المؤلّف العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم العقائد
التوضيح
هذه الرسالة من ضمن المحاضرات التي ألقاها سماحة العلامة السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني رضوان الله والتي كتب خلاصتها بنفسه، مع مقدّمة لنجله آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله تبيّن قيمة هذا الأثر، وتبحث هذه الرسالة في تفسير آية المودّة مع عرض للآراء المختلفة حول حقيقة ذوي القربى، والردّ عليها مع بيان الرأي الصحيح بالأدلّة المتقنة، وتتعرّض لدور محبتهم في السلوك إلى الله عزّ وجلّ ولزوم موّدة أهل البيت عليهم السلام وفرضها في القرآن والسنّة؛ كما تمّ التعرّض فيها لبعض الأحداث التي حصلت بعد ارتحال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتّى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها.
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم:
الزموا مودّتنا أهل البيت فإنّه من لقي الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلّا بمعرفة حقّنا
الغدير، ج ٢، ص ٣۰۱
...
صورة سماحة العلامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس الله نفسه الزكيّة في مكتبة منزله
...
صورة سماحة العلامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس الله نفسه الزكيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين
واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين
من الآن إلى قيام يوم الدين
وبعد، يسرّنا أن نقدّم إلى القارئ العربي كتابًا جديدًا من كتب العارف الكامل حضرة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني قدس الله نفسه الزكيّة، ويأتي هذا الكتاب «رسالة المودة» ضمن جملة الكتب المخطوطة والكنوز الموروثة التي لم تُطبع في حياة المؤلف، والتي ترى النور تباعًا بعد وفاته رضوان الله عليه.
تعمل هذه الرسالة النيّرة على بيان أهميّة مودّة ذوي القربى بشكلٍ قاطعٍ وبالبراهين الساطعة وضرورة اتبّاع أهل بيت النبوّة والعودة الى وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله في التمسك بالثقلين: كتاب الله والعترة الطاهرة، واللذان هما سبب نجاة المسلمين وتكاملهم، و قد أكّد القرآن الكريم على لزوم مودة
ومحبة أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله بقوله تعالى {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
لقد بحث سماحة المؤلف الراحل في هذا الكتاب تفسير آية المودّة وحقيقة ذوي القربى، ودور محبتهم في السلوك إلى الله عزّ وجلّ ولزوم موّدة أهل البيت عليهم السلام وفرضها في القرآن والسنّة؛ كما تعرّض فيه لبعض الأحداث التي حصلت بعد ارتحال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتّى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها.
ولأهميّة هذه المطالب القيّمة، قام فريق لجنة ترجمة وتحقيق «دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع» بتعريب هذا الكتاب والعمل على نشره ليستفيد منه الإخوة المؤمنون ويستنيروا ببركات الأنفاس الطاهرة والزكيّة لكلمات المرحوم العلامة رضوان الله عليه وبياناته.
وهنا نودّ أن نلفت عناية القارئ الكريم إلى بعض الملاحظات والتنبيهات حول عملنا في تحقيق هذا الكتاب:
أوّلًا: إنّ أصل هذه الرسالة الشريفة مع هوامشها، وكذلك المقدّمة التي تفضّل بكتابتها نجل العلّامة سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله إنما هي باللغة الفارسيّة، وقد قامت اللجنة بنقلها جميعاً إلى اللغة العربيّة.
ثانيًا: إنّ جميع العناوين- بلا استثناء- الواردة في متن الكتاب قد وضعت من قبل اللجنة وليست من قبل المؤلّف قدّس سرّه.
ثالثًا: إنّ أغلب التعليقات والمصادر والتخريجات الواردة في الهوامش هي من قبل المؤلّف قدّس سرّه، وقد اقتصر عمل اللجنة فيها على ما يلي:
۱. التأكّد من صحّة التخريجات، وتصحيح بعض الأخطاء الطفيفة إن وجدت، وقد وضعت التصحيحات بين معقوفتين هكذا: [...].
٢. ذكر الطبعة القديمة التي خرّج على أساسها المؤلّف قدّس سرّه إن وجدناها، وأضفنا اليها الطبعة المشهورة في هذه الأزمنة، وقد وضعنا ذلك بين معقوفتين.
٣. تمّ تخريج وتحقيق بعض المواطن التي لم يخرّجها سماحة العلامة قدّسسرّه، وقد أشرنا إليها بعلامة: (م).
٤. تم حذف بعض الهوامش التوضيحيّة التي أوردها المؤلّف قدّس سرّه لشرح بعض المفردات العربية، وذلك باعتبارها ليست من المواطن التي تخفى على القارئ العربي، من قبيل شرح معنى كلمة «رُكبة»، فاقتضى التنبيه.
رابعًا: لقد أوصى المؤلّف قدّس سرّه في آخر الكتاب (راجع: ص ٢٥۸)، بإيراد بعض العبارات والآيات والروايات من كتابي «الفصول المهمّة» و «الكلمة الغرّاء» لآية الله السيّد عبد الحسين شرف الدين قدّس سرّه، ولذا فقد قامت اللجنة بإيرادها في الهامش في المواطن التي تتناسب معها من الكتاب، وقد وضعت بين معقوفتين.
خامسًا: لقد تعرّض المؤلّف قدّس سرّه لبعض المواطن التي وردت في هذا الكتاب بالبحث والتحقيق بنحو أكثر تفصيلًا في بعض كتبه ومؤلّفاته الأخرى، وقد أشرنا في الهامش إلى تلك المواطن، مع وضع علامة (م) للإشارة إلى أنّها من اللجنة.
سادسًا: أورد المؤلّف قدّس سرّه بعض عبارات الاحترام فيما يتعلّق ببعض الأعلام من قبيل: (حفظه الله)، وقد آثرت اللجنة الإبقاء عليها كما هي حتّى مع كون ذلك العلم قد انتقل إلى جوار ربّه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين
لجنة ترجمة وتحقيق
«دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع»
مقدمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الحمدُ لله ربِّ العالَمين
والصلاةُ على أفضل المرسلين محمّدٍ وآلِه الطّاهرين
واللعنةُ على أعدائِهم أجمعين
إن كتاب «رسالة المودّة» الذي بين يدي القارئ المحترم هو حاصل بنان العلّامة السيّد محمد حسين الحسيني الطهراني- أفاض الله علينا من بركات آثاره وأنفاسه القدسيّة- وقلمه المعجز، والتي صنّفها في بيان وتفسير آية المودّة الشريفة: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}۱، ولزوم محبّة ومتابعة أهل بيت العصمة والاتصال الوثيق والتوجّه الكامل والتعلّق التامّ بولايتهم عليهم السلام، وعدّهم بمثابة المحور الذي يدور على أساسه جميع وجود الإنسان وحياته وأعماق قلبه وعقله ونفسه.
وقد عرض قدّس سرّه هذه المطالب من خلال عدّة محاضرات ألقاها في أيّام الجمعة عام ۱٣٩۱ هـ في مسجد القائم في طهران، وجاء طرحها في ظرفٍ كان بعض المحاضرين والكتّاب يؤكّدون في محاضراتهم وكتاباتهم على عدم لزوم الاعتصام بحبل الله الممدود، يعني الذوات المقدّسة للمعصومين عليهم السلام، وكان يصرّ هؤلاء على هذا الأمر، ويتخيّلون أنّ القيام بالتكاليف والأحكام الظاهريّة من دون توجّه النفس وتعلّقها بمبدئها ومصدرها كافٍ ووافٍ بالغرض. وسعياً نحو هدفهم وغايتهم في تحقيق الوحدة بين السنّة والشيعة كان يؤكّدون على أنّ الالتزام بالولاية وانعقاد القلب بحقيقة الذوات المقدّسة يمثّل حائلًا أمام تحقّق الدين.
إنّ عقيدة هذه المجموعة مبتنية على أنّ الهدف وراء إرسال الرسل وإنزال الكتب، هو تشريع التكاليف والأحكام التي توصل البشر إلى مرتبة الاعتدال خلال انقضاء الحياة الدنيويّة من جهة بقاء العلاقات الاجتماعيّة والإبقاء عليها، وهم لا يرون أنّ الشريعة قد أخذت على عاتقها أيّ تعهدٍ أو تكليفٍ آخر سوى ذلك، وبالتالي ليس من المهم من يكون الواسطة في ذلك، بل يمكن أن يكون أيّ شخصٍ، وأن يكون الطريق أيّ طريق، فالمهم هو نفس الدساتير والأحكام وفقط، وهذه هي النقطة المهمّة والأساسيّة التي ابتنت عليها توهّماتهم وتخيّلاتهم، وهي التي أبعدت العديد من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وآله
بعد ارتحاله عن المحور الأصلي للديانة والشريعة نحو وجهة أخرى وطريق آخر.
وقد صرّح رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مرّاتٍ عديدةٍ بما يخالف زعم وتوهّم هذا النوع من الأفراد مؤكّداً على اقتران هذين الأصلين، أيّ القرآن والعترة ومعيّتهما معاً، فقال: «إنّي تَاركٌ فِيكُمُ الثَقلينِ كِتابَ الله وَعِتْرَتِي أهْلَ بَيْتِي لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا عليّ الحَوض»۱.
وخلافاً لحدس وظنّ هذا النوع من الأفراد فإنّ محوريّة الالتزام بالأحكام والتكاليف تدور حول العقد القلبي واعتقاد النفس بحضور الولاية والإحاطة العلميّة والعينيّة لحضرات المعصومين عليهم السلام على الزوايا الوجوديّة للأفراد وعلى أفعالهم وتصرّفاتهم الشخصيّة، وبدون الالتفات إلى هذه النقطة يتحوّل الإنسان إلى تمثالٍ متحجّر وجامدٍ منزوع الروح، بحيث لا يترتّب أيّ أثرٍ على أفعاله وتصرّفاته وكلماته حتّى لو كانت جميلة وممدوحة بحسب الظاهر.
هؤلاء الأفراد غفلوا عن هذه النقطة؛ وهي أنّ الدين لم يأتِ من أجل توفير الرفاهيّة الاجتماعيّة والأمان الوظيفي فقط أو من أجل حفظ النفس والمال
والأعراض وحراستها وحسب، بل إنّ تنظيمه لهذه الأمور وتدخّله في القضايا والحوادث والأمور الاجتماعيّة كان بعنوانها مقدّمةً وإعداداً للأرضيّة المناسبة من أجل تربيّة النفس وتزكية القلب والصعود إلى مراتب القرب الربوبي والتجرّد والتوحيد، وهذا الهدف وهذه الغاية لا يمكن تحقيقها إلّا بالالتجاء إلى عتبة أصحاب الولاية والإمامة.
ومن هنا فإنّ الاختلاف بين الثقافة الشيعيّة والثقافة السنيّة- حتّى مع فرض صحّة التكاليف واستقامة الأحكام- هو أنّه في الثقافة الشيعيّة لا تتمّ حركة النفس من عوالم الكثرة والشهوات نحو عوالم التوحيد ومعرفة الحقّ إلّا بواسطة الاتصال القلبي وتوجّه الإنسان نحو ولاية المعصومين عليهم السلام، والإنسان يصبح مصوناً ومحفوظاً من كلّ آفة وبلاء ومن كلّ مانع عبر الاستمداد من النفوس القدسيّة لحضرات المعصومين عليهم السلام، أمّا في الثقافة السنّية فالتركيز منصبٌّ على القيام الصِرف بالتكاليف وتأديتها من دون الالتفات إلى المنبع والمصدر، فهم يعتقدون أنّ ليس هناك اختلاف بين أهل بيت النبيّ وبين سائر الصحابة من كلّ الطبقات والأصناف، وكما ينظرون إلى الآخرين من منظار كونهم ناقلين للأحاديث وطارحين للأسئلة، فكذلك هي نظرتهم تجاه أهل بيت الرسول، بل كثيراً ما قدّموا ورجّحوا الآخرين عليهم في موضوع الحكومة والخلافة وكذلك في مقام الإفتاء.
وللتأكيد على هذه المسألة المحوريّة والأساسيّة، قال الله تعالى في كتابه العزيز: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}۱.
والآن حتّى لو تعدّينا الانحراف العظيم والاعوجاج الكبير الذي نجم عن إقصاء أهل بيت النبيّ والرجوع إلى سائر الأفراد والذي أدّى إلى ألف إشكال وإيراد حتّى في المسائل الدنيويّة والعاديّة أيضًا، لكنّنا للأسف نجد أنّ الغفلة عن هذه المسألة الحسّاسة أدى ببعض المبلّغين والمحاضرين لكي ينحو نحو نظرة أهل السنّة، ليعتبروا أنّ العناية بأهم أصل من أصول الدين يخلّ باجتماع المسلمين ووحدتهم، لتصبح محاضراتهم وكتاباتهم أسيرة لهذا الفكر المنحرف والمعوجّ.
كان المرحوم الوالد المعظّم روحي فداه- وهو الذي ينبغي أن يعدّ حقّاً وحقيقةً الناطق باسم مدرسة أهل البيت سلام الله عليهم- يؤكّد دائماً في خطاباته وكتاباته على الولاية وأهميّتها، وكان يميّز السبيل الصحيح من الخاطئ، ويرشد إلى طريق الفلاح بدلًا من طريق الضلال، وكان يهدي ويرشد الجميع نحو المقصد والغاية التي كان أولياء الدين قد وصلوا إليها وفازوا بها.
إنّ مسألة موالاة أهل بيت العصمة واتّباعهم من دون أيّ قيد أو شرط- بالنحو الذي لا يُمكن معه حتّى تصوّر جواز التوقّف والتأمّل في مقابل إرادتهم
ومشيئتهم- تُعدّ من أهمّ التعاليم الأساسيّة التي تتميّز بها الثقافة الشيعيّة ومدرسة الحقّ، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما نُودِيَ بشيء مثلَ ما نُودِيَ بالوَلاية»۱.
فما دام الإنسان المسلم لم يتوصّل من وجهة نظره الدينيّة والعقائديّة إلى هذه المسألة، ولم يُحكِّم ولاية المعصوم عليه السلام على جميع أرجاء وجوده، فلن يتمكّن أبداً من الظفر بالهدف المنشود، وسيرحل عن هذه الدنيا ناقصاً كالثمرة الفجّة التي لم تنضج بعد.
فالرسالة التي كُلّف رسول الله بتبليغها في يوم الغدير ليست هي التعريف بمن يُجيب الناس عن الأحكام الفقهيّة، ولا تتعلّق بتعيين حاكمٍ عادلٍ لهم؛ لأنّه وعلى الرغم من أنّ معرفة المسائل والأحكام الفقهيّة والاطّلاع على التكاليف الشرعيّة تتمتّع بأهميّة ومرتبة قصوى، لكنّها لا تلعب دوراً أساسيّاً وفريداً في
تحديد مصير الإنسان وسعادته. فقد يُخطئ الإنسان في مقام العمل بالتكاليف ويكون- مع ذلك- مشمولًا بعفو الله تعالى ورحمته ومغفرته، وقد يحصل اختلاف بين مجتهدَيْن في الفتوى، فيكون- في هذه الحالة- أحد الحُكمين مخالفاً قطعاً لكتاب الله وما أنزله سبحانه وتعالى، لكنّنا نجد أنّ الشارع المقدّس يخطّ بقلم العفو على خطأ الناس ويعدّ عملهم ذلك- وفق الفتوى الخاطئة- حائزاً على قبوله ورضاه، كما حُقّق في محلّه.
والشيء نفسه يُقال بالنسبة للحكومة العادلة والحاكم العادل، فعلى الرغم من أنّ العدالة التي تقوم على أساس حكومة الأولياء المعصومين عليهم السلام- وتُجرى بواسطة هذه الحكومة- تختلف اختلافاً فاحشاً عن العدالة المتعارفة والمتداولة، لكن يبقى أنّه من الممكن- إلى حدّ ما- تحقيق الأمن والعدل وإقامة القسط ومنح الناس حقّهم في الحريّة وتهيئة الأرضيّة المناسبة لرشدهم وتكاملهم بواسطة الحاكم العادل والمنصف۱، الأمر الذي نلحظ وجود العديد من الشواهد عليه عبر التاريخ.
لقد تمحورت رسالة النبيّ في يوم الغدير حول التعريف بطريق الوصول إلى مرتبة الفعليّة والتجرّد التامّ والتوحيد المطلق واللامتناهي، والورود إلى حرم القدس الإلهي بواسطة التسليم والانقياد والخضوع والعبوديّة في مقابل حقيقة
الولاية. وأمّا مسألة بيان الأحكام والتكاليف وإدارة المجتمع الحكومة الحقّة، فلها مكانتها الخاصّة بها. إنّ المُسلِم من دون ولاية، عبارةٌ عن إنسانٍ آليٍّ لا تترتّب على أعماله وتصرّفاته أيّ أثر وأيّة نتيجة مرجوّة.
فحقيقة الدين، عبارة عن لبّ الدين وروحه، وهي التي تُمكّن النفس- عن طريق التحقّق بها- من العروج من مرتبة الحيوانيّة إلى مراتب التجرّد، ولولاها، فإنّ النفس تظلّ في المرتبة نفسها على الرغم من تمسّكها في الظاهر بالإسلام وعملها بالأحكام والتكاليف الظاهريّة.
إنّ هذه الحقيقة هي عبارة عن النفس الملكوتيّة للمعصوم عليه السلام التي تُتيح لروح الإنسان- من خلال الاتّصال بهذه النفس القدسيّة- الحركةَ والعروج. ولهذا، يقول العظماء: إنّ الوصول إلى مرتبة التوحيد ومعرفة الله مُحالٌ بدون الاتّصال بالولاية وتربية النفس تحت إشراف صاحب الولاية۱؛ وهذا نظير ما ورد في الأشعار المنسوبة إلى حضرة الشيخ الأجلّ محيي الدين بن عربي:
رَأيتُ وَلائي آل طَه وَسيلَةً | *** | عَلى رَغْمِ أهْلَ البُعْدِ يُورِثُنِي القُرْبَى |
فَمَا طَلَبَ المَبْعُوثُ أجْراً على الهُدَى | *** | بِتَبْلِيغِهِ إلّا المَوَدَّةَ في القُرْبى٢ |
ويقول ابن الفارض المصري:
ذَهَبَ الْعُمْرُ ضِياعاً و انْقَضى | *** | بَاطِلًا إذْ لَمْ أفُزْ مِنْكُمْ بِشيْ |
غَيْرَ مَا أوليتُ مِنْ عَقْدِي وَلا | *** | عِتْرَةِ الْمَبْعُوثِ حقّاً مِن قُصَي۱ |
وعليه، فإنّ الطريق الوحيد للرقيّ في مدارج الكمال ينحصر بشكلٍ فريد في الانقياد التامّ والخالي من أيّ قيدٍ وشرطٍ أمام الساحة المقدّسة للأولياء المعصومين عليهم السلام، والتي يُمثّلها في زماننا هذا قطبُ عالم الإمكان وحبل الله الممدود بينه وبين خلقه أجمعين حضرة بقيّة الله الحجّة بن الحسن المهدي- أرواحُنا لِتُراب مَقدَمِه الفداء- بحيث لا ينبغي وضع أيّ شخص آخر- بأيّ نحوٍ كان- في مصافّ هذا العظيم ومنزلته، بل يجب الخضوع ووضع طوق العبوديّة في العنق له وحده فقط، وجعل جميع الخطوات في سبيل تحصيل رضا وابتهاج نفسه المقدّسة، وعدم التفريط في أيّة فرصة تُمكّن من معرفته حقّ المعرفة، وعدم الغفلة عن أيّ عمل يُتيح الوصول إلى حريم الولاية، كما جاء في حديث الإمام الهادي عليه السلام ليزيد بن سليط أنّ الإمام المعصوم لا يعرفه إلّا الله تعالى٢، وكما ورد عن عظماء أهل المعرفة والبصيرة أنّهم قالوا بأنّ:
الولاية هي عين حقيقة التوحيد، وحقيقة التوحيد هي أيضًا عين الولاية.۱
ومن هنا، فإنّنا نصل إلى فهم السبب والعلّة في مخاطبة الحقّ تعالى للرسول الأكرم في يوم الغدير بقوله: {وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ}٢، إذ إنّ الإسلام بدون ولاية هو عبارة عن لا شيء ويساوي صفراً! غير أنّ الوصول إلى هذه المرحلة لا يتيسّر إلّا بالانخراط في السلوك إلى الله والتربية والتزكية السلوكيّة تحت إشراف عارفٍ كاملٍ وسالكٍ واصلٍ وبمعونته؛ وهو نفس ما قاله المرحوم العلّامة الطباطبائي رحمة الله عليه- مرّات ومرّات- لتلامذته ومحبّيه الأوفياء له. فبيان حقيقة الولاية وطريق الوصول منحصر بيد العارف الواصل وحسب، وكلّ من يتحدّث- غيره- حول تعريف وبيان الولاية وإمامة الإمام عليهالسلام، فحديثه هو من باب الرجم بالغيب، وحالُه حالُ من يصف النار وهو بعيد عنها من دون أن يكون له أدنى اطّلاع على الآفاق العالية والعوالم القدسيّة. ومن هنا، ينبغي على الإنسان أن يُصغي في هذا المجال لكلام وتفسير وكلمات أولياء الله فقط، ويجعل من المطالب الصادرة عنهم موضعاً للتحقيق والتتبّع بكلّ دقّة وتأمّل.
ويُعدّ المرحوم العلّامة آية الله السيّد محمد الحسين الحسيني الطهراني
- أفاض الله علينا من بركات أنفاسه القدسيّة- من زمرة نوادر أهل المعرفة والتوحيد والولاية، والذي فاق الجميع في مقام الإحاطة بالعلوم الرسميّة والفنون المتداولة والمتعارفة، كما فاقهم أيضًا في مقام التزكية وكشف الحقائق الربوبيّة والسبحات الإلهيّة الجماليّة والجلاليّة، ليصل إلى أقصى مراتب التجرّد والتوحيد والولاية، بحيث لن نُبالغ إذا قلنا عنه أنّه كان الفارس الوحيد في ميدان المعرفة والتوحيد والولاية.
لقد بلغت مراتبه في الإخلاص والاتّصال بصاحب الولاية الكبرى حدّاً كبيراً إلى درجة أنّ هذا الحقير لم يجد إلى الآن من وصل إلى مقدار وميزان اطّلاعه وإشرافه على أحوال وشؤون العلماء بالله والعرفاء الإلهيّين.
وقد سألته في أحد الأيّام قائلًا: يا سيّدي العزيز، ما هو أفضل كتاب ألّفتَه؟
فقال: كتاب «لمعات الحسين»؛ لأنّه يتضمّن كلمات الإمام عليه السلام وحسب. وبعد تأمّل قليل، قال: وبعد هذا الكتاب، يُعدّ كتاب «معرفة الإمام» أفضل تأليفاتي.
وقد قال هذ الحقير بعد مطالعته لهذا الكتاب الشريف۱: إنّ الذي يريد ويطلب الوصول إلى مراتب المعرفة والتوحيد والولاية لن يتيسّر له ذلك أبداً بدون قراءة هذا الكتاب والتأمّل التامّ فيه.
ويُعدّ الكتاب الحاضر جزءاً من المواضيع والمباحث التي طرحها ذلك الرجل الشامخ في سبيل تثبيت وإثبات المدرسة الحقّة والشريعة الغرّاء، وهو بنفسه يمثّل شاهداً على حقيقة الحال وصدق المقال ممّا ادعيناه.
نبتهل إلى العليّ المتعال داعين للروح المتعالية والقدّوسيّة لذلك الفقيد السعيد بعلوِّ الدرجات، والاستغراق في بحار التجلّيات الربوبيّة، والتنعّم بجميع مواهب أصحاب ومتولّي الولاية المطلقة وفيوضاتهم.
ونسأله عزّ وجلّ لجميع أصحاب القلوب المولعة والأفئدة المتعطّشة والطالبين لهذا المنهج القويم أن يوفّقهم لاتّباع المباني الرصينة والمتينة لمدرسة التوحيد والعرفان، بمحمّدٍ وآله الطاهرين والسّلام على جميع عباد الله الصالحين.
٢٦ رجب ۱٤٣٤ هـ قم المقدّسة
وأنا الرّاجي عفوَ ربِّه
السيِّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
خطبة الكتاب
...
(الصفحة الأولى كما وردت بخطّ العلامة الطهراني قدّس سرّه)
خطبة الكتاب
ترجمة الصفحة الأولى:
هو العزيز
تفسير آية المودّة:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}
والقربان الأوّل
«السيّدة الزهراء سلام الله عليها وابنها المحسن»
اللهمَّ يا من خصَّ محمّداً وآله بالكَرامة، وحباهم بالرسالة، وخصّصهم بالوَسيلة وجَعَلهُم وَرَثَةَ الأَنبياء، وختم بهم الأوصياءَ والأئمّة، وعلَّمهم عِلمَ ما كانَ وما يكون، وجعل أفئدةً من الناسِ تَهْوي إليهم، صلِّ على محمّد وآل محمّد وافعل بنا ما أنتَ أهْلُهُ في الدين والدنيا والآخرة، إنّك على كلّ شيءٍ قدير.
عن الإمام سيّد الساجدين بن الحسين عليه السلام
في ملحقات الصحيفة السجّاديّة
...
(خطبة الكتاب كما وردت بخطّ العلامة الطهراني قدّس سرّه)
بسم الله الرّحمن الرّحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآله الطاهرين، الغرّ الميامين، الأئمّة الهداة المعصومين، والعن أوّل أعداءهم أجمعين من الآن إلى قيام يوم الدين. اللهم العن أوّل ظالمٍ ظلم حقَّ محمّدٍ وآل محمّدٍ وآخر تابعٍ له على ذلك. اللهم العن الذين بدّلوا دينك وغيّروا سنّة نبيّك واضطهدوا آل محمّدٍ و لم يحفظوه في وُلده وقهروا شيعته وشيعة عليٍّ أمير المؤمنين صهره وأخيه وابن عمّه ووصيّه ووزيره وخليفته. اللهم اشهد بأنّنا بُراءٌ منهم كما أنّ رسولك وأوصياءَه ومواليهم بريؤون منهم إلى يوم يقوم الأشهاد
{هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ}۱.
المجلس الاول: محبة ذوى القربى و دورها فى السلوك الى الله
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ۱۷ ربيع الاول ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}۱.
سيرة أنبياء الله في عدم طلب الأجر وفلسفة ذلك٢
لا شكّ في أنّ أيّاً من أنبياء الله ورسله ممّن اختارتهم ساحة ربوبيّته المقدّسة لم يطلِب من قومه أجراً أو مكافأة، ولم يرد منهم مالًا أو جاهاً، كما لم يحتفظ لنفسه بأيّ حقّ من حقوق الناس، ولا سخّر لخدمته واحداً منهم.
سيرة أنبياء الله في عدم طلب الأجر
وقد تعرّض القرآن المجيد إلى جواب هؤلاء الأنبياء العظام لأقوامهم في خمسة مواضع من سورة الشعراء في الآيات ۱٦٤، ۱٤٥، ۱٢۷، ۱۰٩ و ۱۸۰، التي تتطرّق لسيرة كلّ من نوح ولوط وهود وصالح وشعيب عليهم السلام، وكان جواب كلّ منهم على نفس الجواب: {وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ}۱.
نعم، كان الحقّ والصواب بالنسبة للأنبياء أن لا يبتغوا من قومهم أو غيرهم أجراً، وألّا يطلبوا منهم جزاءً؛ لأنّ أجر كلّ إنسان في ذمّة من استأجره واستخدمه. ولا يخفى أنّ الرسل إنّما جاؤوا من قِبل الله تعالى، حيث كانت دعوتهم مبتنيةً على الوحي والاتّصال بعالم الغيب، لذلك كان أجرهم على من بعثهم وأمرهم، فأجرهم على الله تعالى.
وتجدر الإشارة إلى أنّ بالإمكان عدّ هذه الحقيقة دليلًا على صحّة النبوّة وصدق ادّعائها، إذ من يتسلّط على الناس من قبل غير الله تعالى، فهو لا يقوم بذلك إلّا في سبيل هدف أو غاية شاء ذلك أم أبى، وسيكون نفس هذا الهدف هو أجره، وتلك الغاية هي جزاؤه. وبما أنّ هذا المدّعي للنبوّة لم يصل إلى مقام التوحيد بحسب الفرض فيما لو كان كاذباً، وبما أنّ دوافعه ليست إلهيّة، فمهما
يكن قصده وهدفه عالياً، فسوف لن يخلو من الشوائب النفسانيّة، ورغم عدم تعلّق هذا الهدف بالمال والنساء والأولاد، إلّا أنّه لا يخلو من حبّ الجاه وسائر الدواعي الخفيّة. فنفس التمتّع بوزن اجتماعيّ أو شعبيّة ومكانة تخوّله للأمر والنهي وكذلك ما يراه في نفسه من ضرورة انصياع الآخرين له لهو أكبر هدف ومبتغى يُسعى إليه.
وعليه فإنّ الأنبياء وحدهم هم الذين يعملون مخلصين لوجه الله؛ وذلك لارتفاع الحجاب عن قلوبهم، واطّلاعهم على أسرار العالم، وحصولهم على سرّ الموت والحياة والتكامل، ووفودهم إلى الوطن الحقيقيّ من خلال طيّ عوالم السلوك ومنازله، ومن ثمّ التحاقهم بالأبديّة، ولارتباط أرواحهم بإلههم ووصولهم لمقام المناجاة، بحيث لم يرتضوا أيّ أجر مقابل المحن والابتلاءات التي تحمّلوها في طريق تبليغ الشريعة وهداية الناس، بل انحصر أجرهم في رضى الله تعالى وأداء التكليف وهداية الناس لا غير.
ومن هذا المنطلق وبنفس هذه الروحيّة، يلتحق حبيب النجّار- الذي كان يقطن في أقصى نقطة من مدينة أنطاكية- بمبعوثَي نبيّ الله عيسى عليه السلام من أجل مساندتهما، ويخاطب الناس في مقام المحاججة والمجادلة قائلًا: {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ}.۱
فنجد هنا أنّ هذا الرجل العظيم ذا الضمير الحيّ قد اعتبر أنّ أحد الركنين اللذين يتميّز بهما الحكّام والقادة إنّما يتجلّى في عدم ابتغائهم الأجر والثواب، والركن الآخر هو امتلاكهم للبصيرة ووصولهم إلى مقام الإنسانيّة ومعرفة الباري عزّ وجلّ واهتدائهم إليه. وقد أمضى القرآن المجيد هذا الكلام، ولم يأت بأيّ طعن عليه، فصار يعدّ بنفسه دليلًا على صحّة النبوّة.
ولو كان لنبيٍّ مّا أن يطلب أجراً لنفسه، فإنّه سيفقد في مقابل ذلك الحريّة في التبليغ، ولن يمتلك الجرأة على التبليغ القويّ أمام من أخذ منهم الأجر، شاء ذلك أم أبى؛ إذ إنّ الحياء والخجل سيعتريان الواقع تحت إحسان الغير، فيذلّانه ويحقّرانه، وبالتالي يقلّلان من حزمه في التبليغ. ولهذا يقول نبيّ الله نوح لقومه: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ}.۱
ففي هذه الحالة، من شاء أن يقبل بالدعوة فليقبل، ومن لم يشأ فهو حرّ؛ فلن يعتريَ الرسولَ أيّ حياء أو خجل أمام المتمرّدين، ولن يرى نفسه أسيراً لإحسانهم، وسيوبّخهم ويعاتبهم بشدّة.
التزام الرسول الأكرم بعدم طلب الأجر
وبدوره لم يُستثن الرسول الأكرم محمّد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله مِن هذا الحكم الكليّ، ولم يكن ليلتمس من الناس أيّ أجر؛ ففي سورة الأنعام التي تعرّضت
لبيان حديثه صلّى الله عليه وآله مع قومه، يأمره الله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ}۱.
وعليه فالرسول الأعظم لم يأت ليثقل كاهل الناس ويوقعَهم في المشقّة، ويذهبَ بحاصل أعمالهم وثمرات جهودهم، فيستفيد منها لحسابه الخاصّ، كثمن وأجرة على الدعوة النبويّة؛ {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ}٢.
ويخاطب الله المشركين والمتمرّدين موبّخاً لهم في موضعين من القرآن: أوّلهما في سورة الطور، والثاني في سورة القلم، فيعاتبهم بشدّة على رفضهم دعوة الرسول صلّى الله عليه وآله قائلًا عزّ من قائل: {أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ}٣.
فلماذا يمتنع هؤلاء المتمرّدون عن القبول بدعوتك، أفهل رُمتَ منهم أجراً كي يشعروا بهذا الثقل جرّاء أدائه؟!
هل طلب الرسول الأجر في آية المودّة؟
غير أنّنا نلحظ في موردين آخرين من القرآن أنّ الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله يطلب من أمّته أجراً وجزاءً مقابل النبوّة ومشقّات الرسالة، وعلينا أن نبحث هذين الموردين بدقّة للإحاطة بحقيقة الأمر.
المورد الأوّل في سورة الفرقان، أعني: قوله تعالى: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا}۱. قلْ يا أيّها الرسول: أنا لا أريد منكم أجراً، وأجري هو ذلك السبيل الذي يسلكه الناس إلى ربّهم، وذلك الطريق الذي يجدونه إليه.
والمورد الثاني في سورة الشورى، أي قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.٢ قل يا أيّها الرسول: أنا لا أريد منكم أجراً إلّا قيامكم بمحبّة أقربائي ومودّتهم.
وعند التدقيق في هذين الموردين نستنتج:
أوّلًا: أنّ هذين الأمرين اللذين وقعا مورداً للاستثناء لم يكونا في الواقع منفصلين في حقيقتهما، وأنّ الاستثناءين لم يردا في الواقع على عموم قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}، وقوله تعالى: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}؛ بل إنّ حقيقتهما شيءٌ واحدٌ، غاية الأمر أنّها تمتلك عنوانين وتعريفين اثنين. ففي الآية الأولى تمّ استثناء الاهتداء إلى الله تعالى، وفي الآية الثانية مودّة ذوي القربى.
ويشير هذان العنوانان إلى حقيقةٍ واحدةٍ؛ فطريق الله هو مودّة ذوي القربى، ومودّة ذوي القربى هو السبيل الذي يتّخذه العبد للوصول إلى مقام التوحيد.
والنتيجة التي نخلص إليها بعد ضمّ الآيتين إحداهما إلى الأخرى هي: يا أيّها الرسول قل: إنّي لا أريد منكم أيّ أجر إلّا أن تتخذوا سبيلًا إلى ربّكم من خلال مودّة قرابتي.
وعليه فمن ملاحظة انحصار استثناء عموم الآية بهذين الاستثناءين، وملاحظة اتّحاد هذين المعنيين، نخلص إلى أنّ مودّة ذوي القربى هي الطريق الأوحد المؤدّي إلى الله تعالى، وأنّ هذا الطريق الأوحد المؤدّي إليه تعالى هو مودّة ذوي القربى فقط. بمعنى: أنّ كلّ مسلم إذا ما رامَ أن يقدّم لنبيّه أجراً، فعليه أن يسعى حثيثاً في طريق الوصول إلى مقام التوحيد والاتصاف بصفات الحقّ جلّ وعلا، هذا مع أنّ الوصول إلى مثل هذا المقام والاتصاف بهذه الصفات لن يحصل إلّا في ظلّ مودّة ذوي القربى فحسب.
و ثانيًا: أنّ هذا الاستثناء لا يتنافى مع عموم الآيات الدالّة على نفي الأجر والجزاء. وبعبارةٍ أُخرى: إنّ المستثنى منه ههنا لا يُستثنى منه شيء في الواقع، وبحسب اصطلاح أهل اللغة الاستثناء منقطع؛ لأنّ الآيات التي تدلّ على أنّ الأنبياء- ومنهم نبيّ الإسلام- لم يكونوا يبتغون أجراً وجزاءً، إنّما تريد من الأجر
والجزاء ما يتعلّق بالأنبياء ويعود عليهم. وأمّا الذي يعود على الناس من الاتّصاف بالصفات الربوبيّة والخروج من عالم البهيميّة والوصول إلى ذروة الإنسانيّة فهو مقصود كلّ نبيّ، وهدف نبيّ الإسلام أيضًا حيث يقول تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ ٢ وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}۱.
فالله هو الذي بعث من بين الأمّيين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته، ويعمل على ترقيتهم دائماً من خلال طريق السلوك النفسيّ، ويعلّمهم الكتاب وأسرار عالم الخلق، وقد كانوا قبل ذلك يعيشون في الضلال البيّن. ورسالته هذه لا تشمل هؤلاء وحدهم، بل تعمّ الذين لم يكونوا قد ولدوا بعد في ذلك الزمان، وسيأتون في زمان لاحق، فيقودهم إلى نفس ذلك الصراط، والله عزيز حكيم.
وبناءً عليه تشير هاتان الآيتان اللتان وقعتا مورداً للاستثناء إلى حقيقة مسلّمة واحدة، وهي عبارة عن العلّة الغائيّة من الرسالة والباعثة على البعثة والداعية إليها. وكذا الآية المتقدّمة من سورة الجمعة وبعض الآيات الأخر تشير إلى علّة الرسالة فقط، لا إلى شيء سواها.
وبذلك يتبيّن لنا: أنّ تلاوة الآيات الإلهيّة على الناس وتعليمهم الكتاب والحكمة وتزكيتهم هو الطريق نحو الله الذي سيعبر بهم إليه تعالى من خلال مودّة ذوي القربى ليصلوا في النهاية إلى مقام التوحيد. وهذا الأمر يعود بالنفع إلى نفس أمّة الرسول الأكرم، لا أنّه أجرٌ وجزاء يستفيد منه الرسول، بحيث يكون باعثاً على نقصان ما عند الآخرين والزيادة في ماله ومآله وجاهه ومكانته. ونظير ذلك الأب الذي يقول لولَده: أنا لا أتوقّع منك أيّ جزاء أو مكافأة في قبال جميع المشقّات والمعاناة التي تحمّلتها في أيّام طفولتك وصباك وشبابك وعند تربيتي لك وتعليمك وحفظ سلامتك ودفع الأخطار والبلايا عنك، سوى أن تكون شخصاً سالماً مهذّباً مراعياً للنظام ومؤدّباً بالآداب.
والشاهد على هذا المعنى قوله سبحانه وتعالى في سورة سبأ مخاطباً الرسول الأكرم: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}۱.
ما العلاقة بين طريق الله و محبّة آل محمّد صلّى الله عليهم؟
وإذا عرفنا ذلك فلندخل في صلب الموضوع لنرى كيف جعل الله تعالى مودّة ذوي القربى نتيجة وثمرة للرسالة وأجراً عليها؟ وما هو التأثير الذي تتركه هذه المودّة في سلوك الطريق إلى الله؟ وما هي العلاقة بين طريق الله وبين محبّة
آل محمّد صلّى الله عليهم؟ وهل يمكن أن يلتزم الإنسان بالبرامج العمليّة للرسول الأكرم بشكل كامل: بأن يقيم الصلاة ويصوم ويجاهد ويحجّ ويؤدّي جميع التكاليف الواحد منها تلو الآخر، ولكن من دون أن تكون له مودّة بذوي القربى؟ فهل سيصل مثل هذا الشخص إلى مقام السعادة ويجد طريقه إلى ربّه؟ أم إنّ هذه الأعمال لا تثمر أبداً إلّا حينما تكون مقترنةً بمحبّة ذوي القربى ومودّتهم؟
يُستفاد من خلال ضمّ الآيتين السابقتين أنّ السلوك في سبيل الله تعبير آخر عن مودّة أهل البيت عليهم السلام، وبدون ذلك لن يتمكّن أحد من الاهتداء إلى ربّه.
حقيقة الحبّ وآثاره السلوكيّة
وبناء على ذلك سنتعرّض إلى البحث عن سرّ هذا الأمر وتأثير الحبّ في صلاح العمل وفي السير التكامليّ للإنسان. ولتسليط الضوء على هذه الحقيقة نقول: إنّ الحبّ عبارة عن الجاذبيّة النفسيّة والانجذاب الروحيّ الذي يحصل للحبيب نحو محبوبه، ويختلف هذا الانجذاب بحسب اختلاف الأفراد والظروف، كما يتفاوت أيضًا من حيث تأثير المحبوب ودرجة فعاليّته على نفس المحبّ، وبمقدار ما تترك آثار جمال المحبوب ومحاسنه بصماتها على نفس المحبّ- أيّاً ما كان هذا المحبوب: سواءً أكان إنساناً أم حيواناً أم جماداً أم
حجراً أم موجوداً آخر- فإنّ قوّة الانجذاب هذه في المحبّ ستكون أشدّ، وتعلّقه بالمحبوب سيكون أعظم.
ونظراً إلى أنّ صفات كلّ موجود وآثاره من اللوازم والتوابع النفسيّة والروحيّة لذلك الموجود، فإنّه وبسبب ذلك الانجذاب الروحيّ الذي يحصل للمحبّ نحو المحبوب، ستنعكس آثار المحبوب وصفاته في المحبّ إلى حدّ يصل فيه الانجذاب بين النفسين إلى المستوى الذي لا يغفل فيه أحدهما عن الآخر في حال من الأحوال. وكأنّ نفسَيهما قد امتزجتا والتحمتا وضمّت إحداهما إلى الأخرى، فصار الحبيبان متّصلين أو متّحدين إلى درجة أصبحا يمتلكان نفساً واحدة.
وفي هذه الحالة، ستتجلّى جميع آثار المحبوب وصفاته في المحبّ؛ إذ إنّ هذه الآثار بحسب ما فرضناه هي آثار المحبوب. وبناءً على علاقة المحبّة والانجذاب الروحي للمحبّ، ستصير نفس المحبوب حاكمةً على وجود المحبّ وستكون هي صاحبة الأمر والنهي عوضاً عن نفسه، وبذلك ستَحلّ آثار المحبوب وصفاته- تبعاً لنفسه- في نفس المحبّ. ويعدّ هذا الطريق أسرع طريق للاتصال بالأرواح الطيّبة.
فكثيراً ما شاهدنا أنّ العاشق صار متّصفاً بأوصاف محبوبه، مع أنّ ذلك كان خارجاً عن إرادته، أو أنّه عند مرض المعشوق وتعرّضه للمِحن يصير هو مريضاً وممتحناً مثله، مع أنّه لم يكن مطّلعاً على ذلك أصلًا. ونجد أنّ جانباً مهمّاً من علوم ومعارف المحبوب ومدركاته تتجلّى بشكل تلقائي في نفس المحبّ، وبأنّ المحبّ مشرف على شؤون المحبوب من دون أيّة علاقة ماديّة حسيّة بينهما، فيناجيه في سرّه ويطّلع على أخباره وأحواله حالًا بعد حال.
والأرقى من ذلك أنْ تشرق صفات المحبوب في الحبيب. أي: يمكن للمبتلى بالصفات الرذيلة- كالحسد والبخل وحبّ المال والشره وغيرها- أن يصير بدوره متّصفاً بالعفّة والإيثار، سواءً أكان ذلك عن اختيار منه أم عن غير اختيار؛ وذلك لأنّ المعشوق الذي تعلّق قلبه به كان متّصفاً بالإيثار والعفو والعفّة. فعشق المتهتّك يجعل العاشق الذي يمتلك قليلًا من العفّة متهتّكاً، وعشق العفيف يجعل العاشق المتهتّك عفيفاً. كما أنّ محبّة الذي يعبد المال تجعل السخيّ حريصاً، و محبّة المُنفق السخيّ تجعل الحريص سخيّاً. والعشق الذي تعلّق بعالِم معيّن ستتجلّى علومه و إدراكاته في نفس العاشق بشكل مجمل، بل وبشكل تفصيليّ في مرحلة أعلى. والمحبّة الشديدة لبعض أصناف الجهّال من قبيل بعض النساء تجعل العالم النحرير بليداً جاهلًا.
وعلى أيّ حال، فإنّ أثر العشق والمحبّة وظهور آثار المحبوب وصفاته في نفس المحبّ بسبب انجذابه الروحيّ مشهودة وواضحة للعيان. وقد أوردتْ السِيَر والتواريخ في هذا الباب العديد من القصص، فكان هذا الأمر واضحاً حتّى بالنسبة لنفس الأشخاص الذي ابتلوا بالحبّ، وإن تفاوتوا في ذلك شدّةً وضعفاً.
وإذا اتّضحتْ لنا هذه المقدّمة نقول: لو أنّ أحدهم أحبّ شخصاً ظالماً وجائراً، فإنّ الروح العدائيّة ستنبثق منه بشكل تلقائيّ ولو كان بنفسه لا يميل إلى الظلم والعدوان. ولو أنّ أحدهم أحبّ شخصاً عادلًا ومتوازناً ومستقيماً قد انطبعت التقوى والطهارة في روحه وسرت إلى باطنه، فإنّه سيصبح حائزاً بصورة تلقائية على صفة العدالة والطهارة والاستقامة.
وعلى ذلك لزم على قاصدي طريق الله أن يتخلّقوا بالصفات الإلهيّة، وهو محال بغير تحصيل المحبّة الإلهيّة، بمعنى: أنّه لو صرف أحدهم تمام عمره في القيام بأعمال الخير واجتناب أعمال السوء، لكنّه في المقابل لم يعمل على تنمية محبّة الله في قلبه، فإنّ روحه ستكون خالية من الصفاء والإخلاص وشبيهة بقبر زُخرف بالنقوش والرسوم.
فروح الإنسان وحقيقته هي قوته الجاذبة وجاذبيّته الروحيّة، وإلّا فبأيّ شيء سيفترق عن الجدار الثابت والقبر المندرس! ومَثَل العمل الصالح الذي لا ينبعث من روح حيّة وطاهرة ومفعمة بالمحبّة كمثل قرط أو سوار وُضع في أُذن ميّت أو يده! ولكنّه إذا ما اقترن بالحبّ، كان مؤدّياً للفضل والكمال، نظير الزينة التي يتجمّل بها الإنسان الحيّ.
ينبغي للسالك أن يقوّي محبّة الله في قلبه
ومن خلال الأعمال الحسنة يقوّي محبّ الله في قلبه محبتّه له تعالى بشكل دائم، كما أنّه ينمّي في قلبه عشقَه له سبحانه بواسطة المخالفة لهوى النفس والموافقة لرضا المحبوب إلى الحدّ الذي يحظى برضاه ويخرج عن هوى نفسه ويحيى بهواه. وفي هذه الحالة سيكون الله تعالى هو الحاكم على وجوده، وستصدر منه جميع الأعمال والتصرّفات من خلال إرادته تعالى بشكل تلقائي؛ وكأنّه قد فُرّغ من ذاته ومُلئ بالله، وتخلّى عن تحريك نفسه وتحرّك بتحريك الله.
يروي المرحوم الكلينيّ في «روضة الكافي» عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن عليّ بن أسباط، عن الأئمّة عليهم السلام فيما وعظ الله تعالى به عيسى بن مريم عليهما السلام:
«يَا عِيسَى أُوصِيكَ وَصِيَّةَ المُتَحَنِّنِ عَلَيْكَ بِالرَّحْمَةِ حَتَّى حَقَّت لَكَ مِنِّي الوِلايَةَ بِتَحَرّيكَ مِنِّي المَسَرَّةَ».۱
فإنّي أوصيك يا عيسى وصيّة المحبّ الرحيم المشفق لتزداد فيك قوّة الانجذاب فتصبح باحثاً عن محبّتي ورضاي، ولتصير ولايتي حاكمة فيك وتكون متّصفاً بجميع صفاتي وأسمائي.
إنّ دين الإسلام المقدّس- الذي هو خاتم الأديان المتكفّل بأكمل النظم والتشريعات من حيث العلاقات الروحيّة والطبيعيّة- قد جعل معيار المحبّة ميزاناً لقياس صحّة الأعمال وسلامتها، وقد شقّ هذا الدين أمام الناس أسرع الطرق للوصول إلى مقام الإنسانيّة والتوحيد متمثّلًا بطريق محبّة رسول الله وذوي قرابته صلّى الله عليه وآله.
حقيقة ذوي القربى ودور محبّتهم في السلوك إلى الله تعالى
والمقصود بذوي القربى هم أولئك الذين وصلوا إلى مقام الطهارة المطلقة، فرَسخت الطهارة في أرواحهم وخيالاتهم ونفوسهم وعقولهم وأسرارهم وسويدائهم، وخلصت من جميع شوائب الشرك، فلا يمكن العثور في موطن من مواطن نفوسهم على غير الله وآثاره وصفاته. إنّهم قوم غضّوا
أبصارهم عن العوالم الدنيا الطبيعيّة المظلمة، وتعلّقوا بالجمال الأبدي. فهم عباد لا تساور وجودهم حكومة الشهوة والغضب والخيال، فهم دائماً أحياء بحياة العقل، منوّرون بنور الله، وقد وصلوا إلى مقام البلوغ والكمال الإنساني. إنّهم أفراد لم يعد في أفق وجودهم شيء من شوائب النفس الأمّارة والميل الحيواني، والحياة الحسيّة وتوابعها. لقد اختاروا من حرم أمن الله وأمانه سكناً لهم، وتنوّروا بنور الحقّ، ولا مصداق عندهم للذنب الذي هو من لوازم الغفلة، ولقد غدوا مطهّرين بطهارة الحقّ تعالى، معصومين بعصمة ذاته المقدّسة.
ومن الواضح أنّ حبّ هؤلاء وعشقهم يجعل الإنسان قريباً من أفقهم الفكريّ والوجوديّ، وكلّما اشتدّت تلك المحبّة فإنّ الإنسان سيقترب أكثر من ذلك الأفق، وبالملازمة فإنّ صفات المعشوقين وروحيّاتهم وأخلاقهم ستظهر في الإنسان، كما ستشرق فيه ملكاتهم وعقائدهم في نهاية المطاف. إنّ محبّ أهل بيت العصمة سيتحوّل إلى عابد تقيّ مؤثِر عفوّ منفقٍ باذل في سبيل الله مهجته وماله.
إنّ المحبّة كالصاعقة التي تصيب أكوام الحصيد فتتركها رماداً، فهي تحرق رذائل الصفات من الحسد والبخل وقسوة القلب والشره والجبن وأمثالها، فتحيلها هباءً منثوراً، فلا أثر لها في وجود المحبّ، ومن الواضح أنّ هذا هو
الطريق الأوحد إلى الله، فهو أسرع الطرق وأكملها وأيسرها في الوصول إلى الغاية.
وهذا على خلاف من أراد أن يطوي هذا الطريق الطويل بغير عشقهم ومودّتهم معتمداً على نفسه، فهيهات هيهات أن يصل! ففي كلّ يوم يخطو فيه إلى الأمام فإنّ شوائب النفس الأمّارة والخواطر الشيطانيّة تعود به خطوات إلى الوراء، ليبقى دائماً كحمار الطاحونة يدور حول نفسه، وكلّما ازداد سيره لم يزدد من الله إلّا بعداً، إلى أنْ يترك الدنيا مع كثير من العمل والجهد، صفر اليدين، منهوباً خاسراً، ويفارقها مع ألف حسرة وندامة.
المجلس الثاني: أوثق عرى الإيمان الحبّ والبغض في الله
(موعظة يوم الجمعة ٢٤ ربيع الأوّل ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم في طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}۱
أثر حبِّ المعاصي وأهلها على المحبّ
ذكرنا سابقاً أنّ محبّة الله وأوليائه هي أُسّ ولُبّ الدين والسلوك في طريق الله؛ ولذلك يُعدّ تحصيل المحبّة أفضل وأسرع طريق للوصول إلى هذا المقصود. وفي مقابل ذلك فإنّ الميل إلى أهل المعاصي وأعداء الله ومحبّتهم من
أشدّ درجات المعصية؛ إذ إنّ مودّة الظلَمَة والمنحرفين تترك أثر القسوة والكدورة في القلب، وتوجب انتقاش القلب بصور قلوبهم، وبالتالي تُفضي إلى ظهور صفاتهم وحالاتهم في القلب، وإلى بروز أفعالهم وتصرّفاتهم على الإنسان.
ولهذا فقد عُدّ حبّ الدنيا وزخارفها الفانية بحدّ ذاته ذنباً: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ}۱، كما عُدّ حُبّ جمع المال وادّخاره كذلك ذنباً: {وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا}٢.
ومع أنّ كلّ واحدٍ من المنكرات يُعتبر معصيّةً، فإنّ حبّ الأفعال القبيحة وانتشارها في المجتمع الإسلامي وبين المؤمنين يُعتبر كذلك معصيةً، ولأنّ تلك المحبّة تورث الذنب بنفسها وتوجب ظهور المعاصي، فإنّها ستستتبع عقاباً شديداً: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.٣
كذلك الأمر بالنسبة إلى محبّة غير الله محبّةً استقلاليّة، ومحبّة الأصنام والأشخاص الذين يتّبعهم الإنسان ويخضع لطاعتهم ويعدّهم بمثابة شركاء لله
تعالى، حيث ورد الذمّ فيها بشكلٍ كبيرٍ في القرآن المجيد: {وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}۱.
وفي مقابل هذه الآيات التي تذمّ بشدّة حبَّ الدنيا وجمع المال ومحبّة شركاء الله وما إلى ذلك، توجد بعض الآيات التي تُثني على محبّة الله وأوليائه وتمدحها بشكلٍ كامل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ}٢.
ومنه يتّضح أنّ محبّة الله هي أنفس وأشرف موهبة من المواهب الإلهيّة التي جعلها الله تعالى موضوعاً لكلامه ومترتّبةً على طاعة رسوله، مع أنّه كان من الممكن أن يقول [بدلًا عن ذلك]: إن كنتم تريدون أن تدخلوا الجنّة أو لا تدخلوا النار، أو ترغبون في إصلاح مجتمعكم، أو تسعون للحصول على نفسٍ تقيّةٍ وطاهرةٍ وما إلى ذلك.
لكنّنا نُلاحظ بأنّه تمّ الاكتفاء [هنا] بطرح محبّة الله، وجعل نفس طاعة رسول الله أمراً ملازماً لها بعنوانها لازماً لا يقبل الانفكاك. وفي نفس الوقت الذي يُحذّر فيه الله تعالى المؤمنينَ من الارتداد ويُنذرهم من عواقبه الوخيمة ويُظهر لهم غناه وغنى رسوله عن إيمانهم وارتدادهم، فإنّه يُعرّفهم على جماعة من المؤمنين سوف يأتون من بعد ارتدادهم يحبّون رسول الله ويحبّهم رسول الله،
فيكون أفضل تعريف لهم من جهة الكمالات والخصائص الإنسانيّة بلحاظ محبّتهم لرسول الله: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ}۱.
وفي آية أخرى يعتبر سبحانه وتعالى بأنّ حبّ الطهارة وتزكية النفس هي أفضل معرّف وشاهد على خصائص الأشخاص وكمالاتهم: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ}٢، يأمر الله تعالى في هذا الموضع رسوله بالصلاة في مسجد قبا والتعبّد هناك؛ لأنّه علاوةً على أنّ دعائمه قد أُسّست منذ اليوم الأوّل على التقوى، فإنّ جماعة من المؤمنين الذين يحبّون الطهارة وصفاء الباطن ولقاء الله منهمكون هناك بالصلاة والعبادة.
والأكثر من ذلك أنّ الله تعالى قام بطرد الذين يُبرزون المودّة والحبّ تجاه المحاربين لله ورسوله من زمرة المؤمنين بشكل نهائي، حتى لو كان أولئك المحاربون أبناءهم أو آباءهم أو إخوانهم أو من أهلهم وعشيرتهم.
فقد ظهر أنّ محبّة أعداء الله ورسوله تترك أثراً بالغاً في نفس الإنسان إلى درجة تُفرغ معها صفحة النفس من الإيمان بشكل كلّي، بحيث لن يبقى له أيّ
أثر. وفي هذه الحالة لن تمتلك أعمال الإنسان الصالحة- نظير ذلك التبن والقشّ الذي ينمو في أرض قاحلة ومجدبة- أيّة رائحةٍ أو نضارةٍ أو حُسنٍ أو جمالٍ. فمَثل العمل الصالح المقترن بمحبّة أعداء الله كمثل وردةٍ ونبتةٍ نمت في مزبلة، فلو فرضنا أنّها تمتلك مظهراً خلّاباً إلّا أنّ باطنها وأصلها سيكون قبيحاً ومنتناً.
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.۱
في هذه الآية المباركة نلاحظ أنّه- علاوةً على تمييز محبّي أعداء الله عن صفوف المؤمنين بشكل حاسم- قد تمّ اعتبار عدم محبّة أعداء الله بمثابة أعلى صفةٍ يمكن للمؤمنين أن يتّصفوا بها وأجلى خصوصيّةٍ من خصائصهم الروحيّة. ولهذا السبب سيُفاض عليهم دوماً من روح الله، وسوف يسكنون جنان الخلد، ويحوزون على رضا الله تعالى ويكونون بدورهم راضين عنه. والأهمّ من ذلك أنّ هذه الجماعة من المؤمنين الذين عُجنت أرواحهم بصفة الحبّ لله ورسوله والتبرّي من أعدائهما قد خُصّوا لوحدهم فقط باسم «حزب الله»، وحصر نيل السعادة والفلاح المطلق بشكل واضح بهم فقط.
أصل الحبّ والبغض في الروايات من أصول الدين
لقد وردت في كتب الأخبار عدّة أبواب حول الحبّ والبغض. وقد عُدّ أصل الحبّ والبغض في هذه الأخبار- التي يُمكننا أن نقول بأنّها من حيث المجموع قد وصلت إلى حدّ التواتر- من أصول الدين بحيث جُعلت بقيّة الأعمال الصالحة متفرّعة عنه.
يروي أبو عُبيدة الحذّاء عن الإمام الصادق عليه السلام:
قَالَ عَلَيهِ السلامُ: «مَنْ أَحَبَّ لله (أيّ شخص وأيّ شيء يُحبّه الله) وأَبْغَضَ لله (أيّ شخص وأيّ شيء يُبغضه الله) وَأَعْطَى لله فَهُوَ مِمَّنْ كَمَلَ إِيمَانُهُ».۱
ويروي سعيد الأعرج عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
قَالَ عَلَيهِ السلامُ:
«مِنْ أَوْثَقِ عُرَى الإِيمَانِ أَنْ تُحِبَّ فِي الله (كلّ ما يُحبّه الله) وتُبْغِضَ فِي الله (كلّ ما يُبغضه الله) وتُعْطِيَ فِي الله (كلّ ما يُحبّ الله إعطاءه) وتَمْنَعَ فِي الله (كلّ ما يرضى الله بمنعه)».۱
عَنْ فُضَيْلِ بْنِ يَسَارٍ قَالَ:
سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ الله عليه السلام عَنِ الْحُبِّ والْبُغْضِ أَمِنَ الإِيمَانِ هُوَ؟ فَقَالَ: «وهَلِ الإِيمَانُ إلّا الْحُبُّ والْبُغْضُ؟» ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ (كشاهد):
{حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ}٢».٣ و٤.
...۱
...۱
ورُوي كذلك عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال:
«قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله لأَصْحَابِهِ: أَيُّ عُرَى الإِيمَان أَوْثَقُ؟ فَقَالُوا: الله ورَسُولُهُ أَعْلَمُ. وقَالَ بعْضُهُم: الصَّلاةُ. وقَالَ بعْضُهُم: الزَّكَاةُ. وقَال بَعْضُهُم: الصِّيَامُ. وقَالَ بَعْضُهُم: الْحَجُّ والْعُمْرَةُ. وقَالَ بَعْضُهُم: الْجِهَادُ. فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: لِكُلِّ مَا قُلْتُمْ فَضْلٌ ولَيْسَ بِهِ. ولَكِنْ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي الله والْبُغْضُ فِي الله وتَوَالِي أَوْلِيَاءِ الله و التَّبَرِّي مِنْ أَعْدَاءِ الله».۱
ويُحدّث جابر الجعفي أيضًا عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام أنّه قال:
«إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْلَمَ أَنّ فِيكَ خَيْراً فَانْظُرْ إِلَى قَلْبِكَ؛ فإِنْ كَانَ يُحِبُّ أَهْلَ طَاعَةِ الله ويُبْغِضُ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ فَفِيكَ خَيْرٌ والله يُحِبُّكَ، وإِنْ كَانَ يُبْغِضُ أَهْلَ طَاعَةِ الله ويُحِبُّ أَهْلَ مَعْصِيَتِهِ فَلَيْسَ فِيكَ خَيْرٌ والله يُبْغِضُكَ؛ والْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ» (بمعنى أنّ للإنسان اتّصالًا تامّاً بمحبوبه، بل يمتلك معه جهة اتّحاد ومعيّة).۱
و ينقل المرحوم المجلسي رضوان الله عليه عن «الدعوات» للراوندي أنّه:
«رُوِيَ أَنَّ الله تَعَالَى قَال لِمُوسَى عليه السلام: هَلْ عَمِلْتَ لِي عَمَلًا قطُّ؟ قَالَ: صَلَّيْتُ لَكَ وصُمْتُ وتَصَدَّقْتُ وذَكَرْتُ لَكَ. قَالَ الله تَبَارَكَ وتَعَالَى: وأَمَّا الصَّلاةُ فَلَكَ بُرْهَانٌ (على إيمانك وشخصيّتك)، والصَّوْمُ جُنَّةٌ (من النار)، والصَّدَقَةُ ظِلٌ (لرحمة الله)، والذِّكْرُ (الزكاةُ- خ ل) نُورٌ (وجميع هذه الأعمال ترجع فائدتها إليك). فَأَيَّ عَمَلٍ عَمِلْتَ لِي؟ قَالَ مُوسَى عليه السلامُ: دُلَّنِي عَلَى الْعَمَلِ الَّذِي هُوَ لَكَ! قَالَ: يَا مُوسَى هَلْ وَالَيْتَ لِي وَلِيّاً؟ وهَلْ عَادَيْتَ لِي عَدُوّاً قَطُّ؟ فَعَلِمَ مُوسَى أَنَّ أَفْضَلَ الأَعْمَالِ الْحُبُّ فِي الله والْبُغْضُ فِي الله».٢
لزوم محبّة محمّد وأهل بيته صلوات الله عليهم وآثارها
ويقول المرحوم الراوندي بعد ذلك:
«وَإِلَيْهِ أَشَارَ الرِّضَا عليه السلام بِمَكْتُوبِهِ: كُنْ مُحِبّاً لآِلِ مُحَمَّدٍ وإِنْ كُنْتَ فَاسِقاً ومُحِبّاً لِمُحِبِّيهِمْ وإِنْ كَانُوا فَاسِقِينَ».
ويقول أيضًا (المرحوم الراوندي):
«ومِنْ شُجُونِ الْحَدِيثِ۱ أَنّ هَذَا الْمَكْتُوب هُوَ الآنَ عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ كرمند قَرْيَةٌ مِنْ نَوَاحِينَا إِلَى أَصْفَهَانَ، مَا هِيَ. ووَقْعَتُهُ (أي قصّته) أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِهَا كَانَ جَمَّالًا لِمَوْلانَا أَبِي الْحَسَنِ عليه السلام عِنْدَ تَوَجُّهِهِ إِلَى خُرَاسَانَ، فَلَمَّا أَرَادَ الانْصِرَافَ قَالَ لَهُ: يَا ابْن رَسُولِ الله! شَرِّفْنِي بِشَيْء مِنْ خَطِّكَ أَتَبَرَّكْ بِهِ. وكَانَ الرَّجُلُ مِنَ الْعَامَّةِ. فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ الْمَكْتُوب».
وفي «تفسير العيّاشي» روايةٌ رواها بُريَد العِجلي:
كُنْتُ عِنْدَ أَبِي جَعْفَرٍ عليه السلام إِذْ دَخَلَ عَلَيْه قَادِمٌ مِنْ خُرَاسَانَ مَاشِياً فَأَخْرَجَ رِجْلَيْهِ وقَدْ تَغَلَّفَتَا (تفطّرتا وتشقّقتا). وقَالَ: أَمَا والله مَا جَاءَ بِي مِنْ حَيْثُ جِئْتُ إلّا حُبُّكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ.
فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ عليه السلامُ: «والله لَوْ أَحَبَّنَا حَجَرٌ حَشَرَهُ الله مَعَنَا. وهَلِ الدِّينُ إِلَّا الْحُبُّ؟ إِنَّ الله يَقُولُ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}۱ وقَالَ: {يُحِبُّونَ (أي أنصار المدينة) مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ}٢ وهَلِ الدِّينُ إلّا الْحُبُّ؟».٣
وروى في «علل الشرائع» بإسناده عن أنس أنّه:
جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ- وَكَانَ يُعْجِبُنَا أَن يَأْتِيَ الرَّجُلُ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَة يَسْأَلُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وآله- فَقَالَ: يَا رَسُول الله مَتَى قِيَامُ السَّاعَةِ؟ فَحَضَرَتِ الصَّلَاة فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ: «أَيْنَ السَّائِلُ عَنِ السَّاعَةِ؟». قَالَ: أَنَا يَا رَسُولَ الله! قَالَ: «فَمَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟». قَالَ: وَالله مَا أَعْدَدْتُ لَهَا مِنْ كَثِيرِ عَمَلٍ صَلاةٍ وَلا صَوْمٍ إِلا أَنِّي أُحِبُّ الله وَرَسُولَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وآله: «الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ». قَالَ أَنَسٌ: فَمَا رَأَيْتُ الْمُسْلِمِينَ فرِحُوا بَعْدَ الإِسْلامِ بِشَيْء أَشَدَّ مِنْ فَرَحِهِمْ بِهَذَا.٤
...۱
...۱
حبّ رسول الله لفاطمة
وقد ورد في الكثير من روايات الشيعة والسنّة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله كان يحبّ السيّدة فاطمة حبّاً جمّاً، وكان يُطلق عليها اسم سيّدة نساء العالمين.۱
...۱
ويروي المفيد في «المجالس» بسنده المتّصل عن أبي حمزة الثمالي عن الإمام الباقر عليه السلام عن أبيه عن جدّه أنّه قال:
«قَالَ رسولُ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنّ الله لَيَغضَبُ لِغَضَبِ فاطِمةَ ويَرضى لِرِضاها».۱
وعن «المجالس» للمفيد أيضًا و «الأمالي» للشيخ الطوسي رضوان الله عليهما بإسناد متّصل عن سعد بن مالك (أي ابن أبي وقّاص) قالَ: سَمِعتُ رسولَ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقولُ:
«فاطِمةُ بَضعةٌ مِنّي؛ مَن سَرَّها فَقَد سَرَّني، ومَن ساءَها فَقَد ساءَني. فاطِمةُ أَعَزُّ الناسِ إِلَيَّ».۱ و٢
ويُحدّث الشيخ الطوسي في «الأمالي» بسند متّصل عن جميع بن عمير قال:
قالت عمّتي لِعائشةَ وأنا أسمعُ لَهُ: أنتِ مَسيرُكِ إلى عليٍّ ما كان؟ قالَت: دَعينا مِنكِ! إنّه ما كان مِن الرجالِ أحبُّ إلى رسولِ الله مِن عليٍّ ولا مِن النساءِ أحبُّ إليه مِن فاطمةَ.٣
المجلس الثالث: معنى المودة الواجبة
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ٢ جمادى الاولى ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}۱
أجمع المفسّرون من الخاصّة تبعاً للروايات الواردة من طرقنا على أنّ المقصود من {الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} هم أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. إلّا أنّ «القربى» فُسّرت بمعاني مختلفة في تفاسير أهل السنّة، ونحن لأجل إدراك حقيقة الأمر سنذكر المعاني التي ذكروها لهذه اللفظة والردّ على ما ذكروه.
معاني المودّة الواردة في الآية والتأمّل فيها
المعنى الأوّل: الخطاب لقريش والمودّة أجرٌ لقرابته منهم
المعنى الأول: وهو الذي نسب إلى جمهور من مفسّري أهل السنّة؛ مِن أنّ الخطاب لقريش والأجر الذي قد وقع في مورد السؤال هو مودّتهم للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقرابته منهم؛ وذلك لأنّهم كانوا يكذّبونه ويبغضونه لتعرّضه لآلهتهم، فأُمر صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يسألهم: إن لم تؤمنوا بي فودّوني واتركوا البغض والعداء جانبًا- كحدّ أدنى- لقرابتي منكم؛ ف «القُربى» هنا مصدرٌ بمعنى القرابة، ولفظةُ «في» استعملت بمعنى السببيّة.
وقد ذكر هذا المعنى الفخر الرازي في تفسيره في ذيل الآية الشريفة ونسبه إلى ابن عبّاس نقلًا عن الشعبي۱. ونسبه في مجمع البيان إلى ابن عبّاس وقتادة ومجاهد وجماعة غيرهم٢. وعليه يكون المعنى: إن لَم تُؤمنوا بي ولَم تَودّوني لأجل النبوّة فودّوني لأجل القرابة التي بيني وبينكم.
يقول في لسان العرب:
والقرابة والقربى: الدنوّ في النسب والقربى في الرحم ....
إلى أن قال:
وقوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} أي: إلّا أن تودّوني في قرابتي منكم.۱
ويُرجِّح هذا المعنى كلّ من الآلوسي في تفسير «روح المعاني»٢ والشيخ إسماعيل حقّي في «تفسير روح البيان»٣، ولكنّ تفسير الكشّاف يذكر هذا المعنى معبّراً عنه بقوله: «قِيل»، أي: إنّه احتمالٌ ضعيفٌ وأحد الأقوال الواردة.٤
ولكنّ هذا المعنى غير صحيح كما بيّن ذلك العلّامة الطباطبائي في تفسير «الميزان» قائلًا:
إنّ معنى الأجر إنّما يتمّ إذا قوبل به عملٌ يمتلكه معطي الأجر، فيعطي العامل ما يعادل ما امتلكه من مالٍ ونحوه، فسؤال الأجر
من قريش وهم كانوا مكذّبين له كافرين بدعوته إنّما كان يصحّ على تقدير إيمانهم به صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ لأنّهم على تقدير تكذيبه والكفر بدعوته لم يأخذوا منه شيئاً حتّى يقابلوه بالأجر، وعلى تقدير الإيمان به- و النبوّة أحد الاصول الثلاثة في الدين- لا يتصوّر بغض حتّى تُجعل المودّة أجراً للرسالة۱.
أضف إلى ذلك أنّ لفظة «في» ظاهرة في الظرفيّة، مع أنّها قد تُستعمل في معنى لام التعليل، نحو: «إنّ امرأةً دخلت النار في هرّة»، لكنّ هذا المعنى خلاف الظاهر ومع عدم القرينة القطعيّة لا يمكن أن نترك حملها على المعنى الأوّلي الحقيقي وأن نحملها على المعنى الثانوي المجازي. ولذلك أبقى الزمخشري لفظة «في» على معنى الظرفيّة وفسّر الآية بناءً على هذا المعنى، وبيّن أنّ المقصود من المودّة في القربى هي المودّة في حقّ أقرباء النبيّ صلّى الله عليه وآله.
كما أنّ المرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي في كتابه «الفصول المهمّة» ردّ هذا المعنى من الآية الشريفة بخمسة أدلّة. إلّا أنّه ليس الغرض الآن أن ننظر إلى الأخبار أو أن نتجاوز متن الآية، ولذا سنكتفي بهذا الوجه الذي ذكرناه.
المعنى الثاني: الخطاب للأنصار، والمودّة أجرٌ لقرابته منهم
المعنى الثاني: أنّ الخطاب لأنصار المدينة، والمراد من القربى نفس المعنى الأوّل، يعني: يا أنصار المدينة الذين آمنتم، أنا لا أُريد مقابلًا للرسالة إلّا أن تودّوني وذلك تبعاً للقرابة والارتباط فيما بيننا. وبناءً على نقل الآلوسي في «روح المعاني» من بعض التواريخ أنّ النبيّ كان له قرابة من جهة سلمى بنت زيد النجّاريّة أُمّ عبد المطَّلب ومن جهة أخوال أُمّه آمنة الذين كانوا من أنصار المدينة.۱
وهذا المعنى أيضًا غير تامٍّ؛ لأنّه أوّلًا: لا مجال للشكّ والشبهة في محبّة ومودّة أنصار المدينة للنبيّ، ولا داعي لأن يدعوهم النبيّ لمودّته، فالأنصار في بادئ الأمر ومع كامل العشق والمحبّة للنبي قاموا بدعوته من مكّة للمدينة ثمّ قاموا باستضافته على أتمّ وجه. كذلك آووا المهاجرين في منازلهم ولم يتوانوا عن تقديم أيّ نوع من الإحسان المالي والنفسي لهم، بل قدّموهم على أنفسهم إلى الحدّ الذي مدحهم الله في سورة الحشر: {وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ}٢.
والأنصار هم الذين آمنوا واختاروا السكن في منزل الإيمان قبل أن يأتي مهاجروا مكّة إليهم، وهم الذين أظهروا المحبّة والارتباط مع الأفراد الذين هاجروا إليهم، ولم يتوانوا في الأموال والأرزاق التي أعطاها المهاجرون إيّاهم، ومع الفقر والحاجة، قدّموا المهاجرين أيضًا على أنفسهم في تمام شؤون المعيشة.
فينبغي التأمّل بأنّه عندما تكون محبّتهم لمؤمني مكّة إلى هذا الحدّ، فما حدود محبّتهم للرسول إذن؟! وفي هذه الحالة ما معنى أن يقوم الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتوسّل إلى مودّتهم بقرابته منهم هذه القرابة البعيدة وأن يدعوهم لمحبته في ظلّ وجود المحبّة والمودّة الوطيدة معه؟!
و ثانيًا: أنّ العرب لم يكونوا يرون وجوب احترام القرابة من جهت الامّ أو المرأة، حتّى يأتي النبي ويعرّف نفسه لقومه وأهله على موجب ذلك. على أن العرب قبل الإسلام- كما أفاد العلّامة الطباطبائي- ما كانت تعتني بالقرابة من جهة النساء ذاك الاعتناء، وإنّما أدخل الإسلام النساء في القرابة وساوى بين أولاد البنين وأولاد البنات.۱
المعنى الثالث: الخطاب لقريش وأرحام النبيّ والمودّة أجرُ الرحميّة
المعنى الثالث: أنّ الخطاب لقريش ولأقرباء النبي، والمودّة في القربى هي المودّة بسبب القرابة الرحميّة، غير أنّ المراد بها مودّة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لا مودّة قريش، وعليه يكون الاستثناء منقطعاً. ومحصّل المعنى يُصبح هكذا: إنّي لا أسألكم أجراً على ما أدعوكم إليه من الهدى الذي ينتهي بكم إلى روضات الجنّات والخلود فيها ولا أطلب منكم جزاءً، بل إنّ حبّي لكم- بسبب قرابتكم منّي- دفعني إلى أن أهديكم إليه وأدلّكم عليه.
وهذا المعنى أيضًا غير سديدٍ؛ إذ بالرجوع إلى الآيات القرآنيّة ولسيرة الرسول الأكرم نجد أوّلًا: أنّ الدافع لدعوة الرسول كان أمر الله فقط، ولم يكن عند الرسول إرادة في مقابل إرادة الله سبحانه، ولم يحصل أيّ حبٍّ أو بغضٍ شخصيٍّ ليكون باعثاً وموجباً للدعوة. بل ورد ذلك في كثير من الآيات نحو قوله تعالى: {فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ}۱، وقوله تعالى: {طه ۱ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى ٢ إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى}٢. وقوله تعالى: {إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ ، لَسْتَ
عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}۱ وقوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}٢.
وثانيًا: لقد كانت دعوة النبيّ عامّة ومحبّته للناس محبّة إلهيّة، ولقد كانت قريش وغيرها عند النبيّ سواء. مضافاً إلى أنّ «إلّا» ظاهرةٌ في الاستثناء، ومن المؤكد أنّ حملها على معنى «بل» الإضرابيّة خلاف الظاهر، ومع عدم القرينة لا يمكن استعمال «إلّا» في معنى «بل».
المعنى الرابع: القربى بمعنى التقرّب لله والمودّة هي التودّد لله
المعنى الرابع: أنّ القربى بمعنى التقرّب إلى الله، والمودّة في القربى هي التودّد إليه تعالى بالطاعة والتقرّب، وعليه يتحصّل هذا المعنى: يا أيّها النبي قل: أنا لا أريد منكم أجراً إلّا أنّ تظهروا لله عزّ وجلّ المحبّة من خلال الأعمال الصالحة وكل عمل يقرّبكم إليه. وهذا المعنى ينقله الفخر الرازي عن الحَسَن [البصري].٣
وهذا المعنى غير تامٍّ أيضًا؛ و ذلك أوّلًا: لأنّ القربى ظاهرة في معنى القرابة من جهة الرحميّة والنسب، وواضح أنّه لا يوجد لأحد قربٌ أو قرابةٌ مع الله من هذه الجهة. ومع عدم الدليل لا يمكن استعمال لفظ القربى في مطلق معنى القرب والتقرّب.
وثانيًا: المودّة التي استعملت في الآية غير التودّد؛ لأنّ المودّة ظاهرة بمعنى الحبّ والمحبّة، أمّا التودّد فظاهر إمّا بمعنى طلب المحبّة وجلبها، أو بمعنى إظهار المحبّة إذا استعملت مع لفظ «إلى»؛ فيقال: تودّده: طلب مودّته واجتلب ودّه، ويقال: تودّد إليه: تحبّب إليه وأظهر محبّته له.
ولو صرّحت الآية بالقول «إلّا التودّد في القربى» لكان فيها وجه لحملها على هذا المعنى، فعلى الوجه الأوّل يتحصّل المعنى التالي: اطلبوا المحبّة من الله بواسطة الأعمال الصالحة التي تتقربون فيها إليه. وعلى أساس الوجه الثاني يكون المعنى: أظهروا المودّة والمحبّة بواسطة الأعمال الصالحة التي تتقرّبون فيها إليه. ولكن في الآية المباركة لم يأتِ لفظ التودّد، بل الوارد هو لفظة «المودّة» بمعنى المحبّة، وفي هذه الحالة لا يكون هناك معنى للقول: أحبوا الله بواسطة الأعمال الصالحة.
وثالثاً: أنّ مادّة المودّة ليست بمعنى المحبّة، بل أفاد الراغب الأصفهاني نقلًا عن بعض في «المفردات في غريب القرآن»، أنّ في المودّة إشعاراً في المراعاة والتطلّع إلى حال المحبوب والعناية به. ولذا نُسب هذا المعنى في
القرآن المجيد إلى الله تعالى، كما ورد في قوله تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ}۱، وقوله تعالى: {وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}٢.٣ لأنّه يصحّ أن يقال: إنّ الله يعتني بأحوال عباده، ولأجل مراعاة أحوالهم يتطلّع إليهم دائماً. ولكن لا يستقيم هذا المعنى من جهة العبد، ولا يمكن أن يقال: إنّ العبد يتفقّد ويتطلّع إلى الله ويحضر قلبه إليه، ولذا لا يجب القول: إنّ المؤمنين لديهم مودّة لله، بل يجب القول: إنّ لديهم محبّة لله.
المعنى الخامس: القربى هي الرحميّة بين الناس والمودّة بمعنى تودّد الناس لبعضهم.
المعنى الخامس: أنّ القربى وردت بنفس معنى القرابة النَسَبِيّة والرَحِميّة، ولكن لا قرابة الرسول بل قرابة الناس بعضهم لبعض. وبناءً على ذلك يصبح المعنى: أيّها النبي قل: إنّني لا أريد منكم جزاءاً ولا أجراً أبداً، إلّا أن تتوادّوا وتتحابّوا مع أرحامكم وأقربائكم.
وهذا المعنى غير سديدٍ قطعاً؛ لأنّ الإسلام قطع أرحام الجاهليّة ومنع التودّد مع الأقارب غير المسلمين، قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ
الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ}۱.
وعلى هذا الأساس فمن ضروريّات الدين أنّ الولد الكافر لا يرِث من الأب المُسلم وبالعكس، يعني: أنّ الكافر لا يرث من المسلمين في كلّ طبقةٍ من طبقات الإرث. وقد حَرَم الإسلام الكفّار في سائر الجهات الاجتماعيّة من هذه الخصائص من النكاح وغيره وإن كان عندهم صِلات قرابة مع المسلمين. وعليه كيف يمكن القول بالمودّة بشكل مطلق للأقرباء، مع أنّ مفاد الجملة الاستثنائيّة أجر مقام الرسالة.
وإذا قيل: إنّ الجملة الاستثنائيّة مخصَّصة أو مقيَّدة بالآية: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}، فينبغي الإجابة بأنّ سياق جملة: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} لا يلائم التخصيص؛ لأنّه قد بيّن أجر الرسالة في هذه الجملة وهذا المعنى له أهميّة بالغة، وإذا كان هناك تخصيص لعمومه وإطلاقه، للزم أن يُذكر.
وثانيًا: أنّ سياق الآية: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} ناظر إلى التنويه بالمؤمنين الذين مع إيمانهم بالله واليوم الآخر لم يقع حبّ الكفّار في قلوبهم، وإلى أنّ الإيمان قد كتب في قلوبهم وأنّهم سيخلدون في روضات الجنان. فإنّ هذا السياق والخطاب غير ناظر إلى جهة التخصيص في آية المودة في القربى.
والحاصل: مع أنّ الإسلام أكّد على أهمّيّة الرحم والقرابة، لكنّ ذلك كان بعنوان صلة الرحم وإيتاء المال لذوي القربى ونظائر ذلك، لا بعنوان مطلق المحبّة، بل المحبّة إليهم في ضوء المحبة لله ممدوحة، أي: في حالة كونهم مؤمنين.
لقد أورد هذه المعاني التي ذكرت في تفسير هذه الآية جمع من علماء أهل السنّة. وبالإضافة إلى ما ذُكر من جواب، يمكن القول: إنّه لا دليل على شيء من هذه المعاني، يعني: لنفرض أنّ الآية حُملت على معنى مع إمكان حملها أيضًا على معنى غيره، فعليه لا يمكن الجزم بتفسيرها بمعنى معيّن من دون دليل، لا سيّما في مثل هذه الآية التي تتناول الأجر المقابل للرسالة، ويمكن بلحاظ الأهمّيّة القول: إنّها من أهم آيات القرآن، وذلك لأنّ كلّ واحدٍ يفهم هذه الآية ويعمل على طبقها يكون قد أعطى أجر الرسالة، والذي لا يفهمها ولا يعمل على طبقها لا يكون قد أعطى أجراً ولا جزاءاً على الرسالة. بناءاً على ذلك إنّ الذي يقوم بتفسير هكذا آية بدون دليل ولا شاهد، بل على طبق رأيه وذوقه يحتاج بذلك إلى الكثير من الجرأة، لأنّه إنّما يتجرّأ على ربّه.
المعنى الصحيح للمودّة الواجبة
وأمّا بالنظر إلى العديد من الروايات الواردة من طرق أهل السنّة والأخبار المستفيضة الواردة من طرق الشيعة في تفسير الآية، فبالإضافة إلى الروايات
المتواترة عن طريق الشيعة والسنّة في الحثّ على موالاة أهل البيت عليهم السلام ومحبّتهم، يتّضح معنى الآية على أساسها أنّه: يا أيّها النبي قل: أنا لا أطلب منكم أجراً إلّا موالاة أهل بيتي.
ويتبيّن حقيقة هذا المطلب وسرّه من خلال الروايات المتواترة عن طريق الشيعة والسنّة في ضرورة إرجاع الناس إلى أهل البيت عليهم السلام في فهم القرآن المجيد وأصول معارف الدين وفروعه وفي بيان حقائق كتاب الله وفي لزوم التمسّك بهم. وعليه لا ينبغي الشك لدى الشخص المُنصِف في أنّ المراد بالمودّة في القربى: عين موالاة أهل البيت عليهم السلام التي جعلت كأجرٍ وجزاءٍ على الرسالة فتكون وسيلةً في إرجاع الناس إلى تلك الذوات المقدّسة في كشف الحقائق العلميّة ورفع المصائب الاجتماعيّة ولزوم الاعتماد على تلك الذوات الطاهرة في جلب المنافع والخيرات ورفع المشاكل.
فأيّ شخصٍ مُنصفٍ يتأمّل في الروايات الصحيحة المتواترة عن طريق الشيعة والسنّة التي نُقلت عن رسول الله- كحديث السفينة: «مَثَلُ أَهْلِ بَيْتِي كمَثَلُ سَفِينَةِ نُوحٍ مَنْ رَكِبَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا غَرِق»۱، وحديث الثقلين: «إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ الله وَعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي وَإِنَّهُمَا لَنْ يَفْتَرِقَا حَتَّى يَرِدَا
عَلَيَّ الْحَوْض»۱، وقوله صلّى الله عليه وآله: «أَنَا مَدِينَةُ الْعِلّمِ وَعَلِيٌّ بَابُهَا فَمَنْ أَرَاد الْمَدِينَة فَليَأْتِهَا مِنْ بَابِها»٢ ويُلاحِظ الكثير من الروايات الواردة في وجوب محبّتهم، لا يتردّد في أنّ وجوب المودّة والأجر للرسالة يكون في إرجاع الأمّة إليهم وفي كسب الفضائل المعنويّة منهم والاقتداء بسيرتهم وطريقتهم في جميع
مراحل الحياة: الجسميّة والروحيّة، المادّية والمعنويّة، الظاهريّة والباطنيّة، الدنيويّة والأخرويّة!
المودّة تقتضي الاتّباع والاقتداء
ولأنّ مودّة أهل البيت تستلزم اتّباعهم والاقتداء بسننهم وآدابهم وتستلزم أيضًا التعرّف على علومهم وكشف حقائق القرآن ومراتب التوحيد، لذا تصبح هذه المودّة بمنزلة بقاء للرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله ودوام وجوده المقدّس وبمنزلة سلسلة العلل الحافظة للإسلام، وأثراً من آثار النتائج الحاصلة من جهوده صلّى الله عليه وآله وسلّم التي تجشّمها، وعليه تكون حقّاً أجراً وجزاءاً على الرسالة؛ لأنّه بناءً على البيان السابق من أنّ الدّاعي من الرسالة هو وصول أفراد البشر إلى مراتب الإنسانيّة وعروجهم من سطح البهيميّة إلى مستوى البشرية والوصول إلى الأهداف الإنسانية الرفيعة والخروج من كلّ أنواع الشرك ثمّ الوصول إلى سلسلة مراتب التوحيد، فإذا سار أحد كذلك فإنّه حقّاً سيكون قد دفع أجر الرسالة. وهذا السير لن يحدث بدون الارتباط والمودّة بأهل البيت الذي له حكم بقاء وجود نفس رسول الله ودرجة نفسه النفيسة.
مع أنّه لم يشكّ أحد من المسلمين في أنّ أهل البيت هم الحامل الوحيد لعلوم الرسول الأكرم، وهذا المعنى موضع تصديق أيضًا بين علماء العامّة، كما
أنّ المسلمين الأوائل كانوا يعلمون بأنّ أهل البيت حاملوا أسرار القرآن والعلوم النبويّة وأنّهم حلّالوا المشاكل العِلميّة والعَمليّة.
لذا فالمودّة لأهل البيت والتأسّي بهم استمرارٌ للمودّة برسول الله والتأسّي به صلّى الله عليه وآله، وستحيا نفس رسول الله القدسيّة بعد ارتحاله في حياة أهل البيت، وهذه هي العلّة لعدم انفكاك القرآن عن العترة إلى قيام الساعة والورود إلى جانب حوض الكوثر، فكأنّ نفس النبي التي هي نفس وروح القرآن ستحيا وتخلّد مع كتابه الذي هو كتاب الله إلى يوم القيامة، نظير المعنى والصورة الحافظ لعالم البشريّة والهادي للبشريّة إلى مقام الكمال والسعادة.
بعض الإشكالات على هذا المعنى والردّ عليها
ولا ننسى أن نذكّر بأنّ بعضهم قد توهّم أنّ تفسير آية المودّة في القربى بأهل البيت فيها تنافٍ مع شأن النبيّ؛ لأنّه يقرّ بوجود أفضليّة لأرحامه وأقربائه الخواصّ في مقابل الرسالة ويكون قد جرّ المنفعة إلى خلفائه من أهل البيت. ويشهد له التنافي مع الآيات القرآنيّة التي دلّت أوّلًا على أنّ تمام الأنبياء ما أرادوا شيئاً من الأجر والجزاء من أُممهم، وأنّ قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ}۱ يفيد أنّ النبيّ لم يطلب الأجر والجزاء.
وفيه نظرٌ من عدّة جهات:
الأوّل: أنّه بحسب الدليل الذي ذكرناه سابقاً يلاحظ أنّ المودّة في القربى هي نفس الوصول إلى الله سبحانه، كما يدلّ عليه قوله تعالى: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا}۱، والوصول إلى الله عين مودّة ومحبّة أهل البيت عليهم السلام كما أنّه منحصر في محبّتهم، ولم يتعلّق بنفس النبي، بل تعلّقت منافعه بالناس والأمّة.
وعليه فما ذُكر من أنّ الأجر والجزاء في الحقيقة مفاده عود المنفعة والفائدة بطرف الإنسان في إزاء العمل الذي قد قام به ليس متحقّقاً هنا، والاستثناء منقطع، وهذا المعنى توضّحه الآية المباركة: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ}٢، أي: قل يأيّها النبي بأنّ الأجر الذي سألتكم عنه يكون لكم، وعليه ففائدة مودّة ذوي القربى ستعود عليكم وأجري ومجازاتي فقط على الله سبحانه.
الثاني: أنّه على أساس هذا المعنى فالمخاطب في هذه الآية هم المسلمون والآية مدنيّة. فكيف يمكن للمسلمين أن يحدثوا أوهاماً من هذا القبيل بعد
إيمانهم بالرسول الأكرم وتصديقهم بعصمته ومشاهدتهم جميع مراتب عظمة وسعة الروح وعلوّ المقام؟!
فإذا كان هذا المعنى مخالفاً لمرتبة النبوّة مع سخافة هذه الاتّهامات فلا يجب الحكم والتصديق به. ومع أنّه لو قيل به للزم القول بمنافاة سائر الامتيازات للرسول الأكرم التي دلّت الآيات القرآنيّة عليها من قبيل وجوب الإطاعة المطلقة والتسليم المحض في قبال أوامره، وكاختصاص الأنفال والغنائم به واختصاص الخمس بذوي القربى، واختصاصه بالأمر الذي أبيح له في مسألة النساء، وستكون هذه الأحكام مخالفة للواقع ومنافية لشأن الرسول صلّى الله عليه وآله، مع أنّه لا قائل بذلك.
الثالث: أنّه لنفرض أنّنا صرفنا النظر عن معنى الآية ولم نفسّر قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} على وجوب المودّة لأهل البيت (دفعاً لهذا الاتّهام)، لكن ما محلّ الأخبار المتواترة الخارجة عن العدّ والإحصاء من طرق السنّة والشيعة الصريحة في وجوب المودّة لأهل البيت عليهم السلام؟!
فإذا التزمنا بأنّ وجوب المودّة لأهل البيت يكون منافياً لشأن الرسالة فما الفرق بين أن تدلّ آية قرآنيّة على ذلك، أو إخبار الرسول من غير طريق القرآن؛ لأنّه بناءً على الفرض فإنّ نفس الدّعوة إلى أهل البيت وإلزام الأمّة بوجوب مودّتهم مستلزمة للمحذور، لا خصوص دلالة القرآن!
والحاصل فإنّ قرب أهل بيت الرسالة من النبي الأكرم لا يقتصر على القرب المادّي والجسمي، بل يتعدّاه إلى القرب الروحي والحقيقي به. وظاهر هذه العلّة يقتضي أنّهم كانوا من جميع الجهات نفس النبيّ وأثره الظاهر في المراتب العلميّة والأخلاقيّة والمعنويّة، فالرجوع إليهم في حكم الرجوع إلى نفس رسول الله وإلى أجر الرسالة.
دلالة الأحاديث والروايات الواردة في المقام
يروى الكلبي عن ابن عبّاس أنّه قال:
إنّ النبيّ صلّى الله عليه و [وآله] سلّم لمّا قَدِم المدينة كانت تعروه نوائبٌ وحقوق وليس في يده سَعة، فقال الأنصار: إنّ هذا الرجل قد هداكم الله على يده، وهو ابن أُختكم وجاركم في بلدكم، فاجمعوا له طائفة من أموالكم ففعلوا ثمّ أتوه به فردّه عليهم، فنزل قوله تعالى: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: على الإيمان إلّا أن تودّوا أقاربي فحثّهم على مودّة أقاربه۱.
كما قد ورد في تفسير الآلوسي أنّه روى ذاذان عن عليّ كرّم الله وجهه قال:
فينا في آل حم۱ آيةٌ لا يحفظ مودّتنا إلّا مؤمن. ثمّ قرأ هذه الآية.
ثمّ أردف قائلًا: وإلى هذا أشار الكميت في قوله:
وجدنا لكم في «آل حم» آية | *** | تأوّلها منّا تقيّ ومُعرب٢ |
وفي تفسير مجمع البيان يروي بإسناده المتّصل عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال:
لمّا نزلت {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً}- (الآية)، قالوا: يا رسول الله، من هؤلاء الذين أمرنا الله بمودّتهم؟ قال: علي وفاطمة ووُلدهما.٣
وينقل عين هذا الحديث أيضًا في ينابيع المودّة عن مسند أحمد بن حنبل بإسناده عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.٤
وقال الزمخشري في تفسير الكشّاف:
رُوي أنّها لمّا نزلت، قيل: يا رسول الله، من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليٌّ وفاطمة وابناهما».
ويروي أيضا في ينابيع المودّة عن صحيحي البخاري ومسلم: سأل ابن عبّاس عن هذه الآية، فقال سعيد بن جبير: هي قربى آل محمّد صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.
ويروي في تفسير مجمع البيان بإسناده عن كتاب «شواهد التنزيل لقواعد التفصيل» مرفوعاً عن أبي أُمامة الباهلي قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله]: إنّ الله تعالى خلق الأنبياء من أشجار شتّى وخُلقت أنا وعلي من شجرة واحدة، فأنا أصلها، وعلي فرعها، وفاطمة لقاحها، والحسن والحسين ثمارها وأشياعنا أوراقها، فمن تعلّق بغصنٍ من أغصانها نجا، ومن زاغ عنها هوى. ولو أنّ عبداً عبد الله بين الصفا والمروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ
ألف عام حتّى يصير كالشنّ البالي ثمّ لم يدرك محبّتنا كبّه الله على منخريه في النار. ثمّ تلا: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}۱.
وخرّج الآلوسي في تفسيره عن ابن جرير عن أبي الديلم قال:
لمّا جيء بعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أسيراً فأقيم على درج دمشق قام رجل من أهل الشام فقال: الحمد لله الذي قتلكم واستأصلكم فقال له علي رضي الله تعالى عنه: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أقرأت آل حم؟ قال: نعم قال: ما قرأت {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم٢.
كما ورد في كتاب إرشاد المفيد: عندما وصل خبر شهادة سيّد الشهداء وأولاده وأصحابه إلى المدينة، خرجت أُمّ لقمان بنت عقيل بن أبي طالب (رحمة الله عليهم) حين سمعت نعي الحسين عليه السلام حاسرةً ومعها أخواتها: أُمّ هانىء وأسماء ورملة وزينب، بنات عقيل ابن أبي طالب رحمة الله عليهنّ تبكي قتلاها بالطفّ وهي تقول:
ماذا تقولون إن قال النبي لكم | *** | ماذا فعلتم وأنتم آخر الامم |
بعترتي وأهلي بعد مفتقدي | *** | منهم أسارى وقتلى ضُرّجوا بدم |
ما كان هذا جزائي إذ نصحت لكم | *** | أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي۱ |
المجلس الرابع: القرابة هم سفينة النجاة
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ٩ جمادى الاولى ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}۱
بيان الزمخشري وتفسيره لآية المودّة: القربى هم أهل البيت
سبق أن قدّمنا عرضاً بالمعاني المختلفة لتفسير هذه الآية المباركة المنقولة عن أرباب التفسير من أهل السنّة، كما استوفينا الردّ عليها. ولكن إمام المفسّرين
عندهم جار الله محمود بن عمر الزمخشري المتوفى سنة ٥٣۸ هجريّة فسّر هذه الآية المباركة في تفسيره «الكشّاف» بمحبّة ومودّة أهل البيت عليهم السلام، كما فسّرناها نحن سابقاً؛ طبقاً للأحاديث المتواترة عن الشيعة والسنّة في ذلك. قال: إنّ الاستثناء سواء كان متّصلًا أم منفصلًا، فالمراد من أهل القربى هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله. وهذا نص عبارته:
«يجوز أن يكون استثناءً متصلًا، أي: لا أسألكم أجراً إلّا هذا، وهو أن تودّوا أهل قرابتي، ولم يكن هذا أجراً في الحقيقة؛ لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمةً لهم في المروءة. ويجوز أن يكون منقطعاً، أي: لا أسألكم أجراً قطّ، ولكنّني أسألكم أن تودّوا قرابتي الذين هم قرابتكم ولا تؤذوهم. فإن قلت: هلّا قيل: إلّا مودّة القربى أو إلّا المودّة للقربى وما معنى قوله {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}؟ قلتُ: جعلوا مكاناً للمودّة ومقراً لها كقولك: لي في آلفلان مودّة ولي فيهم هوى وحبّ شديد، تريد: أحبّهم وهم مكان حبّى ومحلّه، وليست «في» بصلةٍ للمودّة، كاللام إذا قلت: إلّا المودّة للقربى. إنّما هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به كما في قولك: المال في الكيس، وتقديره: إلّا المودّة ثابتة في القربى ومتمكّنة فيها، والقربى: مصدرٌ كالزلفى والبشرى، بمعنى: قرابة، والمراد: في أهل القربى».۱
وبعد ذلك يشرع الزمخشري في بيان الأحاديث التي وردت في تفسير هذه الآية وغيرها بمحبّة أهل بيت الرسول صلى الله عليه وآله ويذكرها. ويلاحظ أنّ الزمخشرّي يفسّر الآية بأنّه يجب على المسلمين أن يجعلوا أهل البيت محلًاّ ومقرّاً لمحبّتهم، وأن يثبّتوا مودّتهم تجاه تلك النفوس المقدّسة.
دلالة حديث السفينةعلى لزوم اتّباع أهل البيت عليهمالسلام
نعم، فهذه هي حقيقة المسألة طبقاً للأحاديث المسلّمة والمتواترة التي يرويها الشيعة والسنّة عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من قبيل قوله:
«مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركب فيها نجى، ومن تخلّف عنها غرق».۱
وهذا الحديث الذي يُشبِّه العلاقة والارتباط والمودّة لتلك الذوات المطهّرة بسفينة نوح، والوارد بلفظ «في» التي هي بمعنى الظرفيّة، والتي ذُكرت
كذلك في الآية المباركة: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} هو حديث في غاية الروعة وجدير بالتأمّل.
فلا شكّ في أنّ سفينة نوح التي صنعت بيدي النبيّ نوح عليه السلام، كانت سفينة أمن ونجاة بحيث أنّ كل من ركب فيها نجا بنفسه إلى السلامة، وكلّ من لم يركب فيها أصيب بالهلاك. ففي الطوفان الذي ملأ العالم كلّه مع أمواج الآفات السماوية والأرضيّة التي كانت تقبل من كل ناحية وصوب، ومع الرياح العاصفة والأمطار الغزيرة التي كانت تهدّ وترعد، كان الماء يتفجّر من الأرض، والسماء تهطل بالشلالات الغزيرة، مع كل ذلك كانت سفينة نوح وسيلة النجاة الوحيدة؛ لأنّها كانت سفينةً واحدةً ولم يكن سواها.
لقد كانت السفينة محكمةً ثابتةً بحيث لم تتحطّم على أثر الطوفان، ولم يكن ليؤثّر فيها تيّار الطوفان وطغيان الماء الذي لم يرحم أحداً، فدمّر البيوت وأفنى أصحابها، حتّى أغرق اللاجئين إلى أعالي الجبال كابن النبيّ نوح، لقد نجا كل ركّاب تلك السفينة ولم يصب أيّ منهم بمكروه، مع أنّ هؤلاء الذين ركبوا في السفينة بدعوة من النبيّ نوح عليه السلام كانوا سيغرقون بأجمعهم فيما لو تخلّفوا، وما كان طغيان البلاء ليتأخّر عن إبادتهم.
وقد أدرك خاتم الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه وآله أنّ أهل بيته هم سفينة النجاة. كيف لا؟ وهو نوح الحقيقة والمعنى، وهو منجي عالم
البشرّية من دوّامة بلاء الجهل والغرور والطمع والاستكبار، وحبّ الذات والجحود، والإنكار والشهوة والغضب، وهو مخلّص الناس في النهاية من ظلمة عبادة الأنا والآخذ بأيديهم إلى حريم أمن عبادة الله وأمانه، أدرك ذلك ببصيرته وبنور قلبه المنوّر بمقتضى قوله تعالى: {ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى ، لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى}۱.
ومولى الموالي أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه هو خلاصة روح النبيّ ونفسه وهو أخوه وسرّه. كيف لا؟ وهو الذي ولد في بيت الله الحرام، وفتح عينيه من أول يوم على طلعة الجمال المحمّدي، وتربّى في أكناف النبيّ صلّى الله عليه وآله، ولم يسجد لصنم قطّ، وهو أول من صّدق بالإسلام، وكان ملازماً للنبيّ في كل المراحل في الخلوات والجلوات، وفي الهجرة والغزوات، وكان تالي النبي في العلوم والمعارف والأسرار الإلهيّة، وفي مقام تعليم البشر وتربيتهم وإيصالهم إلى مقام الفوز والسعادة، وكان باب مدينة علم ذاك النبيّ وحكمته. قال: «ولقد كنت أتّبعه إتّباع الفصيل أثر أمّه، يرفع لي في كلّ يومٍ من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به».٢ حتّى صار الإسلام مديناً ورهيناً لجهاده وتضحياته، ولذا قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: «خلقت أنا وعلي من
شجرةٍ واحدةٍ»۱، كما ورد عن نفس أمير المؤمنين في نهج البلاغة أنّه قال: «وأنا من رسول الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد».٢
وأمّا الصدّيقة الكبرى السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام فهي أيضًا سرّ أبيها ووارثة حقائقه ومعنوياته، وفضائله وكمالاته، بالإضافة للحسنين سيدي شباب أهل الجنّة، وأولاد هؤلاء العظام حاملوا لواء الولاية والمقام المحمود، فهؤلاء جميعهم هم بمنزلة سفينة نوح عليه السلام.
فكلّ من أخذ بنفسه إلى هذه السفينة وأدلى بقلبه فيها ووضع رأسه على عتبتها وأحبّهم بروحه وقلبه، واتّبعهم وأدرك أنّهم القدوة والقادة والمرشدون والمعلّمون في تمام شؤون الحياة الدنيويّة منها والأُخرويّة، الظاهريّة والباطنيّة وانقاد لهم وتأدّب بسننهم، فإنّه سينجو من أذى الحوادث الماديّة والمعنويّة وسيصل إلى مقام الأمان.
وكل من تخلّف عنهم تقاذفه تيّار الأفكار الشيطانيّة والخواطر النفسيّة والأهواء الباطلة المضلّة تقاذف الأمواج وساقه إلى فخّ الهلاك، وسدّ طريق النجاة أمامه، ومهما بحث عن الدواء والعلاج فلن يكون له من نصيب سوى الحرمان، وما من صديق يتّخذه يريد الأنس به إلّا كان عدواً لروحه، حتّى
يصاب بالبوار بين الأمواج العاتية والمصائب اللامتناهية الناجمة عن الأنانيّة والاعتداد بالنفس ليتّجه بعدها نحو جهنّم.
الفخر الرازي: حديث السفينة لا يعارض حديث «أصحابي كالنجوم»
يقول الفخر الرازي في تفسيره:
«وسمعت بعض المذكّرين قال: إنّه صلّى الله عليه [وآله] وسلّم قال: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح؛ من ركب فيها نجا» وقال صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: «أصحابي كالنجوم؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم». ونحن الآن في بحر التكليف وتضربنا أمواج الشبهات والشهوات، وراكب البحر يحتاج إلى أمرين أحدهما: السفينة الخالية عن العيوب والثقب، والثاني: الكواكب الظاهرة الطالعة النيرة، فإذا ركب تلك السفينة ووقع نظره على تلك الكواكب الظاهرة كان رجاء السلامة غالباً، فكذلك ركب أصحابنا أهل السنّة سفينة حبّ آل محمّد ووضعوا أبصارهم على نجوم الصحابة، فرجوا من الله تعالى أن يفوزوا بالسلامة والسعادة في الدنيا والآخرة»۱- إلى هنا انتهى كلام الفخر الرازي.
وكذلك ينقل الآلوسي هذا المطلب عن الفخر الرازي في تفسيره ويؤيّده.۱
والخلاصة أنّهم يقولون: إنّ كلام الرسول الأكرم في حقّ أهل البيت بأنّهم كسفينة نوح من ركبها نجى ليس كافياً وحده؛، فالمحبّة والاقتداء بأهل البيت لا تأخذ وحدها بيد الإنسان؛ لأنّ النبي كان قد قال بالإضافة إلى ذلك: «أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم». لذا علينا أن نتمسّك كذلك بسيرة أصحاب الرسول وأن نقتدي بهم بأيّ شكل وعنوان؛ فهم نجوم السماء؛ لأنّ المسافر في السفينة لا ينتفع من الجلوس فقط في السفينة، بل عليه أن يعمل نظره في السماء ويبحث عن النجمة الدالّة على الطريق ويتحرّك على أساسها.
الأدلّة الدالّة على ضعف الاستدلال بحديث «أصحابي كالنجوم»
أوّلًا: ضعف سنده
ولكن هذا الاستدلال باطلٌ من عدّة جهات، وهو لا يعدو أن يكون مغالطة؛ أوّلًا: لأنّ رواية: «أصحابي كالنجوم؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم» ليست
أكثر من حديث مجعول، فهذا الحديث لم يعثر عليه في كتاب من كتب الشيعة، بالإضافة إلى عدم صحّة سنده في روايات أهل السنّة.
فعندما أرادوا بعد رحلة رسول الله أن يحرفوا مسير هداية الناس ويبعدوهم عن أهل بيت الرسالة- مع وجود الآلاف من الروايات في بيان فضائل أمير المؤمنين عليه السلام التي سمعوها عن رسول الله بأنفسهم- وعندما أرادوا أن يكونوا هم المسؤولين عن زعامة المسلمين وذلك تبعاً لأهوائهم، قاموا بجعل الحديث عن رسول الله بأنّ أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم. وبهذه الرواية أرادوا أن يبرّروا مخالفاتهم وانحرافاتهم، غافلين عن أنّ التاريخ التحليليّ والأبحاث النقديّة سوف لن تبقي شأناً لاختلاقاتهم.
وبعد أن يروي المرحوم المجلسي أخباراً كثيرة عن رسول الله على خلافة ووصاية أمير المؤمنين عليه السلام، نقل عن الفخر الرازي رواية في تفسير آية {إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ}۱ عن ابن عبّاس وهذا نصّها:
«قال ابن عبّاس: وضع رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم يده على صدره فقال: «أنا المنذر!» ثمّ أومأ إلى منكب عليّ وقال: «أنت الهادي! يا عليّ بك يهتدي المهتدون من بعدي»٢- انتهى.
بعد ذلك يشرح هذه الرواية ويقول:
وبهذه الأخبار يظهر أنّ حديث: «أصحابي كالنجوم؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم» من مفترياتهم، كما اعترف بكونه موضوعاً شارح الشفا وضعّف رواته، ونحوه ابن حزم والحافظ زين الدين العراقي. وسيأتي القول في ذلك إن شاء الله تعالى.۱
ثانياً: معارضته لصريح الآيات القرآنيّة
وثانيًا: أنّ حديث الاقتداء بالصحابة واتّباعهم منافٍ بشكل صريح للآيات القرآنيّة؛ فهم يعلمون أنّ تصريح القرآن بالاقتداء منحصر في الأنبياء والأئمّة المعصومين والأولياء المقرّبين المجرّدين عن كلّ نوع من الأهواء النفسيّة، ولا يجوز بأيّ وجه من الوجوه الاقتداء بالأفراد الذين لم يخرجوا بعد من أهواء النفس، ولم تتنوّر قلوبهم بعدُ بنور الله، خصوصاً في إطار الولاية الشرعيّة والزعامة الدينيّة والرياسة العامّة وخلافة رسول الله.
شواهد قرآنيّة تبيّن لمن تكون التبعيّة والانقياد
وسنقوم الآن بذكر بعض الشواهد من آيات القرآن من باب المثال:
أولًا: من الوصايا التي يوصي بها المولى الإنسانَ؛ الاقتصار على اتّباع طريق الذين أنابوا إليه وسلّموا له قلوبهم، {وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ}۱.
ثانيًا: إنّ الله تعالى ما تحدّث في القرآن عن الإمامة والزعامة إلّا وجعلها مقارنة لاهتداء الإمام بأمر الله، وجعل هداية الإمام ملازمة لهداية الله،. فبعد أن بيّن في سورة الأنبياء حالات الأنبياء إبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب يقول: {وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ}٢، فيلاحظ أنّه اعتبر جنبة الإمامة والزعامة ملازمة لهدايتهم بأمر الله سبحانه.
ويقول في موطن آخر في حقّ بني إسرائيل عندما بعث النبي موسى إليهم بكتابه السماويّ وجعله مصباح هدايتهم: {وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ}٣.
ثالثاً: قال الله سبحانه على سبيل الاستفهام التقريري: {أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.٤
ويلاحظ هنا: أنّ الله قابل بين الهداة إلى الحق وبين الأفراد الفاقدين للهداية الذاتيّة والإلهام، بل هم مهتدون بواسطة غيرهم. بناءً على ذلك يتّضح أنّ المجموعة الأولى فقط هي القادرة على هداية الناس إلى الحقّ وهم أصحاب الهداية الذاتيّة والإلهاميّة، وقلوبهم منوّرة بنور الله فيميّزون بين الحقّ والباطل بالفرقان الإلهي وقدرة الإلهام.
رابعاً: أنّه ورد في ثلاثة مواضع من القرآن: {وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}۱، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ}٢، {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي}٣. ومن المعلوم أنّ من لم يكن قد اهتدى الطريق فكيف يمكنه أن يأخذ بأيدي الضالين؟
فمن لم تُفتح عين بصيرته ولم يرَ جمال الله في كلّ الموجودات بعين الوحدانيّة ومن لم يزل سجين قفص الأوهام والأنانيّة، فهل يستطيع أن يقود مخلوقات الله تعالى إليه؟ وهل سيتمكّن بواسطة رؤية بصيرته وتفحّصه وجاذبيّته الروحيّة أن يهب البصيرة للعمي التائهين فيقودهم في طريق السعادة والتوحيد الرحب؟ {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ}٤.
خامساً: لقد خاطب الله سبحانه نبيّه قائلًا: {وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً}۱. ومع أنّ الخطاب موجّه إلى النبيّ إلّا أنّ من الواضح أنّ ملاك الخطاب عامّ، وعلى كلّ مسلم أن يجتنب اتّباع كلّ من أغفل قلبه عن ذكر الله وانقاد وراء هوى نفسه، سواء أكان من صحابة رسول الله أم من غيرهم.
فإذا ركن بعض الصحابة إلى اتّباع أهواء النفس فهل من الممكن الاقتداء بهم؟ يقول سبحانه وتعالى: {وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}٢. يعدّ الله سبحانه وتعالى الأفراد الذين يتّبعون أهواء نفوسهم من أضلّ أفراد البشر، و لا فرق هنا بين أن يكونوا من الصحابة أو من غيرهم. فعلى كلّ حالٍ بموجب نصّ القرآن الصريح يكونون ضالّين، ولا يمكن للضّال أن يقوم بالهداية.
بناءً على ما ذكر، وبموجب الآيات المتقدّمة كيف يصحّ أن نصدّق بأنّ النبي الأكرم قال: (اقتدوا بكلّ واحدٍ من أصحابي، واتّخذوهم قدوة لكم، فهم الهادون لكم؟). لقد كان بين الصحابة أفراد جديرون ومؤمنون ذوو بصيرة، كما كان بينهم ضالّون ومنافقون، كما كان بينهم أفراد عوام آمنوا ولمّا يرسخ الإيمان
في قلوبهم، فمع انقسامهم إلى هذه الأقسام، هل يصحّ أن يقول الرسول صلى الله عليه وآله للناس: (اقتدوا بأيّ واحد من أصحابي وستدركون طريق الكمال وستصلون إلى الصلاح والسعادة؟).
نبذة عن فضائل بعض الصحابة ومناقبهم
ونجد أنفسنا هنا مضطرّين لأن نبيّن بعضاً من الأحاديث والوقائع ذات الدلالة على عظمة روح بعض الصحابة وعلوّ قدرهم ومنزلتهم، وكذلك الأحداث والوقائع التي تدلّ على ضعف إيمان بعضهم أو نفاقهم، حتّى يصير واضحاً بأنّ بينهم الصالح والطالح ولم يكونوا كلّهم قطعة طاهرة ومطهّرة.
وقد ورد كذلك في موارد مختلفة من القرآن الكريم آيات في تمجيد ومدح بعضهم، غير أنّا سنكتفي ببعض الأحاديث التي جاءت في فضلهم وشرفهم:
أولًا: نُقل عن أمالي الشيخ الطوسي بإسناده المتّصل عن الإمام الباقر عليه السلام: قال:
«صلّى أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب عليه السلام بالناس الصبح بالعراق، فلمّا انصرف وعظهم فبكى وأبكاهم من خوف الله تعالى، ثم قال: أمَ والله لقد عهدت أقواماً على عهد خليلي رسول الله صلّى الله عليه وآله وإنّهم ليصبحون ويمسون شعثاً غبراً خمصاً بين أعينهم كركب
المعزى، يبيتون لربّهم سجّداً وقياماً، يراوحون بين أقدامهم وجباههم۱ يناجون ربّهم، ويسألونه فكاك رقابهم من النار، والله لقد رأيتهم وهم جميع٢ مشفقون منه خائفون».٣
ثانيًا: ورد في نهج البلاغة:
«لقد رأيت أصحاب محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فما أرى أحداً منكم يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً قد باتوا سجّداً وقياماً، يُراوحون بين جباههم وخدودهم، ويقفون على مثل الجمر من ذكر معادهم، كأنّ بين أعينهم من ركب المعزى من طول سجودهم، إذا ذكر الله سبحانه هملت أعينهم حتّى تبلّ جيوبهم، ومادوا كما يميد الشجر يوم الريح العاصف؛ خوفاً من العقاب ورجاءً للثواب».٤
ثالثاً: نُقل عن الطبري أنّه:
رُوي أنّه لمّا نُسخ فرض قيام الليل طاف النبي صلّى الله عليه وآله ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون حرصاً على كثرة طاعاتهم فوجدها كبيوت الزنابير لما سمع من دندنتهم٥ بذكر الله والتّلاوة.٦
رابعاً: ورد في نهج البلاغة في خطبة لأمير المؤمنين:
«أين إخواني الذين ركبوا الطريق ومضوا على الحق؟! أين عمّار؟ وأين ابن التّيّهان؟ وأين ذو الشهادتين؟ وأين نظراؤهم من إخوانهم الذين تعاقدوا على المنيّة وأُبرد برؤوسهم إلى الفجرة؟».۱
فأمير المؤمنين يذكر هنا عمّار بن ياسر وابنّ التيهان (مالك بن التيهان الذي كانت كنيته أبو الهيثم) وأبو عمارة خزيمة بن ثابت الأنصاري الأوسي الذي عدّ رسول الله شهادته بشهادة رجلين، وجميعهم كانوا من كبار الصحابة وأجلائهم، وكان يتحسّر في حرب صفّين على فقدانهم وشهادتهم. ثم قبض على محاسنه الشريفة وبكى طويلًا ثم قال:
«أوه! على إخواني الذين تلوا القرآن فأحكموه، وتدبّروا الفرض فأقاموه، أحيوا السنّة وأماتوا البدعة، دُعوا للجهاد فأجابوا، ووثقوا بالقائد فاتّبعوه».
نعم، لقد كان هؤلاء الأفراد من نخبة صحابة رسول الله الذين قاتلوا بإيمانهم الراسخ إلى جنب مولى الموالي حتّى آخر لحظة حيث أسلموا أرواحهم بين يديه.
ثالثاً: الأدلّة على ارتداد بعض الصحابة وضلالهم
وأمّا الطائفة الاخرى من الصحابة الذين لم يصلوا إلى مرحلة اليقين وكان إيمانهم ظاهرياً ولربما اقترن بالنفاق أحياناً، فحالاتهم كانت مختلفة، ويبيّن القرآن والروايات مقداراً من حالاتهم، ونذكر بعض قصصهم من باب المثال:
الأوّل: واقعة صلاة الجمعة
أوّلًا: ورد في تفسير الآية المباركة {وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً} أنّ جابربن عبد الله الأنصاري قال: أقبلت عير ونحن نصلّي مع رسول الله صلّى الله عليه وآله الجمعة، فانفضّ الناس إليها، فما بقي غير اثني عشر رجلًا أنا فيهم، فأنزل الله هذه الآية. وتوضيح ذلك أنّ العادة اتّفقت في ذلك الزمان أن تسافر القوافل إلى الشام أو مناطق أُخرى لكي يحضروا معهم الوسائل الضروريّة من القمح والشعير والألبسة وغيرها، وعند وصول القافلة إلى المدينة كانوا يقرعون الطبول حتى يطّلع الناس على وصولهم ويشتروا احتياجاتهم منها قبل نفاذ الكمية. وصادف ذلك أنّ النبي صلّى الله عليه وآله كان يصلّي الجمعة۱ أو يخطب يوم الجمعة٢ فدخلت قافلة ووصل صوت قرع الطبول إلى المسجد، فلمّا رأى المصلّون القافلة قاموا إليها بالبقيع خشية أن يسبقهم أحد إليها، فلم يبق مع النبي
صلّى الله عليه وآله إلّا رهط، اثنا عشر شخصاً أو إحدى عشر شخصاً أو ثمانية أشخاص.۱ عندها نزلت الآية: {وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}٢، ثمّ خاطب النبيّ الذين بقوا: «لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحد منكم لسال بكم الوادي ناراً».
فمن هذه القضية يتبيّن كم كان بعض الصحابة لا يبالون برسول الله وبالصلاة؟! وإلى أيّ حدّ كانوا متعلّقين بالتجارة واللهو؟!
الثاني: قضيّة الأحزاب وفشل الأصحاب
ثانيًا: ذكرت التفاسير أنّه عندما عبر عمرو بن عبد ودّ الخندق بفرسه في غزوة الأحزاب، وقف أمام جيش رسول الله يريد مبارزاً، فلم يكن أحد مستعداً للمبارزة غير أمير المؤمنين عليه السلام، وقد رأى الجميع أنفسهم في الذلّ والضعف.
لقد كان جوّ الحرب مثيراً للرعب، فقد تحالفت كافّة القبائل والأحزاب ضدّ رسول الله وصارت أطراف المدينة كلّها محاصرة بهم، وقد عبر الخندق وطلب المبارزة أقوى وأشجع فرسانهم الذي يُعدّ بألف فارس. وعندها شحبت ألوان
الصحابة، وتغيّرت وجوههم، وفزعت قلوبهم إلى الحدّ الذي كادت أن تزهق أرواحهم، وظنّوا بالله سوءً، و تلقّوا وعد رسول الله صلّى الله عليه وآله إيّاهم بالنصر بحالة من اللامبالاة والاستخفاف.
{إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا ، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا}۱، وكان هناك جماعة من الأصحاب المنافقين في باطنهم ومن الذين لا تخلو قلوبهم من مرض الشرك، فظنّوا أنّ وعود الرسول وعود كاذبة، {وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}٢، كما أنّ هناك جماعة من أهل المدينة وقفوا أمام الجموع وقالوا: يا أهل يثرب ليس هذا المكان بموضع إقامة لكم، عودوا إلى بيوتكم، وكان هناك من يستحيي أن يرجع بغير عذر فجاؤوا إلى رسول الله والتمسوا لأنفسهم عذراً، واستجازوا منه الرجوع بحجّة عدم وجود الراعي لعيالهم وبيوتهم، فكانوا يتركون رسول الله في هذا الظرف العصيب، وقد أخبر الله تعالى عن كذبهم فقال: {وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً}٣.
كان هذا مجمل قضيّة الأحزاب، ففي مثل هذا الظرف قال بعض الصحابة بأنّ الأعداء يريدون محمّداً فقط، تعالوا ندفع إليهم محمّداً وننجو بأنفسنا. فعندها قام النبيّ خطيباً ثلاث مرّات ودعاهم إلى الجهاد والدفاع ومبارزة عمرو بن عبد ودّ، فلم يقدم أحد في هذه المرّات الثلاث لمواجهته غير مولى الموالي أمير المؤمنين عليه السلام الذي نهض قائماً وأظهر استعداده في كلّ مرّة، إلى أن قام بطلب الإذن للمبارزة من الرسول الأكرم وقتل الأعداء وتحقّق الفتح على يديه. وقد اتّفقت تفاسير الشيعة والسنّة على هذه القضيّة واعترف بها الجميع.
الثالث: فشل الصحابة في الالتزام بكلام النبيّ وأحكامه
ثالثاً: أوردت التفاسير۱ أنّ الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله أعطى وعداً لأصحابه بفتح مكّة. ففي السنة السادسة من الهجرة النبويّة في شهر ذي القعدة عزم النبيّ صلّى الله عليه وآله من المدينة مع جماعة من أصحابه على حجّ بيت الله الحرام، وقاموا بأخذ جمالهم للتضحية بها وقطعوا الطريق محرمين حتّى وصلوا إلى أرض الحديبيّة قرب مكّة.
ولكن عندما علمت قريش بقصد النبي، مانعت وبشدّة من دخولهم مكّة بحيث كادت أن تشتعل حرب بينهما. وفي النهاية وبعد المحاورات الكثيرة
واللقاءات المتعدّدة من رؤسائهم مع النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله أدركوا أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله لا يريد الحرب وأنّه أتى مع أصحابه محرمين مصطحبين جمالهم بقصد الحجّ والزيارة، وعليه جرى الصلح بينهم وبين النبيّ في أرض الحديبيّة على مقربة من مكّة.۱
وكان من جملة بنود هذا الصلح أن لا تقع حرب فيما بينهم مدّة عشر سنوات، وأنّ للصحابة أن يدخلوا مكّة آمنين عند حجّهم أو عمرتهم، كما أنّ للمشركين أن يدخلوا المدينة آمنين، كما تقرّر أن يأتي النبيّ مكّة في السنّة المقبلة لا أن يدخلها في هذه السنة. وبعد إمضاء الصلح عزم النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله مع المسلمين الحاضرين معه على العودة إلى المدينة. وعندها أمر النبيّ المسلمين بأن يحلقوا رؤوسهم ويضحّوا بجمالهم هناك وبذلك يُحلّوا إحرامهم٢. فوقع هذا الأمر ثقيلًا على قلوب الكثير من الصحابة ولم يكونوا مستعدّين لتقديم الأضاحي وحلق الرؤوس.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله لأصحابه: «انحروا بدنكم واحلقوا رؤوسكم» فامتنعوا وقالوا: كيف ننحر ونحلق ولم نطف بالبيت ولم نسع بين الصفا والمروة؟ فاغتمّ رسول الله صلّى الله عليه وآله من ذلك، وشكى ذلك إلى
أُمّ سلمة فقالت: يا رسول الله، انحر أنت واحلق، فنحر رسول الله صلّى الله عليه وآله وحلق، فنحر القوم على حيث۱ يقين وشكّ وارتياب.٢
ولذلك قال رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم: «يرحم الله المحلّقين». قالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلقين». قالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ قال: «يرحم الله المحلّقين». قالوا: والمقصّرين يا رسول الله؟ قال: «والمقصّرين». فقالوا: يا رسول الله، فلم ظاهرت الترحيم للمحلقين دون المقصرين؟ قال: «لم يشكّوا».٣
فلمّا التأم الأمر ولم يبق إلا الكتاب، وثب عمر بن الخطاب، فأتى أبا بكر ليشكوَ إليه هذه المسألة وعدم الدخول إلى مكّة والتضحية والحلق في الصحراء وبأنّ شروط الصلح لم تكن في صالح المسلمين فقال له: يا أبا بكر، أليس برسول الله؟
وبعد أخذ وردّ مع أبي بكر أتى رسولَ الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم فقال: يا رسول الله، ألست برسول الله؟ قال: «بلى». قال: أولسنا بالمسلمين؟ قال: «بلى». قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: «بلى». قال: فعلام نعطى الدنيّة في ديننا؟ قال: «أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره، ولن يضيعني»۱. قال عمر قلت له: أولست كنت تحدّثنا أنّا سنأتي البيت ونطوف حقّاً؟ قال: «بلى أفأخبرتك أن نأتيه العام؟». قلت: لا. قال النبيّ: «فإنّك تأتيه وتطوف به».
يقول عمر: والله ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذٍ.٢
ويلاحظ هنا أنّ الذين شكّوا بنبّوة النبي وامتنعوا من التضحية والحلق كلّهم كانوا أصحاب رسول الله مع أنّ جميعهم خالف نصّ الرسول الصريح وأمره.
الرابع: محاولة بعض الصحابة التنكيل بالنبيّ
رابعاً: ينقل في كتاب دلائل النبوّة للشيخ أبي بكر أحمد البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ وذكر الاسناد مرفوعاً إلى أبي الأسود عن عروة أنّه قال: لمّا رجع رسول الله صلّى الله عليه وآله قافلًا من تبوك إلى المدينة حتّى إذا كان ببعض الطريق مكر به ناس من أصحابه، فتآمروا أن يطرحوه من عقبة في الطريق التي
أرادوا أن يسلكوها معه، فأخبر رسول الله صلّى الله عليه وآله خبرهم، فقال: من شاء منكم أن يأخذ بطن الوادي فإنّه أوسع لكم، فأخذ النبي صلّى الله عليه وآله العقبة، وأخذ الناس بطن الوادي إلّا النفر الذين أرادوا المكر به، استعدوا وتلثّموا وأمر رسول الله صلّى الله عليه وآله حذيفة بن اليمان وعمّار بن ياسر فمشيا معه مشياً، وأمر عمّاراً أن يأخذ بزمام الناقة، وأمر حذيفة بسوقها. فبينا هم يسيرون إذ سمعوا وكزة القوم من ورائهم قد غشوه، فغضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وأمر حذيفة أن يراهم، فرجع ومعه محجن فاستقبل وجوه رواحلهم، وضربها ضرباً بالمحجن، وأبصر القوم وهم متلثّمون، فرعبهم الله حين أبصروا حذيفة وظنّوا أنّ مكرهم قد ظهر عليه، فأسرعوا حتّى خالطوا الناس.۱ وأقبل حذيفة حتّى أدرك رسول الله صلّى الله عليه وآله، فلمّا أدركه قال: «اضرب الراحلة يا حذيفة، وامش أنت يا عمّار». فأسرعوا فخرجوا من العقبة ينتظرون الناس، فقال النبي صلّى الله عليه وآله: «يا حذيفة هل عرفت من هؤلاء الرهط أو الركب أحداً؟». فقال حذيفة: عرفت راحلة فلان وفلان، وكان ظلمة الليل غشيتهم وهم متلثّمون، فقال صلّى الله عليه وآله: «هل علمتم ما شأن الركب وما أرادوا؟». قالوا: لا يا رسول الله، قال: «فإنّهم مكروا ليسيروا
معي، حتّى إذا أظلمت بي العقبة طرحوني منها». قالوا: أفلا تأمر بهم يا رسول الله إذا جاؤوا كالناس فتضرب أعناقهم؟ قال: «أكره أن يتحدّث الناس ويقولون: إنّ محمّداً قد وضع يده في أصحابه» فسمّاهم لهما ثمّ قال: اكتماهم. وفي كتاب أبان بن عثمان: قال الأعمش: وكانوا اثني عشر: سبعة منهم كانوا من قريش.۱
وقد نُقل في هذا المورد في الكافي عن زرارة عن الصادق أو الباقر عليهما السلام أنّهما قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لولا أنّي أكره أن يُقال إنّ محمداً صلّى الله عليه وآله استعان بقومٍ حتّى إذا ظفر بعدوّه قتلهم، لضربت أعناق قوم كثير».٢
الخامس: وقعة حُنين
خامساً: فرار الأصحاب من وقعة حُنين.٣ وتوضيح ذلك: لمّا انحدر النبي في وادي حنين وهو واد له انحدار بعيد، وكانت بنو سليم على مقدمته، فخرجت عليهم كتائب هوازن من كلّ ناحية، فانهزمت بنو سليم، وانهزم من وراءهم، ولم
يبق أحد إلّا انهزم، وبقي أمير المؤمنين عليه السلام يقاتلهم في نفر قليل ومرّ المنهزمون برسول الله صلّى الله عليه وآله لا يلوون على شيء، وكان العبّاس آخذاً بلجام بغلة رسول الله صلّى الله عليه وآله عن يمينه، وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، فأقبل رسول الله صلّى الله عليه وآله ينادي: «يا معشر الأنصار أين؟ إليّ، أنا رسول الله». فلم يلو أحد عليه، وكانت نسيبة بنت كعب المازنيّة تحثو في وجوه المنهزمين التراب، وتقول: أين تفرّون؟ عن الله وعن رسوله؟ ومرّ بها عمر فقالت له: ويلك ما هذا الذي صنعت؟ فقال لها: هذا أمر الله، فلمّا رأى رسول الله صلّى الله عليه وآله الهزيمة ركض نحو عليّ على بغلته فرآه قد شهر سيفه فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب۱، وناد: يا أصحاب البقرة ويا أصحاب الشجرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول الله، ثمّ رفع رسول الله صلّى الله عليه وآله يده فقال: «اللهمّ لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان» فنزل جبرئيل فقال: يا رسول الله، دعوت بما دعا به موسى حيث فلق له البحر، ونجّاه من فرعون. ثمّ قال رسول الله صلّى الله عليه وآله لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفّا من حصى، فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: «شاهت الوجوه» ثم رفع رأسه إلى السماء وقال: «اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد وإن شئت أن لا تعبد لا تعبد» فلما سمعت الأنصار نداء العبّاس عطفوا
وكسروا جفون سيوفهم وهم يقولون: لبّيك، ومرّوا برسول الله صلّى الله عليه وآله واستحيوا أن يرجعوا إليه ولحقوا بالراية وفي النهاية أنزل الله النصر من السماء لنبيّه وللمسلمين وانهزمت هوازن وعندها نزلت هذه الآية: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ}۱.٢
أجل لقد كانت حالات أصحاب رسول الله التي تحدّثنا عنها في هذه الموارد الخمسة المذكورة شاهداً ونموذجاً من سلسلة المخالفات الطويلة التي مارسها بعضهم طيلة حياة النبيّ، وكانوا يرون أنفسهم مستقلّي الرأي أمام النبي في كثير من الأمور. فعندما يكون الجو هادئاً وساكناً وتكون منافعهم الشخصيّة في مأمن من الخطر يختارون السكوت، وفي بعض الأوقات يجدّون في تقديم اجتهاداتهم وآرائهم، كما أنّهم كانوا في مواضع الحرب والخصام والشدّة يعيشون الاضطراب والتزلزل، وربما قصدوا إلى قتله صلّى الله عليه وآله في بعض الأوقات، وربما شكّوا في نبوّته، وكم كانوا يطلقون العنان لأنفسهم بالفرار من أرض المعركة في أشدّ الأوقات خطورة على النبي فيتركونه وحيداً خوفاً على أرواحهم وحفظاً لأنفسهم.
فهل يصحّ في هذه الحالة أنّ نصدّق بحديث «أصحابي كالنجوم»؟ فهل هؤلاء الصحابة نجوم السماء؟! فهل قال النبي: (إنّكم ستهتدون إذا ما اقتديتم بأيّ واحدٍ منهم)؟!
وقد تعرّضت الآيات القرآنيّة في كثير من المواضع إلى لوم المؤمنين ووبّختهم على آثار المعاصي التي مرّ ذكرها في موارد عدّة، وقد هدّدتهم بعض الآيات بشدّة، وعدّت الاقتداء بالباطل مذموماً وقبيحاً، فمع كلّ ذلك كيف أوصى النبي بالاقتداء بأصحابه؟!
توهّمٌ ودفعٌ
فلا يتوهمنّ أحد أنّ النبيّ دعا إلى الاقتداء بالصحابة الطيّبين الصالحين ومجّدهم واعتبرهم نجوم السماء، لأنّ هذا التوهم مدفوعٌ:
أوّلًا: أنّ التعبير الوارد عن النبي عامّ: «بأيّهم اقتديتم اهتديتم» إضافة إلى أنّ أصحابي جمع مضاف ويفيد العموم، وصريح به، فمفاده أنّ كلّ أصحابي هم نجومٌ وستهتدون إن اقتديتم بأيّ منهم.
ثانيًا: أنّ كل من يطّلع على روح القرآن وسيرة النبي يفهم بأنّ القرآن ومنهج النبي عنوانه التبعيّة والاقتداء بالحقّ ومنحصر به، فلا تظهر الدعوة للاقتداء من عنوان آخر غير هذا، ولا تكون أبداً في أيّ مورد من الموارد بدون إرائة الحقّ وتعريفه.
فعلاوة على هذه المطالب فقد نقل علماء العامّة الكبار في كتبهم ورسائلهم أخباراً عن نفس رسول الله التي تدّل على اشتباه ومعصية بعض الصحابة.
رابعاً: معارضته لبعض ما ورد في نصوص أهل السنة حول الصحابة
يقول العلامّة الأميني:
والله سبحانه يعرِّف في كتابه المقدس أناساً منهم بالنفاق وانقلابهم على أعقابهم بآيات كثيرة رامية غرضاً واحداً، ولا تنس ما ورد في الصحاح والمسانيد. ومنها: ما في صحيح البخاري من أنّ أناساً من أصحابه صلّى الله عليه وآله وسلّم يُؤخذ بهم ذات الشمال فيقول: «أصحابي أصحابي فيُقال: إنّهم لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم».
وفي صحيح آخر: «ليرفعنّ رجالٌ منكم ثمّ ليختلجنّ دوني فأقول: يا ربّ أصحابي فيُقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك».
وفي صحيح ثالث: «أقول: أصحابي فيقول: لا تدري ما أحدثوا بعدك».
وفي صحيح رابع: «أقول: إنّهم منّي فيُقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك. فأقول: سحقاً سحقاً لمن غيّر بعدي».
وفي صحيح خامس: «فأقول: يا ربّ أصحابي! فيقول: إنّك لا علم لك بما أحدثوا بعدك. إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».
وفي صحيح سادس: «بينا أنا قائمٌ إذا زمرةٌ حتّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم. فقال: هلمّ. فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله. قلت: وما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى. فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل همل النعم».
قال القسطلاني في شرح صحيح البخاري (ج ٩، ص ٣٢٥) في هذا الحديث: همل بفتح الهاء والميم: ضوال الإبل واحدها: هامل، أو الإبل بلا راع. ولا يقال ذلك في الغنم، يعني: إنّ الناجي منهم قليل في قلّة النعم الضالّة، وهذا يشعر بأنّهم صنفان: كفّار وعصاة. وأنت من وراء ذلك كلّه تجد ما شجر بين الصحابة من الخلاف الموجب للتباغض والتشاتم والتلاكم والمقاتلة القاضية بخروج إحدى الفريقين عن حيِّز العدالة، ودع عنك ما جاء في التأريخ عن أفراد منهم من ارتكاب المآثم والإتيان بالبوائق.۱
ويقول العلامة الطبطبائي في تفسيره:
وفي الصحيحين عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهطٌ من أصحابي (أو قال: من أُمّتي) يحلّؤون عن الحوض. فأقول: يا ربّ، أصحابي! فيقول: لا علم لك بما أحدثوا بعدك، ارتدّوا على أعقابهم القهقرى فيحلّؤون»۱.٢
ما أفاده شارح المقاصد في المقام
ينقل المرحوم الشهيد القاضي نور الله الشوشتري رضوان الله عليه في كتاب «إحقاق الحقّ» مطلباً عن المولى سعد الدين التفتازاني شارح كتاب «المقاصد» وهذا المطلب جدير بالدقّة والمطالعة، حيث قال:
«إنّ ما وقع بين الصحابة من المحاربات والمشاجرات، على الوجه المسطور في كتب التواريخ والمذكور على ألسنة الثقات، يدلّ بظاهره على أنّ بعضهم قد حاد عن الطريق الحقّ، وبلغ حدّ الظلم والفسق، وكان الباعث عليه الحقد والعناد، والحسد واللداد، وطلب الملك والرياسات، والميل إلى اللذات والشهوات؛ إذ ليس كلّ صحابي معصوماً، ولا كلّ من لقي النبي صلّى الله عليه وآله بالخير موسوماً، إلّا أنّ العلماء لحسن ظنّهم بأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وآله ذكروا لها محامل وتأويلات بها يليق وذهبوا إلى أنّهم محفوظون عمّا يوجب التضليل والتفسيق، صوناً لعقائد المسلمين من الزيغ والضلالة في حقّ كبار الصحابة، سيّما المهاجرين منهم والأنصار، المبشّرين بالثواب في دار القرار. وأمّا ما جرى بعدهم من الظلم على أهل بيت النبي صلّى الله عليه وآله فمن الظهور بحيث لا مجال للإخفاء، ومن الشناعة بحيث لا
اشتباه على الآراء، ويكاد يشهد به الجماد والعجماء، ويبكي له من في الأرض والسماء، وتنهدّ منه الجبال، وتنشقّ منه الصخور، ويبقى سوء عمله على كرّ الشهور ومرّ الدهور، فلعنة الله على من باشر أو رضي أو سعى، ولعذاب الآخرة أشدّ وأبقى».۱- انتهى إلى هنا كلام التفتازاني.٢
تلخيص وجوه الضعف في حديث «أصحابي كالنجوم»
والخلاصة: أنّه ثبت أنّ حديث «أصحابي كالنجوم» ليس سوى حديث مصطنع ومجعول وضعوه وفقاً لمشتهياتهم، ويدلّ على ذلك وجوه أربعة:
الوجه الأوّل: ضعف رواة هذا الحديث.
الوجه الثاني: مخالفته لآيات القرآن التي تبيّن أنّ التبعيّة والانقياد منحصران بالحقّ تعالى وبالمتّصلين به.
الوجه الثالث: مخالفته لما كانت عليه الحالات الروحيّة للصحابة وللأعمال التي صدرت منهم في حياة النبي.
الوجه الرابع: مخالفته لكثير من النصوص الواردة عن أهل السنّة ممّا يدلّ على انحراف الكثير من الصحابة بعد الرسول، وأنّهم سيدخلون في جهنّم بسبب البدع التي أحدثوها في الدّين، وبسبب عودتهم إلى الآراء الجاهليّة وأفعالهم التي ارتكبوها بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله.۱
فقه حديث السفينة يثبت تعارضه مع حديث «أصحابي كالنجوم»
ولنفترض أنّا غضضنا الطرف عن كلّ هذه الجهات، فسيبقى هناك تناف وتعارض بين مضمون حديث: «مثل أهل بيتي فيكم كمثل سفينة نوح؛ من ركبها نجى، ومن تخلّف عنها غرق» و مضمون حديث «أصحابي كالنجوم؛ بأيّهم اقتديتم اهتديتم». واستناداً إلى ضوابط الحديث لا بدّ من ردّ حديث «أصحابي كالنجوم» واعتباره حديثاً مجعولًا وباطلًا؛ وذلك لأنّ حديث السفينة حديثٌ معتبرٌ في أعلى درجات الاعتبار وقد نقل عن رسول الله صلّى الله عليه وآله متواتراً.
وتوضيح ذلك: أنّ الرسول الأكرم لم يشبّه أهل بيت العصمة عليهم السلام بأيّة سفينة تريد أن تقلّ مسافريها في الليل المظلم من مدينة إلى أخرى، فيحتاج مسافروها إلى نجوم السماء؛ ليحدّدوا مسيرهم بالنظر إليها ويتحركوا ويسيروا نحو
مقصدهم، بل هو يشبّه أهل بيت العصمة عليهم السلام بسفينة نوح عليه السلام، التي امتازت بأنّ من ركبها أحرز النجاة، ومن تخلّف عنها ابتلي بالغرق والهلاك، ولذلك قال: من ركبها نجى ومن تخلّف عنها غرق.
ويتبيّن سرّ هذا المعنى من ملاحظة قصّة نوح عليه السلام ومخالفة الأُمّة له والعذاب الإلهيّ العامّ المتمثّل بغرق وهلاك جميع الأمّة، و انحصار النجاة في الذين التحقوا بتلك السفينة.
فسفينة نوح كانت وحدها سفينة النجاة، ولم يكن في مقابلها سفينة أخرى. لقد كانت تلك السفينة الملجأ الوحيد للأمان، وقد لاقى الهلاك كلّ من لم يلذ بها. كانت سفينة نوح تشقّ طريقها داخل الفيضان الدنيوي والطوفان العالمي في الوقت الذي كان يغمر الماء قمم الجبال.
ولم يكن هدف سفينة نوح الانتقال من نقطة إلى أُخرى ومن محلّ الخطر إلى ملجأ الأمن والأمان؛ لأنّ الماء كان يغمر تمام أنحاء العالم. وعليه لم يكن هناك من مسير محدّد وخاص حتّى يحتاج المسافرون عليها للنجوم ولتحديد الوجهة، بل كان ممّا اختصّت به النجاة من الطوفان والوصول إلى اليابسة بعد انتهائه.
بناءً على ذلك كان غرض سفينة نوح حفظ الراكبين فيها من الغرق والهلاك فحسب. ولم يكن هناك من فرق في سبيل ذلك بين أن يكون الوقت ليلًا أو نهاراً، بين أن يكون هناك نجوم في السماء أو لا يكون. فسفينة نوح لم يكن لها مسير عرضي على وجه الأرض، ولكن عندما ركبها نوح وأتباعه وبدأ الطوفان،
اعتلت على وجه الماء، وعندما انتهى الطوفان وأقلعت السماء عن هطل المطر وابتلعت الأرض ماءها رست على يابسة النجاة.
فمع هذه المعاني يتبيّن كم كان تشبيه رسول الله صلّى الله عليه وآله لأهل بيته عليهم السلام بسفينة نوح تشبيهاً سامياً رفيعاً. ويلاحظ من خلاله انحصار النجاة والأمان في أهل البيت عليهم السلام. وعلاوة على ذلك، فإنّ من يجلس في السفينة لا يمكنه أن يحصي النجوم في الليل المظلم؛ فكثير من النجوم في السماء لا تساهم في تعيين الجهة. نعم، فقط يوجد بعض النجوم التي تكون هادية ومرشدة كالجدي والعيّوق والثريّا وسهيل، وتلك النجوم لا تتجاوز عدد الأصابع. ولذلك قال تعالى في كتابه الكريم: {وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}۱؛ فقد جعل النجوم في هذه الآية جنساً، فلا يكون المراد تمام النجوم بدون استثناء.
ومن الواضح أنّ هذه النجوم المحدّدة المعيّنة الهادية إلى طريق النجاة هم أمير المؤمنين وفاطمة وابناهما الإمامان الحسن والحسين وذريّة الحسين عليهم السلام الذين بحقّ لهم إشراقهم الخاصّ في سماء الإسلام، وهم الهداة المرشدون إلى مدينة السعادة والتوحيد الطيّبة في الليل الديجور وظلمة الليل الطويل مع اضطراب الفتن والأهواء المضلّة.
الأقوال في عدالة الصحابة
لقد امتدّ بنا المقام إلى شرح كلام الفخر الرازي المنقول عن البعض، ولأن الكثير من أهل السنّة بل كلّهم وقعوا في هذا الاشتباه، لذا فقد اضطررنا لبسط الكلام في ذلك رفعاً للشبهة.
ربّما دفع حسن الظن الذي نراه لدى أكثر العامّة إلى القول بعدالة صحابة رسول الله، وربّما أجبرهم توجيه وتأويل جنايات بعضهم على الاعتقاد بعدالتهم جميعاً.
ولكنّ بعضهم صرّح بأنّ الصحابة كغيرهم لا ميزة لهم على سواهم، فيهم الصالح والطالح، التقيّ والفاجر، المؤمن والمنافق، عباد الله وعباد هوى النفس.
وقيل هم كغيرهم إلى حين ظهور الفتن بين عليّ عليه السلام ومعاوية، وأمّا بعدها فلا يقبل الداخلون فيها مطلقاً. وقالت المعتزلة: هم عدول إلّا من علم أنّه قاتل عليّاً عليه السلام فإنّه مردود، وذهبت الإماميّة إلى أنّهم كسائر الناس من أنّ فيهم المنافق والفاسق والضال، بل كان أكثرهم كذلك.۱
لقد ارتدّ كثير من الصحابة بعد ارتحال الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله، ورجعوا إلى أعقاب الجاهليّة.
وأمّا العصمة من الخطايا والذنوب فهي تختصّ بمقتضى نصّ آية التطهير برسول الله وأمير المؤمنين وفاطمة الزهراء والحسنين عليهم السلام، وهي تشمل خلفاء رسول الله الاثني عشر بملاك الآية والبراهين العقليّة المتظافرة والنصوص المتواترة عن السنّة والشيعة.۱
الوجه في تمسّك العامّة بحديث النجوم ووضعه وآثاره الشنيعة على أهل البيت
وعندما قام الصحابة بإبعاد الناس عن أهل البيت عليهم السلام، ودعوهم إلى أنفسهم، وطمعوا في الجلوس على أريكة خلافة رسول الله، ولم يكن عندهم استعداد للاقتداء بمولى الموحّدين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام تبعاً لنصوص الغدير وغيرها من الأدلّة والشواهد التي تفوق الحصر، وحملوا أمير المؤمنين كالجمل إلى المسجد وأضرموا النار في بيت بنت رسول الله الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السلام ولم يكن عندهم من جواب في مقابل احتجاجات أمير المؤمنين وأدلّته وفي قبال نور عين المصطفى وفلذة كبده، اضطرّوا أن يضعوا الحديث القائل: «أصحابي كالنجوم» كي يُفهِموا الناس بأنّ هؤلاء هم نجوم السماء وجناياتهم بمثابة أنوار النجوم! تأسّوا بهم واقتدوا بمنهجهم، ولا
تسألوا عن أفعالهم وتصرّفاتهم، واعلموا أنّ الصحابة معصومون عن الخطأ ومصونون عن الاشتباه.
فمن هنا تمسّكت الأمّة بهذا الحديث واقتفت أثر الصحابة المنحرف، ولم تفعل أيّ شيء مقابل المخالفات والتجاوزات الخطيرة، فقتلوا سبط رسول مع أولاده وأحفاده وعشيرته وأصحابه وأحرقوا خيمته وقاموا بأسر عياله، عيال رسول الله، وارتكبوا الآلاف المؤلّفة من الجنايات بحق العلويّين وبني فاطمة من بني الحسين ومن بني الحسن، إلى الحدّ الذي كانوا يفرّون فيه إلى أعالي الجبال، ولم يكن عندهم طمأنينة واستقرار، وكانوا يقتلونهم جماعات جماعات في السجون الرطبة والمعتمة، وكانوا يضعون أجسادهم وهم أحياء في جدران العمارات.
كلّ ذلك كان من جرّاء التبعيّة والانقياد لحديث «أصحابي كالنجوم» الذي فهمت الأمة معناه جيّداً وتأسّت معه بسيرة أصحاب رسول الله عمر وأبي بكر والمغيرة بن شعبة وأبي عبيدة الجرّاح وعثمان بن عفّان ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وغيرهم، وأدّوا حقّ سيادتهم ومولوّيتهم على أتمّ وأكمل وجه، واقتدوا بهم واهتدوا بهدايتهم حقّ الاهتداء والاقتداء.
فهذا الحديث المجعول في نهاية المطاف يناقض نفسه بنفسه، أي: إنّ مضمونه دليل على بطلان سنده. ولذا فمهما أرادوا أن يدافعوا عن أفعال بعض
الصحابة المشهورين كانت فظاعة أعماله أشدّ فضاحةً، ومهما حاولوا تلميع خياناتهم وتأويلها على محمل صحيح كانت حقيقة الأمر تزداد وضوحاً.
نبذة عن حالات الزهراء وفضلها وشهادتها
فعندما يصرّح رسول الله بأنّ فاطمة فلذة كبده، وأنّ أذاها أذاه، فهل من الممكن أن تُؤوّل وتُوجّه جنايات أبي بكر وعمر على نور بصر رسول الله؟ هيهات هيهات!
فأنّى لنا بذلك وبين يدينا هتاف النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله الذي لم يتكرّر مرّة ومرتيّن ولا لشخصٍ وشخصينٍ بل تكرّر أمام الجموع الغفيرة في المجالس المختلفة في قبال المهاجرين والأنصار أمام الصديق والعدو قائلًا صلّى الله عليه وآله: «فاطمة بضعةٌ منّي، فمن أغضبها أغضبني» وفي لفظة: «فاطمة بضعةٌ منّي يؤذيني ما آذاها، ويغضبني ما أغضبها». وفي لفظة: «فاطمة بضعةٌ منّي، يقبضني ما يقبضها، ويبسطني ما يبسطها». وفي لفظة: «فاطمة بضعةٌ منّي، يؤذيني ما آذاها، وينصبني ما أنصبها». وفي تاج العروس: أي: يتعبني ما
أتعبها. وفي لفظة: «فاطمة بضعةٌ منّي، يريبني۱ ما أرابها، ويؤذيني ما آذاها». وفي لفظة: «فاطمة بضعةٌ منّي يسعفني ما يسعفها». وفي تاج العروس: أي: ينالني ما ينالها، ويلمّ بي ما يلمّ بها. وفي لفظة: «فاطمة شجنةٌ٢ منّي، يبسطني ما يبسطها، ويقبضني ما يقبضها». وفي لفظة: «فاطمة مضغةٌ منّي، فمن آذاها فقد آذاني». وفي لفظة: «فاطمة مضغةٌ٣ منّي، يقبضني ما قبضها، ويبسطني ما بسطها». وفي لفظة: «فاطمة مضغةٌ منّي يسرّني ما يسرّها»٤. وهذه الأحاديث التي رواها أئمّة الحديث عند أهل السنّة في الصحاح الستّة وغيرهم من كبار رجال الحديث في كتبهم المعتبرة رويت بإسنادٍ صحيحٍ، ويروي العلّامة الأميني قدّس سرّه هذا الحديث عن تسع وخمسين شخصاً من كبار علمائهم كما ورد في كتبهم٥.
...۱
فهذه الروايات من وجهة نظر أهل السنّة مسلّمة، كما أنّ من المسلّم لديهم أنّ أبا بكر وعمر آذيا السيّدة الزهراء وأسخطاها، كما أنّه ليس هناك مجالٌ للتردّد في أنّ السيدة الزهراء كانت غاضبة من جرّاء أفعالهم بحيث لم تتكلّم معهم وبقيت مُعرِضة عنهم حتّى رحلت عن الدنيا.
روى البخاري في صحيحه بإسناده عن عروة بن الزبير؛ أنّ عائشة أخبرته:
أنّ فاطمة عليها السلام ابنة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم سألت أبا بكر الصدّيق بعد وفاة رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أن يقسّم لها ميراثها ممّا ترك رسول الله صلّى الله عليه [وآله] ممّا أفاء الله عليه. فقال لها أبو بكر: إنّ رسول الله صلّى الله
عليه [وآله] قال: لا نورث ما تركنا صدقة. فغضبت فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فهجرت أبا بكر، فلم تزل مهاجرته حتّى توفيّت.۱
كذلك روى البخاري عن عروة عن عائشة:
أنّ السيّدة فاطمة أرادت أخذ إرثها، فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منه شيئاً، فوجدت٢ فاطمة على أبي بكر في ذلك، فهجرته فلم تكلّمه حتّى توفيّت. وعاشت بعد النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم ستّة أشهر. فلمّا توفيت دفنها زوجها علي ليلًا، ولم يؤذن بها أبا بكر، وصلّى عليها.٣
ومن العجيب أنّ الترمذي في سننه نقل عن عليّ بن عيسى وصحّف وتأوّل سكوت فاطمة بكيفيّةٍ ماكرةٍ، وقد أراد أن يخفي جنايات أبي بكر وعمر. يقول: إنّ أبا بكر وعمر خاطبَا السيّدة فاطمة: نحن لم نعطك فدكاً لأننا كنّا قد سمعنا من رسول الله أنّنا لا نوّرث، فعليه سكتت فاطمة ولم تجبهم، وهذا ما يدّل على تصديقها إيّاهم، ولم تتكلّم بعد ذلك بموضوع فدك مطالبةً بالإرث.
فتأويل الترمذي وتصحيفه تصرّف خاطئ وغلط كبير في مقابل الروايات الصحيحة التي نقلها البخاري وغيره من أنّ فاطمة غضبت. ولم تلاقيهم بعد ذلك، ولم تتكلّم معهم، وأوصت أن تدفن ليلًا، وأن لا يخبروا أبا بكر بالصلاة عليها حتّى رحلت كذلك عن الدنيا،۱ فأين يمكنهم أن يضعوا هذا التأويل والتوجيه فوق جنايات ابن أبي قحافة؟!
وأخيراً لم تكن قد أوصت السيّدة الزهراء أن لا يحضر أبو بكر صلاتها وحده فقط، بل كذلك ابنته عائشة. يقول في أُسد الغابة في شرح حال السيّدة فاطمة بعد وصيّتها مشيراً إلى كيفيّة تهيئها للدفن ووصيّتها لأسماء بنت عُميس:
لمّا توفّيت جاءت عائشة فمنعتها أسماء، فشكتها عائشة إلى أبى بكر، وقالت: هذه الخثعمية٢ تحول بيننا وبين بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، فوقف أبو بكر على الباب وقال: يا أسماء! ما حملك على أن منعت أزواج النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم أن
يدخلن على بنت رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم، وقد صنعتِ لها هودجاً؟ قالت: هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد، وأمرتني أن أصنع لها ذلك. قال: فاصنَعِي ما أمَرَتْكِ. وغسّلها عليٌّ وأسماء.۱
فغسلها أمير المؤمنين عليه السلام ليلًا ودفنها ليلًا. يقول الشيخ الأزري:
ولأيّ الأمُورِ تُدفنُ سرًّا | *** | بَضعَةُ المُصطفى ويُعفَى ثَراهَا٢ |
المجلس الخامس: تأكيد علماء العامّة على لزوم مودّة أهل البيت عليهم السلام
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ۱٦ جمادى الاولى ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
رواية ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد مات ...
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}.۱
ذكرنا سابقاً في تفسير هذه الآية المباركة رواياتٍ عديدة من طرق الشيعة و السنّة، وتقدّم أنّ في المقام روايات كثيرة وردت في كتب التفسير والحديث عندهم تتحدّث عن لزوم مودّة أهل البيت واتّباع سيرتهم.
فمن ذلك ما رواه الزمخشري في تفسيره «الكشّاف» عن رسول الله صلّى الله عليه و آله وسلّم قال:
من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً. ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد مات مغفوراً له. ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد مات تائباً. ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد مات مؤمناً مستكمل الإيمان. ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد بشّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكر ونكير.
ألا ومن مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها. ألا ومن مات على حبّ آلمحمد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة. ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد جعل الله قبره مزار ملائكة الرحمة. ألا ومن مات على حبّ آلمحمّد مات على السنّة والجماعة.
ألا ومن مات على بغض آلمحمد جاء يوم القيامة مكتوبٌ بين عينيه: آيسٌ من رحمة الله. ألا ومن مات على بغض آلمحمّد مات كافراً. ألا ومن مات على بغض آلمحمّد لم يشمّ رائحة الجنّة.۱
من معشر حبّهم دين وبغضهم | *** | كفر وقربهم منجى ومعتصم |
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمتهم | *** | أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم |
الفخر الرازي: آل محمّد هم علي وفاطمة والحسنان
و قد نقل الفخر الرازي هذا الحديث أيضًا في تفسيره عن الزمخشري وأيّده ثمّ قال بأنّ المراد من آل محمّد هم عليّ بن أبي طالب وفاطمة الزهراء والحسن والحسين، وهذا ممّا لا شكّ ولا ترديد فيه والأخبار المتواترة قد تكفّلت بإثباته. وأمّا غيرهم من أقارب النبيّ أو أمّته التي صدّقته بدعوته فلا يمكن إطلاق لقب
الـ «آل» عليهم. وحيث إنّ الاختلاف قد وقع في صدق الـ «آل» عليهم، فيتعيّن أن يكون المقصود قطعاً من الـ «آل» هو هؤلاء الأربعة: أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين.۱
ثمّ يشرع بعد بيان هذا الأمر بالاستدلال على وجوب مودّة آل محمّد.
كما روى القندوزي هذا الحديث أيضًا في آخر الباب الثالث من «ينابيع المودّة»، نقلًا عن أبي إسحاق الثعلبي في تفسيره، بسنده عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله. ثمّ قال القندوزي: أخرجه أيضًا الحمويني بلفظه [في «فرائد السمطين»]، ونقله «فصل الخطاب» و «روح البيان»٢.
أبيات الشافعي في حبّ أهل البيت عليهم السلام
و قد أنشد الشافعي محمّد بن إدريس الأبيات التالية في وجوب محبّة أهل البيت بنصّ القرآن الكريم:
يا آل بيت رسول الله حبّكم | *** | فرض من الله في القرآن أنزله |
كفاكم من عظيم القدر أنّكم | *** | من لم يصلِّ عليكم لا صلاة له۱ |
كما يقول الشافعي في موضع آخر:
لو فتّشوا قلبي لألفوا به | *** | سطرين قد خطّا بلا كاتب |
العدل و التوحيد في جانب | *** | وحبّ أهل البيت في جانب٢ |
ويفهم من هذه الأشعار بنحوٍ واضحٍ أنّ من المسلّمات عند الشافعي كون وجوب محبّة أهل البيت كوجوب الاعتقاد بالتوحيد والعدل، و أنّه يعتبر أنّ من أصول الشريعة و أسسها كون التديّن بموالاة أهل البيت في نفس رتبة و درجة التديّن بالتوحيد و العدل، فلو لم يلتزم شخص بمحبّتهم عليهم السلام فإنّ
إحدى أصول دينه ستكون فاسدة، وبالتالي فكلّ بنائه فاسد؛ لأنّ البناء لا يقوم على قاعدة واحدة دون الثانية كما هو معروف.
كما أنشد الشافعي، متصوّرًا إفاضة الحجيج من المشعر الحرام إلى منى في صباح عيد الأضحى:
يا راكباً قف في المحصّب۱ من منى | *** | و اهتف بساكن خيفِها و الناهضِ |
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى | *** | فيضاً كمنهلِ٢ الفرات الفائضِ |
و أخبرهم أنّي من النفر الذي | *** | لولاء أهل البيت ليس بناقض |
إن كان رفضاً حبّ آل محمّد | *** | فليشهد الثقلان أنّي رافضي۱٢ |
كما يُنقل عن الشيخ شمس الدين ابن العربي أنّه أنشد الأبيات التالية استناداً إلى الآية المباركة {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ}:
رأيت ولائي آل طه وسيلةً | *** | على رغم البعد تورثني القربا |
و ما زال كتماً منك حتّى كأنّني | *** | بردّ جواب السائلين لأعجمُ |
و أكتم ودّي مع صفاء مودّتي | *** | لتسلم من قول الوشّاء و أسلم |
قالوا ترفّضت قلتُ كلّا | *** | ما الرفض ديني و لا اعتقادي |
لكنْ تولّيت من غير شكٍ | *** | خيرَ إمام و خير هادي |
إن كان حبّ الوليِّ رفضا | *** | فإنّني أرفض العباد |
فما طلب المبعوث أجراً على الهدى | *** | بتبليغه إلّا المودّة في القربى۱ |
بيان المراد من اقتراف الحسنة في الآية
وأمّا بالنسبة إلى تفسير ذيل الآية المباركة حيث يقول تعالى: {وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}، فقد ورد في تفسير الكشّاف و تفسير الفخر الرازي: أنّ الظاهر من كلمة «حسنة» العموم، إلّا أنّه بقرينة مجيئها عقيب ذكر المودّة في القربى، دلّ ذلك على أنّ المقصود التأكيد على تلك المودّة.٢
وينقل صاحب «نظم درر السِّمطين»- في الخطبة التي رواها عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام التي ألقاها بعد دفن أمير المؤمنين عليه السلام في مسجد الكوفة- الكلمات التالية التي قالها عليه السلام في آخر الخطبة:
«أنا من أهل بيتٍ الذي أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وأنا من أهل بيتٍ الذين كان جبريل عليه السلام ينزل فينا ويصعد
من عندنا، وأنا من أهل بيتٍ الذين فرض الله تعالى مودّتهم على كلّ مسلم، وأنزل الله فيهم: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}، واقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».۱
هذا وقد أورد هذه الخطبة كلّ من ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»، ج ۱۷، ص ٣۰، والقندوزي في «ينابيع المودّة» طبع النجف، ص ۸، كما وردت في تفسير «مجمع البيان» ج ٥، ص ٢٩.
وقد روى صاحب «المجمع» هذه الخطبة عن الإمام الحسن عليه السلام بطريق صحيح، ثمّ أضاف أنّ أبا حمزة الثمالي والسدّي فسّرا الحسنة بمودّة «آلمحمّد».
كما ورد في التفاسير أنّ قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} لأهل ولايتهم.
قول الزمخشري بلزوم مودّة أهل البيت
هذا، وقد أورد الزمخشري في تفسيره عدّة وجوه للاستدلال على وجوب مودّة أهل البيت عليهم السلام من الآية الكريمة:
الأوّل: ما روي عن أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السلام أنّه قال:
«شكوت إلى رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم حسد الناس لي. فقال: أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنة أنا وأنت والحسن والحسين»۱.
الثاني: ما روي عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنّه قال:
«حرمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي و آذاني في عترتي»٢.
الثالث: قول رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«من مات على حبّ آل محمّد مات شهيداً ...»٣- إلى آخر الرواية التي أوردناها في مطلع البحث٤.
سبب اختلاف العامّة في تفسير آية المودّة
يقول المرحوم السيّد عبد الحسين شرف الدين:
«وأخرج أحمد بن حنبل- كما في «الصواعق» أيضًا- عن ابن عبّاس في قوله تعالى: {وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً} قال: هي المودّة
لآلمحمّد. وأخرجه ابن أبي حاتم- كما في «الشرف المؤبّد»۱- عن ابن عبّاس أيضًا.
وعن أبي حمزة الثمالي في تفسيره، عن ابن عبّاس: أنّه حين استحكم الإسلام بعد الهجرة، قالت الأنصار: نأتي رسول الله فنقول له: قد تعروك أمور، فهذه أموالنا تحكم فيها كيف شئت، فأتوه بذلك، فنزلت الآية فقرأها عليهم، وقال: «تودّون قرابتي من بعدي». فخرجوا مسلّمين لقوله. و قال المنافقون: إنّ هذا لشيء افتراه في مجلسه أراد به أن يذلّلنا لقرابته من بعده، فنزلت {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}٢- (الحديث). و قد أخرج الثعلبي و البغوي- كما في «الصواعق»- عن ابن عباس أيضًا مثله».
ثم يقول السيّد شرف الدين:
«قاتل الله الحسد يورد أهله الدرك الأسفل من النار. أنظر كيف خرج هؤلاء من الدين، كذّبوا- حسداً لأولياء الله- نبيّهم وهو الصادق الأمين، فأنزل الله تعالى في نفاقهم قرآناً يتلوه المسلمون آناء الليل وأطراف النهار، ومع ذلك فإنّ بذرة أهل النفاق والحسد قد أجذرت بتعاهد أولي السلطة لها- من بني اميّة وغيرهم- بما يستوجب نموّها،
وجمهور المسلمين غافلون، فالتبس الأمر، ووقعت الشبهة. وإنّما دخل البلاء باعتماد الجمهور على من كان في الصدر الأوّل، وبنائهم على عدالة كلّ فردٍ فردٍ ممّن كانت له صحبة، مع ما يتلونه في الكتاب والسنّة من شؤون المنافقين، وتربّصهم الدوائر بسيّد النبيّين و المرسلين صلّى الله عليه وآله.
واشتدّ البلاء بالمنع من الخوض في تلك الأحوال، وسدّهم باب البحث عن حقائق أولئك الرجال، فضيّعوا على أنفسهم كثيراً من الحقائق، وربما نسجوا- من حيث لا يقصدون- على منوال كلّ منافق، ولذلك اختلفوا في هذه الآية، مع ما سمعت بعضه من النصوص الجليّة في نزولها بمودّة العترة الزكيّة».۱
انتهى كلام العلّامة السيّد عبد الحسين شرف الدين، والحقّ أنّه كان بحثاً علميّاً ومتقناً.
وقد روى محمّد بين يعقوب الكليني في «الكافي» عن الإمام الصادق عليه السلام:
قال عليه السلام: «ما يقول أهل البصرة في هذه الآية: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً}؟- (الآية) »
قيل: إنّهم يقولون: لأقارب رسول الله صلّى الله عليه وآله. قال: «كذبوا، إنّما أنزلت فينا خاصّةً في أهل البيت: في عليّ وفاطمة والحسن والحسين أصحاب الكساء».۱
وفي كتاب «المحاسن» للبرقيّ رُوي عن الباقر عليه السلام:
«أنّه سئل عن هذه الآية فقال: هي والله فريضة من الله على العباد لمحمّد صلّى الله عليه وآله في أهل بيته».٢
كما روى في «الكافي» عن الإمام الباقر عليه السلام:
«أنّه سئل عن هذه الآية فقال: هم الأئمّة عليهم السلام».٣
ويلاحظ أنّ مفاد الأخبار الواردة عن الخاصّة والعامّة حول ذوي القربى ووجوب مودّتهم مفاد واحد، ولم يدّع الشيعة في ذلك شيئاً يزيد على ما ذكره كبار أهل السنّة في كتبهم، وهذا بنفسه دليل على أنّ وجوب مودّة آل محمّد أمر قد أوصى به نفس رسول الله صلّى الله عليه وآله أمّته بنحو مسلّم وقطعيّ.
غير أنّ أعداء آل محمّد قد عزموا منذ اليوم الأوّل على أذيّتهم، فسلبوهم كامل حقوقهم من الولاية الكبرى وخلافة رسول الله، حتّى أنّهم منعوهم من
الخمس وميراث رسول الله، وصبّوا عليهم الآلام والمصائب من كلّ جانب وعرّضوهم للضغوط الفادحة.
قل للمغيّب تحت أطباق الثرى | *** | إن كنت تسمع صرختي وندائيا |
صبّت عليّ مصائب لو أنّها | *** | صبّت على الأيام صرن لياليا۱ |
هل حافظ الصحابة على مودّة آل محمّد؟!
يقول ابن قتيبة الدينوريّ المتوفّى سنة ٢۷٦ للهجرة في حديثه عمّا جرى بعد امتناع عليّ من البيعة:
قام عمر فمشى معه جماعة حتّى أتوا باب فاطمة عليها السلام، فدقّوا الباب؛ فلمّا سمعت أصواتهم نادت بأعلى صوتها باكية: يا رسول الله، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطّاب وابن أبي قحافة.٢
ويتابع فيروي ما حصل بعد أن عجزوا عن أخذ البيعة من عليّ، فيقول:
فلحق عليّ بقبر رسول الله صلّى الله عليه وآله يصيح ويبكي وينادي: يا بن أمّ، إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني.٣
وقال أيضًا:
إنّ أبا بكر رضي الله عنه تفقّد قوماً ۱ تخلّفوا عن بيعته عند علي كرّم الله وجهه، فبعث إليهم عمر، فجاء فناداهم وهم في دار علي، فأبوا
...۱
أن يخرجوا فدعا بالحطب و قال: والذي نفس عمر بيده، لتخرجنّ أو لأحرقنّها على من فيها. فقيل له: يا أبا حفص، إنّ فيها فاطمة! قال: وإنْ. فخرجوا فبايعوا إلّا عليّاً فإنّه زعم أنّه قال: حلفت أن لا أخرج ولا ثوبي أضع على عاتقي حتّى أجمع القرآن. فوقفت فاطمة رضي الله عنها على بابها فقالت: لا عهد لي بقوم حضروا أسوأ محضراً منكم، تركتم رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم جنازة بين أيدينا، وقطعتم أمركم بينكم، لم تستأمرونا ولم تردّوا لنا حقّاً.۱
يقول ابن أبي الحديد:
ثمّ دخل عمر فقال لعليّ: قم فبايع، فتلكّأ۱ واحتبس٢، فأخذ بيده، وقال: قم، فأبى أن يقوم، فحمله ودفعه كما دفع الزبير. ثمّ أمسكهما خالد، وساقهما عمر ومن معه سوقاً عنيفاً، واجتمع الناس ينظرون، وامتلأت شوارع المدينة بالرجال. ورأت فاطمة ما صنع عمر، فصرخت وولولت، واجتمع معها نساء كثير من الهاشميّات وغيرهن، فخرجت إلى باب حجرتها، ونادت: يا أبا بكر، ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله. والله لا أكلّم عمر حتّى ألقى الله.٣
بعض الأبيات في حبّ أهل البيت عليهم السلام
وما أروع ما أنشد الأزري في ذلك حيث قال:
لا تلمني يا سعد في مقت قومٍ | *** | ما وفت حقّ أحمد إذ وفاها |
أو ما قال عترتي أهل بيتي | *** | احفظوني في برّها وولاها |
نازعوه حيّاً وخانوه ميّتاً | *** | يا لتلك الحظوظ ما أشقاها |
إلى أن يقول:
نقضوا عهد أحمد في أخيه | *** | وأذاقوا البتول ما أشجاها |
وهي العروة التي ليس ينجو | *** | غير مستعصم بحبل ولاها |
لم ير الله للنبوّة أجراً | *** | غير حفظ الوداد في قرباها |
لست أدري إذ روّعت وهي حسرى | *** | عاند القوم بعلها وأباها |
يوم جاءت إلى عدي وتيم | *** | ومن الوجد ما أطال بكاها |
فدعت واشتكت إلى الله شجواً | *** | والرواسي تهتزّ من شكواها |
إلى أن يقول:
أيّها القوم راقبوا الله فينا | *** | نحن من روضة الجليل جناها |
إلى أن يقول:
أيّها الناس أيّ بنت نبيّ | *** | عن مواريثه أبوها زواها |
كيف يزوي تراثي عنّي عتيق۱ | *** | بأحاديث من لدنه افتراها |
إلى أن يقول:
أيّ شيء عبدتم إذ عبدتم | *** | أن يولّى تيم على آل طه |
هذه البردة التي غضب الله | *** | على كلّ من سوانا ارتداها |
إلى أن يقول:
علم الله أنّنا أهل بيت | *** | ليس تأوي دنيّة مأواها |
إلى أن يقول:
ولأيّ الأمور تدفن سرّاً | *** | بضعة المصطفى ويعفى ثراها |
فمضت وهي أعظم الناس وجداً | *** | في فم الدهر غصّة من جواها |
وثوت لا يرى لها الناس مثوى | *** | أيّ قدس يضمّه مثواها۱ |
المجلس السادس: لزوم مودة القربى و فرضها فى القرآن و السنة
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ٢٣ جمادى الاولى ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ٢٣ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٢٤ وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ٢٥ وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}۱
نقلنا فيما سبق۱ ما ورد في تفاسير عديدة من طريق السنّة والشيعة في تفسير آية المودّة، وصار معلوماً وواضحاً بدون أدنى شكٍّ أنّ المراد بالقربى في هذه الآية أمير المؤمنين وفاطمة والحسنين عليهم السلام.
نزر من الروايات في تفسير القربى
يقول المرحوم القاضي الشهيد السيّد نور الله الشوشتري:
«روى الجمهور في الصحيحين، وأحمد بن حنبل في مسنده، والثعلبيّ في تفسيره، عن ابن عبّاس رحمه الله، قال: لمّا نزلت {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}، قالوا: يا رسول الله! مَن قرابتك الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: عليّ وفاطمة وابناهما».٢
ووقد أورد العلّامة الخبير آية الله المرعشي- مُدّ ظلّه٣- في تعليقته على آية المودّة أنّ هناك خمساً وخمسين عالماً من أعاظم المحدّثين والمفسّرين والمتكلّمين من أهل السنّة قد نقلوا في كتبهم بأسانيدهم أنّ آية المودّة لذوي القربى منحصرةٌ في دلالتها على أمير المؤمنين وفاطمة والحسنين عليهم السلام.
وفسّروا الآية المُباركة بوجوب المودّة لهم، وذلك من باب الأجر على الرسالة.۱
كما ورد كذلك في كتاب «ملحقات الإحقاق» أنّ عدد العلماء الذين نقلوا ذلك يبلغ أربعاً وستّين عالماً.٢
ويقول ابن صبّاغ المالكي: ولله درُّ القائل إذ قال:
هُمُ العُروةُ الوُثقى لِمُعتَصِمٍ بِها | *** | مَناقِبُهم جَآءَتْ بِوحيٍ وإنزالِ |
مَناقبُ في شورى وسورةِ هَل أتَى | *** | وفي سورةِ الأحزابِ يَعرفُها التّالي |
وهُمْ آلُ بيتِ المُصطفى فَوِدادُهم | *** | على النّاس مَفروضٌ بِحكمٍ وإسجالِ٣ |
وينقل الشبلنجي أنّ أبا الحسن بن جبير قد أنشد:
أحبُّ النبيَّ المُصطفى وابنَ عمِّهِ | *** | عليّاً وسِبطَيهِ و فاطمةَ الزَّهرا |
هُم أهلُ بيتٍ أُذهبَ الرجسُ عنهُمُ | *** | وأطلَعَهُم أُفقُ الهُدى أنجُماً زُهرا |
مُوالاتهُم فَرضٌ على كلِّ مُسلمٍ | *** | وحُبُّهمُ أسنَى الذَّخائر للُاخرَى |
ومَا أنا للصَّحبِ الكرامِ بمُبغضٍ | *** | فإنّي أرَى البغضاءَ في حقِّهِم كُفرا۱ |
الصراط المستقيم: محمّد وآله
وقد أورد الثعلبيّ في كتاب الكشف والبيان في تفسيره لـ {اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ}٢ أنّ مُسلمَ بن حيّان يقول: لقد سمعت أبا بريدة يقول: صراط محمّد وآله.٣
ويروي الحموينيّ في «فرائد السمطين» بإسناده عن أصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال في تفسير قوله تعالى {وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ}٤: الصِّراط: وِلايتنا أهلَ البيت.٥
كما ويروي الحموينيّ في الفرائد عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: نحن خيرة الله ونحن الطّريق الواضح المستقيم.٦
بعض الروايات في لزوم مودّة القربى
وقد ورد في «ذخائر العقبى» عن أبي سعيد أنّه روى بإسناده، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال:
أنا وأهل بيتي شجرة في الجنّة وأغصانها في الدنيا فمن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلًا.۱
وأورد العلّامة المرعشيّ في تعليقته على «إحقاق الحقّ»، أنّ العلامة الحافظ ابن كثير الدمشقيّ المُتوفّى سنة ۷۷٤ روى في تفسيره فقال:
قال الإمام أحمد: حدّثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن أبي حيّان التيمي، حدّثني يزيد بن حيّان، قال: انطلقت أنا وحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه، فلمّا جلسنا إليه، قال حُصين: لقد لقيتَ يا زيد خيراً كثيراً؛ رأيتَ رسول الله صلّى الله عليه وآله، وسمعتَ حديثه، وغزوتَ معه، وصلّيتَ معه. حدّثنا يا زيد ما سمعتَ من رسول الله صلّى الله عليه وآله. فقال: يا ابن أخي! كبر سنّي، وقدم عهدي، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلّى الله عليه وآله، فما حدّثتكم فاقبلوه وما لم أحدّثكم فلا تكلّفونيه، ثمّ قال رضي الله عنه: قام رسول الله صلّى الله عليه وآله يوماً خطيباً فينا بماءٍ يُدعى خُمّاً بين مكّة والمدينة فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ، ثمّ قال صلّى الله
عليه وآله: أمّا بعد، أيّها الناس! إنّما أنا بشرٌ يُوشك أن يأتيني رسول ربّي فأجيب، وإنّي تاركٌ فيكم الثقلين أوّلهما كتاب الله تعالى فيه الهُدى والنور، فخذوا بكتاب الله فاستمسكوا به فحثّ على كتاب الله ورغّب فيه، وقال صلّى الله عليه وآله: وأهل بيتي أذكّركم الله في أهل بيتيالخ.۱
وقال ابن حجر في الصواعق:
لقد حدّث الديلمي عن أبي سعيد الخدريّ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال: {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ}٢ عَن وِلاية عليّ. ومن المحتمل أن يكون هذا المعنى نفس المراد حيث ورد هناك أنّه: رُوي أنّ المراد في {وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ} ولاية عليٍّ وأهلُ بيته عليهم السلام.٣
ويُروى عن جابر بن عبد الله أنّه قال:
جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه وآله وقال: يا محمّد! اعرض عليّ الإسلام فقال: تشهّد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأنّ محمّداً عبده ورسوله. قال: تسألني عليه أجراً؟! قال: لا إلّا المودّة
في القربى. قال: قرابتي أو قرابتك؟! قال: قرابتي. قال: هات، أبايعك، فعلى من لا يحبك ولا يحب قرابتك لعنة الله. فقال النبي صلى الله عليه وآله: آمين.۱
ورُوي عن ابن عباس أنّ النبيّ صلّى الله عليه وآله قال:
لو أنّ رجلًا صَفَنَ٢ بين الرُكن والمقام، ثمّ لقيَ الله وهو مبغضٌ لأهل بيت محمّدٍ دخل النار.٣
ونقل الحاكم هذا الحديث في مستدركه وصحّح إسناده وكذلك صحّحه الذهبي في تلخيصه.
وروى الطبرانيّ أيضًا في «الأوسط» عن طريق أبي ليلى عن سيّد الشهداء عليه السلام، عن جدّه رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال:
الزموا مودّتنا أهل البيت فإنّه من لقي الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلّا بمعرفة حقّنا.٤
بعض الروايات في لزوم مودّة أمير المؤمنين
وقد روى مثله الحافظ السمّان في كتاب «الأمالي» بإسناده عن رسول الله صلّى الله عليه وآله:
لو أنّ عبداً عَبَدَ الله سبعة آلاف سنةٍ- وهو عمر الدنيا- ثمّ أتى الله عزّ وجلّ يُبغض علياً بن أبي طالب، جاحداً لحقه، ناكثاً لولايته؛ لأتعس الله خيره وجدع أنفه.۱
وأخرج الخوارزمي في «المناقب» عن النبيّ صلّى الله عليه وآله، أنّه قال لعليّ:
يا عليّ؟ لو أنّ عبداً عبد الله عزّ وجلّ مِثلَ ما قام نوح في قومه، وكان له مثل أحدٍ ذهباً فأنفقه في سبيل الله، ومدّ في عمره حتّى حجّ ألفَ عامٍ على قدميه، ثمّ قُتل بين الصفا والمروة مظلوماً، ثمّ لم يوالك يا عليّ؟ لم يشمّ رائحة الجنّة ولم يدخلها.٢
وروى الخوارزمي مثله عن أم سلمة، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال:
يا أمَّ سلمة! أتعرفينه؟! قلت: نعم، هذا عليٌّ بن أبي طالب. قال: صدقتِ، سَجيّته سجيّتي، ودمُه دمي، وهو عيبة علمي؛ فاسمعي واشهدي: لو أنّ عبداً من عباد الله عزّ وجلّ عَبدَ الله ألف عامٍ بين الركن والمقام، ثمّ لقي الله عزّ وجلّ مبغضاً لعليّ بن أبي طالب وعترتي، أكبّه الله تعالى على منخره يوم القيامة في نار جهنم.۱
وأخرج ابن عساكر في تاريخه مسنداً عن جابر بن عبد الله، عن رسول الله صلّى الله عليه وآله، في حديثٍ:
يا عليّ! لو أنّ أمّتي صاموا حتّى يكونوا كالحنايا، وصلّوا حتى يكونوا كالأوتار، ثمّ أبغضوك؛ لأكبّهم الله في النار.٢
و أخرج أبو عبد الله الملا في سيرته، عن ابن عباس:
أنّه مرّ بعد ما كُفَّ بصره٣ على قوم يسبُّون عليّاً فقال لقائده: ما سمعتَ هؤلاء يقولون؟ قال: سبّوا عليّاً! قال: رُدّني إليهم. فردّه،
فقال: أيّكم السابُّ لله عزّ وجلّ؟! قالوا: سبحان الله من سبّ الله فقد أشرك. قال: فأيّكم السابُّ لرسول الله؟! قالوا: سبحان الله، ومن سبّ رسول الله فقد كفر.
قال: أيّكم السابُّ عليّ بن أبي طالب؟! قالوا: أمّا هذا فقد كان. قال: فأنا أشهد بالله وأشهد أنّي سمعتُ رسول الله صلّى الله عليه وآله يقول: من سبّ علياً فقد سبّني، ومن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ، ومن سبّ الله كبّه الله على منخريه في النار. ثمّ ولّى عنهم فقال لقائده: ما سمعتَهم يقولون؟ قال: ما قالوا شيئاً. قال: فكيف رأيت وجوههم إذ قلت ما قلت؟ قال:
نظروا إليك بأعين محمرّةٍ | *** | نظر التيوس إلى شفار الجازر |
قال: زدني فداك أبوك. قال:
خزر العيون نواكسٌ أبصارهم۱ | *** | نظر الذليل إلى العزيز القاهر |
قال: زدني فداك أبوك. قال: ما عندي غير هذا. قال: لكن عندي:
أحياؤهم عارٌ على أمواتهم | *** | والميتون فضيحةٌ للغابر۱٢ |
معاناة فاطمة عليها السلام وخيانة الأمّة في الوفاء بأجر الرسالة
ثمّ في النتيجة، ومع كل هذه التوصيات التي صدرت من جانب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، نجد أنّ الأمّة ومنذ اليوم الأول لارتحاله قد وفّته أجر الرسالة أيّ وفاء؟! فقبل أن يدفن النبيّ ويكفّن تداعوا في سقيفة بني ساعدة على سلب الحكومة والرئاسة، ثمّ قاموا بالهجوم على بيت الولاية والطهارة.
يقول النظّام٣:
إنّ عُمَر ضرب بطن فاطمة عليها السلام يوم البيعة حتّى ألقت المُحسن من بطنها، وكان يصيح أحرقوها بمن فيها. وما كان في الدار غير عليّ وفاطمة والحسن والحسين.۱
لقد اجتمعت على فاطمة سلام الله عليها مصائب جمّة؛ فمن جهةٍ كانت تُدافع عن غصب مقام الولاية والخلافة الإسلامية وحرفها عن محورها الأصلي مع غاية الألم والمعاناة التي صاحبت ذلك.
يقول ابن قتيبة الدينوري:
وخرج عليٌّ كرّم الله وجهه يحمل فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على دابّة ليلًا في مجالس الأنصار تسألهم النصرة، فكانوا يقولون: يا بنت رسول الله، قد مضت بيعتنا لهذا الرجل، ولو أنّ زوجك وابن عمّك سبق إلينا قبل أبي بكر ما عدلنا به. فيقول عليّ كرّم الله وجهه: أفكنت أدع رسول الله صلى الله عليه وآله في بيته لم أدفنه وأخرج أنازع الناس سلطانه؟! فقالت فاطمة: ما صنع أبو الحسن إلّا ما كان ينبغي له، ولقد صنعوا ما الله حسيبهم وطالبه.٢
ومن جهة أخرى، كانت تتعرّض للأذى والإهانة الواضحة، مضافاً إلى غصب فدك وسهمها من خيبر وسهمها من حقوق ذوي القربى، أضف إلى ذلك المخاصمات والمجدالات التي وقعت مع أبي بكر وعمر. غير أنّ الإرهاق الجسدي وإسقاط الجنين لم يُبقيا لها من حولٍ أو قوّةٍ. خاصّة أنّه مع فقدان أبٍ كرسول الله، وكان يجدر بهذه الأمّة أن تحميها وأن لا تتركها وحيدةً، بل كان ينبغي أن تعمل على تعزيتها وتسليتها.
لكنّ هذه الأمّة وفت النبيّ أجر رسالته، حيث تركت الزهراء الصدّيقة وحيدة على سرير المرض بقلب حزين منكسر، فكما ورد في رواية ابن قتيبة أنّها لم تبق فى الدنيا بعد والدها أكثر من خمس وسبعين يوماً۱ أو في رواية ابن أبي الحديد أكثر من اثنين وسبعين يوماً.٢
فقد آذوها إلى الحدِّ الذي لم تسمح لأبي بكر وعمر بالدخول عليها، إلى أن توسّطوا لدى أمير المؤمنين فيما بعد لعيادتها وزيارتها، فسلّموا عليها، فأدارت وجهها، ولم تردّ السلام مع أنّ ردّ السلام واجب على كلّ مسلم، ومن هنا صار معلوماً بأنها لم تعترف بإسلام أبي بكر وعمر.
يقول ابن قتيبة:
بعد أن حملوا علياً إلى المسجد ولم يُبايع، ذهب بقلبٍ حزين إلى قبر النبيّ وجلس يبكي ويصيح عنده، فقال عُمَر لأبي بكر رضي الله عنهما: انطلق بنا إلى فاطمة فإنّا قد أغضبناها؛ فانطلقا جميعاً فاستأذنا على فاطمة فلم تأذن لهما، فأتيا عليّاً فكلّماه فأدخلهما عليها، فلمّا قعدا عندها حوّلت وجهها إلى الحائط، فسلّما عليها فلم تردّ السلام.
ثم قال ابن قتيبة:
بعد أن بدأ أبو بكر بالاعتذار بأنّني إنّما حرمتك من الإرث لأنّي سمعت رسول الله يقول: لا نورّث، ما تركنا فهو صدقة.
فقالت: أرأيتكما إن حدثتكما حديثاً عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، تعرفانه وتفعلان به؟! قالا: نعم. فقالت: نشدتكما الله ألم تسمعا رسول الله يقول: رضا فاطمة من رضاي و سخط فاطمة من سخطي، فمن أحبّ فاطمة ابنتي فقد أحبّني، ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني، ومن أسخط فاطمة فقد أسخطني؟ قالا: نعم، سمعناه من رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم.
قالت: فإنّي أشهد الله وملائكته أنّكما أسخطتماني وما أرضيتماني، ولئن لقيت النبيّ لأشكونّكما إليه ... والله لأدعونّ الله عليك في كل صلاة أصلّيها.۱
وقد نقلنا فيما مضى عن «أسد الغابة» أنّ فاطمة عليها السلام أوصت أن لا يدخل عليها أحدٌ، ولذا منعت أسماءُ عائشةَ عندما أرادت الدخول، رغم أنّها توسّلت بوالدها الخليفة آنذاك، وقالت له أسماء: هي أمرتني أن لا يدخل عليها أحد؛ وغسّلتها هي وعلي.٢
ونقلنا مثله عن صحيح البخاري وأنّ عليّاً دفن فاطمة ليلًا وصلّى عليها بنفسه وأنّ أبا بكر لم يكن يعلم بذلك.٣
ويقول عليّ بن برهان الدين الحلبي الشافعي:
وقال الواقدي: وثبت عندنا أنّ عليّاً كرّم الله وجهه دفنها رضي الله عنها ليلًا وصلّى عليها ومعه العباس والفضل رضي الله عنهم، ولم يُعلموا بها أحداً.٤
وينقل الحرّ العاملي في رجاله في رسالة بعنوان «رسالة في معرفة الصحابة» عن الكشّي، بإسناده المتصل عن زرارة، عن أبي جعفر، عن جدّه عن جدّه عن عليّ بن أبي طالب عليهم السلام، أنّه قال:
«ضاقت الأرض بسبعة بهم ترزقون وبهم تنصرون وبهم تمطرون، منهم سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار وحذيفة رحمة الله عليهم وأنا إمامهم، وهم الذين صلّوا على فاطمة».۱
المجلس السابع: علّة جعل القرآن مودّة القربى كاجر على الرسالة
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ٣۰ جمادى الاولى ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ٢٣ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٢٤ وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ٢٥ وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}۱.
سرّ تأكيد القرآن على مودّة أهل البيت
يُلاحظ في القرآن الكريم أنّه قد تمّ التأكيد على بعض الأحكام الشرعيّة بشكلٍ كبيرٍ. ومع أنّه كان يُستبعد في الظاهر أن يكون هذا النوع من التأكيد أمراً ضروريّاً، إلّا أنّه بعد وفاة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم وبسبب عدم العمل بذلك الحكم ونموّ جذور الفساد، فقد عادت آثار سيّئة وعواقب وخيمة على المسلمين، وبالتالي اتّضح بأنّ إصرار القرآن المجيد وتأكيده على ذلك الحكم، وتوعّدَه بالتبعات الخطيرة والعذاب الأليم من خلال إبراز الشدّة في لحن آياته، كلّ ذلك كان من أجل تلافي الوقوع في تلك النتائج المشؤومة. هذا مع أنّه يحتمل أن يكون ذلك قد أثار دهشة المسلمين وتعجّبهم في زمان رسول الله حينما أُنزل ذلك الحكم من قِبل الله وتمّ التأكيد عليه بوضوحٍ، فاعتقدوا بأنّه ليس من المناسب التأكيدُ الشديد على أمر حقير، لكن بعد مشاهدة الآثار التي ترتّبت عليه بعد ذلك، اتضح جليّاً بأنّ جميع تلك التأكيدات كانت في محلّها.
فإذا قام متكلّم حكيم بالتأكيد على أمر بسيط، ثمّ بالغ في ذلك التأكيد وألحّ عليه، أو أنّه وجّه خطابه إلى من لا يمتلك الأهليّة لتلقّي ذلك النوع من الخطاب، فإنّنا نستنتج من ذلك احتواء ذلك الأمر البسيط على سرّ كبير مستتر قد خفي عن المخاطَب والمكلَّف به. فمن باب المثال، لو تمّت مخاطبة عالم زاهد قد قضّى أيّام حياته في العبادة والزهد واعتزال الدنيا والترفّع عن جمع زخارفها أن:
يا أيّها الرجل! لا تزْنِ في الطريق العامّ أمام أنظار الآلاف من الأشخاص! أو مثلًا توجّه الخطاب إلى شخص متقيّد بالآداب: ألّا تصيح في الشارع ولا تمش وأنت عريان كما ولدتك أمّك! فإنّنا نستكشف من ذلك وجود شوائب من الهواجس النفسانيّة في ذلك العالِم إذا لم يسع نحو رفعها فإنّه من الممكن- لا قدّر الله- أن يُؤدّي ذلك بالتدريج إلى صدور مثل ذلك العمل منه، وأنّ ذلك الرجل الحكيم العليم الفطِن قد شاهد في ذلك العالم بعض الآثار الدالّة على بروز مثل هذه الحادثة منه. أو أنّه قد شُوهد في ذلك الشخص المؤدّب بالآداب الحسنة بعض المظاهر التي إذا لم يهتمّ برفعها فإنّه من الممكن لتلك البذرة الصغيرة والخفيّة لعدم العفّة والحياء أن تنموَ فيه شيئاً فشيئاً إلى أن يصل به الأمر- من خلال البيئة والعوامل الخارجيّة- إلى أن يعتبر بأنّ المشي في الطريق العامّ بدون لباس أو ساتر والصياح والعربدة عملًا حسناً. ولهذا من اللازم عليه أن يأخذ بعين الاعتبار كلام ذلك الناصح الفطِن والحكيم الخبير وأن يُطيعه لكي لا تحصل له مثل هذه الحوادث.
بعض الموارد التي أكّد القرآن ونبّه عليها
وفي القرآن المجيد توجد العديد من الموارد التي تمّ التأكيد عليها بشكل كبير. وقد كان الإصرار والتنبيه عليها كبيراً جدّاً إلى درجة يُحتمل معها أن يكون ذلك الإصرار والتأكيد وذلك النوع من التنبيهات المتّخذة في حقّ المخالفين
لذلك الحكم قد أثار تعجّب المسلمين في ذلك العصر. ومن باب المثال، سنتعرّض لبيان بعض الموارد:
أوّلًا: التنبيه من المعاملات الربويّة والتأكيد على تركها
المورد الأوّل: ما يرتبط بالمعاملات أو القروض الربويّة، حيث تمّ في القرآن المجيد النهي عن إيقاعها بلحنٍ عجيبٍ جدّاً، بقوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ}۱.
أي: أنّه [أي: آكل الربا] سيفقد بواسطة هذا العمل الدنيء جميعَ صفاته وكمالاته الإنسانيّة، وسيقوم بإسقاط إنسانيّته ويخرج من زُمرة البشر، فكأنّه قد غيّر ماهيته ودخل في زُمرة الشياطين.
ويقول بعد ذلك في ذيل هذه الآية: {وَ مَنْ عادَ (إلى ارتكاب الربا بعد نزول هذه الآية وحرمة الربا) فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ}.
ثمّ يقول: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ}٢؛ (سيقضي الله تعالى على ثمرة الربا، وسيرفع بركته وخيره ورحمته، وعلاوةً على ذلك فإنّه سيجعل تلك الزيادة عُرضة للهلاك والضياع. وأمّا النفقات
والصدقات فمع أنّها تُؤدّي في الظاهر إلى نقصان المال، لكنّها ستفضي في الحقيقة إلى زيادته ووفرة النعم ونزول الخير والرحمة. والذين يأكلون الربا هم أشخاص عاصون، والله لا يُحبّ العاصي الذي يكفر بالنعم).
ويقول بعد ذلك: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}۱؛ (يا أيّها الذين آمنوا وأسلَموا، اتقوا ربّكم، وتنازلوا عن جميع الأرباح المترتّبة على تلك القروض الربويّة التي منحتموها من بعدِما تُليت عليكم هذه الآية واطّلعتم على حرمة الربا، واصرفوا أنظاركم عن الربح الحاصل من تلك الأموال إن كنتم مؤمنين. واعلموا أنّكم إذا لم ترضخوا لهذا الحكم، فإنّكم تكونون قد وضعتم أنفسكم في موضع المواجهة مع الله ورسوله، أي: إنّ الله ورسوله سيقومون بمحاربة آكل الربا الذي أعلن من خلال هذا الفعل الشنيع الحرب على الله ورسوله).
ونُلاحظ في هذه الآيات إلى أيّ حدّ قد تمّ التحذير عن الربا، مع أنّه كان مُتداولًا في عهد رسول الله بشكل بسيط وبين أفراد معدودين، حيث لم تكن قد ظهرت بعدُ في العالم المعاملات الربويّة الدقيقة والربا المركّب، وتأسّست البنوك التي بنت أنظمتها وقوانينها الداخليّة على أساس الربا لِتعصف بثروة الناس الضعفاء من خلال شتّى وسائل الدعاية والإشهار، وحتّى أنّه في تلك
الأيّام لم تكن قد انعقدت بعدُ نطفة هذا القسم من المعاملات الربويّة لكي يُصدر القرآن مثل هذا الحكم القاسي والخطير. ويُمكننا أن نعدّ بحقّ هذا الحكم من الملاحم والمعاجز التي جاء بها القرآن حول الربا.
والسبب في ذلك هو أنّ الربا كالنار التي تُحرق أطراف كلّ محلّ تقع فيه، وتوسّع من مكانها، وتسري من الفرد إلى المجتمع، وبالتالي سينقسم الناس من خلال اتباع هذه المعاملات إلى طبقة ضعيفة وطبقة غنيّة. فبسبب القروض الربويّة وعدم القدرة على تسديدها، ستكون طبقة من الناس ساقطة على الدوام عن درجة الوجود، وسيُضاف ذلك- وبنفس الدرجة- إلى ثروة تلك الجماعة من المُترفين والمعتدين.
وتبعاً لهذا الاختلاف الطبقي ستفسد المعنويّات، وتُزرع في القلوب بذور الحسد والبغضاء والبخل، وتُشعل الحروب والصراعات الدوليّة فضلًا عن النزاعات المحليّة، بحيث سينهدم أساس الإنسانيّة ويُصبح هشيماً تذروه الرياح، وتخرُب الدنيا وتظهر بصورة قبيحة وذميمة.
وأمّا إذا اقتُلع الربا من جذوره، فإنّ هذه الخسائر النفسيّة والماليّة والروحيّة لن تُصيب الناس، ولن تسريَ من الأفراد إلى المجتمع، ولن تُظهر الدنيا صورتَها الكريهة على شكل نار ظاهريّة ومعنويّة تُحرق الناس.
ومن المحتمل أن يكون هذا المعنى الوارد في القرآن الكريم مثاراً للتعجّب في تلك الأيّام. وكذلك الأمر بالنسبة للراوايات الصادرة عن رسول الله وأئمّة أهل البيت عليهم السلام التي تحدّثت بلحن شديد حول الربا- والتي مفادها أنّ معصية أكل درهم واحد من الربا تفوق الزنا بالأمّ في بيت الله الحرام- حيث أنّها قد تكون بدورها مثيرة للتعجّب.۱
وأمّا في هذا العصر- حيث إنّ تلك النطفة الكامنة قد انعقدت شيئاً فشيئاً وظهرت على شكل جنين وطفل رضيع وبعد ذلك ستقطع مراحل أخرى من عمرها في هذه الدنيا- فقد تبيّن حقّاً كم هي عالية وقيّمة تلك المطالب التي بيّنها القرآن المجيد، وأنّ معصية الربا تفوق بحقٍّ الزنا بالأمّ في بيت الله الحرام. ولهذا لا نجد في القرآن المجيد بأنّ المعصية المترتّبة على أقبح عمل (نظير الزنا وشرب الخمر والقمار والظلم وحتّى قتل شخص بريء) قد بلغت درجة معصية الربا في العظمة والكبر.
ثانيًا: التنبيه والتأكيد على عدم مودّة الكفّار ومحبّتهم
المورد الثاني:۱ من الموارد التي تمّ التأكيد عليها بشكل كبير في القرآن المجيد هو مودّة الكفّار ومحبّتهم: سواءً كانوا مشركين أم كانوا يهوداً ونصارى. ويُعدّ التنبيه في هذا المجال كبيراً إلى درجة أنّه يُخرج الشخص الذي يعقد معهم علاقة المودّة والمحبّة عن زُمرة المؤمنين بشكل كلّي.
{لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ}.٢
حيث يُوجّه الله تعالى خطابَه للرسول قائلًا: يا أيّها الرسول! لن تعثر على أيّ طائفة من الذين يُؤمنون بالله ويوم القيامة يُحبّون أعداء الله.
ويقول أيضًا: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (الذين يسلكون باختيارهم طريق الانحراف).٣
وكذلك يقول: {وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ (اليهود والنصارى) أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (وهم الذين يُحبّونهم ويودّونهم).۱
ونلاحظ بأنّ هذه الآيات قد قامت بإخراج الأشخاص الذين يعقدون أواصر الصداقة والمحبّة مع المشركين واليهود والنصارى من زُمرة المؤمنين؛ فكأنّ الإسلام لا يجتمع مع مودّتهم. وهذا ليس لأنّ القرآن لا يرغب في وصول الخير إليهم، وإنّما السبب في ذلك هو أنّ المودّة والمحبّة ستُفضي شيئاً فشيئاً إلى التعرّف عليهم والأُنس بهم، وهذه المؤانسة والمجالسة ستؤدّي بدورها إلى تأثير أفكارهم وملكاتهم الروحيّة في الفرد المسلم.
ومن المعلوم بأنّ أصل الإسلام والإيمان يكمن في ذلك الاعتقاد الصافي بالله والإيمان الراسخ برسول الله ويوم المعاد وبالأحكام والأوامر الإلهيّة. وبما أنّ المسلم سيُصاب بالتزلزل والاضطراب في إيمانه وعقيدته الصافية بسبب التقارب معهم، فإنّه لن يكون من الناحية المعنويّة مؤمناً ولو كان بحسب الصورة الظاهريّة متقيّداً بالآداب الإسلاميّة. ومن خلال محبّتهم ومُتابعة أفكارهم، سينقاد لهم تدريجيّاً في أعمالهم ومناهجهم وعاداتهم وتقاليدهم المتّبعة في الأمور المعيشيّة والاجتماعيّة إلى حدّ تضعُف في ذلك المسلم- المتّصف
بقوّة الإرادة والجهاد في سبيل الله وإقامة الصلاة والإنفاق في سبيل الله- تضعف فيه هذه الصفات تدريجيّاً ليحلّ محلّها الضعف والفتور والوهن في جميع الأمور، بالإضافة إلى شرب الخمر والقمار وممارسة أنواع الفحشاء والمنكرات.
أجل، في تلك الأيّام التي كان يُحذّر فيها القرآنُ المجيد المسلمينَ من مؤانسة الكفّار ومودّتهم مُستعملًا في ذلك خطاباً متشدّداً، من المحتمل ألّا تكون المفاسد المترتّبة على ذلك واضحةً لديهم بشكل جليّ، بحيث أنّهم حملوا هذا النوع من التشديدات على المبالغة؛ وأمّا في هذا العصر الذي صارت فيه عاداتهم وتقاليدهم رائجة في البلدان، بحيث أصبحوا في كلّ يوم- بسبب التواصل وعقد اللقاءات الحميمة معهم والاستقاء من مدرستهم- يُقدّمون لنا هديّة جديدة من رذائلهم الأخلاقيّة، فقد صار هذا الأمر واضحاً للجميع وكيف أنّ مجتمعاً قويّاً ومتيناً، مقيماً للصلاة، صاحب إرادة واختيار، يُصاب رُويداً رُويداً بالذلّة والضعف ويفقد جميع كمالاته الروحيّة ويصل إلى مرحلة الهلاك.
ثالثاً: التنبيه والتأكيد على مودّة القربى
المورد الثالث: يتعلّق بنفس هذه المسألة التي نبحث عنها، أي: مودّة ذوي القربى. ينبغي علينا أن نعلم بأنّ رسالة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله تُمثّل
أمراً معنويّاً وحقيقيّاً وخالياً عن شوائب التصنّع والتحفّظ ومُغايراً للعقود والسنن الاجتماعيّة الجعليّة.
فالرسالة هي بمعنى بعثته صلّى الله عليه وآله وسلّم على أساس الوحي الإلهي واتّصال قلبه بالعوالم العالية واكتساب الفيض القلبي من الأنوار القدسيّة، ومعرفة الله وأسمائه وصفاته، ومعرفة النفس وطُرق كمالها، والاطّلاع على وساوس الشيطان وطُرق إغوائه من خلال النفس الأمّارة، وأخيراً الاطّلاع على أسرار الخلقة وأسرار الإنسان الخفيّة من حيث الباطن والإدراك القلبي عن طريق جبريل الأمين.
وعلى الرغم من أنّ عالم المُلك سيتنوّر تبعاً لهذه الأنوار الملكوتيّة، وتظهر عند ذلك الآلاف المؤلّفة من الأحكام الاجتماعيّة الموضوعة من أجل تكميل النفوس البشريّة، إلّا أنّ جميع هذه الأمور هي تابعةٌ لذلك السرّ الإلهي وداخلة في شعاع ذلك المشعل المعرفي.
ومن المعلوم أنّ هذا الأمر كان منحصراً بعد رسول الله بأهل البيت فقط، فلم يكن أحدٌ غيرُهم مطّلعاً على المعاني الخفيّة وبواطن الأمور وأسرار القرآن المجيد وطُرق تكميل النفوس البشريّة وتأويلات الكتاب السماوي. وحتى لو حصل لبعضهم الاطّلاع على ذلك، فقد كان اطّلاعاً إجماليّاً وضمن حدود خاصّة.
وأمّا بالنسبة إلى الوجود المقدّس لأمير المؤمنين عليه أفضل الصلاة والسلام، فقد كان ذلك بنحو أعلى وأكمل، حيث كان عليه السلام بمنزلة رسول الله وتاليَ تلوه صلّى الله عليه وآله وسلّم من حيث الإدراكات والمعارف والاتّصال بالعوالم الغيبيّة، وكان التلميذ الأوّل لهذه المدرسة، وقد كان يُمثّل على هذا الصعيد حقيقة النبوّة وسرّ الولاية وروح الأسرار وزُبدتها.
فالأحاديث التي رواها كلّ من الشيعة والسنّة بطرق مستفيضة أو متواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال: «عليٌّ كنفسي»، «عليٌّ بمنزلتي»، «خُلقت أنا وعليٌّ من نور واحد»، «خُلقت أنا وعليٌّ من شجرة واحدة»، «عليٌّ أخي»، وأمثال هذه العبارات تحكي جميعُها عن هذا المعنى.
ولم تكن حادثة نبوّة رسول الله ونزول القرآن وأحكام الإسلام وعظمة المسلمين في عصره صلّى الله عليه وآله مبتنيةً على نظامٍ اجتماعي لكي تقع موضعاً للبحث والنقاش من ناحية الظاهر فقط ومن دون الالتفات إلى المعنى وباطن الأمر، بل ينحصر اعتمادها على الاتّصال بعوالم الغيب وصفاء الباطن وإدراك العلوم القلبيّة من خلال الطهارة والوصول إلى مقام العبوديّة المحضة.
وبعد وفاة رسول الله، فإنّ تحقّق هذا المعنى لن يستمرّ إلّا إذا تسلّم مقاليد الأمور عقب رسالته صلّى الله عليه وآله شخصٌ نظير أمير المؤمنين لكي يسوق المجتمع البشري وفق نفس المسار الذي كان يمشي عليه الرسول. وأمّا لو أراد شخص آخر لم يتقدّم خطوة واحدة في هذا الأفق من الطهارة أن يُمسك بأزمّة
الحكم، فإنّه لن يسير بالناس في طريق رسول الله، بل سيسير بهم- بحسب حدود إدراكاته- في الطريق الذي طواه بنفسه وبدا له مستحسناً؛ ومن المسلّم أنّ هذا الطريق سيكون مختلفاً في الاتّجاه بشكل كبير عن طريق رسول الله.
وتدلّ الآية القرآنيّة المباركة: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} على هذا المعنى، حيث تُريد هذه الآية أن تُدخل البشر- من خلال مودّة ذوي القربى- في طريق أمير المؤمنين والصدّيقة الكبرى والحسنين عليهم السلام، وتسعى إلى تعريف الناس على حقائق الإسلام وإطلاعهم على سرّ النبوّة، وتهدف إلى استحصال النتيجة من أصل الرسالة والبلوغ بالإسلام الظاهري- الذي يتحقّق وسط الناس من خلال التلفّظ بالشهادتين- إلى درجة الكمال على أساسٍ من معرفة الإمام والوصول إلى مرتبة التوحيد. وتُريد هذه الآية أن تحصر طريق الناس بأجمعهم في أهل بيت الرحمة وتسقيَهم من هذا المنهل، وتصبو أيضًا إلى أن تقود الناس على جادّة هذا الصراط الذي هو بمنزلة أقرب طريق مؤدٍّ نحو السعادة المطلقة وأقصر مسير موصل إلى الهدف الأصلي.
وكم هو كبير وقيّم هذا المعنى الذي جُعل أجراً على الرسالة، بحيث لا يوجد أيّ حكم في القرآن المجيد يُضاهي هذا الحكم في المنزلة والاعتبار!
فلو ارتكب المسلم أيّ معصية من المعاصي، فإنّ أصل إسلامه وأساسه سيبقى على حاله، ولن تتصدّع علاقته القلبيّة مع النبوّة وتنهار دفعةً واحدةً. وأمّا
المسلم الذي لا يمتلك مودّة الأئمّة الطاهرين ولم يدخل في طريقهم ولم ينهل من خلال ولايتهم من خصائصهم الروحيّة والأخلاقيّة، فإنّ علاقته بالنبوّة ستكون مقطوعة، وسيكون إسلامُ شخصٍ كهذا عقيماً ومتزلزلًا.
ففي زمان رسول الله وبسبب النورانيّة والحرارة المعنويّة التي يمتلكها صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقد وضع مِثل هؤلاء الأشخاص أنفسهم في ضمن شعاع ذلك النور واقتربوا من ذلك المنبع للحرارة، لكنّهم بعد ذلك وفي بيئة مُعتمة وفاترة، أُصيبوا بالجمود وارتدّوا على أدبارهم القهقرى نحو جاهليّة العصور السابقة.
{وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ (إلى نفس أفكار عصر الجاهليّة) وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً (وسيضرّ نفسه فقط) وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} (الذين يتقدّمون نحو الأمام ويسيرون على طريق رسول الله ووِفق منهجه).۱
ويدور الحديث في هذه الآية حول الذين انساقوا بعد وفاة رسول الله وراء أفكارهم النفسانيّة، ورفعوا أصواتهم بنداء «حسبنا كتاب الله»، ولم يروا أنفسهم محتاجين إلى أهل بيت العلم والطهارة، ولم يتقدّموا في أعقاب النبوّة خطوة واحدة في طريق الولاية؛ ولهذا فقد بقوا على نفس أفكارهم الجاهليّة، وتمّ دفنهم هناك.
وعلى كلّ حال فمن المحتمل ألّا تكون ثمرة مودّة أهل البيت- التي حازت على هذه الدرجة من الأهميّة بحيث جُعلت أجراً وثواباً على النبوّة والمشاقّ المضنية التي تحمّلها النبيّ الأكرم- واضحةً على عهد رسول الله، ومن الممكن أن يكون كثير من الناس قد تعجّبوا وتحيّروا من أنّه ما هي الحكمة التي تشتمل عليها مودّة أهل البيت لكي تُجعل في مقابل المشاقّ التي تحمّلها رسول الله؟! وما أكثر ما لوحظ في العديد من مؤلّفات أهل السنّة أنّهم لايزالون باقين في حيرتهم هذه ولم يتمكّنوا من حلّ هذه المسألة.
غير أنّ الرسول الأكرم، الأب المعنويّ للأُمّة، أراد من إيجابه لمودّة ذوي القربى أن يضع هذه الأُمّة على طريق الصفاء والمحبّة؛ لأنّ حقائق الأمور وحقيقة طهارة الأئمّة الطاهرين كانت مكشوفة لديه صلّى الله عليه وآله من خلال النور الإلهي بمقتضى {فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}۱، بحيث كان يراهم جميعهم بعين قلبه سائرين على طريقه ووِفق منهجه.
المودّة لقربى النبيّ في كلام ابن عربي
وقد ورد في التفسير المنسوب إلى محيي الدين بن عربي في ذيل آية المودّة أنّه قال:
ثمرة مودّة أهل قرابته عائدةٌ إليهم؛ لكونها سبب نجاتهم، إذ المودّة تقتضي المناسبة الروحانيّة المستلزمة لاجتماعهم في الحشر، كما قال عليه الصلاة والسلام: «المرء مع من أحبّ».
فلا تصلح أن تكون (ثمرة مودّة أهل البيت) أجراً له (أي للنبيّ)، ولا يُمكن من تكدّرت روحه وبعُدت عنهم مرتبته محبّتهم بالحقيقة، ولا يُمكن من تنوّرت روحه وعرف الله وأحبّه من أهل التوحيد أن لا يُحبّهم؛ لكونهم أهل بيت النبوّة ومعادن الولاية والفتوّة محبوبين في العناية الأولى، مربوبين للمحلّ الأعلى؛ فلا يُحبّهم إلّا من يحبّ الله ورسوله ويحبّه الله ورسوله. ولو لم يكونوا محبوبين من الله في البداية لما أحبّهم رسول الله؛ إذ محبّته عين محبته تعالى في صورة التفصيل (والكثرة) بعد كونه في عين الجمع (والوحدة).
ثمّ يقول بعد ذلك:
وهم الأربعة المذكورون في الحديث الآتي بعد ... رُوي أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول الله! من قرابتك هؤلاء الذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال: «عليّ وفاطمة والحسن والحسين وأبناؤهما»- انتهى كلام محيي الدين.۱
وقد تكون هذه المحبّة والإخلاص والارتباط المعنوي بأرواح الأئمّة الطاهرين هي السبب في كون الاتّصاف بالرأفة والعطف والتسامح موجوداً في شيعتهم ومُواليهم أكثر، والاتّصاف بالخشونة والقسوة موجوداً في مُخالفيهم أكثر.
يقول ابن أبي الحديد:
وَقَد بَقِيَ هَذا الخُلُق مُتوارِثاً مُتَناقِلًا في مُحبّيه وأوليائِهِ إلى الآن، كَمَا بَقِيَ الجَفاءُ والخُشونةُ والوُعورةُ في الجَانِبِ الآخَر، ومَن لَهُ أدنَى مَعرِفةً بأخلاقِ الناسِ وعوائِدِهِم يعرِفُ ذَلِك.۱
المودّة في نصوص أهل البيت عليهم السلام
ومن هنا فإنّ مولانا الصادق عليه السلام كان يوصي بدعوة شباب أهل السنّة إلى الولاية؛ إذ إنّ أرواحهم لم تصر بعدُ مطبوعة على الشقاء، بحيث سيميلون أكثر إلى التوجّه نحو الخير.
روي عن محمّد بن يعقوب الكليني بسنده المتّصل عن إسماعيل بن عبد الخالق أنّه قال:
سَمِعتُ أَبَا عَبدِ الله عليه السلام يَقولُ لِأَبي جَعفرٍ الأَحوَلِ وَأَنا أَسمعُ: أَتَيتَ البَصرَةَ؟ قَالَ: نَعَم! فَقَالَ: كَيفَ رَأَيتَ مُسَارَعةَ الناسِ إِلى هَذا الأَمرِ وَدُخولِهم فِيه؟ فَقَالَ: وَالله إِنَّهم لَقَليلٌ وَقَد فَعَلوا وَإنَّ ذلِك لَقليلٌ! فَقالَ: عَلَيكَ بِالأَحداثِ؛ فَإنَّهم أَسرَعُ إِلى كُلِّ خَيرٍ.
ثُمَّ قَالَ: مَا يَقُول أَهلُ البَصرَةِ فِي هَذِه الآيةِ: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}؟ قُلتُ: جُعلتُ فِداكَ! إِنَّهُم يَقولونَ: لِأَقارِبِ رَسولِ الله صِلَّى الله عَليهِ وَآلِهِ. فَقَالَ: كَذَبوا، إِنَّمَا نَزَلَت فِينا خَاصّةً، فِي أَهلِ البَيتِ، فِي عَلِيٍّ وفَاطِمةَ والحَسَنِ والحُسَينِ، أَصحَابِ الكِساءِ عَلَيهِمُ السلَامُ.۱
ويروي كذلك ابن بابويه القمّي بسنده المتّصل عن الريّان بن الصلت أنّه قال:
حضر الرضا عليه السلام مجلس المأمون بمرو، وقد اجتمع في مجلسه جماعةٌ من أهل العراق- وذكر الحديث وذكر عليه السلام آيات الاصطفاء وهي اثنتا عشرة- قال عليه السلام: والسادسة: قوله عز وجل: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}.
وبعدما تعرّض لشرح وتفصيل المسألة، قال:
وَمُحَمّدٌ صلّى الله عليه وآله فَرَضَ الله عَزَّ وجَلَّ مَوَدَّةَ قَرَابَتِه عَلَى أُمَّتِه وَأَمَرَه أَن يَجعلَ أَجرَه فيهم؛ لِيَوَدُّوه فِي قَرَابَته لِمَعرفةِ فَضلِهِم الذي أَوجَبَ الله عَزَّ وَجَلَّ لَهُم؛ فَإنَّ المَوَدَّةَ إنَّما تَكونُ عَلى قَدرِ مَعرِفَةِ الفَضلِ.
فَلَمَّا أَوجَبَ الله تَعَالَى ذَلِك ثَقُلَ (هذا الأمر على جماعة) لِثِقلِ وُجُوبِ الطاعَةِ (أي طاعة أهل البيت)، فَأَخَذَ بِها قَومٌ أَخَذَ الله مِيثاقَهُم عَلَى الوَفَاءِ، وَعَانَدَ أَهلُ الشِقَاق والنِفَاقِ وأَلحَدوا في ذَلِك فَصَرفُوه عَن حَدِّه الذي قَد حَدَّه الله تَعَالَى، فَقَالوا: القَرَابةُ هُمُ العَرَبُ كُلُّها وَأَهلُ دَعوَتِه (الذين أصبحوا مسلمين).
فَعَلَى أَيِّ الحَالَين كَانَ، فَقَد عَلِمنا أَنَّ المَوَدَّةَ هِيَ لِلقَرابَةِ، فَأَقرَبُهم مِنَ النبيِّ صلّى الله عليه وآله أَولَاهُم بِالمَوَدَّةِ، وَكُلَّمَا قَرُبَت القَرابَةُ كَانتِ المَوَدَّةُ عَلَى قَدرِها. وَمَا أَنصَفوا نَبِيَّ الله صلّى الله عليه وآله في حِياْطَتِه وَرَأفَتِه وَمَا مَنَّ الله بِه عَلَى أُمَّتِه مِمَّا تَعجَزُ الأَلسُنُ عَن وَصفِ الشكرِ عَلَيه أَن يَوَدُّوهُ فِي قَرَابَتِه وَذُريَّتِه وَأَهل بَيتِه وَأَن يَجْعلُوهم فِيهِم بِمَنزِلةِ العَينِ مِن الرأسِ حِفظاً لِرَسولِ الله صلّى الله عليه وآله وَحُبّاً لَهُم.۱
إنكار بعض أهل السنّة لمودّة أهل البيت ولفضائلهم
أوّلًا: كلمات سيّد قطب في المقام
ومن العجيب أنّ بعضاً من أهل السنّة لم يتنازلوا بعدُ عن هذا الهدف، فما زالوا مصرّين بشكل كبير على صرف الناس عن أهل بيت العصمة.
يقول السيّد قطب:
والمعنى الذي أشرت إليه، وهو أنّه لا يطلب منهم أجراً، إنّما تدفعه المودّة للقربى- وقد كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرابةٌ بكلّ بطن من بطون قريش- ليُحاول هدايتهم بما معه من الهدى، ويحقّق الخير لهم إرضاءً لتلك المودّة التي يحملها لهم، وهذا أجره وكفى!
ويقول بعد ذلك:
هذا المعنى هو الذي انقدح في نفسي وأنا أقرأ هذا التعبير القرآني في مواضعه التي جاء فيها.
ثمّ يقول:
وهناك تفسير مروي عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أثبته هنا لوروده في صحيح البخاري، قال البخاري: حدّثنا محمّد بن بشار،
حدثنا محمد بن جعفر، حدّثنا شعبة عن عبد الملك بن ميسرة، قال: سمعت طاووساً يحدّث عن ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أنّه سأل عن قوله تعالى: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} فقال سعيد بن جبير: قربى آل محمّد. فقال ابن عبّاس: عجلت. إنّ النبيّ صلّى الله عليه [وآله] وسلّم لم يكن بطنٌ من بطون قريش إلّا كان له فيهم قرابة. فقال: إلّا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة.
ويكون المعنى على هذا: إلّا أن تكفّوا أذاكم مراعاةً للقرابة، وتسمعوا وتلينوا لما أهديكم إليه؛ فيكون هذا هو الأجر الذي أطلبه منكم لا سواه.
ويقول بعد ذلك:
وتأويل ابن عبّاس- رضي الله عنهما- أقرب من تأويل سعيد بن جبير- رضي الله عنه- ولكنّني ما أزال أحسّ أنّ ذلك المعنى أقرب وأندى.۱
لكنّ هذا الكلام خاطيء تماماً؛ لأنّه:
أوّلًا: ذكرنا سابقاً بأنّ هذا المعنى على خلاف الظاهر ولا يُمكن قبوله بأيّ وجه من الوجوه من دون دليل ووجود قرينة قطعيّة.
ثانيًا: من العجيب أنّه مع وجود كلّ هذه الروايات المستفيضة التي نقلناها عن أهل السنّة الواردة في كتبهم حول مودّة أهل البيت- سواءً في مقام تفسير الآية أم في غير ذلك- فإنّه لم يرجّح إلّا هذه الرواية، وذكر بأنّ المراد من (في القربى) هم جميع طوائف قريش ولا خصوص أهل البيت.
وثالثاً: أنّ رواية ابن عبّاس المتقدّمة مُعارَضة بروايات أخرى منقولة عنه اعتبر فيها بشكل قاطع بأنّ ذوي القربى منحصرون في أئمّة أهل البيت. وقد نقلنا في ضمن الأبحاث السابقة بعض الروايات عن ابن عبّاس بهذا المعنى من كتب السنّة ورواياتهم.۱
يقول المرحوم السيّد شرف الدين: وأخطأ من نسب هذا القول إلى ابن عبّاس اعتماداً على خبر رواه البخاري في باب قوله {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} من كتاب تفسير القرآن من صحيحه، عن محمّد بن بشّار، عن محمّد بن جعفر، وهما ضعيفان بإجماع الإماميّة، ووافقهم يحيى بن معين- كما في ميزان الاعتدال- على تضعيف محمّد بن بشّار، بل كذبّه الفلاس، فراجع. وكيف يقول ابن عبّاس في تفسير القربى غير الذي قلناه مع ما سمعته من الأحاديث الثابتة عنه في تفسير القربى بعلي وفاطمة وأبنائهما وتفسير الحسنة بمودّتهم؟٢
وعلى كلّ حالٍ، ينبغي علينا أن نعلم إلى أيّ حدّ كان يُعاني أهل البيت من المظلوميّة، بحيث أنّه عندما يُكتب تفسير للقرآن بعد ألف وثلاثمائة سنة، فإنّه يكون وِفق نفس المنهج، ولا يكون مؤلّفه مستعدّاً للتقدّم في طريق الولاية ولو لخطوة واحدة.
ثانيًا: وقاحة شاعر النيل وجرأته على أهل البيت
والأعجب من ذلك أن ينظم أحد الشعراء۱ شعراً يعدّ فيه- بكلّ وقاحة وجرأة- حرق عمر لباب الصدّيقة الكبرى من مفاخره، ويقوم الآخرون بالثناء عليه وإعادة طباعة ديوانه.
يقول:
وقَولةٌ لِعليٍّ قالَها عُمَرُ | *** | أكرِم بِسامِعِها أعظِم بِمُلقيها |
حَرَّقتُ دارَكَ لَا أُبقي عَليكَ بِها | *** | إن لَم تُبايِع وبنتُ المُصطفى فيها |
ما كانَ غيرُ أبي حَفصٍ يَفوهُ بِها | *** | أمامَ فارِسِ عَدنانَ وحاميها٢ |
لاحظوا كيف يفتخر بمآثر سلفه وزعيمه عُمر، فيعتبر أنّ إحراق بيت الولاية الذي كان موضعاً لنزول الوحي ومَسكناً لسرّ رسول الله وبضعة المصطفى دليلًا على عظمته.
لقد أصاب ابن أبي الحديد عندما قال بأنّ قسوة المخالفين لأمير المؤمنين وشدّتهم ملحوظة أيضًا في المتابعين لهم.
فعندما يقوم عُروة بن الزبير بتبرير أفعال أخيه عبد الله بن الزبير الشنيعة وجمعه للحطب من أجل إحراق جماعة بني هاشم، ويعدّها حسنةً نظير إحراق عمر دار فاطمة، فما الذي يُمكننا أن نترقّبه من شاعر النيل؟!
ثالثاً: تبرير المسعودي وأضرابه
الإساءة إلى أهل بيت النبوة
ينقل المسعودي في «مروج الذهب»۱، ويحكي عنه كذلك ابن أبي الحديد في «شرح نهج البلاغة»٢ أنّه لمّا امتنعت جماعة من بني هاشم عن البيعة لعبد الله بن الزبير، فإنّه قام بحصر محمد بن الحنفيّة وعبد الله بن عبّاس في جملة سبعة عشر رجلًا من بني هاشم كان من بينهم الحسن المثنّى ابن الإمام الحسن المجتبى، وذلك في شِعب مكّة المعروفة بشِعب عارِم.
وقد كانت هذه الشعب ضيّقة جدّاً لا يُمكن الفرار منها. ثمّ أصدر أمره بجمع حطب عظيم على باب الشعب، بحيث لو وقعت في ذلك الحطب شرارة من نارٍ لأحرقت جميع أولئك الأشخاص وماتوا بسرعة.
ومن ناحية أخرى، فقد حبس ابناً لمحمد بن الحنفية يُسمّى بالحسن في الحبس المعروف بحبس عارم، وهو حبس مُوحِش مُظْلم، وأراد قتله.۱
وأعلن قائلًا بأنّه لا ينقضي يوم الجمعة إلّا والجميع قد بايعني، وفي غير هذه الحالة فسأضرب عنق الجميع أو أُضرم عليهم النار. ومن باب الاتّفاق، فقد عزم على إحراقهم قبل حلول يوم الجمعة، غير أنّ ابن مِسوَر بن مخرمة الزهري أقسم عليه بأن يصبر إلى يوم الجمعة.
ولمّا حلّ يوم الجمعة، طلب محمّد بن الحنفيّة ماءً للغُسل واغتسل، ثمّ تحنّط ولبس ثياباً بيضاء واستعدّ للقتل والإحراق مع جماعة بني هاشم، بحيث لم يكن له أدنى شكّ في أنّ الجميع سيُسلم الروح في ذلك اليوم، وإذا بأبي عبد الله الجَدَلي مرفوقاً بأربعة آلاف من الجُند قد ورد مكّة على حين غرّة قادماً من الكوفة من قِبَل المختار الثقفي من أجل حماية محمّد بن الحنفيّة وجماعة بني هاشم.
ولمّا بلغوا ذات عِرق قال رئيسهم أبو عبد الله الجَدَلي: إنّ هذا الجيش كبير جدّاً، وإذا دخل مكّة على هذه الحالة، فإنّي أخشى أن يصل خبره إلى عبد الله بن الزبير، فيتعجّل بقتل جميع بني هاشم قبل أن نصل إلى شِعب عارم من أجل إنقاذهم. ولذلك فقد أوقف الجيش في ذات عِرق وذهب في الحال بمعيّة سبعمائة فارس إلى مكّة، فلم يشعر عبد الله ابن الزبير بهذا الجيش أبداً حتّى خفقت فجأةً
الراياتُ والجُندُ على رأسه. وذهب الفرسان دفعةً واحدة إلى شعب عارم، وحرّروا محمد بن الحنفيّة وجميع طائفة بني هاشم.
وقد ورد في «شرح نهج البلاغة» أنّ المسعودي قال: وكان عروة بن الزبير يعذر أخاه عبد الله في حصر بنى هاشم في الشعب وجمعه الحطب ليُحرقهم ويقول: إنّما أراد بذلك ألّا تنتشر الكلمة ولا يختلف المسلمون، وأن يدخلوا في الطاعة، فتكون الكلمة واحدة، كما فعل عمر بن الخطاب ببنى هاشم لمّا تأخّروا عن بيعة أبي بكر؛ فإنّه أحضر الحطب ليحرق عليهم الدار.۱
كما نُقل عن ابن عبد ربّه وأبو الفداء أنّه لمّا اجتمع أصحاب أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام في بيت فاطمة من أجل نصرته، بَعَثَ إليهم أبو بَكرٍ عُمرَ بنَ الخطّاب لِيُخرِجَهم مِن بيتِ فاطِمةَ، وقالَ لَهُ: إن أَبَوا فَقاتِلهم! فَأقبَلَ بِقَبسٍ مِن نارٍ على أن يُضرِم عَلَيهمُ الدارَ، فَلَقِيَتهم فاطمةُ فَقَالت: يا بنَ الخطابِ! أَجئتَ لِتُحرِقَ دارَنا؟ قالَ: نَعَم! أو تَدخُلوا في ما دَخَلَت فيه الأُمّةُ (من بيعة أبي بكر).٢
ونُقل عن «كنز العمال» أنّ عمر قال لفاطمة: وما أحدٌ أحَبُّ إلى أَبيكِ مِنكِ، وما ذلِك بِمانِعي إن اجتمعَ هؤلاءِ النفرُ عِندكِ أن أمرتُهُم أن يُحرِقوا عَلَيكِ البابَ.٣
رابعاً: توصيف ابن أبي الحديد معاصي الخلفاء بالصغائر
وعجيب من ابن أبي الحديد- بعد نقله لبعض الحوادث واعترافه بأنّ فاطمة رحلت عن الدنيا وهي غاضبةٌ وحانقةٌ على أبي بكر وعمر- أن يقول: وعندي أنّ معصية عمر وأبي بكر هي من الصغائر.
ويقول في هذا الصدد:
والصحيحُ عندي أنّها ماتَت وَهِيَ واجدةٌ على أبي بكرٍ وعُمرَ، وأنّها أَوصَت إلّا يُصلِّيا عَلَيها، وذلِك عِندَ أَصحابِنا (من أهل السنّة) مِن الأُمورِ المَغفورةِ لَهُما وكانَ الأَولى بِهِما إ كرامَهَا واحترامَ مَنزِلَها.
إلى أن يقول:
والله وليُّ المَغفرةِ والعَفوِ؛ فإنّ هَذا (أي ما صدر من أبي بكر وعمر) لَو ثَبتَ أنّه خطأٌ لَم يَكُن كبيرةً، بَل كَانَ مِن باب الصغائِرِ التي لا تَقتَضي التبَرَّي ولا تُوجِبُ زَوَالَ التولِّي.۱
أنا لم أستوعب- بحسب هذا- ما الذي تعنيه الكبيرة؟! فمع كلّ هذه الروايات المتواترة التي رووها بأنفسهم عن رسول الله صلّى الله عليه وآله في فضل فاطمة وحبّ فاطمة، وشهادتهم بأنّ غضب فاطمة يوجب النار ودخول جهنّم، ماذا يُعدّ إحراقهم لدار بنت رسول الله وبضعة المصطفى- وهي حريم
الأمن والأمان- في الوقت الذي تحصّن فيها أمير المؤمنين وجماعة بني هاشم وصحابة رسول الله الكبار نظير سلمان والمقداد وأبي ذرّ وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان والعباس بن عبد المطّلب وغيرهم- بصفتها تمثّل حرماً وملجأً- وكذلك فتحهم للباب وهجومهم على الدار وجرّهم للمتحصّنين في الشوارع والطرقات إلى المسجد أمام أنظار أهل المدينة، وإسقاط فاطمة لجنينها، وذهابها إلى المسجد صائحةً نائحةً برفقة جماعة من نساء بني هاشم وغيرهنّ، ودفاعها عن المتحصّنين وعن زوجها علي بن أبي طالب وصيّ رسول الله، وارتفاع صوتها بالبكاء والنحيب في المسجد؟ أفلا يكون ذلك معصية كبيرة وموجباً لزوال محبّة الشيخين وباعثاً على التبرّي والنفور منهم؟! وإذا كانت هذه من الصغائر، فما الذي تعنيه الكبيرة إذن؟!
إنّهم لم يتوانوا عن التسبّب في أيّ أذى وألم حتى يُمكننا أن نعدّ تلك المرتبة من الأذى- التي توانوا عنها- بمثابة معصية كبيرة؛ {وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ}۱، هذا مع أنّ الإساءة إلى حِذاء تلك الطاهرة المطهّرة يُعتبر كبيرة من الكبائر، واقتراف جُرم بمقدار واحدٍ من الألف من الجرائم التي ارتكبوها يوجب الخلود في النار ويوجب التبرّي وزوال التولّي.
المجلس الثامن: اوّل القرابين الّسيدة الزهراء سلام الله عليها و ابنها المحسن
(خلاصة موعظة يوم الجمعة ۷ جمادى الثانى ۱٣٩۱ هـ)
مسجد القائم فى طهران
أعوذُ بِالله مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيم
بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحيم
وَصَلَّى الله عَلَى سَيّدِنا مُحمَّدٍ وَآلِهِ الطيِّبينَ الطَّاهِرين
وَلَعنَةُ الله عَلَى أعْدائِهِمْ أجْمَعين مِنَ الآنَ إلَى قِيامِ يَوْمِ الدّين
وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إلّا بِالله العَليِّ العَظيم
قال الله الحكيم في كتابه الكريم:
{قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ٢٣ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ٢٤ وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ ٢٥ وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}۱.
روى عبد الله بن جعفر الحميري في كتاب «قرب الإسناد» بإسناده، عن هارون بن مسلم، قال: حدّثني مسعدة بن صدقة، قال: حدّثني جعفر بن محمّد عن آبائه عليهم السلام:
«لمّا نزلت هذه الآية على رسول الله صلّى الله عليه و آله: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}، قام رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقال: أيّها الناس، إنّ الله تبارك و تعالى قد فرض لي عليكم فرضاً، فهل أنتم مؤدّوه؟ قال: فلم يجبه أحدٌ منهم، فانصرف. فلمّا كان من الغد قام فيهم فقال مثل ذلك، ثمّ قام عنهم. ثمّ قال مثل ذلك في اليوم الثالث، فلم يتكلّم أحد. فقال: أيها الناس، إنّه ليس من ذهبٍ و لا فضّةٍ و لا مطعمٍ و لا مشربٍ. قالوا: فألقه إذن. قال: إنّ الله تبارك و تعالى أنزل علي: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} قالوا: أمّا هذه فنعم».
فقال أبو عبد الله عليه السلام: «فو الله ما وفَّى بها إلّا سبعة نفرٍ: سلمان وأبو ذر وعمّار والمقداد بن الأسود الكندي وجابر بن عبد الله الأنصاري ومولى لرسول الله صلّى الله عليه وآله يُقال له: الثّبيت وزيد بن أرقم».۱
وروى أيضًا أحمد بن محمّد بن خالد البرقي في كتاب «المحاسن» بإسناده عن عبد الله بن عجْلان أنّه قال:
سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز و جل: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}، قال: «هم الأئمّة الذين لا يأكلون الصدقة، و لا تحلّ لهم».۱
المراد من الحسنة في الآية
ثمّ إنّ الله تعالى يقول: {وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ}٢، وعليه فالمراد من الاقتراف نفس الاكتساب، كما أنّ المراد من الحسنة ما يكون مورد قبولٍ عند الله فيستحقّ الثواب عليه. ومن المعلوم أنّ حسن الفعل عبارةٌ عن تناسب ذلك الفعل مع سعادة الإنسان وهدفه الغائي. وفي المقابل فسوء الفعل عبارةٌ عن عدم تناسب ذلك الفعل مع كمال الإنسان وتنافيه مع الوصول إلى المقصد.
ولأجل هذا التناسب فُسّرت الحسنة في أخبار الأئمّة عليهم السلام بالولاية؛ وذلك لأنّ معنى الولاية يبتني على أنّ كلّ قولٍ وفعلٍ وخُلقٍ وعلمٍ
وشهودٍ وحالةٍ، فهو في طريق القصد والوصول إلى الكمال الذي هو عين مقام التوحيد، وتخلّي العبد عن جميع مراتب النفس، وبقائها ببقاء الحقّ تعالى. وعلى هذا الأساس فولاية الأئمّة الطاهرين موجبةٌ لحصول هذا الرقي، وهو السير من ذروة البهيميّة إلى أوج الإنسانيّة والوصول إلى أُفق التوحيد وإدراك المعارف الإلهيّة، ولذا فسّرت المحبّة والمودّة والتسليم المحض لأوامرهم بالولاية التي هي عين ولاية الله سبحانه فعلًا وقولًا واعتقاداً.
ومن هنا يمكن في ضوء هذا المعنى تشخيص الحسن والقبح أو الحسنة والسيّئة أو الشقاوة والسعادة. فالحسنة عبارةٌ عن كلّ فعل يقرّب الإنسان إلى مقصوده، والسيّئة عبارةٌ عن كلّ فعلٍ أو قولٍ أو شهودٍ أو حالةٍ تبعد الإنسان عن مقصده الواقعي ومطلوبه الحقيقي.
وقد تقدّم سابقاً أنّ الإمام الحسن المجتبى عليه السلام خطب في مسجد الكوفة بعد شهادة أمير المؤمنين عليه السلام، فقال: المراد من اقتراف الحسنة هو مودّتنا أهل البيت.۱
كما أنّنا نقلنا عن الزمخشري والفخر الرازي أنّهما قالا: لمّا كانت هذه الآية قد وردت عقيب آية المودّة، كانت الحسنة بالنحو الأعلى والأكمل لها ما كان شاملًا لمودّة أهل البيت عليهم السلام٢.
آثار المودّة على الفرد المسلم
والمراد من ازدياد الحسن هو الترقّي والتقدّم في طريق الولاية وتقوية الإيمان وكشف الحجب الظلمانيّة والنورانيّة، فكلّما زادت المودّة زاد بالملازمة أثرها الذي هو عبارة عن انشراح الصدر وسعة الوجود وإدراك المعارف. وحصول هذه الآثار يدخل المرء في مرحلة أعلى من المحبّة والمودّة؛ وذلك لتبعيّة المحبّة للمعرفة. وهذه المحبّة الأعلى توجد آثاراً أشدّ في الشخص، فتجعل صدره أكثر رحابةً، وقلبه أشدّ نوراً، وتجعله أكثر تجرّداً من وجود نفسه ومتحققاً أكثر في وجود الحقّ. وظهور هذه الآثار في الإنسان موجبة لتجلّي المحبّة أزيد من درجات المحبّة السابقة.
وبالجملة فكلّ درجةٍ من المحبّة توجد أثراً خاصّاً في الإنسان، وكلّ رتبةٍ من حصول هذه الآثار توجد محبةً أزيد في الإنسان. فالمحبّة والمعرفة يتأثّران ببعضهما البعض، فكلّ من المحبّة وإدراك المعارف والحقائق مؤيّدة ومقوّية للأُخرى، وبذلك تصبح هذه موجبةً لتكامل تلك، وتلك موجبةً لزيادة هذه، حتّى يخرج الإنسان من تمام مراتب الغرور وهوى النفس والاستكبار والأنا والتفويض للذات وسائر الصفات المحدودة المقيّدة، إلى أن يرد إلى حبّ الله وعبادته والتفويض له، والترفّع عن جميع مراتب الوجود والاندكاك في الحقّ
والفناء في الأسماء والصفات الحسنى. وهذه الدرجة أكمل من الولاية؛ باعتبار أنّ حصولها مترتّبٌ على حصول الدرجات والمراتب التي ما دونها.
والخلاصة: أنّ حصول الكمالات النفسانيّة متوقّفٌ على طيّ طريق المحبّة والفناء في المحبوب، وهذا ما يمكن أن يحصل بالاقتداء بالنفوس المطهّرة الطاهرة والاتّصال الروحي بأرواحهم، وهذا هو بعينه سرّ لزوم ولاية أهل البيت الطاهرين عليهم السلام.
روى الثعلبي في تفسير هذه الآية عن أُمّ سلمة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أنّه قال لفاطمة عليها السلام:
«إيتني بزوجك وابنيك! فأتت بهم، فألقى عليهم كساءً، ثمّ رفع يده عليهم، فقال: اللهمّ هؤلاء آل محمّد، فاجعل صلواتك وبركاتك على آل محمّد؛ فإنّك حميدٌ مجيدٌ. قالت أُمّ سلمة: فرفعت الكساء؛ لأدخل بينهم، فاجتذبه وقال: إنّك على خيرٍ».۱
وقال تعالى في تتمّة الآيات: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}.
تمرّد المنافقين على أمر الله بمودّة القربى
كان لنزول آية المودّة- التي عملت في الحقيقة على إرجاع الناس إلى أهل بيت الرسالة بصلابة وجدٍّ، فجعلت هذه المودّة عبارةً أخرى عن أجر الرسالة، والمتخلّف عنها ناقضٌ لعهد رسول الله وممتنعٌ عن أداء حقّه- كان لها وقعٌ كبير على الكثير من المنافقين وقساة القلوب.
فأُولئك الأفراد الذين لم يتنازلوا عن آرائهم الشخصيّة وأهوائهم النفسيّة، ولم يمتنعوا عن إبراز طبيعتهم ورأيهم قبال رسول الله وأوامر الله سبحانه، وكانوا يتوقّعون في كثير من الأمور أن يأخذ النبي بآرائهم ويتّبع نهجهم وطريقهم، لم يستطيعوا أن يوطّنوا أنفسهم أبداً بأن يطيعوا وينقادوا لمن نصبه الرسول بعد رحيله، ولم يتمكّنوا من جعل أفكارهم مندكّةً في رأي وأمر ذاك الوصيّ، وأن يسلّموا له ويرجعوا في أُمورهم إليه، فيجعلوه المحامي عنهم ليحلّ مشاكلهم، ويلجؤوا إليه من كلّ مشقّةٍ وضررٍ.
ولذلك بعدما نزلت آية المودّة، قالوا بأنّ محمداً افترى على ربّه، وهو الذي فرض علينا وجوب المودّة لأهل بيته.
روى في الكافي عن الإمام أبي جعفر عليه السلام في ضمن تفسير قوله تعالى: {وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً} أنّه قال:
«فقال المنافقون عند ذلك بعضهم لبعضٍ: أما يكفي محمّداً أن يكون قهرنا عشرين سنةً حتّى يريد أن يحمل أهل بيته على رقابنا. ولئن قُتل محمّدٌ أو مات لننزعنّها من أهل بيته، لا نعيدها فيهم أبداً».۱
وفي هذه الأثناء أعلم الله عز وجلّ نبيه صلّى الله عليه و آله بما انطوى عليه المنافقون وقالوه في نجواهم وأنّهم يقولون: إنّ محمّداً قد افترى الكذب على الله سبحانه، فقال: يا محمّد! هذه الآية نزلت من الله، وهو الذي أمرك أن تتلوها على الناس وتبيّن فضائل ومناقب أهل البيت، وتدعو الناس إلى محبّتهم ومودّتهم، فهذا الأمر لم يكن منك، وليس بيدك، فلو شاء الله لختم على قلبك، فلا ينزل عليك الوحي، ولا تشاهد الأنوار الملكوتيّة، ولا تستطيع الاتّصال بحقيقة عالم الغيب وسماع كلام جبرائيل الأمين. ولو شاء الله لحجب قلبك عن إدراك الحقائق، وكفّ لسانك عن فضائل أهل البيت، وسدّ عليك طريق الوحي حتّى لا يتكلّم أحد بعد عن لزوم محبتّهم ومودّتهم، ولكنّ الله قد شاء هذا الأمر.
واعلم: أنّ الله يمحو ويمحق الباطل، ويبدّل حركته سكوناً وحرارته برداً وجموداً، ويثبّت الحقّ ويجعله حيّاً مؤثّراً دائماً، فحافظ على الكلمات الإلهيّة التي هي عبارة عن الوجود المقدّس والذوات الطاهرة للمعصومين حيّة وقيّمة ومؤثّرةً إلى الأبد.٢
روى في «الكافي» عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
«يقول: لو شئت حبست عنك الوحي، فلم تكلّم بفضل أهل بيتك ولا بمودّتهم، وقد قال الله عزّ و جلّ: {وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} يقول: الحق لأهل بيتك الولاية {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ}؛ يقول: بما ألقوه في صدورهم من العداوة لأهل بيتك و الظلم بعدك».۱
شأن نزول الآية الكريمة
وأورد القمّي في تفسيره عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال:
«جاءت الأنصار إلى رسول الله صلّى الله عليه و آله، فقالوا: إنّا قد آوينا و نصرنا، فخذ طائفةً من أموالنا، استعن بها على ما نابك. فأنزل الله: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} يعني: على النبوّة {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} أي: في أهل بيته».
ثمّ قال:
«ألا ترى أنّ الرجل يكون له صديقٌ، و في [نفس] ذلك [الرجل] شيءٌ على أهل بيته، فلم يُسلّم صدره، فأراد الله أن لا يكون في نفس
رسول الله صلّى الله عليه و آله شيءٌ على أُمّته، ففرض عليهم المودّة [في القربى]. فإن أخذوا أخذوا مفروضاً، و إن تركوا تركوا مفروضاً».
قال:
«فانصرفوا من عنده وبعضهم يقول: عرضنا عليه أموالنا، فقال: قاتلوا عن أهل بيتي [من بعدي]. وقالت طائفةٌ: ما قال هذا رسول الله وجحدوه، وقالوا كما حكى الله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً}؛ فقال الله: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ} قال: لو افتريت {وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} يعني: يبطله {وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ} يعني: بالأئمّة والقائم من آل محمّد صلوات الله عليهم».۱
وفي رواية أوردها ابن بابويه أنّ الرضا عليه السلام حضر مجلس المأمون بمرو، وذكر عليه السلام آيات الاصطفاء- وهي اثنتا عشرة- فذكر عليه السلام رواية عن آبائه عن سيّد الشهداء عليهم السلام:
أنّ المهاجرين والأنصار جاؤوا عند رسول الله وقالوا: هذه أموالنا ودماؤنا، فاحكم فيها مأجوراً: أعط منها ما شئت من غير
حرجٍ. فنزلت آية المودّة في هذا الحال. وعندما خرج الصحابة من عنده، قال المنافقون: ما حمل رسول الله صلّى الله عليه وآله على ترك ما عرضنا عليه إلّا ليحثّنا على قرابته من بعده. إن هو إلّا شيءٌ افتراه في مجلسه. وكان ذلك من قولهم عظيماً، فأنزل الله عزّ و جلّ: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ..}؛ فبعث إليهم النبي ... وتلا عليهم آية الافتراء هذه. فبكوا واشتدّ بكاؤهم، فأنزل الله عزّ وجلّ: {وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ}.۱
وقد روى هذه الرواية أيضًا في تفسير «الصافي» عن «عيون أخبار الرضا» عن سيّد الشهداء عليه السلام.٢
ثمّ قال الله سبحانه: {وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ}.٣
يعني: أنّ الله بشّر كلّ من رضي بهذا الحكم وأدخل مودّة أهل البيت في قلبه وروحه، فهؤلاء هم من أحضر الإيمان الواقعي لله سبحانه، وهم الذين
يُفيض الله عليهم بشكل دائم من فضله ورحمته؛ وذلك بواسطة عملهم الصالح وانقيادهم لأوامر الله وتبعيّتهم لمقام ولاية أهل البيت، وقد أدخل الله عليهم السرور أكثر مما يستحقّون من كأس محبّتهم وولايتهم لأهل البيت. فالله رضي عنهم وأعطى الجواب الثابت لندائهم وإيمانهم، وكان يستجيب دعاءهم ويقضي حوائجهم. وأمّا أُولئك الذين وقفوا قبال الحقّ ولم يكونوا مستعدّين للتسليم بها في ظلّ هذه التصريحات، فعذابهم سيكون شديداً ومؤلماً جدّاً.
وفي مجمع البيان عن ابن عبّاس روى ذيل هذه الآية الشريفة أنّ النبي أرسل في طلب تلك الجماعة وبشّرهم وقال:
{وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} وهم الذين سلّموا لقوله.۱
كما روى أيضًا في «مجمع البيان» عن الرسول الأكرم أنّه قال في شأن قوله تعالى: {وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} قال:
«الشفاعة لمن وجب له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا».٢
إنّ الروايات الواردة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام صريحةٌ في أنّ هذه الآيات الأربع- أي: آية المودّة والآيات الثلاث التالية لها- قد نزلت في حقّ
أهل البيت عليهم السلام. وقد ذكرنا بعض تلك الروايات في كلامنا عن تفسير هذه الآيات المباركة، والتي نقلت عن الرسول الأكرم وأمير المؤمنين وعن الإمام الحسن والإمام الحسين والإمام السجّاد والإمام الباقر والإمام الصادق والإمام عليّ بن موسى الرضا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
كما نقلنا أيضًا روايات كثيرة في تفسير آية المودّة عن أئمة أهل السنّة: كالثعلبي والبغوي والكشّاف والفخر الرازي ومحيي الدين ابن عربي، عن صحاحهم ومسانيدهم ومجامعهم الحديثيّة: كالصواعق المحرقة التي نقلها عن الطبراني والبزار وكمستدرك الحاكم ومسند أحمد بن حنبل وصحيحي البخاري ومسلم، إلى الحدّ الذي صار مقطوعاً ومتيّقناً أنّ المراد من القربى هم آل محمّد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فجعل الله سبحانه وتعالى مودّتهم فرضاً واجباً تحت عنوان أداء أجر الرسالة التي تعّد من أوجب الواجبات على المسلمين تجاه النبي صلّى الله عليه وآله.
وهذه المنزلة العالية والمقام السامي إنّما أعطاهم الله إيّاه بسبب طهارة جميع مراتب وجودهم، وعلى أساس سعة روحهم والأسرار الإلهيّة التي قد أُودعت فيهم، وبذلك جعلهم خلفاء خاتم المراتب على هذه الأرض. فهؤلاء خلفاء الله على وجه الأرض وأولياؤه في البسط والقبض، وهم الحجج البالغة وأمناء الرسول
الأكرم وسفراء الوحي في أمره ونهيه، وعلى أساس هذا المعنى كان مُحبّهم مُحبّاً لله ومُبغضهم مُبغضاً لله أيضًا.
قال الفرزدق:
من معشر حبّهم دينٌ وبغضهم | *** | كفرٌ وقربهم منجى ومعتصم |
إن عدّ أهل التقى كانوا أئمّتهم | *** | أو قيل من خير أهل الأرض قيل هم۱ |
ردّ الإشكالات على تفسير الخاصّة لآية المودّة
ولكنّ المعاندين لأهل البيت حاولوا إطفاء نورهم وستر فضائلهم بكلّ ما أُوتوا من قوّةٍ، كما قاموا بتحريف الروايات الواردة عن رسول الله الواردة في مناقبهم، وأوّلوا الآيات النازلة في حقّهم وفسّروها على خلاف معناها. لكنّهم غفلوا عن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ}٢ وقوله تعالى: {وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ}٣، وعن قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ}٤.
فقد لاحظنا مثلًا أنّ بعضهم فسّر الآية قائلًا: أيّها النبي! قل إنّني لا أُريد منكم أجر الرسالة إلّا أن تحفظوا مودّتي ووصلتي معكم بسبب القربى التي بيننا.
لكننّا بحثنا آنفاً في الروايات الواردة في هذا الموضوع وتقدّم الجواب عن هذا الكلام، وبما أنّنا ذكرنا الروايات الواردة في تفسير الآية المباركة من طرق الشيعة والسنّة بشكلٍ مفصّلٍ، فلنختصر الجواب هنا في ضمن نقاطٍ:
الأولى: قيل بأنّ آية المودّة نزلت في المدينة، كما نقلنا ذلك فيما سبق عن تفسير الثعلبي والبغوي وغيرهم، ومع أنّ مشركي قريش الذين كانوا أرحام رسول الله لم يكونوا في المدينة ليقول لهم النبي: بما أنّكم لم تُؤمنوا بي، فلا أقلّ راعوا القربى والمودّة فيما بيننا، ولا تؤذوني، بل تودّدوا إليّ.
الثانية: أنّ سبب نزول هذه الآية- كما تقدّم سابقاً- هو أنّ الأنصار عرضوا أموالهم على رسول الله، أو أنّهم تفاخروا على بني هاشم، فأنزل الله هذه الآية بأنّ رسول الله لا يحتاج إلى أموالكم، بل عليكم أن تودّوا قرابة هذا النبي. وعليه فالخطاب كان موجهّاً إلى الأنصار أو الأنصار والمهاجرين، لا إلى كفّار قريش.
الثالثة: أنّ من الخطأ أن يكون الخطاب موجّهاً لمشركي قريش؛ لأنّ من القبيح أن يطلب الحكيم الأُجرة ممّن لم يكن قد عمل لأجله شيئاً، بل طلب أجر الرسالة من المشركين الذين لم يؤمنوا بعد- بل وصلوا إلى أشدّ ما يمكن عليه من إنكار النبي وتكذيبه- ليس له أيّ أساس من الصحّة. وطلب الأُجرة إنّما
يكون صحيحاً فيما إذا كان من الأشخاص الذين آمنوا وانتفعوا من مزايا الإسلام والإيمان به، فعند ذلك يُقال لهم: أعطوا الأُجرة، والأجرة هي المودّة لذوي القربى.
الرابعة: أنّ هذا القول مخالفٌ للكثير من النصوص التي وردت في شأن نزول هذه الآية، والتي تشير إلى أنّها نزلت في حقّ أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب والسيّدة فاطمة والإمام الحسن والإمام الحسين عليهم السلام. وقد ذكرنا هذه النصوص في طيّات البحوث السابقة.
الخامسة: أنّ هذا القول من كلام عكرمة، وذلك أنّ مجموعة من عمّال بني أُميّة ووضّاعي حديثهم من أعداء أهل البيت قد اقتدوا به في ذلك، مع أنّه لا مجال للترديد في عداوة وخصومة عكرمة ومقاتل بن سليمان لأهل البيت، فضلًا عن بغضهم وعداوتهم لأمير المؤمنين؛ ذلك أنّ عكرمة كان من الخوارج ومن المنتمين إلى طائفة الحروريّة والأباضيّة؛ وقد سافر إلى مصر، ومن هناك رحل إلى بلاد المغرب، وقام بدعوتهم إلى بغض أمير المؤمنين. وانتشار الخوارج في المغرب إنّما كان بسبب الدعوات السيّئة لعكرمة. علاوة على أنّه قد كان رجلًا كذّاباً وضاعاً تاركاً للصلاة، وكان يميل للغناء. كان عكرمة يضع الأحاديث بنفسه وينسبها إلى عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن مسعود، حتّى أنّ علي بن عبد الله بن عبّاس وعلي بن عبد الله بن مسعود قاموا بتنبيهه وتعزيره بسبب
الأكاذيب التي نسبها إلى آبائهما. كما نقل المرحوم السيّد شرف الدين عن كتاب «ميزان الاعتدال» للذهبي الكثير من فضائحه وفضائح مقاتل.۱
أمّا الخبر الذي ورد في صحيح البخاري ونُسب هذا القول إلى ابن عبّاس فقد ورد عن طريق محمّد بن بشّار عن محمّد بن جعفر، ومع أنّ من المتّفق عليه بين الإماميّة ضعف هذين الراويين، بل ورد في «ميزان الاعتدال» أنّ يحيى بن معين صرّح بضعف محمّد بن بشّار، وعدّه فلّاساً من الكذّابين.
وعلى كلّ حالٍ لم يُنقل عن ابن عبّاس حديث صحيح في تفسير آية المودّة غير تفسيرها بذوي القربى وأهل بيت رسول الله، وما ورد عنه بأسناد صحيحةٍ هو تفسير ذوي القربى بعلي بن أبي طالب وفاطمة وابنيهما، كما فسّر الحسنة في الآية الشريفة بمودّتهم٢.
الاعتراضات الأخرى لبعض أهل السنّة على آية المودّة
وبالرجوع إلى آية المودّة يُلاحظ أنهّ قد اعترض بعض أهل السنّة باعتراضين آخرين:
الاعتراض الأوّل والردّ عليه: نكات بلاغيّة في الآية
الأوّل: إذا كان المراد من القربى هم أهل بيت رسول الله، للزم القول: (إلّا الْمَوَدَّةَ للْقُرْبى)، أو القول: (إلّا مَوَدَّةَ الْقُرْبى)؛ أي: مودّة ذوي أقربائي أو المودّة المتعلّقة بذوي قرابتي، مع أنّ ما ورد في الآية هو {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} يعني: المودّة في حقّ القربى والرحم.
وقد أوردنا الجواب عن هذا الإشكال في أوائل البحث، ونقلنا عن الزمخشري في الكشّاف- والذي يعد أُستاذاً في البلاغة- بأنّ لفظة «في» بمعنى الظرفيّة۱، وهذه اللفظة من وجهة نظر بلاغيّة وأدبيّة تحتوي على معان رفيعةٍ وعاليةٍ، بحيث لا يمكن أن تصل إلى تلك المعاني لفظة «لام» الاختصاص أو بإضافة كلمة مودّة إلى القربى.
فـ {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} تفيد بأنّ تلك النفوس القدسيّة هي ظرفٌ ووعاء للمحبّة، وأنّها يجب أن تكون موضعاً وموقعاً للمحبّة والمودّة، وعلى الأُمّة أن تعلّق محبّتها فيهم وأن تجعلهم محلًا لمحبّتهم. والحق أنّ الزمخشري بيّن هنا نكتةً دقيقةً في غاية اللطف تعكس تضلّعه وتبحّره في علم البلاغة.
الاعتراض الثاني والردّ عليه
أوّلًا: بحث علمي حول السور المكّيّة والمدنيّة
الثاني: أنّ هذه الآية من سورة الشورى، وسورة الشورى إنّما نزلت في مكّة المعظّمة، ومن المعلوم أنّ الإمام الحسن والإمام الحسين عليهما السلام ولدا في المدينة المنوّرة، فلا يمكن أن تكون مودّتهم هي المقصودة من هذه الآية.۱
والجواب: أنّ هذه الآية وما بعدها إلى آخر ثلاث آيات مدنيّة قطعاً بحكم الأخبار المتظافرة من طريق العترة الطاهرة، وقد روى ذلك صاحب مجمع البيان عن ابن عبّاس وقتادة، ويدل عليه ما سمعته قريباً عن أبي حمزة الثمالي وتفسيري الثعلبي والبغوي يفيد بشكل قطعي أنّها قد نزلت في المدينة، ولا سيّما الأخبار الكثيرة بطرقها المختلفة التي تبيّن أنّ شأن نزول هذه الآية هو حضور الأنصار عند الرسول وعرضهم أموالهم أمامه، وهذا أصدق شاهد ودليل على كون هذه الآية مدنية؛ فإذا كان الأنصار أو المهاجرون والأنصار هم المخاطبين بهذه الآية، فإنّه لم يكن في مكّة المعظّمة قبل الهجرة أحدٌ من الأنصار.
فلا منافاة في أن تكون سورة الشورى قد نزلت في مكّة، ولكن أُدرجت فيها هذه الآيات الأربع التي نزلت في المدينة؛ ولوضوح أنّ جمع القرآن الكريم وتدوينه لم يكن على ترتيب نزول الآيات، ولا خلاف بين الشيعة والسنّة في هذه
المسألة. فكم من السور المكيّة التي تحتوي على آيات قد نزلت في المدينة، وكم من السور المدنيّة التي فيها آيات مكيّة أيضًا.
إنّ أغلب السور الموجودة في أواخر القرآن المجيد مكيّة، بينما أغلب السور الموجودة في أوائل القرآن مدنيّة. وبناءً على ذلك فإذا كان جمع القرآن وتدوينه على أساس ترتيب النزول، فلابدّ أن تُجعل سور آخر القرآن في أوّله، وأن تدرج سورة العلق- التي هي أول ما نزل على رسول الله- في أوّل القرآن، وأن تُدرج سورة براءة- بناءً على نقل البخاري عن سليمان بن حرب عن شعبة، و على رواية مسلم عن بندار عن غندر عن شعبة من أنّها كانت آخر سورة نزلت على رسول الله- في آخر القرآن، أو أن تُجعل سورة المائدة- التي هي بناءً على روايات أهل البيت آخر سورة نزلت على الرسول الأكرم- في آخر القرآن.
ومن يريد الوصول إلى حقيقة هذا الموضوع، فليرجع إلى بحث أوائل السور في تفسير مجمع البيان وتفسير الطبري والرازي والكشّاف، أو إلى أوائل السور من قسم تفسير كتاب إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري؛ ليعلم أنّه لا مجال لأيّ خلاف أو ترديد في هذا المعنى بين كبار المتقدّمين والمتأخّرين.
وبناءً على هذا ومع ملاحظة أنّ هناك آيات مدنيّة وردت في بعض السور المكّيّة وبالعكس، وأنّ وصف السور بأنّها مكّيّة أو مدنيّة تابع لكون أكثر الآيات كذلك، لا جميعها. فما هو المُستبعد في أن تكون سورة الشورى سورةً مكّيّةً،
ولكن جُعل ضمن آياتها المكّيّة تلك الآيات الأربع التي نزلت في المدينة المنوّرة على رسول الله والنازلة في شأن مودّة أهل البيت.
وبعد هذا الوضوح لنا أن نسأل: بأيّ وجه يستطيع المعترضون أن يردّوا هذه الأخبار المتظافرة- بل المتواترة- التي رُويت عن رسول الله في تفسير هذه الآية بمودّة أهل البيت، وأن يصرفوا هذه الآية عنهم لمجرّد كون سورة الشورى مكّيّةً؟ ومن الذي قد أوحى إليهم بأنّ هذه السورة ليست كأغلب السور المكّيّة الموصوفة بكونها مكّيّةً باعتبار أغلب آياتها؟ {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى}۱.
وعلى فرض أنّنا صرفنا النظر عن كلّ هذه المطالب وقلنا بأنّ آية المودّة قد نزلت في مكّة، فما هو المانع من شمولها للحسنين عليهما السلام، حتّى لو كانا قد ولدا فيما بعد في المدينة؛ وذلك لأنّ مودّة ذوي القربي غير منحصرةٍ في خصوص الأفراد الذين كانوا في زمان نزول الآية، بل الآية تشمل كلّ فردٍ ينطبق عليه هذا العنوان.
وعليه يكون مصداق آية المودّة عندما كان رسول الله في مكّة هو أمير المؤمنين والسيّدة فاطمة الزهراء عليهما السلام، ثم أُضيف إليه الحسنان عليهما السلام في المدينة المنوّرة، ليكون كلّ واحد من الأئمّة الاثني عشر عليهم
السلام مصداقاً لهذا العنوان فيما بعد. ومن لديه اطّلاع بلغة القرآن يعلم بأنّ مطالب القرآن كّليّة، وأيّ مصداق من هذا الكلّي يتحقق في الخارج، كان هذا الكلّي منطبقاً عليه. فقد قرأ رسول الله في مكّة المكرّمة على الأُمّة وجوب مودّة ذوي القربى من قبل الله سبحانه وتعالى، سواء ذوُ القربى الموجودون فعلًا ومن سيأتي فيما بعد، نظير قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ}۱؛ فهذه الآية غير مختصّة بالأبناء والبنات الموجودين في زمان نزول الآية فقط، بل تشمل كل الأبناء والبنات ممّن سيولد بعد قرونٍ عدّةٍ من نزول الآية.
فما الفارق بين هذه الآية وآية المودّة، مع أنّ كليهما على السياق نفسه وعندما يتحقّق موضوعه انطبق ذلك الحكم عليه؟
ثانيًا: اطلاع النبي على الغيب وبعض إخباراته
وأمّا الروايات التي نُقلت عن رسول الله التي فسّرت المودّة في القربى بمودّة الحسنين عليهما السلام، فقد يكون هذا البيان من رسول الله بعد ولادتهم في المدينة، أو قد يكون النبي قد فسّر هذه الآية في مكّة قبل ولادتهم، وذلك من طريق علم الغيب الذي كان من علامات النبوّة، فيكون قد أخبر بأنّ ولادتهما ستحصل في المدينة وأوجب مودّتهم وهو في مكّة.
فكم من الإخبارات التي حدّث بها الرسول كانت من علم الغيب، والتي كان يُطلع فيها الأُمّة على الحوادث المستقبليّة، والتي حدثت فعلًا، من قبيل قوله: «إنّ خُلَفَائِي وَ أوصِيائي لاثنا عَشَر»۱، وإخباره عن حادثة الجمل ونبح كلاب الحوأب. وإخباره بمقتل عمّار بن ياسر واستشهاده على يد الفئة الباغية، وإخباره بالناكثين والقاسطين والمارقين، وهي الفرق الثلاث التي خرجت بعد رسول الله على أمير المؤمنين: فئة نقضت العهد وقامت بحرب الجمل، وفئة انحرفت عن الحقّ وقامت ظلماً وعدواناً بحرب صفّين، وفئة خرجت من الدّين كما يخرج السهم من قوسه- التي سمّيت باسم الخوارج- وقامت بحرب النهروان.٢
وكذا إخبارات الرسول الأكرم بالحقد والحسد والبغض تجاه أمير المؤمنين بعد وفاته، وإخباره بأنّ أشقى الآخرين سيضرب عليّ بن أبي طالب
سيّد الوصيّين عليه السلام على هامة رأسه، وبأنّ شيبة لحيته المباركة ستخضب من دم رأسه، وإخباره عن حال ابنته وفلذة كبده بأنّها ستكون أوّل اللّاحقين به بعد وفاته. وإخباره عن الشدائد والمصائب التي ستلحق الإمام الحسن وعن سمّه، وإخباره عن مصائب سيّد الشهداء في أرض كربلاء، وما سيلحق أهل بيته من بلاء وقتل وأسر وعطش، وإخباره عن استلام حكّام الجور الحكم على الناس بعده، وإخباره عن فظائع بني أُميّة وبني مروان، وأنّهم سيحكمون الناس مدّة ألف شهر، وإخباره عن أعمال بني العبّاس وملكهم، وعن فتنة نجد وطلوع قرن الشيطان منها.
بالإضافة إلى مئات الأخبار الغيبيّة الأُخرى التي بيّنها رسول الله، واتّضح فيما بعد صحّتها، الواحدة تلو الأخرى كاتّضاح طلوع الصبح.
وعليه فالله سبحانه الذي منح علمه الأزلي بحقائق هذه الأُمور وهذه الأحداث لرسوله الكريم وكشف له عنها، لم يكن في علمه قصور أو جهل بأنّ الحسنين عليهما السلام سيولدان في المدينة، وأن يُطلع رسوله بذلك ويوجب مودّتهم على أُمّته في مكّة، وبما أنّ مقامهم ومنزلتهم كبيرة عنده فقد فرض هذا الأمر المهمّ على الأُمّة، كما أنّه لأجل شرف ومنزلة رسول الله أطلع الله سبحانه آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء والمرسلين بظهوره وألهمهم
جلالة قدر وعظم شأنه، حتّى آمنوا به وكانوا خاضعين وخاشعين أمام مقام فضله وشرفه.۱
والحاصل أنّه مع وجود هذه الأخبار المتواترة التي وصلت إلينا والآمرة بمودّة علي بن أبي طالب وفاطمة والحسنين عليهم السلام والأخبار المتواترة الوردة في العترة والتي دلّت على أنّهم أحد الثقلين العظيمين لا تكون هذه الإشكالات إلّا إنكاراً للحقّ وإصراراً على الجهل وإبرازاً لسوء النيّة وخبث السريرة.
آخر الدواء الكي
{فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ}.٢
نعم، هنا تصل النوبة إلى المباهلة؛ لأنّ المنطق والكلام الحقّ والاستدلال والبيّنة إنّما يكون مفيداً ومؤثّرّاً لمن يكون مستعدّاً لتلقّي الحقّ وقبوله وإدراك الواقع، أمّا الذين كلّما تبيّن لهم الحقّ أكثر ازداد إصرارهم وإنكارهم، فما الفائدة من محاورتهم؟
روى محمّد بن يعقوب الكليني، بإسناده عن أبي مسروق، عن أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال:
قلت: إنّا نكلّم الناس، فنحتجّ عليهم بقول الله عزّ و جلّ: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ}، فيقولون: نزلت في أمراء السرايا. فنحتج عليهم بقوله عز و جل: {إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ} إلى آخر الآية، فيقولون: نزلت في المؤمنين. و نحتجّ عليهم بقول الله عزّ و جلّ: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى}، فيقولون: نزلت في قربى المسلمين. قال: فلم أدع شيئاً ممّا حضرني ذكره من هذا وشبهه إلّا ذكرته. فقال لي: «إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة».
قلت: وكيف أصنع؟ قال: «أصلح نفسك ثلاثاً» وأظنّه قال: «وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبّان، فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه، ثمّ أنصفه، وأبدأ بنفسك، وقل: اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم، إن كان أبو مسروق جحد حقّاً وادّعى باطلًا، فأنزل عليه حسباناً من السماء وعذاباً أليماً. ثم رد الدعوة عليه، فقل: وإن كان فلان جحد حقاً وادعى باطلًا، فأنزل عليه حسباناً
من السماء وعذاباً أليماً». [ثم] قال لي: «فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك [فيه]». فو الله ما وجدت خلقاً يجيبني إليه.۱
أجل، عندما لا يكون الطرف المقابل مستعّداً لسماع أيّ نحو من الكلام الحقّ ولا لإدراك الحقّ بشكل جيّد، أو لا يكون مستعداً للتسليم بالحقّ واتّباعه بعد معرفته، بل يريد بأيّ وسيلة ممكنة أن يفرّ عن تحمّل أعباء الحقّ، ويطرح كلامه طبقاً لخيالاته الباطلة ونفسه الأمّارة، فلا علاج لمثل هؤلاء إلّا بالمباهلة.
دعوى نسخ الآية والجواب عنها
ومن الغريب ما نُقل عن بعض منكري ولاية الأئمّة الطاهرين من قولهم: إنّ آية المودّة منسوخةٌ بما نزل في سورة سبأ: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ}٢.٣
وهذا القول غريب جدّاً؛ وذلك لأنّ الكلّ يقول بأنّ وجوب المودّة بأيّ معنى كان باقٍ إلى يوم القيامة، وهذا من أحكام الإسلام الضروريّة، وعليه فما معنى النسخ في هذه الحالة؟
مع أنّه لا يوجد تنافٍ بين هاتين الآيتين حتّى تكون الأُولى منسوخةً بالثانية؛ لأنّ آية المودّة تقول: قل: لا أُريد أيّ أجرٍ على الرسالة غير مودّة ذوي القربى، بينما الآية الواردة في سورة سبأ تقول: ذاك الأجر الذي أردته منكم في سورة الشورى كأجر للرسالة- وهو أني أوجبت عليكم مودّة أهل البيت- ستعود منافعه عليكم وستصل فوائده إليكم.
كلّ ذلك لأنّهم حجج الله البالغة فيما بينكم والنعم التامّة الكاملة التي قد نعّمكم الله بها. فهم أمان الله على الأرض، وهم بمثابة باب بني إسرائيل الذي قد كان سبب غفران الذنوب، ومثلهم كمثل سفينة نوح، فمن ركبها لم يُدركه الغرق. ومثلهم كمثل القرآن الكريم الموجب لرشدكم وترقّيكم.
وعليه فالفائدة من مودّتهم سترجع إليكم أنفسكم. فكيف يمكن أن تكون الآية الثانية ناسخةً للآية الأُولى؟ إذ الآية الثانية ناظرةٌ إلى الآية الأولى ومُثبتة لها، وهي تبيّن أنّ الأجر الذي أراده النبي يعود بالمنفعة عليكم.
وعلى كلّ حال فكلّ من يضع هاتين الآيتين: {قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى} و {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أمامه، لن يرى أيّ تنافٍ بين مدلول الآيتين أبداً، بل سيجد الآية الثانية مؤكدّةً ومثبّتة لمفهوم الآية الأُولى. وكم هو لطيف ما ذكره في «تفسير بيان السعادة» في ذيل آية المودّة، حيث يقول:
الاستثناء متّصلٌ، والمودّة في القربى و إن كانت نافعةً لهم و تكميلًا لنفوسهم و لكن باستكمالهم ينتفع النبي صلّى الله عليه وآله؛ لكونهم أجزاءً له وسعةً لوجوده. فقوله تعالى: {قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} إشارةٌ إلى كلا الانتفاعين؛ حيث جعله أجراً له من حيث انتفاعه بمودّتهم لاستكمالهم بها، وسعته صلّى الله عليه وآله باستكمالهم.۱
وعلى كلّ حالٍ فمن المعلوم أنّ إصرار بعض أهل السنّة إلى هذا الحّد إنّما هو لأجل صرف أذهان العامّة عن معنى مودّة ذوي القربى، وما تأويلهم الآية الشريفة إلّا من أجل تحسين صورة أسلافهم بسبب القساوة والجفاء الذي مارسوه، ويريدون بهذه التكلّفات والتعسّفات العجيبة أن يُنكروا وجوب مودّة ذوي القربى، حتّى يرمّموا انحرافاتهم على الأقلّ ويحملوا أفعالهم على الصحّة وعلى أنهّ اجتهاد، غافلين عن وجوب المودّة، وصارفين النظر عن أنّ آية المودّة والأخبار المتواترة- التي وردت عن رسول الله في وقائع مختلفة- هي من الأحكام المسلّمة ومن ضروريّات الإسلام، وأنّ الجهود والتمحّلات التي ارتُكبت لا يُمكن لها أن تُخفي وجه الحقّ.
ولكن إذا أعمل الإنسان نظره بإنصاف في أفعال الصحابة، وقاس تصرّفاتهم على أساس كتاب الله وسنّة رسوله، ومَيَّز الحسن من القبيح منها دون الإغماض عنها، لكان ذلك أفضل بكثير من حمل أفعالهم على الصحّة كيفما كان، وأن ينسب الرجل إلى العصمة وعدم الذنب لمجرّد أن يصدق عليه صحبة رسول الله.
ففي الصورة الأُولى يتجلّى الإسلام الحقيقي بصورته الواقعيّة على الإنسان؛ لأنّ الإسلام عبارة عن روح النبي وأقواله وأفعاله والوحي المنزل إليه من جانب الحقّ تعالى، لا أنّ الإسلام كتاب الله وسنّة رسوله بالإضافة إلى سنن وآداب الخلفاء اللّاحقين.
أمّا في الصورة الثانية فقد اختفى الإسلام تحت أُفق التصوّرات الظلمانيّة؛ حيث عملت مجموعة من أفكار وآراء أشخاص باسم الصحابة على تكوين برنامج حياة الإنسان. ومن المعلوم أنّ اتبّاع هذه الأفكار والآراء لا يختلف في حدّ نفسه عن تبعيّة أفكار وآراء عبدة الأصنام والنجوم أو عبدة العجل؛ وذلك لأنّه عندما يتجاوز الحاكم في أُمور الإنسان المادّيّة والمعنويّة الله ورسوله، فعند ذلك أيّ فرق بين أن يكون الحاكم صحابة رسول الله أو رؤساء المشركين وعبدة الأصنام؟!
جانب من مصائب أهل البيت وظلامة فاطمة الزهراء
وفي الرواية عن مولانا أمير المؤمنين عليه السلام قال:
«بينا أنا وفاطمة والحسن والحسين عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذ التفت إليّ فبكى. فقلت: ما يبكيك يا رسول الله؟ قال: أبكي من ضربتك على القرن، ولطم فاطمة خدّها، وطعن الحسن في فخذه والسمّ الذي يُسقاه، وقتل الحسين».۱
لم يتمّ في هذه الرواية بيان شيءٍ عن كيفيّة استشهاد فاطمة عليها السلام، ولا عن كيفيّة ضربة أمير المؤمنين أو عن ضرب الحسن المجتبى على فخذه وشقّها وسمّه، ولا عن كيفيّة استشهاد سيّد الشهداء عليه السلام.
وفي دلائل الإمامة عندما رجع رسول أبي بكر قادماً من أمير المؤمنين عليه السلام إلى أبي بكر وقال له بأنّ عليّاً امتنع عن المجيء والبيعة، أصرّ عمر على أبي بكر بأن يرسل غلامه قنفذ- الذي كان غلام أبي بكر ومن أولاد بني كعب بن عديّ ومن طُلقاء مكّة- لإحضار أمير المؤمنين. فأرسل أبو بكر قنفذ مع جماعة إلى منزل فاطمة حتّى يحضروا أمير المؤمنين.
ولّما لم يؤذن لهم في الدخول إلى المنزل، رجع القوم إلّا قنفذ، بقي واقفا بالباب ولم يرجع. وعندما سمع عمر بأنّ أمير المؤمنين عليه السلام لم يأذن لهم في الدخول امتلأ غضباً، وأسرع مع جماعة، وأمر بإحضار مقدار من الحطب، ووضعها أمام الباب، ثم أخذ يصيح بصوتٍ عالٍ يسمعه أمير المؤمنين وفاطمة عليهما السلام ويقول: يا علي، اخرج للبيعة! وإِنْ لَمْ تخْرُجْ جِئْتُ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ وَأَضْرَمْتُهَا نَاراً عَلَى أَهْلِ هَذَا الْبَيْتِ.
فَصرخت فَاطِمَةُ: مَا تَشَاءُ يَا عُمَرُ؟! فقال عمر: لن نذهب حتّى تفتحوا لنا باب المنزل. وعندما رأى أنّ أحداً لم يستجب له بفتح باب المنزل قام بإضرام النار فيه.
فَضَرَبَتْ فَاطِمَةُ يَدَيْهَا مِنَ الْبَابِ تَمْنَعُني مِنْ فَتْحِهِ، فَرُمْتُهُ فَتَصَعَّب عَلَيّ، فَضَرَبْتُ كَفَّيْهَا بِالسَّوْطِ فَأَلَّمَهَا. يقول عمر: فَسَمِعْت لَهَا زَفِيراً وَبُكَاءً، فَكِدْتُ أَنْ أَلِينَ وَأَنْقَلِبَ عَنِ الْبَابِ، فَذَكَرْتُ أَحْقَادَ عَلِيٍّ وَوُلُوعَهُ فِي دِمَاء صَنَادِيدِ الْعَرَبِ، وَكَيْدَ مُحَمَّدٍ وَسِحْرَهُ، فَرَكَلْتُ الْبَابَ، وَقَدْ أَلْصَقَتْ أَحْشَاءهَا بِالْبَابِ تَتْرُسُهُ، وَسَمِعْتُهَا وَقَدْ صَرَخَت صَرْخَةً حَسِبْتُهَا قَدْ جَعَلَتْ أَعْلَى الْمَدِينَةِ أَسْفَلَهَا، وَقَالَتْ: واأَبَتَاهْ! هَكَذَا يُفْعَلُ بِحَبِيبَتِكَ؟ واستغاثت بفضّة خادمتها، وقالت: لقد قتل ما في بطني من الحمل.۱
والذي يظهر من كِتَاب سُلَيْمِ بْنِ قَيْسٍ أنّ قنفذ ضرب السيّدة الزهراء بالسوط على يدها، يقول سُلَيْمٌ: كَتَبَ أَبُو الْمُخْتَار بْنُ أَبِي الصَّعِقِ إِلَى عُمَرَ أبياتاً من الشعر وذكّره فيها بخيانات حكّامه وعمّاله في بيت المال، قَال سُلَيْمٌ:
فَأَغْرَمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ تِلْكَ السَّنَةَ جَمِيعَ عُمَّالِهِ أَنْصَافَ أَمْوَالِهِمْ لِشِعْرِ أَبِي الْمُخْتَارِ، وَلَمْ يُغْرِمْ قُنْفُذَ الْعَدَوِيِّ شَيْئاً وَقَدْ كَانَ مِنْ عُمَّالِهِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ مَا أَخَذَ مِنْهُ وَهُوَ عِشْرُونَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُ عُشْرَهُ وَلا نِصْفَ عُشْرِهِ. وَكَانَ مِنْ عُمَّالِهِ الَّذِينَ أُغْرِمُوا أَبُو هُرَيْرَةَ عَلَى الْبَحْرَيْنِ فَأَحْصَى مَالَهُ، فَبَلَغَ أَرْبَعَةً وَعِشْرِينَ أَلْفاً، فَأَغْرَمَهُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفاً.
ويقول سُلَيْمٌ:
فَلَقِيتُ عَلِيّاً صَلَوَاتُ الله عَلَيْهِ وَآلِهِ، فَسَأَلْتُهُ عَمَّا صَنَعَ عُمَرُ؟ فَقَالَ: هَلْ تَدْرِي لِمَ كَفَّ عَنْ قُنْفُذٍ وَلَمْ يُغْرِمْهُ شَيْئاً؟! قُلْتُ: لا. قَالَ: لأَنَّهُ هُوَ الَّذِي ضَرَبَ فَاطِمَةَ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهَا بِالسَّوْطِ حِينَ جَاءَتْ لِتَحُولَ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ، فَمَاتَتْ صَلَوَاتُ الله عَلَيْهَا، وَإِنَّ أَثَرَ السَّوْطِ لَفِي عَضُدِهَا مِثْلُ الدُّمْلُجِ.۱
كما يروي أبان عن سليم أنّه قال:
انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله لَيْسَ فِيهَا إلّا هَاشِمِيٌّ غَيْرَ سَلْمَانَ وَأَبِي ذَرٍّ وَالْمِقْدَادِ وَمُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ وَقَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ، فَقَال الْعَبَّاسُ لِعَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلامُ: مَا تَرَى عُمَرَ مَنَعَهُ مِنْ أَنْ يُغَرِّمَ قُنْفُذاً كَمَا غَرَّمَ جَمِيعَ عُمَّالِهِ؟ فَنَظَرَ عَلِيٌّ عَلَيْه السَّلامُ إِلَى مَنْ حَوْلَهُ، ثُمَّ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ، ثُمَّ قَالَ: شَكَرَ لَهُ ضَرْبَةً ضَرَبَهَا فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلامُ بِالسَّوْطِ، فَمَاتَتْ وَفِي عَضُدِهَا أَثَرُهُ كَأَنَّهُ الدُّمْلُجُ.۱
جانب من حالات الخليفة الثاني وسيرته مع نساء رسول الله
وقد يشكل الاعتقاد عند البعض بأنّ عمر ضرب السيّدة فاطمة بالسوط، ولكن بالرجوع إلى حالات الرجل وسيرة حياته يتبيّن أنّه كان رجلًا غليظاً قاسي القلب، وأنّه عند الغضب لم يكن هناك شيء يمكن أن يطفئ غضبه إلّا الانتقام من الطرف المقابل.
لقد قام عمر بضرب نساء بني هاشم على رؤوسهم بالسوط في زمان الرسول وتحت أنظاره، أثناء تشييع جنازة ابنته. فنهاه رسول الله عن هذا الفعل وقال له: مهلًا يا عمر! إنّ البكاء على الميّت من الرحمة، ولا ينافي الرضا.
ينقل المرحوم الأميني قدّس سرّه عن مسند أحمد بن حنبل وعن مستدرك الحاكم بإسناد صحيح، كما نقل كلّ من تلخيص المستدرك ومسند أبي داود الطيالسي والاستيعاب عن ابن عبّاس أنّه قال:
لما ماتت زينب۱ بنت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألحقوها بسلفنا الخير عثمان بن مظعون». فبكت النساء، فجعل عمر يضربهن بسوطه، فأخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلم يده وقال: «مهلًا يا عمر! دعهن يبكين، وإيّاكن ونعيق الشيطان»- إلى أن قال:- وقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلم على شفير القبر وفاطمة إلى جنبه تبكي، فجعل النبي صلّى الله عليه وسلم يمسح عين فاطمة بثوبه رحمةً لها.٢
وأخرج البيهقي في السنن الكبرى عن ابن عبّاس قال:
بكت النساء على رقيّة٣ (بنت رسول الله) رضي الله عنها، فجعل عمر رضي الله عنه ينهاهنّ، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «مه يا عمر!». قال: ثمّ قال: «إيّاكنّ ونعيق الشيطان؛ فإنّه مهما يكن من العين
والقلب فمن الرحمة، وما يكون من اللسان واليد فمن الشيطان». قال: وجعلت فاطمة رضي الله عنها تبكى على شفير قبر رقيّة، فجعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يمسح الدموع على وجهها باليد، أو قال: بالثوب.۱
وأخرج النسائي وابن ماجة عن أبي هريرة أنّه قال:
مات ميّتٌ في آل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاجتمع النساء يبكين عليه، فقام عمر ينهاهن ويطردهن. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «دعهن يا عمر؛ فإنّ العين دامعةٌ، والقلب مصابٌ، والعهد قريبٌ».٢
لقد تجرّأ عمر بهذا الشكل أمام رسول الله- صاحب الشريعة النبي المرسل من عند الله- وذلك من دون أخذ إجازة منه، وبدون الاستفسار عن المسألة، بل قام باعتراض نساء بني هاشم وأرحام رسول الله الذين كانوا قد اجتمعوا في جنازة عزيز لهم فقدوه، وضربهم بالسوط على رؤوسهم، إلى حدّ أنّ رسول الله منعه من ذلك وأمره بالتروّي والتوقّف عن هذا العمل. فعمر لم يستح من رسول الله ولم يتوان عن مدّ يده في هذا الموقع الحساس لضرب النساء المفجوعات بدون أيّ جُرم ارتكبنه، وكان يعتبر أن البكاء الذي هو علامة الرحمة بناءً على كلام الرسول دليلٌ على الشكوى، فكان يضرب أقارب وأرحام الرسول وبناته بكلّ قسوة ويؤذي النساء بفعله. فما الذي سيمنعه- بعد وفاة رسول الله للوصول إلى مآربه ومعاقبة المتخلّفين عن البيعة واعتقال أمير المؤمنين عليه السلام، حيث إنّه طبقاً لما نقلته التواريخ والأخبار كان قد ربّى الحقد في قلبه طوال تلك المدّة- من أن يُضرم النار في باب منزله ويتصاعد الدخان منه، وأن يلطم فاطمة سلام الله عليها بضعة رسول الله، وأن يضربها بالسوط على يديها، ويعصرها بين الباب والحائط عالماً عامداً حتّى تُسقط جنينها.
لقد وصلت فضيحة هذا العمل إلى درجة أنّها لم تكن خافيةً على أحد، وفهم الجميع آلام ومصائب الصدّيقة الطاهرة ومظلوميّتها وجنايات أبي بكر وعمر في حقّها، وكلّما أراد الآخرون أن يُخفوا ذلك ذهبت محاولاتهم أدراج الرياح.
عندما شارف أبو بكر على الموت كان يقول: إنّني لا آسي على شيء من الدنيا إلّا على ثلاث فعلتهن وددت أنّي تركتهن: فأمّا الثلاث التي فعلتها ووددت أنّي تركتها فوددت أنّي لم أكن فتّشت بيت فاطمة، وذكر في ذلك كلاماً كثيراً.۱ وورد في عبارةٍ أُخرى: فوددت أنّي لم أكشف بيت فاطمة عن شيء، وإن كانوا قد غلقوه على الحرب٢، وورد أيضًا في عبارةٍ أُخرى: وإن أُغلق على الحرب.٣
لقد كانت هذه الأذيّة والمظلوميّة التي لحقت بتلك المظلومة المقهورة النتيجة الأُولى لحكومة هؤلاء، وكان ذلك خير معرّفٍ لأُسلوبهم ونهجهم فيما بعد.
شكوى السيّدة الزهراء للرسول الأكرم
روى ابن شهر آشوب هذه الأشعار عن بضعة رسول الله:
قلّ للمغيّب تحت أطباق الثرى | *** | إن كنت تسمع صرختي وندائيا |
صُبّت عليّ مصائب لو أنّها | *** | صُبّت على الأيّام صرن لياليا |
قد كنت ذات حمى بظلّ محمّد | *** | لم أخش من ضيم وكان جماليا |
فاليوم أخشع للذليل وأتّقي | *** | ضيمي وأدفع ظالمي بردائيا |
فإذا بكت قُمريّة في ليلها | *** | شجناً على غصن بكيت صباحيا |
فلأجعلنّ الحزن بعدك مؤنسي | *** | ولأجعلنّ الدمع فيك وشاحيا |
ماذا على من شمّ تربة أحمد | *** | أن لا يشمّ مدى الزمان غواليا۱ |
نعم، لقد كانت السيّدة فاطمة الزهراء بعد وفاة أبيها تذهب إلى قبر رسول الله، بعدما لحقتها المصائب من الأعداء، وتضع خدّها على التراب، وتناجي أباها بهذه الأشعار.
روى الخوارزمي في «المناقب»۱ بسنده المتّصل عن أنسٍ أنّه قال:
«قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: حبُّ عليٍّ حسنَةٌ لا تضرُّ معها سيّئةٌ وبغضه سيّئةٌ لا تنفعُ معها حسنةٌ».٢
تذييل
لا يخفى أنّ آية الله السيّد شرف الدين العاملي في كتابه البديع المسمّى «الكلمة الغرّاء في تفضيل الزهراء عليها السلام» بحث عن أربع آياتٍ دالةٍ عن تفضيلها (الأولى آية المباهلة، الثانية آية التطهير، الثالثة آية المودّة، الرابعة آيات الأبرار) بحثاً تامّاً وافياً جامعاً.
وأورد بحثه حول آية المودّة في الفصل الثالث من هذا الكتاب ص ٢۱۸ إلى ص ٢٣۰ من مجموعته التي فيها كتابه: «الفصول المهمّة»، وهذا الكتاب من الطبع الخامس.
فلابدّ عند إخراج كتابنا هذا من المسودّة إلى المبيضّة أن يُجعل هذا الفصل مورداً للمطالعة ويُستفاد من مطالبه الثمينة.
وأيضًا جاء باثني عشر حديثاً في هذا الكتاب في تفضيل الزهراء ولزوم مودّتها ومحبّتها من ص ٢٣٩ إلى ص ٢٤٥ لابدّ من الرجوع إليها وإيراد ما
يناسب منها في كتابنا «المودّة»، وعلى الجملة جميع ما أورده قدّس الله نفسه في «الكلمة الغرّاء» نافعٌ نقلها وحكايتها في كتابنا هذا.
وقد ورد في «الفصول المهمّة» ص ٥ إلى ص ۸ عدّة روايات حول المودّة والاعتصام بأهل البيت عليهم السلام.
وهناك رواياتٌ في ص ٤٥ إلى ص ٤۷ حول السقيفة وكيفيّة حصولها والمتخلّفين عنها.
وقد ورد في «الكلمة الغرّاء» في ص ٢٣٩ إلى ص ٢٤۱ عدّة رواياتٍ في مقام وموقعيّة وأفضليّة السيّدة الزهراء سلام الله عليها.۱
الفهارس العامّة
الآيات
الروايات
الأشعار
المراجع و المصادر
فهرس المراجع والمصادر
القرآن الكريم: مصحف المدينة المنوّرة (خط عثمان طه).
نهج البلاغة: جمع الشريف الرضي، شرح الشيخ محمد عبده، طبعة مصر.
الصحيفة السجاديّة الكاملة.
* * *
إحقاق الحق وإزهاق الباطل: نور الله الشوشتري، قم، منشورات مكتبة آية الله المرعشي النجفي.
أسد الغابة في معرفة الصحابة: ابن الأثير، دار التراث العربي، بيروت.
الإمامة والسياسة: ابن قتيبة الدينوري، تحقيق: علي شيري، دار الأضواء، بيروت، الطبعة الأولى ۱٤۱۰ هـ/ ۱٩٩۰ م.
الإستيعاب في معرفة الأصحاب: ابن عبد البرّ النمري القرطبي، تحقيق: علي محمّد البجاوي، بيروت، دار الجيل، الطبعة الأولى ۱٤۱٢ هـ/ ۱٩٩٢ م.
أقرب الموارد في فصح العربيّة والشوارد: سعيد الخوري الشرتوني اللبناني، منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي، إيران، قم، ۱٤۰٣ هـ.
الأمالي: الشيخ الطوسي (شيخ الطائفة أبي جعفر محمّد بن الحسن الطوسي)، تحقيق: قسم الدراسات الإسلاميّة مؤسسّة البعثة، نشر دار الثقافة، قم، الطبعة الأولى، ۱٤۱٤ هـ.
الإمام جعفر الصادق عليه السلام: المستشار عبد الحليم الجندي، يشرف على إصدارها: محمّد توفيق عويضة، القاهرة، جمهوريّة مصر العربيّة، المجلس الأعلى للشؤون الإسلاميّة، سنة ۱٣٩۷ هـ/ ۱٩۷۷ م.
الإرشاد: الشيخ المُفيد، الطبعة الحجريّة؛ ودار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الثانية ۱٤۱٤ هـ/ ۱٩٩٣ م.
إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري: أبو العباس شهاب الدين أحمد بن محمّد القسطلاني، المطبعة الكبرى الأميريّة، مصر، الطبعة السابعة ۱٣٢٣ هـ.
بحار الأنوار: العلامة الشيخ محمّد باقر المجلسي، الطبعة الحروفية؛ وطبعة الكمباني.
تاريخ الطبري: محمّد بن جرير الطبري، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت.
تفسير الصافي: الملا محسن الفيض الكاشاني، انتشارات الصدر، طهران، ۱٤۱٥ هـ.
تفسير البرهان (البرهان في تفسير القرآن): ا لسيد هاشم الحسيني البحراني، الطبعة الحجريّة؛ وطبعة بنياد بعثت (مؤسسة البعثة).
تفسير ابن عربي: أبو عبد الله محيي الدين محمّد بن عربي، القرن السابع، تحقيق: سمير مصطفى رباب، دار إحياء التراث العربي، بيروت، ۱٤٢٢ هـ.
الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي): محمّد بن أحمد القرطبي، منشورات ناصر خسرو، إيران، ۱٤۰٦ هـ.
تفسير أبو الفتوح الرزاي (تفسير روض الجنان وروح الجنان): أبو الفتوح الحسين بن علي الرازي، الطبعة الحاوية لاثني عشرة مجلّداً.
تفسير أبي مسعود: أحمد بن فرات الرازي (ت: ٢٥۸).
تفسير الميزان (الميزان في تفسير القرآن): السيّد محمّد حسين الطباطبائي، منشورات مؤسسّة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، الطبعة الثانية ۱٣٩٣ هـ/ ۱٩۷٣ م.
تفسير الكشّاف (الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل): أبو القاسم جار الله محمود بن عمر الزمخشري، طبعة دار إحياء التراث العربي، بيروت؛ وطبعة دار الكتاب العربي، بيروت.
تفسير بيان السعادة في مقامات العبادة: محمّد الجنابذي (الملقب ب «سلطان علي شاه»)، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، ۱٤۰۸ هـ.
التفسير الكبير (مفاتيح الغيب): أبو عبد الله محمّد بن عمر فخر الدين الرازي (الفخر الرازي)، دار إحياء التراث العربي، ۱٤٢۰ هـ.
تفسير روح المعاني: أبو الفضل شهاب الدين السيّد محمود الآلوسي، دار الكتب العلميّة، بيروت، ۱٤۱٥ هـ.
تفسير روح البيان: إسماعيل حقّي، طبعة المطبعة العثمانية.
تفسير الدرّ المنثور في التأويل بالمأثور: عبد الرحمن بن أبو بكر جلال الدين السيوطي، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، ۱٩۷٩ م.
مجمع البيان في تفسير القران: أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي، طبعة صيدا.
ديوان الأزري: القصيدة الأزريّة، الشيخ محمد كاظم الأزري.
رسالة في معرفة أحوال الصحابة: الشيخ محمّد بن الحسين الحرّ العاملي.
سنن الترمذي (الجامع الصحيح): محمّد بن عيسى الترمذي، الطبعة الأولى، مطبعة مصطفى البابي الحلبي (مصر سنة ۱٣۸٢) تحقيق: إبراهيم عطوة.
سفينة البحار: الشيخ عباس القمي، الطبعة الحجريّة، المطبعة العلميّة في النجف الأشرف، ۱٣٥٥ هـ.
السيرة النبوية: ابن هشام، طبعة مكتبة محمد علي صبيح وأولاده.
السيرة النبويّة والآثار المحمّدية: أحمد زيني دحلان، المطبوع في هامش السيرة الحلبيّة، دار المعرفة، بيروت.
شرح نهج البلاغة: ابن أبي الحديد المعتزلي، دار إحياء الكتب العربيّة (الطبعة القديمة) عيسى البابي الحلبي وشركاه، ۱٣۷۸ هـ/ ۱٩٥٩ م.
تنبيه الغافلين وتذكرة العارفين (شرح نهج البلاغة): الملا فتح الله الكاشاني، منشورات پيام حق، طهران، الطبعة الأولى ۱٤٢۰ هـ.
الشرف المؤبّد لآل محمد: يوسف بن إسماعيل بن يوسف النبهاني.
شرح غُرر الحكم ودُرر الكلم: الآغا جمال الدين الخونساري، تصحيح: مير جلال الدين الحسيني الأرموي المحدّث، طهران، منشورات جامعة طهران، الطبعة الرابعة ۱٤۰۸ هـ.
صحيح البخاري: محمّد بن إسماعيل البخاري، طبعة أميريّة بولاق، والطبعة المليحيّة (سنة ۱٣٢٣ هـ).
عبد الله بن سبأ: السيّد مرتضى العسكري، طبعة مصر.
العقد الفريد، أحمد بن محمّد بن عبد ربه الأندلسي، الناشر: المكتبة التجاريّة الكبرى، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، الطبعة الثانية، ۱٣۷٢ هـ/ ۱٩٥٣.
عيون أخبار الرضا عليه السلام: محمّد بن عليّ بن بابويه القمّي (الشيخ الصدوق)، نشر جهان، طهران، الطبعة الأولى ۱٣۷۸ هـ.
غاية المرام وحجّة الخصام في تعيين الإمام من طريق الخاصّ والعام: السيّد هاشم البحراني، تحقيق: علي عاشور، مؤسسّة التاريخ العربي للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى ٢۰۰۱ م.
الغدير في الكتاب والسنة والأدب: العلامة الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي، دار الكتاب العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الرابعة، ۱٣٩۷ هـ/ ۱٩۷۷ م.
الفصول المهمة: السيّد عبد الحسين شرف الدين العاملي، الطبعة الخامسة، مطبعة النعمان- النجف.
الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة: ابن الصباغ المالكي، دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية ۱٤۰٩ هـ/ ۱٩۸۸ م.
في ظلال القرآن: السيّد قطب بن إبراهيم الشاذلي، دار الشروق، ۱٤۱٢ هـ.
الكافي: محمّد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلاميّة، الطبعة الثانية، و طبعة دار الحديث، قم، الطبعة الأولى ۱٤٢٩ هـ.
الكلمة الغرّاء: السيّد عبد الحسين شرف الدين.
لسان العرب: جمال الدين محمّد بن مكرم (ابن منظور)، دار صادر، سنة ٢۰۰٣ م.
الملل والنحل: للشهرستاني، الطبعة الأولى، مصر.
مجمع البحرين ومطلع النيّرين: الشيخ فخر الدين بن محمّد الطريحي النجفي، تحقيق: السيّد أحمد الحسيني، طهران، الطبعة الثانية ۱٣٦٥ هـ.
المراجعات: السيّد عبد الحسين شرف الدين الموسوي، طبعة المجمع العالمي لأهل البيت.
مروج الذهب ومعادن الجوهر: أبو الحسن علي بن الحسين بن علي المسعودي، تحقيق: أسعد داغر، قم، دار الهجرة، الطبعة الثانية ۱٤۰٩ هـ.
مفردات غريب القرآن: للراغب الأصفهاني، دفتر نشر، الطبعة الأولى.
معرفة الإمام: العلّامة السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني، دار المحجّة البيضاء، الطبعة الأولى ۱٤۱٩ هـ/ ۱٩٩۸ م.
المعجم الكبير: الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني، طبعة دار إحياء التراث العربي- بيروت.
منهاج الكرامة في معرفة الإمامة: الحسن بن يوسف بن علي بن المطهر الحلّي (العلامة الحلّي)، بخطّ عبد الرحيم؛ وطبعة مؤسّسة عاشوراء للتحقيقات والبحوث الإسلاميّة، مشهد، ۱٣۷٩ هـ. ش.
المناقب: الموفّق بن أحمد بن محمّد المكّي الخوارزمي، طبعة النجف، ۱٣٥۸ هـ.
مناقب آل أبي طالب: محمّد بن علي بن شهر آشوب، طبع سربي.
محمّد وعلي وحديث الثقلين وحديث السفينة: السيّد الميرزا نجم الدين الشريف العسكري.
نظم درر السمطين في فضائل المصطفى والمرتضى والبتول والسبطين: جمال الدين محمّد بن يوسف بن الحسن بن محمّد الزرندي الحنفي، سلسلة من مخطوطات مكتبة أمير المؤمنين (عليه السلام) العامة، الطبعة الأولى ۱٣۷۷ هـ/ ۱٩٥۸ م.
ينابيع المودة، للقندوزي الحنفي، طبع إسلامبول.
* * *
المؤلفات و الآثار المنشورة
بسم الله الرحمن الرحيم
دورة علوم ومباني الإسلام والتشيّع
الكتب المنشورة
الكتب والآثار المنشورة لسماحة آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته:
طهارة الإنسان: دراسة فقهيّة تخصّصية لإثبات طهارة مطلق الإنسان ذاتاً. (متوفّر بالعربيّة)
الأربعين في التراث الشيعي. (متوفّر بالعربيّة)
أسرار الملكوت: شرحٌ لحديث عنوان البصريّ عن الإمام الصادق عليه السلام. (الجزء ۱ متوفّر بالعربيّة)
حريم قدس (حريم القدس): مقالةٌ في السير والسلوك.
اجماع از منظر نقد و نظر (رسالةٌ في عدم حجيّة الإجماع): وهي رسالة تتضمّن بحثاً أصوليّاً في إثبات عدم حجيّة الإجماع مطلقاً.
تعليقة على «رسالة في وجوب صلاة الجمعة تعييناً» لحضرة العلامة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله سرّه. (أصلها بالعربية).
أنوار ملكوت (أنوار الملكوت): وهو من مؤلّفات سماحة العلّامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة حول: نور ملكوت الصوم، الصلاة، المسجد، القرآن، الدعاء، قدّم له وراجعه وشرح بعض مواضعه نجل العلامة سماحة المؤلّف حفظه الله.
افق وحي (أفق الوحي): نقدٌ وردٌ على نظرية الدكتور عبد الكريم سروش حول الوحي.
مقدّمة وتعليقات على «مطلع الأنوار» (الدورة المحقّقة والمهذّبة من المكتوبات الخطيّة والمراسلات و المواعظ): من آثار سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله سرّه.
مقدّمة وتصحيح تفسير آية النور {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: من آثار سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله سرّه.
مقدّمة وتصحيح «آيين رستگاري» (سبيل الفلاح): من آثار سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة.
حيات جاويد (السعادة الأبديّة): شرح إجمالي لوصيّة أمير المؤمنين للإمام الحسن المجتبى عليهما السلام في حاضرين.
لشن أسرار (روضة الأسرار): شرح على الحكمة المتعالية في الأسفار العقليّة الأربعة للملا صدرا.
الشمس المنيرة: عرض إجمالي للشخصيّة العلميّة والأخلاقيّة لسماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة. (متوفّر بالعربيّة)
سرّ الفتوح ناظر بر رواز روح (سرّ الفتوح الناظر على كتاب عروج الروح): من آثار سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة، قدّم له وعلّق عليه سماحة المؤلّف حفظه الله. ترجم ونشر على مواقع الأنترنت.
حديث عنوان البصري: شرح رواية عنوان البصري، مستخرج من الشرح الصوتي لسماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله.
مهر تابناك (الشمس الزاهرة): حول حياة الميزرا علي القاضي رضوان الله عليه.
الدرّ النضيد في الاجتهاد والتقليد: تقريرات العلامة الطهراني قدّس سرّه لبحث آية الله الشيخ حسين الحلّي في الاجتهاد والتقليد، وقد أضاف نجله سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله تعليقات قيّمة على البحث، مضافاً إلى مقدّمة وخاتمة للكتاب. (ألّفت بالعربيّة)
مقدّمة وتصحيح رسالة المودّة: الكتاب الحاضر.
* * *
كتب قيد التأليف
نفحات الأنس.
السالك البصير.
معالم عاشوراء ومدرستها.
سيرة الصالحين.
الارتداد في الإسلام.
النيروز في الجاهليّة والإسلام.
* * *
كتب ستصدر بالعربيّة قريباً
الدرّ النضيد في الاجتهاد والتقليد.
تفسير آية النور.
أسرار الملكوت (الجزء ٢ و ٣).
سبيل الفلاح.
أنوار الملكوت.
حريم القدس.
* * *
تعريف إجمالي بالكتب المؤلّفة
۱- شرح وتفسير (القرآن والحديث)
أنوار الملكوت: هذا الكتاب تتمّة لسلسة أنوار الملكوت والتي وردتنا عن المرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه، من خلال محاضراته التي كان يلقيها في مسجد القائم في طهران خلال شهر رمضان المبارك لعام ۱٣٩۰ ه، وكان قد كتب خلاصتها في مخطوطاته. وقد نظّمت هذه المخطوطات وحُقّقت، وطبعت في مجلّدين.
تفسير آية النور: هذا الكتاب هو خلاصة المحاضرات القيّمة التي ألقاها المرحوم العلّامة الطهراني رضوان الله عليه في مسجد القائم في طهران، والتي تمثّل تفسيراً عرفانيّاً أخلاقيّاً لآية النور المباركة (). وقد كُتبت وحقّقت وصحّحت وطبعت مع مقدّمة نفيسة لنجله المكرّم سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه الله.
حيات جاويد (السعادة الأبديّة): وهذا الكتاب الشريف هو شرح وتفسير راق وبديع، على الوصيّة المعجزة لأمير المؤمنين عليّ ابن أبي طالب عليه السلام، والتي كتبها لابنه الإمام الحسن المجتبى عليه السلام حين عودته من صفّين في موضع يدعى حاضرَين.
حديث عنوان البصري: وتشتمل هذه المجموعة على نصوص المحاضرات الصوتيّة التي ألقاها سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني دامت بركاته شرحاً لهذا الحديث الشريف على الأعزّة والأحبّة من التائقين للتعرّف إلى المسلك العرفاني والمدرسة التوحيديّة للمرحوم العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني قدّس الله نفسه الزكيّة، وقد قام بنفسه بكتابة شرح واف لهذا الحديث تحت عنوان «أسرار الملكوت».
رسالة المودّة: هذه الرسالة من ضمن المحاضرات التي ألقاها سماحة العلامة السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني رضوان الله والتي كتب خلاصتها بنفسه، مع مقدّمة لنجله آية الله السيّد محمّد محسن الطهراني حفظه الله تبيّن قيمة هذا الأثر، وتبحث هذه الرسالة في تفسير آية المودّة مع عرض
۱. للآراء المختلفة حول حقيقة ذوي القربى، والردّ عليها مع بيان الرأي الصحيح بالأدلّة المتقنة، وتتعرّض لدور محبتهم في السلوك إلى الله عزّ وجلّ ولزوم موّدة أهل البيت عليهم السلام وفرضها في القرآن والسنّة؛ كما تمّ التعرّض فيها لبعض الأحداث التي حصلت بعد ارتحال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حتّى شهادة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء سلام الله عليها.
٢- في الأدعية والأخلاق
آيين رستگارى (سبيل الفلاح): وهو خلاصة لبيانات سماحة العلّامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني رضوان الله عليه، حول أركان السير والسلوك إلى الله، وآدابه ولوازمه، والتي كان قد بيّنها لبعض إخوانه في الله، وقد كُتبت وصُحّحت وقَدَّم لها نجله المكرّم سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته.
٣- في العرفان والفلسفة
أسرار ملكوت (أسرار الملكوت): وهو شرح لحديث عنوان البصريّ الوارد عن الإمام الصادق عليه السلام، وقد أكّد على العمل بمضامينه قديماً العلماء العظام في العرفان والأخلاق. طبع منه إلى الآن ثلاثة أجزاء، وهذه المجموعة هي خير مُبيّن وكاشف عن فكر المرحوم العلامة الطهراني رضوان الله عليه ومبانيه السلوكيّة.
حريم قدس (حريم القدس): وهي مقالة جاد بها يراع سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ دامت بركاته، في تقديمه للترجمة الفرنسيّة للكتاب الشريف «لبّ اللباب في سير وسلوك أولي الألباب» تأليف سماحة العلّامة الطهراني قدّس الله سرّه.
سرّ الفتوح ناظر بر رواز روح (سرّ الفتوح الناظر على كتاب عروج الروح): وهو مقالة كتبها المرحوم آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، في الردّ على كتاب عروج الروح، وقد بيّن فيها الأفكار والمباني الرفيعة لمدرسة العرفان والتوحيد حول نهاية السير التكامليّ للبشر، ولكن حيث إنّ هذه الرسالة لم تكن قد طبعت قبل وفاة المرحوم العلّامة، وحيث إنّ الكثير من أبحاثها يحتاج إلى مزيد من التفصيل والتوضيح، فقد قام سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني حفظه الله بإضافة مقدّمة وتعليقات نفيسة عليها.
لشن أسرار (روضة الأسرار): وهو شرح على الحكمة المتعالية (الأسفار) لصدر المتألهين الشيرازي والذي قدّمه سماحة المؤلف في دروس الفلسفة لمرحلة البحث الخارج.
٤- في الكلام والفقه والأصول
طهارة الإنسان: وهي خلاصة البحوث الفقهيّة المتخصّصة لإثبات طهارة مطلق الإنسان ذاتاً، والتي كان سماحة المؤلّف المحترم قد ألقاها في درس البحث الخارج، ثمّ قام بكتابتها بقلمه المتين.
رسالةٌ في عدم حجيّة الإجماع: هذا الأثر عبارة عن دراسة تأسيسيّة ومتقنة في مسألة الإجماع، ويظهر في الدراسة كيف أنّ هذا الدليل الذي هو أحد الأدلّة الأربعة للفقاهة والاجتهاد، قد شقّ طريقه في الفقه الشيعي من دون أن يكون له أصل أو جذر إلهي، بل هو معارض للأدلّة الإلهيّة المتقنة.
صلاة الجمعة: وقد ألّفت هذه الرسالة الشريفة باللغة العربيّة، وهي تقريرات لدرس الخارج لسماحة آية الله الحجّة السيّد محمود الشاهرودي في الفقه، قام بتقريرها سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ رضوان الله عليه، وقد طبعت مع تعليقات المؤلّف المحترم.
افق وحي (أفق الوحي): وهو نقدٌ وردّ على نظريّات الدكتور عبد الكريم سروش حول الوحي والرسالة وردّ على شبهاته في هذا الموضوع، وحيث إنّ إجابات بعض العلماء الكبار على هذه الشبهات تحتوي هي الأخرى على نقاط من الخطأ وإثارة الشبهات، بل حتّى إنّها كانت خارجة عن دائرة البحث وتؤدّي إلى تأييد نظريّات سروش، فقد قام المؤلّف المكرّم بالتأمّل في هذه الإجابات أيضاً.
٥- الأبحاث التاريخيّة والاجتماعيّة
الأربعين في التراث الشيعي: وقد درست هذه الرسالة عنوان الأربعين في التراث الشيعيّة من مختلف الجوانب، وأثبتت أنّ هذا العنوان هو من مختصّات سيّد الشهداء عليه السلام.
٦- تراجم ورجال
الشمس المنيرة: وهو عرض إجماليّ كتبه المؤلّف المعظّم للتعريف بالشخصيّة العلميّة والأخلاقيّة للعارف بالله سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة.
مهر تابناك (الشمس الزاهرة): لقد تحدّث المرحوم العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسيني الطهراني- قدّس الله سرّه- وكذلك نجله سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني حفظه الله وفي مناسبات عديدة حول نفحة من أحوال وتاريخ الحياة المليئة بالبركة لسماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد علي القاضي الطباطبائي- قدّس الله نفسه الزكيّة- من أجل بيان النكات والمواضيع الراقية المتعالية لمدرسة العرفان، فوجدنا من المناسب أن تجمع هذه البيانات لتوضع باختيار عشاق المعرفة والمتعطّشين لمسير الحقيقة.
۷- الدورة المحقّقة والمهذّبة من المكتوبات الخطّية والمراسلات والمواعظ
مطلع أنوار (مطلع الأنوار): وهذه المجموعة القيّمة هي حاصل مخطوطات وثمرة عمر سماحة العلامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة، وقد جمعت تحت عنوان المكتوبات والمراسلات والمواعظ في أربعة عشر مجلّداً، مع مقدّمة وتصحيح وتعليقات قيّمة لولده سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ حفظه الله، وأهمّ أبحاثها:
الجزء الأول: المراسلات، اللقاءات والحياة الشخصيّة للمؤلّف المحترم (المرحوم العلّامة) بقلمه هو، قصص وحكايات أخلاقيّة وعرفانيّة وتاريخيّة واجتماعيّة.
الجزء الثاني: مختصر لتراجم أساتذة المؤلّف في الأخلاق والعرفان.
الجزء الثالث: تراجم لعدد من العظماء والعلماء والشخصيّات المؤثّرة.
الجزء الرابع: العبادات والأدعية والأخلاق.
الجزء الخامس: الأبحاث الفلسفيّة والعرفانيّة، علوم الهيئة والنجوم والعلوم الغريبة، الأدب والبلاغة.
الجزء السادس: إجازات المؤلّف في الرواية والاجتهاد، الأبحاث التفسيريّة والروائيّة.
الجزء السابع: الأبحاث الفقهيّة (فقه الخاصة، فقه العامّة، والفقه المقارن) والأبحاث الأصوليّة.
الجزء الثامن: الأبحاث الكلاميّة (المبدأ والمعاد، المساوئ).
الجزء التاسع: الأبحاث الكلاميّة (حول أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام)
الجزء العاشر: ملاحظات ومنتخبات من الكتب التاريخيّة والاجتماعيّة.
الجزء الحادي عشر: الأبحاث الرجاليّة، متفرّقات (طب، لطائف ...)
الجزءان الثاني عشر والثالث عشر: خلاصة مواعظ المؤلّف في شهر رمضان المبارك لعامي ۱٣٦٩ و ۱٣۷۰ هـ.
الجزء الرابع عشر: الفهارس العامة لهذه الموسوعة (الآيات والروايات والشعر والأعلام ...)
* * *
البرامج الحاسوبيّة
آواي ملكوت (نداء الملكوت): وهو عبارة عن أربعة أقراص (DVD) تحتوي على محاضرات صوتيّة لسماحة العلّامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة، وسماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهراني مدّ ظلّه العالي.
إكسير السعادة: وتشمل هذه المجموعة على الآثار العلميّة والمعرفيّة لسماحة العلّامة آية الله العظمى الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة، وأكثر مؤلّفات أستاذه العلميّ ومربّيه السلوكيّ سماحة العلّامة السيّد محمّد حسين الطباطبائي رضوان الله عليهما، ومجموعة مؤلّفات ومحاضرات سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ مدّ ظلّه العالي في شرح حديث عنوان البصريّ ودعاء أبي حمزة وسائر المعارف الإسلاميّة. (متوفّر بالعربيّة)
* * *
تعريفات إجمالية بالكتب قيد التأليف
نفحات أنس (نفحات الأنس): تحتوي هذا الكتاب على بيانات سماحة آية الله الحاج السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني- حفظه الله- التي طرحها فيما يتعلّق بشخصيّة العارف الكامل سماحة الحاج السيّد هاشم الحداد قدّس الله نفسه الزكيّة، ولأهميّة المسائل التي طرحت قام مجمع التحقيق مكتب وحي تحت إشراف سماحته بكتابة هذه البيانات التي نشرت صوتياً، ومن ثمّ إعدادها لتنشر وتقدّم إلى السالكين إلى الله.
سالك آاه (السالك البصير): وهو نصوص محاضرات العلامة آية الله الحاج السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهراني قدّس الله نفسه الزكيّة، والتي ألقيت في مناسبات مختلفة حول موضوع العلم والعلماء، وقد صارت جاهزة للطبع والنشر مع مقدّمة وتصحيح من قبل نجله حفظه الله.
سيماى عاشوراء (معالم عاشوراء ومدرستها): لقد أحدثت عاشوراء بما تحمل من عبر وأسرار وإيحاءات نظريّات ورؤى متباينة في فهم محتواها وكنهها وماهيّتها. وفي هذا الكتاب يسعى المؤلّف إلى تقديم نظريّة العرفاء والأولياء حول هذه الملحمة التاريخيّة، ليكشف عن تعريف جديد لها، ويفسّر أهدافها ومقاصدها وهويّتها للطالبين، وليضع أمام أعين المتوسّمين والمتأمّلين صورة أخّاذة عن حقيقة سيّد الشهداء عليه السلام.
سيره صالحان (سيرة الصالحين): وهو حصيلة المحاضرات التي ألقاها سماحة آية الله السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني مدّ ظلّه العالي، في جلسات ليالي شهر رمضان المبارك عام ۱٤٣٣ هـ. والتي تعرّض فيها لإثبات حجيّة أقوال وأفعال أولياء الله ومنجّزيتها على الآخرين، وكيفيّة الاستفادة من أنوار الولاية الباهرة.
ارتداد در إسلام (الارتداد في الإسلام): في هذا الكتاب بحث شامل حول حكم الارتداد، وكيفيّة تحقّقه، والآراء والرؤى المختلفة حوله من قبل المدارس المتنوّعة.
نوروز در جاهليّت واسلام (النيروز في الجاهليّة والإسلام): وهو يتناول عيد النيروز والبدع التي دخلت إلى دين الإسلام المقدّس. ويأمل المؤلّف المكرّم أن يضاعف من إتقان ورقيّ هذا الكتاب بالاستفادة من المطالب التي وردت عن والده المعظّم في هذه المسألة.
* * *