المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم السير الذاتية والتراجم
التوضيح
مُقّدَّمَةُ الطَّبْعَةِ الثَّانِيَة
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بِسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا محمَّدٍ و اله الطَّيِّبِين الطَّاهِرِين
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِين مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّين
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
بعد ارتحال سماحة آية الله استاذنا العلّامة رضوان الله تعالى عليه، تشرّف أعضاء من الحوزة العلميّة المقدّسة في قم بالمجيء الى البقعة الرضويّة المقدّسة و طلبوا من الحقير نيابة عن مجمع من المجامع كتابة ما أعرفه عن سماحته في رسالة تأبينيّة تخليداً لذكراه لضمّها إلى رسائل الآخرين بهذه المناسبة و تقديمها في مجموعة واحدة.
و كنتُ آنذاك قد كتبتُ كتاب «الشمس الساطعة» فبسطتُ فيه القول و البيان، و كان على وشك الإتمام تقريباً، حيث سلمت القسم الأعظم منه للطبع۱ على أن تتبعه بقيّة أجزائه تدريجيّاً خلال أسابيع معدودة. و لذلك فلم تكن هناك حاجة مع وجود هذا الأثر لكتابة رسالة اخرى مفصّلة.
و باعتبار أنَّ كتاب «الشمس الساطعة» تحت الطبع في الوقت
الحاضر، فقد طلب اولئك السادة من الحقير عند عودتهم، كتابةَ عدّة صفحات عن سماحة العلّامة من أجل إلحاقها و طبعها مع تلك المجموعة، فلبّيت دعوتهم و حرّرت هذه الصفحات و أرسلتها إلى قم، بيد أنّها لم تطبع ضمن المجموعة لأسباب غير معلومة. و حيث إنَّه يجري حالياً إعادة طبع كتاب «الشمس الساطعة» طبعة ثانية، فقد أدرجت هذه المطالب ضمنها لتكون تنويهاً بذكرى سماحة استاذنا و تجديد عهدٍ معه أسكنه الله بُحبوحة جنّاته.
بِسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا محمَّدٍ و اله الطَّيِّبِين الطَّاهِرِين
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِين
أفضل الحمد و أجدره للمعبود الذي خلق الإنسان فجعله مرآة تامّة لجماله و جلاله، و اختصّ لنفسه اسم أحسن الخالقين، و الذي هدى البشر بتجليّاته الربّانيّة من ظلمات الجهل إلى أعلى ذروة العلم و البصيرة و المعرفة و التوحيد.
و أتم الصلاة تختصّ بخاتم الأنبياء و قائد الرسل و المبعوثين الالهيّين:
محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه واله و سلّم، المخاطب بخطاب: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ، المرتدي للخلعة الجميلة للعلم و المعرفة بالأنوار الملكوتيّة و السبحانيّة للربّ الودود.
و على وزيره و وصيّه الأوحد ذي المحتد الكريم: أمير المؤمنين و قائد الموحّدين عليّ بن أبي طالب، الذي كشف بدرر بيانه المعضلات للباحثين عن سبيل السعادة و التوحيد، و صار مُفَصِّلَ مجمل القرآن و مؤوّل تنزيل الفرقان الالهيّ، و على أولاده الأحد عشر، و خاصّة صاحب العصر و الزمان الحجّة بن الحسن العسكريّ أرواحنا فداه، الذين قادوا الواحد بعد
الآخر بتحمّلهم أعباء الولاية و مهمّة الإمامة الخطيرة قافلة عالم الوجود في سعيها الى الوطن المقصود و مقرّ الأمن و الأمان الالهيّ، و دَعَوا البشر للخروج من الظلمات البعيدة للغرور و العُجب و حبّ الذات و الاستكبار و الانشغال بالنفس، نحو البحث عن الله و معرفته.
و أجمل التحيّة و الإكرام و الدعاء و الإعظام، على الأرواح الطاهرة لعلماء الامّة الحقيقيّين و مفكّريها الراسخين، الذين كانوا ربّانيّي متعلّمي سبيل النجاة، و الذين قادوا على الدوام، بيُمن تعليمهم و تربيتهم، و الوالهين و عشّاق طريق الله العزيز إلى مقام عزّ التوكّل و الرضا و التفويض و التسليم، و هدوهم إلى أعتاب التوحيد.
و خاصّة على استاذنا المرتحل حديثاً: فقيد العلم و العرفان، و فقيد التزكية و الأخلاق، ربّانيّ الباحثين بلهفة عن سبيل النجاة، و مربّي طلّاب أنوار المعرفة؛ الاستاذ الذي لا بديل له، العلّامة بلا نظير، آية الله الأكرم الحاجّ السيّد محمّد حسين الطباطبائيّ التبريزيّ أفاض الله علينا من بركات تربته الشريفة. الذي سعى في إعلان راية التوحيد في قلوب الوالهين اتّباعاً لنهج الأئمّة بالحقّ، و أوصل دعوة الإيمان و الإيقان إلى غور السواحل البعيدة و قعر أعماق القلوب الحيّة المستعدّة.
اللَهُمَّ أفِضْ عَلَيهِ صِلَةَ صَلَواتِكَ وَ سَلَامَةَ تَسْلِيمَاتِكَ، يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ مَاتَ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً. آمِين يَا رَبَّ العَالمين.
«هَجَمَ بِهِمُ العِلْمُ عَلَى حَقِيقَةِ البَصِيرةِ، وَ بَاشَرُوا رُوحَ إليقِين، وَ اسْتَلَانُوا مَا اسْتَوْعَرَهُ المُتْرَفُونَ، وَ أنِسُوا بما اسْتَوْحَشَ مِنْهُ الجاهِلُونَ، وَ صَحِبُوا الدُّنيَا بِأبْدَانٍ أرْوَاحُهَا مُعَلَّقَةٌ بِالملإ الأعْلَى.
اولَئِكَ خُلَفَاءُ اللهِ في أرْضِهِ؛ وَ الدُّعَاةُ إلى دِينهِ.
آهِ، آهِ شَوْقاً إلى رُؤْيَتِهِمْ».۱
و قد ذكر أمير المؤمنين هذه الفقرات في بيان حال العلماء بالله، الذين هم حجج الله في الأرض، الذين يصونون الآيات الإلهيّة و البيّنات الربّانيّة عن الاندراس و البُطلان. ذوو العدد القليل و القدر و المنزلة الجليلة العظيمة.
اولئك الذين يحفظ الله بهم حججه و بيّناته، حتّى يودعوها أمثالهم، و يزرعوها في قلوب أشباههم و نظائرهم.
و حقّاً فإنّنا لو شئنا الإشارة إلى فردٍ يمثّل مصداقاً و معياراً لهذا الكلام، لكان العلّامة الطباطبائيّ من الطراز الأوّل.
فقد كان ذلك الرجل ملجاً للحوزة العلميّة، و ملجاً للطّلاب و الدارسين، و ملجاً للعلم و المعرفة، و ملجاً للأخلاق و العلم، و ملجاً للإيمان و الإيقان، و ملجاً للتضحية و الإيثار، و ملجاً للصبر و الثبات.
الرجل الذي بفقده نُكب عالم العلم و المعرفة، و اكتست وجوه أهل الفضل غبار الحزن في مأتمه.
الرجل الذي كان فقدانه خسارة لا تعوّض لعالم العلم و الأدب، لأنّه كان مُرشد النهضة الفكريّة و العلميّة.
و حقّاً فقد كانت أخلاق العلّامة الطباطبائيّ و أدبه و فكره و عرفانه و معرفته دليلًا على أخلاق الأئمّة الطاهرين و أخلاقهم و علومهم و معارفهم. و كان سيماؤه آية من تلك الأنوار الطيّبة، و نهجه و سيرته حكاية عن تلك الأرواح القدسيّة، مِنْهُمْ وَ إليهِمْ.
و قد ذكر الحقير في كلّ مؤلّفاته بالتفصيل مطالب قرآنيّة و علميّة
و فلسفيّة و عرفانيّة و أخلاقيّة لآية الله العلّامة الطباطبائيّ، و نوّهتُ بتلك المطالب النفيسة ليستفيد منها العموم دونما مقابل.
و احتراماً لتربته الطاهرة، حالياً أكتبُ ما أعرفه عنه من حقائق و وقائع مفصّلة إلى حدٍّ ما، حتّى تنشر في كتاب تحت عنوان: «الشمس الساطعة: رسالة في ذكرى العلّامة الطباطبائيّ»، قدّمتُها و اقدّمها تدريجيّاً للطبع، على أمل أن يُصار إلى إصدارها قريباً لتُقدّم إلى أصحاب البصيرة.
و لهذا، فحين طُلب أخيراً من الحقير كتابة شيء بعنوان رسالة في ذكرى العلّامة، فقد امتثلتُ بمحض الأدب مقابل اسمه المقدّس، و اكتفيت بهذه الصفحات المعدودة، و اوصي القرّاء الكرام بمطالعة كتاب «الشمس الساطعة: رسالة في ذكرى العلّامة الطباطبائيّ».
أسأل الله التوفيق لجميع المتولّهين سبيل الخلوص، و عشّاق لقاء المعبود، ليسعوا في سبيل المقصود بمطالعة أحوال الأعلام من أمثال الاستاذ الجليل: العلّامة الطباطبائيّ، و لكي لا يكفّوا عن الطلب و القصد حتّى نيل المنشود.
اللَهُمَّ احْشُرْهُ مَعَ محمَّدٍ وَ اله الطَّاهرِين وَ اخْلُفْ عَلَى عَقِبِهِ في الغَابِرِين، وَ أيِّدْ وَ سَدِّدْ و زِدْ وَ بَارِكْ عَلَى المتَعَلمين مِنْ سماحَتِهِ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ.
وَ وَفِّقِ اللَهُمَّ إيَّانَا وَ جَمِيعَ إخْوَانِنَا المحصِّلِين مِن بَرَكَاتِ رَشَحَاتِ قَلَمِهِ، وَ مِن شَآبِيبِ رَحَمَاتِ نَفْسِهِ في يَوْمِنَا بَعْدَ أمْسِهِ.
حُرِّرَ في المشهد المقدّس للرضا عليه السلام، يوم الجمعة ٢٦ ربيع الأوّل لسنة ألف و أربعمائة و اثنتين هجريّة.
السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
القِسم الأول: رسالة في ذكري ألْعَالم الرَّبَّاني الْعَلامَة السّيِّد محمَّد حُسِين الطَّبَاطَبَائي التبريزِي
أعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بِسم اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
و صلّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنا محمَّدٍ و اله الطَّيِّبِين الطَّاهِرِين
و لَعْنَةُ اللهِ عَلَى أعْدَائهِمْ أجْمَعِين مِنَ الآنَ إلى قِيامِ يَوْمِ الدِّين
و لَا حَولَ و لَا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ
تِهْ دَلَالًا فَأنتَ أهلٌ لِذَاكَا | *** | وَ تَحَكَّم فَالحُسْنُ قَدْ أعطَاكَا |
وَ لَكَ الأمْرُ فَاقْضِ مَا أنْتَ قَاضٍ | *** | فَعَلَيّ الجَمَالُ قَدْ أوْلَاكَا |
وَ تَلَافي إنْ كَانَ فِيهِ ائْتِلَافي | *** | بِكَ عَجِّلْ بِهِ جُعِلْتُ فِدَاكَا |
وَ بما شِئْتَ في هَوَاكَ اخْتبرنِي | *** | فَاخْتِيَارِي مَا كَانَ فِيهِ رِضَاكَا |
فَعَلَى كُلِّ حَالَةٍ أنْتَ مِنِّي | *** | بِيَ أوْلَى إذْ لم أكُنْ لَوْلَاكَا |
وَ كَفَانِي عِزّاً بِحُبِّكَ ذُلِّي | *** | وَ خُضُوعِي وَ لَسْتُ مِن أكْفَاكَا |
وَ إذَا مَا إليكَ بِالوَصْلِ عَزَّتْ | *** | نِسْبَتِي عِزَّةً وَ صَحَّ وِلَاكَا |
فَاتِّهَامِي بِالحُبِّ حَسْبِي وَ أنِّي | *** | بَين قَوْمِي اعَدُّ مِنْ قَتْلَاكَا۱ |
لقد تشرّف هذا الحقير سنة ألف و ثلاثمائة و أربع و ستّين هجريّة بالذهاب إلى بلدة قم الطيّبة لتحصيل العلوم الدينيّة، فحللت في حجرة بمدرسة المرحوم آية الله حجّت، التي عُرفت فيما بعد بالمدرسة الحجّتيّة، حيث هناك بدأت بالدرس و البحث و المطالعة.
كان بناء هذه المدرسة صغيراً، و كان في نيّة آية الله حجّت أن يوسّع بناء المدرسة ليُضاف إليها عدّة آلاف متر مربّع من الأراضي المجاورة كان قد أعدّها من أجل تشييد مدرسة ضخمة للطلّاب على غرار المدارس الإسلاميّة، بحيث تضمّ عدداً كبيراً من الغرف و قاعات للتدريس و مسجداً و مكتبة و سرداباً و مخزناً للماء و سائر ما يحتاج إليه الطلّاب، و ذلك وفق نظام صحّيّ صحيح، مع ساحة واسعة كبيرة مريحة تبعث النشاط في أرواح الطلّاب.۱
و مع أنَّ العديد من المهندسين قدموا من طهران و غيرها و قدّموا خرائط و تصاميم مختلفة، إلّا أنَّ أيّاً منها لم يحظَ بموافقة آية الله، إلى أن طرق سمعنا أخيراً أنَّ سيّداً قدم من تبريز فأعدّ تصميماً حاز على رضا آية الله و إقراره، فكنّا في غاية الشوق و اللهفة لرؤية هذا السيّد.
و كنّا من جهة اخرى متلهّفين لدارسة الفلسفة، و في تلك الفترة تشرّف بالمجيء إلى قم العالم الجليل فخر الحكماء و الفلاسفة آية الله الحاجّ الميرزا مهدي الآشتيانيّ قدّس الله نفسه قد تشرّف في ذلك الوقت عازماً التدريس، فلبث في قم عدّة أشهر. و كان قد وعد أحد أصدقائنا الأعزّاء أن يعطينا درساً خاصّاً في الفلسفة من «المنظومة السبزواريّة» و كنّا على وشك البدء في الدرس حين انصرف بغتةً عن الإقامة في قم و عاد إلى طهران.
ثمّ سمعنا في تلك الأثناء أنّ ذلك السيّد الذي قدم من تبريز و صمّم خارطة بناء المدرسة معروف باسم القاضي، و أنّه ضليع في الرياضيّات
و الفلسفة، و قد بدأ بتدريس الفلسفة في الحوزة.
اللقاء الاوّل مع العلّامة الطباطبائي قدّس الله نفسه
فازداد شوقنا لرؤيته و لقائه، و كنا نترصّد الفرصة للذهاب إلى منزله و اللقاء به بذريعة ما، إلى أن جاء إلى غرفتي يوماً أحد الأصدقاء الذين يتردّدون على المدرسة و هو من علماء «رشت» حالياً فقال: لقد عاد السيّد القاضي۱ من زيارة مشهد، فهلم نذهب لزيارته!
و ما إن دخلنا منزله، حتّى فوجئنا بأنّ هذا الرجل المعروف المشهور هو نفس ذلك السيّد الذي كنّا نلتقيه يوميّاً في الأزقّة في غدوّنا و رواحنا و الذي لم نكن لنحتمل أبداً أن يكون من أهل العلم، فضلًا عن التبحّر في العلوم.
لقد كان يتردّد في أزقّة قم مرتدياً عمامة صغيرة جدّاً من الكرباس الأخضر و جبّة ذات أزرار مفتوحة، و بدون جوارب، بملابس أدنى من العاديّة؛ كما كان بيته بدوره بسيطاً محقّراً جدّاً.
تعانقنا و جلسنا، و تطرّق الحديث إلى بعض المسائل حول جهاتٍ عدّة، فرأينا أنَّ الأمر ليس كما يتصوّره المرء، فهذا الرجل في الحقيقة عالَم عظيم من العلم و الدراية و الإدراك و الفهم، و صار مشهوداً لدينا جيّداً أنَّ:
هر آن كو ز دانش برد توشهاى | *** | جهانيست بنشسته در گوشهاى٢ |
و قد حصلت لنا حالة عظيمة من الوله و التعلّق به في ذلك المجلس،
فسألناه أن يعطينا درساً خصوصيّاً في الفلسفة، حتّى نتمكّن من طرح ما نريده بحرّيّة خلال الدرس، و إزالة أيّ إشكال و إبهام يطرأ علينا، فوافق في منتهى اللطف. و حين خرجنا من عنده التقينا سائر الأصدقاء الذين كنّا قد اتّفقنا معهم على دراسة الفلسفة، فسألونا: كيف وجدتم السيّد القاضي؟ أجبتُ: عَلَيّ اجيبكم بتلك الرباعيّة التي أنشده أبو العلاء المعرّيّ الضرير في السيّد المرتضى حين عاد إلى وطنه بعد لقائه به فسئل عنه: كيف وجدتَهُ؟ فقال:
يَا سَائِلِي عَنْهُ لما جِئْتُ أسْأله | *** | ألَا هُوَ الرَّجُلُ العَارِي مِنَ العَارِ |
لَو جِئْتَهُ لَرَأيْتَ النَّاسَ في رَجُلٍ | *** | وَ الدَّهْرَ في سَاعَةٍ وَ الأرْضَ في دَارِ۱ |
و الخلاصة، فقد شرع في تدريسنا درس الفلسفة في قاعة التدريس في المدرسة، و مع أنّه من المقرّر أن يكون الدرس خصوصيّاً، إلّا أنَّ الطلّاب اطّلعوا على الأمر، فحضر في اليوم الأوّل ما يقرب من مائة منهم مَلئوا القاعة و بدأ السيّد بالتدريس. و على الرغم من أنَّ البحث و المناقشة كانا بقدر كافٍ خلاف الدرس، إلّا أنّه لم يكن من المصلحة بسبب ازدياد العدد أن تطرح إشكالات أعلى من المستوى العاديّ للدرس، و لهذا فقد كنّا دائماً بعد نهاية الدرس نصاحبه حتّى باب منزله للتحدّث معه أثناء الطريق لاستيضاح بعض المطالب.
و ازداد حبّنا و تعلّقنا به؛ لأنّه كان إنساناً متواضعاً جليلًا خلوقاً شديد الحياء نزيهاً، خالياً من التكلّف، فقد كان يعاملني معاملة الأخ العطوف
و الرفيق الشفيق، فكان يأتي إلى حجرتنا عصراً، في كلّ يوم يضيف ساعة أو ساعتين بعد الدرس المعيّن ليشرح لنا بعض المعارف الإلهيّة و القرآن المجيد و إضافة إلى درس الفلسفة فقد كان يلقي سلسلة من الدروس في الهيئة القديمة (علم الفَلَك)۱ و شرع أيضاً بتدريسي تفسير القرآن الكريم.
منهج و اسلوب العلّامة الطباطبائي في الدرس
أجل؛ فقد كانت العظمة و الجلالة و السكينة و الوقار بادية في وجوده، و كان بحر العلم و المعرفة ينضح كالنبع المتفجّر منه، و كان يجيب على الأسئلة في هدوء و سكينة. و مع أنّا كنّا نصل أحياناً في البحث إلى حدّ التجرّؤ و تجاوز الحدود، لكنّه لم يكن أبداً ليخرج عن سلوكه و نهجه، فلم ترتفع نبرة صوته عن الحدّ المعتاد حتّى لمرّة واحدة، فذلك الأدب و تلك المتانة و الوقار و العظمة بقيت ثابتة و لم ينضح كأس صبره و احتماله أبداً.
و كان يلقي علينا أحياناً بيانات عن أحوال الأعلام و أولياء الله و المدارس و الاتجاهات العرفانيّة، و بالأخصّ عن استاذه في المعارف الإلهيّة و الأخلاق الذي كان في النجف المرحوم سيّد العارفين و سند المتألهين آية الله الوحيد السيّد الحاجّ الميرزا على آقاى القاضي
رضوان الله عليه، حيث كانت له بيانات مفصّلة عنه، و كانت تلك الأحاديث تبعث في نفوسنا البهجة و السرور. و كانت مجالسنا معه تمتدّ أحياناً إلى ساعتين أو ثلاث ساعات في اليوم.
و لقد بلغت درجة الحبّ و الوله به إلى الحدّ الذي حملنا على ترك حجرة المدرسة لنستأجر غرفة قرب منزله، و ننتقل إليها لأجل لقائه و الانس به أكثر و الاستفادة من فيوضاته بشكل أوفر، فكان يُلقي علينا باستمرار مواعظ أخلاقيّة و عرفانيّة قبيل الغروب بساعة أو ساعتين. و تمتدّ أحياناً إلى انقضاء الليل، كما كان يأتي في فصل الربيع الى بستان القلعة «باغ قلعه» القريب من منزله، فيُلقي عَلَيّ و على اثنين من الزملاء بيانات مفصّلة عن سيرة و نهج الفلاسفة المتألهين المسلمين، و عن مسلك علماء الأخلاق، و عن سير و سلوك العرفاء الأجلّاء، و خاصّة عن أحوال المرحوم الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ و تلامذته المبرزين، كالسيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ و الحاجّ الميرزا جواد آقا الملكيّ التبريزيّ و الحاجّ الشيخ محمّد البهاريّ و السيّد محمّد سعيد الحبّوبيّ، و عن سيرة و نهج المرحوم السيّد ابن طاووس و بحر العلوم، و عن استاذه المرحوم القاضي رحمة الله عليهم أجمعين، و كانت تلك البيانات مفتاح طريقنا إلى المعارف الإلهيّة.
و حقّاً! فإنّنا لو لم نلتقِ بمثل هذا الإنسان، لكانت أيدينا خالية من كلّ شيء و خسرنا الدنيا و الآخرة، فللّه الحمد و له المنّة.
أجل؛ فقد كان ذكرنا و فكرنا الدائميّ إضافة إلى الدروس الرسميّة الحوزويّة من الفقه و الاصول في الاستفادة من محضره الطافح بالبركة، سواء في الفلسفة أم الأخلاق و العرفان، أو تفسير القرآن الكريم الذي كان يفسّره باسلوب بديع، و دام ذلك لغاية سنة ألف و ثلاثمائة و إحدى و سبعين
هجريّة، حيث تشرّفت بالذهاب إلى النجف الأشرف لإدامة التحصيل و للاستفادة من مدينة العلم: مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام.
و كنّا قد طلبنا منه في هذه الفترة أن يدرّسنا «شرح الفصوص» للقيصريّ و شرح «منازل السائرين» للملّا عبد الرزّاق القاسانيّ، فكان يعدنا بذلك دائماً، و لكنّه كان يتناول بدلًا عنها آيات القرآن بالشرح و التفصيل، حتّى أدركنا أخيراً أنّه لا يفضّل تدريس الكتابين المذكورين. بيد أنّه شرح دورة كاملة في السير و السلوك على نهج الرسالة المنسوبة لآية الله بحر العلوم، و كانت بالنسبة لنا في غاية الروعة و التأثير. و في أيّام العطل كان يشرح لبعض الطلّاب الخواصّ ممّن لا يزيد عددهم عن خمسة عشر شخصاً مراسلات الآيتين العلمين: سيّد العرفاء و المتالهين السيّد أحمد الكربلائيّ و شيخ الفقهاء الربّانيّين الحاجّ الشيخ محمّد حسين الإصبهانيّ الكمبانيّ رضوان الله عليهما، و بعد البحث و التنقيح كان يبين آراءه بشكل تفصيليّ.
و كان هذا الكتاب عبارة عن أربع عشرة رسالة في التوحيد الذاتيّ، السبع الأوّل منها لآية الله الكربلائيّ في مسلك التوحيد على مشرب العرفاء، و سبع اخرى لآية الله الأصبهانيّ في مسلك التوحيد على مشرب الفلاسفة.
و قد دُوّنت هذه الرسائل كردّ و بدل على بعضها البعض، حيث جهّز كلّ واحد منهما رسائله الاستدلاليّة العرفانيّة و الفلسفيّة بكلّ ما للكلمة من معنى لإبطال مدّعى خصمه في هذه المراسلات، و تقرّر أن يقوم العلّامة بدوره بكتابة تذييل على كلّ من هذه الرسائل بعنوان «محاكمات»، فكتب فعلًا إلى التذييل السادس، و بقيت الرسائل الأخرى بدون تذييل، و عند ما تشرّفت بالذهاب إلى النجف لمتابعة التحصيل و الدرس لم يكن
العلّامة قد أتمّ تلك التذييلات فبقيت إلى النهاية دون إتمام، رغم أنّي طلبتُ منه ذلك عدّة مرّات خلال تشرّفي بلقائي به، و مع أنّه وعد بذلك، إلّا أنَّ الشواغل و ازدياد التعب و الإجهاد لم يتركا له مجالًا لذلك، إلى أن التحق برحمة الله.۱
جامعيّة العلّامة الطباطبائي في العلم و العمل
نعم؛ لقد كان سماحة العلّامة آية عظيمة، ليس فقط في الفلسفة و الإحاطة بتفسير القرآن الكريم، و ليس فقط في فهم الأحاديث و إدراك معناها و مرادها سواء الروايات الاصوليّة أو الفرعيّة، و ليس فقط من ناحية الجامعيّة و الشموليّة بالنسبة لسائر العلوم و إحاطته بالمعقول و المنقول، بل و أيضاً من ناحية التوحيد و المعارف الإلهيّة و الواردات القلبيّة و المكاشفات التوحيديّة و المشاهدات الإلهيّة القدسيّة و مقام
التمكين و استقرار التجلّيات «و الجلَوات» الذاتيّة في جميع عوالم النفس و زواياها.
و كان يُخيّل لمن جالسه و شاهد صمته المطبق و سكوته المطلق أنَّ هذا الإنسان لا يملك شيئاً في مستودع فكره، بيد أنّه في الحقيقة كان مستغرقاً في الأنوار الإلهيّة و المشاهدات الغيبيّة الملكوتيّة بحيث لم يكن ليجد مجالًا للنزول عنها. و ما أعجب جامعيّته لتحمّل تلك الجبال من الأسرار و حفظ الظاهر في مقام الكثرة و إعطاء حقّ العوالم و ذوي الحقوق من تدريس الطلّاب و تربيتهم و الدفاع عن حريم الدين و السنّة الإلهيّة و قوانين الإسلام المقدّسة و حصن الولاية الكلّيّة الإلهيّة.
و لقد كان آية الله العلّامة الطباطبائيّ فضلًا عن جامعيّته و تبحرّه في العلوم جامعاً بين العلم و العمل، ذلك العمل المنعكس عن الرشحات النفسيّة و الصادر عن طهارة سرّه؛ و كان جامعاً بين العلوم و الكمالات الفكريّة و بين الوجدانيّات و الأذواق القلبيّة و بين الكمالات العمليّة و البدنيّة، و حقّاً لقد كان رجل الحقّ الذي تحقّق كلّ وجوده بالحقّ.
كان خطّه على نسق «نستعليق»، أي نسخ التعليق، و هو خطّ فارسيّ معروف، و في الخطّ الفارسيّ «شكسته» من أجمل و أفضل ما خطّه أساتذة فنّ الخطّ؛۱ و رغمّ أنّه اصيب في أواخر حياته بضعف الأعصاب و حصول
الرجفة في يده، إلّا أنَّ جوهر خطّه المنطلق من يد مرتعشه كان يحكي عن استاذه في هذا الفنّ.
و كان يقول: لقد حفظت بعض المقاطع التي كتبتها أيّام شبابي، و عند ما أنظر إليها أتعجّب منها و أتساءل: أ هذا خطّي أنا؟
و كان للعلّامة اطّلاع على العلوم الغريبة كالرَّمْل و الجفْر، و لكنّه لم ير ممارساً لها قطّ؛ كما كانت له مهارة عجيبة في علم الأعداد و حساب الجُمَل و الأبجد و طرقه المختلفة.
و في الجبر و المقابلة و الهندسة الفضائيّة كانت له حصّة وافرة، إضافة إلى الهندسة المسطّحة و الرياضيّات الاستدلاليّة، و كان استاذاً في علم الهيئة القديمة بحيث كان يمكنه استخراج التقويم بسهولة و يُسر. و كما ذكرنا فقد درّسنا دورة كاملة فيه، و لكن بما أنّني درست الرياضيّات (من الحساب و الهندسة و علم المثلّثات) في المدارس الحديثة إلى حدّ واف، فلم تكن هناك ضرورة لدارستها عنده.
و كان استاذنا قد درس علوم الرياضيّات في النجف الأشرف عند السيّد أبي القاسم الخونساريّ، الذي كان من أشهر علماء الرياضيّات في عصره. و كان يقول: عند ما كانت بعض المسائل الرياضيّة تشكل على بعض الأساتذه في جامعة بغداد و يعجزون عن حلّها، كانوا يأتون إلى النجف عند استاذنا السيّد أبي القاسم فيحلّ لهم ما أبهم عليهم. و كان العلّامة
الطباطبائيّ استاذاً في الأدب العربيّ و علم المعاني و البيان و البديع.
أمّا في الفقه و الاصول فقد كان استاذاً صاحب ذوق فقهيّ متحرّك قريب للواقع، و قد درس دورات عديدة في الفقه و الاصول عند أساتذة كالمرحوم آية الله النائينيّ و المرحوم آية الله الكمبانيّ، و قد استفاد في الفقه من آية الله الأصبهانيّ، حيث استغرقت دراسته في هذا المجال حوالي عشر سنوات.
و استاذه الوحيد في الفلسفة هو، الحكيم المتأله المعروف المرحوم السيّد حسين بادكوبهاى، و كان العلّامة قد درس عنده، هو و أخوه آية الله الحاجّ محمّد حسن الطباطبائيّ الإلهيّ لسنوات متمادية عند ما كانا في النجف الأشرف، و قرءا على يديه «الأسفار» و «الشفاء» و «المشاعر» و غيرها.
كان المرحوم الحكيم بادكوبهاى يولي العلّامة اهتماماً خاصّاً، و قد أمره أن يدرس الرياضيّات، لأجل رفع قدرته في الاستدلال و البرهان.
أمّا في المعارف الإلهيّة و الأخلاق و فقه الحديث، فقد درس عند العارف الكبير الحاجّ الميرزا على القاضي قدّس الله تربته الزكيّة؛ و قد تربّى على يدي هذا الاستاذ الكامل في السير و السلوك و المجاهدات النفسانيّة و الرياضات الشرعيّة.
و كان المرحوم القاضي من أبناء أعمام العلّامة حيث عمل في النجف الأشرف على تربية التلامذة الالهيّين و الصالحين و العاشقين للجمال الإلهيّ و المشتاقين للقاء و زيارة حضرة الأحديّة، حتّى صار في هذا الفنّ العالم الوحيد؛ و كان العلّامة يطلق لقب «الاستاذ» عليه فقط، و عند ما كان يقول «الاستاذ» بدون قيد فهو يقصد المرحوم القاضي؛ و كأنّ جميع الأساتذة الآخرين يختفون أمام وجود ذلك المقام و العظمة العلميّة.
أمّا في المجالس العامّة، فإذا جاء الحديث عن أساتذته، فلم يكن
يذكر اسم «القاضي» من شدّة الاحترام، و لم يكن يذكره إلى جانب البقيّة من الأساتذة، كما نلاحظ في المقالة الوجيزة التي كتبها عن حياته، و نشرت في مقدّمة مجموعة المقالات و الرسائل التي طبعت تحت عنوان «دراسات إسلاميّة» فلم يذكر اسم المرحوم القاضي إلى جانب الأساتذة.
كما لا نشاهد شيئاً عن إحيائه الليالي و العبادات و الاعتكافات في مسجدي السهلة و الكوفة؛ و هنا ذكر أنّه كثيراً ما كان يحدث أن تطلع عليه الشمس بعد الليل و هو مستغرق في المطالعة (و خاصّة في الربيع و الصيف).
و من الواضح أولًا: كم يكون الحديث عن العبادات و إحياء الليالي بالتهجّد و الذكر و الفكر أمراً تافهاً و لا قيمة له، و خاصّة في مقال عامّ للناس، و بالأخصّ عن استاذ لم يقدم خطوة واحدة نحو الجاه و الحظوة؛ و قد أحرق كلّ جذور حبّ الظهور و الأنانيّة في وجوده.
ثانياً: في الوقت الذي يرى الاستاذ أنَّ أحد الشروط الحتميّة لطي طريق الله هو كتمان السرّ، كيف نحتمل أن يفشي عباداته المستحبّة التي هي سرّ بينه و بين ذات الحيّ القيّوم ليجعلها بمتناول أيدي الجميع؟! و هكذا أخفى سائر عباداته المستحبّة و اللازمة مثلما استثنى الحديث عن صلاة الصبح في ذلك الكلام الوجيز.
بيد أنّه لم يكن ليبخل عن ذكر ذلك الرجل العظيم في المحلّ المناسب، بل كان يتحدّث عنه بتجليل و تكريم خاصّ، كما جاء في المقدّمة التي كتبها على تعليقاته بعنوان «محاكمات» لرسائل العلمَين: الكربلائيّ و الكمبانيّ حيث يقول: «... و في النهاية خضع (السيّد أحمد الكربلائيّ) لتربية المرحوم آية الحقّ و استاذ العصر، الشيخ الأكبر الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ قدّس الله سرّه العزيز، و لازمه لسنوات عديدة، و أصبح من السابقين المتقدّمين؛ و في النهاية دخل في زمرة التلامذة
الأوائل الذين تربّوا على يديه؛ و وصل إلى المرتبة الراسخة و المقام الأمين في العلوم الظاهريّة و الباطنيّة.
و بعد وفاة المرحوم الآخوند، اختار الإقامة عند عتبة النجف الأشرف المقدّسة و اشتغل بدراسة الفقه، و كانت له في المعارف الإلهيّة و تربية الناس و إرشادهم أياد بيضاء.
و قد استطاع جمع كثير من الأعلام و الصالحين أن يدخلوا في دائرة التكامل، و يطووا بساط الطبيعة ببركة تربية ذلك الإنسان العظيم، و أن يصبحوا من سكّان دار الخلد و محارم حريم القرب! من جملتهم السيّد الأجلّ آية الحقّ و نادرة الدهر، العالم العابد و الفقيه المحدّث و الشاعر المفلِق سيّد العلماء الربّانيّين المرحوم الحاجّ الميرزا على القاضي الطباطبائيّ التبريزيّ (المولود سنة ۱٢۸٥ ه و المتوفي سنة ۱٣٦٦ ه) الذي كان استاذ هذا الأفقر في المعارف الإلهيّة و فقه الحديث و الأخلاق. رفع الله درجاته السامية و أفاض علينا من بركاته» انتهى كلام استاذنا العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه.
لقد كان استاذنا يحمل في قلبه عشقاً شديداً لُاستاذه، و حقّاً كان يرى نفسه صغيراً أمامه؛ و يلمس في سيماء المرحوم القاضي عالماً من العظمة و البهاء و أسرار التوحيد و الملكات و المقامات.
في أحد الأيّام قدّمت له عطراً، فحمله بيده، و قال بعد تأمّل: لقد رحل استاذنا المرحوم القاضي منذ سنتين؛ و منذ ذلك الحين لم أتطيّب حتّى الآن. و إلى الفترة الأخيرة أيضاً كنت كلّما قدّمت له عطراً؛ كان يفلقه و يضعه في جيبه. و لم أره قد تعطّر، رغم انقضاء أكثر من ٣٦ سنة على وفاة استاذه.
و المدهش تساوي عمر العلّامة مع استاذه القاضي؛ فقد عاش كلّ
منهما ۸۱ سنة.
فقد ولد سنة ۱٣٢۱ ه۱ و توفي صباح الأحد الواقع في الثامن عشر من محرّم الحرام سنة ۱٤۰٢ ه قبل الظهر بثلاث ساعات، (فعمره ۸۱ سنة) كما في حياة الرسول الأكرم صلّى الله عليه و اله و سلم و وصيّه أمير المؤمنين صلوات الله عليه، فقد عاش كلّ منهما ٦٣ سنة.
كان العلّامة الاستاذ يقول:
عند ما تشرّفتُ بالذهاب إلى النجف الأشرف للدراسة، كنت من حين لآخر أزور المرحوم القاضي للقرابة و الرَّحِميّة الموجودة بيننا، حتّى جاء ذلك اليوم الذي كنت فيه واقفاً على باب المدرسة و التقيت به عابراً، فلما وصل إليّ وضع يده على كتفي و قال: «يا بني! إذا كنت تريد الدنيا فعليك بصلاة الليل؛ و إذا كنت تريد الآخرة فعليك بصلاة الليل!».
و لقد أثّر في هذا الكلام إلى الدرجة التي جعلتني لا أترك محضره
طوال خمس سنوات حتّى رجوعي إلى إيران؛ و لم أفرّط بلحظة واحدة استطعت فيها أن استفيدُ من فيضه. و قد تأصّرت علاقاتنا منذ رجوعي إلى الوطن حتّى رحيله، و كان يلقي عَلَيّ تعاليمه و إرشاداته كاستاذ مع تلميذه، و كنّا نراسل بعضنا البعض.
و كان العلّامة يقول:
«إنَّ كلّ ما عندنا هو من المرحوم القاضي».
في أحوال الحاج ميرزا على السيد القاضي أستاذ العلّامة
لقد كان المرحوم القاضي من المجتهدين العظام، و لكنّه كان ملتزماً بالتدريس في بيته؛ و قد درّس دورات عديدة في الفقه. و كان يقيم صلاة الجماعة بطلابه في بيته، فكانت صلاته في غاية السكينة و تستغرق وقتاً طويلًا. و بعد صلاة المغرب التي كان يقيمها عند أوّل استتار الشمس تحت الافق، كان يواظب على التعقيبات حتّى وقت العشاء حيث يقوم للصلاة ليستغرق فيها طويلًا.
كان الطلّاب في شهر رمضان المبارك يأتون لإدراك صلاة المغرب جماعة معه، و لأنَّ البعض منهم لم يكن يصلّي قبل ذهاب الحمرة المشرقيّة من جهة الرأس، كان يطلبون منه أن يتمهّل قليلًا؛ و كان يقبل، و لكنّ السماور۱ كان مجهّزاً، فبمجرّد استتار القرص كان المرحوم يبادر إلى الإفطار.
في الأيّام العشرين الاوَل من شهر رمضان، كانت الليالي تتحوّل إلى مجالس التعليم و الانس؛ و كان الطلّاب يحضرون مجلسه بعد مرور أربع ساعات من الليل ليطول جلوسهم إلى ساعتين إضافيّتين. أمّا في العشر الأواخر من الشهر، فقد كان المرحوم يوقف التدريس و يغيب عن الأنظار حتّى آخر الشهر المبارك؛ و مهمّا كان الطلّاب يبحثون عنه في النجف و في
مسجد الكوفة و في مسجد السهلة أو في كربلاء لم يكونوا ليعثروا له على أيّ أثر. و كان هذا نهج المرحوم طوال سنواته حتّى رحيله.
لم يكن للمرحوم القاضي من نظير في اللغة العربيّة؛ و يقال: إنّه حفظ أربعين ألف كلمة. و كان ينشد الشعر العربيّ بطريقة لم يكن العرب يتصوّرون أنّه أعجميّ.
و روي أنّه كان مع المرحوم آية الله الحاجّ الشيخ عبد الله المامقانيّ رحمة الله عليه في إحدى جلسات المباحثة، فقال له الشيخ: إنَّ لي تسلطاً على اللغة العربيّة و أشعارها بحيث أستطيع أن أميّز من ينشد الشعر العربيّ إذا كان عجميّاً حتّى و لو كان شعره في أعلى مستوى من الفصاحة و البلاغة.
فبدأ المرحوم القاضي يقرأ قصيدة لأحد الشعراء العرب، ثمّ أضاف بداهة عدّة أبيات من تأليفه و قال له: أيّ الأبيات التي ليست للعرب؟ فلم يستطع تحديدها.
و كان للمرحوم القاضي باع طويل في تفسير القرآن الكريم و معانيه، و كان استاذنا المرحوم العلّامة الطباطبائيّ يقول: إنَّ هذا الاسلوب الذي يفسّر الآية بالآية لقد تعلمناه من المرحوم القاضي و نحن ننهج نهجه في التفسير. أمّا بالنسبة لفهم معاني الروايات المنقولة عن الأئمّة المعصومين عليهم السلام فقد كان يمتلك ذهناً وقّاداً و معرفة واسعة، و قد تعلّمنا منه طريقة فهم الأحاديث التي يقال لها: «فقه الحديث».
كان المرحوم القاضي في تهذيب النفس و الأخلاق و السير و السلوك في المعارف الإلهيّة، و الواردات القلبيّة، و المكاشفات الغيبيّة السبحانيّة، و المشاهدات العينيّة، فريد عصره و وحيد دهره و سلمان زمانه و ترجمان القرآن.
لقد كان كالطود الشامخ الذي حوى نبع الأسرار الإلهيّة، يقوم بتربية
الطلّاب في هذا المجال. يتحلّقون حوله في المجالس الخاصّة التي كان يقيمها في منزله لأيّامٍ و كانوا يستمعون نصائحه و مواعظه و إرشاداته لساعة من الزمن.
كيفيّة تربية المرحوم السيّد القاضي قدّس الله نفسه
و بِيُمْن تربيّته في المراحل المختلفة، استطاع أفراد كثيرون أن يتقدّموا في مسير الحقيقة، ليصبحوا من أصحاب الكمالات و المقامات؛ و يدخلوا في الصالحين و الأحرار و الأطهار؛ و يتنوّروا بنور معرفة التوحيد، و يرِدوا إلى الحرم الآمن، طاوين بساط عالم الكثرة و الاعتبار.
و من جملتهم استاذنا المعظّم العلّامة الطباطبائيّ و أخوه الفاضل آية الحقّ المرحوم الحاجّ السيّد محمّد حسن الإلهيّ رحمة الله عليهما اللذان كانا رفيقين و شريكين في جميع المراحل و المنازل، كالفرقدين متلازمين، و حبيبين يتشاطران هموم الحياة.
و منهم أيضاً الحاجّ الشيخ محمّد تقي الآمليّ، و الحاجّ على محمّد البروجرديّ، و الحاجّ على أكبر المرنديّ، و الحاجّ السيّد حسن المسْقَطيّ، و الحاجّ السيّد أحمد الكشميريّ، و الحاجّ الميرزا إبراهيم السيستانيّ، و الحاجّ الشيخ على القسّام، و وصيّه المحترم الاستاذ آية الله الحاجّ الشيخ عبّاس هاتف القوچانيّ الذين كان كلّ واحد منهم نجماً ساطعاً في سماء الفضيلة و التوحيد و المعرفة؛ شكر الله مساعيهم الجميلة.
أمّا المرحوم القاضي رضوان الله عليه فقد كان في امور المعرفة تلميذاً عند أبيه المرحوم آية الحقّ السيّد حسين القاضي الذي كان من أشهر تلامذة المرحوم المجدّد آية الله الحاجّ الميرزا محمّد حسن الشيرازي رحمة الله عليه، و هو تلميذ المرحوم آية الحقّ إمام قُلي النخجوانيّ، و هو تلميذ آية الحقّ السيّد قريش القزوينيّ.
و يروى أنَّ المرحوم السيّد حسين القاضي كان عند ما همّ بالرجوع من
سامراء إلى مسقط رأسه في آذربيجان، حضر عند المرحوم المجدّد لوداعه فأوصاه؛ و قدّم له نصيحة قائلًا: اجعل لنفسك في كلّ يوم ساعة واحدة!
لقد أصبح السيّد حسين في تبريز متوغّلًا في الامور الإلهيّة إلى الدرجة التي يحكى فيها أنّه عند ما سافر تجار من تلك المدينة إلى سامراء و حضروا للقاء المرحوم الميرزا شيرازيّ، سألهم عن أحوال السيّد القاضي؛ فقالوا له: إنَّ تلك الساعة التي نصحته بها قد سيطرت على جميع أوقاته؛ و هو لا يترك مناجاة ربّه في الليل و النهار.
و لكن، بما أنَّ المرحوم القاضي جاء إلى النجف فقد تعلم و تربّى على يدي المرحوم آية الحقّ السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ، ليطوي الطريق تحت مراقبته.
و قد لازم المرحوم القاضي المرحوم العابد الزاهد و الناسك، وحيد عصره الحاجّ السيّد مرتضى الكشميريّ رضوان الله عليه و صاحبه لسنوات متمادية، و لم يكن ذلك تلمذة، بل ملازمة و استفادة من الأحوال و مشاهدة الحالات و الواردات القلبيّة. و ممّا لا شكّ فيه أنَّ هناك اختلافاً واسعاً بين هذين العظيمين في السلوك العرفانيّ.
فطريقة آية الحقّ السيّد أحمد الكربلائيّ في التربية هي طبق نظريّة استاذه المرحوم الآخوند حسين قُلي الهمدانيّ، و تقوم على أساس معرفة النفس. و لأجل الوصول إلى هذا المرام، كانوا يعتبرون المراقبة من أهمّ الامور. و كان الآخوند تلميذاً لآية الحقّ و الفقيه العظيم المرحوم السيّد على الشوشتريّ الذي كان استاذ الشيخ مرتضى الأنصاريّ في الأخلاق و تلميذه في الفقه.۱
كان المرحوم القاضي يعطي توجيهاته و تعليماته الأخلاقيّة لكلّ واحد من تلاميذه بطريقة خاصّة طبق الموازين الشرعيّة مع رعاية الآداب الباطنيّة للأعمال و حضور القلب في الصلاة و الإخلاص في الأفعال؛ و كان بذلك يعدّ قلوبهم لتلقّي إلهامات عالم الغيب.
و كان يمتلك حجرة في مسجد الكوفة و اخرى في مسجد السهلة، و كان في بعض الليالي يبيت لوحده فيهما؛ و يوصي تلامذته أيضاً بأن يبيتوا بعض الليالي في مسجد الكوفة أو السهلة للعبادة.
و كان يوصي تلامذته بعدم الالتفات إلى ما يمكن أن يحدث أثناء الصلاة أو قراءة القرآن أو الذكر و التفكّر، من مشاهدة الصور الجمالية أو ظهور بعض الحالات الاخرى لعالم الغيب؛ و يأمر بضرورة الاستمرار بالعمل! و كان الاستاذ العلّامة يقول: كنت جالساً ذات يوم في مسجد الكوفة مشغولًا بالذكر؛ و في تلك الأثناء أقبلت حوريّة من حوريّات الجنّة
من جانبي الأيمن في يدها كأساً من شراب الجنّة و قدّمته لي و عرضت نفسها عَلَيّ، و عند ما أردت أن ألتفت إليها تذكّرت فجأة كلام الاستاذ؛ و لهذا أعرضت ببصري عنها، فقامت و أتتني من الجانب الأيسر، و كرّرتُ الإعراض عنها بلطف و لم أعتن بها، و رجعت إلى نفسي؛ فتألمت تلك الحوريّة و ذهبت.
و إلى الآن كلما تذكّرت ذلك المشهد أتأثّر من تألم تلك الحوريّة.
كمالات الاستاذ المرحوم السيّد القاضي رضوان الله عليه
كان المرحوم القاضي آية رائدة في العمل؛ و يروي أهل النجف عنه خصوصاً أهل العلم منهم قصصاً عديدة، فقد كان يعيش في منتهى الفقر و الفاقة مع عائلة كبيرة جدّاً. لكنّه كان غارقاً في بحر التوكّل و التسليم و التفويض و التوحيد إلى الدرجة التي لم تخرجه هذه العائلة عن مسيره بقدر شعرة واحدة.
و قد ذكر لنا أحد أصدقائنا النجفيّين، و هو حالياً من أعلامها، أنّه كان ذاهباً في أحد الأيّام إلى دكّان الخضار؛ فرأى المرحوم القاضي منحنيّاً يفتّش بين الخسّ؛ و لكن خلافاً للمعهود كان يأخذ تلك الذابلة ذات الأوراق الخشنة و الكبيرة.
يقول: و كنت اراقبه بدقّة؛ حتّى أعطاها إلى البائع فوزنها ثمّ دفع الحساب، و وضع الخسّ تحت عباءته و خرج.
و في ذلك الوقت كنت طالباً فتيّاً و المرحوم القاضي رجلًا مسنّاً، و غدوت وراءه لأسأله: سيّدي أنت قد أخذت هذا الخسّ الرديء، بعكس ما يفعله الجميع؟
فقال لي: يا عزيزي! إنّ هذا البائع فقير مسكين، و أنا اساعده من حين إلى حين آخر؛ و لا اريد أن أعطيه شيئاً بدون عوض لكي لا يهدر ماء وجهه و عزّته و كرامته أوّلًا؛ و لئلّا يعتاد لا سمح الله على الأخذ المجاني،
فيكسل عن الكسب و التحصيل ثانياً؛ و بالنسبة لنا لا يوجد فرق فيما لو أكلنا الخسّ الطريّ و الصغير أو هذا الخسّ، و كنت أعلم أنَّ أحداً لن يشتريها، و عند حلول الظهر سوف يغلق محلّه۱ و يعود، فبادرت لشرائها لكي أمنع عنه الضرر.
أجل؛ فإنَّ الحديث عن فضائل المرحوم القاضي الأخلاقيّة يطول، و إذا أردنا أن نذكرها هنا لخرجنا عن أساس المطلب.
سلسلة نسب العلّامة الطباطبائي رضوان الله عليه
أمّا نسب استاذنا العلّامة فإنّه من جهة الأب يعود إلى الإمام الحسن المجتبى عليه السلام، و هو من سلالة إبراهيم بن اسماعيل الديباج.
و من جهة الامّ من أولاد الإمام الحسين عليه السلام. و لهذا نجده في آخر كتبه التي ألّفها في شادآباد تبريز يختم الكلام بالتوقيع التالي: «السيّد محمّد حسين الحسنيّ الحسينيّ الطباطبائيّ».
فهو: السيّد محمّد حسين بن السيّد محمّد، بن السيّد محمّد حسين٢،
بن السيّد عليّ الأصغر، بن السيّد محمّد تقي القاضي، بن الميرزا محمّد القاضي، بن الميرزا محمّد على القاضي، بن الميرزا صدر الدين محمّد، بن الميرزا يوسف نقيب الأشراف، بن الميرزا صدر الدين محمّد، بن مجد الدين، بن السيّد اسماعيل بن الأمير على أكبر، بن الأمير عبد الوهّاب۱ بن الأمير عبد الغفّار، بن السيّد عماد الدين أمير الحاجّ بن فخر الدين حسن، بن كمال الدين محمّد، بن السيّد حسن، بن شهاب الدين عليّ، بن عماد الدين عليّ، بن السيّد أحمد، بن السيّد عماد بن أبي الحسن عليّ، بن أبي الحسن محمّد، بن أبي عبد الله أحمد، بن محمّد الأصغر (المعروف بابن خزاعيّة) بن أبي عبد الله أحمد، بن إبراهيم
الطباطبائيّ، بن اسماعيل الديباج، بن ابراهيم الغَمْر، بن الحسن المثنّى، بن الإمام أبي محمّد الحسن المجتبى، بن الإمام الهمام عليّ بن أبي طالب عليه و عليهم السلام.
و لأنَّ امّ إبراهيم الغَمْر هي فاطمة بنت الإمام الحسين سيّد الشهداء عليه السلام، لهذا فإنَّ السادة الطباطبائيّين الذين يرجعون إلى إبراهيم الطباطبائيّ الذي هو حفيد إبراهيم الغَمْر، جميعهم حسينيّون من جهة الامّ.
أمَّا المرحوم السيّد القاضي رضوان الله عليه، فهو ابن السيّد ميرزا حسين القاضي، بن الميرزا أحمد القاضي، بن الميرزا رحيم القاضي، بن الميرزا تقي القاضي؛ و هو الجدّ الثالث للمرحوم. و كذلك الجدّ الثالث للعلّامة الطباطبائيّ، و هكذا يعلم نسبه أيضاً.
في سنّ الواحد و العشرين صحّح المرحوم السيّد القاضي كتاب «الإرشاد» للشيخ المفيد (سنة ۱٣۰٦ ه) و كتب بخط محمّد بن حسين التبريزيّ في السابع عشر من شهر ربيع سنة ۱٣۰۸ ليطبع بعد ذلك. و قد كتب المرحوم في آخره سلسلة نسبه الشريف بنفس الطريقة التي أوردناها هنا، وصولًا إلى أمير المؤمنين عليه السلام.
و قد سألت استاذي المعظم العلّامة الطباطبائيّ عن تصحيح إرشاد المفيد بقلم المرحوم القاضي و الطبعة المصحّحة له و سلسلة نسبه فأيّد كلّ ذلك؛ و أضاف: أنَّ المرحوم الميرزا السيّد تقي الطباطبائيّ القاضي، هو جدّنا الثالث معاً. و من بعده نشترك في النسب الواحد.
كان آباء و أجداد العلّامة من العلماء الأعلام حتّى الجدّ الرابع عشر. و كان الجدّ السادس المعروف بالسيّد الميرزا محمّد عليّ القاضي قاضي القضاة في منطقة في آذربيجان، و قد وَسِعَ علمه و فقهه و قضاؤه كافّة
المنطقة؛ و على هذا الأساس لقّب بالقاضي، و انتقل هذا اللقب إلى أولاده من بعده.
لقد فقد العلّامة الطباطبائيّ امّه في السنة الخامسة من عمره، و لم يصل إلى السنة التاسعة حتّى فقد قد أباه أيضاً؛ و لم يكن له منهما إلّا أخ واحد هو السيّد محمّد حسن.
و حفاظاً على حياتهما من التداعي، تابع وصيّهما رعايتهما كسابق الحال؛ و استخدم لأجل ذلك خادماً و خادمة۱، و أشرفا بشكل مستمرّ على امورهما بدقّة. حتّى كبرا و أنهيا دراستهما الابتدائيّة و تابها دراسة المقدّمات في تبريز؛٢ و حصل كلّ واحد منهما على قدرة فائقة و فنّ رائق في الخطّ.
كان المرحوم الاستاذ يقول: كنت أخرج في أغلب الأيّام أنا و أخي من تبريز إلى سفوح الجبال و التلال الخضراء، لنتسلّى بكتابة الخطّ من الصباح إلى الغروب، و من بعدها هاجرنا سويّاً إلى النجف الأشرف.
في محامد و مكارم العلّامة الطباطبائي و أخيه
و في جميع المراحل و طي المنازل العلميّة و العمليّة، لم يفارق أحدهما الآخر، و بقيا معاً رفيقين شفيقين في السرّاء و الضرّاء، كأنّهما حقّاً روح واحدة في جسدين.
في محامد السيد الالهي أخ العلّامة الطباطبائي و زوجته
كان آية الله الحاجّ السيّد محمّد حسن الطباطبائيّ يشبه أخاه من جميع الجوانب: في نهجه و مسلكه، و سعة صدره و علوّ همّته، و حياته العرفانيّة المليئة بالزهد الحقيقيّ، و البعد عن أبناء الزمان و أهل الدنيا مقرونة بالتفكّر و التأمّل، و الإدراك و البصيرة، و التعلّق بحضرة الأحديّة، و الانس و الأُلفة في زوايا الخلوات.
و من جهة أخرى فقد عُرف بقدرته الفكريّة الواسعة، و عشقه للشرع المطهّر و أهل بيت العصمة، و الإيثار و التجاوز و الصبر على نهجهم؛ و إعلاء كلمة الحقّ، و خدمة الفقراء و المستضعفين. كان انموذجاً بارزاً مشهوراً في أنحاء تبريز و آذربيجان؛ و كانت قداسته و طهارته موضع حديث الخاصّ و العامّ في تلك المنطقة.
و حقّاً، ما أجمل أن يقال بشأن هذين الأخوين ما أنشده أبو العلاء المعرّيّ بحقّ السيّد المرتضى و أخيه الرضيّ، في قصيدته الطويلة في رثاء والدهما:
أبْقَيْتَ فِينا كَوْكَبَين سَنَاهُمَا | *** | في الصُّبْحِ وَ الظَّلماءِ لَيْسَ بِخَافِ |
مُتَأنِّقَين وَ في المكَارِمِ أرْتَعَا | *** | مُتَألِّقَين بِسُؤْدَدٍ وَ عَفَافِ |
قَدَرَين في الإرْدَاءِ بَلْ مَطَرَين | *** | في الإجْدَاءِ بَلْ قَمَرَين في الإسْدَافِ |
رُزِقَا العَلَاءَ فَأهْلُ نَجْدٍ كُلما | *** | نَطَقَا الفَصَاحَةَ مِثْلُ أهْلِ دِيَافِ |
سَاوَى الرَّضِيّ المرْتَضَى وَ تَقَاسما | *** | خِطَطَ العُلَا بِتَنَاصُفٍ وَ تَصَافِ۱ |
و قد أمضى كلّ منهما عشرة سنوات في النجف الأشرف، منشغلين في تحصيل الكمال؛ و اشتركا معاً في الدروس الفقهيّة و الاصوليّة، و الفلسفيّة و العرفانيّة و الرياضيّة.
و بسبب ضيق المعيشة، و عدم وصول الراتب المقرّر من مزروعاتهما في تبريز اضطرّا للرجوع إلى إيران و الاشتغال بالزراعة و الفلاحة لمدّة عشر سنوات في قرية شادآباد التبريزيّة حتّى تحسّنت أوضاع الزراعة، فهاجر الاستاذ العلّامة إلى قم لحفظ عقائد الطلّاب من هجمات الحوادث، أمّا أخوه فقد اختار تبريز مسكناً له و انصرف إلى التدريس. و في حوزة تبريز قام آية الله الحاجّ السيّد محمّد حسن الإلهيّ بتدريس الفلسفة من «الشفاء» و «الأسفار» و سائر مؤلّفات الملّا صدرا، و في بعض الأحيان كان يأخذ بيد عاشقي طريق الله؛ و يقودهم إلى المنزل المقصود.
لقد كان بدوره إنساناً بعيداً كلّ البعد عن التكلّف، متواضعاً، و خلوقاً، تملأ قلبه الأسرار الإلهيّة، عالماً بالضمائر، و مربٍّ عظيم. كان استاذنا يمتدحه كثيراً، و يظهر تعلّقاً شديداً و حبّاً جمّاً له، و كان يقول: عند ما كنّا في النجف الأشرف حصلنا على نسخة خطّيّة لمنطق «الشفاء» لابن سينا لم تكن قد طبعت بعد، فنسخناها معاً.
و يقول: ألَّف أخي كتاباً حول تأثير الصوت و كيفيّة الأنغام و أثرها على الروح، و أثر المناغاة على الأطفال و حملهم على النوم، و بعض أسرار علم الموسيقى، و الروابط المعنويّة للروح مع الصوت و الحركة في الاذن، و كانت رسالة نفيسة بحقّ، لا يسبق لها مثيل في عالم اليوم، و بديعة في جميع الجهات، لكنّه خشي بعد إنهائها من أن تقع بيد غير أهلها و بيد حكّام الجور فيستغلّوها، و لهذا لجأ إلى إتلافها.
لم اوفّق لرؤيته، رغم أنّه سكن في قم لمدّة سنة تقريباً، و لكنَّ تلك الفترة كانت فترة إقامتي في النجف الأشرف لطلب العلم؛ و عند ما رجعت كان قد عاد إلى تبريز، و لم تمض بضع سنوات حتّى رحل إلى الرفيق الأعلى.
و قد شيّعت جنازته في قم حيث وُوري الثرى في جوار مرقد المعصومة المطهّر في المقبرة المعروفة ب «أبُو حُسَين» قرب الجسر الحديديّ المعروف بجسر «آهنچي» و قد ترك رحيله أثراً في نفس استاذنا و أدّى إلى نشوء أو اشتداد ضعف قلبه و أعصابه.
و السبب الآخر الذي ترك أثراً عميقاً في نفسه كان الذبحة القلبيّة التي أصابت زوجته و أودت بحياتها. و كانت محبّتها و مودّتها قد امتزجت فيه كما يذوب السكّر بالحليب. فالحياة السعيدة التي كانت مبنيّة على الصفاء و المحبّة و الوفاء قد تحطّمت، و كما هو ظاهر من جوابه على رسالة التعزية التي كتبها هذا الحقير؛ و مع أنّه كرّر الحمد للّه و للّه الحمد عدّة مرّات، فقد كتب يقول: لكن برحيلها شطر خطّ البطلان للحياة السعيدة و الهادئة التي عشت معها.
و هذه السيّدة المؤمنة هي أيضاً من عائلة السادة الأطهار، و من بنات أعمامه، و هي ابنة المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا مهدي التبريزيّ الذي
كان مع إخوته الخمسة: السيّد الميرزا محمّد آقا، و السيّد الحاجّ الميرزا على أصغر آقا، و السيّد الحاجّ الميرزا كاظم آقا (صهر مظفّر الدين شاه) و السيّد الحاجّ الميرزا رضا، و أخ آخر من العلماء و أبناء المرحوم آية الله الحاجّ الميرزا يوسف التبريزيّ.۱
و كان يقول: عيالي كانت سيّدة مؤمنة و عظيمة، و عند ما تشرّفت بزيارة النجف الأشرف لتحصيل العلم كانت برفقتي، و كنّا أيّام عاشوراء نذهب إلى كربلا للزيارة، و عند ما انتهت مدّة تحصيلي رجعنا إلى تبريز؛ ذات يوم كانت جالسة في البيت و مشغولة بزيارة عاشوراء و كما قالت:
أحسست فجأة أنَّ قلبي انكَسَرَ؛ و قلت لنفسي عشر سنوات كنّا إلى جانب المرقد المطهّر لحضرة الإمام أبي عبد الله الحسين في عاشوراء؛ و الآن لقد أصبحنا محرومين من هذا الفيض. و فجأة وجدت نفسي في الحرم المطهّر في زاويته مقابل الضريح المطهّر أقرأ الزيارة. و خصوصيّات الحرم كما هي؛ و لأنّه يوم عاشوراء، و الناس عادة تذهب لرؤية مواكب العزاء التي تقام مقابل الضريح و سائر الشهداء، كان بعض الأشخاص واقفون للزيارة مع بعض الخدم. و عند ما انتبهت، وجدت نفسي جالسة في البيت، أقرأ بقيّة الزيارة!
نعم، هذه السيّدة العظيمة مدفونة كذلك في جوار السيّدة المعصومة سلام الله عليها في مقبرة آية الله الحائريّ اليزيديّ في الجانب الأيسر من الجناح الملحق، في إحدى المواقع الخاصّة بالعوائل.
و كان استاذنا يزور هذه المخدّرة أوّلًا ثمّ أخاه ضمن زيارة أهل
القبور كلّ عصر خميس بدون انقطاع.
نظريّات الأستاذ العلّامة في الفلسفة
بدون الدخول في الأبحاث الفلسفيّة لا تُفهم الروايات الأصوليّة
النهج العلميّ: كان الاستاذ مفكّراً عميقاً؛ لم يكن ليمرّ على المطالب العلميّة بسهولة؛ فإذا لم يصل إلى عمق المطلب و يكشف جميع جوانبه لم يكن يرفع عنه أبداً.
و في العديد من المرّات عند ما كان يُسأل سؤالًا بسيطاً في مسألة فلسفيّة أو تفسيريّة أو روائيّة بحيث يمكن الإجابة عنها بعدّة كلمات مباشرة و ينهي الموضوع؛ كان يسكت و يتأمّل مليّاً ثمّ يبدأ بتقديم الاحتمالات و عرض جوانب القضيّة و ما قيل، فيكون ذلك عبارة عن درس تعليميّ.
لم يكن ليخرج عن دائرة البرهان في الأبحاث الفلسفيّة؛ و كان يفصّل جيّداً بين المغالطة و الجدال، و الخطابة و الشعر، و بين القياسات البرهانيّة، لا يرفع يده إلّا بعد انتهاء القضيّة بأوّليّاتها و نظائرها. و لم يخلط أبداً بين المسائل الفلسفيّة و المسائل الشهوديّة و العرفانيّة و الذوقيّة و لا يُدخل أيّة مسألة شهوديّة حين التدريس في المسائل الفلسفيّة، و بذلك كان يختلف عن صدر المتالهين و عن الحكيم السبزواريّ بشكل عامّ.
و كان يودّ كثيراً أن ينحصر البحث في كلّ فرع من العلوم حول مسائل ذلك العلم و عن موضوعاته و أحكامه؛ دون الخلط بين العلوم. و كان ينزعج كثيراً من الذين يمزجون الفلسفة بالتفسير و الأخبار؛ فإذا لم ينجحوا في البرهان و عجزوا عن الخروج من المسألة اعتمدوا على الروايات و التفسير في محاولة لإتمام برهانهم.
كان العلّامة يمجد ذكر المرحوم الملّا محسن الفيض القاسانيّ، و يقول عنه: إنَّه رجل جامع للعلوم، أو يندر أن نجد مثيلًا له في الجامعيّة داخل العالم الإسلاميّ؛ و مع ملاحظة أنّه كان يرد في كلّ علم بصورة
مستقلّة و لا يخلط بين أيّ واحد منها.
ففي تفاسيره «الصافي» و «الأصفي» و «المصفّي» التي تنحو نحواً تفسيريّاً روائيّاً، لم يدخل أبداً في المسائل الفلسفيّة و العرفانيّة و الشهوديّة. و الذي يطالع كتابه المسمى ب- «الوافي» في الأخبار، يراه واحداً من الأخباريّين الذين لم يدرسوا الفلسفة أبداً. و هكذا كان في كتبه العرفانيّة و الذوقيّة لا يميد عن هذا النهج أبداً؛ و لا يخرج عن الموضوع بتاتاً. هذا، رغم أنّه كان استاذاً في الفلسفة و أحد أبرز تلامذة صدر المتالهين.
كان استاذنا يجلّل ابن سينا و يعتبره أقوى من صدر المتالهين في فنّ البرهان و الاستدلال الفلسفي. و لكنّه كان معجباً جداً بصدر المتالهين و منهجه الفلسفي في هدم الفلسفة اليونانيّة، و الإتيان باسلوب جديد و حديث كأصالة الوجود و الوحدة و التشكيك في الوجود، و إيجاد مسائل جديدة كقضيّة إمكان الأشرف، و اتحاد العاقل و المعقول، و الحركة الجوهريّة، و الحدوث الزمانيّ للعالم على هذا الأصل، و قاعدة «بسيط الحقيقة كلّ الأشياء» و نظائرها.
كان العلّامة الطباطبائيّ يرى فلسفة صدر المتالهين أقرب للواقع. و كان يقدّر خدمته لعالم العلم و الفلسفة غاية التقدير، بسبب زيادة عدد المسائل الفلسفيّة. (فقد رفع عددها من مائتي إلى سبعمائة مسألة).
و كان يشيد بصدر المتالهين كثيراً، لأنّه لم يندفع نحو المدرسة المشّائيّة فقط؛ بل جمع بين الفلسفة الفكريّة الذهنيّة و الإشراق الباطنيّ و الشهود القلبيّ، و طبّقهما على الشرع الأنور.
و قد أثبت صدر المتالهين في كتبه «كالأسفار الأربعة» و «المبدأ» و «المعاد» و «العرشيّة» و العديد من الرسائل الاخرى عدم وجود الاختلاف بين الشرع (الذي يحكي عن الواقع) و بين المنهج الفكريّ، و الشهود
الوجدانيّ؛ و أنَّ هذه الينابيع الثلاثة تنبع من منبع واحد؛ و كلّ واحد يؤيّد الآخر و يعضده.
و كانت هذه أعظم خدمة قدّمها هذا الفيلسوف إلى عالم الوجدان و عالم الفلسفة و عالم الشرع. و لم يغلق باباً من أبواب الدخول أمام المؤهّلين لنيل الكمال، و قبول الفيوضات الربّانيّة، بل فتح أمامهم جميع السبل المؤدّية. و مع أنَّ أساس و جذور هذه النظريّة مشهودة في كلمات المعلم الثاني أبو نصر الفارابيّ، و ابن سينا، و شيخ الإشراق، و الخواجه نصير الدين الطوسيّ، و شمس الدين بن تُركة، و لكنّ الذي نجح في أداء هذا الأمر المهمّ بحيث أوصله المقصود إلى نهايته باسلوب بديع و طريقة رفيعة، هو هذا الفيلسوف صاحب القلب الحيّ و المتشرّع العظيم.۱
كان الاستاذ المرحوم يعتقد أنَّ صدر المتالهين قد أخرج الفلسفة من الضياع و الاندراس، و نفخ فيها روحاً جديدة؛ و لهذا يمكن عدّه محي الفلسفة الإسلاميّة.
و إذا تجاوزنا كلّ ما سبق فإنَّ استاذنا كان كثيراً ما يشيد بمقام الزهد و ترك الدنيا، و منهج التعلّق بالله، و تصفية الباطن، و الرياضات الشرعيّة، و العزلة التي كان ينهجها صدر المتالهين؛ و كان يمدح طريقته في تصفية السرّ و إيلاءه الاهتمام الأكبر لطهارة النفس في «كَهَك»٢ قم.
و كان يعتقد: أنَّ أغلب الإشكالات و التي كانت ترد على صدر المتألهين و فلسفته، تعود إلى عدم الفهم و عدم الوصول إلى إدراك لُب المسائل التي كان يطرحها. و مع أنّه كان يملك بعض التعليقات على بعض استدلالاته؛ و لكنّه بشكل عامّ كان يعتبره مجدّد الفلسفة الإسلاميّة، و أحد فلاسفة الطراز الأوّل في الإسلام كابن سينا و الفارابيّ و كان يعتبر الخواجة نصير الدين و بَهْمَنْيار و ابن رشد و ابن تُركة من فلاسفة الدرجة الثانية.
كان استاذنا يعتقد: بالوجود التشكيكيّ في أبحاث الوجود، و كان يؤمن بالوحدة التي ينادي بها العرفاء، و لا يراها منافية للتشكيك؛ بل هي في الدرجة العليا و المقام الأرفع من التشكيك عند العارف؛ لأنّه بوجود التشكيك يجد الوحدة.
و قد درّس في الحوزة العلميّة لمدينة قم عدّة دورات في الفلسفة سواء من «الأسفار» أم «الشفاء» حتّى عُدَّ الفيلسوف الأوحد في عالم الإسلام، و في السنوات الأخيرة قام بتدريس بعض الطلّاب الخواصّ دورة في مستوى بحث الخارج في الفلسفة، و كانت ثمرتها إعداد كتابي: «بداية الحكمة» و «نهاية الحكمة» اللذين طبعا و نشرا ليستفيد منهما الجميع.
و لم يكن الصديق و العدوّ ليختلف على أنّه الأخصّائيّ الوحيد في الفلسفة الشرقيّة في كلّ العالم.
و يقال: إنَّ أمريكا قد عرفته قبل ثلاثين سنة أفضل ممّا عرفه الإيرانيّون؛ و لأجل إحضاره إلى أمريكا لتدريس الفلسفة الشرقيّة، طلبت من شاه إيران الطاغوتيّ (محمّد رضا) ذلك، و قد طلب الشاه من حضرة آية الله العظمى البروجرديّ رضوان الله عليه أن يقنعه بذلك، فحدّثه به؛ و لكنَّ العلّامة لم يقبل.
و قد كان العلّامة، و خلافاً لاعتقاد الكُثُر الذين يرون أهمّية الاطّلاع
الشامل للطلّاب على أخبار و روايات الأئمّة الأطهار عليهم السلام في البداية قبل الدخول في الفلسفة، فقد كان يقول: إنَّ هذا الاعتقاد كمن يقول كَفَانَا كِتَابُ اللهِ. فرواياتنا مشحونة بالمسائل العقليّة العميقة و الدقيقة التي تستند إلى البرهان الفلسفي و العقليّ؛ و بدون معرفة الفلسفة و المنطق و إدراك طريق البرهان و القياس الذي ينمّي العقل، كيف يمكن للإنسان أن يلج هذا البحر العظيم للروايات؟ و كيف يصل إلى إليقين و الثبات في الامور العقائديّة بدون التقليد و الشكّ فيها؟ إنَّ الروايات و الأحاديث الواردة عن الأئمّة المعصومين لا تشبه الروايات الموجودة عند أهل السنّة، أو غيرهم من الفِرَق و المذاهب و الأديان، التي يمكن فهمها عند العامّة.
و لكنَّ الأئمّة عليهم السلام كان لديهم تلامذة مختلفون، و بيانات متفاوتة؛ فبعضها بسيط و قابل للفهم لدى العامّة؛ و أغلب ما ورد في اصول العقائد و مسائل التوحيد مشكلٌ و غامض، و كان مختصّاً بأصحابهم الذين كانوا من أهل من الاستدلال و المناظرة؛ و كان الأصحاب بعدها يدخلون مع الخصوم في الأبحاث على أساس ترتيب القياسات البرهانيّة. فكيف يمكن الوصول إلى إليقين بدون الاعتماد على العقل و المسائل العقليّة. و ترتيب القياسات الاقترانيّة و الاستثنائيّة؟
بحث العلّامة الطباطبائي في كون وحدة ذات الحقّ بالصِّرافة
و من باب المثال و النموذج نستحضر هنا أحد تلك الأبحاث المتعلّقة بتوحيد ذات الحقّ عزّ و جلّ:
إحدى المسائل الإسلاميّة المهمّة التي تميّز هذا الدين عن غيره من المذاهب و المدارس، هي مسألة التوحيد؛ التي هي في عين الواقعيّة، غامضة إلى الدرجة التي يصعب على سائر الامم و المدارس فهمها؛ مع أنَّ كلّ ما قالوه و كتبوه، و كلّ ما حقّقه مفكّروهم؛ يكشف الاعتراف الإجمالي بالتوحيد؛ فمع ذلك لم يخطُ الإلهيّون منهم و الدينيّون خطوة واحدة أبعد
من التوحيد العدديّ لذات الحضرة الأحديّة المقدّسة.
و هذه المسألة من أهمّ قضايا القرآن الكريم؛ بل هي اسُّ و أساس معارف القرآن و إحدى تجلّيات أصالته، و هي المبينة لجميع المعارف و الأخلاق و الأحكام الموجودة فيه. و على هذا الأصل قام التحدّي القرآنيّ لجميع الأديان و المذاهب، و الدعوة إلى البحث و المحاجّة في مسألة وحدة ذات الحقّ، و لم تكن هذه المواجهة مختصّة بالوثنيّين و الثنويّين و المشركين و المادّيّين و الطبيعيّين، بل شملت كلّ الأديان السماويّة التي تعرّضت للتحريف؛ و جعلت مسألة أصالة التوحيد تظهر بشكل محرّف و ممسوخ.
إن وحدة ذات الحقّ عزّ و جلّ ليست وحدة عدديّة، بل هي وحدة بالصرافة. فهو صرف الوجود و محضه؛ و مع تصوّر مثل هذه الوحدة لا يمكن تصوّر وجود آخر مماثل له.
و بالطبع فإنَّ الوجود الذي يكون صرفاً و محضاً، لا حدّ له و لا نهاية في الأزل و إلى الأبد، ذاتاً و صفة، شدّة و كثرة و سَعَة؛ بحيث إنّه لو فرض وجود آخر في أيّة مرحلة لن يكون داخلًا في ذلك الوجود الصرف، و بناء عليه لن يكون لغرض الغيريّة و البينونة و الاستقلال أيّ معنى؛ وَ كُلَّما فَرَضْتَهُ ثَانِيَاً عَادَ أوَّلًا، و لهذا يوجد رواية تقول: وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ، قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ.
إن هذه الحقيقة تظهر في جميع أنحاء القرآن الكريم بشكل واضح، و التعليم القرآنيّ ينفي جميع أقسام الوحدة العدديّة و الجنسيّة و النوعيّة عن الذات المقدّسة، و يحارب التثليث؛ و هو يبطل قول الذين آمنوا بالأقانيم التي هي عبارة عن الأب و الابن و الروح، و مرادهم منها الذات و العلم و الحياة. و هم يقولون بالتثليث في عين الوحدة؛ (مثل القول بالإنسان العالم و الحي؛ مع كونه إنساناً واحداً. فهو ثلاثة: ذات، و علم، و حياة الإنسان).
و يعتبر القرآن أنَّ هذه الوحدة لا تليق بذات الحقّ.
يبين القرآن الكريم وحدة الله تعالى التي لا يمكن معها فرض أيّ نوع من الكثرة سواء في الذات أو في الصفات، و كلّ ما يفرض من كثرة في هذا الباب هو عين الذات الواحدة؛ لأنَّ الله لا حدّ له، و ذاته عين صفاته؛ و كلّ صفة مفترضة، هي عين الصفة الاخرى؛ و هي بالنسبة له فرض اللامتناهية و غير محدودة و غير محصورة و غير متعينة.
فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، وَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يَصِفُونَ.
و لهذا السبب، نجد أنّه كلّما جاء ذكر قهّاريّة الله في القرآن الكريم فإنّنا نجد وصف الله قبلها بالوحدة؛ لأجل إيصال هذا المعنى و هو: أنَّ وحدته بحيث أنّه لا يوجد لأيّ إنسان مجال لافتراض وجود مماثل له؛ فكيف بالنسبة لخروجه عن دائرة الفرض و تحقّقه في عالم الوجود و الواقعيّة و الثبوت؟!
لاحظوا هذه الآيات:
أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ ، ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ.۱
فوصف الله بالوحدة القاهرة التي تقهر كلّ شريك مفترض؛ و لا يترك لأيّ معبود غير ذاته المقدّسة شيئاً سوى الاسم.
أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ.٢
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.٣
و لأنَّ ملكيّته المطلقة لا تدع مالكاً غيره إلّا أن يكون نفس هذا المالك و ما يملكه ملكاً مطبقاً للّه تعالى.
و عن هذه الوحدة لذات الأحديّة الأقدسيّة، فقد كشف الستار أمير المؤمنين في العديد من خطبه و كلماته، حيث تظهر هذه الوحدة بالصرافة بشكل مفصّل.
منها، خطبته الاولى في «نهج البلاغة»:
خطب أمير المؤمنين عن الوحدة بالصرافة لدى الحقّ سبحانه
أوَّلُ الدِّين مَعْرِفَتُهُ؛ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ التَّصْدِيقُ بِهِ؛ وَ كَمَالُ التَّصْدِيْقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ؛ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الإخْلَاصُ لَهُ؛ وَ كَمَالُ الإخْلَاصِ لَهُ نَفي الصِّفَاتِ عَنْهُ إلى آخر الخطبة.
و منها، الخطبة الثالثة و الستّون:
الحمْدُ لِلَّهِ الذي لم يَسْبِقْ لَهُ حَالٌ حَالًا فَيَكُونَ أوّلا قَبْلَ أنْ يَكُونَ آخِراً؛ وَ يَكُونَ ظَاهِراً قَبْلَ أنْ يَكُونَ بَاطِنَاً؛ كُلُّ مُسمى بِالْوَحْدَةِ غيرهُ قَلِيلٌ؛ وَ كُلُّ عَزِيزٍ غيرهُ ذَلِيلٌ إلى آخر الخطبة.
و منها، الخطبة الخمسون بعد المائة:
الحَمْدُ لِلَّهِ الدَّالِّ عَلَى وُجُودِهِ بِخَلْقِهِ؛ وَ بمُحْدَثِ خَلْقِهِ عَلَى أزَلِيَّتِهِ؛ وَ بِاشْتِبَاهِهِمْ عَلَى أنْ لَا شِبْهَ لَهُ؛ لَا يَسْتَلِمُهُ المشَاعِرُ؛ وَ لَا يَحْجُبُهُ السَّوَاتِرُ؛ لِافْتِرَاقِ الصَّانِعِ وَ المصْنُوعِ؛ وَ الحادِّ وَ المحدُودِ؛ وَ الرَّبِّ وَ المرْبُوبِ؛ الأحَدُ بِلَا تَأوِيلِ عَدَدٍ؛ وَ الخالِقِ لَا بمعْنَى حَرَكَةٍ وَ نَصَبٍ إلى آخر الخطبة.
و منها، الخطبة الحادية و الستّون بعد المائة:
الحمْدُ لِلَّهِ خَالِقِ العِبَادِ؛ وَ سَاطِحِ المهَادِ؛ وَ مُسِيلِ الوِهَادِ؛ وَ مُخْصِبِ النِّجَادِ؛ لَيْسَ لأوَّلِيَّتِهِ ابْتِداءٌ؛ وَ لَا لأزَلِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ؛ هُوَ الأوَّلُ لَم يَزَلْ؛ وَ البَاقِي بِلَا أجَلٍ؛ خَرَّتْ لَهُ الجبَاهُ؛ وَ وَحَّدَتْهُ الشِّفَاهُ إلى آخر الخطبة.
و منها، الخطبة الرابعة و الثمانون بعد المائة:
مَا وَحَّدَهُ مَنْ كَيَّفَهُ؛ وَ لَا حَقِيقَتَهُ أصَابَ مَنْ مَثَّلَهُ؛ وَ لَا إيَّاهُ عَنَى مَنْ شَبَّهَهُ؛ وَ لَا صَمَدَهُ مَنْ أشَارَ إليهِ وَ تَوَهَّمَهُ إلى آخر الخطبة.
و منها، خطبته عليه السلام في جواب «ذِعلب» الذي سأله: يَا أمِير المؤْمِنِين هَلْ رَأيْتَ رَبَّكَ؟
فقال عليه السلام: وَيْلَكَ يَا ذِعْلِبْ! لم أكُنْ لأعْبُدَ رَبّاً لم أرَهُ. و هي خطبة طويلة و حاوية لمطالب رفيعة في أمر التوحيد بالصرافة، و قد نقلها الصدوق في «التوحيد» بإسناده عنه عليه السلام.
و منها، خطبته عليه السلام التي وردت في كتاب «الاحتجاج» للطبرسيّ:دَلِيلُهُ آيَاتُهُ؛ وَ وُجُودُهُ إثبَاتُهُ؛ وَ مَعْرِفَتُهُ تَوْحِيدُهُ؛ وَ تَوْحِيدُهُ تميِيزُهُ مَنْ خَلْقِهِ؛ وَ حُكْمُ التميِيزِ بَينونَةُ صِفَةٍ لَا بَينونَةُ عُزْلَةٍ... إلى أن يقول: لَيْسَ بِإلَهِ مَنْ عُرِفَ بِنَفْسِهِ؛ هُوَ الدَّالُّ بِالدَّلِيلِ عَلَيْهِ؛ وَ المؤَدِّي بِالمعْرِفَةِ إليهِ.
و على كلّ حال، فقد أورد الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ هذه المطالب بالتفصيل في تفسير «الميزان» ج ٦، ص ٩٦ إلى ۱۰۸؛ ثمّ إنّه يقول في البحث التأريخيّ «القول بأنَّ للعالم صانعاً، ثمَّ القول بأنّه واحد، من أقدم المسائل الدائرة بين متفكّري هذا النوع تهديه إليه فطرته المركوزة فيه. حتّى أنَّ الوثنيّة المبنيّة على الإشراك، إذا أمعنّا في حقيقة معناها وجدناها مبنيّة على أساس توحيد الصانع و إثبات شفعاء عنده، ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى، و إن انحرفتْ بعدُ عن مجراها، و آل أمرها إلى إعطاء الاستقلال لآلهة دون الله. و الفطرة الداعية إلى توحيد الإله و إن كانت تدعو إلى إله واحد غير محدود العظمة و الكبرياء ذاتاً و صفة، غير أنَّ الفة الإنسان و انسه في ظرف حياته بالآحاد العدديّة من جانب، و بلاء الملّيّين بالوثنيّين و الثنويّين و غيرهم لنفي تعدّد الآلهة من جانب آخر، سجّل عدديّة الوحدة
و جعل حكم الفطرة المذكورة كالمغفول عنه.
و لذلك ترى المأثور من كلام الفلاسفة بالباحثين في مصر القديمه و إليونان و إسكندريّة و غيرهم ممّن بعدهم، يعطي الوحدة العدديّة، حتّى صرّح بها مثل الرئيس أبي على بن سينا في كتاب «الشفاء» و على هذا المجرى يجري كلام غيره ممّن بعده إلى حدود الألف من الهجرة النبويّة.
و أمّا أهل الكلام من الباحثين فاحتجاجاتهم على التوحيد لا تعطي أزيد من الوحدة العدديّة أيضاً، في عين أنَّ هذه الحجج مأخوذة من الكتاب العزيز عامّة؛ فهذا ما يتحصّل من كلمات أهل البحث في هذه المسألة.
فالذي بينه القرآن الكريم من معنى التوحيد أوّل خطوة خُطيت في تعليم هذه الحقيقة من المعرفة، غير أنَّ أهل التفسير و المتعاطين لعلوم القرآن من الصحابة و التابعين ثمّ الذين يلونهم أهملوا هذا البحث الشريف، فهذه جوامع الحديث و كتب التفسير المأثورة عنهم لا ترى فيها أثراً من هذه الحقيقة لا ببيان شارح، و لا بسلوك استدلالي.
و لم نجد ما يكشف عنها غطاءها إلّا ما ورد في كلام الإمام عليّ بن أبي طالب عليه أفضل السلام خاصّة، فإنَّ كلامه هو الفاتح لبابها، و الرافع لسترها و حجابها، على أهدى سبيل و أوضح طريق من البرهان، ثمّ ما وقع في كلام الفلاسفة الإسلاميّين بعد الألف الهجريّ۱، و قد صرّحوا بأنّهم إنَّما استفادوه من كلامه عليه السلام.
و هذا هو السرّ في اقتصارنا في البحث الروائيّ السابق على نقل نماذج
من غرر كلامه عليه السلام الرائق، لأنَّ السلوك في هذه المسألة و شرحها من مسلك الاحتجاج البرهانيّ لا يوجد في كلام غيره عليه السلام.
و لهذا بعينه تركنا عقد بحث فلسفي مستقلّ لهذه المسألة، فإنَّ البراهين الموردة في هذا الغرض مؤلّفة من هذه المقدّمات المبينة في كلامه لا تزيد على ما في كلامه بشيء، و جميعها مبنيّة على صرافة الوجود و أحديّة الذات جلّت عظمته».
ثمّ يقول العلّامة في التعليقة: «و للناقد البصير و المتدبّر المتعمّق أن يقضي عجباً من ما صدر من الهفوة من عدّة من العلماء الباحثين حيث ذكروا أنَّ هذه الخطب العلويّة الموضوعة في «نهج البلاغة» موضوعة دخيلة، و قد ذكر بعضهم أنّها من وضع الشريف الرضيّ رحمه الله، و قد تقدّم الكلام في أطراف هذه السقطة.
و ليت شعري كيف يسع للوضع و الدسّ أن يتسرّب إلى موقف علميّ دقيق لم تقوَ بالوقوف عليه أفهام العلماء حتّى بعد ما فتح عليه السلام بابه و رفع ستره قروناً متمادية، إلى أن وفّق لفهمه بعد ما سير في طريق الفكر المترقّي مسير ألف سنة، و لا أطاق حمله غيره من الصحابة و لا التابعون، بل كلام هؤلاء الرامين بالوضع ينادي بأعلى صوته إنّهم كانوا يظنّون أنَّ الحقائق القرآنيّة و الاصول العالية العلميّة ليست إلّا مفاهيم مبتذلة عامّيّة، و إنَّما تتفاضل باللفظ الفصيح و البيان البليغ».
و لقد أوردنا هذا المثال هنا ليتّضح أنَّ ما جاء في الخطب و الروايات لم يكن مطالب مبتذلة عامّيّة، بل إنَّ الكثير منها يحتاج إلى فهم متين و برهان قويم. و على هذا الأساس فقد كان الاستاذ العلّامة الطباطبائيّ يعدّ أمر تقوية الفكر و تصحيح القياس، و بشكل عامّ تصحيح المنطق و الفلسفة، ضروريّاً، و يعتبر أنّ الفلسفة هي المفتاح و الدليل الوحيد في هذا الباب.
و بغضّ النظر عن ذلك، فإنَّ حجّيّة الروايات بالنسبة لنا قائمة بواسطة البرهان العقليّ، و سيكون الرجوع إلى الأخبار و التعبّد بها و إسقاط الأدلّة العقليّة موجباً للتناقض و الخلف، و هو محال.
و بعبارة أبسط، فإنَّ الأخبار الواردة ليس لها حجّيّة قبل الرجوع إلى العقل و ترتيب القياس؛ أمّا بعد الرجوع للعقل، فلا فرق من ثمّ بين هذا القياس و سائر الأدلّة العقليّة، و سيكون الالتزام آنذاك بمفاد الأخبار و نفي الأدلّة العقليّة موجباً للتناقض و لإبطال المقدّمة بالنتيجة المستحصلة منها.
لقد كان العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله تربته يعظّم كثيراً كتاب «بحار الأنوار» لجدّنا۱ في جميع الأخبار، و بالأخصّ في كيفيّة تفصيل فصوله و تبويب أبوابه على المنهج المطلوب، ففي كلّ كتاب أحصى الأبواب بالترتيب، و جعل في كلّ باب بالترتيب الآيات المناسبة من سورة الحمد حتّى آخر القرآن، ثمّ قام بتفسير الآيات بشكل إجمالي و تابع للترتيب المذكور، ثمّ بين بعد ذلك جميع الروايات التي وردت عن المعصومين عليهم السلام في الأبواب المذكورة بالترتيب أيضاً؛ فإذا كانت الرواية أو الباب يحتاج إلى شرح أو بيان، كان يقوم بذلك في ذيل الرواية أو آخر
الباب.
تعليقة العلّامة الطباطبائي على «بحار الانوار»
و كان يعتقد: أنَّ العلّامة المجلسيّ أحد حماة المذهب، و مُحييِ آثار و روايات الأئمّة عليهم السلام، و أنَّ مقامه العلميّ، و سعة اطّلاعه، و طول باعه تستحقّ التقدير، و أنَّ مدى علم هذا المجتهد الخبير تتّضح في كيفيّة دخوله في البحث و في الجرح و التعديل للمطالب الموجودة في «مرآة العقول» و مدى الخدمات الفائقة التي قدّمها.
و لكنّه مع اجتهاده و بصيرته في فنّ الروايات و الأحاديث، لم يكن مطّلعاً على المسائل الفلسفيّة العميقة، و لم يشابه الشيخ المفيد، و السيّد المرتضى، و الخواجة نصير الدين الطوسيّ، و العلّامة الحلّيّ الذين يعدون من متكلمي الشيعة، و من حماة المذهب.
و لهذا وقع في العديد من الاشتباهات في بعض البيانات التي قدّمها، ممّا أدّى إلى هبوط مستوى هذه الموسوعة. و على هذا الأصل كان من المقرّر أن يطبع «بحار الأنوار» في طبعة جديدة تحت إشرافه و تعليقاته في الأمكنة المناسبة؛ حتّى يحتفظ هذا الكتاب الثمين على مستواه العلميّ.
و بالفعل قام بهذا العمل، و كتب تعليقاته إلى الجزء السادس من الطبعة الجديدة؛ و لكن نظراً لرفضه تعليقة أو تعليقتين من رأي العلّامة المجلسيّ بشكل صريح، فقد كانت هناك مجموعة لم تكن لترضى بأن تصبح نظريّات المجلسيّ موضعاً للانتقاد إلى هذا الحدّ؛ فقام الناشر، بناء على تدخّلات خارجيّة، و طلب منه أن يخفّف الكلام في بعض الأماكن؛ و يغضّ النظر عن بعضها الآخر.
فلم يقبل العلّامة؛ و قال: في مدرسة التشيّع أنَّ قدر و منزلة الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السلام أعظم من العلّامة المجلسيّ؛ و حين
يدور الأمر لأجل شروحات العلامة المجلسي أن نقبل بالإشكالات العقلية و العلمية الواردة في بيانات الأئمة المعصومين عليهم السلام، لست مستعداً أبداً أن نستبدل الأئمّة المعصومين عليهم السلام بالعلّامة المجلسيّ. و ما أراه ضروريّاً في مكانه فسوف أكتبه، و لن أرفع كلمة واحدة. و لهذا طبعت بقيّة أجزاء البحار بدون تعليقات العلّامة الطباطبائيّ؛ و بقي هذا الأثر النفيس بدونها.۱
و نحن هنا نذكر التعليقتين اللتين أدتا إلى إيقاف طبع التعليقات الأخرى، و نترك الحكم للقرّاء و أهل التحقيق:
الاولى: تعليقته في الصفحة ۱۰۰ من الجزء الأوّل على المعاني المختلفة التي قدّمها العلّامة المجلسيّ للعقل وفقاً لرأيه. فردّ العلّامة الطباطبائيّ هذه المعاني، و قال: إنَّ ما ذكره رحمه الله من معان مختلفة للعقل بادّعاء أنّها في الاصطلاح كذلك: لا يخفي على الشخص الخبير و المطّلع في هذه الأبحاث، أنّها لا تنطبق على مصطلحات أهل البحث،
و لا تنطبق على ما يذكره عامّة الناس، من معان للعقل أيضاً.
فالذي أوقعه فيما وقع فيه أمران:
الأول: سوء الظنّ بالباحثين في المعارف العقليّة بطريق الاستدلالات العقليّة و البراهين الفلسفيّة.
الثاني: الاسلوب الذي استخدمه في فهم معاني الأخبار؛ حيث أخذ جميع الروايات في مرتبة واحدة من ناحية البيان؛ و هي المرتبة التي تعادل فهم عامّة الناس؛ بادّعاء أنّ تلك المرتبة هي نفس المنزلة التي كانت فيها الأخبار جواباً لأسئلة الناس من قِبل الأئمّة عليهم السلام. في حين أنّنا نعلم أنَّ في الأخبار مطالباً عالية و نفيسة تشير إلى حقائق لا يسعها إلّا الأفهام العالية و العقول الخالصة.
و عند ما نجعل الأخبار في مستوى واحد، فإنَّ هذا يؤدّي إلى اختلاط المعارف العالية التي أفاض بها الأئمّة عليهم السلام، و فساد البيانات الرفيعة بسبب تنزّلها إلى غير منزلتها؛ و زوال قيمة البيانات البسيطة أيضاً بسبب عدم التعيّن و التمييز.
لم يكن جميع السائلين من رواة الأحاديث في مستوى واحد من الفهم و الإدراك؛ و لم تكن كلّ الحقائق في مستوى واحد من حيث الدقّة و العمق. و كتاب الله و سنّة رسوله مليئان بهذا النوع من المعارف الدينيّة التي هي ذات مراتب مختلفة، لكلّ مرتبة أفراد خاصّون. و إنَّ إلغاء المراتب أو إهمالها يؤدّي إلى زوال المعارف الحقيقيّة.
التعليقة الثانية: في الصفحة ۱۰٤ من الجزء الأوّل، حيث ينفي العلّامة المجلسيّ مبدأ العقول المجرّدة بقوله: إنَّ تجرّد العقول مستحيل عقلًا؛ فالتجرّد مختصّ بذات الواجب، معتبراً أنَّ كلام الفلاسفة فضولٌ؛ ثمّ يقول: بناء على ما ذكرنا، يمكن أن يكون المراد من العقل نور النبيّ الذي
تتشعّب منه أنوار الأئمّة عليهم السلام. فيقول العلّامة الطباطبائيّ: إنَّ رجوع الفلاسفة إلى الأدلّة العقليّة ليس فضولًا؛ بل إنَّهم قد أثبتوا أنَّ حجّيّة الظواهر الدينيّة متوقّفة على البرهان الذي يقيمه العقل؛ هذا أوّلًا. و العقلُ في استناده و اعتماده على المقدّمات البرهانيّة لا يفرّق بين مقدّمة و أخرى. فإذا اقيم البرهان على أمر ما، فإنَّ العقل مضطرّ لقبوله.
ثانياً: أنَّ الظواهر الدينيّة تتوقّف على الموجود في الألفاظ، و هذا الظهور دليل ظنّيّ؛ و الظنّ لا يمكنه مقاومة العلم و اليقين الذي يحصل من خلال إقامة البرهان.
و أمّا قضيّة التمسّك بالبرهان العقليّ في مسائل اصول الدين، ثمّ عزل العقل في الأخبار الآحاديّة التي وردت في المعارف العقليّة، و عدم التقيّد به، فليس إلّا من قبيل بطلان المقدّمة بسبب النتيجة التي تؤخذ من تلك المقدّمة؛ و هذا تناقض صريح؛ و الله الهادي.
فإذا كانت هذه الظواهر تريد إبطال حكم العقل، فقد أبطلت مفاد حكمها بأنّ حجّيّتها تستند إلى حكم العقل.
فالطريق الثابتة و الاحتياط الدينيّ للذين لم يتقدّموا بمتانة في الأبحاث العقليّة العميقة، هو العمل بظاهر الكتاب و الأخبار المستفيضة؛ و إرجاع العلم بواقع الأمر إلى الله؛ و اجتناب الدخول في الأبحاث العقليّة العميقة نفياً و إثباتاً.
أمّا إثباتاً، فلأنّ إثباته مظنّة الضلال و الضياع؛ و في ذلك، الهلاك الدائميّ.
أمّا نفياً فلأنّ فيه منقصة القول بدون علم، و نصر الدين بما لا يرضاه الله، و الابتلاء بتناقض الآراء؛ كما وقع المؤلّف رحمة الله عليه في ذلك التناقض؛ لأنّه لم يورد في أبحاث المبدأ و المعاد أيّ إشكال على آراء أهل
الرأي إلّا و قد وقع فيه حيث قَبِل ذلك الإشكال أو ما هو أشدّ منه؛ و سوف نشير إلى ذلك في مكانه المناسب.
و أوّلها ما قاله طعناً على الحكماء الالهيّين في اعتقادهم بالمجرّدات العقليّة؛ و هناك أثبت جميع آثار التجرّد لأنوار النبيّ و الأئمّة عليهم السلام؛ و لم يلتفت إلى أنَّ تحقّق الموجود المجرّد في الخارج لغير الله لو كان محالًا، لما اختلف هذه الحكم بتغيير الاسم؛ و إطلاق النُّور و الطَّينة و نحوهما على العقل المجرّد لا يغير شيئاً في الاستحالة انتهى كلام الاستاذ.
إن الأشخاص المطّلعين على القياس و البرهان يعلمون أنَّ كلّ جملة مما قاله هذا الحكيم الالهيّ في هذا البيان، هي برهان و استدلال؛ و هناك يظهر سرّ و معنى كلامه حيث يقول: إنَّ الرجوع إلى ظواهر الروايات قبل الرجوع إلى الأدلّة العقليّة هو في حكم كَفَانَا كِتَابُ اللهِ.
إن الاجتهاد في مذهب الشيعة أدّى إلى حفظ الدين من الاندراس و الجمود و عدم التعبّد بالآراء التي اعتبرت في وقت ما عند البعض من الاصول المسلّمة، و في زمان آخر كان بطلانها من البديهيّات.
فقد كان التعبّد بغير قول الله و رسوله و المعصومين عليهم السلام في الأحكام الفرعيّة سبباً لسدّ باب الاجتهاد و الوقوع في المهالك و المزلّات؛ و هذا ما حصل بالنسبة للعامّة. أمّا في الأحكام الاصوليّة، فإنَّ التعبّد و التقليد لا معنى له بتاتاً؛ بل إنَّ العقل و النقل يحكمان بلزوم الرجوع إلى الأدلّة العقليّة، و كان العلّامة رحمة الله عليه ينقل رأي الإجماع في هذه المسألة.
اهتمام العلّامة الطباطبائي بالجمع بين فلسفة الشرق و الغرب
و في قم، بعد تدريس دورة فلسفيّة في «الأسفار الأربعة» للمرحوم صدر المتالهين قدّس سرّه، عزم العلّامة الطباطبائيّ على القيام بالبحث المقارن بين فلسفة الشرق و الغرب. و كان يعتقد أنَّ البحث فيما لو اقيم على أساس البرهان و الأشكال الصحيحة للقياسات فمن المستحيل أن
نخرج بنتيجتين مختلفتين، و في أيّة مدرسة كنّا. و لهذا يجب أن نتتبّع سرّ الاختلاف بين الفلسفتين، و بيان نقاط الضعف فيهما.
و كان يعتقد في الأصل: بأنَّ العلوم التجريبيّة و إن كان تحقّقها في الخارج على أساس التجربة واضحاً؛ لكن ينبغي أن ندرك جذور و أصل نتيجة هذه التجربة، و نبحث في نشوئها و علّتها.
فمثلًا، ينبغي أن ننظر ما هي العلّة الموجودة في الحرارة التي يمكنها أن توجد الطاقة الحركيّة «سينتيك» و تحرّك الأجهزة الميكانيكيّة؛ و بالعكس، ما هي العلّة الموجودة في الطاقة الحركيّة «سينتيك» التي يمكن أن تكون مصدراً للحرارة و الطاقة الحراريّة؟ و أيضاً ما هو السبب و العلّة الموجودة في الطاقة الكهربائيّة التي يمكن تحويلها إلى عمل يستفاد منه؛ كتحريك عجلات الآلات. و بالعكس، ما هو السبب الموجود في الطاقة الميكانيكيّة، الذي بالاستفادة منه، يمكن الحصول على الطاقة الكهربائيّة من خلال الموَلِّد؟
و أخيراً، ينبغي أن يتّضح السبب و الأساس الذي تقوم عليه جميع هذه التغيرات و التحوّلات في الطاقة، و التي تجري على أساس معادلات دقيقة، فيتحوّل مقدار منها إلى مقدار معيّن من الطاقة. و ما هو الرابط و الجامع الموجود بينهما؟ و ينبغي أن يتّضح أيضاً أنَّ ثبوت المسائل التجريبيّة يكون على أساس التجربة؛ و هو لا يتنافي مع المسائل الفلسفيّة و الأدلّة العقليّة التي تقوم على أساس التفكير العقليّ و البرهانيّ؛ فكلّ واحد منهما يطوي طريقه و لا يتعارض مع الآخر و لا يزاحمه.
و لهذا المقصد اقيمت بعض المجالس في ليالي العطلة من الخميس و الجمعة كان يحضرها بعض الطلّاب الذين لهم اطّلاع على العلوم الحديثة؛ و قد أمرني أن أحضر أيضاً.
و قد طالت هذه المجالس لمدّة و كانت نتيجة البحث عبارة عن سلسلة من الدروس، تقرّر أن تطبع تحت عنوان «الميتافيزيقيا» (أي علوم ماوراء الطبيعة) و لكنّني تشرّفت بالسفر حينها إلى النجف الأشرف و استمرّت تلك المجالس، و التحق بها بعض الأصدقاء العلماء و الموقّرين كالمرحوم الحاجّ الشيخ مرتضى المطهّريّ رحمة الله عليه؛ و كانت النتيجة إعداد كتاب جليل النفع، يحلّ معظم المسائل الخلافيّة، و يواجه المغالطات الكثيرة التي يطرحها المثقّفون المتغرّبون، تحت عنوان «اصول فلسفه و روش رئاليسم» (اصول الفلسفة و المنهج الواقعيّ) و قد طبع منه الجزء الأوّل و الثاني في ذلك الحين مع تعليقات مفيدة و قيّمة للشهيد المغفور له، و قد أرسل لي حضرة الاستاذ المؤلّف نسخة منه إلى النجف الأشرف.
ثمّ طبع بعد ذلك تدريجيّاً الجزء الثالث و الخامس، و كان المرحوم الشهيد آية الله المطهّريّ يقول: لقد جمعت تعليقات الجزء الرابع أيضاً و أنتظر الفرصة المناسبة لترتيبها و تنظيمها حتّى تصبح بمتناول الطالبين. رحمة الله على استاذنا الأكرم و على صديقنا المكرّم و على مَن غَبَر منهم من إخواننا الماضين بمحمّد و اله الطاهرين.
***
المنهج التفسيريّ عند العلّامة الطباطبائيّ
أمّا المنهج التفسيريّ عند العلّامة الطباطبائيّ قدّس سرّه، لقد كان طبقاً للُاسلوب التفسيريّ لُاستاذه في العرفان و العلوم الباطنيّة الإلهيّة: المرحوم آية الله الحاجّ ميرزا على القاضي، و هو تفسير الآيات بالآيات؛ أي استنباط مفهوم و مغزى آية القرآن من القرآن نفسه. و قد كانت هذه طريقة المرحوم آية الله القاضي، فقد كتب تفسيراً من بداية القرآن إلى سورة الأنعام، و كان يُعَلّم تلامذته الكتاب الإلهيّ على هذا النحو. و كان استاذنا المرحوم سماحة السيّد العلّامة يقول كراراً: «إنَّ هذا الاسلوب
التفسيريّ الذي لدينا هو من المرحوم القاضي».
تفسير «الميزان» و كيفيّته تدوينه
و عند ما كان في تبريز، ألّف العلّامة تفسيراً مختصراً للقرآن الكريم من أوّل آياته حتّى سورة الأعراف، و كان يعتمد في تدريس الطلاب على ذلك التفسير. و فيما بعد تطلّب الأمر إعداد تفسير مفصّل و شامل لكلّ حاجات العصر، يراعي فيه الجوانب التأريخيّة و الفلسفيّة و الأخلاقيّة، و تعالج فيه الأبحاث الاجتماعيّة و الروائيّة باسلوب حديث.
و لقد وفّقه الله تعالى، فألّف تفسيراً بعنوان «الميزان في تفسير القرآن» في عشرين مجلّداً، بدأ به حوالى سنة ۱٣۷٤ و ختمه في ليلة القدر (في الثالث و العشرين) من شهر رمضان المبارك سنة ۱٣٩٢ ه، و كان مع التأليف، يدرّس مطالبه لطلّاب الحوزة العلميّة في قم، و قد استفاد من محضره المبارك العديد من الفضلاء و الطلّاب.
مزايا تفسير «الميزان» على سائر التفاسير و انتشاره في العالم
و أوّل و أهمّ مزيّة من مزاياه، هي تفسير الآيات بالآيات؛ و هو تفسير القرآن بالقرآن؛ فطبقاً للروايات الموجودة عندنا و التي تقول: إنَّ القُرْآنَ يُفَسِّرُ بَعْضُهُ بَعْضَاً.۱ فإنّ آيات القرآن قد تنزّلت من مبدأ واحد، و هو كلام واحد لا يؤثّر تقدّم بعض الآيات أو لحوقها على البعض الآخر في المعنى الكلّيّ المستفاد من الآية، و بناءً عليه فإنَّ جميع القرآن بحكم كلام واحد، و خطاب واحد، قد جاء من متكلم واحد؛ و كلّ جملة فيه يمكن أن تكون قرينة و مفسّرة لكلّ الجمل الاخرى. فلو رأينا خفاء في معاني بعض الآيات، لأمكن إزالته من خلال الملاحظة و التطبيق و المقارنة مع الآيات الاخرى الواردة في مثل موضوع الآيات أو ما يشابهه.
و هذا التفسير مبني على تفسير الآيات بالآيات، و تحصيل معاني القرآن من القرآن، و على هذا الأساس تقاس المعاني المستفادة من الخارج و يعلم مدى موافقتها أو مخالفتها للقرآن؛ و لا تجعل المعاني الموجودة في الذهن أصلًا و محوراً تطبّق عليه الآيات القرآنيّة؛ أو بتعبير آخر، نصب القرآن في قالبها. كما هو حاصل في أكثر التفاسير؛ و هي في الحقيقة ليست تفسيراً، و إنَّما هي تطبيق للمعاني الذهنيّة و المعلومات الخارجيّة، أو العلوم الفلسفيّة و العمليّة و الاجتماعيّة و التأريخيّة و الروائيّة على القرآن الكريم.
و من الواضح أنَّ الآيات ستفقد بهذا النهج التطبيقيّ مفهومها و محتواها و اعتبارها بشكل تامّ؛ لأنَّ كلّ واحد من أصحاب العلوم بدءاً من النحويّ و وصولًا إلى الفيلسوف، و حتّى أصحاب العلوم التجريبيّة، و الطبيعيّة كالأطبّاء و علماء الفلك و النجوم، يريدون تحميل علومهم على القرآن و اكتساب سنداً و شاهداً لهم منه، و ما أكثر التفاسير التي كتبت على هذا النحو، حتّى الموضوعيّة منها.
إن مثل هذا العمل، في الحقيقة، يمسخ القرآن. و بعبارة أخرى يقتل القرآن و يميته؛ و يفقده قيمته و اعتباره.
فينبغي أخذ معاني القرآن من نفس القرآن؛ و في «الميزان» رُوعي هذا المنهج على النحو الأكمل.
و من خصائص هذا التفسير أيضاً، رعاية المعاني الكلّيّة للألفاظ الموضوعة؛ و ليس خصوص المعاني الجزئيّة الطبيعيّة و المادّيّة المأنوسة لذهن الإنسان. و أيضاً تحديد موارد الجَرْي و الانطباق و فصلها عن متن المدلول المطابقيّ للآيات.
و منها أيضاً، معالجة الأبحاث المختلفة. و إضافة إلى البيانات
القرآنيّة، روعيت الأبحاث الروائيّة، الاجتماعيّة، التأريخيّة، الفلسفيّة و العلميّة، كلّ واحد على حدة بدون الخلط أو المزج بين الموضوعات.
و على هذا الأساس، عولجت المسائل المتعلّقة بعالم اليوم و آراؤه و أفكاره و المدارس و المذاهب الموجودة بشكل كافٍ و مستوفٍ، و طبّقت على قانون الإسلام المقدّس، و حُدّدت مواقع الجرح و التصويب و الردّ و الإيراد أو النفي و الإثبات. و اجيب بأفضل نحو على الإشكالات التي اوردت على الشريعة الإسلاميّة المقدّسة من المدارس الشرقيّة و الغربيّة و الإلحاديّة و الكافرة، و سرت إلى العالم الإسلاميّ، مبيناً نقاط الضعف و الإبهام و المغالطة. و على أساس الآيات الكريمة:
إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ ، وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ.۱
وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ ، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ.٢
و نظائرها التي هي محور الحقّ و ميزان الأصالة و الواقعيّة؛ و إنَّما تقاس بها بقيّة الآراء و المذاهب، و عليه تظهر موارد الخطأ و المغالطات الفكريّة في مرامهم.
و من خصائص هذا التفسير أيضاً، حمايته لمذهب التشيّع؛ و قد أدّى هذا الدور المهمّ من خلال الأبحاث الدقيقة و العميقة و إظهار مواضع الآيات، بلغة و بيان بليغ دون إثارة الحميّة الجاهليّة، و نيران العصبيّة؛ و بالاعتماد على نفس الآيات القرآنيّة، و تفسيرها بنحو لا يقبل الردّ و الإنكار؛ و بواسطة الروايات التي نقلها العامّة أنفسهم، كما جاء في تفسير
«الدرّ المنثور» و غيره، و قد أجلى المطالب في كلّ موضوع من المواضيع الولائيّة، و أثبت الولاية العامّة و الكلّيّة لأمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب و الأئمّة الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.
و بالنسبة للمفسّرين المصريّين المعاصرين من العامّة، أورد مطالبهم بدون ذكر اسمائهم، و أشار إلى نقاط الضعف و التزييف فيها؛ و برهن على مواقع الخطأ و الشبهات.
و في المسائل الأخلاقيّة تحدّث بشكل مبسوط مفصّل، و في المسائل العرفانيّة بصورة دقيقة و لطيفة و مختصرة، و في جملة قصيرة كان يظهر عالماً من العلم. و يدعو الإنسان إلى لقاء الله و الوطن الأصليّ.
و في هذا التفسير، جمع بين المعاني الظاهريّة و الباطنيّة للقرآن، و بين العقل و النقل، و أعطى كلّ شيء حظّه.
إن هذا التفسير من الروعة و الجمال و البهاء بقدر يمكن معه تعريفه للعالم كسند لعقائد الإسلام و الشيعة، و يمكن إرساله إلى جميع المدارس و المذاهب؛ و دعوتهم على أساسه إلى دين الإسلام و مذهب التشيّع. كما أنّه قد قام بنفسه بإنجاز هذا الأمر الهامّ، و انتشر «الميزان» في العالم و وصل إلى قلب فرنسا و أمريكا، و ارسلت الأعداد الكثيرة منه إلى البلاد الإسلاميّة، و اجريت التحقيقات حوله، و أدّى إلى فخر الشيعة و مباهاتهم و رفعتهم في المحافل العلميّة.۱
...۱«الميزان» هو التفسير الأوحديّ الذي يبين النكات الدقيقة و الحسّاسة، و يقف مقابل مغالطات المعاندين، و يتميّز بالجامعيّة. و حقّاً يمكن القول: إنَّه لم يؤلّف تفسير مثله صدر الإسلام حتّى اليوم. و كان استاذنا جامع العلوم و وارث زُبُرِ العلماء الحقّ، و قد حاز على مقام الجامعيّة في مجال هذه الفنون و العلوم.
فَلِلَّهِ دَرُّهُ وَ عَلَيْهِ أجْرُهُ. فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ.
امشب كه نُقل مجلس ما گفتگوى اوست | *** | ساقى بيار باده كه امشب شبى نكوست |
مطرب باز ساز كه از پنجة قضا | *** | بر ما خوش است هر چه كه تقدير كرده دوست |
شادى و غُصّه هر دو بَرِ اهل دل يكيست | *** | چون در امور هر چه بما مىرسد ز اوست۱ |
زاهد حديث حورى و غلمان چه مىكنى | *** | آنجا كه عقل محوِ تماشاى روى اوست |
فرق ميان ما و تو اى شيخ اين بس است | *** | ما در خيال مغز و توئى در هواى پوست |
گفتم بدل كه سِرّ غنچه لعل لبش بگو | *** | گفتا خموش باش كه اين نكته تو بتوست |
سرو چمن مگر قد بالاش ديده است | *** | كو مانده پاى در گل و بى بَرْ كنار جوست |
ذوقى بجرم آنكه بُتا آشناى توست | *** | هر دم بسنگ طعنة أغيار روبروست۱ |
و رغم أنَّ هذا الحقير قد طالع أكثر من ثلاثين من التفاسير المهمّة للشيعة و السنّة، لكنّي لم أرَ مثل «الميزان» في الروعة و البهجة و الجامعيّة،
و كأنّه قد عزل كلّ التفاسير الأخرى و بقي وحده. و في الحقيقة، لست الوحيد المتفرّد، بل هناك العديد من العلماء الأعلام و المفكّرين العظام و أهل البحث و التحقيق الذين عبّروا عنها أو أشاروا إليها.
و هذا صديقنا الصالح و زميلنا في الدراسة الجليل الحاجّ السيّد موسى الصدر خلّصه الله من أيدي الفجرة و أطال الله بقاءه، ينقل عن العالم الوحيد و الكاتب المشهور و المتضلّع الخبير الشيخ محمّد جواد مغنيّة اللبنانيّ أنّه كان يقول: منذ ذلك الوقت الذي حصلت على «الميزان» تعطّلت مكتبتي، و انهمكت في مطالعة «الميزان» فقط.۱
و كان له الذي يستحقّه في الحوزات العلميّة؛ و لم تُدرك قيمته الواقعيّة. فإذا دُرّس هذا التفسير في الحوزات العلميّة و أُجريت التحقيقات و الأبحاث و التحليلات حول محتواه و مطالبه و استمرّ العمل بهذه الطريقة، فانّ قيمته سوف تعرف بعد مرور مائتي سنة.
و قلتُ في مرّة أخرى: حين أطالع هذا التفسير، في بعض الأوقات و أشاهد كيف تربطون الآيات ببعضها و كيف توازنون بين سلاسلها و تخرجون معانيها عن طريق التطبيق، لا أجد إلّا أن أقول إنّ قلم الوحي و الإلهام الإلهيّ قد جريا على يديك.
فهزّ رأسه و قال: انّ هذا من حُسن نظركم فقط، فأنا لم أفعل شيئاً!۱
و من مؤلّفات أيضاً:
كتاب «التوحيد»، الذي يحتوي على ثلاث رسائل: ۱ «رساله توحيد» ٢ «رساله في اسماء الله سبحانه» ٣ «رسالة في أفعال الله سبحانه». و قد أُضيف إلى هذا الكتاب «الوسائط» و كتاب «الإنسان» الذي يحتوي على ثلاث رسائل هي: ۱ «الإنسان قبل الدنيا». ٢ «الإنسان في الدنيا» ٣ «الإنسان بعد الدنيا»، و طبع في مجلّد واحد تحت عنوان «هفت رساله» (سبع رسائل).
و من مؤلّفاته الاخرى رسالة «الولاية»، التي تبرهن آخر السير إنسانيّ في حضرة الأحديّة و فنائه في الذات، و حيازته على مقام العبوديّة؛ و إيضاً رسالة «النبوّة و الإمامة».
و يصل عدد هذه الرسائل إلى تسعة، كلها بالعربيّة و ما زالت بخط إليد لم تطبع لحدّ الآن. و قد طلب منه مرّات عديدة أن يوافق على طبعها، لكنّه كان يرجع ذلك الى ضرورة المراجعة و تجديد النظر.
و له كتاب «شيعه در اسلام» (الشيعة في الإسلام)، و كتاب «قرآن در اسلام» (القرآن في الاسلام) و كتاب «وَحي يا شعور مرموز» (الوحي أو الشعور الخفي).
و كان العلّامة يعتقد أنّ الإسلام الصحيح لم يدخل إلى اوربا و أمريكا؛ لأنّ جميع المستشرقين الذين جاءوا من هناك الى البلاد الاسلاميّة قد قابلوا أهل السنّة و عاشوا في مناطق العامّة، سواء في إفريقيا و مصر، أو في سوريا و لبنان و الحجاز و باكستان و أفغانستان، و اعتمدوا على مكتباتهم المعتبرة و تواريخهم «كالطبري» و «ابن الأثير» و سيرة ابن هشام» و تفاسيرهم، و كتبهم في الحديث «كصحيح» البخاري و الترمذيّ و النسائي و ابن ماجة و ابن داود و الموطّأ لمالك و غيرها، و جعلوها مصادر
التعرف على الإسلام؛ و عرفوا الإسلام على أساس نظريّات و آراء العامّة بشكل عامّ؛ و على هذا الأساس اعتبروا الشيعة فرقة منشعبة عن الإسلام؛ و لهذا لم يولوا اهتماماً لكلّ المصادر الشيعيّة التحقيقيّة كالتفاسير و التواريخ و كتب الحديث و الفلسفة و الكلام، و هكذا بقي الشيعة مجهولين، في حين أنَّ هذه الفرقة هي التجلي الواقعيّ للإسلام الصحيح، و هي حقيقة التبعيّه لسنّة رسول الله المتجلية في الولاية، و الشيعة هم الفرقة الوحيدة التي سارت على سنّة الرسول، و قد تحقّق الإسلام و تجسّد فيها قولًا و عملًا.
و لأنَّ نقاط النقد و التزييف و الغشّ و التحريف كثيرة في تواريخ العامّة و كتبهم، و فيها قد نسب للرسول ما لا يليق به، و أُزيلت العصمة عنه، لهذا، فإنَّ الإسلام الواقعيّ لم يتجلّ بصورته الحقيقيّة في الغرب، و بالتالي لم يجذبهم إلى دين الإسلام. أمّا عند الشيعة فالأمر مختلف، فإنَّ جميع كتب الشيعة، تبيّن رسول الله معصوماً عن الخطأ و المعصية و الزلل و الذنب و لا تنسب إليه ما لا يليق بمقام النبوة.
إضافة إلى ذلك، فالشيعة يعتبرون الأئمّة الأطهار معصومين، و هم الخلفاء الواقعيّين، خلافاً لكتب العامّة من التفاسير و التواريخ و كتب الحديث التي نجدها مشحونة بجواز تولّي غير المعصوم، بل الإمام الجائر، و ضرورة طاعته.
و لهذا تحوّلت الخلافة الطاهرة لرسول الله إلى إمبراطوريّة عظيمة تماثل الإمبراطوريتّين الرومانيّة و الفارسيّة. و ارتكب خلفاء بني أميّة و بني العبّاس كافّة الفجائع و القبائح تحت ستار خلافة رسول الله، كلّ هذا كان سبباً لعدم توجّه الأُوروبيّين نحو الإسلام.
و لكّنهم لو عرفوا و فهموا أنَّ هذه السيرة مخالفة لسنّة رسول الله، و أنَّ الإسلام قد جاء لهدم أُسس و أركان أمثال هذه الحكومات؛ لاندفعوا
حتماً نحو الإسلام.
محادثات العلّامة مع هنري كوربن الضليع بالفكر الشيعي
و قد كانت لقاءات العلّامة الطباطبائيّ و محادثاته مع الأستاذ هنري كوربِن مع تحمّل المشقّات الجسيمة، حيث كان يظطرّ للسفر من قم إلى طهران بالحافلة العاديّة؛ كلّ هذا، لأجل إيصال حقيقة التشيّع و إظهار الوجه الواقعيّ للولاية، و بيان علائم الشيعة و غيرها.
و كان هذا العمل حقاً خدمة عظيمة؛ فبالإضافة إلى تسجيل كافّة المطالب و نشرها في أُوروبا، كان هنري كوربن يُعَرِّف على حقيقة التشيّع، و يدافع بقوة عن مبادثه في محاضراته مؤتمراته؛ و خاصّة في باريس.
اعتقاد هنري كوربن بالإمام المهدي أرواحنا له الفداء
كان كوربن يعتقد أنَّ المذهب الوحيد في العالم الذي لم يمت هو مذهب الشيعة؛ لأنه يقول بوجود الإمام الحيّ؛ و على هذا الأساس يبني اعتقاداته، و بالاعتماد و الرجوع إلى المهديّ قائم آل محمّد: محمّد بن الحسن العسكريّ بقي حيّاً دائماً.
لأنَّ اليهود قد أماتوا دينهم بوفاة النبيّ موسى؛ و المسيحيّون بعروج النبيّ عيسى؛ و سائر طبقات المسلمين بارتحال النبيّ محمّد؛ و لكنّ الشيعة يؤمنون بأنَّ وليّهم و إمامهم و صاحب ولايتهم الذي يتّصل بعالم المعنى و الإلهام السماويّ حيّ و ناظر؛ و هذا ما جعل هذا المذهب حيّاً.
كان كوربن قريباً جدّاً إلى التشيّع۱؛ و على أثر لقاءاته و محادثاته مع
العلّامة و تعرّفه على هذا الحقائق و بالخصوص، أصالة الاعتقاد بحضرة المهديّ حدث تغير شديد فيه.
و كان العلّامة يقول: كان كوربن يقرأ «الصحيفة المهدويّة» في أغلب الأوقات و يبكي.
و قد بدأت معرفة كوربن بالعلّامة الطباطبائيّ و محادثاته سنة ۱٣۷۸ ه، و استمرّت لأكثر من عشرين سنة.
و تشرّف هذا الحقير يوم الجمعة في الثامن عشر من شهر شعبان المعظّم سنة ۱٣٩٩ ه بالحضور عند الأستاذ العلّامة في مشهد المقدّسة، و هناك جرى الحديث عن كوربن؛ و قد سجّلت ما قاله، و هنا أذكره للقرّاء الكرام:
قال العلّامة: الاستاذ هنري كوربن هو أُستاذ الدراسات الشيعيّة في جامعة السوربون؛۱ و قد توفي منذ حوالي شهرين؛ و كانت له جلسات تحقيق عديدة معي حول مذهب الشيعة.
كان رجلًا منصفاً و سليم النفس. و كان يعتقد: أنَّ المذهب الوحيد في كلّ العالم الذي ما زال حيّاً و متحرّكاً هو مذهب الشيعة؛ أمّا بقيّة المذاهب فقد أنهت عمرها بدون استثناء، و ليس فيها أيّ نوع من التكامل و التنافس.
فاليهود لا يؤمنون بإمام و وليّ حيّ (و كذلك المسيحيّون
و الزردشتيّون) فهم لا يعتمدون على مبدأ حيّ، بل يكتفون بالعمل بالتوراة و الإنجيل و الزند و أوِستا؛ و هم يبحثون عن تكاملهم ضمن هذه الدائرة فقط.
و كذلك سائر فرق السنّة الذين يرون تكاملهم محصوراً بالقرآن و السنّة.
أمّا التشيّع، فهو دين الحياة و الحركة؛ لإيمانه بضرورة وجود الإمام و القائد للُامّة الذي ما زال حيّاً، و لا يحصل الكمال للإنسان إلّا بالوصول إلى مقامه المقدّس؛ و لأجل هذا المقصد فإنَّه لا يبخل بأيّ تحرّك و سير و عشق.
يقول العلّامة: قلتُ مرّة لكوربن: في دين الإسلام المقدّس إنَّ جميع الأراضي و الأمكنة تعتبر محلًّا للعبادة؛ فلو أراد الإنسان أن يصلي أو يقرأ القرآن أو يسجد أو يقرأ الأدعية، فيمكنه أن يؤدّي هذه الأعمال في أيّ مكان يريد؛ و قد قال رسول الله: جُعِلَتْ لِيَ الأرضُ مَسْجِداً وَ طَهُوراً؛ أمّا في المسيحيّة فليس الأمر كذلك؛ لأنَّ الكنيسة هي المحلّ الوحيد للعبادة، و في غيرها تكون باطلة.
و لهذا، فإن اعترت أحد المسيحيّين حالة و أراد أن يدعو الله و هو في منتصف الليل في منزله، فما ذا يفعل؟ عليه أن ينتظر حتّى يأتي نهار الأحد لتفتح الكنيسة و يذهب إليها للدعاء! و هذا هو معنى قطع علاقة العبد بالله.
فقال كوربن: نعم، إنّ هذا إشكال على المسيحيّة؛ أمّا الإسلام و الحمد للّه فهو دين لجميع الأزمنة و الأمكنة و الأحوال، و هو يحفظ علاقة المخلوق مع خالقه.
و قال: في دين الإسلام المقدّس، فإنّ الإنسان المحتاج يمكنه أن يدعو الله طبق تلك الحالة و الحاجة؛ لأنَّ الله له الأسماء الحسنى. فهو الغفور و الرحيم و الرزّاق و المنتقم و غيرها، و الإنسان طبق حاجته و مطلبه
يذكر الله و يدعوه بأحد الأسماء التي يراها مناسبة. فإذا أراد أن يستغفر الله و يطلب منه العفو عن ذنوبه، فعليه أن يستفيد من اسم الغفور أو الغفّار أو غافر الذنب.
أمّا المسيحيّة، فإنَّه لا وجود للأسماء الحسنى الإلهيّة؛ و لا يطلق عليه إلّا ألفاظ الربّ و الإله و الأب. فإذا كنتم تريدون أن تدعوا الله على أساس حاجة أو مطلب ما، أو أردتم أن تناجوه بأسمائه و صفاته و تطلبون حاجاتكم باسمه الخاصّ، فما ذا تفعلون؟
فأجاب كوربن: أنا أقرأ في مناجاتي «الصحيفة المهدويّة»
و كان العلّامة يقول: كان كوربن يقرأ «الصحيفة السجّادية» باستمرار، و يبكي أثناء قراءتها.
و قد نشرت مباحثات العلّامة الطباطبائيّ مع كوربن باللغات الأربع: الفارسيّة و العربية و الفرنسيّة و الانجليزيّة و أوّل سلسلة منها نشرت بالفارسيّة تحت عنوان «مكتب تشيّع» (مدرسة التشيّع) في الدورة السنويّة الثانية، و قد طبعت مجدّداً. و قد نشرت و تنشر حالياً كتب للعلّامة مثل كتاب «شيعه» (الشيعة)، و كتاب «رسالت تشيع در دنياي امروز»۱ (رسالة التشيّع في العالم المعاصر) و «پرسشهاي اسلامي» (مسائل إسلاميّة)، و كتاب «اسلام و انسان معاصر» (الإسلام و الإنسان المعاصر).
و من مؤلّفاته أيضاً كتاب «حكومت در اسلام» (الحكومة في الإسلام) الذي ترجم من الفارسيّة إلى العربيّة. و هناك رسالة عربيّة حول «الحكومة في الإسلام» و رسالة أخرى في «الإعجاز»، و رسالة عربيّة
بعنوان «عليّ و الفلسفة الإلهيّة» و قد ترجمت إلى الفارسيّة و و هناك حواشي نفيسة على «الأسفار الأربعة» للملّا صدرا نشرت في الطبعة الأخيرة ضمن التعليقات في تسعة أجزاء، و حاشية على «كفاية الأصول».
و من مؤلّفاته أيضا كتاب «سنن النبيّ» الذي طبع و نشر مع إضافات لأحد الفضلاء.۱
و عدّة رسائل في الاعتباريّات و البرهان و المغالطة و التحليل و التركيب و المشتقّ و غيرها، لم تطبع حتّى الآن.
***
السلوك العرفاني و الاخلاقيّ للعلّامة الطباطبائي
أمَّا نهج الاستاذ في العرفان و الأخلاق:
آنچه مىدانم از آن يار بگويم يا نه | *** | و آنچه بنهفته ز أغيار بگويم يا نه |
دارم أسرار بسى در دل و در جان مخفي | *** | اندكى ز آنهمه بسيار بگويم يا نه |
سخنى را كه در آن بار بگفتم با تو | *** | هست اجازت كه در اين بار بگويم يا نه٢ |
معنى حُسن گل و صورت عشق بلبل | *** | همه در گوش دل خار بگويم يا نه |
وصف آنكس كه در اين كوچه و اين بازار است | *** | در سر كوچه و بازار بگويم يا نه۱ |
ما ذا أقول في إنسان كانت حياتي و روحي و نفسي معه! فإذا كنتُ عارفاً بالله و أو بالرسول أو بالإمام، فكلّ هذا ببركة رحمته و لطفه.
فمنذ ذلك الوقت الذي أرسله الله إلينا فقد أعطانا كلّ شيء. و كان هو كلّ شيء؛ طويلًا شامخاً و قصيراً، قصيراً في عين شموخه و النزول. في عين الأوج و الصعود، كان في الحضيض. فمعنا نحن الطلّاب العجولين المتسرّعين، كان هادثاً و معتدلًا، كالأب الشامخ الذي ينحني ليأخذ بيد طفله، و يمشي به خطوة خطوة؛ و كان يعامل كلّ واحد منّا و يربّيه طبق ذوقه و سليقته، و اختلاف حدّته و شدّته، و سرعته و بطئه؛ و يتعاهده بالتربية.
و رغم الأمواج المتلاطمة لبحر الأسرار الإلهيّة في قلبه الزاهر، فقد كان دائم البشاشة، و السماحة، شعاره الصمت، و النبرة الهادئة، و يستغرق دائماً في التفكير، و تعلو شفتيه ابتسامة لطيفة.٢
بحسن خلق و وفا كس به يار ما نرسد | *** | تو را در اين سخن انكار كار ما نرسد |
اگر چه حسن فروشان به جلوه آمدهاند | *** | كسى به حسن و ملاحت به يار ما نرسد |
بحقّ صحبت ديرين كه هيچ محرم راز | *** | به يار يك جهت حقگزار ما نرسد |
هزار نقش برآيد ز كلك صُنع و يكى | *** | بدلپذيرى نقش نگار ما نرسد |
هزار نقد به بازار كائنات آرند يكى | *** | به سكّه صاحب عيار ما نرسد۱ |
دريغ قافلهء عمر كانچنان رفتند | *** | كه گردشان به هواى ديار ما نرسد۱ |
أجل؛ أيّها الأُستاذ العزيز! فبعدك يجب أن نقول ما قاله الإمام السّجاد عليه السّلام على قبر والده: أمَّا الدُّنيَا فَبَعْدَكَ مُظْلِمَةٌ؛ وَ أمَّا الآخِرَةُ فَبِنُورِ وَجْهِكَ مُشرِقَةٌ.
هذا الإنسان، كان عالماً من العظمة؛ و كطالب صغير كان يجلس في زاوية ساحة المدرسة على الأرض؛ و يأتي عند الغروب إلى المدرسة الفيضيّة فيصلي عند ما تقام الجماعة مثل سائر الطلّاب مؤتماً بالمرحوم آية الله الحاجّ السيّد محمّد تقي الخونساري.
آداب و أخلاق العلّامة الطباطبائي
لقد كان متواضعاً و مؤدّباً، و شديداً في حفظ الآداب إلى الدرجة التي حملتني على أن أقول له تكراراً: إنَّ هذه الدرجة من الأدب و الدقّة و الرعاية فيكم جعلتنا بلا أدب! فهلّا فكرتم بحالنا!
و لمدّة أربعين سنة تقريباً و حتّى اليوم لم يُرَ في مجلسٍ ما مستنداً إلى وسادة أو ما شابه، بل كان دائماً يجلس بعيداً عن الحائط قليلًا؛ و بكلّ أدب أسفل الداخلين أو الضيوف. و كنتُ تلميذه، و أتردّد كثيراً على منزله، فأُريد أن أجلس بشكل مؤدّب أسفل منه؛ و لم أقدر أبداً. و كان يقوم، ثمّ يقول: على هذه الحال ينبغي أن أجلس في الأسفل أو خارج الغرفة!
و قبل عدّة سنوات زرته في مشهد المقدّسة؛ و عند ما دخلت عليه كان مستلقياً على وسادة (فقد أمره الطبيب أن لا يجلس على الأرض الصلبة بسبب ضعف قلبه) و بمجرّد أن رآني نهض من مكانه و طلب منّي أن
أجلس عليها، فلم أقبل و بقينا لفترة واقفين؛ حتّى قال: اجلس، فيجب أن اقول لكم شيئاً!
فأطعته متأدّباً، و جلس هو على الأرض، ثمّ قال: ما كنت أُريد أن أقوله لكم: «إنَّ هذا المكان أكثر ليونة»!
و منذ ذلك الوقت الذي كنّا ندرس في قم، لم يحصل أن سمح لنا بالصلاة جماعة و راءه. و قد بقي هذا حسرة في قلوبنا؛ لأننا لم ندرك جماعته؛ و استمرّ إلى اليوم، إلى أن جاء شهر شعبان۱ هذه السنة، حيث تشرّف بزيارة مشهد، فحلّ في منزلنا، و جعلنا غرفته في المكتبة لكي يتسنّى له قراءة ما يشاء من الكتب. و جاء وقت المغرب، ففرشت له و للممرِّض الذي كان يرافقه سجادةَ الصلاة، و خرجت من الغرفة ليبدأ بالصلاة فألتحقُ به على هذه الحال، لأنّني كنتُ أعلم أنّه لم يؤمّنا ما دمنا فيها.
فمرّت ربع ساعة من المغرب؛ و ناداني مرافقه، و قال: ما زال السيّد ينتظركم لتبدءوا بالصلاة.
قلت: أنا أُريد أن أقتدي!
قال: بل نحن نقتدي!
قلت: أرجوكم أن تبدءوا بصلاتكم.
فقال: و نحن نرجوكم أيضاً.
قلت له: منذ أربعين سنة و أنا أطلب منكم أن تسمحوا لنا بالصلاة وراءكم؛ فاقبلوا منا!
فقال مبتسما: سنة تضاف إلى الأربعين.
و لم أستطع أبداً أن أتقدّمه، و اعترتني حالة شديدة من الخجل و الحياء. فرأيت أخيراً أنّه قد ثبت في مكانه و لم يكن مستعدّاً للتنازل بتاتاً؛ و ليس من الصحيح أن أُخالف طلبه، فأذهب و أُصلي لوحدي فرادى.
قلت له: إنّني عبدٌ مطيع لكم؛ فإذا أمرتم التزمتُ.
قال: أيّ أمر ...! نحن نرجو منكم!
فنهضت للصلاة، و صلّى مأموماً. و بعد أربعين سنة، إضافة إلى أنّني لم أقدر على تحقيق الصلاة جماعة، بل وقعت هذه الليلة في هذا الفخّ.
الله يعلم حال وجهه و حال حيائه الذي كان بادياً على سيمائه و هو يطلب ذلك:
خُلُقٌ يُخْجِلُ النَّسِيمَ مِنَ اللُّطْفِ | *** | وَ بأسٌ يَذُوبُ مِنْهُ الجمَادُ |
جَلَّ مَعْنَاكَ أنْ يحيطَ بِهِ الشِّعْرُ | *** | وَ يحصِي صِفَاتِهِ النُّقَادُ۱ |
المسلك العرفاني للعلّامة الطباطبائي
مسلكه العرفانيّ: كان مسلك أُستاذه الأوحد المرحوم آية الحق و سيّد العارفين الحاجّ الميرزا عليّ القاضي، و هو مسلك أُستاذ السيّد أحمد الكربلائيّ الطهرانيّ، الذي كان يتبع مسلك أُستاذه المرحوم آية الحقّ الآخوند الملّا حسين قلي الهمدانيّ الدَّرجزينيّ رضوان الله عليهم أجمعين، و هو مسلك معرفة النفس، الذي يتلازم مع معرفة الربّ و تدلّ على هذا الأصل الروايات الكثيرة.
و هو يحصل بعد عبور عالم المثال و الصورة، و بعد عبور عالم النفس
حيث النفس فَعِنْدَ الفَنَاءِ عَنِ النَّفسِ بمراتِبِهَا يحصَلُ البَقَاءُ بِالرَّبِّ؛ أمّا تجلي سلطان المعرفة فإنّه سيحصل عند ما لا يبقى من الآثار النفسانيّة في السالك أيّ وجود.
و من الشروط المهمّة لتحصيل هذا الأمر، المراقبة. حيث يجب على السالك أن يحفظ آدابها و شرائطها في كلّ مرحلة من المراحل، أو منزل من المنازل حسب المرحلة أو المنزلة، بكلّ ما للكلمة من معنى. فبدون المراقبة تكون الأعمال و العبادات كالدواء الذي يتناوله المريض مع عدم الاحتراز من تناول الأطعمة المضرّة التي لن تفيده شيئاً.
أمّا كليات المراقبة التي تختلف بجزئيّاتها حسب اختلاف المنازل، فيمكن اختصارها في خمسة أشياء:
صَمت و جُوع و سَهَر و عُزلت و ذكرى بدوام | *** | ناتمامان جهان را كند اين پنج تمام۱ |
كان المرحوم الأُستاذ يعظّم اثنين من علماء الإسلام كثيراً، و يذكر مقامها و منزلتها بتقدير شديد: الأول: السيّد الأجلّ عليّ بن طاووس أعلى الله تعالى مقامه الشريف، و كان يولي كتاب «إقبال الأعمال» اهتماماً
فائقاً و يعتبره «سيّد أهل المراقبة».
و الثاني: السيّد مهدي بحر العلوم أعلى الله تعالى مقامه، و كان يشيد بأُسلوب عيشه و سلوكه العلميّ و العمليّ و مراقباته. و قد ذكر في مرّات عديدة تشرّفه و السيّد ابن طاووس للقاء حضرة إمام الزمان أرواحنا فداه. و كان معجباً بمخالفتها و اجتنابهما لهوى النفس، و مجاهداتهما في سبيل الوصول إلى المقصود، و كيفيّة حياتهما و سعيهما لتحصيل رضى الله تعالى، و ينظر إليها نظرة التجليل و التكريم.
كان يهتم ب «رسالة السير و السلوك» المنسوبة للسيّد بحر العلوم، و يوصي بقراءتها، و قد قام بشرحها مفصّلًا لعدّة مرات لبعض الرفقاء الخواصّ من الطلّاب الصالحين و الوالهين من طلّاب الحقّ و لقاء الله.
كان يعتبر أنَّ أفضل الكتب الأخلاقيّة المختصرة هو كتاب «طهارة الأعراق» لابن مسكويه؛ و أفضل المتوسّط منها كتاب «جامع السعادات» للحاجّ الملّا مهدي النراقيّ؛ أفضل المطوّل منها كتاب «إحياء الإحياء» للملّا محسن الفيض الكاشانيّ. و كان يقول: ما جاء في كتاب «روضات الجنّات» في ترجمة أحوال الخواجة نصير الدّين الطوسيّ حول كتابه «أخلاق ناصري» في أنّه اقتبسه من كتاب «طهارة الأعراق»، و هذا الأخير مقتبس من أحد علماء الهند، ليس صحيحاً أيضاً، لأنَّ ابن مسكويه كان معاصراً لابن سينا، و قد ألف كتاباً في الفلسفة على طريقة الفلسفة اليونانيّة تماماً، و لا يرتبط بالفلسفيّة الهنديّة بتاتاً؛ إضافة إلى أنَّ كتابه الأخلاقيّ المذكور لا ينطبق مع مشرب الهنود.
أمّا النراقيّ۱ فهو من الفقهاء و العرفاء و فلاسفة الدرجة الأُولى، و هو
من حيث سعة الفكر و بُعد النظر في العلوم الرياضيّة و الفلك نادر المثيل، و له في الأخلاق مقام سام. و من العجيب جدّاً أنّه لم يُعرَف حتّى اليوم و بقي مجهولًا رغم كمالاته و مقاماته العديدة. و قد طبعت مؤخّراً بعض مصنّفاته، و من المقرّر أن تطبع بقيّة آثاره الجليلة.
أمّا الفيض فهو أشهر من الشمس، و كتابه «المحجّة البيَضاء» الذي كتبه في إحياء «إحياء العلوم» ليُعدّ من أنفس كتب الشيعة رضوان الله عليهم أجمعين.
أمّا الفرق الواضح الذي كان يميّز العلّامة الطباطبائيّ عن الآخرين هو أنَّ أخلاقيّاته كانت ناشئة من رشحات الباطن، و بصيرة الضمير، و حلول حقيقة السير و السلوك في باطن القلب و الذهن، و تمايز عالم الحقيقة و الواقعيّة عن عالم المجاز و الاعتبار، و الوصول إلى حقائق عوالم الملكوت، و في الحقيقة، تنزّل مقامه المعنويّ في عالم الصورة و عالم الطبع و البدن. و كانت معاشراته و معاملاته و سائر أمُوره تقوم على ذلك الأصل.
أمّا مسلك غيره في الأخلاق فقد كان ناشئاً من تصحيح الظاهر، و رعاية الأُمور الشرعيّة و المراقبات البدنيّة لعلّهم يفتحون بذلك نافذة على الباطن، و يجدون طريقاً إلى جوار الحضرة الأحديّة رحم الله الماضين
منهم أجمعين.
كان للعلّامة الأُستاذ روحاً لطيفة، و ذوقاً رفيعاً، و رقّة خاصّة۱.
خشت أوّل چون نهد معمار كج | *** | تا ثريّا مىرود ديوار كج |
دامن از انديشة باطل بكش | *** | دست از آلودگى دل بكش |
كار چنان كن كه در اين تيره خاك | *** | دامن عصمت نكنى چاكچاك |
يا به دل انديشة جانان ميار | *** | يا به زبان نام دل و جان ميار |
پيش نياور سخن گنج را | *** | ور نه فراموش نما رنج را |
يا منگر سوى بتان تيز تيز | *** | يا قدم دل بِكش از رستخيز |
روى بتان گرچه سراسر خوش است | *** | كشتى آنيم كه عاشق كُش است |
عشق بلند آمد و دلبر غيور | *** | در أدب آويز، رها كن غرور |
چرخ بدين سلسله پا در گِل است | *** | عقل بدين مرحله لا يعقِل است |
جان و جسد سوخته زين مرهمند | *** | مُلك و مَلَك سوخته اين غمند |
و كان يحبّ في الشعر العربيّ قصائد ابن الفارض و خاصّة قصيدته المعروفة بالتائيّة الكبرى في «نظم السلوك».
و كان يثني في الشعر الفارسيّ على «ديوان الخواجة حافظ الشيرازيّ».
و كان يقرأ بهدوء على مسامع الأصدقاء من حين إلى آخر بعض الأشعار العرفانيّة الفارسيّة و العربيّة في الغزل.
إنَّ همّ و غمّ السالك يجب أن يكون جميعه خالصاً للّه، لا لأجل البحث عن الزيادة و الفضيلة، بل أن يكون همّه الله، و زادُ طريقه ذلّ العبوديّة، و دليله محبّته. و كان كثيراً ما يردّد هذه الأبيات، و يقول: إنَّ الشاعر في إشارته إلى طريق الفناء قد أبدع:
رَوَتْ لِي أحَادِيثَ الغَرَامِ صَبَابَةً | *** | بِإسنادِهَا عَن جِيرةِ العَلم الفَرْدِ |
وَ حَدَّثَنِي مَرُّ النَّسِيمِ عِنِ الصَّبَا | *** | عَنِ الدَّوْحِ عَن وَادِي الغَضَى عَنْ رُبَى نَجْدِ |
عَنِ الدَّمْعِ عَن عَيني القَرِيح عَنِ الجوَى | *** | عَنِ الحزْنِ عَنْ قَلْبِي الجرِيح عَنِ الوَجْدِ |
بِأنَّ غَرَامِي وَ الهَوَى قَدْ تحالَفَا | *** | على تَلَفي حَتَّى أوَسَّدَ في لَحْدِي۱ |
القريحة و الذوق الشعري للعلّامة الطباطبائي
كان للعلّامة قريحة شعريّة، و كان ينشد الغزليات العرفانيّة الجيّاشة المليئة بالوجد و العشق و الشوق. و نذكر هنا هموذجاً منها:
مهر خوبان دل و دين از همه بى پَروا برد | *** | رُخ شَطرنج نبرد آنچه رخ زيبا برد |
تو مپندار كه مجنون سر خود مجنون گشت | *** | از سمك تا به سهايش كشش ليلى برد |
من به سرچشمه خورشيد نه خود بردم راه | *** | ذرّهاى بودم و مِهر تو مرا بالا برد٢ |
من خَس بىسروپايم كه به سيل افتادم | *** | او كه مىرفت مرا هم به دل دريا برد |
جام صهبا ز كجا بود مگر دست كه بود | *** | كه درين بزم بگرديد و دل شيدا برد |
خم ابروى تو بود و كف مينوى تو بود | *** | كه به يك جلوه ز من نام و نشان يكجا برد |
خودت آموختيم مِهر خودت سوختيم | *** | با برافروخته روئى كه قرار از ما برد |
همه ياران به سر راه تو بوديم ولى | *** | خم ابروت مرا ديد و ز من يَغما برد |
همه دل باخته بوديم و هراسان كه غمت | *** | همه را پشت سر انداخت و مرا تنها برد۱ |
...۱
از دل آن روز كه من زادهام | *** | داغ بدل بوده و دل دادهام |
تا به ره افتادهام از كودكى | *** | هيچ نياسوده دلم اندكى |
شهر و ده و سينه و دريا و كوه | *** | گشتم و بگذشتم و دل در ستوه |
رحل بهر جاى كه مىافكنم | *** | روز دگر خيمة خود مىكَنم |
شاهد مقصود نديدم دمى | *** | هيچ نديدم خوشى و خرّمى |
چرخ نگرديد بكامم دمى | *** | قرعه نيفتاد بنامم دَمى |
از كف و از كاسه گردون دون | *** | بردهام و ريختهام اشك و خون |
من كه نبودم به رهش خار راه | *** | كوشش وى را ننمودم تباه |
جرم من اينست كه آزادهام | *** | در رقمِ تيره دلى، سادهام |
دوش بياد دل ويران شدم | *** | چون خط ايّام پريشان شدم |
عاقبتم سينة غم تنگ شد | *** | پاى شكيبائى من لنگ شد |
شمع بدستى و بدست دگر | *** | ساغر و مينا، شدم از در بدر |
نيم شب از خانه گريزان شدم | *** | گاهِ سحر سوى گلستان شدم |
گاهِ بهار و شب مهتاب بود | *** | خرگه و گُل بود و لب آب بود |
جشن به دو شيوة سرو و سمن | *** | كرده پر از غلغله صحن و چمن |
بر سر هر بوته گلى گل زند | *** | پاى سخن زيور و سنبل زند |
نغزْ نسيمى كه ز خاور وزد | *** | خود لب گل، گل لب نسرين گزد |
رقص كنان نسترن و ياسمن | *** | چنگ زنان، چنگ زنان چمن |
تازه عروسان چمن گرم ناز | *** | پرده در افتاده برون جسته راز |
مرغ سحر هر چه بدل راز داشت | *** | چون نِى بى خويش در آواز داشت |
چون بغنوديم بيك كُنج باغ | *** | شيشه و پروانه و جام و چراغ |
ليك دلم چون خم مىجوش داشت | *** | شاهد اندوه در آغوش داشت |
بسته لب و ديده و گوش از جهان | *** | گرم سر از تابش سوز نهان |
چشم و لبى را كه ز غم بسته بود | *** | گريه گهى خنده گهى مىگشود |
ديدم و پروانه به گرد چراغ | *** | گردد و بزمى است دگر سوى باغ |
ليك سراسر همه خاموشى است | *** | جلوهگه راز، فراموشى است |
در دو سر باغ دوتا جان فروش | *** | اين بطواف آمده آن در خروش |
عالم پروانه همه راز بود | *** | عالم بلبل همه آواز بود |
...۱
گفت به پروانة خامش، هَزار | *** | هان تو هم از سينه نوائى بيار |
با دل پر سوز ترا تب سزاست | *** | در جلوى ناز نيازت رواست |
گفت به مرغ سحر آرام شو | *** | بستة دامى، برو و رام شو |
راستى، ار عاشق دل رفتهاى | *** | اين همه از بهر چه آشفتهاى |
گفت مرا يار بدينسان كند | *** | بيخود و بىتاب و پريشان كند |
گفت بگو زنده چرا ماندهاى | *** | تخم وفا گر به دل افشاندهاى |
صاعقة عشق به هر جا فتاد | *** | نام و نشان سوخته بر باد داد |
يا به دل انديشه جانان ميار | *** | يا به زبان نام و دل و جان ميار |
پيش نياور سخن گنج را | *** | ورنه فراموش نما رنج را |
فارغ ازين پند چو پروانه گشت | *** | از دل و جان بيخود و بيگانه گشت |
خويش بر آتش زد و خاموش شد | *** | رخت برون برد و فراموش شد |
...۱
...۱
دريغا كه مهر هدايت برفت | *** | دريغا جهان فضيلت برفت |
شه علم و تقوى و همّت برفت | *** | فسوس آية الله حجّت برفت |
به سر خاك اين تيره ايّام را | *** | كه بشكست أركان اسلام را |
سپهر فضائل نگونسار شد | *** | جهان هنر همچو شب تار شد |
دل و ديدة علم خونبار شد | *** | بلى رستخيزى پديدار شد |
كه او رخت از اين دام بيرون كشيد | *** | فرو خرگه خود به هامون كشيد |
مهين طائر آسمانى سرشت | *** | كه پرّيد از اين تيرهگون دام زشت |
زند نغمه در گُلْسِتان بهشت | *** | پيامى به آنان كه افسرده هشت |
پيامى كه همچون سرود سروش | *** | كند جلوه هر لحظه در گوش هوش |
كه ياران نميپايد اين روزگار | *** | بگرديد پا بند كردار و كار |
مگيريد از كار و كوشش قرار | *** | مناليد از رنج تن زينهار |
...۱
به ويرانه در، گنج بيمار نيست | *** | گلى اندرين باغ، بى خار نيست |
نداريد جز كيش إسلام كيش | *** | در اين ره مناليد از نوش و نيش |
بكوشيد و بنهيد پائى به پيش | *** | مترسيد از قطرة خون خويش |
كه زيباتر از خون به پيكار نيست | *** | خود از لاله خوشتر به گلزار نيست |
بزرگان كه رادند و آزادهاند | *** | به حق مهر ورزيده دل دادهاند |
به خون خود آغشته افتادهاند | *** | بدين آرمان راه بگشادهاند |
به شمشير هر بند بگسستهاند | *** | به نيروى دانش دژى بستهاند |
مبادا كه گردون كند رامتان | *** | مبادا كه كوته كند گامتان |
مبادا شود تيره فرجامتان | *** | مبادا كه ننگين شود نامتان |
شود تيره دل، دشمن پر زكين | *** | بگيرد دژ و بشكند كاخ دين |
حقيقت جز آئين إسلام نيست | *** | به از نام نيكوى وى نام نيست |
به چيزى فضيلت جز او رام نيست | *** | جهان جز به وى هرگز آرام نيست |
مهين كاخ اسلام آباد باد | *** | هميشه بر و بومش آزاد باد |
...۱ كان الأُستاذ محبّاً و عاشقاً متيّماً بالأئمّة الأطهار صلوات الله و سلامه عليهم أجمعين. و عند ما كان يذكر اسم أحدهم، كانت تعلو محياه حالة التواضع و الأدب. و كان يعظّم إمام العصر أرواحنا فداه بشكل خاصّ، و يؤمن بأنَّ مقامهم و منزلتهم مع رسول الله و الصديقة الكبرى لا يمكن
تصوّرها. و كان يعيش حالة من الخضوع و الخشوع الحقيقيّين و التعلّق الوجدانيّ بهم، يرى منزلتهم و مقامهم ملكوتيّاً. و هو عظيم الاطّلاع على سيرتهم.
في العديد من المطالب عند ما كان يُسأل عنهم كان يجيب و يشرح بطريقة و كأنّه قد طالع تلك السيرة في يومه، أو أنّه قد جلس إلى مصدر الوحي و التشريع، و هو يتلقّى عنهم و ينقله إلى هذا العالم.
و في أيّام الصيف كانت عادته دائماً منذ القديم أن يتشرّف لزيارة حضرة ثامن الأئمّة عليه السلام، و يبقى طوال فصل الصيف هناك، و لا يقدّم أيّ مكان على هذه الأرض المقدّسة، إلّا عند حصول المحذور.
و هناك كان يأتي كلّ ليلة إلى الحرم المطهّر، و يقضي وقته بالتوسّل و التضرّع.
و كان مهما طلب منه أن يسكن خارج مدينة مشهد «كطُرقَبَه» و «جاغَرْق» بسبب لطافة جوّهما و مياههما و إمكانيّة التنقّل منهما للزيارة من حين إلى آخر، لا يقبل أبداً، و يقول: لا ألجأ إلى غير الإمام الثامن۱
...۱
...۱
برقى از منزل ليلى بدرخشيد سَحَر | *** | وَه كه با خرمن مجنون دل افكار چه كرد |
و قد كان العلّامة شديد التواضع و كثير الخشوع أمام القرآن الكريم. و يدلّ على مواضع الآيات في السور المختلفة، و كان غالباً ما يتلو آياته عن حفظ، كما يتلو الآيات المناسبة مع كلّ آية. لقد كانت مجالس ذلك الفقيد السعيد في الأبحاث القرآنيّة في غاية الروعة و غزارة المحتوى.
***
أمَّا عن أوضاعه المعاشيّة: فكما يلاحظ من شجرة عائلته، فقد كان من أُسرة محترمة و معروفة و بارزة في آذربيجان. و كان مصدر معيشته و أخيه محصوراً بزراعة الأرض التي كان يملكانها في قرية شادآباد تبريز منذ الطفولة، و قد ورثاها عن أسلافها. و ذلك كما يظهر من كتاباته في مرحلة إقامته هناك و عمله بالزراعة لكسب لقمة العيش، فالرسائل الخطّيّة (كتاب «توحيد» و كتاب «الإنسان» و رسالة «الوسائط» و رسالة «الولاية») قد كتبت في شادآباد.
و كان يقول: إنَّ هذا المِلك، قد كان لآبائنا و أجدادنا لأكثر من مائتين و سبعين سنة، و كان الوسيلة الوحيدة للارتزاق عن طريق زراعته، و عند ما اغتصب اختلّت معيشتها و ضاقت علينا.
الوضع المعيشيّ و تحمّل و صبر العلّامة في الشدائد
و لأنَّ العلّامة الطباطبائيّ لم يجد فرصة لتدوين رسالة عملية، رغم حيازته على مقام الفقاهة و العلم و المرجعيّة، ذلك لاهتمامه بالأُمور العلميّة و التربويّة للطلّاب، و بالأخصّ من الناحية المعنويّة و الأخلاقيّة و العقائديّة، و الدفاع عن حصن الإسلام و حريم التشيّع، لذلك فقد جعل طريقه متعمّداً منذ البداية في غير هذا الاتجاه. و باعتبار أنَّ هذه الأُمور (المالية) كانت مقطوعة كلّيّاً من جهة، و من جهة أخرى كان لا يقبل أخذ سهم الإمام بتاتاً
فيتّضح حينئذٍ كيف ستكون حالته المعيشيّة عند ما يفقد عائدات الزراعة، فسوف تكون أقلّ من حياة وضع طالب بسيط، لأنَّ الطالب، حتّى و إن لم يحصل على مرتّب من المدينة أو القرية، فإنَّه على الأقلّ سوف يستفيد من سهم الإمام.
و تلك العائدات التي كان يحصل عليها من الزراعة، لم تكن حال وصولها تكفي إلّا للمقدار اللازم من أُمور المعاش الضروريّة.
لقد كانت هذه سيرة رجال العلم و الفكر منذ قديم الأيّام: فالمرحوم آية الله الشيخ جواد البلاغيّ النجفي الذي كان فخر الإسلام، و قد أضاءت علومه و مؤلّفاته عالم الفكر و العلم لم يكن يمتلك في النجف الأشرف سوى بيت حقير لا يحتوي إلّا على حصير. و اضطرّ لبيع بيته عند ما أراد أن يطبع كتبه في الردّ على المادّيين و الطبيعيّين و اليهود و النصارى، هذه الكتب التي تعتبر من أهّمّ المصادر، و التي هي موضع فخر عالم الإسلام و مباهاته.
أمّا أُستاذ أُستاذنا: المرحوم القاضي رضوان الله عليه، فرغم أنّه كان يعيش مع عائلة كبيرة في النجف الأشرف، إلّا أنَّ الصعوبات و الضائقة الشديدة التي كان يعانيها أصبحت قصصها مضرباً للأمثال عندنا.
فلم يكن في بيته سوى حصير واحد مصنوع من سعف النخيل. و ما أكثر الليالي التي قضاها في الظلام الدامس، لأنّه لم يكن يمتلك و قوداً للإضاءة أو لعدم وجود مصباح أو محروقات.
و المرحوم آية الله العلّامة الحاجّ الشيخ آغا بزرك الطهرانيّ لم يكن يمتلك أيّة وسيلة للمعيشة، و قد خدم العلم و الإسلام و التشيّع لمدّة مائة سنة، و لم يكن لأحد علم بحاله و وضعه، فترك من مجاهداته العظيمة و آثاره النفيسة النادرة ما أفاد كافّة المحقّقين و المؤلّفين.
و كان هذا الإنسان يقضي أيّامه و لياليه مشغولًا بالكتابة و التأليف،
متحمّلًا لكلّ مشقّات البحث و التصنيف و جمع المصادر و الرجوع إلى المراجع. أمّا منزلة فلم يكن بأفضل من منزل طالب عاديّ، لا بل أقلّ؛ و أمّا المصائب و الصعاب التي مرّت عليه فهي تفوق كلّ تصوّر.
و كان العلّامة الأمينيّ صاحب كتاب «الغدير» يمرّ في ظروف معيشيّة قاسية قبل شهرته و بروزه، حتّى أنّه واجه مشاكل عديدة عند ما أراد أن يطبع كتابه «الغدير» النفيس لأوّل مرّة. و هذا نقص فادح في جهاز العلماء الحالي من ناحية كيفيّة إدارة الأُمور الماليّة.
فلما ذا يبقى أُولئك الذين يصرفون عمرهم في الفروع الخاصّة كالفلسفة و العرفان و علم الكلام و التفسير و الحديث و التأريخ و علم الرجال و غيرها، مع وجود الأرصدة الفقهيّة العظيمة لخدمة الإسلام و حاجة المجتمع إلى تلك المعارف و سدّ الثغرات و حماية المذهب و الذود عنه فلما ذا يبقون محرومين حتّى من الحياة العاديّة البسيطة، و يعانون من آلاف المشكلات في سعيهم لتمرير معاشهم و حفظ ماء الوجه و الاعتبار.
إن ميزانيّة صندوق المسلمين التي ترسل إلى الحوزة تحت عنوان سهم الإمام، لا تتوجّه إلى أمثال هؤلاء، أمّا قبول هذا السهم منهم بواسطة المتصدّين لتوزيعه فإنَّه يحمل معه الذلّ و الاستخفاف و التحقير أمام جهاز الأدارة.
فتُمنع الإجازة من هؤلاء الأفراد الأجلّاء الذين يمتلكون الصفات الأخلاقيّة و الروحيّة، إضافة إلى الجوانب العلميّة، و يُحتاط من تصديق مقام اجتهادهم و فقاهتهم، كلّ ذلك لأنّه يؤدّي إلى تثبيت شخصيّتهم و استقلال أمورهم.
و تعطى للأفراد الجهّال و الأُمّيّين من غير المحتاطين و الذين يتجرؤون على الكثير من الأُمور، الإجازات الطويلة و المطوّلة و الألقاب
و المجالات، طالما أنهم جباة لسهم الإمام، و ذلك حتّى لا يهتزّ مركز الحكم عن مقرّه و لا يرى الخلل في وصول الأموال إلى الأفراد غير الواجدين للشرائط و الذين هم من الناحية الروحيّة و الأخلاقيّة أقلّ من عامّة الناس بمجرّد ادّعاء العلم و الأعلميّة و الفقه و الفقاهة و الورع و الأورعيّة.
فَيَا للأسَفِ بِهَذِهِ السِّيرَةِ الرَّدِيّةِ المُبِيدَةِ لِلْعِلْمِ وَ الْعُلَمَاءِ وَ الْفِقْهِ وَ الْفُقَهَاءِ.
و إذا قيل لهم: بأيّ دليل؟ و بأيّة آية أو رواية أنتم تقولون إنَّ سهم الإمام ينبغي أن يصل إلى المرجع أو نائبه بالخصوص؟ و في أيّ كتاب فقهيّ و أخباريّ و تفسيريّ رأيتم مثل هذا المطلب؟ و أيّ سنن و بدع أنتم تخترعون؟
يقولون: فلان و علّان يقولون هكذا. انتم الذين تدعون إلى الاجتهاد! لما ذا تصبحون هنا مقلّدين لفلان و علّان؟!
كانت حياة العلّامة الأُستاذ حياةً شديدة البساطة، و بعيدة كلّ البعد عن الرفاه و التكلّف، لا يأخذ لها إلّا الحدّ الأدنى. و رغم مرض القلب و الأعصاب الذي كان يعانيه، و رغم كِبَر سنّه كان يسافر إلى طهران كلّ أُسبوعين مرّة لملاقاة و محادثة ذلك المستشرق الفرنسيّ ذوداً عن الدين، و نشراً للثقافة الإسلاميّة رغم المشتقّات الكثيرة الناجمة عن ذلك.
هكذا كانت حياة فيلسوف الشرق، بل فيلسوف العالم الأوحد! و نحن طوينا الذكر عن أوضاعه الخاصّة صفحاً، لأنّا نعتقد أنَّ هذا البحث لا يليق بمقام العِفَّة و الشرف. هكذا كانت حياة أولياء الله:
صَبَرُوا أيَّاماً قصِيرَةً، أعْقَبَتْهُمْ رَاحَةً طَوِيلَةً.۱
و لقد كنّا نرى و نشاهد و نتلمّس صفة من صفات المتّقين التي ذكرها مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السّلام في خطبة همّام في وجود هذا الرجل الالهيّ:
أرَادَتْهُمُ الدُّنيَا فَلم يُريدُوهَا؛ وَ أسَرَتْهُمْ فَفَدُوا أنْفُسَهُمْ مِنْهَا.۱
هذه هي حياة الصالحين و الأحرار من أغلال النفس الأمارة، و المحلّقين في سماء القضاء و المشيئة الإلهيّة، و المنقادين في عالم التفويض و التسليم و الرضا.
و ما أكثر ما كان أُستاذنا يعجب بهذا الشعر:
منم كه شهرة شهرم بعشق ورزيدن | *** | منم كه ديده نيالودهام به بد ديدن |
به مىپرستى از آن نقش خود بر آب زدم | *** | كه تا خراب كنم نقش خود پرستيدن |
وفا كنيم و ملامت كشيم و خوش باشيم | *** | كه در شريعت ما كافرى است رنجيدن |
به پير ميكده گفتم كه چيست راه نجات | *** | بخواست جام مى و گفت راز پوشيدن٢ |
و في خضم هذه المشكلات و الصدمات، كان في وجود الأُستاذ عالماً من العظمة و الوقار و السكينة و الطمأنينة.
و هنا، كانت تتجلّى حقيقة حياة أئمّتنا المعصومين، لأنَّ أمثال الطباطبائيّ يمكنهم أن يكونوا أفضل مرآة و آية و ممثّل لتلك الأرواح الطاهرة، و لأنهم مرآة صافية قد صُقلت، فهم ينطقون عن ذوات الطهر و يصبحون آيات الهيّة و حججاً ربّانيّة.
سبب هجرة العلّامة الطباطبائي من تبريز الى قم
كانت هجرة العلّامة الطباطبائيّ إلى قم، و تحمّله لكلّ أنواع المشاكل و بُعده عن وطنه الذي ألفه لأجل إحياء المعنويّات و أداء الرسالة الإلهيّة في نشر الدين و تبليغه، و تنمية أذهان الطلّاب، و تصحيح العقائد الحقّة، و بيان الطريق المستقيم لتهذيب النفس و تزكية الأخلاق و تطهير السرّ، و التشرّف بلقاء الله، و الارتباط بعالم المعنى.
كما كان فقيدنا السعيد يقول: عند ما جئت من تبريز إلى قم، و بدأت بتدريس «الأسفار» و تحلّق الطلّاب حولى حتّى وصل عددهم إلى أكثر من مائة شخص؛ أمر آية الله البروجرديّ رحمة الله عليه أولًا: بقطع راتب كلّ طالب يحضر هذا الدرس.
و عند ما وصل الخبر إليّ، وقعت بحيرة فما ذا أفعل يا الهي؟ فإذا قُطِعَتْ رواتب هؤلاء الطلّاب الذين لا حول و لا قوّة لهم، و الذين يأتون من المدن البعيدة و لا مصدر لهم للعيش إلّا هذا الراتب الشهريّ، فما ذا يفعلون؟ و إذا تركت تدريس «الأسفار» لأجل مرتّب الطلّاب فإنّني أٌوجِّه صفعة لمستوى الطلّاب العلمي و العقائدي! فبقيت على هذا الوضع متحيراً إلى أن
جاء اليوم الذي كنت فيه أهمّ بالمرور حول الكرسي۱ فوقع نظري على «ديوان حافظ» الذي كان موضوعاً عليه، فأخذته و تفاءلت به لأعلم ما ذا أفعل هل أترك تدريس «الأسفار» أو لا؟ ففتحته، و إذا بهذه القصيدة الغزلية:
من نه آن رندم كه ترك شاهد و ساغر كنم | *** | محتسب داند كه من اين كارها كمتر كنم |
من كه عيب توبهكاران كرده باشم بارها | *** | توبه از مى وقت گل ديوانه باشم گر كنم |
چون صبا مجموعة گل را به آب لطف شست | *** | كج دلم خوان گر نظر بر صفحة دفتر كنم |
عشق دُردانه است و مَن غوّاص و دريا ميكده | *** | سر فرو بردم در آنجا تا كجا سر بر كنم٢ |
لاله ساغر گير و نرگس مست و بر ما نام فسق | *** | داورى دارم بسى يا ربّ كرا داور كنم |
باز كش يكدم عنان اى ترك شهرآشوب من | *** | تا ز اشك و چهر، راهت پر زر و گوهر كنم |
من كه از ياقوت و لعلِ اشك دارم گنجها | *** | كى نظر در فيض خورشيد بلند اختر كنم |
عهد و پيمان فلك را نيست چندان اعتبار | *** | عهد با پيمانه بندم شرط با ساغر كنم |
من كه دارم در گدائى گنج سلطانى بدست | *** | كى طمع در گردش گردونِ دون پرور كنم |
گر چه گردآلودِ فقرم شرم باد از همّتم | *** | گز به آب چشمه خورشيد دامن تر كنم۱ |
عاشقان را گر در آتش مىپسندد لطف دوست | *** | تنگ چشمم گر نظر در چشمه كوثر كنم |
دوش لعلش عشوهاى مىداد حافظ را ولى | *** | من نه آنم كز وى اين افسانها باور كنم۱ |
و دهشت من هذا الغزل، فهو يدلّ على ضرورة تدريس «الأسفار» و أنَّ تركه في حكم الكفر السلوكيّ.
و ثانياً: ثمّ لم يوم أو يومان حتّى بعث آية الله البروجرديّ خادمه الحاجّ أحمد ليبلّغني رسالة مضمونها: نحن في أيّام الشباب كنّا ندرس في الحوزة العلميّة في أصفهان كتاب «الأسفار» عند المرحوم جهانگير خان و لكن بشكل سرّي، و لم يكن أحد يعرف بذلك، أمّا أن يكون هناك تدريس علني لـ «الأسفار» في الحوزة الرسميّة فليس فيه أيّ وجه للصلاح، و يجب أن يُترك!
فقلتُ في جوابه: أبلغ السيّد البروجرديّ من جانبي، أنّني قد درست العلوم المعروفة و الرسميّة كالفقه و الأُصول، و باستطاعتي أن أتولى تدريسها و تأسيس مجالسها، و لن نتوانى عن الآخرين.
لقد جئتُ من تبريز إلى قم فقط و فقط لأجل تصحيح عقائد الطلّاب على أساس الحقّ، و لمواجهة عقائد الماديّين الباطلة و غيرهم. و في ذلك الزمان الذي كان حضرة آية الله يدرس مع مجموعة قليلة من الطلّاب عند المرحوم جهانگير خان، كان الطلّاب و الناس قاطبة بحمد الله مؤمنين
و عقائدهم صافية و لم يحتاجوا إلى تأليف مجالس علنيّة لتدريس «الأسفار». و لكنَّ اليوم، كلّ طالب يدخل إلى قم، فإنّه يأتي محمّلًا بعدّة حقائب من الشبهان و الإشكالات.
و اليوم يحب أن ندرك الطلّاب، و نعدّهم لمواجهة المادّيّين و عقائدهم على أساس صحيح، و نعلّمهم الفلسفة الإسلاميّة الحقّة، و نحن لن نترك تدريس «الأسفار».
و لكن في نفس الوقت فإنّني أعتبر آية الله البروجرديّ حاكم الشرع. فإذا حكم بترك «الأسفار» فإنَّ القضيّة ستأخذ منحى آخر.
ثمّ قال العلّامة: و بعد هذه الرسالة؛ لم يتعرّض لنا آية الله البروجرديّ بأيّ وجه، و انشغلت لسنوات بتدريس الفلسفة من «الشفاء» و «الأسفار» و غيرهما.
و كان آية الله البروجرديّ كلّما التقى بنا عاملنا باحترام شديد، و قد أهداني ذات يوم مصحفاً من القرآن الكريم من أجود و أروع الطبعات.
***
حقّاً، ماذا أقول في فضائل رحل كان غريباً بيننا فجاء غريباً و رحل غريباً؛ و لم يعرفه أحد؟!
كان العلّامة الطباطبائيّ رضوان الله عليه ملجأً و ملاذاً للمخلِصين من تلامذته و مريديه يهرعون إليه عند وقوع الحوادث. و كالمصباح المضيء كان ينير الطريق و يكشف عن الأخطار و يفرق الحقّ من الباطل، و يرشد إلى كشف المسائل العلميّة و رفع كلّ مجهول.
و أنا الحقير لم أكن أستفيد من محضر فيضه و علمه في تلك الأيّام التي قضاها بالدراسة في قم فحسب، و إلى الحدّ الذي أَعْتبر نفسي فيه عبداً و ربيب منزله، بل حتّى بعد تشرّفي للنجف الأشرف بقي باب المراسلات
مفتوحاً، و كان يردّ عليّ بكتاباته الجذّابة الهادية.
و بعد رجوعي من النجف و حتّى اليوم لم يأت زمن رأيت نفسي في غنى عن علمه و محضر فيضه العظيم.
و في كلّ مجلس كنت أتشرّف بزيارته كان يفيض عليّ برحمته و علمه، و كان يبعث البهجة و السرور و الوجد إلى الدرجة التي تشعرني بالخجل الشديد من شدّة حقارتي في نفسي. و كانت عادتي أن أزور قم كلّ أُسبوعين مرّة؛ و كانت ساعات زيارته و لقائه عظيمة و قيّمة عندي.
ما زلت أذكر جيّداً تلك الليلة في طهران عند ما كنت أكتب شرحاً على كتاب «السير و السلوك» المنسوب للمرحوم آية الله بحر العلوم النجفي أعلى الله تعالى درجته، و واجهني إشكال عجزت عن حله رغم تفكيري المتواصل. و لم يكن في ذلك الوقت قد استعمل الهاتف الآلي في إيران، لهذا عزمت على الذهاب إلى قم في تلك الليلة، و و صلت إليها عند منتصف الليل، و قضيت ليلتي في «مهمانخانه بلوار» (فندق البُلفار). و في الصباح ذهبت إليه بعد أن تشرّفت بزيارة مرقد حضرة السيّدة المعصومة سلام الله عليها، و بقيت عنده حتّى الظهيرة أستفيد من محضره العظيم البركة. و لم تكن المسألة الوحيدة التي حصلت على إجابتها، بل حصلت على حلّ الكثير من المسائل الأخرى.
و كنت كلّما تشرّفت بلقائه و أردت أن أنحني لأُقَبِّلَ يده خبَّأها تحت عباءته، و قد اعتراه حياء و خجل يجعلني أتأثّر و أضطرب.
قلت له ذات يوم: نحن نريد أن نحصل على الفيض و البركة و الحاجة بتقبيل يدكم، فلما ذا تمنعونا؟! ثمّ قلتُ: ألَا تقبلون هذه الرواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: مَنْ عَلَّمَنِي حَرْفاً فَقدْ صَيَّرنِي
عَبْداً.۱
فقال: نعم، فهي رواية مشهورة و متنها مطابق للموازين.
فقلت: لقد علّمتني كلّ هذه الكلمات، و جعلتني عبداً لمرّات و كرّات؛ أ ليس من أدب العبد أن يقبّل يدي مولاه؟! و يتبرّك بهما؟
و ببسمة خجولة قال: نحن جميعاً عبيد الله!٢
ما لم أتحمّله و لم أتصوّره، هو رحيل هذا الرجل.
فموت هذا الإنسان الإلهيّ موتٌ للعالم، لأنَّ العلّامة كان عالماً.٣
گر چه از هر ماتمى خيزد غمى | *** | فرق دارد ماتمى تا ماتمى |
اى بسا كس مُرد وكس آگه نشد | *** | مرگ او را مبدئى و مَختَمى |
اى بسا كس مُرد و در مرگش نسوخت | *** | جز دل يك چند يار همدمى |
ليك اندر مرگ مردان بزرگ | *** | عالَمى گريد براى عالَمى |
لاجرم در مرگ مردانى چنين | *** | گفت بايد: اى دريغا عالمى! |
العلّامة الطباطبائي حيّ إلى الابد
النَّاسُ مَوْتَى وَ أهْلُ العِلْم أحْيَاءُ.۱
أحِبَّايَ أنتم أحْسَنَ الدَّهْرُ أمْ أسَا | *** | فَكُونُوا كَمَا شِئتم أنَا ذَلِكَ الخِلُ |
إذَا كَانَ حَظِيّ الهجْرَ مِنكُمْ وَ لم يَكُن | *** | بِعَادٌ فَذَاكٌ الهجْرُ عِندِي هُوَ الوَصْلُ |
وَ مَا الصَّدُ إلّا الوُدُّ مَا لم يَكُنْ قِلى | *** | وَ أصْعَبُ شَيءٍ غير إعْرَاضِكُمْ سَهْلُ |
وَ صَبْرِيَ صَبْرٌ عَنكُمُ وَ علَيْكُمْ | *** | أرَى أبَداً عِندِي مَرَارَتُهُ تحلُو |
أخَذْتم فُؤَادِي وَ هُوَ بَعْضِي فَمَا الذي | *** | يَضُرُّكُمْ لَوْ كَانَ عِندَكُمُ الكُلُ |
نَأيْتم فَغير الدَّمعِ لم أرَ وَافِياً | *** | سِوَى زَفْرَةٍ مِنْ حَرِّ نَارِ الجوَى تَغْلُو |
حَدِيثِي قَدِيمٌ في هَوَاهَا وَ مَا لَهُ | *** | كَمَا عَلمتْ بَعْدٌ وَ لَيْسَ لها قَبْلُ |
وَ حُرْمَةِ عَهْدٍ بَيننَا عَنْهُ لم أحُلْ | *** | وَ عَقْدٍ بِأيْدٍ بَيننَا مَا لَهُ حَلُ |
لانْتَ عَلَى غَيْظِ النَّوَى وَ رِضَى الهَوَى | *** | لَدَيّ وَ قَلْبِي سَاعَةً مِنْكَ مَا يَخْلُو |
تُرَى مُقْلَتِي يَوْماً تَرَى مَنْ احِبُّهُمْ | *** | وَ يَعْتِبُنِي دَهْرِي وَ يَجْتَمعُ الشَّمْلُ |
وَ مَا بَرِحُوا معنى أرَاهُمْ مَعِي فَإن | *** | نَأوْا صُورَةً في الذِّهْنِ قَامَ لَهُمْ شِكْلُ |
فَهُمْ نَصْبُ عَيني ظَاهِراً حَيثما سَرَوْا | *** | وَ هُم في فُؤَادِي بَاطِنَاً أينمَا حَلُّوا |
لَهُمْ أبَداً مِنِّي حُنُوٌّ وَ إن جَفَوا | *** | وَ لِي أبَدَاً مَيْلٌ لَهُمْ وَ إنْ مَلُّوا.۱ |
لم أكن أتوقّع أن يأتي ذلك اليوم الذي لا تكون فيه و أنا حيّ، فأجلس في عزائك! و أكتب في رثائك. حقّاً، فأنت من عالم القدس دائم القلق على حال المهجورين! ترشدهم بذلك اللطف و العطف و الصفاء و الوفاء في عالم الطبع و الكثرة كيف تغفل عنهم في عالم التجرّد و الوحدة؟!
پيش ازينت بيش ازين غمخوارى عشّاق بود | *** | مهرورزى تو با ما شهرة آفاق بود٢ |
ياد باد آن صحبت شبها كه در زلف توام | *** | بحث سِرِّ عشق و ذكر حلقة عشّاق بود |
از دم صبح أزل تا آخر شام أبد | *** | دوستى و مهر بر يك عهد و يك ميثاق بود |
حسن مَهرويانِ مجلس گرچه دل مىبرد و دين | *** | عشق ما در لطف طبع و خوبى اخلاق بود |
ساية معشوق اگر افتاد بر عاشق چه شد | *** | ما به او محتاج بوديم او به ما مشتاق بود |
پيش ازين كاين سقف سبز و طاق مينا بركشند | *** | منظر چشم مرا ابروى جانان طاق بود۱ |
في لزوم اتّباع العقل و القلب و الشرع
بحث عامّ حول: العقل و القلب و الشرع
إن كلّ إنسان يجد في نفسه مصدرين للإدراك و الفهم الأول: و هو
العقل، و الثاني: و هو القلب و الوجدان.
فبالقوّة العاقلة يُدرك الإنسان مصالحه و مفاسده، و يميّز بين المحبوب و المكروه، و الحقّ و الباطل؛ و بالقلب و الوجدان اللذين يمكن تسميتهما بالفطرة أو الشعور الخفي أو الإدراك الخفي يتعرّف على الطريق الذي يربطه بعالم الوجدان و علّة إيجاده و إيجاد العالم و انجذابه لمبدأ المباد و غاية الغايات.
و بالتأكيد فإنَّ هذين العاملين المهمّين للإدراك موجودان في كلّ إنسان يؤدّي كلّ واحد منهما دوره في آفاق الإدراك و الفهم الخاصّ لا يستغني أحدهما عن الآخر و إذا فقد واحد أُغلق في وجه الإنسان عالم من المدركات و المعلومات.
و يوجد العديد من الآيات و الروايات التي تتحدّث عن ضرورة القوّة العاقلة و عدم استغناء الإنسان عنها؛ نكتفي هنا بذكر بعضها كأمثلة على الكلام:
ففي الآيات قوله تعالى:
أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ.۱
و من المفروض هنا أنّ المشركين يتبعون القلب و الوجدان بعبادتهم غير الله، و قد اعتبروا أنفسهم مرتبطين بالله، غاية الأمر أنّهم قد انحرفوا و تزلزلوا بسبب عدم تعقّلهم، و لم يقدروا على التشخيص و التطبيق. و بسبب ضيق تفكيرهم اعتبروا الله مقيّداً و مقيّداً بخصوص أرباب الأنواع و مظاهرها من الأصنام و الأوثان.
صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ.٢
لأنهم لم يستخدموا القوّة العاقلة، و أصبحوا مثل من فقد الحواسّ البصر و السمع و النطق.
أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ.۱
فَبَشِّرْ عِبادِ ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ.٢
فمن الواضح أنَّ الاستماع للحديث، و تمييز حقّه من باطله و حسنه من قبحه من وظائف القوى الفكريّة و لهذا و صفتهم الآية بأنّهم أصحاب العقول و الألباب.
وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ.٣
و ذلك لأنَّ الكفّار قد اختاروا ديانتهم على أساس غرائزهم و اتّبعوها حتّى و إن كانت عبادة للأصنام و لكن لأنهم لم يستمدّوا من قواهم العقلية فإنَّ تلك الغرائز و الأحاسيس الباطنيّة كانت تحرفهم دائماً إلى الخيالات الواهية و الأوهام الفاسدة. و إضافة إلى أنهم لم يلتصقوا بقواهم الوجدانيّة.
فأصبح مثلهم كالذي لا يدرك من الحديث إلّا الصوت المنبعث، فهم لا يسمعون من كلام الحقّ و حديث التوحيد إلّا بعض المفاهيم، لكنّهم لا يدركون الحقائق، و هي لا تستقرّ في أنفسهم. لذلك كانوا صمّاً و عميّاً و بكماً لا يعقلون أبداً.
و أمّا في الروايات
ففي «الكافي» عن عدةً من الأصحاب، عن أحمد بن محمد، عن
بعض مرفوعاً عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلّى اللهُ عَلَيْهِ وَ آلِهِ وَ سَلَّمَ:
إذَا رَأيْتم الرَّجُلَ كَثِيرَ الصَّلاةِ كَثِير الصِّيَامِ فلَا تُبَاهُوا بِهِ حَتَّى تَنْظُرُوا كيف عَقْلُهُ.۱
كما يروي في «الكافي» عن عدّة من الأصحاب، أنّه قال: قَالَ أبُو عَبْدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: دِعَامَةُ الإنْسَانِ العَقْلُ.٢
و فيه أيضاً، عن عليّ بن محمّد، عن سهل بن زياد، عن إسماعيل بن مهران، عن بعض رجاله، عن الإمام الصادق عليه السلام قال: العَقْلُ دَلِيلُ المؤمِنِ.٣
و حول ضرورة القلب و الوجدان و عدم الاستغناء عنهما، وردت آيات و روايات عديدة:
ففي الآيات قوله تعالى:
أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.٤
فظاهر الخطّاب موجّه إلى أولئك الذين يملكون عقولًا و شعوراً و لكن بسبب اتّباع أهواء النفس الأمّارة أعموا بصيرتهم، إذ جعلوا وجدانهم تحت حجب المعاصي و الذنوب الباطنة.
إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ.٥
فالله تعالى يشبّه الذين أفسدوا وجدانهم و نور باطنهم بالموتى، بل إنَّه يعدّهم موتى بالحقيقة، و هم أصمّاء يهربون دائماً و لا يستقرّ كلام الحقّ في آذانهم و لا يؤثّر فيهم أبداً.
إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ.۱
قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ.٢
أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى.٣
ففي هذه الآيات نجد الله سبحانه و تعالى يصف أُولئك الذين أخمدوا نور باطنهم و أغلقوا في وجوههم سبيل الآخرة بأنّهم كالأموات الذين حلّوا في القبور، أو كالعمي.
و هذه الآيات تشير إلى اختفاء نور القلب، و لا تقصد عدم اتّباع القوّة العقلية و الفكريّة.
أمّا الروايات التي تتحدّث عن هذا الأمر فهي فوق طور الإحصاء و إنَّما نذكر هنا بعضاً منها كأمثلة على المطلب:
روى في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن فضّال، عن أبيه، عن ابن أبي حميلة، عن محمّد الحلبيّ، عن الإمام الصادق عليه السلام في قول الله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها. قال: فَطَرَهُمْ على التَّوحيد.٤
و أيضاً في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى بن عُبَيد، عن يونس، عن جميل قال:
سَألْتُ أبَا عَبْد اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَن قَوْلِهِ عَزَّ وَ جَلَ «هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.» قَالَ: هُوَ الإيمان. قَالَ: قُلتُ: «وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ»؛ قَالَ: هُوَ الإيمَانُ. وَ عَن قَوْلِهِ: «وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى» قَالَ: هُوَ الإيمان.۱
و أيضاً ورد في «الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن محمّد بن عيسى بن يونس، عن عبد الله بن مسكان، عن الصادق عليه السلام في قوله: «حَنِيفاً مُسْلِماً» قال: خَالِصَاً مُخْلِصاً لَيْسَ فيهِ شَيءٌ مِن عِبَادَةِ الأوْثانِ.٢
و يلاحظ في هذه الروايات أنَّ جلاء القلب من الصدأ و أكدار الطبيعة و الأهواء، و الإيمان بالله و الفطرة التوحيديّة، هي ذلك النور الباطنيّ الذي هو منبع إدراك القلب و اتّجاه الوجدان إلى عوالم الملكوت و الجبروت و اللاهوت.
من مجموع ما ذكر، يستفاد أنَّ كلا المصدرين للإدراك موجودان في الإنسان، و لا ينفكّ عنهما، و هما مصدر التفكّر العقلي و مصدر الأحاسيس و العواطف و الشهود القلبيّ و الوجدانيّ.
فالشهود القلبيّ يؤدّي إلى الإيمان و إخراج الإنسان من حقيقته و واقعيّته و ربطه بذات الباري تعالى شأنه؛ و بدونه، لن يحصل للإنسان أيّ خضوع أو خشوع و لو امتلك آلاف الأنواع من التفكير العقلي و الفلسفي و الذهنيّ، بل يمكن أن يقع التزلزل الروحيّ و الوجدانيّ بعد سلسلة من الاستدلالات الصحيحة القائمة على أساس البرهان الصحيح و القياس المنطقيّ؛ و لن توصل الإنسان إلى عالم السكينة و الطمأنينة.
التفكير العقلي يؤدّي إلى تعادل و توازن العواطف و الأحاسيس الباطنيّة، و يقف مقابل الميول و النزعات الوهميّة الخيالية الواهية، و يسير بذلك الشهود و الوجدان في الطريق الصحيح.
فإذا لم يكن هناك تفكّر عقلي لانحرف ذلك الشهود عن مسيره الصحيح و لآمن بالموهومات و الخيالات، و لا نجذب القلب عند أدنى مواجهة إلى ما يجذبه، مبتلياً بذلك بشكل دائم.
و ممّا ذكر يمكن أن ندرك محلّ النزاع بين العقل و العشق، و تقدّم كلّ واحد على الآخر جيّداً، حيث إنَّ أصل هذا النزاع لا طائل له؛ فإنَّ دور العشق منفصل عن دور العقل و متميّز عنه، و كلّ واحد قد جعل في قناة خاصّة مختصّة به، و كلاهما ضروريّان للإنسان، فإذا أعمل أحدهما و ترك الآخر أو أهمله وقع في الخطأ و الاشتباه.
و قد حثّ الشرع كذلك على الموضوعين، و قوّى كلّ واحد منهما، لأنَّ كلًّا من العقل و القلب و الشرع يحكي عن حقيقة و واقعيّة واحدة، فهم ثلاثة تراجم لمعنى واحد.
و بناء على هذا، فمن المستحيل أن يكون حكم الشرع مخالفاً لحكم العقل و الفطرة؛ أو حكم العقل مخالفاً لحكم الفطرة و الشرع، أو حكم الفطرة مخالفاً لحكم العقل و الشرع.
فهذه الأٌمور الثلاثة متّصلة كالسلسلة الواحدة التي تحفظ كل حلقة منها الأخرى و تسعى إلى تثبيتها.
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ.۱
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً.۱
ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.٢
و روى في «الكافي» عن أبي عبد الله الأشعريّ، عن بعض أصحابنا مرفوعاً عن هشام بن الحكم روى أنّه قال: قَالَ لِي أبو الحَسَنِ مُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ عَلَيْهما السَّلامُ؛ إلى أن قال:
يَا هِشَامُ! إنَّ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حُجَّتَين؛ حُجَّةً ظَاهِرَةً وَ حُجَّةً بَاطِنَةً؛ فَأمَّا الظَّاهِرَةُ فَالرُّسُلُ وَ الأنبِيَاءُ وَ الأئِمَّةُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ؛ وَ أمَّا البَاطِنَةُ فَالعُقُولُ.
و أيضا في «الكافي» عن محمّد بن يحيى مرفوعاً، قَالَ: قَالَ أمِيرُ المُؤمِنِينَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
مَنِ اسْتُحْكمَتْ لِي فِيهِ خصْلَةٌ مِنْ خِصَالِ الخَيرِ، احْتملْتُهُ عَلَيْهَا وَ اغْتَفَرْتُ فَقْدَ مَا سِوَاهَا؛ وَ لَا أغْتَفِرُ فَقْدَ عَقْلٍ وَ لَا دِينٍ.
لإنَّ مُفَارَقَةَ الدِّين مُفَارَقَةُ الأمْنِ؛ فَلا يَتَّهنَّأُ بِحَياةٍ مَعَ مَخَافَةٍ؛ وَ فَقْدَ العَقْلِ فَقدُ الحَيَاةِ، وَ لَا يُقَاسُ إلَّا بِالأمْوَاتِ.٣
أجل، فقد جرى التأكيد في آيات القرآن الكريم و أخبار المعصومين سلام الله عليهم أجمعين على المواضيع الثلاثة من تقوية العقل
و تقوية القلب و ضرورة اتّباع الشرع. و نجد في الأدعية و المناجات طلباً دائماً لتقوية هذه الأُمور بالاستمداد من الذات الأقدسيّة للحضرة الأحديّة.
فأمير المؤمنين عليه السلام ضمن أدعيته الواردة في «نهج البلاغة» يقول:
الحمد لِلَّهِ الذي لم يُصْبِحْ بِي مَيتاً وَ لَا سَقِيماً؛ و لَا مُضْرُوباً على عُرُوقِي بِسُوءٍ؛ وَ لا مَأخُوذاً بِأسوَإِ عَمَلَي، و لَا مَقطُوعاً دَابِري؛ وَ لَا مُرْتَدّاً عَنْ دِيني، وَ لَا مُنكِراً لِرَبِّي، وَ لَا مُستَوْحِشاً مِن إيماني؛ وَ لَا مُلْتَبِاً عَقْلِي؛ وَ لَا مُعَذَّباً بِعَذَابِ الامَمِ مِنْ قَبْلِي.۱
لقد كان أستاذنا العلّامة الطباطبائيّ قدّس الله سرّه بالنسبة للأُمور الثلاثة في درجة الكمال، بل كان حائزاً على المرتبة الاولى بين أقرانه:
فمن جهة كمال القوّة العقليّة و الحكمة النظريّة فمتّفق عليه بين العدوّ و الصديق. و كما ذكرنا فإنَّه كان وحيد عصره في العالم الإسلاميّ.
و أمّا من ناحية كمال القوّة القلبيّة و الحكمة العملية، و السير الباطنيّ في مدارج و معارج عوالم الغيب و الملكوت و الوصول إلى درجات المقرّبين و الصدّيقين، فإنَّ فمه الصامت دائماً حيث كان يعتبر أنَّ كتمان السرّ من اعظم الفرائض لا يجيز لنا أن نكشف أكثر من ذلك في هذه المرحلة، حتّى بعد زمن حياته.
إلّا أنّنا نقول إجمالًا، كما سبق أن قلنا: إنَّ العلّامة كان غائباً عن الدنيا، فقد جاء غائباً و رحل غائباً.
وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.۱
و أمّا من جهة الشرع، فقد كان نفسه فقيهاً متشرّعاً يعنى برعاية السنن و الآداب بكلّ ما في الكلمة من معنى، حتّى انّه لم يقصّر عن الإتيان بأبسط المستحبّات، و كان ينظر الى الذين جاءوا بالشرع المبين نظر إعظام و إجلال و تبجيل. و كان يعترض على بعض الصوفيّة الذين لا يُولون الشرعَ المقدّس من الإهتمام ما هو أهله، و ينتقدهم و يعدّ نهجهم مقروناً بالخطأ، و يعتبره غير مُنتةٍ بهم الى المنزل المقصود.
و كان يمتدح كثيراً هذه العبارة في «الرسالة المنسوبة الى بحر العلوم» (و ترجمتها كما يلي):
و امّا الاستاذ العام فلا يُعرف إلّا بمصاحبته في الخلاء و الملاء و بالمعاشرة الباطنيّة و بكمال إيمان جوارحه و نفسه. و حذارِ من الإنخداع بمتابعته لظهور خوارق العادات، و بيان دقائق النكات، و اظهار الخفايا الآفاقيّة، و الخبايا الأنفسيّة، و تبدّل بعض حالاته؛ لأنّ الإشراف على الخواطر و الاطّلاع على الدقائق و العبور على النار و الماء و طيّ الأرض و الهواء و الإحضار من المستقبل و أمثالها، إنّما تحصل في مرتبة المكاشفة الروحيّة، و ما أكثر المنازل و المراحل التي تعقب هذه المرحلة الى المنزل المقصود، إذ الطريق بلا نهاية؛ و ما أكثر السالكين الذين اجتازوا هذه المرحلة ثمّ انحرفوا بعد ذلك عن الجادّة، فدخلوا وادي اللصوص و الأبالسة! و ما أكثر الكفّار الذين حصلوا على اقتدار على كثير من الأمور
في هذا السبيل!».
و كان كثيراً ما يشرحها لتلاميذه، و يستند عليها كراراً، و يبيّن السبب في عدم إدراك الواقع عند عدم رعاية الشرع المطهّر.
و كان للاستاذ العلّامة تواضع و خضوع جمّ مقابل القرآن الكريم خاصّةً، و كان يحفظ الآيات القرآنية الى حدٍّ ما، و قد ولد له إثر الممارسة نوعٌ من التعشّق بالآيات، فكان يعدّ تلاوة القرآن وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ أفضل و أسمى عملٍ له، و كان يمرّ على آية فينتقل منها الى أخرى ثمَّ إلى أخرى و هكذا، فكان ينغمر في عالم من البهجة و المسرّة خلال تجواله في هذه الجنّات القرآنيّة.
و كان العلّامة يعيب بشدّة على بعض المتنسّكين من ذوي الظواهر المقدّسة الذين صادروا الشرع، فانتقدوا بعنوان الحماية للدين و الترويج للشرع المبين جميع أصناف أولياء الله المتنسّكين بالمراقبة و المحاسبة، و الذين يقومون أحياناً بسجدات طويلة. و كان أوّل عملٍ لهم انتقاد و ذمّ بعض أعلام العرفان كالخواجة حافظ الشيرازي و مولانا محمّد البلخي الرومي صاحب كتاب «المثنوي».
و كان العلّامة يعدّ هذا النوع من التفكير ناشئاً من الجهل و الجمود و النزوع الى التحجّر، و هي أمور تنفر منها روح الشريعة.
و كان يقول بأنّ التهجّم على الفلسفة و العرفان و هما دعامتان عظيمتان من دعائم الشرع المبين ناشي عن الجمود الفكري و الخمود الذهني، و يقول:
يجب الإستعاذة بالله من شرّ هؤلاء الجهّال، فهم الذين قصموا ظهر رسول الله، و ذلك في قوله: قَصَمَ ظَهرِي صِنفَانِ: عَالم مُتَهَتِّكٌ وَ جَاهِلٌ
مَتَنَسِّكٌ.۱
و كذلك كان العلّامة بالنسبة لأصحاب القوّة العقلية و قرّاء الحكمة و الفلسفة الذين هم ضعفاء في الأٌمور الشرعيّة، و لم يكن ليظهر اعتناء بهم و يقول: إنَّ الحكمة التي لا تجلس على عرش الروح فتسوقها إلى اتّباع الشريعة ليست حكمة حقيقيّة.
خطبة أمير المؤمنين في تفسير آية: رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ
... و هنا حيث ننهي هذه الرسالة الشريفة، ما أجمل أن نذكر خطبة أمير المؤمنين عليه السلام حين تلا قوله تعالى: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، فأشار إلى الرجال الإلهيّين و أولياء الله و صفاتهم و أحوالهم، حتّى نختم هذه الرسالة ببركة هذه الخطبة العالية العلية من مولى الموحّدين و قائد الغرّ المحجّلين، و حتّى يعلم أنَّ جميع هذه الآثار و الصفات كانت مجتمعة في الأٌستاذ العلامة الطباطبائيّ قدس الله تربته الشريفة و أفاض علينا من بركاته المنيفَة. و كأنَّ مولى الموالي يحكى عنه و عن أمثاله في تلامذة مدرسة التوحيد و الولاية و العرفاء بحقّ:
وَ مَا بَرِحَ لِلَّهِ عَزَّتْ آلاؤُهُ في البرهَةِ بَعْدَ البرهَةِ وَ في أزْمَانِ الفَتَرَاتِ
عِبَادٌ نَاجَاهُمْ في! فِكْرِهِمْ؛ وَ كَلمهُمْ في ذَاتِ عُقُولِهِمْ؛ فَاسْتَصْبَحُوا بِنُورِ يَقْظَةٍ في الأسْمَاعِ وَ الأبْصَارِ وَ الأفْئِدَةِ يُذَكِرُونَ بِأيَّامِ اللهِ؛ وَ يُخَوِّفُونَ مَقَامَهُ بمنزلَةِ الأدِلَّةِ في الفَلَواتِ.
مَنْ أخَذَ القَصْدَ حَمِدُوا إليهِ طَرِيقَهُ؛ وَ بَشَّرُوهُ بِالنَّجَاةِ؛ وَ مَنْ أخَذَ يَمِيناً وَ شِمَالًا ذَمُّوا إليهِ الطَّرِيقَ، وَ حَذَّرُوهُ مِنَ الهلَكَةِ؛ وَ كَانُوا كَذَلِكَ مَصَابِيح تِلْكَ الظُّلماتِ وَ أدِلَّةَ تِلْكَ الشُّبُهَاتِ.
وَ إنَّ لِلذِّكْرِ لأهْلًا أخَذُوهُ مِنَ الدُّنيَا بَدَلًا، فَلم تَشْغُلْهُمْ تجارَةٌ وَ لَا بَيْعٌ عَنْهُ؛ يَقْطَعُونَ بِهِ أيَّامَ الحيَاةِ؛ وَ يَهْتِفُونَ بِالزَّوَاجِرِ عَنْ محارِمِ اللهِ في أسْمَاعِ الغَافِلِين؛ وَ يَأمُرُونَ بَالقِسْطِ وَ يَأتمرُونَ بِهِ؛ وَ ينهَوْنَ عَنِ المنْكَرِ وَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْهُ.
فَكَأنَّمَا قَطَعُوا الدُّنيَا الى الأخِرَةِ وَ هُمْ فِيهَا فَشَاهَدُوا مَا وَرَاءَ ذَلِكَ؛ فَكَأنَّمَا اطَّلَعُوا غُيُوبَ أهْلِ البرزَخِ في طُولِ الإقَامَةِ فِيهِ؛ وَ حَقَّقَتِ القِيَامَةُ عَليْهِمْ عِدَاتِهَا. فَكَشَفُوا غِطَاءَ ذَلِكَ لأهْلِ الدُّنيَا حَتَّى كَأنَّهُمْ يروْنَ مَا لَا يَرَى النَّاسُ؛ وَ يَسمعُونَ مَا لَا يَسمعُونَ.
فَلَوْ مَثَّلْتَهُمْ لِعَقْلِكَ في مَقَاوِمِهِمُ المحمُودَةِ، وَ مَجَالِسهِمُ المَشْهودَةِ؛ وَ قَدْ نَشَرُوا دواوِين أعْمَالهمْ؛ وَ فَرَغُوا لِمُحاسَبَةِ أنفُسِهِمْ عَنْ كُلِّ صَغيرةٍ وَ كَبِيرةٍ امِرُوا بِهَا فَقَصَّرُوا عَنْهَا، أوْ نُهُوا عَنْهَا فَفَرَّطُوا فِيهَا، وَ حَمَلُوا ثِقْلَ أوْزَارِهِم ظُهورَهُم فَضَعُفُوا عَنِ الإسْتِقْلالِ بِهَا، فَنَشَجُوا نَشِيجاً وَ تجاوَبُوا نَجِيباً، يَعِجُّونَ الى رَبِّهِمْ مِن مَقَاوِمٍ نَدَمٍ وَ اعْتِرَافٍ؛ لَرَأيْتَ أعْلَامَ هُدى وَ مَصَابِيح دُجى قَدْ حَفَّتْ بِهِمُ الملَائِكَةُ، وَ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينةُ؛ وَ فُتِحَتْ لَهُمْ أبْوَابُ السماءِ، وَ اعِدَّتْ لَهُمْ مَقَاعِدُ الكَرَامَاتِ في مَقَامٍ اطَّلَعَ اللهُ عَلَيْهِمْ فِيهِ؛ فَرَضِي سَعْيَهُمْ؛ وَ حَمِدَ مَقَامَهُمْ؛ يَتَنَسَّمُونَ بِدُعَائِهِ رَوْحَ التجاوُزِ؛ رَهَائِنُ فَاقَةٍ إلى فَضْلِهِ، وَ اسَارَى ذِلَّةٍ لِعَظَمَتِهِ؛ جَرَحَ طُولُ الأسَي
قُلُوبَهُمْ، وَ طُولُ البُكَاءِ عُيُونَهُمْ.
لِكُلِّ بَابِ رَغْبَةٍ الى اللهِ مِنْهُمْ يَدٌ قَارِعَةٌ؛ يَسألُونَ مَنْ لَا تَضِيقُ لَدَيْهِ المَنَادِحُ؛ وَ لَا يَخِيبُ عَلَيْهِ الرَّاغِبُونَ، فَحَاسِبْ نَفْسَكَ لِنَفْسِكَ فَإنَّ غيرهَا مِنَ الأنفُسِ لَهَا حَسِيبٌ غيركَ.۱
لقد كانت حالات الأٌستاذ في السنوات الأخيرة من عمره عجيبة جدّاً، كان مستغرقاً في التفكّر و منطوياً على نفسه، و شديداً في المراقبة و قليلًا ما يتنازل٢ ممّا هو فيه. و في السنة الأخيرة كانت تغلب عليه حالة النوم و الخلسة، و بمجرد أن يستيقظ كان يتوضّأ و يجلس مستقبلًا القبلة.
في الثالث من شعبان (يوم ولادة الإمام سيّد الشهداء عليه السلام) سنة ۱٤۰۱ ه و برفقة زوجته المخدّرة المكرّمة و أحد الطلّاب المحترمين من أهل الفلسفة و السلوك الذي قدم لرعايته، تشرف بزيارة المشهد المقدّس لحضرة ثامن الحجج عليه الصلاة و السلام، و بقي هناك اثنان و عشرين يوماً ثمّ اختار الإقامة في دماوند طهران. بسبب لطافة الجوّ و الماء في الصيف.
و في تلك الفترة أٌحضر إلى مستشفي طهران للمعالجة؛ و بعدها اشتدّ عليه المرض إلى الدرجة التي لم يعد ينفع معها العلاج الطبّيّ إلى أن رجع إلى بلدة قم الطيّبة، حيث محلّ سكنه، و وضع في الفراش، و كان لا يستقبل غير الخواصّ من تلامذته.
يقول أحد تلامذته٣: ذهبت ذات يوم لعيادته، و كانت حالته سيّئة
جدّاً، فرأيت أنَّ جميع المصابيح في الغرفة مضاءة، و قد لبس كامل ثيابه و عباءته و اعتمّ بعمامته في حالة من السرور و الابتهاج الزائدين و هو يتمشّى داخل الغرف، و كأنّه ينتظر حضور أحد.
و ينقل عن أحد فضلاء قم، و هو من أساتذة ابني، أنّه كان يقول: كنت في الأيّام الأخيرة من حياة العلّامة أذهب إليه كلّ عصر لأرى إذا كان يحتاج إلى شيء فأعدّه له، إضافة إلى التمشّي معه قليلًا في صحن الدار.
و ذات يوم ذهبت إلى منزله كالعادة، و بعد السلام قلت له: هل تحتاجون إلى شيء؟
فكرّر قول: إنّني محتاج! إنّني محتاج! إنّني محتاج!
فتبين لي كأنَّ العلّامة يريد شيئاً آخراً؛ و أنّه يسير في أٌفق مختلف. ثمّ أرشدتُ إلى داخل الغرفة، و دخل معي، و كان مشغولا بقراءة أذكار و عيناه مغمضتان باستمرار و لا يفتحمها و لم أستطع معرفة ما يقوله، إلى أن حلّ وقت صلاة المغرب، فرأيت العلّامة يقيم الأذان دون أن يفتح عينيه و ينظر إلى السماء، ثمّ بدأ بصلاة المغرب.
أحضرتُ منديلًا من ورق و وضعتها مقابله لكي يسجد عليها، فلم يسجد. قلت في نفسي: لعلّه لم يسجد لأنّها منديلًا و ما لم تكن مورد اعتماد فلا يسجد؛ دخلت مرّة أخرى و أحضرت شيئاً مرتفعاً و وضعت تربة السجود عليه فسجد و أنهى صلاته.
كانت حالته تشتدّ سوءاً يوماً بعد يوم، إلى أن نقل إلى المستشفي في قم، و عند خروجه من منزله قال لزوجته: لم أعود بعد!
رحلة العلّامة الطباطبائي قدّس الله تربته
بقي في المستشفي حوالي الأٌسبوع، و في اليومين الأخيرين فقد وعيه كليّاً إلى صباح الأحد في الثامن عشر من شهر محرّم الحرام سنة ألف و أربعمائة و اثنين للهجرة، قبل الظهر بثلاث ساعات، حيث انتقل إلى المقرّ الأبديّ، و خلع لباس الجسد القديم، و تخلّع بخلعة الحياة الأبديّة.۱
...۱
داديم به يك جلوة رويت دل و دين را | *** | تسليم تو كرديم همان را و همين را |
ما سير نخواهيم شُد از وصل تو آرى | *** | لب تشنه قناعت نكند ماء معين را |
مىديد اگر چشم ترا لعل سليمان | *** | مىداد در أوّل نظر از دست نگين را |
در دائرة تاجوران راه ندارد | *** | هر سر كه نسائيده بپاى تو جبين را۱ |
وَ حَيَاةِ أشْوَاقِي إلي | *** | كَ وَ تُرْبَةِ الصَّبْرِ الجميل |
مَا استحسَنَتْ عَيني سِوَ | *** | اكَ وَ مَا صَبَوْتُ إلى خَلِيلِ٢ |
قَلبِي يُحَدِّتُنِي بِأنَّكَ مُتْلِفي | *** | رُوحِي فِدَاكَ عَرَفْتَ أمْ لم تَعْرِفِ |
مَا لِي سِوَى رُوحِي وَ بَاذِلُ نَفْسِهِ | *** | في حُبِّ مَنْ يَهْوَاهُ لَيْسَ بمسْرِفِ |
يَا مَانِعِي طِيبَ المنَامِ وَ مَانِحِي | *** | ثَوْبَ السّقَامِ بِهِ وَ وَجْدِي المتْلِفِ |
وَ حَيَاتِكُمْ وَ حَيَاتِكُمْ قَسَماً وَ في | *** | عُمْرِي بِغير حَيَاتِكُمْ لَمْ أحْلِفِ |
لَوْ أنّ رُوحِي في يَدِي وَ وَهَبْتُهَا | *** | لِمُبَشِّري بِقُدُومِكُمْ لم انصِفِ٣ |
و لم أكن موجوداً يوم ارتحال هذا الأستاذ الكبير في بلدة قم المقدّسة، لأنّني منذ سنتين تقريباً كنت مقيماً في المشهد الرضويّ المقدّس، و قد وضعت ترحالي و أعباء احتياجاتي على عتبة الملائكة الحافظين لهذا الإمام الهمام عليه السلام.
عشقي و شوقي إلى هذا الأٌستاذ دائماً في خاطري و ذكري و فكري
لأنَّ له حقّ الحياة على هذا العبد. و في هذه الأيّام حيث ذكراه لا تفارقني و الموضوع المحرّر هو عبارته عن كلّ ما يخطر في بالي كتبته بعنوان الشمس الساطعة كرسالة تسطع من نور هذه الشمس المتلألئة بالعلم و المعرفة، لأٌقدّمه لطالبي البصيرة و عاشقي لقاء حضرة الأحديّة حتّى يطالعوه، و بكلّ سعي و كدّ و جهد من يصلون إلى نهاية الطريق و معرفة ذات الأحديّة، و الفناء في ذاك الاسم المقصود و يجعلوه هدفهم. و إذا تقبّل الله سبحانه و تعالى هذا العمل أهدي ثوابه إلى الروح المنيرة إلى قاعدة العلم و التقوى. و للّه الحمدُ و له الشُّكر؛ انتهى القسم الأوّل من هذه الرسالة ليلة الأربعين لهذا الفقيد السعيد المصادف بليلة رحلة الرسول الأكرم خاتم النبيّين صلّى الله عليه و آله و سلّم من الثامن و العشرين من صفر الخير سنة ۱٤۰٢ ه. و قد استغرقت كتابته عشرين يوماً. و لَهُ الحمد في الاولى و الآخِرَةِ وَ آخِرُ دَعْوَانَا أنِ الحمْدُ لِلّهِ رَبِّ العَالمين وَ سَلَامٌ عَلَى المُرسَلِينَ وَ خَاتَمِ النَّبِيين محمّد وَ آله الطَّيّبِين الطَّاهِرِين وَ عَلَى أوْلِيَائِهِ المقَرَّبِين.
اللَهُمَّ أعْلِ دَرَجَةَ الاسْتَاذِ الأكْرَمِ وَ احْشُرْهُ مَعَ محمّد و آله المعْصُومِين، وَ أفِضْ عَلَينا مِن بَرَكَاتِهِ وَ لَا تَكِلْنَا إلى أنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَينٍ أبَداً في الدُّنيَا وَ الآخِرَةِ بِرَحْمَتِكَ يَا أرْحَمَ الرَّاحِمِين.
كَتَبَهُ بِيُمْنَاهُ الدَّاثِرَةِ، العَبْدُ المسْكِين السَّيِّدُ محمّد الحسَين الحسَينيّ الطِّهْرَانِيّ! عَفا اللهُ عَنْهُ وَ عَنْ وَالِدَيْهِ.
القِسْمُ الثاني: محاورات التلميذ و العلّامة
بسم الله الرحمن الرحيم
أفضل التحيّات الوافرة و الصلوات الزاكية لرسول الله خاتم النبيّين محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه و آله و سلّم ناشر لواء الحمد، و الحائز على مقام الشفاعة الكبرى؛ و سيّد الأنبياء الأوّلين و الآخرين في مقام القرب من الحضرة الأحديّة؛ و على وصيّه الأكرم حضرة خاتم الوصيّين و يعسوب الدين أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام و أولاده الأحد عشر الأماجد الممَجَّدين؛ و بالأخصّ قطب دائرة الإمكان صاحب العصر و الزمان الحجة بن الحسن العسكريّ عليه السلام واسطة الفيض الإلهيّ و منبع إفاضة أنوار الملكوت على عالم الناسوت عجّل الله تعالى فرجه الشريف؛ حامل أعباء الولاية الكلّيّة الإلهيّة، و جاذب أرواح الصدّيقين و المقرّبين إلى آخر درجات القرب و الكمال.
و أفضل الألطاف الخفيّة الإلهيّة و الرحمات المنزلة القدسيّة، على روح استاذنا العظيم الطاهرة آية الله المكرّم؛ الفقيد السعيد المرتحل حديثاً حضرة الأستاذ العلّامة الطباطبائيّ رحمة الله عليه رحمةً واسعة و أسكنه في دار القدس و الرفيق الأعلى، و أفاض علينا من بركاته بمحمّد و آله.
من هناك حيث كان مجلس المرحوم استاذنا مليئاً بالفيوضات، و حاوياً كل أنواع الاستفادات؛ و هذا الحقير كان يغتنم من سابق الأيّام الآثار المترشّحة إعتبرتُ هذا المجلس مغنماً، و كتبته، بالأخص في مدّة الأربعة أشهر من صفر المظفّر حتّى جمادي الاولى من سنة ۱٤۰۰ ه ق حيث كان
المخدوم المعظّم يقيم في طهران، و في أكثر الأيّام كنّا نستفيد من آثار مجلسه ساعة أو ساعتين.
و هذه المواضيع التي هي عبارة عن أسئلة و أجوبة كنت أكتبها؛ و رأيت أن أضعها بين أيدي الجميع للاستفادة منها، و لأنّ هذه الأسئلة كانت من هذه الحقير و الأجوبة من حضرته فإني اقدمها إلى أرباب البصيرة بعنوان محاورات التلميذ و العلّامة. وَ بِيَدِهِ أزِمَّةُ الامُورِ وَ بِهِ أسْتَعِينُ؛ وَ لا حَوْلَ وَ لا قُوَّةَ إلَّا بِاللهِ العَلِيّ العَظِيمِ.
الأَبحاثُ القُرآنيَة
بسم الله الرحمن الرحيم
العلّامة: كان لحضرة رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، انس و تعلّق شديد بالقرآن الكريم؛ بحيث إنّه كلما قرئ عليه آية منه، كان يتلو الآية التي تليها؛ و كان من جهة أخرى منبعاً للرحمة و المودّة.
و ذات يوم قدم أحد الأشخاص الذين حكم رسول الله بإهدار دمه (بسبب جريمة ارتكبها) إلى أمير المؤمنين عليه السلام و توسّل إليه قائلًا: يا عليّ! ما أفعل ليعفو عنّي رسول الله؟
فقال له أمير المؤمنين عليه السلام: اذهب إليه! و اقرأ هذه الآية عنده: تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ.۱
ففعل ذلك؛ فما كان من رسول الله إلّا أن أجابه مباشرة: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.٢
و كانت هذه الآية بمنزلة حكم العفو عن ذلك الشخص.
***
تفسير آية: عَبَسَ وَ تَوَلَّى أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى
التلميذ: لقد جاء في بعض تفاسير العامّة أنّ المقصود من فاعل فعل عَبَسَ وَ تَوَلَّى ، أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى هو رسول الله؛ و أن الخطاب: وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى ، أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى ، أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى ، فَأَنْتَ
لَهُ تَصَدَّى ، وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى ، وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى ، وَ هُوَ يَخْشى ، فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى،۱ مُوجّه إلى النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أيضاً؛ لأنّه يُعلم من عنوان المؤاخذة أنَّ العبس و الإعراض قد صدرا عنه.
العلّامة: ليس كذلك؛ لأنّه:
أولًا: أنَّ نظير هذا الخطاب موجود بكثرة في القرآن الكريم، حيث يوجّه الكلام أو المؤاخذة إلى رسول الله في حين أنَّه من المسلم لم يكن هو الفاعل.
كما جاء في الآية ٦۸، من السورة ٦: الأنعام:
إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ.
لأنّنا لو قارنّاها و طبّقناها على الآية ۱٤۰، من السورة ٤: النساء و هي:
وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً.
يتّضح جيداً أنّ الآية الثانية ناظرة إلى الاولى، و فيها قد تبيّن بشكل صريح أنّ مثل هذا الحكم قد نزل في كتاب الله سابقاً.
و لأنّ الخطاب في الآية الثانية موجّه إلى المؤمنين، يعلم أيضاً أنّ الخطاب في الآية الاولى التي أكّدت الآية الثانية على نزولها، و فيها دلالة على نزول ذلك الحكم، موجّه إلى المؤمنين؛ و إن كان ظاهره موجّهاً إلى الرسول الأكرم و بصيغة المخاطب المفرد.
و يعلم أيضاً لما ذا يكون الحكم مختصاً بالمؤمنين و عامّة الناس و هو في ظاهره موجّه إلى رسول الله؛ ذلك لأنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم مأمور بإبلاغ كلّ الامّة، و من خلال نافذة نفسه يتعرّف الناس على تكليفهم، و لهذا يتحمّل هو هذه الخطابات و التكاليف.
و هذا المعنى، من الامور الشائعة في عرف أهل اللغة و محاوراتهم، و هو كثير في البلاغة و الفصاحة الأدبيّة، حيث يقوم السلطان في طريقة خطابه بتوجيه الأمر إلى وزيره؛ في حين أنّ الأوامر تكون موجّهة إلى الرعيّة.
و لدينا في ذيل الآية ٤٤، من السورة ۱٦: النحل:
وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ.
و من الواضح جدّاً في هذه الآية أنّ الأحكام و التكاليف قد نزلت في الواقع للناس؛ أمّا رسول الله فهو الواسطة و النافذة لأجل إلقاء الأحكام و الأوامر على الناس.
امّا ذلك الشخص الذي كان يكفر بآيات الله و يستهزئ بها فهو الوليد بن المغيرة، و الذي ذكر القرآن قصّته في سورة المدَّثِّر:
ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ، وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً ، وَ بَنِينَ شُهُوداً ، وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً ، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً ، سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً ، إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، ثُمَّ نَظَرَ ، ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ ، فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ، سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ ، لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ ، لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ.۱
أجل، فإنّ الوليد۱ كان ينطق بمثل كلمات الكفر هذه و يقول: إنَّ القرآن سحر قويّ يؤثر.
و كان الوليد و أبو جهل و رفقاؤهم يجلسون و يستهزئون بالقرآن.
و عند ما نزلت الآية التى تذكر عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ، قال أبو جهل لقريش مستهزئً:
ثكلتكم أمّهاتكم! لقد سمعت ابن أبي كبشة (و يقصد رسول الله) يقول: إنّ حفظة جهنّم و حرّاسها، هم تسعة عشر؛ و أنتم جماعة! أ لا يوجد فيكم عشر رجال ليحملوا على حرّاس جهنم و يقضوا عليهم! و يخلّصوها من الخزنة التي يتحدّث عنها محمّد؟!
فقال أبو الأسود بن أسيد بن كلدة الجمحي: إنّني رجل فارس و شجاع، أكفيكم سبعة عشر منهم و انتم تكفّلوا بالاثنين الباقين!
و في سورة الأنعام و سورة النساء، يأتي الحديث عن كفر و الاستهزاء الوليد و أصحابه و خوضهم في آيات الله، و ينهى الله سبحانه و تعالى المؤمنين عن مجالستهم و الاستماع إليهم.
و في سورة الأنعام، جاء الحكم بصورة الخطاب الموجه إلى رسول الله؛ و معلوم أنّ المقصود هم المسلمون.
أمّا في سورة النساء فإنّه موجّه إلى المسلمين؛ و هو يذكر بالحكم الوارد في سورة الأنعام؛ و من المعروف أنّ سورة النساء قد نزلت بعد سورة الأنعام؛ فالخطاب الواحد قد جاء في سورة الأنعام موجّها إلى المسلمين
بصورة الخطاب لرسول الله، أمّا في سورة النساء فقد ورد بصورة الخطاب لجميع المسلمين.
ثانياً: بعد عدّة آيات يقول الله تعالى:
قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ ، مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ، ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ ، ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ ، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ.۱
و قد اتّفق جميع المفسّرين من الشيعة و السّنة: على أنّ ظاهر هذا التوبيخ من الله، لذلك الذي عبس و تولّى؛ أي أنّ ظاهر سياق العبارة، هو لفاعل عَبَسَ وَ تَوَلَّى الذي كفر و لم يُطع أمرَ الله أبداً.
و لا يمكن أن يكون هذا الخطاب ليس موجّها إلى رسول الله؛ فمن مراجعة الخطابات القرآنية للرسول تنكشف هذه الحقيقة؛ و لهذا نجد أنّ نفس مفسري العامّة الذين نسبوا فعل العبس و التولّي لرسول الله، أصبحوا هنا مجبورين على رفع اليد عن هذا الظهور، و قد قالوا إنّ هذه الآيات لا تنطبق على الرسول؛ بل نزلت في موضع آخر، ثمّ جمعها بعد ذلك معاً في هذه السورة.
و من المعلوم أنّ مثل هذا الادّعاء ليس إلّا إسقاطاً للقرآن من مرتبة البلاغه؛ و هو ناشئ من إرجاع ضمير عَبَسَ وَ تَوَلَّى إلى الرسول.
ثالثاً: اتّفق الجميع من الشيعة و العامّة على أنّ سورة ن وَ الْقَلَمِ التي هي من السور العتائق،٢ قد نزلت مع باقي العتائق في مكّة المكرّمة، و أنّ
سورة القلم قد نزلت بعد سور العَلَق و المُدَّثّر و المزَّمّل؛ و كان ذلك في بداية بعثة رسول الله.
و الله سبحانه تعالى يقول في هذه السورة وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ۱ مثنياً على رسوله، و معرّفاً إيّاه لكلّ العالمين.
كانت هذه أخلاق النبيّ في بداية البعثة؛ فكيف يمكن أن نتصوّر صدور مثل ذلك العمل (العبوس) من الرسول بعد البعثة و بعد مرور الزمن حيث إنّ الطبيعة و العادة تقتضيان رفعة الأخلاق و سموّها أكثر؟ و بمجرّد رؤية ذلك المؤمن الضرير و التقيّ هو ابن أمّ مكتوم، و لأجل استمالة زعماء قريش، و جلب قلوب المترفين و المستكبرين من العرب، يعبس الرسول و يعرض بوجهه!
إنّنا لا نجد مثل هذه الأخلاق حتّى في الأنبياء و الأولياء، بل و في مختلف طبقات المؤمنين الأتقياء و الملتزمين، فكيف برسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و حسب علمي أنّ فاعل عَبَسَ وَ تَوَلَّى هو عثمان بن عفّان الذي عبس و تولّى و أشاح بوجهه عند دخول ابن امّ مكْتُوم الأعمى على رسول الله. و تشهد على هذا المعني بعض الروايات التي تقول: إنَّهُ كَانَ رَجُلًا مِن بَنِي أمَيَّة. انتهى كلام العلّامة.
***
المقصود من السور الطّوال و المثاني في القرآن الكريم
التلميذ: جاء في كتاب الصلاة في «جواهر الكلام» في باب استحباب قراءة السورة بعد الحمد في النوافل أنّه قال: رَوَى الكُلَينِيّ بِسَنَدِهِ إلى سَعْدِ الإسْكَافِ أنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ:
اعْطِيتُ السُّوَرَ الطِّوَالَ مَكَانَ التَّورَاةِ، وَ السُّنَنَ مَكَانَ الإنْجِيلِ، وَ الْمَثَانِيَ مَكَانَ الزَّبُورِ؛ وَ فُصِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ ثَمَانٍ وَ سِتِّينَ سُورَةً؛ وَ هُوَ مُهَيْمِنٌ عَلَى سَائِرِ الكُتُبِ.
فما هو المقصود من السور الطّوال، و السُّنَن، و المَثَاني، و المفصّل في هذه الرواية؟
العلّامة: المراد من السور الطوال، السور السبع الطويلة في بداية القرآن التي سمّاها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم بالطوال و هي عبارة عن البقرة، و آل عمران، و النساء، و المائدة، و الأنعام، و الأعراف، و يونس.
بَيدَ أنّ عثمان قدّم سورتي الأنفال و التوبة على سورة يونس، حين جمع القرآن؛ لأنّه لم يعتبر سورة التوبة سورة مستقلّة؛ لأنّها لم تبدأ ب بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، بل اعتبرها متمّمة لسورة الأنفال؛ و لهذا، عدّ هاتين السورتين سورة واحدة، و جعلهما من السور الطوال.
و لكن عند ما اعترض عليه بأنّ رسول الله قد جعل سورة يونس بعد سورة الأعراف، و هي من السور الطوال، لم يملك جواباً؛ و قال: لم أكن أعلم بما فعله رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم.
و أمّا السُّنَن التي ورد ذكرها في هذه الرواية، فلم أجد لها نصّاً؛ إلَّا إنّ ما جاء في بعض الروايات كان بلفظ المئين، أي السور التي يقارب عدد آياتها المائة؛ و لعلّ السنن في هذه الرواية هي المِئين و قد حرّفت حين الكتابة.۱
و المشهور أنّ القرآن يقسم إلى ثلاثة أقسام: السور الطوال، السور المئين، السور المفصّلات. غاية الأمر أنّهم يطلقون على السور التي تبدأ من سورة النبأ «عَمَّ يَتَساءَلُونَ»۱ إلى آخر القرآن السور القصار.
المقصود من المتشابه و المثاني في القرآن الكريم
و أمّا المثاني، فلا أذكر أنّها تطلق على بعض السور القرآنيّة، لأنّ معنى ثَنَي و يَثْنِي من الأنحناء و الرجوع؛ و بما أنّ العديد من الآيات القرآنيّة ناظر إلى البعضه الآخر، فكأنّ هذه الآيات قد ذكرت مرّتين: مرّة بمعنى نفس الآية، و مرّة بالنظر إلى الآية الاخرى؛ و تلك الآية السابقة قد ذكرت مرّتين: مرّة نفس الآية، و مرّة تلك الآية الاخرى التي ترجع إليها؛ و هي التي تبيِّن بمعناها.
و لأنّ جميع آيات القرآن ناظرة إلى بعضها البعض؛ و كلّ آية، تتضمّن في نفسها معنى الآية الاخرى؛ فإنه يمكن القول بأنّ جميع القرآن هو المثاني.٢
كما ورد في الآية ٢٣، من السورة ٣٩: الزمر.
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ.۱
ففي هذه الآية المباركة أطلق اسم المثاني على جميع الكتاب المُنَزَّل و أحسَنُ الحديث و هما القرآن.
و امّا المتشابه الذي ذكر في هذه الآية، فهو بمعنى يُشبِهُ بَعْضَهُ بَعضاً، أي أنّ كلّ الكتاب من سنخ واحد؛ و يشبه بعضه بعضاً.
و هذا المعنى غير المتشابه الذي جاء مقابل الحكم؛ في الآية ۷، من السورة ٣: آل عمران.
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ.
لأنّ المحكم هو الذي يكون معناه واضحاً و بيّناً، أمّا المتشابه فهو الذي يحتاج إلى التأويل و التفسير.
***
الحروف المقطّعة في اوائل السور
التلميذ: تلك الحروف المقطّعة التي وردت في أوائل بعض السور مثل: الم و حم و غيرها، هل علم معناها الواقعيّ حتّى الآن؟ بحيث يمكن للإنسان أن يطمئنّ لتفسيرها؟!
العلّامة: يمكن القول إجمالًا إنّه لهذه الحروف نوعاً من الإرتباط الخاصّ مع المطالب الواردة في تلك السورة؛ و لهذا، فإنّ السور التي تشترك في نفس الحروف المقطّعة في أوائلها تبحث و تتحدّث عن سنخ واحد من المطالب. فالسور التي تبدأ ب ألف، لام، ميم «الم» في القرآن هي ستّ:
۱ السورة ٢: البقرة: الم ، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ.
٢ السورة ٣: آل عمران: الم ، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ.
٣ السورة ٢٩: العنكبوت: الم ، أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ.
٤ السورة ٣۰: الروم: الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ.
٥ السورة ٣۱: لقمان: الم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ.
٦ السورة ٣٢: السجدة: الم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِ الْعالَمِينَ.
ففي هذه السور الستّ المباركة يلاحظ أنّ سورتي البقرة و آل عمران متتاليتان؛ و السور الأربع الباقيات العنكبوت و الروم، و لقمان و السجدة كذلك. وردت متتالية.
أمّا السور التي تبدأ ب حا، ميم «حم» و يقال لها الحواميم، فهي سبع سور:
۱ السورة ٤۰: المؤمن: حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
٢ السورة ٤۱: السجدة: حم ، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
٣ السورة ٤٢: الشورى: حم ، عسق ، كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ.
٤ السورة ٤٣: الزخرف: حم ، وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً ، عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ.
٥ السورة ٤٤: الدخان: حم ، وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ ، إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ.
٦ السورة ٤٥: الجاثية: حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
۷ السورة ٤٦: الأحقاف: حم ، تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ.
و جميع هذه السور من سنخ واحد، ذات مضمون و مطلب واحد ايضاً. و قد وردت في قرآن متتالية.
كذلك كانت سور الم، جميعها من سنخ واحد، و تشترك في وحدة المضمون و المطلب.
أمّا سور المُسَبّحات التي تبدأ بـ يُسَبِّحُ أو سَبَّحَ فهي خمس: الحديد، الحشر، الصفّ، الجمعة و التغابن. أمّا سورة الأعلى التي تبدأ بفعل سَبِّحُ بصيغة الأمر، فهي لا تعدّ من المسبّحات، و إن كانت قد وردت في بعض الروايات، و لكنّ الروايات المعتبرة قد حدّدت عدد السور المسبّحات بخمس.
و ورد في الرواية أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يقرأ هذه السور الخمس كلّ ليلة قبل النوم.
و لمّا سئل عن سبب قراءة هذه السور، قال صلّى الله عليه و آله و سلّم: في كلّ سورة من هذه السور يوجد آية تساوي ألف آية من القرآن.
و في الرواية، أنّ كلّ من يقرأ المُسَبّحات قبل النوم لا يموت إلّا و يرى رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم قبل موته؛ فيُريه مقامه و محلّه في الجنّة:
اعجاز رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم
التلميذ: إنّ هذه القضية عجيبة جدّاً، فرغم أنّ رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم كان أميّاً لا يعرف الكتابة، و لم يكتب الآيات بنفسه، فقد كان يقرأ هذه السور و غيرها بعد نزولها، بدون نقصان أو زيادة حرف أو كلمة.
فقد كان معروفاً أنّه بمجرّد نزول الوحي، كان النبيّ يدعو كُتّاب الوحي، ليتلوه عليهم، فيكتبوه. و لم يُرَ النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم طوال حياته يحمل قلماً أو يكتب.
هل يمكن أن نسمّي هذا الأمر بقوّة الحافظة؟
و هل شوهد طوال عمر البشريّة مثل هذا الأمر؟ و هل يمكن لأيّ خطيب، مهما كان ماهراً، حتّى لو كان من أمهر خطباء العالم و أقواهم
حفظاً، أن يكرّر ما قاله لمدة دقيقتين فقط كما هو تماماً بدون قراءته عن ورقة أو تسجيله دون أن يزيد أو ينقص حرفاً؟ إنّ هذه معجزة عجيبة جداً و غريبة و واضحة.
العلّامة: أجل، فإنّ الأمر كما تقولون، رسول الله يقرأ آيات القرآن بدون أن يزيد أو ينقص حرفاً واحداً؛ حتّى أنّه كان كثيراً ما يصحّح للناس الذين يحفظون القرآن الكريم.
و ناهيك عن القرآن، نجد أنّه صلّى الله عليه و آله و سلّم كان يكرّر عند الحاجة ما قد قاله قبل سنوات كما هو؛ و كأنّه قاله لساعة.
و عند لحظات الموت الأخيرة كانت فاطمة سلام الله عليها. في حالة تأثّر شديدة؛ و هي تبكي و تقول: و وا سَوْأتاه، و وا سَوْأة أبي.
فقال لها: لا تقولي هكذا!
بل قولي ما قلته عند موت ابني ابراهيم: القَلْبُ يَحْزَنُ، وَ الْعَيْنُ تَدْمَعُ، وَ لَا نَقُولُ إلَّا حَقّاً؛ وَ إنَّا بِكَ يَا إبرَاهِيمُ لَمَحْزُونُونَ!۱
فانظر: النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو يعاين سكرات
الموت، و قد غلب عليه المرض من كلّ جانب، و قد ثقل حاله و انقلب ففي تلك اللحظات، يكرّر نفس العبارات التي قالها قبل سنوات عند ما توفي ابنه ابراهيم، فما أعجب هذه المعجزة!
أجل، هذه هي الإحاطة بالملكوت و السيطرة على عالم المعنى، و لا علاقة لهذا الأمر بالقوّة الحافظة المادّية؛ التي تتعلّق بالبدن؛ و إن كان أصل القوّة الحافظة مجرّداً.
التلميذ: شتّان بين هذا التحليل الدقيق الذي تبيّن فيه من متن الواقع الجملة العاديّة التي قالها رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم و هو في حالة المرض الشديد؛ و بين قول عُمَر حين قال: قَدْ غَلَبَهُ الوَجَعُ؛ إنَّ الرَّجُلَ لَيَهْجُرُ!
العلّامة: السور التي تبدأ بألف لام راء «الر» في القرآن ستّ سور و هي:
۱ السورة ۱۰، يونس: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ.
٢ السورة ۱۱، هود: الر: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ.
٣ السورة ۱٢، يوسف: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
٤ السورة ۱٣، الرعد: المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ.
٥ السورة ۱٤، ابراهيم: الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
٦ السورة ۱٥، الحجر: الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ.
هذه السور كذلك وردت متتالية، كلّ واحدة بعد الأخرى؛ و لها لحن
خاصّ و أُسلوب معيّن.
و السور التي تبدأ ب طا سين «طس» ثلاث سور.
۱ السورة ٢٦: الشعراء: طسم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
٢ السورة ٢۷: النمل: طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ.
٣ السورة ٢۸: القصص: طسم ، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ.
و هذه السور المتتالية، أيضاً، لها اسلوب خاصّ.
و السورة ۷: الأعراف تبدأ ب- ألف لام ميم صاد «المص» و لها لحن و اسلوب تلك السور التي تبدأ بألف لام ميم، و كذلك لها لحن اسلوب سورة صاد «ص»، و عليه فهي تمتلك ميزتهما معاً.
لأنّه كما قلنا، فالحروف المتقطّعة في أوائل سور القرآن، أشارت لكلّ تلك المطالب الواردة في تلك السور بنحو الإجمال و الرمز؛ إذاً من ناحية تضمّنها «الم» لها مع سور «الم» نفس اللحن و الأسلوب؛ و من ناحية أخرى لتضمّنها «ص» فلها، لحن و اسلوب سورة «ص».
و السورة ۱٩: مريم تبدأ ب «كاف ها ياء عين صاد» «كهيعص»، و لها قالب و اسلوب خاصّ.
و السورة ٥۰: ق، لها شكل خاصّ، و هذا الشكل و الأسلوب واضح في كلّ القرآن؛ و كذلك سورة طا. ها «طه» و يا. سين «يس»؛ و على الرغم من أنّ الكثيرين يعتبرون طه حرف واحد، و من أسماء رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، ففي يَس قالوا إنّه كلمة واحدة و من أسماء رسول الله؛ و شاهد على هذا، الآية ۱٢۰، من سورة ٣۷: الصافّات. حيث ورد فيها سَلامٌ عَلى إِلْياسِينَ، إذ إلْ تكون مخفّفة آل؛ و في القراءة الشاذّة كذلك قرئت آية آل ياسين.
اذاً يمكننا القول إنّه في سورة «يس»، «يا» حرف نداء و «سين» من
اسماء رسول الله، و كذلك يمكننا القول كما في سائر حروف القرآن المقطّعة ي و س حرفان، و هما إشارة ترمز إلى مطالب مطويّة في هذه السور، و هذا لا يتنافي بأن يكون إشارة و رمزاً إلى رسول الله، و هو نوع لاسم أو علامة؛ و كما أنّ الحرفين في سورة طه «الطاء و الهاء» هما بالإضافة للإشارة لمحتوى السورة، نوع لاسم أو علامة لرسول الله.
و السورة ٤٢: الشورى التي تبدأ ب- حا ميم عين سين قاف «لَحْمَ ** عسق» لها اسلوب و مزايا الحَوَاميم التي تبدأ ب- «حم»؛ و من اسلوب سورة مريم التي بين حروفها المقطّعة حرف عين، و اسلوب سورة يس التي فيها سين، و من اسلوب سورة ق التي تتشابه معها.
و بشكل عامّ، لأنّ الحروف المقطّعة تخبر عن محتوى السورة كلّها بالإجمال، يجب أن نحلّل هذه السور بنظر و حساب دقيق، و من قياس كلّ سورة مع الأخرى، و مع سائر السور، نستنتج المواضيع؛ رغم أنّ هذا التحليل مشكل و دقيق؛ و لكن سنحصل على نتائج مهمّة منه.
و من جملة إعجاز القرآن الأساليب المختلفة الموجودة فيه، و ربط هذه الحروف بالمواضيع التي سيتضمّنها القرآن الكريم. و الحمد للّه ربّ العالمين.
***
التلميذ: ما المقصود من الأحقاف في هذه الآية المباركة في السورة ٤٦: الأحقاف؟
وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ.۱
العلّامة: تقع بين أرض العراق و أرض اليمن، و من هناك دعا النبيّ هود قومه عاد، فلم يستجيبوا له. فأرسل الله سبحانه و تعالى عليهم ريح سموم فأهلكتهم، و قد فنيت تلك الديار و تلاشت بأجمعها و لم يبق منها شيء حالياً.
***
في تفسير آية: خَلَقَ سَبْعَ سَمَاواتٍ وَ مِن الأرْضِ مِثْلَهُنَ
التلميذ: لقد ورد في الآية الأخيرة من سورة الطلاق قوله تعالى:
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً.۱
فما هو المراد من قوله وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ؟ و كيف خلق من الأرض بعدد السماوات السبع؟
العلّامة: في تفسير أنّ الله قد خلق من الأرض سبعا بعدد السماوات رأيان:
الأول: أنّ عدد الأراضي التي خلقها الله تعالى هو سبع مثل عدد السماوات، و على هذا فإنّه يوجد سبع سماوات و سبع أراض.
و الثاني: أنّ الله قد خلق من الأرض موجوداً مثل السماوات السبع، و هو الإنسان؛ و ينسب هذا التفسير إلى ابن عبّاس في الظاهر.
و لأنّه قد قيل: أنّ في الإنسان سَبع شِدَاد موجودة مع جميع قواه؛ و هي تحت تسخير الإنسان و سلطة، لهذا يمكن القول بأنّ الإنسان الذي له سبع سماوات، و كلّها منطوية في وجوده؛ قد خلق من الأرض.
و قد يبدو هذا التفسير على الظاهر بعيداً؛ و إن كان التعبير عن الإنسان
بأنّه وَ مِنَ الْأَرْضِ ليس بعيداً؛ لأنّ أصل خلقه الإنسان من الأرض، و هو بعد نباته منها يحصل على الرشد و النمو حتّى يصل إلى مقام التجرّد الروحي و النفسي.
وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً.۱
و على كلّ حال، يبقى التفسير الأوّل هو الأقرب؛ و تدلّ عليه روايات و أدعية عديدة.
***
التلميذ: في رسالة «المعاد» «الإنسان بعد الدنيا» قد ذكرتم: في قوله تعالى:
يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.٢
جاء في «تفسير القميّ» عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه قاله: يَعْنِي: بِأرْضٍ لَمْ تُكْتَسَبْ عَلَيْهَا الذُّنُوبُ، بَارِزَةً لَيْسَ عَلَيْهَا جِبَالٌ وَ لَا نَبَاتٌ كَمَا دَحَاهَا أوّلَ مَرَّةٍ. وَ يُعِيدُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ كَمَا كَانَ أوّلَ مَرَّةٍ مُسْتَقِلًّا بِعَظَمَتِهِ وَ قُدْرَتِهِ.
و بعد بيان هذا المطلب، ذكركم في الحاشية: قَوْلُهُ: مُسْتَقِلًّا بِعَظَمَتِهِ وَ قُدْرَتِهِ، تَفْسيرٌ لِكَوْنِ عَرْشِهِ عَلَى الْمَاءِ؛ وَ لَهُ شَوَاهِدُ مِنَ الْكِتَابِ تَدُلُّ عَلَى أنَّ الْمَاءَ إشَارَةٌ إلى مَنْبَعِ كُلِّ حَيَاةٍ وَ قُدْرَةٍ وَ عَظَمَةٍ، إنْ تُحْمَل نُقُوشُ الخِلْقَةِ، ظَهَرَتِ الْمَوْجُودَاتُ، وَ إذَا انْمَحَتْ عَادَ الْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ.
فهل المراد من الماء الوجود المنبسط؟
العلّامة: جاء ذلك في القرآن و لا يمكن قول شيء على نحو الجزم؛ بحسب ظاهر الآية فانّ ما يمثل القدرة الإلهيّة و العرش الإلهيّ و يحكم اليوم، نفسه الحاكم في ذلك اليوم مكان الموجودات الحالية المقوَّمة بالماء الذي هو القدرة و الحياة، و لكنّنا لا نعلم، ما هي صورة حقيقة تلك القدرة و الحياة.
على كلّ حال، فإنّ سياق الآية يعطي هذا المعنى و هو أنّه في الوهلة الاولى قد كانت في الوجود واقعيّة عظيمة الوسع بدل العالم و كانت تحت حكومة عرش الله؛ و بعد ذلك، ظهرت هذه النقوش من صقعها؛ و سوف تعود هذه النقوش للمحو و الزوال، ليرجع العالم مرّة أخرى إلى ما كان عليه بدون صور و نقوش.
فهل تكون هذه الحقيقة الواسعة، هي النفس الرحمانيّة أم الفيض المقدّس أم الوجود المنبسط أم نور نبيّك يا جابر؟ هناك احتمالات متعددة.
***
التلميذ: أ هي احتمالات مختلفة، أم عبارات مختلفة ذات واقعيّة واحدة؟
العلّامة: بالنسبة لنا، احتمالات مختلفة؛ و للمتكلّم، عبارات.
قائل العبارات وحده يعلم ما الخبر، ما الذي نعرفه نحن المساكين! و ما الذي نعلمه عن الكتاب؟
التلميذ: في تفسير الآية الشريفة:
فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ
الْعَذابُ.۱
ذكرتم في رسالة «المعاد» أنّ هذا الحجاب و هذا الباب هو أمر واحد، له ظاهر و باطن، غاية الأمر أنّ رحمة الله للذين استقرّوا في باطنه بالفوز و الفلاح؛ و عذاب الله بالنسبة للذين هلكوا في ظاهره. فلو عبرت أبصارهم من مقام الظاهر إلى الباطن. لوصلوا إلى نعمة الله و نعيمه؛ و لشملتهم الرحمة الإلهيّة تحت ردائها.
و كأنّه لا يوجد بين المؤمنين و الكفّار أكثر من شيء واحد، و الاختلاف فقط من نحو إدراكهم؛ كما أنّ هذا الأمر في الدنيا على هذا النحو.
و هذا الشيء الواحد هو السبيل الذي يطوونه للوصول إلى الله؛ لكنّ المؤمنين يقطعونه في الدنيا، و هذا هو الصراط المستقيم، و غيرهم ينحرفون عنه. و لهذه نجد أنّ الله تعالى قد قال قبل آية الأعراف:
وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ، الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ.٢
فالسبيل إلى الله واحد و ليس اثنين و هو للّه و نحو الله. فالسالك إلى الله هو الذي يقطع هذا الطريق بالاستقامة و الصدق؛ و غير السالك بالانحراف و اعوجاج. و قد ورد هذا المعنى في القرآن الكريم بالتصريح و التلميح مرّات عديده.
يقول الله تعالى:
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ.۱
و يقول تعالى:
أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى.٢
إلى أن يقول و من أبلغ الآيات التي وردت في هذا الباب، قوله تعالى:
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ ، جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ.٣
فقد جاء فيما سبق أنّ المراد من النعمة، هو الولاية؛ و الولاية هي الطريق إلى الله، و في مقابله، يقف الكفر الذي هو دار البوار و الهلاك و نار جهنّم و القرار المشين و الاستقرار في ذلك المكان ...
فغاية سير الكفار، البوار و الهلاك و هو جمودهم في الظاهر و إعراضهم عن الباطن. و من المعلوم أنّ الظاهر، زائل و مضمحل؛ و أنّ الباطن ثابت و دائم.
فلما ذا اعتبرتم أنّ هذه الآية من أبلغ الآيات الواردة في هذا الباب؟
في تفسير النِعْمَة التي هي الولاية
العلّامة: لقد وردت عدّة آيات في القرآن الكريم تدور حول كلمة النعمة؛ و من هذه الآيات يستفاد أنّ المراد من النعمة، هو الولاية: ولاية أهل البيت؛ و هي الطريق الذي سلكه أهل البيت إلى الله تعالى، و هو
سبيلهم إليه، الذي هو مقام العبودية المحضة.
إحدى هذه الآيات هي الآية المذكورة التي تبيّن تبديل النعمة إلى الكفر و الورود إلى جهنّم و الاستقرار في النار، فحقيقة النعمة هي الصراط المستقيم، و المسافة الأقصر التي يسلكها العبد إلى ربّه، ليصل إلى مقام العبودية المطلقة و المحضة؛ أمّا تبديل هذه النعمة إلى الكفر، فهو تبديل الصراط المستقيم من خلال السير في الطريق المعوجة و المنحرفة التي تبعده عن المقصد و توصله إلى جهنّم.
و لعلّه يوجد آية أخرى أشدّ صراحة و أبلغ معنى في سورة التكاثر حيث يقول تعالى: ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.۱ التي تدعو بطريقة مذهلة و عجيبة مع الوضوح التامّ إلى طيّ عالم الكثرة و الوصول إلى عالم الوحدة؛ و هي تسأل عن النعيم الذي هو الولاية و تؤاخذ الإنسان على تركه:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.٢
و قد نقل في ذيل تفسير هذه السورة عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: ليس المراد من النعيم ما نقصده نحن من الخبز و الماء و أمثالهما؛ بل المراد منه مراحل العبوديّة و الإخلاص في التوحيد و طريق الولاية.
و في أحد المجالس التي حضرها أبو حنيفة و كان يسأله الإمام الصادق عليه السلام عن النعيم الذي يُسأل الإنسان عنه؟
فيقول أبو حنيفة: هو الأغذيه و الفواكه و أمثالها. فيجيب الإمام قائلًا:
أ ليس بعيداً على الكريم، أن يعطي كلّ هذه النعم للناس ليأكلوا و يشربوا و يشبعوا و يؤاخذهم عليه؟ يسألهم عن ذلك، ما ذا أكلتم و ما ذا شربتم؟! و يجيبون أكلنا خبزاً أو تمراً و شربنا ماءً!
بل المراد من النعيم ولايتنا أهل البيت. يعني يُسأل الناس لأيّ مدى طوي طريق السلوك إلى الله و طبّقوه على سيرة و منهاج أئمّتهم؟ و إلى أيّ مقدار وصلوا إلى مقام العبوديّة المحضة و المطلقة؟
أمّا المراد من جَنَّةِ النَّعِيمِ التي ورد ذكرها في القرآن فهي كذلك جنّة الولاية التي هي مقام المخلَصين و المقرّبين من أولياء الله و الواصلين إلى مقام التوحيد الذاتيّ و الفانين في العوالم الربوبيّة و صفات الجمال و الجلال الإلهيّة؛ هي جنّة اولئك الذين أودعوا كلّ شوائب وجودهم في وادي النسيان و أسلموا كلّ وجودهم للحقّ.
فمن خلال هذه الشواهد و القرائن الحقّة الحقيقة الداخلية و العارضة الخارجيّة اعتبرنا أنّ النعمة كناية عن الولاية؛ و إن كان بحسب الظاهر، أنّ المراد هو مُطلق النعمة؛ لكن في الحقيقة ينبغي أن يكون المراد هو نعمة الولاية.
و في هذا التفسير أي تفسير النعمة بالولاية لم نكن نريد أن نستدلّ على هذا المعنى من خلال الروايات، بل أردنا أن نحصل على هذا المعنى من نفس الآيات.
لاحظوا أنّه بعد الإشارة إلى أنّ التكاثر بشكل عامّ هو المُلهِي و أنّه في حال ظهور اليقين و عين اليقين فسوف يشاهد بصورة الجحيم و النار المحرقة، فبقرينة التقابل بين التكاثر و النعيم نستفيد أنّ المراد من النعيم الذي هو نفس مقام التوحيد المتجلّي في العبد، و هو ما يعبَّر عنه بالعبوديّة
المحضة، و هذا المعنى من النعيم أعظم رأسمال يمكن أن يُسأل عنه و يؤاخذ عليه و لا بدّ من غضّ النظر عن التكاثر أي رؤية التكثّرات، و التوجّه إلى النعيم أي التوحيد.
كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.
فمن نفس الآية يُستفاد أنّ النعيم أمر في غاية الأهميّة، بل هو أنفس المهمّات و أعظم أهداف عالم الخلقة.
و كما قال الإمام عليه السلام فإنّ السؤال من حقيقة وجود الإنسان عن جميع النعم الإلهيّة التي رآها و استخدمها من أوّل عمره إلى آخره يبدو بعيداً جداً بحسب ظاهر الآية.
فعلى الإنسان في الدنيا أن يسعى بجدٍّ و كدح للبحث عن تلك النعمة الحقيقيّة و الواقعيّة و عن تلك المواهب التي مَنَّ الله بها و هي الولاية التي تمثّل الارتباط بين عالم الخلقة و ذات الحقّ، بين المخلوق و الخالق، بين الحادث و القديم، بين ممكن الوجود و واجب الوجود. و الحصول عليها.
فإذا حصل عليها فهو أَهْدى سَبِيلًا، و إلّا فهو في ضلال مبين.
جميع الناس يعيشون في هذه الدنيا فيعاشرون و يتزوّجون و يأكلون و يشربون و يستريحون و ينامون و يعملون في التجارة و الزراعة و الصناعة إلّا أنّ منهم لا ينظرون إلّا إلى ظاهر هذه الامور و يعرضون عن الباطن فهؤلاء هم الذين بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً. و يوجد فئة تبحث بين هذه الامور المتكاثرة و الكثيرة عن تلك الحقيقة الواحدة، و هذا هو النعيم.
***
في تفسير آية: مَتَاعًا لَكُمْ وَ لِانعَامِكُمْ
التلميذ: قد جاء في سورة عَبَسَ قوله تعالى:
وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا ، مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ.۱
و في رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: أنّ جملة مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ هي جملة تفسيرية للجملة السابقة: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا؛ و بناء عليه يتّضح معنى الأب و هو علف الدوابّ من الأنعام.٢
و نظير هذه الجملة ما جاء في السورة ۷: النازعات: أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها ، وَ الْجِبالَ أَرْساها ، مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ.٣
مع العلم بأنّه ليس من الصحيح أن تكون جملة مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ تفسيراً لجملة وَ الْجِبالَ أَرْساها؛ أ لا يمنع هذا عن التفسير السابق في الجملة الواقعة في سورة عبس؟
العلّامة: بالنسبة للآية التي وردت في سورة عبس، جاء في الروايات أنّ أبا بكر سُئل عن معنى الأب، فلم يستطع الإجابة. و قد عُدّ هذا الأمر من جملة الاعتراضات على أبي بكر رغم أنّه كان من العرب الأقحاح فكيف لم يفهم معنى الأبّ؟
فالأبّ هو العلف الذي يُقدّم للحيوانات كالبرسيم و أمثاله ممّا يلائم الحيوانات غالباً، أو يمكن أن نأخذ المعنى بمقدار أشمل، أي بمعنى غذاء الإنسان و الحيوان الذي غالباً ما يستعمل بالعلف.
و في سورة عبس من الواضح جداً أنّ جملة مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ تعدّ تفسيراً لجملة وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا من خلال اللفّ و النشر المرتّب. لأن معنى الفاكهة واضح. و من جانب آخر نعلم أنّ الفاكهة ليست متاعاً للأنعام، بل هي متاع مختص بالإنسان، و على هذا مَتاعاً لَكُمْ سيصبح تفسير وَ فاكِهَةً و طبعاً جملة وَ لِأَنْعامِكُمْ ستصبح تفسير ل: وَ أَبًّا؛ و من هنا يعلم أنّ الأب هو علف الحيوانات و مرعاها.
امّا في سورة النازعات فإن جملة مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ هي تفسير لجملة أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها لا بنحو اللفّ و النشر المرتّب و لا المشوّش، و إنّما هي بالإجمال تعني أنّ الله تعالى قد جعل من الماء و النبات الذي يخرج من الأرض متاعاً لكم و لأنعامكم.
لأنّ الْمَرْعى في اللغة بمعنى الرَّعي بالكسرة، و هو النبات، و لا يختصّ بعلف الحيوانات. و إذا كان بالمصدر الميميّ فإنّه يعطى نفس المعنى. أمّا جملة وَ الْجِبالَ أَرْساها فهي جملة استطراديّة جاءت بين الجملة المفسِّرة و المفسَّرة لأجل بيان إستحكام الأرض الذي من التمايل و التراخي من خلال ثبات الجبال. و بالتالي لتتمكّن الأرض من إخراج الماء و النبات ليكون متاعاً للناس و الأنعام. هذا ما يبدو بنظري و الله أعلم.
***
الخطابات القرآنيّة التي تبدأ بلفظ «قُل»
التلميذ: في العديد من آيات القرآن نجد أوامر موجّهة لرسول الله
صلّى الله عليه و آله مصدّرة بلفظ قُلْ مثل: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ۱، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ٢، قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ٣، قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ٤
قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ ، لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ٥، قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ*٦، قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ۷، قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً۸، قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى.٩
و العديد من الآيات القرآنيّة التي تشكّل قائمة كبيرة، و من المعلوم ما كان أمر الله في هذه الخطابات، و الرسول مؤتمر عليه ليس نفس القول، بل مقول القول، فإذا جاء: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ؛ فالرسول مأمور بالقول: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، و ليس قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، و إلّا لم يعمل بأمر الله، و لم يؤدّ المأمور به الذي هو مقول القول.
و لا يوجد في هذا المطلب مكان للشبهة و التردد. فإذا أمرنا أحدٌ ما بأنّ نذهب إلى الناس و نقول لهم الله واحد. فيجيب علينا أن نذهب و نقول الله واحد لا أن نقول: قُل الله واحد.
لأن القول هنا واسطة و يحكي عن نفس المأمور به و متعلّقه، لا أنّه
قد اخذ على نحو استقلال. فإذا قال الإنسان الله واحد، فقد أدّى متعلّق الأمر، و إذا قال: قل الله واحد، يكون قد خرج عن أداء الأمر.
و بناءً على ما قيل، يجب على الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يقول للناس: هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. و كذلك في سائر الآيات يجب أن يقول للناس ما هو متعلّق الأمر. في حين أنّنا نرى في القرآن الكريم كلّه أنّ لفظ قُل قد ورد كما هو موجّه في خطاب الرسول صلّى الله عليه و آله و سلّم.
العلّامة: إنَّ البحث يقع في موردين:
الأول: في مسألة أمر الله للرسول، و كونه مأموراً و تنفيذه للمأموريّة في الخارج، فمن المعلوم الواضح في هذه المسألة أنّ رسول الله كان مؤتمراً بأمر الله سُبحانه و تعالى، و كان يؤدي الأوامر كما هي. ففي المورد الذي يأتي فيه الأمر بصيغة قُلْ كان النبيّ يؤديّ متعلق الأمر نفسه. مثل سائر الأوامر التي كانت تصدر إلى الرسول و إن لم ترد بلفظ قُلْ، كقوله تعالى:
فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ، إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ.۱
فطبق هذا الأمر الإلهي أعلن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم التوحيد جهراً، و أعرض عن المشركين. أو في قوله تعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. كان يقول للناس هو الله أحد، هو الواحد الأحد.
الثاني: في حكاية القرآن عن الأوامر الإلهيّة، و هذه المسألة أمر آخر فإنّنا نعلم أنّ القرآن وحي سماويّ، و على النبيّ صلّى الله عليه و آله و سلّم أن يتلوه كما هو بدون زيادة و لا نقصان.
و لذلك فإنّ القرآن يُبيّن عين ما كان يخاطب به الرسول، و هذا هو معنى القرآنيّة.
فإذا جرى حذف لفظ قل في قوله: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، أو: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، فقيل: هو الله أحد، و أعوذ برب الناس. فلن يكون هذا هو القرآن و لا كلام الله. بل كلام النبيّ الذي يقول للناس هو الله أحد.
و لأنّ القرآن المجيد هو نفس الوحي، فلا يمكن أن يكون بدون لفظ قُل، كما هي الحال في جميع الأوامر الإلهيّة. التي لم تصدر بلفظ قل كما في الآية المذكورة: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ، فقد جاء الأمر كما هو و ذكره القرآن الكريم.
و إذا تجاوزنا هذا، نجد أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم يمثّل في الخطاب الإلهيّ و المطالب القرآنيّة عنوان المرآة لخطاب الامّة جميعاً، بل لكلّ العالمين. و يكون الخطاب متوجّهاً إلى الناس و لكن عبر مرآة نفس الرسول التي لها إحاطة وجوديّة و علميّة و إدراكيّة و التي اكتنفت لسعتها و شمولها جميع أفراد الامّة، بل جميع البشر.
و الآية المباركة: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ.۱
توضّح حقيقة الأمر جيّداً، و هي أنّ نفس رسول الله هي المبيّنة لمسائل الوحي الإلهي الذي نزل للناس.
***
التلميذ: هل آية الكرسي التي حازت على عنوان العَلَم بالغلبة هي التي تنتهي بقوله تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ٢، أم أنّها تشمل الآيتين التاليتين و تنتهي عند قوله تعالى: أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ؟!
العلّامة: تنتهي بقوله وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، و لأنّها قد اشتملت على لفظ الكرسي سميّت بآية الكرسي. أمّا الفقرات الاخرى فليست جزءاً من الآية. و في الأدعية و الصلوات المستحبّة التي ورد فيها استحبابيّة قراءة الآية يكتفي بهذا المقدار فقط.
***
في تفسير آيةٌ: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ
التلميذ: وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً ، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا.۱
هذه الآية تبيّن حالتين للإنسان: الاولى شاكلته و قالبه الأوّليّ، فهو مغرور و غافل، إذا مسّه الخير و النعمة و الرخاء فاستكباره و أنانيّته تدفعه إلى الإعراض، و إذا مسّه شرّ كضيق في المعيشة و فقر و بلاء يئس و قنط و طأطأ رأسه.
الثانية تلك الهداية التي يحصل عليها البعض في السير إلى الله، و يخرجون بها عن تلك الشاكلة، و قد تزداد عند البعض ليصبح طريقاً أوضح و أشدّ استقامة.
هل هذه الآية تريدنا أن نعرف أنّ جبلّة و شاكلة كلّ الناس تكون في تلك الحالة الاولى، و هي الإعراض و الانحراف في النعمة، و اليأس من الرحمة في الشرّ و السوء، و أنّ الذين يحصلون على الهداية و يسلكون سبيل السعادة هم الذين خرجوا من تلك الفطرة الأوليّة؟ أم أنّهم لا يخرجون عن فطرتهم و شاكلتهم الأوليّة، و أنّ هذه الهداية قد اودعت في أعماقهم على أساس الفطرة؟
فإذا قلنا: إنّهم قد خرجوا عن الفطرة الأوليّة، كما هو ظاهر الآية و الاستثناء منقطع. فما هو معنى الخروج عن الفطرة! فهل يمكن أن يخرج الإنسان أو الموجود عن نظامه الأساسي و قالبه الوجودي بشكل عامّ؟ ثمّ يحصل على نظام و فطرة أخرى! إضافة إلى أنّنا نعلم أنّ فطرة الانسان بنيت على اساس التوحيد و السعادة و ليس الشقاء.
و إذا قلنا: إنّ الاهتداء إلى ذلك السبيل يكون على اساس الفطرة و موازينها. و إنّ هناك حالتين تحيطان بالإنسان: الحالة الأوليّه و هي الإعراض و التمرّد و إليأس و القنوط؛ و الحالة الثانويّة و هي الخروج من هذه المرحلة و نشوء البصيرة و الإهتداء إلى الصراط المستقيم، و الاستثناء هنا متّصل. هذا خلاف ظاهر الآية التي تقول: قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ، و ذلك الإعراض و اليأس وفق الشاكلة.
بناء عليه، ينبغي أن يكون ذلك الإهتداء خارجاً عن الشاكلة، أي النظام الوجوديّ للإنسان؟
العلّامة: في الظاهر أنّ المراد من الشاكلة هو الشاكلة الأوليّة التي وجدت قبل خضوع الإنسان للتربية، و قبل بروز و ظهور القابليّات الكامنة إلى مرحلة الفعليّة. لأنّ الإنسان موجود متحرّك و قابل للترقّي و الكمال، و لهذا فإنّ فطرته الأوليّة هي ذلك الاستعداد المحض و القابليّة الصرفة التي إذا تركت على حالها في عالم الطبيعة و الكثرة أصبح: أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ، لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، و إذا قام بتربيتها و تهذيبها و إرشادها تعبر من الضعف و الوهن إلى مقام عزّ الإنسانيّة. ففي فطرة الإنسان تكمن هذه القابليّة و هذا الاستعداد و تختفي هذه القدرة و القوّة. و إن كان الإنسان بحسب الظاهر يؤوساً و كفوراً، و لكن في أعماقه تموج بحار من أنوار الحقيقة لم تكن خارجة عن فطرته أبداً. غاية الأمر أن عليه أن يوصل هذه الأنوار بواسطة
الرياضة و التربية إلى منصّة الظهور.
الإنسان موجود ذو أعماق منطوية داخله، و له مراحل مختلفة كلّها كامنة و منطوية في وجوده، و لا يمكنه أن يحصل على مقام خارج فطرته.
و ليس المراد من الإنسان في هذه الآية الشريفة تلك النفس القدسيّة و الروح الناطقة فيه، و التي هي من المراحل الكامنة في وجوده، و التي لا يمكنه الوصول إليها إلَّا بطيّ الطريق و الاهتداء بالهداية الإلهيّة.
بل المراد من الإنسان ذلك الإنسان العادي بأفكاره العاميّة و حالاته العاديّة، و بالطبع تبعاً لهذه الشاكلة يعرض و ييأس و يكفر.
فإذا أدركته الهدايةُ الربّانيّة و أخرجته عن هذه الشاكلة، و هذه الخلقة، و هذه الدرجة من الفطرة، و ليس من مطلق الفطرة و الخلقة.
في تفسير: إِنَّ الإنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً
و ما أشبه هذه الآية بالآيات الواردة في سورة المعارج.
إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ، إِلَّا الْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ ، وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ، لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ ، وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ، وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ، إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ ، إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ ، وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ ، أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ، فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ ، عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ ، أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ ، كَلَّا.۱
فهذه الآيات المباركات تريد بحسب الظاهر أن توصل نفس المعنى و هو أنّ خلقة الإنسان الأوّليّة هي الهلوعيّة (بمعنى عدم الصبر و الثبات) و العجلة التي يلازمها في حال الخير المنع، و في حال الشرّ عند ما يصبح غنيّاً أو صاحب قدرة و جاه، و عند المصيبة أو فقدان المال و غيره الجزع.
و المصلّون هم فقط ممّن استثني من هذه القاعدة الكلّيّة و الخلقة الأوّليّة للإنسان.
أيّ مصلّين؟ اولئك الذين يهتمّون بالصلاة و الزكاة، و يخافون عذاب الله و يصدّقون بيوم القيامة و الحساب، و يحفظون أنفسهم من الوقوع في الزنا و الأعمال الشنيعة، و يحفظون الأمانات و يرعون العهود و لا يشهدون الزور أبداً.
فقد عدّ جميع الأعمال الحسنة، و لم يترك شيئاً منها.
ثمّ يقول: إنّ هؤلاء الكفّار الذين يحيطون بك و الذين لا علاقه لهم بالأعمال الحسنة و الفضائل الأخلاقية و الأعمال الروحيّة الحقيقيّة، ما ذا يقولون؟ و ما ذا يريدون؟ هل يتصوّرون أنّهم بدون الصلاة التي لها تلك الآثار و الخصائص يستطيعون الوصول إلى مقام الإنسانيّة و يدخلون جنّة النعيم؟
فالأمر ليس كذلك؛ لن ينالوا فعل هذا المقام أبداً.
ففي هذه الآيات استثني المصلّون من قاعدة الخلقة الأوّليّة للإنسان التي هي الهلع و لوازمه من المنع و الجزَع. و بناء عليه، غرست الصلاة بخصائصها المذكورة في ذات الإنسان و فطرته، و عليه أن يقوم بإبرازها و إيصالها إلى مقام الظهور الفعلي، و عليه أن يوقظ هذا الشعور الإلهي الكامن فيه.
و بناء عليه، فالمراد من خلقة الإنسان بحالة الهلع، خلقة إحدى الحالات و المقامات الإنسانيّة، و ليس لُب الفطرة الأصليّة للإنسان. و الآية تبين خلقة الحالات العاديّة و العامّة للإنسان، و ليس أصل النفس الناطقة و الروح القدسيّة.
***
الشفاعة مختصّة بآهل المعاصي الكبيرة من المؤمنين
التلميذ: الآية المباركة وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ۱، لها دلالة على الارتضاء المطلق، أي ينبغي أنّ تكون جميع مراتب الإنسان الوجوديّة حتّى ذاته و سرّه مورد الرضا حتى تنال الشفاعة و هذه هي درجة المقرّبين و المخلَصين.
العلّامة: في مثل هذه الحالة لا حاجة للشفاعة، بل المقصود الارتضاء في الدين، و إطلاق الآية يجب أن يكون في هذا الحدّ المحدود.
أي أنّ من يرتضى منه دينه و عقيدته و منهجه في مقابل التقييد بالارتضاء في العمل الذي ليس مقصوداً بالطبع، لأنّ الشفاعة مختصّة بأهل المعاصي، أي بأهل الكبائر؛ لأنّ الذي يجتنب الكبائر، يحصل بهذا الاجتناب على تكفير لذنوبه الصغيرة و هنا لن تبغي معصية لتكون مورد الشفاعة.
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ.٢
الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ.٣
فهذه الآيات تدلّ على غفران الذنوب و المعاصي الصغيرة تلقائيّاً عند
الاجتناب عن الكبائر، و عن رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم، قال: إدَّخَرْتُ شَفاعَتِي لأهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ امَّتِي، فَأمَّا المُحسِنُونَ فَمَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ.۱
و عن الإمام الرضا عليه السلام، و في روايات عديدة، أنّه قوله: وَ لَا يَشْفَعُونَ إلَّا لِمَنِ ارْتَضَى دِينُهُ.
و المراد من الدين الاعتقاد بالتوحيد و نفي الشرك. أمّا الذي يرتكب الكبيرة و لا يتوب فقد قال الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام عنه بانّه ليس مرضيّ الدين.
***
استغفار ابراهيم عليه السلام لعمّه آزر
التلميذ: الآية المباركة: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ.
في الجزء الثاني عشر من «بحار الأنوار» الطبعة الحروفيّة، صفحة ٢۷ ينقل المجلسي عن تفسير «مجمع البيان» قوله: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ أي اقْتَدُوا بإبراهيم في كلّ أمورِهِ إلّا في هذا القول فَلَا تقتَدوا بِه فِيهِ فَإنَّهُ عَلَيه السَّلَامُ إنَّما استَغْفَرَ لأبيهِ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ بالإيمَانِ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.
و يستفاد من هذا الكلام وجود منقصة و حزازة في كلام ابراهيم عليه السلام بشأن وعده لعمّه آزر بالإستغفار حيث استثنى القرآن الكريم هذا العمل من كونه السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ في ابراهيم.
العلّامة: يستفاد من الآية المذكورة في سورة مريم أنّ النبيّ ابراهيم عليه السلام قد سلّم على عمّه آزر و كان آنذاك مشركاً و كان يتوعّد ابراهيم لتعرّضه لآلهته، و قد وعده بأن يستغفر له:
يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ، قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا.۱
و ورد في سورة الشعراء و ضمن الأدعية التي نقلت عن النبيّ إبراهيم عليه السلام طلبه للاستغفار لأبيه:
رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ.٢
و لكن ممّا لا شك فيه أنّ هذا الطلب للمغفرة من ابراهيم لآزر كان في الوقت الذي لم يكن فيه واضحاً أنّه من أهل الجحيم. ففي هذه الحالة يحتمل أن يهتدي و يرشد، و لهذا طلب المغفرة له على أساس الوعد الذي وعده إيّاه. «سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي».
و لكن بعد أن تبين لإبراهيم عليه السلام أن لا أمل بنجاة آزر، و أنّه عدوّ للّه، لم يستغفر له، بل تبرّأ منه:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ.۱
و لهذا، فانّ الآية الكريمة لا تجيز للرسول و للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين إذا اتّضح لهم أنّهم من أهل الجحيم. و هكذا كان الأمر بالنسبة لإبراهيم، فبعد أن تبين له أنّ آزر عدوّ الله تبرّأ منه، و قد كان استغفاره له قبل هذه المرحلة.
و لهذا نجد في سورة التوبة أنّ الله يحذّر رسوله من الدعاء لهم و القيام على قبورهم.
وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ.
و في نفس السورة يقول تعالى:
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ.
أمّا الآية المذكورة في السورة ٦۰، الممتحنة: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ، و الإستثناء فيها: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ.
فإنّه يستفاد منها أنّ الوعد بالاستغفار و إن كان وضوح عداوة آزر للّه، و لكن في الوقت نفسه فانّ قطع الوعد للكافر حال كفره بالإستغفار له ليس أمراً حسناً أبداً. و لهذا تحذّر هذه الآية المؤمنين من هذا
النوع من الاستغفار الخاصّ الحاصل لوعيد سابق و قبل اتّضاح كون الكافر من أصحاب الجحيم.
و عدّت جميع أقسام التبعيّة لإبراهيم و الذين معه من إظهار التبرّي و العداوة من المشركين أسوة حسنة. أمّا اتّباعهم في مثل هذا الاستغفار فلم يُعَدّ أُسوة حسنة.
تبصرة: من المسلّم أنّ آزر لم يكن والد النبيّ لابراهيم، لأنّ القرآن يصرّح بأنّ ابراهيم عند ما علم بأنّ آزر عدوّ للّه لم يستغفر له بل تبرّأ منه.
و من جهة اخرى و طبق الآية ٤۱، من السورة ۱٤: ابراهيم. يطلب النبيّ ابراهيم عليه السلام المغفرة لوالديه حيث يقول:
رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ.
فيتبيَّن أنّ آزر لم يكن والد النبيّ ابراهيم، و يوجد فرق بين الوالد و الأب. لأنّ الوالد لا يقال إلّا للأب. أمّا كلمة الأب فإنّها تقال للعمّ و خصوصاً إذا كان متكفّلًا للصبي بعد وفاة والده.
***
تعبير القرآن بالنسبة لقوم عادٍ و ثمود
التلميذ: ما هو أشدّ تعبير عن العذاب الذي يحلّ على الظالمين في الدنيا في القرآن المجيد حسب رأيكم؟
العلّامة: هنالك موردان في القرآن الكريم يشير الله سبحانه فيهما بتعبير مذهل إلى نزول العذاب. و مفادهما أنّ الله يبيد الظالمين بحيث لا يبقى لهم أيّ أثر و كأنّهم لم يكونوا.
الأول: في السورة ۱۱: هود، و قد جاء موردين أيضاً: الأوّل في شأن قوم ثمود الذين عقروا ناقة صالح عليه السلام:
فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ، وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ
فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.۱
غَنِيَ يَغْنَى بِالمكَانِ وَ في المكَانِ، بمعنى أقام فيه، و جاثمين بمعنى متلبّدين. أي أنّ الصيحة قد أخذتهم و لم تترك على الأرض شيئاً يدلّ عليهم فكأنّهم لم يسكنوها و لم يقيموا فيها أبداً.
و الآخر بشأن أصحاب مدين الذين كانوا يؤذون نبيّهم شعيباً و يتوعّدونه بالرجم:
وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ، كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.٢
الثاني: في سورة المؤمنون، وهنا نأتي على تعبير أعجب، حيث يقول تعالى: وَ جَعَلْنَاهُمْ أحَادِيثَ. أي أنّهم أصبحوا قصصاً و حكايات من الماضي فلم يبق لهم أثر أبداً.
و يبيّن القرآن هذه القصّة بعد ذكره لقصّة قوم نوح الذين غرقوا بالطوفان فخلق الله قوماً آخرين، و أرسل إليهم نبيّاً فكذّبوه فيقول:
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ، ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ ، ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ ، ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ.٣
الأَبحاثُ الفَلْسَفيَّة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
التلميذ: إنّ إحدى الامور التي تميّز دين الاسلام المقدّس عن دين المسيحيّين هي مسألة التثليث. بل إنّ هذا الوجه الخلافي أمر اصولي، و هو من أهمّ وجوه الاختلاف الاصوليّة.
إن دين الإسلام يدعو الناس إلى التوحيد، يعتبر الأصل القديم واحداً و يرجع كافّة جهات الكثرة من أيّ قسم أو نوع كانت إلى ذلك الوجود الواحد. امّا دين النصارى فرغم تصريح الإنجيل بأنّ الله واحد، و لكنّه يقول بالاصول الثلاثة للعالم، و يجعل هذا الأمر أحد الاصول الاعتقاديّة بحيث إنّ دين المسيح و الاعتقاد بالتثليث (كون أصل نشء العوالم ثلاثاً) أصبح عندهم من الامور المتلازمة.
و لقد نهض القرآن الكريم لمواجهة التثليث بشكل صريح، و اعتبره باطلًا بناءً على الاصول العقليّة و ليس بناءً على التعبّد. و هاجم كلّ مَن يقول بالتثليث إلى درجة أن جعله مرادفاً للشرك. و قد كان نهج النبيّ الأكرم صلّى الله عليه و آله و سلّم و احتجاجاته على المسيحيّين، و نهج الأئمّة الأطهار عليهم السلام و أصحابهم و التابعين لهم و علماء الإسلام منذ صدر الإسلام و حتّى يومنا هذا على هذا المنوال و قد ملئوا الكتب و الرسائل في الردّ على التثليث و عدّوه مذهباً باطلًا بالأدلّة العقليّة المتقنة. و أظهروا بطلانه هذا بالبراهين العقليّة.
و من جانب آخر نعلم أنّ نفس التثليث لا موضوعيّة له في البطلان،
بل إنّ تعدد الآلهة و القدماء الذين يعتبرون أصول نشوء العالم لا يمكن أن يكون أكثر من واحد، و بناءً على هذا، فإنّ مذهب التثليث و التربيع و التخميس و أمثالها كلّ هذه لا تفاوت بينها. و كل من يقول بتعدّد اصول العالم بأيّ شكل أو نحو سواء كانت مركّبةً من مائة جزء أو ألف جزء فهو باطل.
و الادلّة التي تستخدم في دحض التثليث في القرآن الكريم و غيره تبطلها جميعاً، و تجعلها مساوية للشرك.
و من جانب آخر، فإنّ القول بعينيّة صفات و أسماء الحقّ سبحانه و تعالى سوف يؤدي إلى التجزئة و التركيب و التعدّد في ذات واجب الوجود. لأنّ مفهوم العلم و القدرة و الحياة، أو مفهوم العالِم و القادر و الحيّ لا تحمل فقط و فقط على ذات الحقّ سبحانه، بل إنّ ما تنطبق عليه هذه المفاهيم التي هي المصاديق الحقيقيّة للعلم و القدرة و الحياة، و ينبغي أن يكون له وجود خارجيّ و تحقّق واقعيّ في ذات الحقّ. و هذا ما يستلزم تجزئة الذات المقدّسة للحضرة الأحديّة على هذه المصاديق العينيّة. و لازمه تركّب الذات الأحديّة من هذه الصفات و الأسماء العينيّة الخارجيّة.
و هنا يصبح مذهب تثليث النصارى بعينه لازماً، غاية الأمر أنّه لا يسمّى تثليثاً، بل تجزئةً لذات الحقّ بعدد الصفات و الموضوعة لها. و يكون كلّ واحد منها منفصلًا عن الآخر و متميّزاً عنه و يتحقّق في ذات الحق. و هذا أشنع من التثليث و أقبح. ففي التثليث تكون ذات الحقّ مركّبة من ثلاثة أجزاء مما يلزم تلك التوالي الفاسدة، أمّا هنا فإنّ ذات الحقّ متركّبة من ألف اسم أو صفة.
العلّامة: إنّ آيات القرآن الكريم توبّخ المسيحيين بطرق و لهجات عديدة مختلفة:
الاولى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.۱
و كما يلاحظ من هذه الآية المباركة: فقد نَفَت التثليث، في قوله تعالى: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ و نُزّهت الخالق سبحانه تعالى من أن يكون له ولد.
الثانية: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ، لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.٢
و في هاتين الآيتين تمّ دحض هذين المطلبين: ألأول أنّ الله هو المسيح ابن مريم، و الثاني أنّ الله ثالث ثلاثة. لأنّ النصارى يقولون بأن الله ثالث ثلاثة: الأب، الإبن و الروح القدس.
فالأب عندهم هو عالم ذات الله سبحانه و تعالى.
و الابن عبارة عن عالم عِلم الحضرة الأحديّة سبحانه و تعالى.
و الروح القُدُس يعني عندهم جبرائيل، و الروح و هو عبارة عن عالَم حياة الله عزّ و جل.
و هذه هي الاصول الثلاثة التي يتفق عليها النّصارى و يقولون: إنّ
كلّ واحد منها هو الربّ، أي أنّ هذه الاصول الثلاثة كيف عددناها، فإنّ الله هو ثالثها، فإذا قلنا: الأب الابن روح القدس. فإنّ روح القدس هو الربّ. و إذا قُلنا: روح القدس، الأب الابن؛ فالابن هو الربّ. و إذا قلنا: الابن روح القدس الأب. فالأب هو الربّ. و في هاتين الآيتين اعتبر الاعتقاد بأن الله هو المسيح ابن مريم أو أنَّ الله ثالث ثلاثة في حدّ الكفر.
الثالثة: وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ.۱
وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ.٢
و يُستفاد من هذه الآيات أنّ النصارى كافّة تقول بأنّ المسيح هو ابن الله: سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
الرابعة: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.٣
و يستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ النصارى كانوا يقولون بالوهيّة مريم إضافة إلى الوهيّة المسيح.
و هناك كنيسة باسم مريم المعبودة، و لها طقوس خاصّة في عبادتها.
فمن مجموع ما ذكر، يستفاد أنّ المسيحيين يقولون بالوهيّة النبيّ عيسى عليه السلام، و يعتبرون هذا الاعتقاد من أصولهم. و جميع النصارى متّفقون على التثليث رغم وجود الاختلاف الشديدة بينهم في كيفيّة الوهيّة المسيح؛ يقال إنّهم انقسموا إلى سبعين فرقة، كلّ واحدة اتّخذت طريقاً خاصّاً إلّا انّهم يتفقون بالتثليت، سواء اعتبروا أنّ الأركان الأساسيّة
هي الأب و الإبن و الامّ، أو الأب و الابن و روح القدس.
و على كلّ حال فإنّهم يعتبرون أنّ الأب هو عنوان للذات، و المسيح عنوان النبوة و الولادة الذي انشعب عن ذلك الأصل تحت عنوان العلم، و الأصل الثالث هو الحياة. و من المعلوم أنّ تركب الذات من هذه الأُمور الثلاثة، سواء اعتبروا أنّ هذه الاصول الثلاثة لها مدخليّة في التحقّق، أم قالوا بأنّ الذات تدور بينها و هي ثالث ثلاثة، فإنّ هذا اعتقاد خاطئ فاسد و تبطله البراهين الفلسفيّة.
القول بوحدة و بالتثليث يُعدُّ تناقضاً
التلميذ: إنّ سبب بُطلان التثليث على أساس قواعد البرهان رغم أنّ النصارى يقولون بوحدة ذات الحقّ، و الإنجيل يصرّح بالتوحيد و اتفاق الجميع على أنّ المسيح دعا إلى التوحيد هو التناقض بين الوحدة و الكثرة أي أنّ المسيحيّين يقولون: بأنّ ذات حضرة الحقّ جلّ و عزّ واحدة و هو في نفس الوقت ثلاثة! فإذا كانت وحدة حقيقيّة و كثرة اعتباريّة فلا يلزم الإشكال. و لو كانت كثرة حقيقيّة و وحدة اعتباريّة، فبمعزل عن اشكال تعدّد الآلهة فإنّها لن تستلزم تناقضاً. و لكن فرضنا أنّها كثرة حقيقية و وحدة حقيقيّة. فانّ هذا الأمر يستلزم التناقض
لا تجتمع الوحدة الحقيقيّة و الكثرة الحقيقيّة في موضوع واحد
و هو محال، بلحاظ التناقض هذا. و أفضل الأدلة في الردّ على القائلين بالتثليث هو أن نقول إنّ معنى الوحدة مغاير لمعنى الكثرة و مباين له. و الجمع بين هذين المفهومين في مصداقٍ واحد بالنظر إلى شروط التناقض يستلزم التناقض.
و يلزم في صورة فرض عينيّة الصفات و الأسماء لذات الحقّ جلّ و علا نفس هذا الإشكال، لأنّ الصفة إن لم تكن غير الموصوف، فإنّه في افتراض العينيّة و الوحدة بين الصفة و الموصوف ينبغي أن تكون ذات الحقّ واحدة باعتبار الذات، و كثيرة باعتبار الأسماء و الصفات التي هي عين الذات؛ و هذا ما يستلزم التناقض.
و لهذا، لا يوجد مناص من اعتبار الأسماء و الصفات مرتبة نازلة و متعينة للذات. ففي هذه الصورة (التنزّل و التعين) فإنّ الكثرة في المراتب لا تنافي وحدة الذات. و إلّا فإنّ جميع الإشكالات التي ترد على التثليث في جمعه للوحدة و الكثرة تعود لترد هنا أيضاً.
و اختلاف الآيتين: سيّد العارفين المرحوم السيد أحمد الكربلائي الطهراني و شيخ السالكين المرحوم الحاج الشيخ محمّد حسين الكمباني الاصفهاني رضوان الله عليهما يدور حول هذا الموضوع. فالشيخ كان يريد أن يثبت أنّ الجمع بعينيّة الأسماء و الصفات مع ذات الحقّ عزّ و جل لا يستلزم الإشكال.
امّا المرحوم السيد فقد كان مخالفاً جدّاً و مُنكراً لهذا المعنى، و اعتبر أنّ الجمع بين الوحدة و الكثرة الحقيقيّة محال، و لهذا فهو يقول بتنزّل و تعين مراتب الأسماء و الصفات.
العلّامة: إنّ الإشكال في دين المسيحيّين هو أنّهم يقولون في نفس الوقت إنّ الله واحد و إنّ الأصل القديم ثلاثة. و الجمع بين الوحدة الحقيقيّة و الكثرة الحقيقيّة من المحالات إذا كان جنس كلّ منهما واحداً. كأن يكون كلّ قسم من الوحدة شخصيّاً أو نوعيّاً أو جنسياً. و نحن هنا نقدّم مثلًا على كلّ قسم.
فبالنسبة للوحدة الشخصيّة: كأن نقول مثلًا إنّ زيداً واحد و هو في نفس الوقت ثلاثة. أو إنّ زيداً و عمراً و بكراً في الوقت الذي هم فيه ثلاثة من أفراد الإنسان لكن حقيقةً لهم وجود و تشخّص واحد.
و بالنسبة للوحدة النوعية: كأن نقول إنّ ماهيّة الإنسان في عين كونها نوع واحد فإنّها ثلاثة أنواع، فهي مثلًا إنسان و فَرَس و شاة، أو أن نقول بأنّ ماهيّة الإنسان و الفَرَس و الشاة في الوقت التي هي ثلاث حقيقيّة، هي
واحدة حقيقةً.
و امّا بالنسبة الوحدة الجنسيّة: كأن نقول إنّ ماهية الحيوان في الوقت الذي هي جنس واحد هي ثلاثة أجناس، فهي مثلًا حيوان و شجرة و حجر. أو إن ماهيّة الحيوان و الشجرة و الحجر هي واحدة في عين التعدّد. و هذه الامور كلّها من المستحيلات.
أمّا الجمع بين الوحدة الجنسيّة أو النوعيّة و بين الكثرة الشخصيّة، كالجمع بين وحدة الحيوان أو الإنسان و بين أفرادهما من زيد و عمرو و بكر فليس فيه إشكال. و كذلك الجمع بين الوحدة الجنسيّة و الكثرة النوعيّة مثل الجمع بين وحدة الحيوان و كثرة أنواعه من الطيور و الخيل و الأبقار فليس فيه أدنى إشكال أيضاً.
و بمعزل عن هذا، لو كان في الجمع بين الوحدة الشخصيّة و الكثرة الشخصيّة إحداهما واحدة بالوحدة الحقيقيّة، و الأُخرى متكثرة بالكثرة اعتباريّة، فلا إشكال فيه أيضاً.
كأن نقول مثلًا: إنّ زيداً شخص واحد حقيقةً و مركّب من عدّة أجزاء و نقسّم جسمه إلى عدّة أقسام باعتبارات مختلفه. ففي هذه الحال يكون هذا التقسيم و حصول الكثرة على أساس الإعتبار دون الواقعيّة و لن يؤدي إلى أيّ محذور. أو أن نقول مثلًا: إنّ زيداً و عمراً و بكراً مع انّهم في الحقيقة ثلاثة فهم واحد، باعتبار أنّهم إخوة أو شركاء أو اهل مدينة واحدة. و هذه الوحدة بدورها اعتباريّة.
أمّا بالنسبة لمقولة المسيحيّين، فهم يعتقدون بالكثرة الحقيقيّة. و التثليث و الأقانيم الثلاثة من أصولهم الإعتقاديّة. و في هذه الحالة إذا قالوا إنّ الله واحد و وحدته اعتباريّة، فقد نفوا حقيقة الوحدة و أسقطوا أصل التوحيد بالكامل. و إذا قالوا بأنّ وحدته حقيقيّة سيكون لازماً من ذلك
القول الجمع بين الوحدة و الكثرة الحقيقيّتين، و هذا محال.
و الظاهر أنّ النصارى يسيرون على هذا الاعتقاد، و يعتبرون أنّ الأقانيم الثلاثة صفات و تجليّات الله،۱ و هي ليست غير الموصوف و ذات الله و يقولون: لدينا ثلاثة أقانيم: اقنوم الوجود، اقنوم العلم و اقنوم الحياة.
و اقنوم العلم هو كلمة المسيح، أمّا اقنوم الحياة فهو الروح؛ و هنا فرضيّة التثليث تستتبع إشكاليّة الاستحالة. و هذا بالطبع في حال كانت للأقانيم و هي تعني تجلّيات و ظهورات الله عينيّة، هو ذاته.
و ببيانٍ آخر: لو قلنا «الأب و الإبن» لثبت لدينا العَدَد ضرورةً
و ليس هذا التعدّد شيئاً غير الكثرة الحقيقيّة. فإذا افترضنا وحدةً نوعيّة بين الأب و الإبن، كالأب و الابن من أفراد الإنسان حيث إنّهما في حقيقة الإنسانيّة واحد، من جهة أفراد الإنسان هما كثير، فهنا لا يمكن أن نقول إنّ الله واحد، لأنّ هذه الكثرة العدديّة مانعة من وحدة الله.
فبناءً على فرض وحدة الله فإنّ كلّ ما سوى الله و منهم الابن المفترض سيكون مملوكاً و محتاجاً إلى الله، و هكذا لن يكون الابن المفترض إلهاً أبداً.
و هذا الإستدلال هو نفس البيان القرآني: وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا.۱
اشتراك كلّ المذاهب المسيحيّة في أصل التثليث
و الخلاصة، فانّ الإشكال الذي يرد على النصارى و لا مفرّ لهم منه هو قولهم بالاصول الثلاثة مستقلّة و هو ما لا ينسجم مع الوحدة.
فالمسيحيّون مع وجود الاختلاف الكبير في دينهم قد انقسموا في قضية البنوة (بنوّة المسيح) إلى ثلاثة أقسام:
الأول: مذهب المَلْكانيّة، الذين يقولون بأنّ عيسى ابن حقيقيّ للّه.
الثاني: مذهب النَّسْطوريّة، الذين يقولون إنّ بنوّة عيسى للّه كإشراق النور على الجسم الشفاف (مثل البلور)، و هذا في الواقع القول بالحلول.
الثالث: مذهب اليعقوبيّة، و هم يقولون بالانقلاب، أي أنّ الله المعبود المجرّد قد انقلب إلى عيسى ذي اللحم و الدم.
و هذه المذاهب تختلف فيما بينها في كيفيّة اشتمال المسيح ابن مريم على جوهرة الألوهيّة الذي يعود إلى الاختلاف في اقنوم المسيح و هو أقنوم
العلم الذي انفصل عن اقنوم الربّ، فهل هذا الانفصال مثل الاشتقاق أم مثل الانقلاب أم الحلول؟ فكلّ النصارى متّفقون على أصل الانفصال و الغيريّة و البينونة العدديّة، و مشتركون في هذا القول:
إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
و لا يختص هذا القول بمذهب الانقلاب فقط، بل يشترك فيه الجميع.۱
و يستفاد ممّا قيل أنّ الجمع بين الكثرة الحقيقيّة و الوحدة الحقيقيّة محال. و بالتالي فإن دين النصارى لا يمكن أن ينطبق مع الموازين العقليّة و الفلسفيّة إطلاقاً.
و لهذا نجد أنّ بولس و غيره من زعماء المسيحيّة قد قبّحوا الفلسفة، لأنّ فكرة ولادة عيسى و بنوّته الإلهيّة لا يمكن أن توافق الأحكام العقليّة الضروريّة.۱
التلميذ: بناء على ذلك، فإنّ يرد من إشكال على المسيحيّة يرد أيضاً على اولئك الذين يقولون بعينيّة الصفات و الأسماء مع ذات الحقّ، لأنّ فرض وحدة الحقّ سبحانه و تعالى مع تكثّر الصفات و الأسماء باعتبارها قديمة أيضاً يعدّ جمعاً بين الوحدة الشخصيّة و الكثرة الشخصيّة، و كلا العنوانين
حقيقيّان أيضاً.
و بطلان هذا الأمر من الوضوح بالدرجة التي ينبغي عدّه من الامور الضروريّة للدين و مساوياً لبطلان التثليث، و يجب القول إنّ العرفاء بالله الذين تابعوا مفسّر القرآن الكريم الإمام عليّ بن أبي طالب أمير المؤمنين عليه السلام هم الذين جعلوا وحدة الحقّ في مقامها العظيم و السامي، و عرفوا أنّ الصفات غير الموصوف، و أنّها مرتبة نازلة و متعيّنة من الذات، و أدركوا بدقة معنى قوله عليه السلام.
شَهَادَةُ كُلِّ صِفَةٍ أنَّهَا غير المَوْصُوفِ. فساروا على أساس التوحيد الخالص. و كان الباقون في توحيدهم مشوبين بشوائب الكثرة في ذات الله، ينحون منحى النصارى القائلين بالتثليث. و لعلّ السبب الذي جعل الكثيرين من المتكلّمين يستقبحون الفلسفة أيضاً و يحرّمون الدخول في المسائل العقليّة، على أساس مناط حديث بولس، هو خوفهم من أن تظهر لهم الفلسفة ما أخفوه في باطن أيديهم، و تقوم بإلغاء التوحيد المتلازم مع الكثرة الذي فيه الشيء الكافي و الوافي من الشرك.
و على هذا الأساس كان المرحوم السيّد أحمد الكربلائي الطهراني هذا العارف الجليل ذو الضمير البصير يصرّ على الوحدة و يحذّر و يمنع و يردع من القول بعينيّة الأسماء و الصفات مع الذات. و كما جاء في الرواية الصحيحة من تقييد الأسماء و تحديدها بكونها مخلوقة و بكونها مظهراً لذات الحيّ القيّوم في حدود تعينها و مفهومها، في حين أنّ وجود ذات الحقّ بسيط و عارٍ من كلّ من شوائب الكثرات.
و لم أكن هنا بصدد إبطال دين النصارى، لأنّ بطلانه واضح و مبرهن من وجود عديدة، كما أنّ أصل التثليث يحمل وجوهاً من الإشكالات.
و لكنّ فقط أردت أن أقول بالنظر إلى امتناع الجمع بين وحدة الحقّ
مع تثليث صفاته و تجليّاته التي يسمّونها بالأقانيم، فإنّ عين هذا الامتناع وارد أيضاً في القول بوحدة ذات الحق و عينيّة الأسماء و الصفات مع الذات بحمل هو هو، و لا مفرّ و لا منجى إلَّا في مسلك توحيد العرفاء في مدرسة التوحيد.
في حقيقة توحيد ذات الحقّ تبارك و تعالى
مسألة توحيد الذات الأبديّة هي تنزيهٌ عن جميع شوائب الكثرات، سواء كانت خارجيّة أم داخليّة، عينيّة أم ذهنيّة أم نفسيّة. وَ هَذَا هُوَ قَوْلُ الحَقِّ وَ حَقُّ القَوْلِ.
تشكيك في الوجود و وحدة العرفاء
العلّامة: كان المرحوم الشيخ محمّد حسين الإصفهاني الكمباني يقول في تلك المراسلات بالتشكيك في الوجود، و يسير على منهج الفلاسفة كصدر المتألهين و الحكيم السبزواري و غيرهما.
و هذا التوحيد لا يستلزم إشكالًا، لأن التشكيك في الوجود الذي يقول به الفهلويّون:
الفَهْلَوِيُّونَ الوُجُودُ عِنْدَهُمْ | *** | حَقِيقَةٌ ذَاتُ تَشَكُّكٍ تَعُمْ |
مَرَاتِبًا غِنى وَ فَقْراً تَخْتَلِفْ | *** | كَالنُّورِ حَيْثُمَا تَقَوَّى وَ ضَعِفْ۱ |
و يجعل وصل الوجود درجات و مراتب، تختلف كلّ درجة و مرتبة أعلى عن المرتبة الأدنى في الشدّةً و الضعف و الكثرةً و القلّة و القوّة و الضعف و أمثالها.
أي أنّ الوجود في عين كونه واحداً و بسيطاً له مراتب، تتدرّج من أعلى المراتب من جهة، و من جهة أخرى تتنزل متدرجّة حتى تصل إلى أدناها، و ما بينهما تتوزّع باقي المراتب، الأعلى و الأدنى على حسب اختلاف درجاتها بحيث كلّما ارتفعنا أصبح الوجود أقوى و أشدّ و أوسع، و بالعكس كلّما نزلنا
أصبح الوجود أضعف و أضيق بحيث إنّ كلّ مرتبة من المراتب العليا تكون واجدة لكمال الدرجات التي هي أسفل منها و لا عكس. كالنور الذي في عين مفهومه الوحدة و حقيقته البسيطة ذو سلسلة ممتدّة و متطاولة بحيث إنّ أعلى درجاته هي الشمس و أدناها ظلمات الأرض، و بين هاتين الدرجتين مراتب مختلفة من النور في هذا العمود النورانيّ، كما هو الحال في الشمس حيث النور الأعلى و في الدرجة الأدنى منها نور أضعف و أبعد و أقلّ سطوعاً و أبهت إشراقاً، و هكذا في الدرجة الأدنى أضعف و أضعف حتّى يصل إلى المرحلة الأضعف و الأنقص.
و بشكل عامّ يمكن وصف هذا الاختلاف بين هذه المراتب بالكمال و النقص. فكلّ مرتبة أعلى واجدة لكمال الدرجة الأدنى، إلى أن نصل إلى معدن النور حيث يكون النور موجوداً على النحو الأكمل، و لا عكس. فإنّ كلّ مرتبة أدنى لا تحتوي مراتب الأعلى منها و ليست واجدة لكمال تلك الدرجة. حتّى نصل إلى أدنى درجات النور الذي هو ظلّ ضعيف باهت و الحدّ الأخير من مراتب النور.
و مع أنّ مفهوم النور الحسّي أيضاً واحد، و النور الحسّي أيضاً بسيط، و لكن بما أنّ ما به التفاوت هو عين مابهالاشتراك، و كلّ درجة في هذه السلسلة الطويلة في عمود النور هذا تتمايز عن سائر الدرجات بحقيقة نفس النور لا بشيءٍ آخر، لهذا يجب القول إنّ للنور حقيقة مشكّكة، أي انّه في عين الوحدة في الذات، ذو مراتب مختلفة بالنورانيّة في نفس الذات.
و في النور المعنوي و الوجود، فإنّ أعلى المراتب هي وجود حضرة الباري تعالى شأنه، الواجب و اللامتناهي في الشدّة و القدرة و القوة و السعة و التقدّم و الكمال.
و إذا تجاوزنا هذا، فانّنا كلّما تنزّلنا في المراتب المختلفة للموجودات
العقلانيّة النورانيّة و النفوس القويّة حتّى نصل إلى عالم الأمثال و الصور و عالم المادّة و الطبيعة الذي هو أضعف العوالم و المراتب الوجودية، خصوصاً الهيولى و المادّة الأوّلية التي هي نفس القابليّة المحضة و التي هي في أدنى مراتب الكمالات.
و بما أنّ صفات حضرة الواجب تعالى و أسماءه لا نهاية لها، فإنّه يمكن عدّها في الدرجة العليا من هذه السلسلة و افتراض أنّ لها العينيّة مع ذات الواجب القدسيّة، و هي موجودة في أعلى درجة من القوّة و السعة و الشدّة و الكمال بنحو العينيّة و البساطة و الوحدة.
و هذا هو مضمون كلام المرحوم الشيخ محمّد حسين و صدر المتألهين و شيخ الإشراق شهاب الدين السهروردي و نظائرهم من أجلّة الأعلام.
التلميذ: إنّ الوقوف عند مسألة التشكيك في الوجود لا يحل المشكلة، أولًا: لأنّ القول بالدرجة العليا على أنّها ذات الواجب يستلزم التركيب في الذات، و ذلك بسبب خصوصيّة تلك الدرجة، إن كانت لها عينيّة مع الأسماء و الصفات الإلهيّة و من المعلوم أنّ كلّا من الأسماء و الصفات ليس صِرف المفهوم بما هو مفهوم، بل له ما ينطبق عليه في الخارج و في هذه الحالة فإنّ جميع هذه الأسماء و الصفات بحدودها ينبغي أن يتحقّق في الذات، و هذا ما يستلزم التركيب، و هو نفس إشكال التثليث أيضاً.
ثانياً: إنّ أصل فرضيّة التشكيك في الوجود يحتاج إلى تأمّل و موضع إشكال. ففي هذه الفرضيّة إن جعلت ذات الواجب تعالى شأنه في المرتبة العليا و اعتبرت بقيّة المراتب مراتب و درجات الممكنات حسب اختلاف درجتها في القُرب و البعد أصبحت في هذه الحالة ذات الواجب محدودة بحدود الممكنات، و بالطبع متعيّنة و متقيّدة في الوجود إلى حدود
الممكنات. لأنّه بناء على الفرض المذكور، فإنّ ذات الواجب و جميع الممكنات مشتركون في أصل حقيقة الوجود. أمّا ما يميّزها عن بعضها البعض فهو الإنّيّة و الماهيّة. و هنا تصبح ذات واجب الوجود التي تكون ماهيّتها عين إنيّتها محدودة بالحدّ الأعلى لدرجة الممكنات، و يمكن أن تجعل إلى جانب تلك الممكنات أيضاً، إنّما غاية الأمر يتميّز و يتشخّص هذا الوجود الواجب بالشدّة و الضعف و الوجوب و الإمكان، و هذا لا يرفع معنى التحديد، بل ينتهي بنا إلى أنّ وجود الواجب محدود بوجود الممكن و يقف معه على حدود معيّنة.
و نحن نعلم أنّ لذات الواجب، أي وجود واجب الوجود، صرافة و محضيّة محضة. فوحدته وحدة بالصَّرافة، و ليست وحدة عدديّة. و هنا فإنّ كُلَّ مَا فَرَضْتَهُ في الوُجُودِ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ، و إلّا خرج عن الصّرافة الصرفة و المحضيّة المحضة، و في هذه الصورة، يعني مع فرض صرافة وجود الحقّ، كيف يمكن اعتبار نفس وجود الحقّ ذا مرتبة و درجة مع القول بصرافة وجوده؟ أو عدة في درجة العليا؟ في حين أنّ تصور محضيّة تلك الدرجة يستوعب كلّ المراتب و الدرجات، و يجعل الجميع مندكّاً فيه؟
فكيف يمكن تصوّر وجود آخر بفرض صرافة وجود الحقّ؟ و هذا هو أساس مفاد برهان الصدّيقين.
العلّامة: إنّ سلسلة الموجودات في مراتب الوجود، بناءً على افتراض مسألة التشكيك في الوجود، ليست عرضيّة حتّى تكون كلّ مرتبة منها في عرض و حدّ المرتبة الاخرى، أو في جوارها، و تكون بالتالي كلّ مرتبة عُليا بالنسبة للمرتبة الأدنى محدودة و متعيّنة؛ بل إنّ سلسلة المراتب طوليّة، و كلّ واحدة بالنسبة لغيرها قائمة في سلسلة العلل و المعلولات.
فكل مرتبة ما فوق علّة للمرتبة ما دونها، و كلّ مرتبة ما دون معلولة لمرتبة ما فوقها. و بناءً عليه، بما أنّ العلّة واجدة لجميع كمالات معلولها و لا عكس، فإنّ جميع مراتب السلسلة التشكيكيّة للوجود لها جميع كمالات المراتب ما دونها، و لا عكس.
و لهذا، فإنّ أخذنا كلّ حلقة من حلقات هذه السلسلة الطوليّة نجدها واجدة لكمالات الدرجة ما دونها. و تلك الحلقة الدنيا تكون أيضاً واجدة لكمالات الحلقة الأدنى حتّى نصل إلى آخر حلقة وجوديّة في مراتب النزول.
فلو افترضنا أنّ السلسلة التشكيكيّة عشر درجات، فإنّ الدرجة الاولى، التي هي أدنى الدرجات لها درجة واحدة من الكمال، و الدرجة الثانية الأعلى منها لها درجتان، و في هذه الصورة يعلم أنّ العدد اثنان يحتوي على كمال العدد واحد، و لا عكس؛ و الدرجة الثالثة تحتوي على كمال العدد اثنان، أي أنّ كلّ ما يحتوي العدد اثنان من الشدّة و الكثرة و القرب و القوّة و غيرها، كلّ هذه موجودة بتمام المعنى في العدد ثلاثة.
و بناء عليه، مع فرض أيّة حلقة من حلقات هذه السلسلة، فان جميع المراتب الأدنى منها موجودة فيها بالفعل. و عندها في هذه الصورة لا معنى لمحدوديّتها بحدود ما دونها.
و لأنّ ذات الواجب جلّ و عزّ في أعلى درجة من سلسلة المراتب، فإنّ جميع كمالات الدرجات ما دون موجودة فيه بالفعل. فلا كمال إذاً في أيّة مرتبة من المراتب إلّا و هو موجود في ذات الواجب.
أمّا الوحدة التي يقول بها العرفاء فإنّها لا تتنافي مع التشكيك في الوجود، بل إنّها نظرة أعمق و أدقّ إلى الوجود.
ففي التشكيك الذي يقول به الفلاسفة تكون الموجودات الإمكانيّة
ذات وجود حقيقيّ، غاية الأمر أنّه وجود إمكاني افتقاريّ بحيث يكون كلّ واحد فيه معلولًا لوجود أعلى منه إلى أن يصل الأمر إلى ذات الواجب جلّ و عزّ.
و بناء عليه، فإنّ جميع الموجودات معلولات ذات الحقّ، و متدلّيات بعظمته و كبريائه.
امّا العرفاء فإنّهم يقولون إنّ الوجود مختصّ بذات الحقّ، و جميع الوجودات الإمكانيّة ظلّ و فَيْء لوجود الحقّ، و هي نفس الظهور فقط لا غير. أمّا نسبة الوجود إليها فهي نسبة مجازيّة، و يقال لها موجودة بالاعتبار.
و لكن هذا الرأي لا يتنافي مع كلام الفلاسفة. بل إنّة ينظر إلى الموجودات بمنظار أدقّ و أعمق. و يمكن القول في الواقع إنّ رأي العرفاء يهيمن على رأي الفلاسفة.
التلميذ: صحيح أنّ للموجود صرافة، و أنّ جميع مراتب الوجود في المراتب التشكيكيّة في هذه السلسلة داخلة و مندكّة في مصداق الوجود الصرف. و لكنّ وجود ذات الحقّ جلّ و عزّ له صّرافة، و لا يمكن تعريته من الصرافة و المحضيّة. و بناءً عليه، فإنّ الصرافة في ذات الواجب تتباين مع التشكيك.
لأنّ نفس تصوّر صرافة الوجود في ذات الواجب ينفي كلَّ شكل من الوجود عن الغير، حتّى و إن كان بنحو المعلوليّة. و بالأصل فإنّ الصرافة لا تنسجم مع الغيريّة. إمّا امتلاك ذات الحق لجميع كمالات المعلولات لا يتنافي مع التغاير في الجملة و لو بنحو الشدّة و الضعف. و التغير يتباين مع الصرافة في وجود الحقّ.
امّا الرأي الدقيق للعرفاء فإنّه يتنافي مع صحّة رأي الفلاسفة. لأنّ
رأي الفيلسوف في مرحلة خاصّة من الدقّة، و رأي العارف يتخطّى هذه المرحلة ليبطله فيما بعد.
فالعارف برؤيته لوحدة الحقّ و ملاحظة الصرافة في وجوده لا يمكنه أن يرى غيره، ففرض الغير بالنسبتة له غير صحيح، و هو يشاهد جميع الموجودات أنواراً و ظلالًا و نسَباً و اعتبارات لذات الحقّ.
و بالطبع، ففي هذا الرأي العرفاني حيث التوحيد المحض، فإنّ حقيقة الوجود تختصّ بذات الحقّ. و لا تستلزم مشكلة تعدّد القدماء، و لا إشكال منافاة صرافة الوجود مع وجود الغير، أي وجود الممكنات.
و الآية المباركة: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا.۱
و الآية المباركة: وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.٢
توضّحان هذا المعنى. ففي صورة فرض وحدة العرفاء فإنّ معيّة الحقّ مع جميع الموجودات هي معيّة حقيقيّة كمعيّة الشاخص و الظلّ، و معيّة القائم و ما يقوم به، و لا تستلزم إطلاقاً الوحدة العدديّة لذات الحقّ، لأنّ ذات الحقّ، الذي وحدته بالصرافة و ليست وحدة عدديّة، تكون معيّة لجميع الموجودات، فمع الثلاثة و الأربعة و الخمسة أكثر من ذلك بدون أن يزاد إلى عددهم رقم واحد. أمّا في صورة التثليث فإنّ الحقّ سوف يؤخذ حتماً كعدد واحد. و بناءً على التغاير الوجودي للأسماء و الصفات مع ذات الحقّ
على نحو التغاير العلّيّ و المعلولي، فإنّ التغير العدديّ لا بد أن يرد أيضاً.
فإن أردنا أن ننفي أيّة وحدة عدديّة عن ذات الحقّ لا بدّ أن نعتبر أن وحدته وحدة صرفة، و عندها لن يُتصوّر أيّ غير، و لو بنحو الوجود المعلوليّ، بل إنّ جميع الموجودات هي مظاهره و أسماؤه طرّاً، و هي تجلّيات ذاته المقدسة. أمّا نسبة وجودها فهي نسبة مجازيّة و اعتباريّة محضة.
العلّامة: إنّ استدلالكم هذا سيكون تامّاً و يعطي نتيجة مثمرة إذا اضيفت إلى مقدّماته مقدّمة اخرى، و هي إذا اعتبرنا أنّ الوجود واحدٌ بالشَّخص.
فهنا يصبح ذلك الوجود بالصرافة الذي هو الواحد بالتشخّص مختصاً بذات الحقّ، أمّا جميع الموجودات من الأرض و السماء و عالم الملك و الملكوت فهي مظاهره و تجليّاته، ليس لها من ثمّ وجود من نفسها، و نسبة الوجود إليها بالعرض و المجاز.
فما لم يثبت تشخّص الوجود، لن يكفي نفس كونه واحداً بالصرافة لأجل إثبات هذا الأمر المهمّ. و ذلك لأنّ الوجود الواحد بالصرافة إذا كان ممكناً لكان له في التحقيق تعدّد التحقّقات، مثل التحقّق الواجب و التحقّق الممكن، فهنا يصبح اثبات الوحدة له مشكلًا، إلَّا إذا اضيف له أمر خارجي و هو أنّ كلّ وجود واحد بالصرافة ينبغي أن يكون حتماً في التشخص واحداً.
فعندها يمكن اثبات الوحدة و آثارها للوجود على أساس التشخّص الواحد.
و كنت قد ألفت في سابق الأيّام رسالة باللغة العربيّة حول الولاية أثبتُّ فيها تشخّص الوجود، و أنّ الوجود مساوق للتشخّص، ففي الخارج
لا يوجد شيء إلَّا شخص واحد فقط للوجود. و يستحيل أن يتحقّق اكثر من تشخّص واحد.
لأنّنا إذا قلنا بالتشكيك، فلن يكون لدينا في الحقيقة إلَّا وجود مشكّك واحد. و في هذه الصورة يحصل الوجود على مراتب مختلفة، تتناسب كلّ مرتبة فيه مع المراتب الاخرى، و لكن بأيّ كيفيّة ستكون مع المراحل الاخرى؟
علينا القول في النهاية إنّ وجود واجب الوجود هو ذلك الوجود الشديد العلوي الغنيّ الذي يتمايّز عن بقيّة الموجودات بالغَنى و الشدّة و القوّة، لكنّ مجرّد قولنا انّه متمايز فقد أخرجناه عن الصّرافة و التشخّص.
و عند ما قلنا إنّ وجود الله وجود بالصرافة، فإنّه لا يترك حدّاً لموجود آخر و لا وجوداً لموجود آخر، و هذا المعنى هو الذي يستلزم التشخّص. أي أنّه لا يوجد في عالم الوجود إلّا شخص واحد من الوجود، لا أكثر.
و الوحدة الشخصيّة بمعنى الشخص لا تنسجم مع الكثرة بأي نحو افترضناها (الوحدة الشخصيّة بحساب خصوصيّة الشخص).
امّا الكثرة، فإنّها تنسجم مع أنواع الوحدة الاخرى كالوحدات النوعيّة أو لعلّ مع الوحدة التشكيكيّة و نظائرها، لكنّها لا تنسجم مع الوحدة بمعنى الشخص الواحد.
فإذا كانت حقيقة الحقّ تبارك و تعالى شخصاً واحداً، و موجوداً واحداً شخصيّ و قائم بالشخص، فلا تصوّر بعد لوجود الكثرة.
و مع هذا القول يتمّ الكلام. لأنّ الوجود و هو عين التشخّص، و الله تعالى ليس واحده بالوحدة الجنسيّة أو النوعية أو الصنفيّة و أمثالها، بل هو شخص لَيْسَ في الدَّارِ غيرهُ دَيَّارُ.
و قد قام القرآن على أساس هذا البرهان للردّ على التثليث، فَلما ذا
يا ترى يقول:
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ. و لما ذا يقول: لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ.
فالقرآن يهدّد جميع النصارى و يعتبرهم كفّاراً على أساس المنطق الذي يقول إنّ ذات الواحد الشخصيّ للباري تعالى لا تتمايّز و لا تتعيّن مع أيّة مراتبة من الكثرة.
وجود ذات الحقّ تعالى واحد بالشخص
أجل، فالوجود واحد شخصيّ، و على أساس قول العرفاء بالله: تشخّص واحد. و هنا فإنّ الوجود الذي يشاهَد في الموجودات ليس إلّا مشاهدة وجود الحقّ، و لا وجود هذه الأرض، و هذه السماء و الإنسان و الحيوان، و جميع الكثرات التي تلاحظ في حقيقة وجودها هي الحقّ الذي هو واحد. و ليس وجود الأشياء الذي يظهر الكثرات. لا يوجد إلّا وجود واحد شخصيّ في الواقع و لا كثرات في البين. أمّا نسبة الوجود للكثرات فهي نسبة مجازيّة و واسطة في مقام العروض.
التلميذ: ما أجلى بيان آيات القرآن الكريم مسألة التوحيد، و كأنّ كلّ القرآن قد نزل لمعرفة الله تعالى و شئونه، و هو بالحقّ كتاب في دروس التوحيد.
السبب في اشمئزاز و نفور قلوب الكافرين من ذكر توحيد الله
و ما يُثير العجب كثيراً اولئك الذين انحرفوا عن جادّة توحيد الحقّ تعالى و محاولتهم قدر المستطاع جعل الله عرضة لعالم الكثرات و تدنيس ساحته بغبار الكثرة، سبحانه و تعالى.
فبعدوا عن وحدة الحقّ تعالى و هجروه، و كلّما جاءهم ذكر في هذا المعنى شمّروا عن سواعدهم للمواجهة، فعشقوا عالم الكثرة، و أرادوا أن يجعلوا لله نصيباً ممّا هم فيه و إضفاء تلك الصبغة عليه.
هل لأنّهم من سنخ واحد مع عالم الكثرة الذي هو موطنهم
المألوف؟
وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً.۱
وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ.٢
ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ.٣
معنى الآية الكريمة: أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ
العلّامة: و الأعجب من هذه الآيات ما ورد في سورة التكاثر:
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ، أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ ، حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ ، كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ، كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ ، ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ.٤
في بعض المراحلِ يتجاوز القرآن الصراحةَ، أمّا في نفس الوقت فإنّ حالاتنا القلبيّة لا ترضخ و لا تقرّ و تؤوّل ذلك المطلب على نحوٍ آخر.
إن تكاثركم (طلب الكثرة و رؤيتها) قد جعلكم في غفلة عن رؤية جمال الحقّ و الوحدة المطلقة، و صرفكم عنها حتّى هويتم في المقابر. كلّا ستعلمون قريباً، ثمّ كلّا ستعلمون بأن الأمر ليس كذلك بأنّ للكثرات حقيقة و حكاية عن الأصالة.
فلو علمتم علم اليقين (و وقفتم على حقيقة الأمر) لرأيتم كلّ كثرة جحيماً و ناراً. ثمّ ستعرفون النار بحقيقة اليقين. ثمّ لتُسألنَّ عن النعيم الذي هو الولاية و طريق القرب بين العبد و المولى و لتسألنّ إلى أيّ حدّ خرجتم من حجاب الكثرة، و كم خطوتم في وادي التوحيد.
و قد فُسّرت هذه الآيات على نحوين: الأول: أنّ الأعراب و العشائر
كانوا في أيّام الجاهليّة و ما تبعها في الإسلام يتفاخرون على بعضهم. فكلّ قبيلة يكثر عدد شجعانها و تغلب الأخرى في التفاخر، حتّى وصلوا إلى درجة بدءوا يعدون الأموات (أي أنّهم كانوا يذهبون إلى القبور و يعدّون الأموات بأسمائهم و يضيفون عددهم إلى الأحياء، فيقولون مثلًا إنّ عدد أبطالنا أربعون، ثلاثون من الأحياء و عشرة من الأموات).
الثاني: أنّ هذه الكثرات، و طلبها و النظر إليها قد شغلتكم بأنفسكم و منعتكم من لقاء الحقّ و رؤيته إلى أن جاء أجلكم بما معناه أنّكم ما دمتم أحياء فمشغولون بطلب الكثرات، و دائماً الكثرة تطلبون حتّى يأتي أجلكم.
التلميذ: إنّ هذا التكاثر ورد على نحو الإطلاق، و لا يقتصر على الأموال و الأولاد، بل يشمل التكاثر في الخيرات و العلم، في علم الفقه و الاصول و الحديث و سائر الفنون و العلوم، و بشكل عامّ، كلّ تكاثر يحجب الإنسان عن لقاء الحقّ و عن وحدة حضرة عزّه و جلاله، و صرفه عن الله سيعدّ تكاثراً بأجمعه، و باعثاً على انشغال الإنسان به، فهذه الكثرات هي التي تمنع الإنسان من السعي للوصول إلى وحدة الحقّ.
الإنسان يسعى دائماً لطلب العلم، و قبل أن يعرف نفسه يريد أن يعرف الغير، يريد أن يعرف العالم و الجماعات و الأرض و السماء و النجوم و الكواكب و القارّات فيقرأ هذا الكتاب و ذاك و لا يشبع: حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ. و يغفل عن النعيم، و ما ادراك ما في لقاء الله! و يضيّع رأسماله في حجاب الكثرات و أي رأسمال يضيع ...؟! و يضلّ عن الحقيقة، سائراً وراء جمع المجاز بعيداً عن الوحدة و ميلًا إلى الكثرة. إلى أن يشرف على الموت و يودع القبر و يطوي بساط الحياة. فهذا الحسّ لطلب الكثرة و المعرفة و الاستطلاع موجود في الإنسان.
العلّامة: نعم، لهذه الآية إطلاق، و هي تشير إلى أنّ كلّ طلب للكثرة يحجب و يمنع الإنسان من الوصول إلى مقام طلب الوحدة و البحث عن الله. هذا التفسير أفضل من التفسير الأوّل الذي لا يقبل كثيراً.
امّا ما جاء في المراسلات التي جرت بين العلمَين الكبيرين السيّد احمد الكربلائي و الشيخ محمّد حسين الاصفهاني رضوان الله عليهما حول التشكيك في الوجود و الوحدة في الوجود، و التي لم يقتنع فيها الشيخ بالمطالب العرفانيّة التوحيديّة التي طرحها السيّد المرحوم فتصدّى أحد تلامذة المرحوم القاضي، و يدعى السيد حسن الكشميريّ (و هو من زملاء الحاج الشيخ على محمّد البروجرديّ و السيد حسن المسقطيّ، و هما من تلامذة القاضي) و أعاد فتح موضوع المباحثة مع الشيخ الأصفهانيّ، و استمرّ بطرح استدلالات و البراهين التي بدأها المرحوم السيد أحمد حتّى ألزمه بالقبول.
و في الفترة التي كنّا نتزوّد و نكتسب الفيوضات من علم المرحوم القاضي رضوان الله عليه في النجف الأشرف، تشرّفت يوماً و أنا في حالة الخلسة بزيارة عليّ بن جعفر رضوان الله عليه، و اقترب مني إلى الدرجة التي أحسستُ فيها بالهواء الملاصق لبدنه، و كنت أسمع صوت أنفاسه، فقال لي: إنّ قضيّة الوحدة من الاصول المسلّمة و الأوّليّة عندنا أهل البيت.
الإشكال الوارد في التشكيك في الوجود
التلميذ: في نهاية الأمر، ينبغي أن تتّضح هذه المسألة، هل قضيّة التشكيك في الوجود و قضيّة الوحدة في الوجود متضادّتان، أم لكلّ واحدة حقيقة، لكنّ الثانية أعلى و أكمل؟
فأهل التوحيد يقولون: إنّ الذات القدسيّة لواجب الوجود لا اسم لها و لا رسم، و ليس فيها أيّ تعين. و أمّا وجودها وجود بالصِّرافة، لا طريق فيها للوحدة العدديّة. و بناء عليه، لو جعلناه متعيناً بأي نحو من التعين لأدّى ذلك
إلى التمييز، و اخرجه عن الصرافة.
أمّا أهل التشكيك فإنّهم يقولون: إنّ ذات الواجب هي الدرجة العليا من الوجود، و ما يميّزها عن بقيّة الموجودات علوّها و شرفتها و قوّتها و شدّتها، و ذلك لأنّه بعد أن قلنا إنّ وجود الواجب و وجود الممكن كلاهما من سنخ الوجود البسيط البحت، و ما يميّزهما هو عين الوجود، لا يوجد فيهما شيء من خارج الوجود، و هكذا، فإنّ انفعال و اثنينيّة كلّ مرتبة من مراتب سلسلة الوجود سواء أخذنا الواجب مع الممكنات أم الممكن الأقوى مع الأضعف انّما هو على كلّ حال بواسطة نفس الوجود، و هو من خواص الحقائق المشكّكة، و في نفس الوقت الذي يتفاوت فيه بعض الأفراد مع بعضه الآخر، فإنّ هذا التفاوت إنّما وجد بواسطة تلك الحقيقة المشكّكة، و ليس من ضمّ أمر عدميّ أو ماهوِّيّ أو خارجيّ.
و على هذا الأساس تنفصل حقيقة الواجب عن بقيّة المراتب، و يصبح لها حدّ و تميّز و انفصال. فعند ما نقول كبير و صغير و غنيّ و ضعيف و مرتبة عليا و دنيا و... فكلّ هذه حدود تفصّل و تميّز وجود الواجب بهذه العناوين التي هي مفاهيم لا شكّ أنّ لها مصاديقاً خارجيّة و تنطبق عليها عن كافّة سلسلة الممكنات. و لأنّ هذا التمايز و الفصل يرجع إلى جهة الوجود، فانّ وجود الواجب يصبح متعيّناً و محدوداً.
و يعلم أنّ المراتب العليا لكما ارتفعنا فيها كانت واجدة على نحو أفضل لكمالات الدرجات و المراتب التي ما دونها من الوجود، و لكنّ هذا الحصول الكمالي لا يؤدّي إلى العينيّة مع سائر المراتب، و بالتالي لا يمنع من التشخّص في الوجود. و نفس هذا المقدار من التمييز و الفصل يؤدّي إلى التحديد و التعيّن، و بالتالي يخرج المرتبة العليا من الصّرافة.
بل يلبس حضرة الحقّ جلّ و علا لباس العدد، بينما قد ثبت أنّ
وجوده بالصرافة، و أنّ سعته و إحاطته الوجوديّة تجعل كلّ الوجودات مضمحلّة و مندكّة و فانية. و كما ورد في الدعاء و ما تدلّ عليه الروايات أيضاً: وَاحِدٌ لَا بِعَدَدٍ؛ قَائِمٌ لَا بِعَمَدٍ.
العلّامة: في قضية التشكيك في الوجود، فإن الدرجة العليا من الوجود تفوق جميع المراتب من جميع الجهات في القوّة و الشدّةً و الكثرة، و هي العلّة و ما عداها معلولاتها، و هذا لا يتنافي مع الصرافة في الوجود، بل جائز على نفس معنى الصرافة.
لجهة أنّ هذه السلسلة المشكّكة من الوجود، بناء على الفرض المذكور، تفسير من الضعف إلى الكمال. و كلّ درجة سفلى معلولة لما فوقها، و كلّ درجة عليا علّة لما دونها. و بما أنّه قد ثبت أنّ المعلول حاضر بكلّ وجوده في العلة بدون جهات نقصانه من الحدود العدميّة و الماهويّة و العلّة لها علم حضوريّ بمعلولها. و لهذا فإنّ واجب الوجود الذي هو غاية الغايات و مبدأ المبادئ يكون علّة فاعلة و علّة غائية لجميع المراتب من سلسلة الوجود. و في هذه الحالة يكون واجداً لجميع الكمالات و الإنّيّات و التحقّقات للمراتب الأدنى منه. و بناء عليه، لا يوجد من الكمال في أيّ مرتبة من المراتب إلّا و هو موجود في ذات واجب الوجود بالفعل، و هذا هو معنى الصرافة في الوجود.
فالدرجة العليا من الوجود على النحو الذي قيل لا تتنافي مع الصرافة في الوجود و لا ينبغي ذلك.
لأننّا لو نظرنا إلى مراحل الوجود كلّ على حِدَة لوجدنا أنّ كلّ كمال سفليّ موجود في العلويّ. و الكمال العلويّ ليس موجوداً في السفليّ، و هكذا بالنسبة للكمال العالي فإنّه موجود في الأعلى منه و لا عكس.
و الأعلى منه كذلك، حاصل على كمال العلوي الأدنى منه و لا عكس.
و هكذا ترتفع هذه السلسلة على هذا الترتيب، فكلّ درجة عليا لها كمال ما دونها و لا عكس، وصولًا إلى الدرجة العليا التي لا يوجد فوقها شيء. لأنّ هذه السلسلة لا يمكن أن ترتفع غير متناهيّة، فالتسلسل محال، و لا بدّ أن ينتهي إلى الدرجة التي ليس فوقها شيء. و هنا تكون هذه الدرجة واجدة لجميع الكمال و تحقّقات درجات ما دونها، و لكن جميع الدرجات السفلى مع كثرتها و تعدادها ليست واجدة لكمال تلك الدرجة العليا.
و هذا التحقّق لجميع الكمالات في تلك المرتبة هو نفس معنى الصرافة في الوجود.
لأنّ كلّ ما نفرضه من الوجود و الكمال و الشدّة و الغنى و القوّة و سائر أنحاء الكمالات موجود هناك، لأنّه بناء على الفرض علّة، و العلّة تكون واجدة لجميع كمالات المعلوم.
و لا ينبغي القول إنّ تلك الدرجة العليا من الكمال، و إن كانت واجدة لكمال ما دونها، و لكنّها غير واجدة عين ما دونها، و لهذا فهي ستكون محدودة بهذا الحدّ، لأنّه لا يوجد في أدنى إلّا الكمال. لأنّنا نعلم أنّ الحدود العدميّة و و الماهويّة للدرجات السفلى ليست شيئاً و ليست وجوداً. فهي أمور عدميّة، و كلّ ما يضمّه الأدنى في نطاقه من نفس التحقّق و الوجود، و الآثار الوجوديّة كلها، فهو موجود بأجمعه في الأعلى.
اذاً فالأسفل هو مرتبة من الكمال الوجوديّ، الذي نطلق عليه الغنيّ و الشديد و الكثير و القريب و المقدّم و غيرها من التعابير المختلفة. و جميعها موجودة لا بحدودها العدميّة و الماهويّة في المرتبة العليا بالفعل. و المرتبة العليا لديها علم حضوريّ بها. فهي واقعة ضمن إطار قدرتها و سيطرتها و قبضتها.
و مثال النور الذي استعمل في هذا الجمال يوضح المطلب تقريباً،
لأنّ هذه السلسلة من نور الشمس التي فصل منها إلى الأرض، إذا افترضناها مائة درجة، فسيكون لدينا في هذه الحالة نور على الأرض بدرجة واحدة، و أعلى منها بدرجتين، و أعلى ثلاث درجات، و أعلى أربع درجات، و خمس و ستّ و هكذا ... كلّما ارتفعنا أدركنا درجة حتّى نصل إلى نور الشمس التي افترضناها مائة درجة.
فكلّ واحدة من هذه الطبقات النوريّة في الوسط واجدة لنور الدرجات السفلى، و لا عكس.
و في الدرجة المائة التي هي آخر الدرجات و أعلاها، فلن يكون من نورٍ إلّا و كان موجوداً فيها، حيث هناك منبع النور و كماله. فهي سلسلة من المراتب بعضها فوق بعض تشكّل مراتب النور.
و كلّ طبقة عليا تكون علّة لوجود الطبقة السفلى، و الطبقة السفلى الأدنى من الجميع تكون فاقدة لجميع كمالات الدرجات العليا؛ أمّا الطبقة العليا التي تعلو الجميع فإنّها واجدة لجميع كمالات ما دونها.
فالدرجة الواحدة تعني درجة من الكمال. و معنى الاثنين هو الدرجتان من الكمال و هكذا إلى المائة، و معنى المائة: مائة درجة من الكمال، و هي الواجدة لجميع كمالات المراتب المائة المنطوية فيها، و هذا هو معنى الصرافة.
معنى الصرافة هو أن لا يكون للحيثية تقييداً، و لأننا نرى أنّ الدرجة الأخيرة التي هي الدرجة المائة لا يوجد أيّة تقييد للحيثيّة بأيّ وجه من الوجوه، عندها لن تتنافي مع الصرافة. بل هي الصرافة بعينها.
إن هذا المثل حول مراتب النور الحسيّ مثل جيّد جدّاً، و هو يقرب المطلب إلى الذهن، و هذا المثل للنور الحسيّ يعطي صورة واضحة حول النور الواقعيّ الحقيقيّ الذي هو حقيقة الوجود.
التلميذ: في قضيّة تشكيك الوجود، نجد أنّ المراتب الكثيرة للوجود لها وجود واقعي و أصيل و قد أوجب الوجود الواحد حقيقة مع نفس الوجود الذي ما به الاشتراك بين جميع المراتب اختلاف المراتب. و بناء على هذا، فإنّ حقيقةُ الوجود اكتسبت اختلافاً حقيقيّاً بالشدّة و الضعف و التقدّم و التأخّر و غيرها. و لهذا، يكون الوجود الواحد المشكّك ذا أفرادٍ هم أشخاصٍ مختلفين من الوجود، و يصدق على كلّ واحدٍ منهم مفهوم الوجود و الموجود.
و أصل طبيعة الوجود الخارجي الذي هو واحد و بسيط، و يشكّل هذه السلسلة من الوجود، فهو بدون شكّ يتملك وحدة بالصرافة، لأنّه لا يوجد شيء آخر مقابله حتّى يعنون بعنوان العدد من هذه الجهة. و هذه الطبيعة الخارجيّة هي بحيث كُلُّ مَا فَرَضْتَ لَهُ ثَانِيَاً عَادَ أوّلًا وَ كُلَّمَا فَرَضْتَهُ خَارِجَاً عَنْهُ كَانَ دَاخِلًا فِيهِ. لأنّه صِرف، و هذا هو معنى الصرفة.
أمّا الدرجة العليا من الوجود التي افترضناها واجبة، فهي و إن كانت بدون شكّ واجدة لجميع كمالات الأسفل منها، و فيها كافّة المراتب مع اسقاط الحدود العدميّة و الماهويّة بالفعل. لكن، بدون شكّ، يوجد أمر في البين، هو الذي أعطى امتيازاً للدرجَة العليا عن سائر الدرجات السفلى، و ليس هو شيئاً غير اسم و عنوان الغيريّة، و قد صار سبباً لتمايز الدرجة العليا عن الدرجات من الوجود بحيث إنّ الوجودات السافلة و إن كانت موجودة فيه بدون الحدود، و لكن مع وجود هذه الحدود و تصبح خارجة عنه، و نفس هذا الخروج يستلزم الحدّ و الفصل بين الأمرين، و هذا ما يتنافي مع الصرافة. لهذا لا يمكن فرض عدد مقابل الصرافة، بينما نحن قد أوردنا عنوان العَدد هنا.
و حتّى لو جعلنا هذا الوجود في المرتبة العليا و أعطيناه صفة العلّيّة،
و لكن في آخر الأمر فإنّ بين العلّة و المعلول يوجد العدد، و نفس انطواء المعلول في العلّة مع إسقاط الحدود لا يوجب اتحاد المعلول مع العلّة أو وحدتهما.
و حيث لا بدّ من اعتبار ذات الواجب واحدة بالصرافة، فلا مفرّ إذن من أن نعتبر موجوداً ينطبق عليه عنوان الوجود، و هو حاصل على الصرافة و هو شخص واحد يتضمن جميع الموجودات و الممكنات.
و بعبارة أوضح: يكون وجوداً شخصيّاً واحداً هو عين الوجوب و جميع الممكنات مَظاهر و مجالي و مرائي له، لا أنّها بأنفسها لها وجود.
و أمّا بناءً على قضيّة الوحدة، فهذا الأمر محقّق، لأنه أولًا: قد ثبت أنّ الوجود مساوق للتشخّص، و لأنّ الوجود واحد فهو شخّص واحد و هو الله تعالى شأنه العزيز.
و لهذا الوجود الشخصيّ صرافة، لأنّه لا يوجد شيء خارج عنه حتى يطلق عليه عنوان العدد، فجميع الموجودات مرائيه و آياته، ليس لها وجود من نفسها، بل نسبة الوجود و الموجود إليها نسبة مجازيّة و اعتباريّة، و قد و سمت ناصيتها بالفقر و العدم و الاحتياج.
و بناء على هذا، لن تكون عقيدة التشكيك الوجوديّ معرّفة للتوحيد الخالص، بل إنّها تستلزم في نهاية الأمر الحدّ و العدد في ذات الواجب، حتّى و إن كان هذا الحدّ أو العدد خفيّاً و دقيقاً.
في توحيد الحقّ سبحانه تعالى و تقدّس
و امّا تبعاً لوحدة العرفاء بالله و تلامذة مدرسة أمير المؤمنين عليه السلام في «نهج البلاغة» و غيره، و دقائق كلام حضرة الصادقين عليهما السلام مفسّري القرآن الكريم في التوحيد، فإنّ مذهب التشكيك في الوجود لا مجال له، بل تهدم اصوله و اسسه و تسيره تبعاً للتوحيد.
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ، اللَّهُ الصَّمَدُ ، لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً
أَحَدٌ.۱
هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ.٢
فغيرتُه لم تبق غيراً في العالم:
كُلُّ مَا في الكَوْنِ وَ هُمْ أوْ خَيَال | *** | أوْ عُكُوسٌ في المَرَايَا أوْ ظِلَال |
نشانى دادهاند اهل خرابات | *** | كه التوحيدُ إسقاطُ الإضافات |
وجود اندر كمال خويش سارى است | *** | تعينها امور اعتبارى است٣ |
العلّامة: ما زلتُ أذكر هذه الأشعار! و لكن للأسف لا يمكن حلّ الموضوع بالشعر.
فبالطبع لا يمكن القول إنّ في الوجود أشخاص متعدّودن، فتعدّد الأشخاص في الوجود، و وجود كلّ شخص من أشخاص الوجود لا يمكن قبوله في الهويّة المطلقة للوجود، و إذا ما كان قبول القول بتشكيك الوجود يستلزم قبول أشخاص المتعدّدين للوجود فهذا الأمر ليس مقبولًا.
و في ذلك التقريب الذي ذكرته في «رسالة الولاية»، كأنّ الصرافة في الوجود لا تتنافي مع فرض الدرجة العليا للوجود.
و هذا الكلام الذي ذكرناه حول المراتب كان لأجل إثبات تشكيك الوجود، و كأنّ الموضوع هو انّنا إذا ما فرضنا وجوداً، و أردنا أن نفترض وجوداً آخراً فإنّ الوجود الأوّل أدنى من الثاني و مشمول فيه. و كلّ ما لديه منه، و في المرحلة الثانية و غيرها فإنّ الأمر سيدور ما بين الفرض الثاني و ما بين الفرض الثالث و يتكرّر الكلام، مع مرتبة من المراتب التي هي فوق المرتبة الاولى. عندها، كلّما ارتفعت المراتب شيئاً فشيئاً على هذا المنوال إلى أن تصل إلى مرتبة ليس فوقها شيء، فيجب أن تكون تلك المرتبة هي واجب الوجود.
و في النتيجة سوف تفرض مراتب من الوجود حيث إنّ تلك المرتبة العليا أعلى المراتب هي مرتبة الواجب، و إذا فرضنا الصرافة فيجب أن نفترضها هناك.
و هذا هو قول القائلين بالتشكيك في الوجود، و بالتأكيد لا يكفي هذا المعنى وحده لإثبات تشكيك الوجود و اثبات الصرافة، فهذه نظريّة، و لكن أعلى المراتب التي ذكرناها قد جعلت في الصفّ و هو صفّ من الوجود ترتقى درجاته درجة درجة إلى الأعلى حتى تصل آخر الأمر إلى مكان يكون فيه أعلى هذه المراتب حتماً و قهراً، و لا يوجد بعد ذلك أعلى منه.
فهذه طبيعة المسألة. و بالطبع سوف تكون الدرجة الأعلى للصرافة، لأنّها حائزة على جميع الكمالات.
وَ لَا يَشُّذُّ عَنْ حِيطَةِ كَيْنُونَتِهِ وَ تَحَقُّقِهِ وُجُودٌ؛ وَ كُلُّ مَا فَرَضْتَهُ مِمَّا فِيهِ شَائِبَةُ الوُجُودِ وَ الكَمَالِ مَوْجُودٌ تَحْتَ عُنْوَانِ تَشَخُّصِهِ وَ تَحَقُّقِهِ.
و هذا، مسألة دقيقة تحتاج إلى تأمّل وافر، و سأفكّر فيها. إن شاء الله.
التلميذ: هل يمكن انتزاع المفاهيم متكثّرة من ذات الحقّ جلّ و علا؟ و إذا كان ممكناً فبأيّ اعتبارٍ و لحاظ؟ و إذا لم يكن كذلك فكيف نشأت
أسماء و صفات الحقّ جلّ و عزّ؟ و هل للأسماء و الصفات التي هي مفاهيم لها بلا شكّ ما تنطبق عليه في الخارج معيّة و عينيّة مع ذات الحقّ القدسيّة، أم هي مرتبة متأخّرة عن الذات و هي من تعيّناتها؟
و لأنّنا نعلم أنّ انتزاع المفاهيم الكثيرة من الذات الواحدة البسيطة من جميع الجهات محال، لأنّ المصداق هو هويّة، و خارجيّة المفهوم، و بناء على هذا، فإنّ تعدّد المفاهيم يوجب تعدّد المصاديق الملازمة، فكيف يتصوّر إذَن أن ينتزع من مصداق واحد مفاهيم كثيرة، و الحال أنّ المصداق هو الهويّة الخارجيّة للمفهوم؟
و هذه هي الطريقة التي اتّبعها المرحوم صدر المتالهين و المرحوم الحاجّ السبزواري رحمة الله عليهما.
و بناء على هذا، فإنّ أساس انتزاع، العالِم و القادر و سائر الصفات و الأسماء الإلهيّة هو باعتبار تعلّقها بأفعال الحقّ تعالى، إذن فلأنّ في فعل الله يوجد جهة العلم و القدرة، أو لأنّ الفعل معلوم و مقدر، فيجب إذَن القول بالملازمة: إنّ الله عالم و قادر.
و كان المرحوم السيّد أحمد الطهرانيّ الكربلائي يصرّ على عدم عينيّة الأسماء و الصفات مع ذات الحقّ تعالى، في حين أنّ الشيخ محمّد حسين الاصفهاني أصرّ على العينيّة، و لم يعتبر أن انتزاع مفاهيم الكثيرة من الذات الواحد محال بالاعتبارات المختلفة.
العلّامة: لا يوجد أدنى شكّ في أنّ انتزاع المفاهيم الكثيرة من ذات الواحد البسيط من جميع الجهات أمر لا يمكن تصوّره.
و من المسلم أنّ النزاع حول العينيّة و عدم عينيّة الصفات و الأسماء مع ذات الحضرة الأحديّة لا يشمل جميع الأسماء و الصفات، و هو ليس في الصفات و الأسماء الفعليّة كالرازق و الحاكم و الخالق و الغافر و أمثالها.
بل ينحصر في الأسماء و الصفات الذاتيّة، كالعلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر.
و من ثمّ فإنّ الصفات الفعليّة ستتنحّى جانباً، و الصفات الذاتية مرجعها جميعاً إلى الصفات الخمس المذكورة. و لأنّنا نعلم أنّ السمع و البصر يرجعان إلى العلم، يبقى عندئذٍ ثلاث صفات ذاتية فقط: الحياة و العلم و القدرة.
و هنا يأتي الحديث عن العلم الذاتي و القدرة الذاتيّة، لأنهما بدون شكّ كالحياة التي هي صفة ذاتيّة، ترجعان إلى الذات.
إن المفاهيم بشكل عامّ مثار للكثرة و كلّ مفهوم ذاتاً، بالضرورة هو غير المفهوم الآخر و منفصل عنه، فانطباق كلّ مفهوم على المصداق لا يخلو من شائبة التحديد. و هذا الأمر ضروريّ للمتأهل. و بناء على هذا، سيكون عكس هذه القضيّة أنّ انطباق المفهوم على المصداق الذي هو ذاته غير محدود لا بدّ أن يكون متأخّراً عن مرحلة ذاته، و من جانب آخر نعلم أيضاً أنّ مرتبة المحمول تكون متأخّرة عن مرتبة الموضوع.
الذات أعلى من كلّ إسم و رسم و تعيّن
لهذا، باعتبار أنّ رتبة ذات واجب الوجود بلحاظ أنّ وجودها وجود بالصرافة، أي أنّه غير محدود، فإنّ هذا الوجود الصرف سيكون أعلى من كلّ تعين اسميّ و وصفي، و من كلّ تقييد مفهومي و حتّى من نفس هذا الحكم.
لأنّنا عند ما نقول أعلى، فهذا سيكون حكماً نجعله على ذلك الموضوع، و تلك الذات البحتة البسيطة أعلى و أرقى من أن تكون موضوعاً لحكمنا هذا و حملنا عليها.
فهذه الحقيقة المقدّسة إذَن مُطلقة من كلّ تعيّن مفترض، حتّى من تعيّن هذا الحكم الذي جعلناه، أو الإطلاق الذي حملنا عليه.
و من هنا يعلم أنّ تلك العينيّة التي اثبت بالبرهان وجودها بين الذات و الصفات هي عينيّة من جانب واحد فقط. أي أنّ الذات هي عين الصفات و لكنّ الصفات ليست عين الذات.
بهذا المعنى أنّ الذات ثابتة بذاتها، أمّا الصفات فثابتة بالذات.
التلميذ: هل يمكن إثبات أنّ الذات البحتة البسيطة الواحدة لا يمكن الانتزاع منها إلّا مفهوم واحد عن طريق الدليل القائل: الوَاحِدُ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ إلَّا الوَاحِدُ الذي هو دليل برهاني بالطبع، و أنّ انتزاع المفاهيم الكثيرة من الذات البسيطة محال.
العلّامة: بالطبع، إنّ هذا الدليل يستعمل في باب العلّة و المعلول، و ليس في باب الانتزاعيّات، و لكن ربما أمكننا أن نجري ملاك ذلك الاستدلال و مقدّماته هنا أيضاً، و إن لم يُستدل به من قبل.
***
التلميذ: هناك موضوع يطرح كثيراً في الكتب العرفانيّة، و قد ورد في كتب الفلاسفة أيضاً و هو أن لَا تِكْرَارَ في التَّجَلِّي، فما المقصود بالتجلّي في هذه العبارة؟
العلّامة: المقصود هو التجليّ الوجوديّ، أي أنّ الوجود في التحقّق الخارجي هو وجود واحد. فلا يمكن أن يتحقّق موجود في مرتبتين. فوجود زيد واحد، و له تحقّق واحد. فلا يصحّ أن يتحقّق زيد مرّتين. فأن يكون زيد واحد و يتحقّق مرّتين فهذا لا معنى له. فليس لدينا زيدان أو أميرا المؤمنين اثنان. و ليس معناه أنّه لا يصح أن يتحقق وجود شخص متعيّن باثنين من الأين أو المتى (مكانين و زمانين)، فلهذا دليل آخر و لا يقال له التكرار في التجلّي.
و إذا كان لجوهر ما عرضين لا يقال: تكرارٌ في التجلّي، كأن يكون
زيد في الوقت الواحد في زمانين أو مكانين.
أي أنّ الجوهر الواحد لا يمكن أن يكون جوهرين، و التحقّق الوجودي لا يمكن أن يكون تحقّقين. فالتحقّق الوجودي واحد ليس أكثر و لا تكرار فيه.
فالعدد واحد لا يكون اثنين. و الوجود و التحقّق واحد. التحقّق الواحد لا يكون اثنين.
و عليه فمجموع عالم الكون تجلٍّ واحد، من أوّل عالم الخلقة حتّى انتهائه. فكلّ تحقّق هو تحقّق واحد، لا تكرار فيه و هو واحد مستقل و هويّة واحدة. فاذا نظرنا إلى كل العالم فانّ له هويّةً واحدة و تحقّقاً واحداً. و اذا نظرنا إلى بعضه فانّ له هويّة واحدة و تحقّقاً واحداً.
اين همه عكس مى و نقش مخالف كه نمود | *** | يك فروغ رُخ ساقي است كه در جام افتاد۱ |
في حقيقة معنى «النَّفْسُ جِسْمَانِيَّةُ الحدُوثِ رُوحَانِيَّةُ البَقَاء»
التلميذ: بالنسبة لهذا المطلب، النَّفْسُ جِسْمَانِيَّةُ الحدُوثِ رَوحَانِيَّةُ البَقَاءِ الذي هو مطلب نفيس جداً و متين و راسخ و محكم، و الذي أسّس قواعده و شيّد بناءه المرحوم الآخوند رضوان الله عليه على أساس الحركة الجوهريّة، و تدلّ عليه آيات القرآنيّة. فما هي أفضل و أوضح الآيات للوصول إلى هذا المعني؟٢
بدء خلق الإنسان من التراب
العلّامة: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ، ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.۱
يقول الله سبحانه و تعالى في هذه الآيات: لقد خلقنا الإنسان من الطين الخالص، فأصل خلقة الإنسان اذاً من سلالة الطين، و معلوم أنّ الطين جسم، فحدوث الإنسان بدأ من الطين الجسمانيّ.
ثم بعد خلقه من الطين جعلناه (أي ذلك الإنسان الطينيّ) نطفة. فعلي أساس الحركة الجوهريّة تحول الطين إلى نطفة، و يُلاحظ هنا تبديله إلى جسم، أي أنّ جسماً قد تبدّل إلى جسم آخر.
ثم خلقنا النطفة علقة، أي على هيئة قطعة دم متخثّر. و هنا تبديل
جسم بجسم آخر.
فخلقنا العلقة مضغة، أي مثل قطعة من اللحم ممضوغة. و هنا أيضاً تبديل جسم بجسم آخر.
فخلقنا المضغة عظاماً، و هنا أيضاً تبديل جسم بجسم آخر.
ثمّ كسا الله سبحانه و تعالى تلك العظام لحماً. ثمّ أنشأناه خلقاً آخر، أي أنّنا جعلنا هذا الإنسان الجسماني روحانيّاً. فتبدّلت حقيقة و روح هذه الأجسام إلى النفس الإنسانيّة الناطقة.
و في ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ تنحّت المادّة جانباً، و تبدّلت إلى النفس المجرّدة.
و بناءً على ما جاء في الآية فانّ ما قاله الحكماء القدماء من أنّ الإنسان حين خلقته يبدأ أوّلًا بالوجود الجنينيّ حتّى يصل إلى المرحلة التي يصبح فيها مستعدّاً لولوج الروح و نفخها، و هناك و دفعة واحدة يوجد الله النفس مُتَعَلِّقَاً بِالمَادَّةِ، فهذا الأمر مخالف للآية المباركة.
الحكماء القدماء كانوا يقولون بأنّ الإنسان مركّب من الروح و البدن، و لكنّ الآية لا تعطي هذا المعنى (أي التركيب)، بل تتحدّث بصراحة عن التبديل.
فهي تقول: بأنّ الانسان من سلالة من طين، ثم يصبح كذا، ثمّ كذا ... ثمّ تسير الخلقة الإلهيّة على أساس المسار المادّيّ خطوة خطوة، حتى تصل إلى أن تترك المادة ثُمَّ أنشَأنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ، إذ تتبدّل المادة إلى خلقة أخرى. فعلى اثر الحركة الجوهريّة تتبدّل المادة إلى موجود مجرّد، و يتحوّل الجسم إلى نفس ناطقة.
فهذه الآية واضحة جدّاً. و لكن في نفس الوقت لدينا آيات أخرى من القرآن الكريم تعطي نفس المعنى، منها قوله تعالى:
مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى.۱
و في هذه الآية تصريح بأنّ الإنسان قد خلق من الأرض؛ و عليه، فبدء خلقة الإنسان من الجسم. و منها أيضاً:
وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً.٢
فإنبات الإنسان من الأرض يدلّ على جسمانيّة أصل خلقته و ماديّته. و هناك اربعة تعابير وردت في القرآن المجيد حول أصل الخلقة:
۱ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ.٣
٢ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ.٤
٣ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ.٥ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ.٦
٤ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ.۷
أمّا حَمَإٍ مَسْنُونٍ، فهو عبارة عن الوحل المتعفن، لأنّ الحمأ بمعنى الطين الأسود، و مَسْنُون المسنون بمعنى الرائحة الكريهة أو الطعم الكريه، و في كلّ الأحوال فإنّ أصل خلقة الإنسان من طين متعفّن ذي رائحة كريهة أو طعم كريه.
و أمّا صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ، فالصلصال هو الطين المتيبّس المتشقّق الذي اذا سير عليه سُمع له صلصلة، و فَخَّار بمعنى الطين المطبوخ بالنار، أي اننا
خلقنا الإنسان من طين يابس له صلصلة كالفخّار.
و هناك ستّ آيات في القرآن المجيد تدلّ على أنّ أصل خلقة الإنسان من التراب. منها قوله تعالى: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً.۱
و قوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ.٢
و خلاصة القول أنّ مجموع هذه الآيات بدون أيّ شكّ أو تردّد يبيّن أنّ أصل خلقة النفس الإنسانيّة من الجسم و المادّة. هذه المادّة التي كانت بصورة الصلصال أو الحمأ المسنون أو غيرهما. ثمّ تحوّلت على اثر التطوّرات و التبدّلات الحاصلة في جوهرها إلى نطفة ثمّ علقة ثمّ مُضغة. أو أنّ آدم أبا البشر قد ألبس رداء الوجود بعد خلقه من التراب بكلمة كُنْ التي هي نفس المشيئة الإلهيّة، و كان هذا بواسطة الحركة في الجوهر.
أي أنّ نفس الجوهر في كينونته متحرّك، ففي البداية كان الجوهر في ماهيّة سُلالةٍ من طين مثلًا ثم تحوّل من خلال الحركة في جوهره و ذاته إلى عالم النُّطفة، فتبدّل إلى ماهيّة النُّطفة. ثم تحرّكت النطفة في جوهرها و ذاتها إلى عالم العلقة، فصارت علقة و تبدّل إلى ماهيّة العلقة، ثمّ تبدّلت العلقة إثر الحركة الجوهريّة إلى ماهيّة المضغة، ثمّ تحرّكت المضغة في جوهرها و تبدّلت إلى عظام.
و بعد نبات اللحم على العظم تبدّلت دفعةً واحدة إلى النفسٍ المجرّدة: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ. فصارت المادّة نفساً ناطقة و روحاً متعلّقة بالمادّة؛ روحاً في قالب الجسد.
و عند ما تخرج من هذا العالم، تترك هذه الروح المجرّدة المادّة دفعة
واحدة و تلقي بها فتبقى المادّة في الأرض لوحدها دون تعلّق النفس؛ فتحقّق ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ.
ثم تستمر النفس الناطقة بعد تجرّدها عن المادّة، و بعد الموت بالسير التكاملي من خلال الحركة في جوهرها. و بعد عبور عالم البرزخ تصل إلى التجرّد القيامتي، و ترتدي حلّة القيامة: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ. كلّ هذا يحدث بسبب الحركة في الجوهر. و ما دام الإنسان مادّة محضة، كانت الحركة في المادة، و عند ما أصبح نفساً ناطقة كانت حركته الجوهريّة في النفس الناطقة.
و يمكن تشبيه هذه التحوّلات في الإنسان على إثر الحركة الجوهريّة بنور المصباح الذي يخرج من الفتيل. فأصل هذا النور كان زيتاً، أو بذور صغيرة من زيت الخروع، أو حطب و وقود.
على إثر صفاء الاحتراق، يتبدّل الزيت و الوقود و غيرها إلى شعلة نورانيّة. و تتبدّل الشعلة إلى غاز و يخرج شعاعها لينير المحيط.
قوس نزول و صعود الإنسان في مدارج الكمال
التلميذ: و في هذه الحالة ما ذا يحدث بقوس النزول و الصعود؟ يوجد روايات تقول إنّ الله تعالى خلق الأرواح قبل ألفي سنة من أجسادها، و كذلك هناك روايات مختلفة بمضامين اخرى تدلّ إجمالًا على أنّ الأرواح قد خلقت قبل الأجساد. و بشكل عامّ تدلّ الروايات على وجود عوالم قبل عوالم الطبع و المادّة. و كان الإنسان فيها و كانت له محادثات. ثمّ تنزّل من تلك العوالم واحداً بعد الآخر حتى وصل إلى هذا العالم.
العلّامة: تلك المجموعة من الروايات لا تتنافي أبداً مع القول بكون بدء خلق الإنسان من الأصل الجسمانيّ. فليس الإنسان وحده له روح و ملكوت، بل جميع موجودات عالم المادة. و حقيقة الروح و الملكوت ليست من عالم الجسم و المادّة، بل من العوالم العليا التي وجدت لها نوع
من التعلّق بالمادّة.
و للنطفة ملكوت و كذلك للعلقة، و لكلَّ من الحجر و الشجر و الماء و الأرض ملكوت، فالحيوانات و الطيور و الكواكب و النجوم لها نفوس مختصّة بها و ملكوت.
جميع هذه النفوس و الملكوت ليست من عالم الجسم و الجسمانيّة، بل من العوالم العليا و قد تنزل كلّ واحد بحسب ذاته من نقطة خاصة، و وجد نوعاً من التعلّق بالمادّة.
و من جملتها نفس الإنسان التي هي من العوالم المجرّدة العليا، و لأنّها لا تستطيع أن تكتسب عدّة جهات من الكمال بسبب تجرّدها، و تلك الجهات موجودة في عالم الكثرات و العوالم السفلى، لهذا تنزّلت للحصول على كمالات الكثرات. و بعد الحصول عليها ترتفع صاعدة مرّة أخرى إلى أن تنال الحضور لدى حضرة الحقّ تعالى، فهي في الواقع كانت في الأعلى ثمّ تنزّلت إلى الأسفل ثمّ ارتفعت مجدّداً.
و بيان ذلك: أنّ هذه الروح المسكينة بحسب الظاهر كانت في المرحلة الاولى في الأعلى، ثم تنزلت درجة درجة، و كانت وجهة سيرها نحو النزول. و في طيّ هذه المراحل النزوليّة لم تكن هادفة إلّا إلى الحصول على الكثرات التي تعلّقت بالمادّة عن طريق الماديّة، و كان هذا هو توجّهها و هدفها الوحيد، لأنّه إذا كان للإنسان هذه الإنسانيّة، و لم يكن له شيء ممّا وراء الإنسانيّة لما استفاد من هذه الكثرات شيئاً (أي الكثرات التي تصدر من الإنسان في هذه النشأة) و لما امتلكت الروح المجرّدة الخارجيّة أنواع و أقسام الأعمال و الأفعال و الأوصاف.
و لقد نزلت الروح إلى عالم الكثرات لكي تجمعها و ترتفع بها إلى العالم العلوي، ثم إذا أرادت الهبوط من الأعلى إلى الأسفل فانّها تجمعها
و تنزّلها معها، و تنهي الأمر.
و أثناء نزولها إلى هذا العالم تتّخذ في مسيرها صبغة كلّ عالم تعبر منه. و كلّما عبرت مرحلة تتحوّل إلى فرد من تلك المرحلة. و عند الوصول إلى عالم المثال في قوس النزول تصبح تماماً كواحدة من الموجودات المثالية، لها صورة مثاليّة و فرداً منها.
و عند ما تصل إلى عالم الطبع و المادّة تصبح تماماً فرداً مادّيّاً، و مادة محضة حقيقتها النطفة. و قد تنزّلت تلك الروح المجرّدة إلى الدرجة التي أصحت فيها مجرّد روح لنطفة. و قد تبدّلت روح النطفة هذه على إثر الحركة الجوهريّة إلى صور و ماهيّات مختلفة. لتعبر مرّة أخرى من المادّة و تصبح مجرّدة. فهناك و على إثر الحركة تحصل على الاختيار، و توجد الروح.
إذاً، فعند ما يكون الإنسان نطفة تكون حقيقته قد تنزّلت إلى هذا الحدّ و أصبحت نطفة حقيقيّة، و بعد التبدّلات و التحوّلات الصوريّة تصل إلى: أنشَأنَاهُ خَلْقاً ءَاخَرَ. و تتبدّل حقيقة العظم و اللحم الذي نبت عليه إلى النفس الناطقة المجرّدة التي تعبر المراحل اللاحقة أيضاً. و لا يعني هذا أنّ الجسم منفصل و الروح تنفخ فيه فيجتمعان لأيام معدودة ثمّ ينفصلان.
فكمالات الإنسان تحصل بواسطة نشأة الكثرة إذا لم يتنزّل و ليصبح مادّة محضة، ثمّ يشرع مجدداً في سيره إلى العوالم العليا لما كان له كمال.
هذه الروح التي تنزّلت من الأعلى إلى الأسفل لم تكن إلّا واحداً. فعند ما تنزّلت شرعت باكتساب الفعليّات و أخذ الخصوصيات و تحصيل الكثرات.
فجمعتها كلها و حملتها معها مرتفعة بها إلى الأعلى فارتفعت و ارتفعت.
بقاء الاعيان الثابتة عند الفناء في الذات الاحديّة
التلميذ: كيف تأخذ روح الإنسان هذه المكتسبات من الكثرات معها إلى الأعلى؟ فالعالم العلوي ليس عالم الكثرات، لأنّ الكثرة و لوازمها و آثارها من خصائص عالم الكثرة؛ امّا عالم الفناء فلا وجود للكثرة فيه. فهناك لا وجود لزيد و عمرو و بكر، لأنّ هذه تكون قبل مقام الفناء في الله. امّا عند الفناء فلا يوجد شيء منها؛ و أمّا بعد الفناء في عالم البقاء بالله فيمكن تصوّر هذه الكثرات، فهناك يحفظ زيد و عمرو و بكر و آثار و لوازم الكثرة كلّ في مكانه في عالم البقاء بعد الفناء، فإنّ جميع الكمالات تكون موجودة، و شئون الجميع و آثار الكل مشخّصة و محدودة و محفوظة في مواضعها.
أمّا في عالم الفناء، فإنّ الكمال يختصّ بالله، فهناك لا يوجد شيء إلّا الله صاحب الكمال.
و في الأصل، لا يمكن لأيّ شيء الدخول في عالم الفناء، لأنّه عالم الفناء و خاصّ بالذات الأحديّة المقدسة. فكيف يمكن لزيد أن يَرِدَ؟ و يحمل معه آثار الكثرات المكتسبة من العلوم و المعارف و الفنون؟
و من المعلوم أنّ الكمال منذ البدء هو للّه و سوف يبقى للّه؛ و لا أحد يمتلك حقّ الكمال. أمّا في عالم الكثرة فإنّ الناس ينسبونه لأنفسهم مجازاً لأنّ ستار الغفلة و الأوهام قد أعماهم عن مشاهد جمال الحقّ. و بعد كشف الغطاء و رفع الحجاب يتّضح أنّ الكمال مختصّ حقيقةً بذات الحقّ، و نسبته إلى الغير مطلقاً نسبة مجازيّة. و في نفس الكمال الذي هو الوصول إلى مقام الفناء في الله، لا يوجد أيّ نوع من شوائب الكثرة. فالكلّ فانٍ و مندكّ و مضمحلّ. و نسبة الكمال المطلق مختصّة بذات حضرة الأحديّة، فقط.
في حالة الفناء لن يبقى بعد أيّ فاصلة أو حجاب. فكلّ الحجب تنعدم و تزول حتّى حجاب الإنيّة:
بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إنِّيِّي يُنَازِعُنِي | *** | فَارْفَعْ بِلُطْفِكَ إنِّيِّي مِنَ البَيْن |
العلّامة: في نشأة الدنيا هذه يحصل الإنسان على كمالات. فالإنسان بما أنّه إنسان عند ما أدرك الكمال فقد أدركه في هذه النشأة. و عند ما حصل على التعيّن من العالم العلويّ و تنزّل إلى الأسفل لم يكن له جسم و جسمانيّة، و لهذا لم يكن له خصوصيّات الاسم و الموقع و الموضع. أمّا عند ما جاء إلى بُعد الكثرات و حلّ في نشأة المادّة و الجسمانيّة و ارتدى لباس البدن، حصل على هذه الآثار و الخصوصيّات و أخذ هذا الاسم.
هَذا إنْسانٌ، هَذا زَيْدٌ، هَذا عَمْرٌو. و بهذه الكثرات أكمل الطريق و الكسب الكمال. و عند ما يرجع إلى الله، و يفنى في المقام الأخير فإنّ عينه الثابتة ستبقى في النهاية، فالأعيان الثابتة لزيد و عمرو و بكر لا تضمحلّ و لا تصبح واحدة.
إن الفناء في ذات الله ليس متلازماً مع زوال العين الثابتة، بل لن تزول العين الثابتة بأيّ وجه من الوجوه. فزيديّة زيد و عمرويّة عمرو لا تزول، و لا تفسد و لا تبطل هويّتها.
إذا كان الأمر في النهاية على أساس زوال العين الثابتة حين الوصول إلى الكمال، و هو مقام الفناء في الله، و بطلان الهويّة. فلما ذا إذَن كلّ هذه المتاعب و الآلام و المساعي و الجهد و العبادات و المجاهدات؟
إذا لم يكن ليبقى اسم و لا رسم و لا أنا و لا نحن و لا إنّيّة، فلما ذا الدعوة إذَن؟
و على أيّ أساس و إلامَ يدعو الأنبياء و الأولياءُ البشر؟ و يطلبون منهم أن يضحوا و يجاهدوا و يتحمّلوا الصعوبات، ألإِجل الفناء و العدم؟! فإذا كانت نتيجة اكتساب الكمالات هي العدم و اللاشيء، فالدعوة إذَن عبث، و لا أحد يقبل و يستجيب لهذا الأمر و لا معنى للاستجابة أيضاً.
منذ البدء كانت جميع الكمالات مختصّة بذات الحقّ جلّ و علا، و هي اليوم كذلك. و الدعوة هي إلى الكمال المطلق، أي إلى الفناء في ذات حضرة الأحديّة، أي أن يفنى زيد في الكمال المطلق. إذَن يجب أن يبقى زيد، و أن يبقى تعيّن و عين ثابتة، و يجب أن تبقى كذلك الهويّة، حتى نقول إنّ زيداً ذاك بهويّته تلك قد وصل إلى كماله و فني في ذات الحقّ.
إن هذا الكلام يصبح صحيحاً حين نقول: زيد فني في ذات الحقّ. و هذا منتهى كمال زيد. أمّا أن نقول إنّ أصل زيد يفنى بواسطة الفناء فلا يبقى منه شيء و لا عين ثابتة في الفناء، فهذا كلام لا أساس له، و لا يمكن أن يقال.
إذا كان الأمر على أن لا يبقى شيء لا زيد و لا اسم و لا رسم، فهذا يعني محضاً السير نحو العدم و اللاشيء، بينما بالغريزة يجد كل فرد من أفراد البشر في أعماقه شوقاً للوصول إلى الكمال المطلق و ليس إلى العدم.
امّا بالنسبة للشعر الذي تنشدونه:، بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إنِّيِّي يُنَازِعُنِي، فهنا يوجد عدّة امور: الأول: بَيْنِي. الثاني: بَيْنَكَ. الثالث: إنِّيِّي. الرابع: يُنَازِعُنِي، فهذه أربعة أمور واقعيّة موجودة.
فلا يمكن القول إنّ القائل يطلب بكلامه هذا زوالها جميعاً. ليفنى كلّ شيء، و يصبح عدماً في عدم.
أ لا يوجد أيّ أثر للإنسان و الإنسانيّة في الجنّة و العالم العلوي؟! إن كان الأمر قائماً في الجنّة على الفناء و لا يوجد شيء، فما هي هذه الجنّة؟!
التلميذ: في عالم الفناء لا يوجد شيء إلّا ذات حضرة الأحديّة. لأنّ المفترض هو الفناء في الذات. و اذا قلنا بأنّ الكثرة تدخل في ذات الحضرة الأحديّة فإنّ اشكالات لا حصر لها سترد هنا، فالزيديّة و العمرويّة و الأسماء و الرسوم و التعيّنات و الأعيان الثابتة كلها من مثار الكثرة و شئونها
و لا طريق لها إلى اعتاب ذلك الحرم.
وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً.۱
لذا لا يمكن لشيء أن يكون ثابتاً في عالم الفناء، لأنّه لا يمكن لأيّ شيء الدخول في عالم الذات.
نعم، جميع الكثرات بحدودها و شئونها و آثارها باقية في عالم البقاء، أي بعد حال الفناء، حيث تعود النفس إلى الكثرات و يبدأ السَّيرُ إلى الحقِّ بِالحَقِّ، فتبقى جميع آثار الكثرة قائمةً دون ذرّة نقصان أو زيادة كلّا في موضعه و محلّه. أمّا جميع الكمالات المكتسبة في هذه العوالم و التي تلتذّ بها النفس و تبتهج من العلوم و الفنون و المعارف، فموجودة بأجمعها في عالم البقاء.
لكنّ في نفس الفناء فلا يوجد أيّ شيء، و لا يصحّ أن يكون شيء. فهناك يكون الكمال منوطاً بالعدم، و هذا الكمال من أعظم الكمالات. فمن ذا الذي يستطيع أن يرى لنفسه كمالًا مقابل ذات الأحديّة؟ فلأنّه سبحانه صاحب الكمال، لا يبقى مجالٌ لكمال غيره. و هذه أعلى درجة لمنزلة و مقام الإنسان و الإنسانيّة، حيث يرى الإنسان نفسه فانية و معدومة، و يرى الوجود المطلق منحصراً بذات الله تعالى.
و حيث ما يكون الوجود و حقيقة الكمال من مختصّات ذات الله، لا يصحّ أن يدّعى أحد الوجود و الكمال. و لا يليق مع وجوده سبحانه تعالى الحديث عن امتلاك الهويّة و العينية و الأعيان الثابتة و نسبتها إلى النفس و حملها معها إلى هناك، فهناك مقام الهوهو، فما ذا تفعل الأعيان الثابتة هناك...؟!
لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ.۱
إن الفناء و الزوال و البُطلان للعين الثابتة في عالم الفناء هو إقرار و اعتراف بوحدانيّة الله، و الاعتراف بالولاية؛ أي بحقّ العبوديّة المحضة للعبد، و ليس معناه العدم و اللاشيئية.
أي أنّ الإنسان يكون مدّعياً للربوبيّة في عالم الكثرة ... و كلّ واحدة من التعلّقات تجذب قلبه إليها. و لكن اذا وصل إلى عالم الفناء و اعترف أمام الحضرة الأحديّة بعدمه المحض و فنائه الصرف، و ترك أخيراً وجوده في المرحلة الأخيرة، و أصبح فانياً و صدق عليه الفناء؛ هناك لن يبقى وجود لذاتٍ أو إنّيّة، يرى نفسه أو يرى الله، لأنّه لا يمكن أن نجد الإنّيّة في الله و لا طريق لزيد و عمرو.
إلى هناك، بل هناك الحقّ الذي يرى نفسه، و الحقّ الذي يُدرك الحقّ، لأنّه لا وجود لشيء إلّا الحقّ. لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَ لَا هُوَ إلَّا هُوَ.
إن الجنّة و لذّاتها تابعة بأجمعها لعالم الكثرة. و هذا ما يتحقّق في البقاء بعد الفناء. كما أنّه لدينا ثماني جنّات. ففي جنّة اللقاء و جنّة الذات، حيث الدرجة العليا منها مقام الفناء، لا يوجد شيء إلّا حضرة الحقّ. و هذا العدم و الفناء أقوى من كلّ الوجودات، و الروح فداءً لهذا العدم الذي هو حقيقة الوجود و أصله.
امّا في البيت الشعريّ، بَيْنِي وَ بَيْنَكَ إنِّيِّي يُنَازِعُنِي، و إن كان هناك أربعة أشياء موجودة، و لكنّ الشاعر قد تعب منها و يرجو رفعها و إحالتها عدما، و يقول:، فَأرْفَعْ بِلُطْفِكَ إنِّيِّي مِنَ البَيْنِ، أي ارفع إنّيّي و اعدمني و افنني في ذاتك و أوصلني إلى الفناء المحض؛ فهو يطلب الفناء في ذات
الحق.
فإذا زالت الإنيّة من البين تتبعها الأشياء الثلاثة الاخرى في الزوال فلن تبقى منازعة و لا بيني، و لا بَينَك، لأنّ جميع هذه الإفاضات و المنازعة تتبع الإنيّة.
هناك في عالم التوحيد وحدة محضة. و إلّا لم يكن توحيداً. و هناك لا شيء إلّا الله. فهو الذي يشاهد نفسه، و مستغرق في ذاته. و تبقى كلّ الإنيّات و الأعيان الثابتة في الخارج، و لا حقّ لها بالدخول.
يقول رسول الله صلّى الله عليه و آله و سلّم:
إن سَعْداً۱ لَغَيُورٌ وَ أنَا أغير مِنْهُ وَ اللهُ تعالى أغير مِنِّي وَ مِن غيرتِهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ.
فلازم الغيرة أن لا يدع الغير يدخل، و إلّا لم تكن غيرة؛ و قد حرّمت الفواحش و السيّئات على هذا الأساس. فأصل الاعتماد على الوجود الشخصيّ و الإنيّة في مقابل الله هي الفرعونيّة بعينها. فأين يمكن لهذه الإنيّة أن تجد طريقاً إلى ذات الحقّ؟ لكلمة واحدة «ابتعدي» تقذفها إلى الجزر الخالدة حتى لا يبقى منها أيّ أثرٍ ... و بقاء العين الثابتة في حال الفناء إنكار للفناء.
و عليه، أ لا يوجد عندنا فناء في ذات الله؟ فما ذا يصبح آنذاك معنى و إلى الله المصير، و ألا إلى الله تصير الأمور، وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ.
فما هي الإشكالات العقليّة أو النقليّة التي ترد علينا إذا قبلنا أصل الفناء في ذات الله، بحيث نصبح ملزمين بقبول بقاء الأعيان الثابتة؟
العلّامة: إذا كانت الكمالات مختصّة بعالم البقاء. و في الفناء يكون
العدم المحض هو الحاكم بشكل مطلق و كلّي. و تضمحلّ العين الثابتة و تهلك و لا يبقى لها أيّ أثر، فبماذا سيتحقّق الرجوع في عالم البقاء؟
لأنّه بناء على الافتراض المذكور لا شيء في عالم الفناء، و زيديّة زيد تبطل و تندكّ فلا يبقى منها شيء. إذاً، فبماذا يرجع إلى البقاء؟ فزيد معدوم، و لا تعيّن له، و لا عين ثابتة، و جميع الكثرات في هذه الحالة على حد سواء، و الرجوع إلى جميع الموجودات و الماهيّات و الإنيّات يكون متساوياً بالنسبتة إليها، فإذا أراد الرجوع فإلى أين يرجع، و بأيّ شيء يرجع؟ أيّ معنى للبقاء في مثل هذه الحالة؟ و إذا تجاورنا هذه النقطة، إذَن ففي الفناء حيث لا يوجد شيء.
و لأنّه لا يوجد شيء، فمن أيّ هويّة و إنيّة يتحقّق عنوان الرجوع من الفناء إلى البقاء؟
و على هذا، سوف يأخذ البقاء معه صورة الحدوث و الخلقة الجديدة. كان زيد، تحرّك و أصبح فانياً و مندكاً في الذات البحت البسيطة و صار اللاشيء و لم يعد له أيّ أثر. ثمّ يخلق الله إنيّة و عيناً ثابتة ثانية، و فيها يخلق الوجود و يتجلّى. فهذا حدوث و خلق جديد و ليس بقاءً بعد الفناء.
و بناء عليه يبقى عالم الكثرات محفوظاً في مكانه. و تكون الكثرات في العالم حقائق موجودة و متحقّقة. و هذه الحقائق كلّ واحد منها لها كمال في أقصى نقطة من مسيرها. و نحن ندعوها نسبة إلى هذا الكمال. و لا يمكن تعقل هذا الكمال بدون بقاء العين الثابتة. أمّا إذا قلنا: عند العود في الفناء و في المعاد لا شيء إلّا الفناء، لا شيء غير الفناء في الله، لا وجود للكثرات. و فهذا ممّا لا يمكن قبوله.
و في حالة الخلقة الجديدة التي أطلقنا عليها اسم البقاء، فلا اختصاص لها بذلك الموجود الفاني. بل بناءً على الفرض هذه الخلقة الجديدة لا ربط
لها و لا تعلّق بذلك الموجود الفاني. و لا بقاء للعين الثابتة حتى توجب الإرتباط و الحمل ب هو هو. بناء عليه، كلّ خلق جديد يمكن أخذه على أنّه بقاء كلّ موجود فانٍ.
فهل يصحّ أن نعتبر أنّ زيداً في حال البقاء بعد الفناء هو بقاء عمرو الفاني، و أنّ عمرو الباقي بعد الفناء هو بقاء زيد، و هكذا؟ كلّ شيء بقاء كلّ شيء. فبطلان هذا الأمر واضح.
و بقراءة إنَّ سَعْداً لَغَيُور، و أمثال هذه الروايات لا يمكن إخراج الكلام عن مداره، و الآيات القرآنيّة إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ و أمثالها كلها صحيحة. و لكنَّ المشكلة في معناها هي، فهل فناء الموجودات يعني زوال أعيانها الثابتة أو لا؟ الفناء بصورة بقاء الأعيان الثابتة. و هذا هو المعنى المراد المطلوب، لأنه يقول: تَصِيرُ الْأُمُورُ فلا بدّ إذَن من بقاء امور حتى تصدق عليها الصيرورة إلى الله.
و قد ثبت في البحث الفلسفي عن أنواع المجرّدات مثل الملائكة أنّ كلّ نوع منها منحصر بالفرد، ففي الملائكة لا يوجد عنوان النوع و أفراد النوع، لأنّها مجرّدة غير ماديّة، فلا جنس لها و لا فصل، و لهذا فإنّ كلّ نوع من المجرّدات ينحصر بفرد. و هنا يطرح هذا الإشكال، و هو: أنّ هذه الأنواع المتفرّدة أي المنحصرة كل منها بفرد مع انّه لا كثرة فيها، كيف نزلت إلى هذا العالم...؟ و كيف تحقّقت فيها تلك الكثرات؟ ليس لدينا في تلك النشأة إلّا جبرئيل واحد، و ميكائيل واحد لا أكثر، فكيف تحقّقت فيها تلك الكثرات و الآثار الكثيرة التي هي آثارهما الوجوديّة؟
فاجيب: بواسطة التعيّن الاسمى الذي لها. بواسطة هذا التعيّن تظهر الكثرات في الخارج، و لا تزول خصوصيّة الكثرة من البين. و عليه فإنّ الواحد لدينا ليس بواحد، بل آحاد مختلفة و كثرات متباينة، و على كلّ حال
لا يمكن اثبات الكثرة الواقعيّة لها بعد.
فجبرائيل واحد، و هو واحد من نوع المجرّد يأتي إلى هذا العالم فيوجد بواسطة اتصاله بهذا العالم نوعاً من الكثرة.
و لأن جبرئيل له تعيّن اسميّ و وحدة عدديّة، فهو يقف مقابل ميكائيل و عزرائيل و إسرافيل، و لكن بما أنّ له تعيّناً اسميّاً فهو من هذه الناحية كالشمس التي تنشر ضياءها في كل أرجاء الدنيا و توجد الكثرات.
فالشمس واحدة، نورها الذي هو الشمس واحد، و لكنَّ هذه الشمس الواحدة بما أنّها تنتشر في أماكن متعدّدة فإنّها تحصل على خصائص الكثرة، و هي تسطع على آلاف الأمكنه، و في كلّ مكان تأخذ اسم ذلك المكان، و توجد آلاف الوحدات.
لا يوجد لدينا طريق لجبرائيل الكثير بحيث تكون حقيقته متعدّدة و يكون له أفراد كثيرون، و لكن مع وجود وحدته فإنّه من جهة تعيّنه يوجد الكثرات في عالم الكثرات، هو ليس متكثّراً بنفسه لكنّه يوجد الكثرات قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ.