقرينة الرّواية السابقة، هذا كلّه مضافاً إلى لزوم حملها جميعاً على صورة حضور الإمام و سلطنته على فرض تسليم ظهورها في الإمام الأصل، و معلوم أنّه مع حضوره لا يصحّ الجمعة إلّا به أو بإذنه كما عرفت وجهه.
هذا كلّه مُضافاً إلى إرسال ما في «الدعائم» فلا يمكن أن يعتمد عليه جزماً، لأنّ الرّوايات المرسلة غير حجّة و إن كان صاحب «الدعائم» من أجلّاء الإماميّة الاثنى عشريّة على ما هو التّحقيق. و إن شئت مزيد توضيح لذلك فراجع
«المستدرك»۱ فإنّه ذكر أنّ نعمان بن أبي عبد اللَّه محمّد بن منصور صاحب «الدعائم» كان قاضياً بمصر في أيّام الدَّولة الإسماعيليّة و كان مالكيّاً ثمّ اهتدى فصار إماميّاً. و استدلّ العلّامة النّوري بوجوه خمسة على أنّه كان اثنى عشريّاً٢، و نصّ غير واحدٍ على أنّ عدم ذكره للأئمّة بعد الصّادق عليه السّلام و عدم روايته
عنهم إلّا نادراً إنّما هو لعدم قدرته للإظهار لمكان التقيّة من الخلفاء الإسماعيليّة.
و قد سمعتُ من العلّامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني أنّه قال: و الّذي يختلج بالبال احتمال أن يكون مراد القاضي من محمّد بن على في رواياته هو محمّد بن على التاسع من الأئمّة لكن لم يصرّح به لمكان التّقية، و لكن مع ذلك كلّه لم يظهر لي وجهٌ لحجّيّة أخبارها لمكان إرسالها و إن نصّ القاضي نعمان على أنّها أصّحاء كلّها لكنّك خبير بأنّ الصحّة عنده لا يمكن الاعتماد عليه في كونه صحيحاً عندنا أيضاً، فإذَن لا يمكن المعاملة معهما إلّا المعاملة مع المراسيل.
و منها: ما في «المستدرك» عن «الأشعثيّات» مسنداً عن الحسين عن أبيه عليهما السّلام قال:
«لا يصحّ الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بامام»۱.
لكنّك خبير بأنّ عدم دلالتها على الإمام الأصل غير خفي.
و منها: ما في «المستدرك» أيضاً عن «الأشعثيّات» مسنداً عن الحسين عن أبيه عليهما السّلام قال:
قال: «العشيرة إذا كان عليهم أمير يقيم الحدود عليهم فقد وجب عليهما [عليهم] الجمعة و التشريق»٢.
و لابدّ من حملها على الإمام اللغوي كما عرفتَ أو حملها على زمان الحضور، كما لابدّ من حمل الرّواية الثالثة عن «الأشعثيّات» أيضاً على ما في «المستدرك» على هذا المعنى، و هي ما في «الأشعثيّات» مسنداً عن الحسين عليه السّلام:
إنّ عليّاً عليه السّلام سُئل عن الإمام يهرب و لا يخلف أحداً يصلّي بالناس، كيف يصلّون الجمعة؟ قال «يصلّون أربع ركعات»۱.
و يمكن حملها أيضاً على ما إذا لم يكن في الباقين من يخطب بهم.
و أمّا الإشكال في سند «الأشعثيّات» ممّا لا مجال له و قد يستفاد من التتبّع في كلمات الأعلام أنّ «الجعفريّات» كانت من الكتب المعتبرة المعروفة المعوَّل عليها عند الأصحاب.
كتاب الجعفريّات من الكتب المعتبرة المعوّل عليها عند الأصحاب
قال العلّامة قدّس سرّه في إجازته لبني زهرة المذكورة في إجازات «البحار» صفحة ٢۷ ما هذا لفظه:
«و من ذلك كتاب «الجعفريّات» و هي ألف حديث بهذا الإسناد عن السيّد ضياء الدين فَضل اللَّه بإسنادٍ واحدٍ رواه عن شيخه عبد الرحيم عن أبي شجاع صابر بن الحسين بن فضل بن مالك قال: حدّثنا أبو الحسن علي بن جعفر بن حمّاد بن رائق الصيّاد بالبحرين، قال: أخبرنا بها أبو على محمّد بن محمّد بن الأشعث الكوفي عن أبي الحسن موسى بن إسماعيل بن موسى بن جعفر بن محمّد عن أبيه إسماعيل عن أبيه موسى عن أبيه جعفر عليه السّلام٢» إلى آخر ما ذكره.
و مراده من قوله بهذا الإسناد هو أحمد بن طاوُس عن السيّد صفي الدين محمّد بن معد عن الشيخ نصيرالدّين راشد بن إبراهيم بن إسحاق بن محمّد البحراني.
و بالجملة إنّ مَن راجع خاتمة «المستدرك» و تأمّل في الوجوه الثّمانية الّتي
ذكرها صاحبه العلّامة النّوري في لزوم الاعتماد على هذا الكتاب يعرف أنّه من الكتب المعتبرة المنقولة بأسناد قويّة و لا بأس بالعمل بها.
و من الغريب ما صدر عن صاحب «الجواهر» في كتاب الأمر بالمعروف حيث قال:
«و أغرب من ذلك استدلالُ من حَلَّت الوسوسة في قلبه بعد حكم أساطين المذهب بالأصل المقطوع و إجماع ابني زهرة و إدريس اللذين قد عرفت حالهما و ببعض النُّصوص الدالّة على أنّ الحدود للإمام عليه السّلام خُصوصاً المروي عن كتاب «الأشعثيّات» لمحمّد بن محمّد بن الأشعث بإسناده عن الصّادق عن أبيه عن آبائه عن على عليهم السّلام «لا يصّح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بالإمام» الضَّعيف سنداً، بل الكتاب المزبور على ما حُكي عن بعض الأفاضل ليس من الاصول المشهورة بل و لا المعتبرة و لم يحكم أحد بصحّته من أصحابنا بل لم تتواتر نسبته إلى مصنّفه بل و لم تصحّ على وجهٍ تطمئنُّ النّفس بها و لذا لم ينقل عنه الحُرّ في «الوسائل» و لا المجلسي في «البحار» مع شدّة حرصهما خُصوصاً الثّاني على كتب الحديث و من البعيد عدم عثورهما عليه و الشيخ و النّجاشي و إن ذكرا أنّ مصنِّفه من أصحاب الكتب إلّا أنّهما لم يذكرا الكتاب المزبور بعبارة تُشعِر بتعيينه، و مع ذلك فإنّ تتبّعه و تتبّع كتب الاصول يعطيان أنّه ليس جارياً على منوالها، فإنّ أكثره بخلافها و إنّما تطابق روايته في الأكثر رواية العامّة۱» إلى آخر ما ذكره. انتهى.
إنّ صاحب الجواهر ليس من الماهرين المتبحّرين في فنّ الرجال
و لا يخفى أنّ ما ذكره مدفوع من وجوه عديدة أشار إليها العلّامة النّوري، و معلوم أنّ صاحب «الجواهر» ليس من الماهرين المتبحّرين في فنّ الرّجال و
الحديث و معرفة الكتب فلا ينبغي أن يُصغَى إلى ما ذكره في تضعيف هذا الكتاب، و من العجب العجاب أنّه مع ذلك استدلّ بـ «الأشعثيّات» على ما ذهب إليه في مقامنا هذا من الوجوب التخييريّ لصلاة الجمعة و أصرَّ على أنّها من مناصب الإمام و لم يعترض على «الأشعثيّات» بكلمةٍ و لم يقدَحها بوجهٍ.
و منها: ما في «الصَّحيفة السجّاديّة» في دعاء الجمعة و ثاني العيدين:
«اللهمّ إنّ هذا المقام لخلفائك و أصفيائك و مواضع امنائك في الدَّرجة الرفيعة الّتي اختصصتهم بها قد ابتزّوها و أنت المقدّر لذلك» إلى أن قال: «حتّى عاد صفوتك و خلفاؤك مغلوبين مقهورين مبتزّين يرون حكمك مبدّلًا» إلى أن قال: «اللهمّ العن أعداءهم من الأوّلين و الآخرين و مَن رضي بفعالهم و أشياعهم لعناً وبيلًا»۱.
و جوابه يظهر ممّا مرّ، و معلوم أنّ من صلَّى مع وجود الإمام و تقدّم عليه فقد ابتزّ مقامه و صيّر حكم اللَّه مبدّلًا و اولئك الملعونون يقيناً لأنّ اللَّه تعالى قدّم المعصومين سلام اللَّه عليهم أجمعين من كافّة الخلائق و مع وجودهم ليس لأحدٍ أن يتقدّم عليهم، و أين هذا من استفادة اشتراط الصلاة بوجودهم عليهم السّلام حتّى مع فقدانهم ظاهراً.
الإشكال فى سند الصحيفة السجّاديّة إنّما ناشئ من عدم الخبرويّة بالكتب و الرّواة
و أمّا ما ربّما يجاب عن هذا الدّعاء بعدم صحّة سند «الصَّحيفة» فهو ناشئ من عدم الاطّلاع بالأحاديث و عدم الخبرويّة بالكتب و الرّواة، و ذلك لأنّ جماعة كثيرة من الأعلام يروي «الصَّحيفة» عن بهاء الشرف فيكون قائلُ «حَدَّثنا» في أوَّلها أحَدَهم لا محالة، و أمّا هؤلاء الجماعة فهُم الّذين ذكرهم الشيخ نجم الدين جعفر بن نجيب
الدين محمّد بن جعفر بن هبة اللَّه بن نما الحلّي في إجازته المسطورة في إجازة صاحب «المعالِم» في إجازات «البحار» صفحه ۱۰۸:
۱- جعفر بن على المشهدي ٢- أبو البقاء هبة اللَّه بن نما ٣- الشيخ المقري جعفر ابن أبي الفضل بن شعرة ٤- الشريف أبو القاسم بن الزّكي العلوي ٥- الشريف أبو الفتح بن الجعفريّة ٦- الشيخ سالم بن قبارويه ۷- الشيخ عربي بن مسافر۱.
و غير خفي أنّ كلّهم أجلّاء مشاهير و أبو الفتح المعروف بابن الجعفريّة و السيّد الشريف ضياء الدين أبو الفتح محمّد بن محمّد العلوي الحسيني الحائري و قد قرأ عليه السيّد عزّالدّين أبوالحرث محمّد بن الحسن بن على العلويّ الحسيني البغدادي.
و إجازة صاحب «المعالِم» مدرجةٌ في المجلّد الأخير من «البحار» و أدرج هو في إجازته إجازات ثلاث وجدها بخطّ الشَّهيد الأوّل إحديهما نجم الدّين جعفر بن نما كما ذكره في أوائل صفحة المِائة من هذا المجلّد، ثمَّ أدرجها متفرّقةً في إجازته منها الفقرة الّتي نقلناها فقد ذكرها في أواسط صفحة ۱۰۸ من مجلّد الإجازات، ثمّ اعلم أنّه يروي «الصحيفة» عن بهاء الشّرف أيضاً علي بن السكون و عميد الرؤساء أيضاً، ففي إجازات «البحار» صفحة ٤٤ ما هذا لفظه:
ما كان في آخر صحيفة الشيخ شمس الدّين محمّد بن على الجبعي جدّ شيخنا البهائي قدّس اللَّه روحهما ... إلى أن قال:
و بخطّه (أي بخطّ الجبعي) و على النسخة الّتي بخطّ علي بن السكون و خطّ عميد الرؤساء قراءةً صورتها: قرأ علَيَّ السيّد الأجلّ النّقيب الأوحد العالِم جلال الدين عماد الإسلام أبوجعفر القاسم بن الحسن بن محمّد بن الحسن بن
معيّة أدام علوّه قراءةً صحيحة مُهَذَّبة و رويتُها له عن السيّد بهاء الشرف أبي الحسن محمّد بن الحسن بن أحمد عن رجاله المسمّين في باطن هذه الورقة و أبَحْته روايتها عنّي حسب ما وقّفته عليه و حدّدته له۱. انتهى.
هذا و لكنّي رأيت في بعض إجازات شيخ الشّريعة الإصفهاني قدّس سرّه أنّه قال:
إنّ عميد الرؤساء يروي عن بهاء الشَّرف يقيناً و علي بن السكون يمكن أن يكون راوياً عنه على بُعدٍ فإنّ المَحكي عن نسخة ابن السكون أنّه ذكر في أوّلها أخبرنا أبو على الحسن بن محمّد بن إسماعيل بن اشناس البزّاز قراءةً عليه قال: أخبرنا أبوالفضل محمّد بن عبد اللَّه بن المطّلب الشَّيباني إلىء آخر ما في الكتاب، فيظهر منه أنّ ابن السكون يروي عن الشَّيباني بواسطةٍ واحدةٍ و اللّازم من روايته عن بهاء الشرف أن يروي عن الشيباني بثلاث وسائط. انتهى.
إنّ «الصحيفة» ممّا لا ريب فيه و لا يبعد دعوي تواترها
و على كلّ حالٍ فإنّ صحّة «الصحيفة» ممّا لا ريب فيه و لا يبعد دعوى تواترها أيضاً، مضافاً إلى أنّا نرويها بطريقنا عن العلّامة الشيخ آقا بزرگ الطهراني مدّ ظلّه عن مشايخه العظام بطرقهم عن الشَّهيد الأوّل بطرقه عن عميد الرؤساء أيضاً، فالخدشة في سند هذه «الصّحيفة» المباركة الّتي لا تنبغي أن تصدر إلّا من موضع سِرّ اللَّه العظيم ممّا لا ينبغي الالتفات إليها.
الطائفة الرابعة من الرّوايات والجواب عنها
الطائفة الرّابعة: الرّوايات الدالّة على سقوط الجمعة لمن كان في قرية، مثل ما رواه حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عليه السّلام قال:
«ليس على أهل القرى جمعة، و لا خروج في العيدين»٢.
لوضوح أنّه لو كان صلاة الجمعة غير مشروطة بوجود المنصوب فاللازم أن يصلّي أهل القرى صلاة الجمعة بلا ريب كما يصلّون صلاة الجماعة في سائر الأيّام و احتمال عدم وجود إمام الجماعة فيهم ضعيف جدّاً، بل لو كانت صلاة الجمعة واجبةً تعيينيةً لوجب عليهم تحصيل صفات أئمّة الجماعة كفايةً كسائر الواجبات الكفائيّة الّتي يكون أصل إيجادها في الخارج معلوماً.
و فيه أولًا: أنّا ذكرنا أنّ إمام الجمعة ليس هو مطلق إمام الجماعة، بل مع ذلك لابدّ و أن يكون خطيباً ناطقاً واعظاً عالماً بالامور خبيراً بموارد الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إرشاد الناس إلى مصالحهم الدّنيويّة و الاخرويّة، و لا يتّفق مثل هذا الشيخ في القرى غالباً۱، و الّذي يدلّك على ذلك صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما عليهما السّلام:
قال: «سألته عن اناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعةً؟ قال: نعم يصلّون أربعاً إذا لم يكن من يخطب»٢.
لأنّ الإمام عليه السّلام صرّح فيها بأنّه يجب لأهل القرى الجمعة إذا كان فيهم من يخطب بهم، فيستفاد من ضمّ هاتين الرّوايتين أنّ سقوط الجمعة عن أهل القرى كما دلّ عليه الرّواية الاولى إنّما هو مع عدم وجود الخطيب و هذا ممّا لا
إشكال فيه، و كذا يدلّ عليه ما في صحيحة الفضل بن عبد الملك المتقدّمة فراجع، و كذا يدلّ على وجوب الجمعة لأهل القرى تعييناً موثّقة ابن بكير قال:
سألت أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن قومٍ في قريةٍ ليس لهم من يجمع بهم، أيصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعةٍ؟ قال: «نعم إذا لم يخافوا»۱.
الاحتمالات الأربعة فى موثّقة ابن بكير
اعلم أنّ الاحتمالات في هذه الرواية أربعة:
الاحتمال الأوّل: أن يكون المراد بـ «مَن يجمع بهم» هو المنصوب من قِبَل المخالفين، و المراد من الصلاة يوم الجمعة في جماعة هي صلاة الجمعة فعلى هذا تدلّ هذه الرّواية على الوجوب التّعييني. لكن يمكن أن يخدش فيه: بأنّ قول الرّاوي «أيصلّون الظهر» ليس سؤالًا عن الوظيفة حتّى يكون قوله عليه السّلام «نعم» ظاهراً في الوجوب، بل سؤال عن الجواز و ذلك لأنّ الرّاوي كان يحتمل أنّ صلاة الجمعة حينئذٍ تكون غير مشروعة لمكان التّقيّة أو للاشتراط بوجود المنصوب، فقوله عليه السّلام حينئذٍ «نعم» يدلّ على الجواز، و هذا نظير الأمر الواقع عقيب الحظر حيث يدلّ على الجواز لا الوجوب.
و يمكن دفعه: بأنّ الأمر المتعقّب بالحظر إنّما يدلّ على الجواز إذا لم يحتمل الوجوب في نفسه كما أفاده صاحب «الجواهر» في أواخر بحث حرمة قطع الصلاة و كذلك المقام، لأنّ السؤال ظاهر في السؤال عن الجواز حيث لم يحتمل الراوي الوجوب، و أما مع هذا الاحتمال فلا ريب في أنّ السؤال ظاهر في استعلام الوظيفة.
الاحتمال الثّاني: أن يكون المراد مِن «مَن يجمع بهم» هو المنصوب من قِبَل المخالفين، و المراد من «صلاة الظهر» الإتيان بأربع ركعات فلا تدلّ حينئذٍ على
الوجوب التعييني، بل يستفاد منه أنّ عقد صلاة الظهر جماعة بأربع ركعات عند عدم وجود المنصوب من المخالفين لا مانع منه إن لم يكن خلاف التقيّة.
الاحتمال الثالث: أن يكون المراد بـ «مَن يجمع بهم» هو المنصوب من قِبَل الإمام عليه السّلام، و المراد من «صلاة الظهر» صلاة الجمعة و يكون حاصله السؤال عن جواز عقد الجمعة أو وجوبها عند عدم المنصوب من قِبَل الإمام فحينئذٍ يدلّ على الوجوب التَّعييني أيضاً، لكنّ هذا الاحتمال بعيد في نفسه لمكان تقييد الوجوب المستفاد من الجواب بعدم الخوف، لأنّ الظاهر حينئذٍ أنّ الخوف إنّما يتحقّق فيما إذا أقاموا الجمعة بأنفسهم دون ما إذا أقامها المنصوب من قِبَل الإمام مع أنّ الخوف حاصل في كِلا المقامَين.
هذا مضافاً إلى أنّ أصل المنصوب من قِبَل الإمام في زمان التقيّة بعيد جدّاً.
الاحتمال الرابع: أن يكون المراد بـ «مَن يجمع بهم» هو المنصوب من قِبَل الإمام عليه السّلام، و المراد من «صلاة الظّهر» هي الإتيان بأربع ركعات، و يبعّده قوله «إذا لم يخافوا» لأنّه لا تقيّة في صلاة الجماعة في القرية اللهمّ إلّا أن يقال: إنّ القرية لمكان قُربه من المدينة يجب على أهل القرية عند العامّة السعي إلى المدينة و الحضور في جمعتهم، فعقد الجماعة مخالف للتّقيّة و هو كما ترى!
لكن يحتمل أن يكون في القرية منصوب من قِبَل المخالفين، فعلى هذا يصحّ التقيّة، و بالجملة أنّك بالتأمّل الصّادق تعرف أنّ الاحتمال الأوّل أولى من جهاتٍ، فإذَن دلالة هذه الموثّقة في الوجوب التعييني أيضاً ظاهرة۱
و أمّا ما في رواية طلحة بن زيد عن جعفر عن أبيه عن على عليهم السّلام قال:
«لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود»۱.
و كذا ما في «المستدرك» عن الشيخ جعفر بن أحمد القمّي في كتاب «العروس» عن الصادق، أنّه قال:
«لا جمعة إلّا في مصر تقام فيه الحدود»٢.
و عنه عليه السّلام أنّه قال:
«ليس على أهل القرى جماعة، و لا الخروج في العيدين»٣٤.
فهي مضافاً إلى ضعف سند الاولى و الإرسال في الثانية لا تقاوم المطلقات الكثيرة الدالّة على الوجوب التعييني مضافاً إلى قوّة صدورها تقيّة كما سيأتي الإشارة إليها، هذا مضافاً إلى ما في «المستدرك» عن «الدعائم» عن جعفر بن محمّد عليهما السّلام أنّه قال:
«يجتمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فصاعداً، و إن كانوا أقلّ من خمسة لم يجتمعوا»٥. انتهى.
الدّال بإطلاقها على الوجوب التّعييني بمجرّد تحقّق الخمسة كما لا يخفى.۱
الطائفة الخامسة من الرّوايات والجواب عنها
الطائفة الخامسة: الرّوايات الّتي دلّت على أنّ للإمام أن يأذَنَ للناس في ترك الجمعة و الخروج إلى رحالهم و منازلهم فيما إذا اجتمع الجمعة و العيد، مثل خبر إسحاق بن عمّار عن جعفر عن أبيه:
إنّ علي بن أبي طالب عليه السّلام كان يقول: «إذا اجتمع عيدان للناس في يوم واحد فإنّه ينبغي للإمام أن يقول للنّاس في الخطبة الاولى إنّه قد اجتمع لكم عيدان فأنا اصلّيهما جميعاً، فمن كان مكانه قاصياً فأحَبَّ أن ينصرف فقد أذنتُ له»٢.
و مثل خبر سلمة عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام، قال:
اجتمع عيدان على عهد أميرالمؤمنين عليه السّلام. فقال: «هذا يوم اجتمع فيه عيدان فمَن أحَبَّ أن يجمع معنا فليفعل و من لم يفعل فإنّ له رُخصةً. يعني من كان متنحياً»٣.
و خبر الحلبي أنّه سأل أبا عبد اللَّه عليه السّلام عن الفطر و الأضحى إذا اجتمعا في يوم الجمعة فقال:
اجتمعا في زمان علي عليه السّلام، فقال: «مَن شاء أن يأتي إلى الجمعة فَليأتِ، و مَن قعد فلا يضُرّه وليُصَلّ الظهر، و خطب خطبتَين جمع فيها خطبة
العيد و خطبة الجمعة»۱.
و لا يخفى عدم إمكان الاستدلال بها على المنصبيّة لأنّه يستفاد من الأخيرين أنّ صلاة الجمعة لمن حضر صلاة العيد ليست بواجبة.
و أمّا الخبر الأوّل الوارد فيه بلفظ «الإذن» فإنّه و إن كان ربّما يستشعر منه أنّ الإمام إن لم يأذَن لهم في الترك فليس لهم الترك، إلّا أنّه يستفاد بالتّأمّل أنّ المراد من الإذن هو بيان الرخصة الواقعيّة و الإباحة، كما يدلّ عليها الخبران الأخيران، هذا مضافاً إلى أنّه على فرض دلالته على كونه حقّاً للإمام يجوز له إسقاطه و عدم إسقاطه، نلتزم بكونه حقّاً لمطلق من يخطب لا خصوص المعصوم.٢
هذا كلّه في الطوائف من الرّوايات الّتي يمكن الاستدلال بها على المنصبيّة.
دليل من ذهب إلي عدم حرمة صلاة الجمعة و إجزائها عن الظه
و أمّا من ذهب إلى عدم الحرمة بل إلى وجوبها و إجزائها عن الظُّهر مع وجود الفَقيه و إلى حرمتها مع عدم وجوده، ذهب إلى أنّ الفَقيه منصوب من قِبَل الإمام.
و فيه: عدم وفاء أدلّة النّيابة لمثل هذه الامور٣
...۱
ليست الصلاة محصورة على المسائل السّياسيّة(ت)
معني عدم افتراق المسائل الشّرعيّة عن السّياسيّة فى الإسلام (ت)
و القدر المتيقّن من هذه الأدلّة من التوقيع المبارك و خبر أبي خديجة و نظائرهما هو الافْتاء و القضاء.
و أمّا قوله عليه السّلام:
«مجاري الامور بِيَدِ العلماء»۱.
فلم يفهم منه إلّا العلماء العاملين العارفين بالله الوسائط بينه و بين العباد و هم الذين نوّر اللَّه قلوبهم بمعرفته بتجلّي الأنوار في قلوبهم و انشرحت صدورهم للاكتساب من الفيوضات الرّبانيّة من العوالم النورانيّة كالأئمّة المعصومين سلام اللَّه عليهم أجمعين و من يتلو تلوهم كالأولياء و هم الذين يقتفون أثرهم و يتّبعون أمرهم لا مطلق الفقهاء العارفين بمسائل الحرام و الحلال.
و ربّما يُستدلّ على المنصبيّة بأنّ وجوب الجمعة بلا اشتراط الإمام أو المَنصوب الخاصّ أو العامّ كالفقهاء يوجب اختلال النظام و الهرج و المرج الشديد.
هل الاجتماع مظنّة النّزاع و مثار الفتن؟
قال المحقّق في محكي «المعتبر»:
«إنّ الاجتماع مظنّة النزاع و مثار الفتن، و الحِكمة موجبة لحسم مادّة النزاع و قطع نائرة الاختلاف و لن يستمرّ إلّا مع السلطان٢ ... إلى أن قال: لا يقال لو لزم ما ذكرتم لما انعقدت الجمعة ندباً مع عدمه، لانسحاب العلّة في الموضعَين و قد أجزتم ذلك إذا امكنت الخطبة لأنّا نجيب بأنّ النّدب لا تتوفّر الدّواعي على اعتماده فلا يحصل الاجتماع المستلزم للفتن إلّا نادراً ... إلىء آخر ما ذكرَه.»٣.
و تبعه في هذه الاستدلال العلّامة و جماعة من المتأخِّرين، منهم العلّامة الهمداني و صاحب «الجواهر» قدّس اللَّه سرّهم.
و فيه: أوّلًا: أنّ الأخبار دلّت على وجوب صلاة الجمعة عند عدم الخوف، فإذا يخاف من الفتنة لا تجب كما لا يخفى.
و ثانياً: أنّ ما ذكره يرد في مسألة الخلافة، فعلى تماميّته لابدّ و أن يكون خلافة شخص معيّن من قِبَل اللَّه تعالى ممتنعاً لإباء النّفوس عن الانقياد بالنسبة إليه.
و غير ذلك من الإشكالات الواردة على هذا الاستدلال الذي جعلوه دليلًا عقليّاً للمنصبيّة كما يظهر بأدنى تأمّل، فالاعتماد على هذه الوجوه للمنصبيّة في قبال المطلقات و العمومات الّتي عرفتَ صراحتها في الوجوب أشبه شيء باستدلالات العامّة المنحرفين عن جادّة الحقّ المنكرين للصّواب كما لا يخفى۱
الفصل الخامس: في أدلّة القائلين بالوجوب التخييريّ
۱ـ الإطلاقات الدالّة علي وجوب صلاة الظّهر
٢ـ صحيحة زرارة
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
الدّليل الأوّل للقائلين بالوجوب التخييرى الإطلاقات الواردة و الجواب عنها
و استدلّ القائلون بالوجوب التخييريّ على وجوه:
الوجه الأوّل: ورود إطلاقاتٍ دالّةٍ على وجوب صلاة الظُّهر أربع ركعاتٍ، و إطلاقاتٍ دالّةٍ على وجوب صلاة الجمعة ركعتين و خطبتين، و حيث دلّ الإجماع القطعي على عدم وجوبهما معاً في ظهر يوم الجمعة فلابدّ و أن يُقيّد ظاهر كلّ منهما بنصّ الآخر فيستفاد منه التخيير، كما يُذهب إلى التخيير في قوله عليه السّلام:
«إذا خفي الأذان فقصّر»۱ و قوله: «إذا خفيت الجدران فقصّر»٢٣.
و غير ذلك من الموارد، و قد وجّه هذا المعنى بعض أساتذتنا المحقّقين في مجلس الدرس.
و فيه: أولًا: أنّ الرّوايات الدّالّة على وجوب صلاة الجمعة تكون أخصّ مطلقاً بالنسبة إلى الإطلاقات الدالّة على وجوب صلاة الظهر أربع ركعات، لأنّها مطلقة بالنسبة إلى يوم الجمعة و غيره، هذا و على فرض وجود إطلاقاتٍ دالّةٍ على وجوب أربع ركعات في ظهر الجمعة فلا ريب في وجوب حملها على التسعة المستثناة من وجوب صلاة الجمعة۱؛ أو على ما إذا لم يجتمع الشرائط من العدد و الخطيب و غيرهما و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام «صلاة الجمعة واجبة» لا يعذر النّاس فيها و قوله عليه السّلام:
«إنّ اللَّه فرض خمساً و ثلاثين صلاة منها صلاة الجمعة»٢.
لابدّ و أن يؤتى بها في جماعة إلى يوم القيامة نصّ في كون صلاة الجمعة تعيينياً لا تخييريّاً، فهذا النَّحو من الجمع الّذي ذهب إليه مدّ ظلّه ممّا يأبى منه الذّوق العرفي فيخرج عن الجمع الدّلالي كما لا يخفى.
الدّليل الثّانى للقائلين بالوجوب التخييرى رواية زرارة و الجواب عنها
الوجه الثّاني: رواية زُرارة و هي صحيحةٌ، قال:
حثّنا أبوعبد اللَّه عليه السّلام على صلاة الجمعة حتّى ظننتُ أنّه يريد أن نأتيه فقلت: نغدو عليك، فقال: «لا إنّما عنيتُ عندكم»٣.
و ذلك لأنّه يستفاد من هذه الرّواية أوّلًا أنّ زرارة كان تاركاً لصلاة الجمعة كما يستفاد هذا المعنى من عتاب الصادق عليه السّلام لعبد الملك بن أعين في صحيحة زرارة الاخرى:
«مثلك يهلك و لم يصلّ فريضة فرضها اللَّه»، الخ۱.
و لا معنى لتركه إلّا عدم وجوبها له ضَرورة أنّه لو كانت واجبة عليه كيف كان تاركاً لها مع شدّة الاهتمام بها مع أنّ غالب المطلقات الدالّة على وجوب صلاة الجمعة واردة من طريق زرارة؟!
و ثانياً: أنّ لفظ «الحثّ» المساوق للتحريص و الترغيب يدلّ على شدّة الاهتمام مع جواز الترك المساوق للاستحباب المؤكّد، فلذا لا يقالُ حثَّنا على أداء الأمانة.
و ثالثاً: أنّ زُرارة كان يعلم بعدم وجوب الصلاة و عدم إيقاعها إلّا مع الإمام و كان هذا المعنى مغروساً في ذهنه فلذا سأل عن الغدوّ عليه، ضرورة أنّه لو لم يعلم بوجوب الصلاة مع الإمام لا معنى لسؤاله عن الغدوّ بل كان واجباً عليه أن يأتي بها مع جمع من المسلمين بلا احتياج إلى إقامة الإمام، لكنّ الإمام لمّا أجازه بالإقامة عندهم مع عدم خروجه عليه السّلام للإقامة بقوله عليه السّلام «لا إنّما عنيت عندكم» فقد أذِن له في الإقامة، فعلى هذا يستفاد من هذه الصحيحة إذْن الإمام و ترخيصه بالنسبة إلى صلاة الجمعة عند عدم حضور الإمام مع بقاء المنصبيّة على حالها، و هذا عين الوجوب التخييّري.
و فيه: أوّلًا: أنّ لفظ «الحثّ» يستعمل في كِلا الموردَين، خصوصاً إذا كان الواجب مهجوراً لبعض الناس للتقيّة و الخوف بحيث اعتاد الناس على تركه و يثقل عليهم إتيانه بعد رفع التقيّة و الخوف أيضاً فيحتاج الإتيان بها إلى الحثّ و الترغيب لا محالة.
و ثانياً: إنّ ترك زرارة إنّما كان لمكان التقيّة لعدم قدرته على الإتيان بها حتّى مع نفر يسير من أصحابه سرّاً، لأنّ الزّمان زمان التقيّة و زرارة و أضرابه من الأصحاب ممّن كانوا معروفين مشهورين فيحضرون جماعة المخالفين، و إلّا فبمجرّد عدم حضورهم كانوا يتّهمون بالمخالفة فيُآخذون فيعرفون بالخلاف. و إن شئت فقس هذا النحو من التقيّة بالتقيّة الحاصلة في زمان الفهلوي لعنه اللَّه تعالى حيث رأينا بأعيننا أنّ الناس ما كانوا متمكّنين من إقامة العزاء في الخلوات و لا من إقامة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حتّى مع عيالاتهم و أولادهم سرّاً فضلًا مع أصحابهم و أصدقائهم. مع أنّ زُرارة و عبد الملك كانا ساكنَين بالكوفة و هي من أعظم مدن الإسلام في ذلك الزّمان لأنّها محلّ الخليفة و عاصمة البلاد، لكن لمّا ضعفت التقيّة حين النزاع بين بني اميّة و بني العبّاس ففي زمان الفرجة كانت الأصحاب متمكّنين من إقامة الجمعة، فلذا حثّهم الإمام على الإتيان بها بأنفسهم، و لمّا كان الجمعة مع حضور الإمام لا تنعقد إلّا به لمكان أولويّته، فلذا سأل زرارة عن الغدوّ عليه، و معلوم أنّه مع إرادة إقامة الإمام لا يجوز لأحدٍ أن يتقدّم عليه و لا أن يعقد جمعة بدونه مع لزوم وحدة الجمعة في المدينة، فلمّا أخبر الإمام بعدم إقامتها بنفسه لمكان بقاء التقيّة بالإضافة إليه دون زُرارة فقد وجب على زرارة الإتيان بها.۱
كيفيّة التقيّة فى زمن الصادقَين عليهما السّلام
لا يقال: كيف تكون التقيّة في زمن الصادقَين عليهما السّلام و الحال أنّ الحسن البصري و الأوزاعي و أحمد بن حَنبل في إحدى الرّوايَتين عنه ذهبوا إلى
عدم الاشتراط؛ لأنّا نقول:
أوّلًا: إنّ التقيّة تكون في مخالفة مَن كانت فتواه مشهورة، و هو أبوحنيفة القائل بالاشتراط.
و ثانياً: عدم اشتراطهم و إن كان حقّاً إلّا أنّهم كانوا يقدّمون سلاطين الجور من باب الأولويّة فلذا أقام بها الخلفاء منذ كانوا خلفاء، و معه كيف يمكن للأئمّة الإقامة بها المستلزمة لتقدّمهم على الخلفاء؟! و من هذا تعرف أنّ ما ربّما قيل: بأنّ أمر الإمام عليه السّلام لزُرارة هو النّصب؛ فيردّ عليه أنّ أمره بزرارة أعمّ من كونه مأموماً أو إماماً، مضافاً إلى أنّ النَّصب لو يتحقّق بهذا الأمر العمومي فقد تحقّق بها في جميع الأزمان، لأنّه لايستفاد من الحثّ الوارد في هذه الرّواية كون خصوص زرارة مورداً للحثّ، بل المورد له عموم الناس، و بالجملة ادّعاء الوجوب التخييريّ بهذه الوجوه ممّا لا يخفى ضعفها، فإن كانت صلاة الجمعة من مناصب الإمام فتحرم بدون إذْنه و لا يتجزَّى بها عن صلاة الظهر قطعاً و إلّا فيجب على الجميع، فلا يخلو الأمر من أحد أمرين، و حيث قد عرفت نهوض الأدلّة على عدم الاشتراط، فيتعيّن كونها: واجباً تعيينياً لكلّ أحد إلى يوم القيامة.
و أمّا من ذهب إلى وجوبها بعد الانعقاد لا عقداً فيمكن أن يَستدلّ بظاهر الآية و بادّعاء سياق الإطلاقات للجماعات المنعقدة.
و فيه: أنّ ظاهر الآية خلافه، لأنّ المراد من النداء كما عرفتَ هو دخول الوقت أو النّداء لمطلق فريضة الظّهر لا النّداء لخصوص صلاة الجمعة، و أمّا الإطلاقات فيستحيل سوقها لوجوب الحضور في الجماعات المنعقدة مع كون الجماعات في تلك الأزمان منحصرة بجماعات المخالفين، فلا محيص عن الالتزام
بالوجوب التّعييني.
هذا آخر ما سنح۱ ببالي القاصر في هذا الباب، و نحمد اللَّه تعالى على التّوفيق
المحصّل من جميع ما ورد فى الباب (ت)
لضبطه بالتحرير، و نسأله تعالى أن يوفّقنا لجميع ما يحبّه و يرضاه و يمنعنا عن جميع ما يسخطه و ينهاه، و السلام و الصلاة على سيّدنا محمّد و آله الطّاهرين، و لعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين.
قد فرغت من تحرير هذه البحوث في اللّيلة التاسعة من شهر صفر الخير بعدما مضي سنتان و سبعون و ثلاثمِائة و ألف (سنة ۱٣۷٢) من الهجرة النبويّة على هاجرها التحيّة و السلام.
و أنا الرّاجي عفو ربّه الغَني
محمّد حسين الحسيني الطهراني
خاتمة: في شرائط الجمعة
۱ـ أن لا تكون هناك جمعة اُخري
٢ـ فى من تجب عليه الجمعة
بسم اللَّه الرّحمن الرّحيم
و به نستعين و الصّلوة و السّلام على خير خلقه
محمّد و آله الطيّبين الطّاهرين
و لعنة اللَّه على أعدائهم أجمعين
من الشرائط: أن لا يكون هناك جمعة اُخري
و من شرائط الجمعة أن لا يكون هناك جمعة اخرى و ما بينهما دون ثلاثة أميال، و قد ادّعي عن جماعة الإجماع عليه، و يدلّ عليه حسنة محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«يكون بين الجماعتَين ثلاثة أميال، يعني لا تكون جمعة إلّا فيما بينه و بين ثلاثة أميال، و ليس تكون جمعة إلّا بخطبة، قال: فإذا كان بين الجماعتَين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء و هؤلاء»۱.
و موثّقته أيضاً عن أبي جعفر عليه السّلام، قال:
«تجب الجمعة على من كان منها على فرسخين»٢.
و معنى ذلك إذا كان إمام عادل و قال: «و إذا كان بين الجماعتين ثلاثة أميال فلا بأس أن يجمع هؤلاء و يجمع هؤلاء و لا يكون بين الجماعتين أقلّ من ثلاثة أميال».
و قَبْل البحث في المطلب لابدّ من تقديم مقدّمة: و هي أنّ ألفاظ العبادات و إن كانت موضوعة للأعمّ إلّا أنّها في مقام الخطاب و التكليف منصرفة إلى الصحيحة لا محالة، فالمراد بعدم جواز عقد جمعتين ما دون الفرسخ إنّما هو فيما إذا كانتا صحيحتين، و أمّا لو فرض أن إحديها كانت فاسدة فلا بأس بعقد جمعة اخرى، لكنّ المراد بالصّحّة ليس هي الصحّة الواقعيّة بل الصّحّة عند المصلّين بحيث تكون مقتضية للإجزاء في ظاهر الشرع، فعلى هذا لو انعقدت هناك جمعة المخالفين لا بأس في انعقاد جمعة ما دون الفرسخ لأنّ عباداتهم غير مجزية لهم.
ففي «الكافي» عن زرارة قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن الصلاة خلف المخالفين فقال عليه السّلام:
«ما هم عندي إلّا بمنزلة الجدر»۱.
و أمّا إذا اعتقد إمام جمعة عدم وجوب السورة مثلًا يأتي بصلاة بلا سورة، لا يجوز لمن يرى وجوب السورة عقد جمعة اخرى و إن لا يجوز له الاقتداء به، و ذلك لأنّ صلاته صحيحة مجزية له في ظاهر الشرع، فتشملها الأخبار الدالّة على عدم جواز عقد جمعة اخرى حينئذٍ٢، و هذا كسقوط الأذَان و الإقامة لمن يريد أن
يصلّي منفرداً في مكان انعقدت فيه الجماعة، حيث إنّ السقوط دائر مدار صحّة صلاة الجماعة عندهم لا عند هذا الشّخص، و أمّا هذا الرّجل لمّا يرى بطلان صلاة الإمام فيجب عليه عقد جمعة اخرى في رأس ثلاثة أميال أو فيما زاد عنها إن اجتمع عنده شرائط الوجوب من العدد و الخطيب و إلّا فيسقط تكليفه عن الجمعة فيصلّي ظُهراً فرادى. و هذا بخلاف ما إذا لم يأت الإمام ببعض الأجزاء و الشرائط نسياناً فيما لا يشمله حديث لا تعاد، فإذا دخل في الصلاة بلا وضوء أو مستدبر القبلة أو لم يأت بالركوع نسياناً فسدت صلوته في ظاهر الشرع سواء علم بنيانه أو لم يعلم. فإذَن لا بأس بعقد جمعة اخرى، و أمّا في الإجزاء و الشرائط الّتي تشملها حديث لا تعاد إذا نسيها الإمام، كانت صلاته صحيحة واقعاً فلا يجوز جمعة اخرى حينئذٍ.
ثمّ اعلم: أنّك لو اعتقدت فسق الإمام لكن يراه المصلّون عادلًا لا يجوز لك عقد جمعة اخرى، لأنّ عدالة الإمام في صحّة الجماعة ليست من الشروط الواقعيّة، بل هي شرط علمي، فإذا اقتدت به أربعة معتقدون عدالته تنعقد هنا جمعة صحيحة، لأنّ الجماعة تنعقد بخمس نفرات.۱
حكم انعقاد الجمعَتين المقارنتَين بأقلّ من ثلاثة أميال
ثم إنّ المراد من عدم إمكان انعقاد جمعتين صحيحتين في ما دون الفرسخ، ليس هو الجمعتين الصحيحتين من جميع الجهات، لوضوح أنّ أحد شروطها هو البُعد عن جمعة اخرى بهذا المقدار، فلو لم يكن بينهما هذا المقدار من البُعد كيف
يعقل صحّتهما؟! بل المراد من الصّحّة هو الصّحّة من سائر الجهات مع غمض النظر عن اشتراط البُعد. إذا عرفتَ هذا فنقول: إنّ الظاهر من الروايتين المذكورتين هو عدم صحّة الجمعتين إلّا إذا كان الفصل بينهما ثلاثة أميال سواء تقارنتا في الزمان أو كانت إحديهما مسبوقة بالاخرى، أمّا في صورة المقارنة فواضح لكن يبقى الكلام في أن كلتيهما فاسدة، أو أن الفاسدة هي إحديهما لا بعينها.
قال بعض أساتذتنا مدّ ظلّه في مجلس البحث: إنّه لا يمكن أن يستفاد من الخبرين بطلان كلتيهما معاً، لأنّ مفهوم قوله عليه السّلام، «فإذا كان بين الجمعتين»، الخ. هو أنّه إذا لم يكن بينهما ثلاثة أميال ففي انعقاد الجمعتين بأس، لكن يمكن أن لا يكون بأس في انعقاد إحديهما لا بعينها، و يعيّن ما هو الصحيح منها بالقرعة كمن وكّل رَجُلَين كلّ واحد منهما لعقد اختَين فعقد كلٌّ منهما إحديهما في زمان واحد حيث أفتوا بصحّة أحد العقدين، فيحتاج في تعيينه إلى القرعة.۱
و استشكل فيه: بأنّ القرعة مع قطع النظر عن أنّ مواردها مشخّصة معيّنة في الشريعة لابدّ و أن يكون هنا واقع معلوم مجهول عندنا فيعيّن الواقع بها، و أمّا لو كان الواقع مشتبهاً أيضاً، لا مجال للقرعة أصلًا، و منه يَظهَر أنّ أصل المسألة في مورد التنظير، و هو العقد على الاختين غير مسلّم. و بالجملة حيث لم يكن وجه لرجحان إحدى الصلاتين على الاخرى في الواقع فاللازم بطلانهما معاً.
أقول: الظاهر من مفهوم الخبرين هو بطلان كِلْتا الجمعتين في دون ثلاثة أميال و ذلك لأنّ قوله عليه السّلام «فلا بأس» لم يرد على الجمعتين حتّى يكون مفهومه البأس عند انعقاد الجمعتين، بل ورد على كلِّ واحد من الجمعتين، لأنّ حرف العطف في قوّة تكرار العامل، فيصير المعنى حينئذٍ: أنّه إذا كان بين الجماعتين ثلاثة اميال فلا بأس بأن يجمع هؤلاء، و لا بأس بأن يجمع هؤلاء. فأنت كما ترى يكون مفهومه أنّه: إذا لم يكن كذلك فبأس بأن يجمع هؤلاء، و بأسٌ بأن يجمع هؤلاء. و على هذا لا يحتاج في الحُكم ببطلان كلتيهما إلى هذه التطويلات، و لا فرق في بطلانهما بين أن يكون كلٌّ من الجماعتين جاهلين بالجمعة الاخرى، أو عالمين، أو إحدى الجماعتين عالمين دون الاخرى لأنّ البُعد شرط واقعي فعند عدم حصوله تبطل الصلاة، كما هو الأمر في سائر الشرائط الواقعيّة.
و توهّم انصراف النصّ إلى اشتراط العِلم بالبُعد حتّى يصحّ الجمعتين عند جهل مصلّيهما أو إحديها عند جهل مصلّيها بلا وجه، لعدم المقتضي لذلك بَعْد كونه مسوقاً لبيان حُكم وضعي. و أمّا في صورة سبق إحديهما على الاخرى فكذلك تبطل كِلتَا الجمعتين، لأنّك قد عرفت أنّ الظاهر من الخبرين بطلان جمعتين في محلّ واحد لا خصوص الجمعة المتأخِّرة، فيستفاد من إطلاقهما البطلان حتّى في صورة السبق.۱
و ربّما يتوهّم صحّة الجمعة السابقة، لأنّه حين انعقدت انعقدت صحيحةً و لم يكن مانع عن صحّتها، و أمّا المتأخِّرة فتكون فاسدة لاختلال شرطها و لا يمكن أن
يكون مانعة عن صحّة الاولى لما عرفتَ من أنّ المانع عن صحّة الجمعة هو الصلاة الصحيحة دون الفاسدة.
لكنّه مدفوع لأنّ صحّة الصلاة الاولى أوّل الدعوى لأنّا ندّعي أنّ شرط صحّتها هو عدم انعقاد جمعة اخرى في وقت الجمعة كما هو الظاهر من إطلاق النصّ، كما أنّ فساد الثانية أيضاً أوّل الدعوى؛ و بعبارة اخرى أنّ كلّا من هاتين الجمعتين صحيح على الفرض لولا انعقاد جمعة اخرى، لأنّ الكلام في أنّها تامّة لجميع الأجزاء و الشرائط إلّا شرط البُعد الذي هو محلّ الكلام فكما أنّ الاولى مانعة عن صحّة الثانية كذلك الثانية مانعة عن صحّة الاولى، و بعبارة اخرى: أنّ التمانع واقع بينهما فإذَن تفسدا معاً، لأنّ التمانع بين صحيحتين و هو مقتضٍ لامتناع حصولهما إلّا فاسدتين من غير أن يكون بين الفاسدتين علّيّة أو ترتّب، و مجرّد سبق الجمعة الاولى لا يكون مرجّحاً لصحّتها، لعدم الدليل في المقام على مرجّحيّة السابق.۱
إن قلتَ: إنّ اشتراط صحّة الاولى على عدم انعقاد الجمعة في الزمان المتأخِّر مبني على الالتزام بصحّة الشرط المتأخِّر و هو فاسد.
قلتُ: هذا توهّم فاسد، لأنّ الشرط المتأخِّر الممتنع هو ما يرجع إلى تقدّم العلّة على معلوله كتقدّم الحُكم بالنسبة إلى موضوعه، فإذا كان شرط من شرائط الموضوع متأخِّراً زماناً عن الموضوع لا يعقل ترتّب الحكم عليه، و أمّا في المقام لا يلزم من اشتراط صحّة الاولى بعدم انعقاد الثانية في الزمان المتأخِّر تقدّم للعلّة على المعلول، لأنّ الوجوب ليس مشروطاً بذلك للفرض بأنّه مطلق و إنّما الشرط كان
شرطاً للواجب، نظير الأمر بالصلاة السابقة بعدم طروّ الرياء و العُجب بعدها، فكما أنّ عدم الرياء و العجب شرط لصحّة الصلاة كذلك الأمر فيما نحن فيه.
و إن شئت فقل: إنّ المقام نظير اشتراط الإتيان بالتسليمة في صحّة التكبيرة و الإتيان بالتكبيرة في صحّة التسليمة، لأنّ الأمر وقع على مركّب ذي أجزاء، فيكون مرجعه إلى أنّ صحّة كلّ جزء من أجزائه منوط بإتيان بقيّة الأجزاء، و الأمر في المقام من هذا القبيل لأنّ الوجوب تعلّق بإتيان جمعة واحدة، و معناه الإتيان بذات الجمعة الّتي لم يكن سواها جمعة اخرى، و من هذا تعرف أيضاً أنّه لا فرق في بطلان الصلاتين بينما إذا كان انعقاد الثانية قبل الفراغ من الاولى أو بعده، لأنّ إطلاق النصّ هو عدم صحّة صلاتين فيما دون ثلاثة أميال على الإطلاق و ظاهره في جميع وقت الجمعة.۱
ثمّ تعرف مواضع الخدشة في «مصباح الفقيه» و لا نطيل الكلام بذكرها.
صور المسألة فى ما اتّفق تقارن الجمعَتين بأقلّ من ثلاثة أميال
ثمّ إنّه قد يتوهّم بطلان الصلاة الاولى دون الثانية إذا علم الجماعة الاولى انعقاد جماعة اخرى و لم يعلم الجماعة الاخرى انعقاد الاولى، و كذا بطلان الثانية دون الاولى إذا علم الجماعة الاخرى انعقاد الجمعة الاولى و لم يعلم الجماعة الاولى.
و هو فاسد۱ لبطلان كِلتَا الصلاتين على جميع التقادير و توضيح ذلك: أنّ انعقاد جمعتين لا يخلو إمّا أن يكون كلّ من الجماعتين جاهلًا بانعقاد الاخرى، أو عالماً به، أو إحدى الجماعتين عالماً دون الجماعة الاخرى فالصور أربعة:
الاولى: ما إذا كان كلٌّ من الجماعتين جاهلًا. و قد عرفتَ أنّ الشرط في البُعد لمّا كان واقعيّاً٢ فلازمه بطلان كِلتَا الجمعتين، ثمّ لو علموا بَعْد إكمال الصلاة بانعقاد جمعة اخرى قَبْل أو بَعْد فيجب عليهم السعي إلى مكان يكون بُعده عن كلٍّ من الجمعتين ثلاثة أميال و عقدوا فيها جمعة اخرى، لعدم سقوط تكليفهم عن الجمعة بما أتوا بها، و لا يمكن أن يعقدوا جمعة اخرى في المحلّ الأوّل، لفرض بطلانها بعين ما ذكرنا في وجه بطلان الاولى.
الصورة الثانية: ما إذا كان كلٌّ من الجماعتين عالماً بعقد جمعة اخرى، فاللازم أيضاً بطلان كلّ من الصلاتين ثمّ إذا تمشّى من كلّ واحد من الجماعتين قصد القربة بأن لا يعلموا فساد صلاتهم لجهلهم بالحكم فالبطلان إنّما هو للتمانع بينهما، فإذا علموا الحكم بالبطلان بَعْد الانعقاد فالواجب عليهم السّعي إلى مكان يبعد عن كلّ واحد من الجمعتين بثلاثة أميال و عقد الجمعة فيه إذا فرض سعة الوقت بهذا المقدار من العمل و إلّا فينتقل فرضهم إلى الظهر. و أمّا القول بأنّ كِلتَا
الصلاتين باطلة لمكان الأمر بالسعي بالنسبة إلى كلٍّ من الجماعتين إلى الجمعة الاخرى المنعقدة، للنهي عن الضدّ بناءً على القول بالفساد، فهو إنّما يتمّ إذا لم يبق بعد إتمام الصلاتين مقداراً من الوقت يفي بتباعدهم عن الجمعتين بثلاثة أميال و عقد جمعة اخرى في ذلك المكان.
و أمّا إذا لم يتمشّ منهم قصد القُربة بأن علموا فساد صلاتهم لعدم وجود الشرط فالبطلان ليس مستنداً إلى التمانع، لما عرفتَ أنّ التمانع إنّما هو بين الصلاتين الصحيحتين من جميع الجهات غير هذا الشرط، بل الفساد مستند إلى عدم قصد القُربة، فوجود هاتين الصلاتين كالعدم لا يؤثِّر في بطلان الثالثة، فيجب على كلّ من الجماعتين عقد جمعة اخرى مع إحراز هذا الشرط أيضاً قَبْل أن يخرج الوقت، بأن يتّفقا و يصلّيا جمعة واحدة، أو يبعد كلّ جماعة عن الاخرى بثلاثة أميال و عقدوا في ذلك المكان، سواء كانت هاتان الجمعتان بعيدتين عن كلّ واحد من الجمعتين الاوليين بثلاثة أميال أم لم يكن. لما عرفتَ من أن الاوليين لمّا كانتا فاسدتين في نفسهما لا يمكن أن تؤثّران في صحّة الجمعة.
الصورة الثالثة: ما إذا علم جماعة الثانية انعقاد جمعة قَبْل، و لم تعلم الجماعة الاولى بعقد جمعة بَعْد، فإن تمشّى من الجماعة الثانية قصد القُربة فاللازم بطلان كِلتَا الصلاتين للتمانع بينهما۱، ثمّ اللازم عليهم و على الجماعة الاولى على تقدير علمهم بفساد صلاتهم عقد جمعة اخرى في بُعد ثلاثة أميال، إن لم تمشّ من الثانية قصد القُربة بأن كانوا عالمين بالحكم فاللازم فساد خصوص صلاتهم دون الاولى، لأنّ الثانية في نفسها باطلة لا يمكن أن يؤثِّر في فساد الاولى.
و بالجملة: أنّ جميع هذه التفاصيل تجري في صورة المقارنة أيضاً، و المحصّل من الكلام عدم الفرق بين صورة الاقتران أو السبق و التأخُّر بوجهٍ.
ثمّ إنّ الجماعة الّتي تريد عقد الجمعة لابدّ و أن يحرزوا الشرط كما هو الشأن في سائر الشروط، فإذا قلنا: إنّ الواجب عليهم هو الصلاة المتّصفة بعدم عقد جمعة اخرى معها بأن يكون الشرط هو عدم السبق و الاقتران و التأخُّر فلا مجال لهم لإحراز هذا الشرط بالاصل، لأنّ أصالة عدم جمعة اخرى لا يثبت أنّ هذه الجمعة غير مسبوقة و لا ملحوقة بجمعة اخرى، بل الواجب عليهم إحرازه بالعلم أو البيّنة، و على فرض عدم وجود البيّنة و عدم التمكّن من تحصيل العلم لتعسّره أو تعذّره لابدّ و أن يعملوا بالظنّ لانسداد الإحراز القطعي في هذا المقام، لكنّ الظاهر من الروايتين عدم دخالة الاتّصاف في متعلق التكليف، بل الواجب عقد الجمعة بحيث كان عدم انعقاد جمعة اخرى شرطاً في صحّتها أو عقدها مانعاً عنها لكن لم يكن عنوان الاشتراط أو المانعيّة دخيلًا في عنوان التكليف. فإذَن، لا مانع من إجراء الأصل بالنسبة إلى عدم انعقاد جمعة اخرى، لأنّ التكليف مركّب من أمر وجودي محرز بالوجدان و أمر عدمي محرز بالأصل، و جريان هذا الأصل لإفادة عدم عقد جمعة اخرى إلى زمان عقد هذه الجمعة بلا إشكال و لكنّ إجراءه بالإضافة إلى الجمعة المتأخِّرة مبتنٍ على جريان الاستصحاب في المستقبل. فإن قلنا بجريانه فهو، و إلّا فلابدّ من إحراز عدم عقدها في الزمان اللاحق بالعلم أو بالتعبّد و بالظّن عند عدم التمكّن منهما.
ثمّ إنّه هل يمكن أن يقتدي رجل بإحدى الصلاتين بإجراء أصالة الصحّة فيها بأن يبني على صحّتها لمكان بنائه على أنّ هذه الصورة كانت من الصورة
الرابعة الّتي بنينا على أن الجماعة الاولى صحيحة دون الثانية على تقدير أم لا يمكن؟ فالظاهر أنّه لا مانع منه إذا قلنا بأن أصالة الصحّة أصل برأسه.
و لا يقال: إنّ جريان هذا الأصل يستلزم البناء على فساد الثانية، و لا يمكن حمل فعل المسلم على الصحّة إذا استلزم حمل فعل مسلم آخر على الفساد.
لأنّا نقول: إنّ صلاة الجماعة الثانية فاسدة على جميع التقادير و ليس فسادها مبتنياً على صحّة صلاة الجماعة الاولى. نعم، إذا قلنا: بأنّ أصالة الصحّة لم يثبت في الشريعة بل هو من بناء العقلاء في أعمالهم المبني على حصول الظنّ الاطميناني كما هو الأظهر، فلا مجال للاقتداء بهم إذا حصل الاطمينان بجهلهم بعقد جماعة اخرى مع علم الجماعة الاخرى بانعقاد هذه الجمعة مع كونهم عالمين بالحكم.
ثمّ إنّه قد ادّعي الإجماع على صحّة السابقة دون اللاحقة، بل في «مصباح الفقيه» أنّه لم يعرف الخلاف فيه عن أحد و لا يخفى أنّ رفع اليد عن الإطلاق بهذا الإجماع مشكل إذ لا اعتبار بأمثال هذه الإجماعات. فتأمّل.۱
فيمن تجب عليه الجمعة
فيمن تجب عليه الجمعة
اعلم: أنّ الجمعة وجبت على كلّ أحد لا يعذر فيه، إلّا تسعة: الصبي و الكبير و المريض و المجنون و المرأة و المسافر و الأعمى و العبد و مَن كان على رأس فرسخين.
و الدليل على ذلك: ۱- صحيحة زرارة بن أعين عن أبي جعفر عليه السّلام قال:
«فرض اللَّه على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمساً و ثلاثين صلاة منها صلاة واحدة فرضها اللَّه عزّ و جلّ في جماعة و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة، عن: الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة والمريض و الأعمى و مَن كان على رأس فرسخين»۱.
٢- صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال:
«يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زاد، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، و الجمعة واجبة على كلّ أحد، لا يعذر الناس فيها إلّا خمسة: المرأة و المملوك و المسافر و المريض و الصبي»٢.
٣- قول أميرالمؤمنين عليه السّلام في خطبة:
«و الجمعة واجبة على كلّ مؤمن إلّا على الصبي» ٣... الخ.
و لكن في صحيحة محمّد بن مسلم و النبوي و غيرهما أنّ المعذور منها أربعة.
كيفيّة الجمع بين الرّوايات الموجودة
و قد يتوهّم التنافي بين هذه الروايات تارةً من أجل اختلاف عقد المستثنى منه في رواية الأربعة الدّالّ على وجوبها على ما سوى الأربعة، و بين عقد المستثنى منه في رواية الخمسة الدّالّ على وجوبها على خمسة نفرات، و هكذا الأمر بالنسبة إلى المستثنى منه في هاتين الروايتين مع عقد المستثنى في روايات التسعة، و اخرى من أجل مفهوم العدد.
و لكنّه مدفوع: أمّا الأوّل: فلأنّ ظهور عقد المستثنى منه في وجوب الجمعة
بالنسبة إلى المسافر في رواية الأربعة إنّما هو بالعموم، و وجوبها عليه في عقد المستثنى من رواية الخمسة إنّما هو بالمنصوصيّة و معها يرفع اليد عن العموم لا محالة.
لا يقال: إنّ عقد المستثنى منه في رواية الأربعة و إن كان في نفسه ظاهراً في شموله للمسافر إلّا أنّه بَعْد استثنائه بالأربعة يصير نقصاً في شموله له، و على هذا يقع التنافي بينه وبين المستثنى في رواية الخمسة.
لأنا نقول: استثناء خصوص الأربعة في رواية الأربعة و إن كان يوجب قوّة الظهور في المستثنى منه بالنسبة إلى شموله للمسافر إلّا أنّ ظهوره لا يعمل إلى مرتبة يمكن أن يقاوم النّصّ، فإذَن لابدّ من تقديم عقد المستثنى في رواية الخمسة عليه. فإذا عرفتَ الحال في عدم التنافي بين رواية الأربعة و الخمسة فقد عرفت عدم التنافي أيضاً بين هاتين الروايتين و بين روايات التسعة بهذا المنوال.
و أمّا الثّاني: فلأنّ العدد إنّما يكون له مفهوم إذا ورد في مقام التحديد بأن يكون في مقدار العدد مدخليّة في الحُكم كما يقال: إنّ نصاب الزكاة مثلًا أربعون شاة، و أمّا إذا لم يكن للعدد مدخليّة في الحكم بل كان لمجرّد الإشارة إلى عناوين خاصّة كانت هي مناط الحكم و موضوعها فلا يكون له مفهوم، و المقام من هذا القبيل لأن عنوان الأربعة و الخمسة و التسعة الوارد في المستثنى إنّما هو لمجرّد الإشارة إلى ما له دخل في عدم وجوب الجمعة- و هو عنوان المسافر و المريض- لا أن يكون في خروج الأربعة و الخمسة بما هو أربعة و خمسة خصوصيّة.
فبذلك تعرف أنّ مفهوم العدد في المستثنى أيضاً لا يوجب منصوصيّة المستثنى منه في العموم، كما أنّه لا يكون التنافي في نفس المستثنيات.
هل العَرَج أيضاً عذرٌ مانع أم لا؟
و بالجملة أنّ عدم وجوب الجمعة بالنسبة إلى الطوائف التسعة ممّا لا إشكال فيه، لكنّ المحقِّق زاد في «الشرائع» الأعرج أيضاً، و لم يكن له مستند عدا ما حُكي عن السيّد في مصباحه مرسلًا أنّه قال: و قد رُوي أنّ العرج عذر، فإن ثبت انجباره بالشهرة فهو، و إلّا فلا وجه لرفع اليد عن العمومات بالنسبة إليه. و أمّا دعوى إطلاق اسم المريض عليه بلا شاهد بل الشاهد، على خلافه.۱
نعم، إن كان السعي حرجاً عليه فهو مرفوع لعمومات أدلّة نفي العسر و الحرج الحاكمة على أدلّة التكاليف الواقعيّة لكن لا يختصّ هذا بالأعرج بل كلّ من كان الحضور عسراً عليه كان التكليف ساقطاً عنه، و أمّا الطوائف المستثناة فتسقط عنهم الجمعة بمجرّد صِدْق هذه العناوين عليهم سواء كان السعي و الحضور عسراً عليهم أم لم يكن كما هو مقتضى الإطلاق، و ما ربّما يرى من تقييد بعضهم المريض و الكبير بأن يكون الحضور متعذراً عليهما أو متعسراً، تقييدٌ بلا دليل، كما أنّ تقييدهما بأن يكون السعي عليهما موجباً للمشقّة العرفيّة بدعوى أنّ المناسبة بين الحكم و الموضوع مقتضية لصرف إطلاق الأدلّة إليها بلا شاهد، بل مجرّد استحسان محض، فالحقّ سقوطها عنهما و إن كانا في غاية القدرة و التمكُّن من السعي و الحضور.٢
قال أبوعبد االله عليه السّلام: لا بأس بأن تدع الجمعة فى المطر
ثمّ إنّ الظاهر سقوطها أيضاً مع المطر و إن لم يترتّب عليه المشقّة، لصحيحة عبد الرحمن عن أبي عبد اللَّه عليه السّلام قال: «لا بأس بأن تدع الجمعة في المطر»٣.
ثمّ إنّ المراد من الصبي و إن كان من يعدّ صبيّاً في العُرف فلا يشمل من كان
عمره اثني عشر سنة فضلًا عن من كان قريباً إلى خمسة عشر إلّا أنّ الظاهر بقرينة الروايات الدالّة على أن قلم التكليف لا يجري على من لم يحتلم أو لم يبلغ عمره إلى خمسة عشر الآبية عن التخصيص، كان المراد منه مَن لم يصل إلى أحد هذين الحدّين، كما أنّه مورد الإجماع القطعي أيضاً.
و أمّا الكبير، فالمراد منه الشيخ البالغ إلى حدّ الهرم بحيث يطلق عليه الشيخ الكبير في العرف، و لا يبعد في زماننا هذا إطلاقه على من بلغ ثمانين سنة، و أمّا تفسيره بالشيخ الفاني و المقعد و غير القادر أيضاً بلا وجه كما ترى وجهه.
و أمّا المسافر، فقد صرّح جماعة بأنّ المراد منه المسافر الشرعي، فيخرج منه المقيم و كثير السفر و العاصي و ناوى إقامة العشرة و المتردّد ثلاثين يوماً، و لكنّه أيضاً بلا دليل، لأنّ السفر ليس له حقيقة شرعيّة۱ بل السفر هو ما يعدّه العرف سفراً و إنّما يوجب القصر إذا قيّد بقيود خمسة المذكورة في محلّه.
فكلّ ما دلّ الدليل على تقييده بخصوصه و إلّا فلابدّ من الأخذ بالإطلاق، فعلى هذا مَن ذهب سبعة فراسخ ذهاباً أو ذهاباً و إياباً تسقط عنه الجمعة لصدق اسم المسافر عليه، بخلاف من ذهب ثمانية فراسخ في طول عشرة أيّام أو أكثر بأن يذهب كلّ يوم مقداراً ما، ثمّ مكث مقداراً طويلًا حيث كان سفره شرعيّاً، لكن يجب عليه السعي للجمعة لعدم إطلاق اسم المسافر عليه٢، و كذا تسقط عن الصبي و المقيم عشرة أيّام ناوياً، و أمّا المتردّد ثلاثين يوماً فيختلف صِدْق المسافر عليه باختلاف الأحوال و الخصوصيّات، و المسافر الذي كان في إحدى المواضع الأربعة
سقطت عنه الجمعة سواء أراد أن يصلّي قصراً أو تماماً.
هل توجد الملازمة بين وجوب الجمعة و بين الإتمام
و ربّما يدعى الملازمة بين وجوب الجمعة و الإتمام لقيام الخطبتين يوم الجمعة مقام الركعتين، فالجمعة واجبة لكلّ من كان وظيفته أربع ركعات، و هو الحاضر الشرعي لصحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث قال:
«في قوله تعالى {حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا}۱ و أنزلت هذه الآية يوم الجمعة و رسول اللَّه في سفر فقنت فيها و تركها على حالها في السفر و الحضر و أضاف للمقيم ركعتين، و إنّما وضعت الركعتان اللتان أضافهما النّبي يوم الجمعة للمقيم لمكان الخطبتين مع الإمام، فمن صلَّى يوم الجمعة في غير جماعة فليصلّها أربع ركعات كصلاة الظهر في سائر الأيّام»٢.
وجه الدلالة أنّ المراد من المقيم في هذه الرواية هو غير المسافر الشرعي لأنّه من المعلوم أنّ إضافة ركعتين إنّما هي بالنسبة إليه لا بالنسبة إلى خصوص المقيم العرفي الذي هو في قبال المسافر العرفي، فإذَن دلّت الرواية على وضع ركعتين لمكان الخطبتين إنّما هو بالنسبة إلى من يعدّ مقيماً في الشرع، و هو من كان وظيفته أربع ركعات.
و فيه: الصحيحة كانت في مقام بيان مجرّد أنّ وضع الركعتين إنّما هو لمكان الخطبتين، و لم تكن بصدد بيان حدود من يجب عليه أربع ركعات و قيوده، فلا يكون المراد من المقيم من لا يكون مسافراً شرعاً، بل المراد منه الحاضر العرفي٣ و
أنّ الجمعة أيضاً واجبة بالنسبة إليه، و أمّا حكم المسافر العرفي المنتفي عنه القيود الخمسة الموجبة للقصد فيستفاد من أدلّة اخر.
هذا تمام الكلام في هذا المقام، و الحمد لله ربّ العالمين أوّلًا و آخراً و له الحمد و الشكر أبد الآبدين؛ قد فرغتُ من تحرير هذه الأبحاث بعد ما تأمّلت في أدلّتها يوم الخامس عشر من شهر صفر بعد ما مضى اثنان و سبعون بعد ثلاثمِائة و ألف من الهجرة النبويّة.۱
النكتة الأساسية لبناء هذه الرسالة (ت)
و أنا الراجي عفو ربّه الكريم
السيّد محمّد حسين الحسيني الطهراني
...۱