المؤلّفالهیئة العلمیة لموقع مدرسة الوحي
القسم القرآن والحديث والدعاء
التوضيح
يقدّم العلامة الطباطبائي في هذا البحث القيّم دراسةً علميّةً شاملة لإثبات سلامة القرآن الكريم من التحريف، وأنّه محفوظٌ بحفظ الله من كلّ زيادةٍ أو نقيصةٍ أو تبديل، ويثبت بالأدلّة القاطعة أنّ كتاب الله الذي بين أيدينا اليوم هو نفسه القرآن الذي نزل على النبيّ محمّدٍ صلّى الله عليه وآله وسلّم. وفي هذا الإطار يطرح قدّس سرّه الدليل الذي يرى أنّه أقوى الأدلّة على سلامة القرآن من التحريف، ثمّ يذكر سائر الأدلّة مع تقييمها.
ثمّ أنّه في القسم الأخير من البحث يتعرّض لردّ الشبهات والأدلّة التي تشبّث بها القائلون بالتحريف من الفريقين، ويختم البحث بدراسة ما وصلنا من التاريخ حول كيفيّة جمع القرآن في زمنَي الخليفتين الأوّل والثالث، معلّقًا عليها وناقدًا إيّاها، مبيّنًا الصحيح من السقيم فيها.
هو العليم
الذكرُ المحفوظ
بحثٌ استدلاليٌّ شاملٌ في صيانة القرآن الكريم من التحريف
بحث منتخب من كتاب تفسير الميزان
لسماحة العلّامة السيّد محمّد الحسين الطباطبائي
قدّس الله سرّه
إعداد: الفريق العلمي في موقع مدرسة الوحي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
و الحمد لله ربّ العالمين
و لا حول و لا قوّة إلّا بالله العليّ العظيم
و صلّى الله على محمد و آله الطاهرين
و لعنة الله على أعدائهم أجمعين
من الآن إلى يوم الدين
مقدمة اللجنة العلمية
إنّ مسألة صيانة القرآن الكريم عن التحريف تعتبر من العقائد الأساسيّة في الإسلام والتي تبتني عليها الكثير من المعارف والمسائل، ويمكن أن نقول: إنّ الأعمَّ الأغلب من علماء الإسلام من الفريقين الشيعة وأهل السنة يعتقدون بصيانة الكتاب الكريم عن التحريف، ولكنّ هذه العقيدة المهمّة واجهت بعض الشبهات من قِبل عدد قليلٍ من علماء الفريقين سببها بعض الروايات والنقولات التاريخيّة.
وقد انبرى المفسر الكبير العلامة الطباطبائي قدس سره في هذا البحث القيّم الذي عقده بعد تفسير قوله تعالى: ﴿إنا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾۱ لإثبات سلامة القرآن الكريم من التحريف، وأنّه محفوظٌ بحفظ الله من كلّ زيادةٍ أو نقيصةٍ أو تبديل، ولدفع كلّ الشبهات عنه في سبعة فصولٍ هذه عناوينها:
الفصل ١ - الاستدلال على نفي تحريف القرآن بنفس القرآن
الفصل ٢ - الاستدلال على نفي تحريف القرآن بالحديث
الفصل ٣ - كلام مثبتي التحريف وجوابه
الفصل ٤ - الجمع الأول للمصحف
الفصل ٥ - الجمع الثاني للمصحف
الفصل ٦ - حول روايات الجمعين
الفصل ٧ - الكلام حول روايات الإنساء.
وقد رأينا أن نبدأ بنقل تفسيره قدّس سرّه للآية الكريمة، ثمّ ننقل البحث القيّم بعدها؛ ليكون هذا بحثًا شاملاً مستوفيًا حول صيانة الذكر الحكيم من التحريف.
تفسير آية ﴿إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون﴾
قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ صدر الآية مسوقٌ سوق الحصر، وظاهر السياق أنّ الحصر ناظرٌ إلى ما ذُكر من ردّهم القرآنَ بأنّه من أهذار الجنون، وأنّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) مجنونٌ لا عبرة بما صنع ولا حُجّة، ومن اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليُصدّقوه في دعوته، وأنّ القرآن كتابٌ سماويٌّ حقٌّ.
والمعنى على هذا، والله أعلم، أنّ هذا الذكر لم تأتِ به أنت من عندك حتى يُعجزوك ويُبطلوه بعنادهم وشدّة بطشهم، وتتكلف لحفظه ثم لا تقدر، وليس نازلًا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم وتصديقهم إيّاه، بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالًا تدريجيًّا، وإنّا له لحافظون بما له من صفة الذكر، وبما لنا من العناية الكاملة به.
فهو ذكرٌ حيٌّ خالدٌ، مصونٌ من أن يموت ويُنسى من أصله، مصونٌ من الزيادة عليه بما يُبطل كونه ذكرًا، مصونٌ من النقص كذلك، مصونٌ من التغيير في صورته وسياقه بحيث يتغيّر به صفة كونه ذكرًا لله، مبيّنًا لحقائق معارفه.
فالآية تدلّ على كون كتاب الله محفوظًا من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكرًا لله سبحانه، فهو ذكرٌ حيٌّ خالدٌ.
ونظيرُ الآيةِ في الدلالةِ على كونِ الكتابِ العزيزِ محفوظًا بحفظِ الله، مصونًا من التحريفِ والتصرّفِ بأيّ وجهٍ كان من جهةِ كونهِ ذكرًا له سبحانه، قولهُ تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ أنّه لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾۱.
وقد ظهر بما تقدّم أنّ اللام في الذكر للعهد الذكري، وأنّ المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال، كما هو الظاهر من اسم الفاعل، فيندفع به ما ربما يُورد على الآية من أنّه لو دلت على نفي التحريف من القرآن لأنّه ذكر، لدلت على نفيه من التوراة والإنجيل أيضًا، لأنّ كُلًّا منهما ذكر، مع أنّ كلامه تعالى صريحٌ في وقوع التحريف فيهما.
وذلك أنّ الآية، بقرينة السياق، إنّما تدلّ على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، ولا دلالة فيها على علّيّة الذكر للحفظ الإلهيّ، ودوران الحكم مداره.
وسنستوفي البحث عمّا يرجع إلى هذا الشأن، إن شاء الله تعالى٢.
بحث شامل في أن القرآن الكريم مصون عن التحريف
[وهو يقع في سبعة فصول:]
الفصل ١- الاستدلال على نفي تحريف القرآن بالقرآن نفسه
من ضروريات التاريخ أنّ النبي العربيّ محمّدًا (صلّى الله عليه وآله وسلّم) جاء قبل أربعة عشر قرنًا تقريبًا، وادّعى النبوّة، وانتهض للدعوة، وآمن به أُمّةٌ من العرب وغيرهم، وأنّه جاء بكتابٍ يُسمّيه القرآن وينسبه إلى ربّه، متضمّنٍ لجُمل المعارف وكُليّات الشريعة التي كان يدعو إليها، وكان يتحدّى به ويعدّه آيةً لنبوّته، وأنّ القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به وقرأه على الناس المعاصرين له في الجملة، بمعنى أنّه لم يَضِع من أصله بأن يُفقد كُلّه ثم يُوضع كتابٌ آخر يُشابهه في نظمه أو لا يُشابهه ويُنسب إليه، ويشتهر بين الناس بأنّه القرآن النازل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم).
فهذه أمورٌ لا يرتاب في شيءٍ منها إلا مَن كان مُصابًا في فهمه، ولم يحتمل بعض ذلك أحدٌ من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين والمؤالفين.
وإنّما احتمل بعض مَن قال به من المخالف أو المؤالف زيادةَ شيءٍ يسيرٍ كالجملة أو الآية، أو النقص، أو التغيير في جملةٍ أو آيةٍ في كلماتها أو إعرابها، وأمّا جُلّ الكتاب الإلهيّ، فهو على ما كان عليه في عهد النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، لم يَضِع ولم يُفقد.
ثمّ إنّا نجد القرآن يتحدّى بأوصافٍ ترجع إلى عامّة آياته، ونجد ما بأيدينا من القرآن ــ أعني ما بين الدفّتَين ــ واجدًا لما وُصف به من أوصافٍ تحدّى بها، من غير أن يتغيّر في شيءٍ منها أو يفوته ويفقد.
فنجده يتحدّى بالبلاغة والفصاحة، ونجد ما بأيدينا مشتملًا على ذلك النظم العجيب البديع، لا يُعادله ولا يُشابهه شيءٌ من كلام البلغاء والفصحاء، المحفوظ منهم والمرويّ عنهم من شعرٍ أو نثرٍ أو خطبةٍ أو رسالةٍ أو محاورةٍ أو غير ذلك. وهذا النظم موجودٌ في جميع الآيات، سواء كتابًا متشابهًا مثاني، تقشعرّ منه الجلود والقلوب.
و نجده يتحدّى بقوله: ﴿أَ فَلاَ يَتَدَبَّرُونَ اَلْقُرْآنَ وَ لَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلاَفاً كَثِيراً﴾۱ بعدم وجود اختلافٍ فيه، ونجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء وأوفاه؛ فما من إبهامٍ أو خللٍ يتراءى في آيةٍ إلا ويرفعه آيةٌ أخرى، وما من خلافٍ أو مناقضةٍ يُتوهَّم بادئ الرأي من شطرٍ إلا وهناك ما يدفعه ويفسره.
ونجده يتحدّى بغير ذلك ممّا لا يختصّ فهمه بأهل اللغة العربية، كما في قوله: ﴿قُلْ لَئِنِ اِجْتَمَعَتِ اَلْإِنْسُ وَ اَلْجِنُّ عَلىَ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا اَلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً﴾٢ و قوله: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وَ مَا هُوَ بِالْهَزْلِ﴾٣ ثمّ نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحقّ الذي لا مِرية فيه، ويهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية، وكُليّات الشرائع الفطرية، وتفاصيل الفضائل الخُلقية، من غير أن نعثر فيه على شيءٍ من النقيصة والخلل، أو نحصل على شيءٍ من التناقض والزلل، بل نجد جميع المعارف، على سعتها وكثرتها، حيّةً بحياةٍ واحدة، مُدبّرةً بروحٍ واحد، هو مبدأ جميع المعارف القرآنية، والأصل الذي إليه ينتهي الجميع ويرجع، وهو التوحيد، فإليه ينتهي الجميع بالتحليل، وهو يعود إلى كلٍّ منها بالتركيب.
ونجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء وأممهم، ونجد ما عندنا من كلام الله يُورد قصصهم، ويُفصّل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين، ويناسب نزاهة ساحة النبوة وخلوصها للعبودية والطاعة، وكلّما طبّقنا قصةً من القصص القرآنية على ما يُماثلها ممّا ورد في العهدين، انجلّى ذلك أحسن الانجلاء.
ونجده يُورد آياتٍ في الملاحم، ويُخبر عن الحوادث الآتية في آياتٍ كثيرة، بالتصريح أو بالتلويح، ثمّ نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقةً مُصدّقة.
ونجده يصف نفسه بأوصافٍ زاكِيَةٍ جميلة، كما يصف نفسه بأنّه نور، وأنّه هادٍ يهدي إلى صراطٍ مستقيم، وإلى الملّة التي هي أقوم، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئًا من ذلك، ولا يُهمل من أمر الهداية والدلالة ولو دقيقةً.
ومن أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنّه ذِكرٌ لله، فإنّه يُذكّر به تعالى، بما أنّه آيةٌ دالّةٌ عليه، حيّةٌ خالدة، وبما أنّه يَصِفُه بأسمائه الحسنى وصفاته العُليا، ويصف سُنّتَه في الصُّنع والإيجاد، ويصف ملائكته وكُتبه ورُسله، ويصف شرائعه وأحكامه، ويصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة وهو المعاد ورجوع الكلّ إليه سبحانه، وتفاصيل ما يؤول إليه أمر الناس من السعادة والشقاء، والجنة والنار.
ففي جميع ذلك ذكرُ الله، وهو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنّه ذِكرٌ، ونجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئًا من معنى الذكر.
ولكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شُؤون القرآن، عُبّر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظ القرآن عن البُطلان والتغيير والتحريف، كقوله تعالى: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَ فَمَنْ يُلْقىَ فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيَامَةِ اِعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ أنّه بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ إِنَّ اَلَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَ أنّه لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾۱ فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكرٌ لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالاٌ و لا في مستقبل الزمان لا بإبطالٍ و لا بنسخٍ و لا بتغييرٍ أو تحريف يوجب زوال ذكريّته عنه.
و كقوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾۱ أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظٌ بحفظ الله عن كل زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكريّة و يبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.
ومن سخيف القول إرجاع ضمير ﴿لَهُ﴾ إلى النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، فإنّه مدفوعٌ بالسياق، وإنّما كان المشركون يستهزئون بالنبيّ لأجل القرآن الذي كان يدّعي نزوله عليه، كما يشير إليه بقوله سابقًا: ﴿وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ﴾، وقد مرّ تفسير الآية.
فقد تبيّن ممّا فصّلناه أنّ القرآن الذي أنزله الله على نبيّه (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ووصفه بأنّه ذكرٌ، محفوظٌ على ما أُنزِل، مصونٌ بصيانةٍ إلهيّةٍ عن الزيادة والنقيصة والتغيير، كما وعد الله نبيّه فيه.
وخلاصة الحُجّة: أنّ القرآن أنزله الله على نبيّه، ووصفه في آياتٍ كثيرةٍ بأوصافٍ خاصّة، فلو كان قد تغيّر في شيءٍ من هذه الأوصاف، بزيادةٍ أو نقيصةٍ أو تغييرٍ في لفظٍ أو ترتيبٍ مؤثّر، لزالت آثارُ تلك الصفة قطعًا، لكنّا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدًا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتمّ ما يمكن وأحسن ما يكون، فلم يقع فيه تحريفٌ يسلبه شيئًا من صفاته، فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بعينه.
فلو فُرض سقوط شيءٍ منه، أو تغيّر في إعرابٍ أو حرفٍ أو ترتيبٍ، وجب أن يكون في أمرٍ لا يؤثّر في شيءٍ من أوصافه، كالإعجاز، وارتفاع الاختلاف، والهداية، والنوريّة، والذكريّة، والهيمنة على سائر الكتب السماوية، إلى غير ذلك، وذلك كآيةٍ مكرّرة ساقطة، أو اختلافٍ في نقطةٍ أو إعرابٍ ونحوها.
الفصل ٢ - الاستدلال على نفي تحريف القرآن بالحديث
ويدلّ على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المرويّة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) من طرق الفريقين، الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن وفي حلّ عقد المشكلات.
وكذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: «إنّي تاركٌ فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي أبدًا» (الحديث)، فلا معنى للأمر بالتمسّك بكتابٍ مُحرّفٍ، ولا لنفي الضلال أبدًا عمّن تمسّك به.
وكذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، وما ذكره بعضهم من أنّ ذلك في الأخبار الفقهيّة، وأنّه من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام دون سائر الآيات، مدفوعٌ بأنّ أخبار العرض مطلقة، فتخصيصها بذلك تخصيصٌ بلا مخصّص.
على أنّ لسان أخبار العرض كالصريح، أو هو صريحٌ في أنّ الأمر بالعرض إنّما هو لتمييز الصدق من الكذب، والحقّ من الباطل، ومن المعلوم أنّ الدسّ والوضع غير مقصورين في أخبار الفقه، بل الدواعي إلى الدسّ والوضع في المعارف الاعتقاديّة، وقصص الأنبياء والأمم الماضية، وأوصاف المبدأ والمعاد أكثر وأوفر. ويؤيّد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات وما يحذو حذوها، ممّا أمر الجعل فيها أوضح وأبين.
وكذا الأخبار التي تتضمّن تمسّك أئمّة أهل البيت (عليهم السلام) بمختلف الآيات القرآنيّة في كلّ باب، على ما يوافق القرآن الموجود عندنا، حتّى في الموارد التي فيها آحادٌ من الروايات بالتحريف، وهذا أحسن شاهدٍ على أنّ المراد في كثيرٍ من روايات التحريف من قولهم (عليهم السلام) «كذا نزل» هو التفسير بحسب التنزيل، في مقابل البطن والتأويل.
وكذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين وسائر الأئمّة من ذريّته (عليهم السلام) في أنّ ما بأيدي الناس قرآنٌ نازلٌ من عند الله سبحانه، وإن كان غير ما ألّفه عليٌّ (عليه السلام) من المصحف، إذ لم يُشركوه (عليه السلام) في التأليف في زمن أبي بكر، ولا في زمن عثمان. ومن هذا الباب قولهم (عليهم السلام) لشيعتهم: «اقرؤوا كما قرأ الناس».
ومقتضى هذه الروايات أنّه لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفًا لما ألّفه عليٌّ (عليه السلام) في شيء، فإنّما يخالفه في ترتيب السور، أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثّر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئًا، ولا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده بحيث تختلّ آثارها.
فمجموع هذه الروايات، على اختلاف أصنافها، يدلّ دلالةً قاطعةً على أنّ الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، من غير أن يفقد شيئًا من أوصافه الكريمة وآثارها وبركاتها.
الفصل ٣ - كلام مثبتي التحريف و جوابه
ذهب جماعةٌ من محدّثي الشيعة والحشوية، وجماعةٌ من محدّثي أهل السنة، إلى وقوع التحريف بمعنى النقص والتغيير في اللفظ أو الترتيب، دون الزيادة، فلم يذهب إليها أحدٌ من المسلمين كما قيل.
واحتجّوا على نفي الزيادة بالإجماع، وعلى وقوع النقص والتغيير بوجوهٍ كثيرة:
الوجوه التي تمسك بها القائلون بالتحريف
أحدها: الأخبار الكثيرة المرويّة من طرق الشيعة وأهل السنّة، الدالّة على سقوط بعض السور والآيات، وكذا الجمل وأجزاء الجمل والكلمات والحروف في الجمع الأوّل الذي أُلِّف فيه القرآن في زمن أبي بكر، وكذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان، وكذا التغيير. وهذه رواياتٌ كثيرة، روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة وغيرها، وقد ادّعى بعضهم أنّها تبلغ ألفي حديث، وروتها أهل السنّة في صحاحهم، كصحيحي البخاري ومسلم، وسنن أبي داود والنسائي، وأحمد، وسائر الجوامع وكتب التفاسير وغيرها، وقد ذكر الآلوسي في تفسيره أنّها فوق حدّ الإحصاء.
وهذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف، ممّا يزيد على ستين موضعًا، وما يخالف فيه مصحف أُبيّ بن كعب المصحف العثماني، وهو في بضعٍ وثلاثين موضعًا، وما يختلف فيه المصاحف العثمانيّة التي اكتتبها وأرسلها إلى الآفاق، وهي خمسة أو سبعة، أرسلها إلى مكة، وإلى الشام، وإلى البصرة، وإلى الكوفة، وإلى اليمن، وإلى البحرين، وحبس واحدًا بالمدينة، والاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسةً وأربعين حرفًا، وقيل: بضعًا وخمسين حرفًا.۱
وغير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية والجمع الأول في زمن أبي بكر، فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني، وسورة براءة في المئين، وهما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال، على ما ستجيء روايته.
وغير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود وأُبيّ بن كعب، على ما وردت به الرواية، وبين المصاحف العثمانية. وغير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة والتابعين، فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
الوجه الثاني: أن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقًا، متشتتًا، منتشرًا عند الناس، وتصدى لجمعه غير المعصوم، يمتنع عادةً أن يكون جمعه كاملًا موافقًا للواقع.
الوجه الثالث: ما روته العامة والخاصة: أن عليًا عليه السلام اعتزل الناس بعد رحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرتدّ إلا للصلاة حتى جمع القرآن، ثم حمله إلى الناس، وأعلمهم أنّه القرآن الذي أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جمعه، فردّوه واستغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت، ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفًا لبعض ما في مصحف زيد، لم يكن لحمله إليهم وإعلامهم ودعوتهم إليه وجه. وقد كان عليه السلام أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، وقد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر، وقال في الحديث المتفق عليه: علي مع الحق، والحق مع علي.
الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنّه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، وقد حُرّفت بنو إسرائيل كتاب نبيّهم، على ما يصرّح به القرآن الكريم والروايات المأثورة، فلا بدّ أن يقع نظيره في هذه الأمة، فيحرّفوا كتاب ربهم، وهو القرآن الكريم.
ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري، أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: "لتتّبعنّ سُنَن من كان قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضبٍّ، لتبعتموهم". قلنا: يا رسول الله، بآبائنا وأمهاتنا، اليهود والنصارى؟ قال: "فمن؟!"
والرواية مستفيضة، مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة، كأبي سعيد الخدري، وأبي هريرة، وعبد الله بن عمر، وابن عباس، وحذيفة، وعبد الله بن مسعود، وسهل بن سعد، وعمر بن عوف، وعمرو بن العاص، وشداد بن أوس، والمستورد بن شداد، بألفاظ متقاربة.
وهي مروية مستفيضة من طرق الشيعة، عن عدة من أئمة أهل البيت عليهم السلام عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، كما في تفسير القمّي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "لتركبنّ سبيل من كان قبلكم، حذو النعل بالنعل، والقذة بالقذة، لا تخطئون طريقهم، ولا تخطئ شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى إن لو كان من قبلكم دخل جحر ضبٍّ، لدخلتموه". قالوا: اليهود والنصارى تعني، يا رسول الله؟ قال: "فمن أعني؟! لتنقضنّ عرى الإسلام عروةً عروة، فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة، وآخره الصلاة".
الجواب عن جميع الوجوه المتقدمة
والجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنّها حُجّةٌ مدخولةٌ لكونها دوريّةً.
بيان ذلك: أنّ الإجماع ليس في نفسه حُجّةً عقليّةً يقينيّةً، بل هو عند القائلين باعتباره حُجّةً شرعيّةً، لو أفاد شيئًا من الاعتقاد فإنّما يُفيد الظنّ، سواءٌ في ذلك مُحصَّله ومَنقوله، على خلاف ما يزعمه كثيرٌ منهم أنّ الإجماع المُحصَّل مُفيدٌ للقطع، وذلك أنّ الذي يُفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تُفيدها آحاد الأقوال، والواحد من الأقوال المُتوافقة لا يُفيد إلّا الظنَّ بإصابة الواقع، وانضمام القول الثاني الذي يُوافقه إليه إنّما يُفيد قوّةَ الظنِّ دون القطع، لأنّ القطع اعتقادٌ خاصٌّ بسيطٌ مُغايرٌ للظنّ، وليس بالمُركَّب من عدّة ظنونٍ.
وهكذا كلّما انضمّ قولٌ إلى قولٍ وتراكمت الأقوال المُتوافقة زاد الظنُّ قوّةً، وتراكمت الظنونُ واقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدّم. هذا في المُحصَّل من الإجماع، وهو الذي نُحصِّله بتتبّع جميع الأقوال والحصول على كلِّ قولٍ قولًا، وأمّا المنقول منه الذي ينقله الواحد والاثنان من أهل العلم والبحث، فالأمر فيه أوضح، فهو كآحاد الروايات، لا يُفيد إلّا الظنَّ إن أفاد شيئًا من الاعتقاد.
فالإجماع حجّةٌ ظنّيةٌ شرعيّةٌ، ودليل اعتبارها عند أهل السنّة مثلًا قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم: "لا تجتمعُ أُمّتي على خطإٍ أو ضلالٍ"، وعند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المُجمعين، أو كشف أقوالهم عن قوله بوجهٍ.
فحُجّية الإجماع بالجملة مُتوقّفةٌ على صحّة النبوّة، وذلك ظاهرٌ، وصحّة النبوّة اليوم مُتوقّفةٌ على سلامة القرآن من التحريف المُستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه، كالهداية، وفصلِ القول، وخاصّةِ الإعجاز، فإنّه لا دليلَ حيًّا خالدًا على خصوص نبوّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم غيرُ القرآن الكريم بكونه آيةً مُعجزةً. ومع احتمال التحريف بزيادةٍ أو نقيصةٍ أو أيّ تغييرٍ آخر، لا وُثوقَ بشيءٍ من آياته ومحتوياته أنّه كلامُ الله محضًا، وبذلك تسقط الحُجّةُ وتفسد الآيةُ، ومع سقوط كتاب الله عن الحُجّية يسقطُ الإجماع عن الحُجّية.
ولا ينفع في المقام ما قدّمناه في أوّل الكلام أنّ وجود القرآن المُنزَل على النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريّات التاريخ.
وذلك لأنّ مُجرّد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعيّ لا يدفع احتمالَ زيادةٍ أو نقيصةٍ أو أيّ تغييرٍ آخر في كلِّ آيةٍ أو جملةٍ أُريد التمسّك بها لإثبات مطلوبٍ.
والجواب عن الوجه الأوّل الذي أُقيم لوقوع التحريف بالنقص والتغيير، وهو الذي تمسّك فيه بالأخبار:
أمّا أوّلًا فبأنّ التمسّكَ بالأخبار بما أنّها حُجّةٌ شرعيّةٌ يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسّكُ بالإجماع، بنظيرِ البيان الذي تقدّم آنفًا.
فلا يبقى للمُستدِلِّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسانيدُ ومصادرُ تاريخيّةٌ، وليس فيها حديثٌ مُتواترٌ ولا محفوفٌ بقرائنَ قطعيّةٍ تُضطرّ العقلَ إلى قبوله، بل هي آحادٌ مُتفرّقةٌ مُتشتّتةٌ مُختلفةٌ، منها صحاحٌ، ومنها ضعافٌ في أسانيدها، ومنها قاصرةٌ في دلالتها، فما أشذَّ منها ما هو صحيحٌ في سنده تامٌّ في دلالته.
وهذا النوع، على شذوذه وندرته، غيرُ مأمونٍ فيه الوضعُ والدسُّ، فإنّ انسراب الإسرائيليات وما يُلحَق بها من الموضوعات والمُدسوسات بين رواياتِنا لا سبيل إلى إنكاره، ولا حُجّيةَ في خبرٍ لا يُؤمَن فيه الدسُّ والوضعُ.
ومع الغضِّ عن ذلك، فهي تذكرُ من الآيات والسور ما لا يُشبه النظمَ القرآنيَّ بوجهٍ، ومع الغضِّ عن جميع ذلك، فإنّها مُخالفةٌ للكتاب مَردودةٌ.
أمّا ما ذكرنا أنّ أكثرها ضعيفةُ الأسانيد، فيُعلَم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها، فهي مراسيلُ أو مقطوعةُ الأسانيد أو ضعيفةٌ، والسالمُ منها من هذه العلل أقلُّ قليلٍ.
و أما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصرٌ في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكيّة من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة و ذلك كما في روضة الكافي عن أبي الحسن الأول: في قول الله: ﴿أُولَئِكَ اَلَّذِينَ يَعْلَمُ اَللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ﴾ فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب ﴿وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً﴾.
و ما في الكافي عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: ﴿وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا﴾ قال: إن تلووا الأمر و تعرضوا عما أمرتم به ﴿فَإِنَّ اَللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.
و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا: ﴿يَا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ﴾ في عليّ و الآية نازلة في حقه (عليه السلام)، و ما روي: أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم) وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا: ﴿إِنَّ اَلَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ اَلْحُجُرَاتِ﴾ بنو تميم ﴿أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ﴾ فظنّ أنّ في الآية سقطاً.
و يُلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله: ﴿وَ سَيَعْلَمُ اَلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ آل محمد حقهم و ما ورد من قوله: ﴿وَ مَنْ يُطِعِ اَللَّهَ وَ رَسُولَهُ﴾ في ولاية علي و الأئمة من بعده ﴿فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً﴾ و هي كثيرةٌ جداً.
و يلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر و الدعاء فتوهّم أنّه من سقط القرآن كما في الكافي عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كلّ من قرأ ﴿قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ﴾ و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال: [قلت] كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه: كذلك الله ربي، كذلك الله ربي.
و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: ﴿وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اَللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ﴾ ففي بعضها أنّ الآية هكذا: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء» و في بعضها: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل».
و هذا الاختلاف ربما كان قرينةً على أنّ المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيده ما ورد في بعضها من قوله (عليه السلام): لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله و سلم).
وربما لم يكن إلّا من التعارضِ والتنافي بين الرواياتِ القاضي بسقوطها، كآيةِ الرجمِ على ما ورد في رواياتِ الخاصّةِ والعامّةِ، وهي في بعضها: "إذا زنى الشيخُ والشيخةُ فارجموهما البتّةَ، فإنّهما قضيا الشهوةَ"، وفي بعضها: "الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا فارجموهما البتّةَ، فإنّهما قضيا الشهوةَ"، وفي بعضها: "بما قضيا من اللذّةِ"، وفي بعضها آخرُها: "نكالًا من اللهِ واللهُ عليمٌ حكيمٌ"، وفي بعضها: ﴿نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
و كآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا: ﴿اَللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لاَ نَوْمٌ لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ﴾ و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا ﴿مَنْ ذَا اَلَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ﴾ إلى قوله ﴿وَ هُوَ اَلْعَلِيُّ اَلْعَظِيمُ﴾ و الحمد لله رب العالمين.
و في بعضها إلى قوله ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ و الحمد لله رب العالمين، و في بعضها هكذا: ﴿لَهُ مَا فِي اَلسَّمَاوَاتِ وَ مَا فِي اَلْأَرْضِ﴾ و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم» إلخ. و في بعضها: «عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام رب العرش العظيم» و في بعضها: «عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم».
وما ذكره بعض المحدّثين أنّ اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف، مردود بأنّ ذلك لا يُصلح ضعف الدلالة، ولا يدفع تنافي بعضها ببعض.
وأمّا ما ذكرنا من شيوع الدسّ والوضع في الروايات، فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصُنع والإيجاد، وقصص الأنبياء والأمم، والأخبار الواردة في تفاسير الآيات، والحوادث الواقعة في صدر الإسلام. وأعظم ما يهمّ أمره لأعداء الدين، ولا يألون جهدًا في إطفاء نوره، وإخماد ناره، وإعفاء أثره، هو القرآن الكريم، الذي هو الكهف المنيع، والركن الشديد الذي يأوي إليه، ويتحصّن به المعارف الدينية، والسند الحيّ الخالد لمنشور النبوّة، وموادّ الدعوة، لعلمهم بأنّه لو بطلت حجّة القرآن، لفسد بذلك أمر النبوّة، واختل نظام الدين، ولم يستقر من بنيته حجر على حجر.
والعجب من هؤلاء المحتجّين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمّة أهل البيت عليهم السلام على تحريف كتاب الله سبحانه وإبطال حجّيته، وببطلان حجّة القرآن تذهب النبوّة سدى، والمعارف الدينية لغًى لا أثر لها، وماذا يُغني قولنا: إنّ رجلًا في تاريخ كذا ادّعى النبوّة، وأتى بالقرآن معجزة، أمّا هو فقد مات، وأمّا قرآنه فقد حُرّف، ولم يبق بأيدينا ممّا يؤيّد أمره إلّا أنّ المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه، وأنّ القرآن الذي جاء به كان معجزًا دالًّا على نبوّته، والإجماع حجّة لأنّ النبيّ المذكور اعتبر حجّيته، أو لأنّه يكشف مثلًا عن قول أئمّة أهل بيته.
وبالجملة، احتمال الدسّ، وهو قريب جدًّا، مؤيّد بالشواهد والقرائن، يدفع حجّية هذه الروايات ويفسد اعتبارها، فلا يبقى معها لا حجّية شرعية ولا حجّية عقلائية، حتّى ما كان منها صحيح السند، فإنّ صحّة السند وعدالة رجال الطريق إنّما يدفع تعمّدهم الكذب، دون دسّ غيرهم في أصولهم وجوامعهم ما لم يرووه.
وأمّا ما ذكرناه أنّ روايات التحريف تذكر آيات وسورًا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه، فهو ظاهر لمن راجعها، فإنّه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك، كسورتي الخلع والحفد اللتين رُويتا بعدّة من طرق أهل السنّة، فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنّا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك. وسورة الحفد هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى نقمتك إنّ عذابك بالكافرين ملحق.
وكذلك ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية وغيرها، أقاويل مختلقة، رام واضعها أن يقلّد النظم القرآني، فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف، ولم يبلغ النظم الإلهي المعجز، فعاد يستبشعه الطبع وينكره الذوق، ولك أن تراجعها حتّى تشاهد صدق ما ادعيناه، وتقضي بأنّ أكثر المعتنين بهذه السور والآيات المختلقة المجعولة، إنّما دعاهم إلى ذلك التعبّد الشديد بالروايات، والإهمال في عرضها على الكتاب، ولولا ذلك لكفتهم للحكم بأنّها ليست بكلام إلهي نظرة.
و أما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا اَلذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ و قوله: ﴿وَ أنّه لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لاَ يَأْتِيهِ اَلْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لاَ مِنْ خَلْفِهِ﴾ الآيتان، حتى تكون مخالفةً ظنيّةً، لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنيّة، بل المراد مخالفتها للدلالة القطعيّة من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قرّرناه في الحُجّة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.
كيف لا؟ والقرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المُعجز، كافٍ في رفع الاختلافات المُتراءاة بين آياته وأبعاضه، غيرُ ناقصٍ ولا قاصرٍ في إعطاء معارفه الحقيقية وعلومه الإلهية الكُليّة والجُزئيّة المرتبطة بعضها ببعض، المُرتّبة فروعها على أصولها، المُنعطفة أطرافها على أوساطها، إلى غير ذلك من خواصِّ النظمِ القرآنيّ الذي وصفه الله بها.
والجواب عن الوجه الثاني أنّ دعوى الامتناع العاديّ مُجازفةٌ بيّنةٌ، نعم يجوز العقل عدمُ موافقة التأليف في نفسه للواقع، إلّا أن تقوم قرائنُ تدلُّ على ذلك، وهي قائمةٌ كما قدّمنا، وأمّا أن يحكم العقلُ بوجوب مخالفتها للواقع، كما هو مُقتضى الامتناع العاديّ، فلا.
والجواب عن الوجه الثالث أنّ جمعه عليه السلام للقرآن، وحمله إليهم، وعرضه عليهم، لا يدلّ على مُخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيءٍ من الحقائق الدينيّة الأصلية أو الفرعية، إلّا أن يكون في شيءٍ من ترتيب السُوَر أو الآيات من السُوَر التي نزلت نُجومًا، بحيث لا يرجع إلى مُخالفةٍ في بعض الحقائق الدينيّة.
ولو كان كذلك، لعارضهم بالاحتجاج، ودافع فيه، ولم يَقنع بمُجرّد إعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه، كما رُوي عنه عليه السلام في موارد شتى، ولم يُنقل عنه عليه السلام فيما رُوي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آيةً أو سُورةً تدلُّ على ذلك، وجَبَههم على إسقاطها أو تحريفها.
وهل كان ذلك حفظًا لوحدة المسلمين وتحرُّزًا عن شقِّ العصا؟ فإنّما كان يُتصوّر ذلك بعد استقرار الأمر، واجتماع الناس على ما جُمع لهم، لا حين الجمع وقبل أن يقع في الأيدي ويَسير في البلاد.
وليْتَ شِعري، هل يسعنا أن ندّعي أنّ ذاك الجُمَّ الغفير من الآيات التي يرون سقوطها، وربما ادّعوا أنّها تبلغ الألوف، كانت جميعًا في الولاية؟ أو كانت خفيّةً مستورةً عن عامّة المسلمين، لا يعرفها إلّا النزر القليل منهم، مع توفّر دواعيهم وكثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلّما نزل، وتعلّمه، وبلوغ اجتهاد النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في تبليغه وإرساله إلى الآفاق وتعليمه وبيانه؟ وقد نصّ على ذلك القرآن، قال تعالى: ﴿وَ يُعَلِّمُهُمُ اَلْكِتَابَ وَ اَلْحِكْمَةَ﴾۱ و قال: ﴿لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾٢ فكيف ضاع؟ و أين ذهب ما يشير إليه بعض المراسيل أنّه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله: ﴿وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اَلْيَتَامىَ﴾ و قوله: ﴿فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ اَلنِّسَاءِ﴾ أكثر من ثلث القرآن، أي أكثر من ألفي آية، وما ورد من طُرق أهل السنّة أنّ سورة براءة كانت مُبسملةً تعدل سورة البقرة، وأنّ الأحزاب كانت أعظم من البقرة، وقد سقطت منها مائتا آية، إلى غير ذلك؟!
أو أنّ هذه الآيات، وقد دلّت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة، كانت منسوخةَ التلاوة، كما ذكره جمعٌ من المفسّرين من أهل السنّة، حفظًا لما ورد في بعض رواياتهم أنّ من القرآن ما أنساه الله ونسخ تلاوته.
فما معنى إنساء الآية ونسخ تلاوتها؟ أكان ذلك لنسخ العمل بها؟ فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن، كآية الصدقة، وآية نكاح الزانية والزاني، وآية العدّة، وغيرها؟ وهم مع ذلك يُقسّمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة والعمل معًا، ومنسوخ التلاوة دون العمل، كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدةٍ لبعض صفات كلام الله، حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها وإذهاب أثرها، فلم تكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا مُنزّهةً من الاختلاف، ولا قولًا فصلًا، ولا هاديًا إلى الحقّ وإلى طريقٍ مستقيم، ولا مُعجزةً يُتحدّى بها، ولا، ولا...؟ فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنّه في لوحٍ محفوظ، وأنّه كتابٌ عزيزٌ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنّه قولٌ فصل، وأنّه هدى، وأنّه نور، وأنّه فرقانٌ بين الحقّ والباطل، وأنّه آيةٌ مُعجزة، وأنّه، وأنّه؟!
فهل يسعُنا أن نقول: إنّ هذه الآيات، على كثرتها وإباء سياقها عن التقييد، مُقيّدةٌ بالبعض، فبعض الكتاب فقط، وهو غير المنسي ومنسوخ التلاوة، لا يأتيه الباطل، وهو القول الفصل، وهو الهدى والنور والفرقان والمعجزة الخالدة؟!
وهل جعلُ الكلامِ منسوخَ التلاوةِ ونِسيًا منسيًّا غيرُ إبطالهِ وإماتتهِ؟! وهل صيرورةُ القولِ النافعِ بحيثُ لا ينفعُ للأبدِ ولا يصلحُ شأنًا ممّا فسدَ غيرُ إلغائِهِ وطَرحِهِ وإهمالِهِ؟! وكيف يُجامعُ ذلك كونَ القرآنِ ذكرًا؟!
فالحقُّ أنّ رواياتِ التحريفِ المرويّةَ من طُرقِ الفريقين، وكذا الرواياتِ المرويّةِ في نسخِ تلاوةِ بعضِ الآياتِ القرآنية، مُخالفةٌ للكتابِ مُخالفةً قطعيّةً.
و الجواب عن الوجه الرابع: أنّ أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه، وهي متظافرة أو متواترة، لكن هذه الروايات لا تدلّ على المماثلة من جميع الجهات، وهو ظاهر، بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج والآثار، وحينئذٍ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنّما هي في حدوث الاختلاف والتفرّق بين الأمة، بانشعابها إلى مذاهب شتى، يُكفّر بعضهم بعضًا، وافتراقها إلى ثلاث وسبعين فرقة، كما افترقت النصارى إلى اثنتين وسبعين، واليهود إلى واحدة وسبعين، وقد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات، حتى ادّعى بعضهم كونها متواترة.
ومن المعلوم أنّ الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله، وليس ذلك إلّا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه، وتفسير القرآن الكريم بالرأي، والاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب، وتمييز الصحيح منها من السقيم.
وبالجملة، أصل الروايات الدالّة على المماثلة بين الأمتين لا يدلّ على شيء من التحريف الذي يدّعونه. نعم، وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير والإسقاط، وهذه الطائفة، على ما بها من السقم، مخالفة للكتاب كما تقدّم.
الفصل ٤ - الجمع الأوّل للمصحف
في تاريخ اليعقوبي: قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله، إنّ حملة القرآن قد قُتل أكثرهم يوم اليمامة، فلو جمعتَ القرآن، فإنّي أخاف عليه أن يذهب حملته. فقال له أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟! فلم يزل به عمر حتى جمعه وكتبه في صحف، وكان مفرّقًا في الجريد وغيرها.
وأجلس خمسةً وعشرين رجلًا من قريش وخمسين رجلًا من الأنصار، فقال: اكتبوا القرآن، واعرضوا على سعيد بن العاص، فإنّه رجلٌ فصيحٌ.
وروى بعضهم: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السلام كان جمعه لمّا قُبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأتى به يحمله على جمل، فقال: هذا القرآن قد جمعته. قال: وكان قد جزّأه سبعة أجزاء، ثمّ ذكر الأجزاء.
وفي تاريخ أبي الفداء: وقُتل في قتال مسيلمة جماعةٌ من القرّاء من المهاجرين والأنصار، فلمّا رأى أبو بكر كثرة من قُتل، أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال وجريد النخل والجلود، وترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم، انتهى.
والأصل فيما ذكراه الروايات، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت، قال: أرسل إليّ أبو بكر مقتل أهل اليمامة، فإذا عمر بن الخطاب عنده، فقال أبو بكر: إنّ عمر أتاني، فقال: إنّ القتل قد استحرّ بقرّاء القرآن، وإنّي أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثيرٌ من القرآن، وإنّي أرى أن تأمر بجمع القرآن. فقلت لعمر: كيف نفعل شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال عمر: هذا والله خير. فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك، ورأيت الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنّك شابٌّ عاقلٌ لا نتّهمك، وقد كنتَ تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتتبّع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلّفوني نقل جبلٍ من الجبال، ما كان أثقل عليّ ممّا أمرني به من جمع القرآن. قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال: هو والله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر، فتتبّعتُ القرآن أجمعه من العُسُف واللِّخاف وصدور الرجال، ووجدتُ آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري، لم أجدها مع غيره: لقد جاءكم رسولٌ حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفّاه الله تعالى، ثم عند عمر حياته، ثم عند حفصة بنت عمر.
وعن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب، قال: قدم عمر، فقال: من كان تلقّى من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شيئًا من القرآن، فليأتِ به، وكانوا يكتبون ذلك في الصحف والألواح والعُسب، وكان لا يقبل من أحدٍ شيئًا حتى يشهد شهيدان.
وعنه أيضًا من طريق هشام بن عروة عن أبيه، وفي الطريق انقطاع: أنّ أبا بكر قال لعمر وزيد: اقعدا على باب المسجد، فمن جاءكما بشاهدين على شيءٍ من كتاب الله، فاكتباه.
وفي الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف، عن الليث بن سعد، قال: أوّل من جمع القرآن أبو بكر، وكتبه زيد، وكان الناس يأتون زيد بن ثابت، فكان لا يكتب آيةً إلّا بشاهدي عدل، وإنّ آخر سورة براءة لم يوجد إلّا مع أبي خزيمة بن ثابت، فقال: اكتبوها، فإنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جعل شهادته بشهادة رجلين، فكتب، وإنّ عمر أُتي بآية الرجم فلم يكتبها، لأنّه كان وحده.
وعن ابن أبي داود في المصاحف، من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه، قال: أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة، فقال: أشهد أنّي سمعتهما من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ووعيتهما. فقال عمر: وأنا أشهد لقد سمعتهما. ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورةً على حدة، فانظروا آخر سورةٍ من القرآن، فألحقوها في آخرها.
وعنه أيضًا من طريق أبي العالية عن أُبيّ بن كعب: أنّهم جمعوا القرآن، فلمّا انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنّهم قومٌ لا يفقهون، ظنّوا أنّ هذا آخر ما أُنزِل، فقال أُبيّ: إنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أقرأني بعد هذا آيتين: لقد جاءكم رسولٌ إلى آخر السورة.
وفي الإتقان عن الديرعاقولي في فوائده، حدثنا إبراهيم بن يسار، حدثنا سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن عبيد، عن زيد بن ثابت، قال: قُبض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يكن القرآن جُمع في شيء.
وفي مستدرك الحاكم بإسناده عن زيد بن ثابت، قال: كنّا عند رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نؤلّف القرآن من الرِّقاع (الحديث).
أقول: ولعلّ المراد ضمُّ بعض الآيات النازلة نُجومًا إلى بعض السُّوَر، أو إلحاقُ بعض السُّوَر إلى بعضها، ممّا يتماثلُ صِنفًا، كالطِّوال والمِئين والمُفصّلات، فقد ورد لها ذكرٌ في الأحاديث النبويّة، وإلّا فتأليفُ القرآن وجمعُه في مُصحفٍ واحدٍ إنّما كان بعد ما قُبض النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم بلا إشكال، وعلى مثل هذا ينبغي أن يُحمَل ما يأتي.
في صحيح النسائي عن ابن عمر، قال: جمعتُ القرآن، فقرأتُ به كلَّ ليلةٍ، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلّم، فقال: "اقرأه في شهرٍ".
وفي الإتقان عن ابن أبي داود بسندٍ حسن، عن محمد بن كعب القرظي، قال: جمعَ القرآنَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم خمسةٌ من الأنصار: معاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وأُبيّ بن كعب، وأبو الدرداء، وأبو أيوب الأنصاري.
وفيه عن البيهقي في المدخل، عن ابن سيرين، قال: جمعَ القرآنَ على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلّم أربعةٌ لا يُختلَف فيهم: معاذ بن جبل، وأُبيّ بن كعب، وأبو زيد، واختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبو الدرداء، وعثمان، وقيل: عثمان وتميم الداري.
وفيه عنه، وعن ابن أبي داود، عن الشعبي، قال: جمعَ القرآنَ في عهد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم سبعةٌ: أُبيّ، وزيد، ومعاذ، وأبو الدرداء، وسعيد بن عبيد، وأبو زيد، ومُجمّع بن حارثة، وقد أخذه إلّا سورتين أو ثلاثًا.
وفيه أيضًا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف، من طريق كُهمِس عن ابن بريدة، قال: أوّلُ من جمع القرآن في مُصحفٍ سالم مولى أبي حذيفة، أقسم ألّا يرتدي برداءٍ حتى يجمعه، فجمعه )الحديث(.
أقول: أقصى ما تدلّ عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور و الآيات، و أما العناية بترتيب السور و الآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا.
هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.
الفصل ٥ - الجمع الثاني للقرآن
وقد جُمع القرآنُ ثانيةً في عهدِ عثمان، لمّا اختلفت المصاحفُ وكثرتِ القراءات.
قال اليعقوبي في تاريخه: وجمع عثمان القرآن، وألّفه، وصيّر الطِّوال مع الطِّوال، والقصار مع القِصار من السُّوَر، وكتبَ في جمع المصاحفِ من الآفاق، حتى جُمعت، ثم سلقها بالماء الحارِّ والخلِّ، وقيل: أحرقها، فلم يبقَ مصحفٌ حتى فُعل به ذلك، خلا مصحف ابن مسعود.
وكان ابن مسعود بالكوفة، فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر، وكتب إليه عثمان: "أن أشخصه، إن لم يكن هذا الدين خبالًا وهذه الأمة فسادًا"، فدخل المسجد وعثمان يخطب، فقال عثمان: "إنّه قد قَدِمت عليكم دابّة سوء"، فكلّم ابن مسعود بكلامٍ غليظ، فأمر به عثمان، فجرّ برجله حتى كُسر له ضلعان، فتكلّمت عائشة وقالت قولًا كثيرًا.
وبعث بها إلى الأمصار، وبعث بمصحفٍ إلى الكوفة، ومصحفٍ إلى البصرة، ومصحفٍ إلى المدينة، ومصحفٍ إلى مكة، ومصحفٍ إلى مصر، ومصحفٍ إلى الشام، ومصحفٍ إلى البحرين، ومصحفٍ إلى اليمن، ومصحفٍ إلى الجزيرة، وأمر الناس أن يقرؤوا على نسخةٍ واحدة.
وكان سبب ذلك أنّه بلغه أنّ الناس يقولون: "قرآن آل فلان"، فأراد أن تكون نسخته واحدة، وقيل: إنّ ابن مسعود كان كتب بذلك إليه، فلمّا بلغه أنّه كان يُحرِق المصاحف، قال: "لم أرد هذا"، وقيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان. انتهى موضع الحاجة.
وفي الإتقان، روى البخاري عن أنس: أنّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان، وكان يُغازي أهل الشام في فتح أرمينية وآذربيجان مع أهل العراق، فأفزع حذيفة اختلافُهم في القراءة، فقال لعثمان: "أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى".
فأرسل إلى حفصة: "أن أرسلي إلينا الصحف، ننسخها في المصاحف، ثم نردّها إليك"، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف.
وقال عثمان للرَّهط القرشيين الثلاثة: "إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيءٍ من القرآن، فاكتبوه بلسان قريش، فإنّه إنّما نزل بلسانهم"، ففعلوا، حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف، ردّ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كلّ أفقٍ بمصحفٍ ممّا نسخوا، وأمر بما سواه من القرآن، في كلّ صحيفةٍ أو مصحف، أن يُحرَق.
قال زيد: "آيةٌ من الأحزاب، حين نسخنا المصحف، قد كنتُ أسمعُ رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلّم يقرأ بها، فالتمسناها، فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري" ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ﴾ فألحقناها في سورتها في المصحف.
وفيه، أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة، قال: حدّثني رجل من بني عامر يُقال له أنس بن مالك، قال: اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان والمعلّمون، فبلغ ذلك عثمان بن عفان، فقال: "عندي تكذبون به وتلحَنون فيه، فمن نأى عنّي كان أشدَّ تكذيبًا وأكثر لحنًا، يا أصحاب محمد، اجتمعوا واكتبوا للناس إمامًا".
فاجتمعوا، فكانوا إذا اختلفوا وتدارؤوا في آية، قالوا: "هذه أقرأها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فلان"، فيُرسل إليه، وهو على رأس ثلاث من المدينة، فيُقال له: "كيف أقرأك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم آية كذا وكذا؟" فيقول: "كذا وكذا"، فيكتبونها، وقد تركوا لذلك مكانًا.
وفيه، عن ابن أبي داود، من طريق ابن سيرين، عن كثير بن أفلح، قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف، جمع له اثني عشر رجلًا من قريش والأنصار، فبعثوا إلى الرُّبعة التي في بيت عمر، فجِيء بها، وكان عثمان يتعاهدهم، فكانوا إذا تدارؤوا في شيء، أخّروه.
قال محمد: فظننت أنما كانوا يؤخّرونه لينظروا أحدثهم عهدًا بالعرضة الأخيرة، فيكتبونه على قوله.
وفيه، أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة، قال: قال علي: "لا تقولوا في عثمان إلا خيرًا، فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملأ منا، قال: ما تقولون في هذه القراءات؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك، وهذا يكاد يكون كفرًا. قلنا: فما ترى؟ قال: أرى أن يُجمع الناس على مصحف واحد، فلا يكون فرقة ولا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت".
وفي الدر المنثور، أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر، أن عثمان بن عفان لما أراد أن يكتب المصاحف، أرادوا أن يُلقوا الواو التي في براءة: "والذين يكنزون الذهب والفضة"، فقال أُبي: "لَتُلحِقُنّها أو لأضعنّ سيفي على عاتقي"، فألحقوها.
وفي الإتقان، عن أحمد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن حبان، والحاكم، عن ابن عباس، قال: قلت لعثمان: "ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة، وهي من المئين، فقربتم بينهما، ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتموهما في السبع الطوال؟"
فقال عثمان: "كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تنزل عليه السورة ذات العدد، فكان إذا أُنزِل عليه الشيء، دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يُذكر فيها كذا وكذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر القرآن نزولًا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فظننت أنها منها، فقبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولم يُبيّن لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنتُ بينهما، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم، ووضعتها في السبع الطوال".
أقول: السبع الطوال، على ما يظهر من هذه الرواية، ورُوي أيضًا عن أبي جبير، هي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، ويونس، وقد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب، ثم غيّر عثمان هذا الترتيب، فأخذ الأنفال، وهي من المثاني، وبراءة، وهي من المئين قبل المثاني، فوضعهما بين الأعراف ويونس، مقدّمًا الأنفال على براءة.
الفصل ٦ – ملاحظات حول روايات الجمعين
الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن وتأليفه، بين صحيحة وسقيمة، وهي تدل على أنّ الجمع الأول كان جمعًا لشتات السور المكتوبة في العُسُب، واللِّخاف، والأكتاف، والجلود، والرِّقاع، وإلحاق الآيات النازلة متفرّقة إلى سُوَر تناسبها.
وإنّ الجمع الثاني، وهو الجمع العثماني، كان ردَّ المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول، بعد عروض تعارض النسخ واختلاف القراءات عليها، إلى مصحفٍ واحدٍ مُجمَع عليه، عدا ما كان من قول زيد أنّه ألحق قوله: ﴿مِنَ اَلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اَللَّهَ عَلَيْهِ﴾ (الآية)، في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة و ليست فيها الآية.
و قد روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان ﴿وَ اَلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْوَاجاً﴾ قد نسختها الآية الأخرى، فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: "يا ابن أخي، لا أغيّر شيئًا منه من مكانه".
والذي يعطيه النظر الحرّ في أمر هذه الروايات ودلالتها، وهي عمدة ما في هذا الباب، أنّها آحاد غير متواترة، لكنها محفوفة بقرائن قطعية، فقد كان النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم يبلّغ الناس ما نزل إليه من ربّه من غير أن يكتم منه شيئًا، وكان يعلّمهم ويبيّن لهم ما نزل إليهم من ربّهم، على ما نصّ عليه القرآن. ولم يزل جماعة منهم يعلمون ويتعلمون القرآن، تعلّم تلاوة وبيان، وهم القُرّاء الذين قُتل جمّ غفير منهم في غزوة اليمامة.
وكان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن وتعاطيه، ولم يُترك هذا الشأن، ولا ارتفع القرآن من بينهم يومًا أو بعض يوم، حتى جُمع القرآن في مصحفٍ واحدٍ، ثم أُجمِع عليه، فلم يُبتلَ القرآن بما ابتُليت به التوراة والإنجيل وكُتب سائر الأنبياء.
أضف إلى ذلك رواياتٍ لا تُحصى كثرة، وردت من طُرق الشيعة وأهل السنة، في قراءاته صلى الله عليه وآله وسلم لكثيرٍ من السور القرآنية في الفرائض اليومية وغيرها، بمسمع من ملأ الناس، وقد سُمّي في هذه الروايات جمٌّ غفير من السور القرآنية، مكيّتها ومدنيّتها.
أضف إلى ذلك ما تقدّم في رواية عثمان بن أبي العاص في تفسير قوله تعالى: ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ﴾ (الآية)۱ إن جبريل أتاني بهذه الآية وأمرني أن أضعها في موضعها من السورة، ونظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته صلى الله عليه وآله وسلم لبعض السور النازلة نُجومًا، كآل عمران والنساء وغيرها، فيدل على أنّه صلى الله عليه وآله وسلم كان يأمر كتّاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.
وأعظم الشواهد القاطعة ما تقدّم في أول هذه الأبحاث، أنّ القرآن الموجود بأيدينا واجدٌ لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.
وبالجملة، الذي تدل عليه هذه الروايات هو:
أولًا: أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى، فلم يُزد فيه شيء، ولم يتغيّر منه شيء، وأما النقص، فإنها لا تفي بنفيه نفيًا قطعيًا، كما رُوي بعدة طرق أنّ عمر كان يذكر كثيرًا آية الرجم ولم تُكتب عنه. وأما حملهم الرواية وسائر ما ورد في التحريف، وقد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء، على منسوخ التلاوة، فقد عرفت فساده، وتحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.
وعلاوة على ذلك، فإنّ من كان له مصحفٌ غير ما جمعه زيد، أولًا بأمر من أبي بكر، وثانيًا بأمر من عثمان، كعلي عليه السلام، وأُبيّ بن كعب، وعبد الله بن مسعود، لم يُنكر شيئًا مما حواه المصحف الدائر، غير ما نُقل عن ابن مسعود أنّه لم يكتب في مصحفه المعوّذتين، وكان يقول: "إنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ليعوذ بهما الحسنين عليهما السلام"، وقد ردّه سائر الصحابة، وتواترت النصوص من أئمة أهل البيت عليهم السلام على أنّهما سورتان من القرآن.
وبالجملة، الروايات السابقة، كما ترى، آحادٌ محفوفة بالقرائن القطعية، نافية للتحريف بالزيادة والتغيير قطعًا، دون النقص إلا ظنًا، ودعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
والتعويل في ذلك على ما قدّمناه من الحُجّة في أول هذه الأبحاث، أنّ القرآن الذي بأيدينا واجدٌ للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ككونه قولًا فصلًا، ورافعًا للاختلاف، وذكرًا، وهاديًا، ونورًا، ومُبيّنًا للمعارف الحقيقية والشرائع الفطرية، وآية معجزة، إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
ومن الحريّ أن نُعوّل على هذا الوجه، فإنّ حجّة القرآن على كونه كلام الله المُنزَل على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة، من غير أن يتوقّف ذلك على أمر آخر وراء نفسه، كائنًا ما كان، فحجّته معه أينما تحقّق، وبيد من كان، ومن أي طريق وصل.
وبعبارة أخرى، لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في كونه متصفًا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه صلى الله عليه وآله وسلم بنقل متواتر أو متظافر، وإن كان واجدًا لذلك، بل الأمر بالعكس، فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحُجّة على الاستناد، فليس كالكتب والرسائل المنسوبة إلى المصنّفين والكُتّاب، والأقاويل المأثورة عن العلماء وأصحاب الأنظار، المتوقفة صحة استنادها إلى نقلٍ قطعي وبلوغٍ متواتر أو مستفيض، بل نفس ذاته هي الحُجّة على ثبوته.
ثانيًا: أن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول والثاني، ومن الدليل عليه ما تقدّم في الروايات من وضع عثمان الأنفال وبراءة بين الأعراف ويونس، وقد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.
ومن الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول والثاني كليهما، كما رُوي أنّ مصحف علي عليه السلام كان مُرتّبًا على ترتيب النزول، فكان أوله اقرأ، ثم المدثر، ثم نون، ثم المزمل، ثم تبت، ثم التكوير، وهكذا إلى آخر المكي والمدني، نقله في الإتقان عن ابن فارس.
وفي تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه عليه السلام، ونُقل عن ابن أشتة في المصاحف، بإسناده عن أبي جعفر الكوفي، ترتيب مصحف أُبيّ، وهو يُغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة، وكذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود، آخذًا من الطوال، ثم المئين، ثم المثاني، ثم المفصل، وهو أيضًا مغاير للمصحف الدائر.
وقد ذهب كثيرٌ منهم إلى أنّ ترتيب السور توقيفي، وأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو الذي أمر بهذا الترتيب، بإشارة من جبرئيل بأمرٍ من الله سبحانه، حتى أفرط بعضهم فادّعى ثبوت ذلك بالتواتر. ولَيتَ شعري، أين هذا التواتر، وقد تقدّمت عُمدة روايات الباب، ولا أثر فيها من هذا المعنى؟ وسيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جُملة، ثم منها على النبي صلى الله عليه وآله وسلم تدريجًا.
ثالثًا: أن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخلُ عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد، كما هو ظاهر روايات الجمع الأول، وقد تقدّمت.
وأما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "أتاني جبرئيل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ﴾ (الآية) فلا تدلّ على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله وسلّم) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة، وعلى تقدير التسليم، لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدّمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه (صلى الله عليه وآله وسلّم)، ومجرّد حسن الظنّ بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدلّ بها على ذلك، وإنّما يفيد أنّهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه (صلى الله عليه وآله وسلّم) فيما علموه، لا فيما جهلوه. وفي روايات الجمع الأوّل المتقدّمة أوضح الشواهد على أنّهم ما كانوا على علمٍ بمواضع جميع الآيات ولا بنفسها.
ويدلّ على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طُرق الشيعة وأهل السنّة أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) والمؤمنين إنّما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة، كما رواه أبو داود والحاكم والبيهقي والبزّار من طريق سعيد بن جبير، على ما في الإتقان، عن ابن عبّاس، قال: كان النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) لا يعرف فضل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم. زاد البزّار: فإذا نزلت، عرف أنّ السورة قد خُتمت واستُقبلت أو ابتدئت سورةٌ أخرى.
وأيضًا عن الحاكم من وجهٍ آخر عن سعيد عن ابن عبّاس، قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم، فإذا نزلت، علموا أنّ السورة قد انقضت، إسناده على شرط الشيخين.
وأيضًا عنه من وجهٍ آخر عن سعيد عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنّها سورة، إسناده صحيح.
أقول: ورُوي ما يُقارب ذلك في عدّة روايات أُخر، ورُوي ذلك من طُرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).
والروايات، كما ترى، صريحةٌ في دلالتها على أنّ الآيات كانت مُرتّبة عند النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) بحسب ترتيب النزول، فكانت المكّيّات في السورة المكّيّة، والمدنيّات في سورةٍ مدنيّة، اللهمّ إلّا أن يُفرَض أنّ سورةً نزل بعضُها بمكّة وبعضُها بالمدينة، ولا يتحقّق هذا الفرض إلّا في سورةٍ واحدة.
ولازمُ ذلك أن يكون ما نُشاهده من اختلاف مواضع الآيات مُستندًا إلى اجتهادٍ من الصحابة.
توضيحُ ذلك أنّ هناك ما لا يُحصى من روايات أسباب النزول يدلّ على كون آياتٍ كثيرةٍ في السُّوَر المدنيّة نازلةً بمكّة، وبالعكس، وعلى كون آياتٍ من القرآن نازلةً مثلًا في أواخر عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) وهي واقعةٌ في سُوَرٍ نازلةٍ في أوائل الهجرة، وقد نزلت بين الوقتين سُوَرٌ أخرى كثيرة، وذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة، وفيها آياتُ الرِّبا، وقد وردت الروايات على أنّها من آخر ما نزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) حتى ورد عن عمر أنّه قال: مات رسول الله و لم يبين لنا آيات الربا، و فيها قوله تعالى: ﴿وَ اِتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اَللَّهِ﴾ (الآية)۱، و قد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله و سلم).
فهذه الآيات النازلة مفرّقة، الموضوعة في سُوَر لا تجانسها في المكّيّة والمدنيّة، موضوعةٌ في غير موضعها بحسب ترتيب النزول، وليس إلّا عن اجتهادٍ من الصحابة.
ويؤيّد ذلك ما في الإتقان، عن ابن حجر: "وقد ورد عن عليّ أنّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، أخرجه ابن أبي داود"، وهو من مسلّمات مداليل روايات الشيعة.
هذا ما يدلّ عليه ظاهر روايات الباب المتقدّمة، لكن الجمهور أصرّوا على أنّ ترتيب الآيات توقيفي، فآيات المصحف الدائر اليوم، وهو المصحف العثماني، مرتّبةٌ على ما رتّبها عليه النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) بإشارةٍ من جبرئيل، وأوّلوا ظاهر الروايات بأنّ جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب، وإنّما كان جمعًا لما كانوا يعلمونه ويحفظونه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) من السُّوَر وآياتها المرتّبة، بين دفتين وفي مكان واحد.
وأنت خبيرٌ بأنّ كيفية الجمع الأوّل، الذي تدلّ عليها الروايات، تدفع هذه الدعوى دفعًا صريحًا.
وربّما استُدلّ عليه بما ادّعاه بعضهم من الإجماع على ذلك، فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه، وعن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين، وهو إجماعٌ منقولٌ لا يُعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف، ودلالة ما تقدّم من الروايات على خلافه.
وربّما استُدلّ عليه بالتواتر، ويوجد ذلك في كلام كثيرٍ منهم، ادّعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وهو عجيبٌ، وقد نُقل في الإتقان، بعد نقله ما رواه البخاري وغيره بعدة طُرق عن أنس، أنّه قال: "مات النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) ولم يجمع القرآن غير أربعة: أبو الدرداء، ومعاذ بن جبل، وزيد بن ثابت، وأبو زيد"، وفي روايةٍ: "أُبيّ بن كعب" بدل أبي الدرداء.
عن المازري، أنّه قال: "وقد تمسّك بقول أنس هذا جماعةٌ من الملاحدة، ولا متمسّك لهم فيه، فإنّا لا نسلّم حمله على ظاهره. سلّمنا، ولكن من أين لهم أنّ الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلّمناه، لكن لا يلزم من كون كلّ من الجمّ الغفير لم يحفظه كلّه أن لا يكون حفظ مجموعُه الجمُّ الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كلُّ فردٍ جميعه، بل إذا حفظ الكلُّ الكلَّ ولو على التوزيع كفى"، انتهى.
أمّا دعواه أنّ ظاهر كلام أنس غير مراد، فهو ممّا لا يُصغى إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ، إلّا بقرينةٍ من نفس كلام المتكلّم أو ما ينوب منابه، أمّا مجرّد الدعوى والاستناد إلى قول آخرين فلا.
وعلاوةً على ذلك، فإنّه لو حُمِل كلام أنس على خلاف ظاهره، كان من الواجب أن يُحمَل على أنّ هؤلاء الأربعة إنّما جمعوا في عهد النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) معظم القرآن وأكثر سُوَره وآياته، لا على أنّهم وغيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني، وحفظوا ترتيب سُوَره وآياته، وضبطوا موضع كلّ واحدةٍ منها عن آخرها. فهذا زيد بن ثابت نفسه، وهو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس، والمتصدّي للجمع الأوّل والثاني كليهما، يصرّح في رواياته أنّه لم يحفظ جميع الآيات.
ونظيره ما في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف بسندٍ صحيحٍ عن محمد بن سيرين، قال: "مات أبو بكر ولم يُجمع القرآن، وقُتل عمر ولم يُجمع القرآن".
وأمّا قوله: "سلّمناه، ولكن من أين لهم أنّ الواقع في نفس الأمر كذلك؟"، فهو مقلوبٌ على نفسه، فمن أين لهذا القائل أنّ الواقع في نفس الأمر كما يدّعيه، وقد عرفت الشواهد على خلاف ما يدّعيه؟
وأمّا قوله: "إنّه يكفي في تحقّق التواتر أن يحفظ الكلُّ كلَّ القرآن على سبيل التوزيع"، فمغالطةٌ واضحةٌ، لأنّه إنّما يُفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولًا بالتواتر، وأمّا كون كلّ واحدةٍ من الآيات القرآنية محفوظةً من حيث محلّها وموضعها بالتواتر، فلا، وهو ظاهر.
ونُقل في الإتقان عن البغوي أنّه قال في شرح السنّة: "الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئًا، خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته، فكتبوه كما سمعوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) من غير أن قدّموا شيئًا أو أخّروه، أو وضعوا له ترتيبًا لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم).
وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يُلقّن أصحابه ويعلّمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا، بتوقيف جبرئيل إيّاه على ذلك، وإعلامه عند نزول كلّ آية أنّ هذه الآية تُكتب عقب آية كذا في سورة كذا.
فثبت أنّ سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد، لا في ترتيبه، فإنّ القرآن مكتوبٌ في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب، أنزله الله جُملةً إلى السماء الدنيا، ثمّ كان يُنزله مفرّقًا عند الحاجة، وترتيب النزول غير ترتيب التلاوة"، انتهى.
ونُقل عن ابن الحصّار أنّه قال: "ترتيب السُّوَر ووضع الآيات مواضعها إنّما كان بالوحي، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، وقد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم)، وإنّما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف"، انتهى.
ونُقل أيضًا ما يُقارب ذلك عن جماعةٍ غيرهم، كالبيهقي، والطيبي، وابن حجر.
أمّا قولهم: إنّ الصحابة إنّما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) من غير أن يُخالفوه في شيء، فممّا لا يدلّ عليه شيءٌ من الروايات المتقدّمة، وإنّما المُسلَّم من دلالتها أنّهم إنّما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات، ولا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرّقة، وهو ظاهر.
نعم، في رواية ابن عبّاس المتقدّمة عن عثمان ما يُشير إلى ذلك، غير أنّ الذي فيه أنّه كان (صلى الله عليه وآله وسلّم) يأمر بعض كتّاب الوحي بذلك، وهو غير إعلامه جميع الصحابة بذلك، على أنّ الرواية معارضةٌ بروايات الجمع الأوّل وأخبار نزول بسم الله وغيرها.
وأمّا قولهم: إنّ النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) لقّن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيفٍ من جبرئيل ووحيٍ سماويّ، فكأنّه إشارةٌ إلى حديث عثمان بن أبي العاص المتقدّم في آية ﴿إِنَّ اَللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ اَلْإِحْسَانِ﴾ وقد عرفتَ ممّا تقدّم أنّه حديثٌ واحدٌ في خصوص موضع آيةٍ واحدة، وأين ذلك من مواضع جميع الآيات المُفرّقة؟!
وأمّا قولهم: إنّ القرآن مكتوبٌ على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ، أنزله الله إلى السماء الدنيا ثمّ أنزله الله مُفرّقًا عند الحاجة، فإشارةٌ إلى ما رُوي مستفيضًا من طُرق الشيعة وأهل السنّة من نزول القرآن جُملةً من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، ثمّ نزوله منها نُجومًا إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم)، لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالةٍ على كون القرآن مكتوبًا في اللوح المحفوظ، مُنظَّمًا في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا، وهو ظاهر.
وعلاوةً على ذلك، فإنّه سيأتي، إن شاء الله، الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ، ونزوله إلى السماء الدنيا، في ذيل ما يُناسب ذلك من الآيات، كأوّل سورتي الزخرف والدخان، وسورة القدر.
وأمّا قولهم: إنّه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) بهذا الترتيب الموجود في المصاحف، فقد عرفتَ أنّه دعوى خاليةٌ عن الدليل، وأنّ هذا التواتر لا خبر عنه بالنسبة إلى كلّ آيةٍ آيةٍ، كيف، وقد تكاثرت الروايات أنّ ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوّذتين، وكان يقول إنّهما ليستا من القرآن، وإنّما نزل بهما جبرئيل تعويذًا للحسنين، وكان يَحُكّهما عن المصاحف، ولم يُنقل عنه أنّه رجع عن قوله، فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأوّل؟!
الفصل ٧ - الكلام حول روايات الإنساء
يتعلّق بالبحثِ السابقِ البحثُ في روايات الإنساء، وقد مرّت إشارةٌ إجماليّةٌ إليها، وهي عدّةُ رواياتٍ وردت من طُرق أهل السنّة في نسخِ القرآن وإنسائه، حَملوا عليها ما ورد من رواياتِ التحريفِ سقوطًا وتغييرًا.
فمنها، ما في الدرّ المنثور، عن ابن أبي حاتم، والحاكم في الكنى، وابن عدي، وابن عساكر، عن ابن عبّاس، قال: "كان ممّا ينزل على النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) الوحيُ بالليل، وينساه بالنهار، فأنزل الله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾.
وفيه، عن أبي داود في ناسخه، والبيهقي في الدلائل، عن أبي أمامة: أنّ رهطًا من الأنصار من أصحاب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلّم) أخبروه أنّ رجلًا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورةً كان قد وَعاها، فلم يقدر منها على شيءٍ إلّا بسم الله الرحمن الرحيم، ووقع ذلك لناسٍ من أصحابه، فأصبحوا فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) عن السورة، فسكت ساعةً، لم يرجع إليهم شيئًا، ثمّ قال: "نُسخت البارحة، فَنُسخت من صدورهم ومن كلّ شيءٍ كانت فيه".
أقول: والقصة مرويّةٌ بعدّة طُرقٍ في ألفاظٍ متقاربة مضمونًا.
وفيه، عن عبد الرزّاق، وسعيد بن منصور، وأبي داود في ناسخه، وابنه في المصاحف، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصحّحه، عن سعد بن أبي وقّاص: أنّه قرأ: "ما ننسخ من آية أو نُنسِئها"، فقيل له: "إنّ سعيد بن المسيّب يقرأ ﴿نُنْسِهَا﴾ فقال سعد: إنّ القرآن لم ينزل على المسيب و لا آل المسيب قال الله: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسى﴾ ﴿وَ اُذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ﴾.
أقول: يريد بالتمسك بالآيتين أن الله رفع النسيان عن النبي (صلى الله عليه وآله و سلم) فيتعين أن يقرأ «ننسأها» من النسيء بمعنى الترك و التأخير فيكون المراد بقوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾ إزالة الآية عن العمل دون التلاوة، كآية صدقة النجوى، وبقوله: "أو نُنسِئها"، أي ترك الآية ورفعها من عندهم بالمرة، وإزالتها عن العمل والتلاوة، كما رُوي تفسيرها بذلك عن ابن عبّاس، ومجاهد، وقتادة، وغيرهم.
وفيه، أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان، قال: قال لنا ابن عبّاس: "أيّ القراءتين تعدّون أوّل؟" قلنا: "قراءة عبد الله، وقراءتنا هي الأخيرة"، فقال: "رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) كان يعرض عليه جبرئيل القرآن كلّ سنةٍ مرّةً في شهر رمضان، وإنّه عرضه عليه في آخر سنةٍ مرّتين، فشهد منه عبد الله ما نُسخ وما بُدّل".
أقول: وهذا المعنى مرويٌّ بطرقٍ أخرى عن ابن عبّاس، وعبد الله بن مسعود نفسه، وغيرهما من الصحابة والتابعين، وهناك رواياتٌ أُخر في الإنساء.
ومُحصّل ما استفيد منها أنّ النسخ قد يكون في الحكم، كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف، وقد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها، وقد تقدّم في تفسير قوله: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ﴾۱ و سيأتي في قوله: ﴿وَ إِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ﴾٢ أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة، و تقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف و طرح القبيلين جميعا٣و٤
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد