المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
القسم الاخلاق والحکمة والعرفان
التوضيح
هو العليم
المميّزات الخاصّة بشهر رمضان المبارك
ومراتب الصوم
مقتطف من محاضرة عنوان البصري رقم ۱٤
لسماحة آية الله
السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني
قدس سره
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
أهميّة شهر رمضان، وكيفيّة صوم العوام
شهر رمضان هو الشهر الذي تتنزّل فيه رحمة الله على عباده، و هو الشهر الذي تكون مغفرته فيه وفيوضاته العامّة على الناس أعمّ وأكثر من سائر الأشهر، ومن خصوصيّات هذا الشهر: أنّ الإنسان يَرى التغيير في نفسه في هذا الشهر سواءً أكان صائماً أم غير صائمٍ ويرى التحوّل والتبدّل في نفسه، يعني: هناك غلبةٌ للقوى المعنويّة للصوم على جميع الناس؛ ولهذا يتأثّر الإنسان رغب أم لم يرغب، فكيف به إن كان هو بنفسه صائماً، أو كان لديه أفضل أنواع الصيام !! ذلك لأنّهم يقولون الصوم له عدّة أقسام: فهناك صوم العوام، وهو الصوم الذي شُرحت كيفيّته في الرسائل العمليّة، فيصوم الصائم بناءً لتلك الطريقة المشروحة: لا يتناول المفطرات، ولا يقترف المحرّمات، وصيامه صيام مقبول، وهو يتوقّف عند هذا الحدّ: لا يتناول الطعام، ولا يشرب الشراب، ولا يدخل الدخان الغليظ إلى حلقه، ولا يرمس رأسه في الماء، وأمثال ذلك ...، أي يمتنع عن تلك المفطرات المعروفة. وهذا الصيام هو عبارة عن نوع من إسقاط التكليف.. إسقاطٌ للتكليف الظاهر. ولكن نحن ليس لدينا تكليف وحسب!
لا ينبغي الاقتصار على المرتبة الظاهريّة للعبادة في البحث الفقهي
للأسف إنّ هذه المسألة من المسائل التي لم تُبحث في الفقه المتداول هذه الأيام بنحوٍ دقيق، ففي الرسائل العمليّة وأمثالها لا يبحثون إلاّ عن بُعدٍ واحدٍ من المسائل الفقهيّة والشرعيّة، وهي مسائل الحلال والحرام الظاهري، من دون الالتفات إلى المسائل والمراتب الأعلى من المسألة الظاهريّة، فهذه الأمور لا وجود لها في الرسائل العمليّة. وبعبارة أخرى؛ يقولون: إنّ الرسائل العمليّة لا تتكفّل إلاّ بتكاليف العوام، أمّا التكاليف الواقعة على عهدة الخواصّ فلا وجود لها هناك، نعم، وهذا الأمر هو أمرٌ طبيعيّ أيضاً.
التكاليف تختلف باختلاف مراتب البصيرة والفعليّة للمكلّفين
ولكن إذا ما دقّقنا النظر فسنجد أنّ التكليف يختلف بحسب مراتب البصيرة والفعليّة للمكلّفين؛ فتكليف العوام هو العمل بالفرائض والواجبات المعروفة والمعلومة للجميع، والانتهاء عن تلك المحرّمات التي من قبيل: التهمة، السرقة، شرب الخمر، وأمثال ذلك ... وهذا التكليف تكليفٌ ظاهريّ. أمّا بالنسبة للأفراد الذين يمتلكون بصيرةً أعلى ويبتغون غايةً أرقى فتكليفهم يختلف، فهؤلاء يجب عليهم من أجل الوصول إلى ذلك المبتغى أن ينهمكوا بالأعمال التي لا يقوم بها العوام ولا يسعون إليها.
فكما أنّ الله سيحاسبنا يوم القيامة على تكاليفنا الظاهريّة، كذلك سيحاسبنا أكثر فيما يتعلّق برشدنا الفكري والعقلاني في إنجازنا للتكاليف.. سيقول لنا: أنا وهبتك عقلاً، منحتك السعة الفلانيّة، فلماذا لم تنتفع بتلك المواهب التي منحتك إياها؟! لم صرفت قواك في حدود القيام بتكاليف العوام وحسب؟! فذاك له تكليفه الخاصّ به، وتكليفه تكليفٌ ظاهريّ، وعندما يصوم يُسقط الإنسان هذا التكليف الظاهري عن ظهره.
كيفيّة صوم الخواصّ
ولكن لدينا صوم آخر يسمّى صوم الخواص: وهو الصوم الذي يهتمّ فيه الإنسان بالمسائل الدقيقة والباطنيّة فضلاً عن رعايته للمسائل الظاهريّة؛ فيحفظ لسانه عن قول اللغو. وليس المراد من اللغو الكذب! فالكذب شيء واللغو شيءٌ آخر. الكذب حرامٌ من الأساس، أمّا اللغو فهو التحدّث من دون التفات، من قبيل الكلام غير المفيد:
ـ «يا سيّدي: ارتفع سعر البنزين!».
ـ ارتفع فليرتفع فما شأني أنا؟! هذا يسمّى لغواً، فهو ليس بكذب و لكنّه لغو. والإنسان الصائم لا ينبغي أن يتحدّث في هذه المسائل، و إذا ما تحدّث فيها أثّر ذلك على صومه بشكل سلبي!
ـ «يا سيّدي: كنت في الشارع فرأيت حادثاً بين سيارتين، وقد اجتمع الناس و اندلع شجار...».
ـ حسناً، لقد حصل ذلك.. فليحصل، فما شأني أنا؟
ـ «يا سيّدي: (مثلاً) رأيتُ المسألة الفلانيّة تحصل أمامي» و غيرها من المسائل التي تنقضي المجالس بالتحدّث فيها، من دون أيّ نتيجة تُرتجى، ثمّ بعد انتهاء العام يجد الإنسان أنّه لم يحصل على أيّ فائدة.
فهذا ليس من الكذب، ولا هو حرام، لكنّه لغو خالٍ من أيّ أثر، فهو ليس بمسألةٍ علميّة، وليس فيه مسألة معنويّة، بل مجرّد كلام فارغ، يتحدّث الإنسان به فقط لإتلاف الوقت والعمر. أمّا الخواصّ فلا يفعلون ذلك، وينبغي على الإنسان أن يبعد أذنيه عن سماع اللغو.
الابتعاد عن الحرام له مكانته المحفوظة و لابد من الالتزام به، ولكنّ ذلك ليس التكليف الوحيد للخواصّ، فمجرّد الابتعاد عن الحرام و الاكتفاء بذلك هو من شأن العوام، وهم من ينبغي عليهم مراعاته؛ فسماع الموسيقى مثلاً حرامٌ، ولكنّ هذا الأمر لا يتعلّق بالخواصّ، و كذلك التهمة و الافتراء و عدم الردع عنها حرامٌ، و لكنّه ليس موجّهاً للخواصّ، و الغيبة والسكوت عليها حرام و لكنّها من مسائل العوام، و [الخواص لا ينبغي أن يكتفوا بذلك].
و من هنا فلا ينبغي للإنسان أن يسمح لأذنه في شهر رمضان وحين الصوم أن تسمع كلاماً لغوياً، ولا ينبغي حتّى لأقدامه أن تتحرّكا بدون هدف و غاية، بل ينبغي أن تكون حركة الإنسان حركةً منطقيّةً لا لغويّة. وبشكل عامٍ فقد منح الله الإنسان الأعضاء والجوارح لإنجاز الأعمال المفيدة، وللقيام بالأعمال المنطقيّة، ولا ينبغي له أن يحرّكها بشكل عبثيّ ولَغَوِيّ، وهذا الأمر يتعلّق بالخواص. وإذا ما استطعنا في هذا الشهر أن نوصل عملنا إلى هذه المرحلة، فسنرى نتائجها أيضاً.
كيفيّة صوم خواصّ الخواص
نعم، هناك مرتبة أعلى من هذه أيضاً.. يوجد مرتبة أخرى لا نتحدّث عنها أصلاً. نعم، سنذكرها بالإجمال، ولكن علينا أن نطلب من الله أن يوفّقنا للوصول إلى تلك المرحلة. يذكرون أنّ هذه المرحلة الأعلى هي: صوم خواصّ الخواصّ، فما هو هذا الصوم؟ هو ذلك الصوم الذي يحرص الإنسان فيه على عدم ورود الخطورات في ذهنه من الأصل، لا أنّ الخاطرة تحدث في الذهن ثمّ يدفعها.
كان النبيّ عيسى ـ على نبيّنا وآله وعليه السلام ـ يَعبُر بصحبة الحواريّين بجانب خربة، وكان يخرج من الخربة دخانٌ، فصاروا يسعلون بسبب الدخان الذي وصل إليهم واستنشقوه فاختلّ وضعهم. فقال لهم عيسى عليه السلام: أيّها الحواريّين! لقد أمر النبي موسى في شريعته بالابتعاد عن الزنا، أمّا أنا فأقول لكم لا تجعلوا حتّى خياله يخطر على بالكم ؛ لأنّ خيال هذا العمل القبيح يشبه اللهب والنيران التي أوقدت بعيداً: فهي رغم أنّها لا تحرق الإنسان، لكنّ دخانها الصاعد سيؤذيه و يصل إليه.
إنّ اللطافة التي يكتسبها السالك من خلال العبادة، تزول بسب تخيّلٍ واحدٍ للمعصية، فإذا أراد أن يحفظ تلك النورانيّة التي في نفسه لا ينبغي أن يكون لديه حتّى الخطور! {إنّ الَّذينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا} (فعندما يريد أن يأتي الشيطان ينبغي أن يتذكّروا)، فهو يأتي فيلفُّ ويدور باحثاً عن أيّ سبيل ليدخل منه.. يبقى يلفُّ ويدور حتّى يجد منفذاً يعبر من خلاله.
أرأيتم الحويمن عندما يريد أن يدخل إلى البويضة لكي يلقّحها، فبعض جدران البويضة المؤنّثة تكون أرقّ وأضعف من البعض الآخر، ولذا تجد الحيومنات تلتصق بجدار البويضة و تستمرّ بضربه وطرقه حتّى تجد ذلك الموضع الضعيف الذي تستطيع العبور من خلاله إلى داخل البويضة ليحصل التلقيح و تنعقد النطفة.. إنّها تبقى تلفّ حول البويضة باحثة عن ذلك المنفذ وتلك الخصوصيّة. وهذا عجيب واقعاً، فأيّ شعور منحه الله عزّ وجلّ ليفعل ذلك، ثمّ نحن نأتي بكلّ بساطة ... إنّ هذه الحويمنات تظلّ في حالة دوران حتّى يستطيع أحدهم أن ينفذ من أحد الأقسام الأضعف ليدخل إلى الداخل، وبمجرّد دخوله تبدأ أفعال وانفعالات أخرى بالحصول فيحصل التلقيح، و غيره من المسائل الأخرى.
إنّ الشيطان يدور حول الإنسان مثل ذلك الحويمن الذي يدور حول البويضة، فهو يدور حول الإنسان باحثاً مدقّقاً، وحيثما وجد ثغرة في نفس الإنسان نفذ إلى النفس منها.. إنّه يدور حوله هكذا، وعندما يجد ثغرةً يأتي وينفث سمّه هناك ويدخل.
ولهذا ينبغي على الإنسان ـ فبمجرّد أن تبدأ أيّ فكرة غير سليمة بالخطور في الذهن ـ أن يدفع تلك الفكرة سريعاً عن خاطره، لأنّه إذا سمح لها من الاوّل بالورود إلى ذهنه، و الدخول إلى نفسه فغنّها ستستقرّ فيه وتنعقد النطفة! وحينئذٍ فهل يمكن للإنسان أن يدفعها؟ هل يمكن لها أن تزول؟ كان ينبغي أن تردّها من الأوّل كما كان يقول المرحوم الحدّاد: عن أيّ شيطان يتحدّث هؤلاء وماهذا الكلام؟! على الإنسان أن يحمل خنجراً بجانب قلبه، وكلّما أراد الشيطان أن يأتي يطعنه على رأسه، ولا يسمح له بالاقتراب أصلاً .
إنّ كلام سماحته هذا يعود إلى هذه المسألة؛ لأنّ نفس الإنسان لها هذه الخصوصيّات، فهذه النفس نفس هيولائيّة؛ يعني: نفس لها القابليّة للتشكّل ولا ينبغي أن نسمح لها بالتشكّل. وعندها إن كان هذا الفكر والخيال صحيحاً ومنطقيّاً ... (طبعاً سنعالج هذه المواضيع بتفصيل اكبر في المجالس التالية حيث سنتكلّم عن كيفيّة تأثير الذكر؛ وكيف أنّنا أصلاً صرنا نسمّيه ونضعه تحت عنوان العمل الواقعي والحقيقي؟ هناك سنتحدّث عن كيفيّة تأثير الذكر في النفس، و سنبيّن أنّ الذكر ليس من اللغو) ... حسناً، هذا التخيّل يأتي ويتشكّل؛ لأنّ الأمر الذي يوجب تغيّر النفس و انقلابها ليس نفس العمل الظاهري، كأن يقوم الإنسان بفعل ما، فهذا فعل خارجي، والفعل الخارجي لا يؤثّر في النفس، بل إنّ النيّة التي تقف وراء هذا العمل الخارجي، تلك النيّة هي التي تؤثّر في النفس و تغيّرها، فكما أنّ النيّة لا يمكن لها أن تؤثّر في الخارج (طبعاً لا يخفى أنّ النيّة بأحد اللِحاظات تعتبر عملاً خارجيّاً)، مثلاً: مهما نويتم أن تأكلوا؛ فلن تشبعوا، بل ينبغي أن تتناولوا الطعام لتحصيل الشبع. كذلك فإنّ الأمر الموجب لتغيير النفس وتبدّلها هو النيّة والتخيّلات التي ينويها ويتخيّلها الإنسان؛ إن كانت النيّة والتخيّل صحيحين فإنّهما يسوقان النفس إلى التجرّد، أمّا إن كان ذلك التخيّل والصور الذهنيّة صوراً سيّئة فإنّها تُرجع النفس القهقراء.
إذاً بناءً على ذلك فصوم خواصّ الخواصّ هو ذلك الصوم الذي ليس فيه أصلاً أيّ تخيّل للمعصية أبداً، بل كلّ ما ينتقش في الذهن هو رضا الله، ولا ينتقش فيه إلاّ ما ينوّر النفس، و ما يوجب انبساطه.. هذا الصوم هو صوم خواصّ الخواص.
ولدينا صوم آخر أيضاً، وهذا الصوم مختصٌّ بالأولياء. وهو يرتبط باضطراب السرّ وعدم اضطرابه، وهو ما سنترك الحديث عنه لما بعد.
همّة الإنسان تحدّد نوع الصوم الذي يصومه
أمّا هذه المراحل الثلاثة للصوم التي بينّاها، فالقاعدة فيها أنّ «المرء يطير بهمّته»، كلّ إنسان وهمّته.. كلّ إنسان وعِرق حميّته، حيث أنّ كلّ إنسان له حميّة ... وينبغي أن نسأل الله تعالى أن يوفّقنا لذلك الصوم: صوم خواصّ الخواصّ، فالتوفيق منه أيضاً، بل حتّى لو وفّقنا لما هو أعلى فلا ضير في ذلك وسنكون راضين، ولو وفّقنا لِما هو أعلى من ذلك فلن نعترض، توقّعنا ينبغي أن يكون عالياً. ففي النتيجة نحن نشاهد ونرى أنّ الأوضاع هناك لها نحوٌ آخر. هناك لا يُنظر إلى ضعفنا، بل إنّ الله يَنظر من منظار عظمته ورحمته، وعندما نجد أنّ صاحب البيت له هذا الشأن، فلمَ نبخل نحن؟! ولم نطلب القليل؟! بل نقول: إلهي! ارزقنا تلك المرحلة الرابعة. و ما ذلك ببعيد على الله.
لدينا رواية عجيبة جداً ! حيث يقول الله فيها: «أنا عند ظنّ عبدي المؤمن بي» فإذا أحسن العبد ظنّه بي فأنا أحسن الظنّ بعبدي، وأحسن تصرّفي وسلوكي معه، أمّا إن كان عبدي يراني عاجزاً فأنا أيضاً لا أُعيره أيّ اهتمام، وأمّا إن كان عبدي يرى أنّي أعلم كلّ شيء.. أنّي أنا المفيض، و أنّي أنا صاحب الرحمة والمغفرة .. إن كان هذا اعتقاده، فأنا أعامله بنفس هذا الظنّ. حسناً، فطالما أنّ الأمر على هذا النحو، فلماذا نُقلّل من توقّعاتنا؟ بل فلنقل: إلهي! أعطنا تلك المرحلة الرابعة. وهو إن شاء الله يمنحها لنا.
كان الوالد العلاّمة رضوان الله عليه يقول: إنّ الذي حصلنا عليه؛ هل جلبناه من منزل خالتنا؟! كلاّ، بل كلّه منه تعالى ـ بالطبع هو لم يكن يتكلّم عن نفسه بل كان يتكلّم عن الأعاظم و الأولياء ـ كلّها من الله. سأضرب لكم مثالاً على ما أقول: إذا صار كلّ الناس في كلّ الدنيا كالنبيّ فهل ينقص شيء من الله؟ كذلك لو صار الناس جميعاً كفّاراً، فذلك لا ينقص من الله شيءً، بل لا ينقص من خزانة فضله وإفاضته حتّى بمقدار رأس الإبرة، لماذا؟ لأن ـ نحن الطلاب نفهم هذه المسألة جيّداً ـ حقيقة الوجود تختصّ بذاته هو، فإذا أفاض وأنفق فهذا الإنفاق يُصبّ في كيسه هو، وإن لم يفض ولم ينفق أيّ شيء فهو لم يخرج من كيسه شيءً، فكلا الكيسين واحد.. وأنتم إذا أخرجتم النقود من كيسكم ووضعتموها في ذلك الكيس الذي هو لكم أيضاً، أو في جيبكم، فهل أضيف إليكم أيّ شيء؟ أبداً. والأمر الذي نحن فيه هو كذلك، و طالما هو كذلك نسأل الله تلك المرتبة العليا، نسأله تلك المرتبة.
رحم الله المرحوم العلامة رضوان الله عليه حيث كان لديه عبارة يقولها، وأنا لم أرَ تلك العبارة في كلمات سائر الأعاظم، ففي يوم من الأيام قلت للمرحوم العلاّمة: بالنسبة لهذه المسائل التي لديك تجاه التلامذة والأصدقاء...، في الأخير نجد أنّ البعض تخرج منه الصرخة، نعم بمقدارٍ معيّن (لكن بالطبع لم أتكلّم معه بهذا البيان، ولكن بهذا المعنى) فلماذا لا تخفّف الوطأة عنهم قليلاً؟! على فرض المثال إجعل المسائل أكثر ملاءمة، مثلاً: إذا كان الطريق يحتاج إلى ساعة اجعله يطويه بستّ ساعات أو بعشر ساعات، اجعل الأمر بهذا النحو.
كان آنذاك مستلقياً على ظهره يريد الاستراحة، كما أنّه كان مريضاً، لكنّه اعتدل وجلس، وقال: «يا سيّد محمّد محسن! أنا لا أرضى لإخواني بأقلّ من مقام سلمان الفارسي».
انظروا! فمن كان سلمان الفارسي؟ كان الصحابيّ الأوّل من أصحاب النبيّ صلى الله عليه وآله، كان الصحابيّ الأوّل من أصحاب النبيّ بعد أمير المؤمنين عليه السلام، فأين كان هذا الرجل نفسه ليقول: لا أرضى لأصدقائي بأقل من مقام سلمان الفارسي؟
فلمّا سمعته يقول ذلك: أغلقت فمي، فهذا الإنسان لا فائدة من التكلّم معه!! فإن كان هو بهذا النحو، فماذا نصنع؟! [يتبسّم سماحة السيّد].
حسناً، انظروا فهذا مظهرٌ لرحمة الحقّ.. مظهرٌ للطف الحقّ.. مظهرٌ لعطاء الحقّ؛ فأيّ فهمٍ كان يمتلك إنسانٌ كهذا؟ و على أيّ منويّات كانت تنطوي نفسه؟
فزبدة المخض هو أنّه عندما تكون الأمور على هذا النحو، فينبغي علينا أن نطلب من الله ما هو أعلى وأرقى.
بعض الوصايا المتعلّقة بشهر رمضان
استحباب صلاة التراويح، وكيفيّتها
كان هناك بعض المسائل التي بيّنتها في السابق بمحضر الأصدقاء، وكان الأعاظم كذلك يعطون هذا الدستور في خصوص شهر رمضان:
من المسائل التي ذكروها: صلاة التراويح التي هي عبارة عن ألف ركعةٍ، فإن كان بالإمكان إتيانها وكان الوضع مناسباً، فصلاتها مؤكّدة جداً، وكما هو مذكور فإنّها تصلّى بهذا النحو: من الليلة الأولى لشهر رمضان المبارك ـ إذا ثبتت الرؤية ـ إلى الليلة العشرين نصلّي ثمانية ركعات بين نافلة المغرب ونافلة العشاء [واثني عشرة ركعة بعد العشاء]، ومن ليلة العشرين إلى ليلة الثلاثين، نصلّي اثنين وعشرين ركعة [بعد العشاء]. فهذه [عشرون] ركعة، وتلك [ثلاثون] ركعة، مجموعها سبعمائة ركعة.
ثمانية بعد المغرب واثنتا عشر بعد صلاة العشاء فيصبح المجموع عشرون ركعة.. هذه إلى ليلة العشرين.. و عشرون في عشرين تصبح أربعمئة، ثمّ في العشر الأواخر نصلّي إثنين وعشرين بدلاً من الإثني عشرة ركعة ليصبح المجموع ثلاثين ركعة في الليلة، فالثماني ركعات تبقى على حالها، إذاً ثلاثمائة وأربعمائة تساوي سبعمائة، ثمّ في الليلة التاسعة عشرة والواحدة والعشرين والثالثة والعشرين، نصلّي في كلّ ليلة منها مائة ركعة إضافيّة، ليصبح المجموع ألف ركعة.
إنّ هذه الصلاة كانت موجودة في زمن النبيّ صلى الله عليه وآله، ونفس رسول الله صلى الله عليه وآله، كان يأتي إلى مسجد المدينة وكان يصلّي هذه الصلاة ثمّ بعدها يعود إلى المنزل، و كان يصلّي هذا النوافل بعد صلاة العشاء في المسجد، ثمّ يعود إلى منزله. كذلك الأئمّة عليهم السلام ـ كما هو مرويّ ـ كانوا يذهبون إلى مسجد المدينة ويصلّونها هناك أيضاً، طبعاً الأئمّة الذين كانوا يسكنون في المدينة حينها.
إنّ هذه الصلاة صلاة مستحبّة، و لكنّنا نجد الآن أهل السنّة يصلّونها جماعة، وهذه إحدى بدع عمر التي ابتدعها، فهو من جعل صلاة التراويح جماعة، ثمّ لمّا وصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى الخلافة رفعها، لكنّ الناس لم يقبلوا بذلك، فقال لهم الإمام: افعلوا ما تشاؤون. هذه مسألة.
استحباب قراءة دعاء الافتتاح ودعاء أبي حمزة الثمالي، وختم القرآن
أمّا المسألة الأخرى فقراءة دعاء الافتتاح في ليالي شهر رمضان المبارك، أو مقدار من دعاء أبي حمزة الثمالي، فبالطبع ليس من الواجب قراءة دعاء أبي حمزة الثمالي بأكمله، بل يكفي مقدارٌ منه، لأنّ مجرّد قراءة الدعاء بحدّ ذاته ليس هو المطلوب، وإنّما المطلوب والمهم جداً هو التأمّل في المضامين، وكذلك ينبغي قراءة ختمة قرآن واحدة على الأقل، وإهداء ثوابها إلى النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله، والأفضل أن يكون ذلك خلال اليوم، يعني عندما يكون الإنسان صائماً، والعصر أنسب لذلك من سائر الأوقات، و كذلك بين الطلوعين فله مقامه المحفوظ، وهو داخل أيضاً في وقت الصوم.
إذاً على الأقل ختمة واحدة. وكذلك قراءة أدعية شهر رمضان المبارك، على أن يكون ذلك بالحدّ الميسور والمناسب.
أبواب رحمة الله مشرّعة في شهر رمضان والشقيّ من حرمها
خلاصة الأمر هذا الشهر هو الشهر الذي فتح الله سفرته فيه، وقال:
گر گدا کاهل بود تقصير صاحبخانه چيست؟
(يقول: إن كان المتسوّل كسولاً، فما هو تقصير صاحب البيت؟)
ذكر النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله في تعداده لخصائص هذا الشهر: «فإنّ الشقي من حُرم رضوان الله في هذا الشهر العظيم» يعني: انظروا كم المسألة مهمّة!! فالإنسان لا يحتاج لأن يبذل جهداً بنفسه، لا حاجة لبذل الجهد في هذا الشهر، يكفي أن يَمضي شهر رمضان على الإنسان، فماذا على هذا الإنسان حتّى يُحرم من هذه البركات ؟!
يُروى عن الإمام السجّاد عليه السلام أنّه كان في مكّة، فأتاه رجلٌ، وقال: لقد رأيت الحسن البصري الآن مع جماعة يتحلّقون حوله، وكان يقول: ليس العجيب في أن يدخل الإنسان إلى النار وإلى جهنّم، بل العجب كلّ العجب مِمّن يكون له عملٌ في الدنيا يدخله الجنّة في الآخرة. فقال الإمام السجّاد لكنّني لا أقول ما يقول، بل أقول عكس ما يقول: >ليس العجب ممّن يدخل الجنّة، بل العجب ممّن استحقّ العذاب مع هذه الرحمة الواسعة لله عزّ وجلّ<. ينبغي التعجّب من هذا الإنسان، وهذا كلام إمام لا كلام إنسان عاديّ.
والخلاصة هي أنّ على الإنسان أن يتمسّك في هذا الشهر بكلّ سبب وفيض يفاض عليه، فعلينا أن ندّخر ذلك لكي ننفقه طوال السنة. والخلاصة هي أنّ هذا الشهر هو بحسب تعبير التجّار... فهم عندما يجدون أحد الموارد التجاريّة المربحة جداً، عندما يجد التجار تجارةً مربحة جداً، يقولون: هذه فرصة لا ينبغي أن تفلت من أيدينا. الآن ينبغي أن نغتنم الفرصة، بحيث لو أنّنا قصّرنا فيما بعد فلا ضير حيث سيبقى بأيدينا ما يكفينا.
أولياء الله كانوا يشكرون الله بعد انتهاء شهر رمضان بسبب المواهب التي حصلّوها
شهر رمضان شهر التجارة، وإذا استغلّ الإنسان هذا الشهر، وحسب له حساباً، يمكنه أن ينفق في باقي الأيّام، على الرغم من أنّ ما يحصل عليه الإنسان لا يستدعي منه الطمأنينة، فلا تتخيّلوا أنّكم استرحتم عند انتهاء شهر رمضان...، فإذا قسم الله للإنسان في شهر رمضان الفيض والتوفيق وكانا من نصيبه، فإن شاء الله يدوم هذا التوفيق، ولكن على كلّ حال هذا المقام هو مقام ينبغي إغتنامه جداً، وهذه المسألة مهمّة جداً إلى درجة أنّنا نرى أنّ رجلاً كالمرحوم السيّد الحدّاد رضوان الله عليه مع كلّ ما لديه من الدرجات ومع كلّ ما لديه من المسائل، ولكن ما أكثر القضايا التي انكشفت له في هذا الشهر!! وكم هي الأمور التي وصل إليها فيه!! بحيث أنّه كان يقوم بدورة كاملة من الزيارة لقبور الأئمّة عليهم السلام بعنوان الشكر لهذه الضيافة الإلهيّة التي أضاف الله بها عباده، فكان يبدأ من النجف ثمّ باقي الأئمّة فأبناء الأئمّة وهكذا ... .
فما السرّ في المسألة؟ يعني هذا الفعل فعل الأولياء، وليس مسألة عاديّة من باب المجاملة كأن يقول: نعم نقوم بالمجاملة فنذهب على سبيل المثال لزيارة أمير المؤمنين لنشكره [مجاملةً] !! فما هي المواهب التي كانت من نصيبهم بحيث يدفعهم ذلك للذهاب إلى زيارة الأئمّة المعصومين بعنوان الشكر لهم؟ لقد كانوا يذهبو شكراً! هذا المقدار يكفي لأن يجعلنا نفهم أنّ وراء الأمر سرّاً وخبراً، وليس الأمر أنّنا نريد خداع أنفسنا:
گفت کس ندانست که منزلگه معشوق کجاست | *** | اينقدر هست که بانگ جرسی می آيد |
(و المعنى: قال : لا أحد يعلم مكان منزل المعشوق، و لكنّ هذا المقدار معلوم و محقّق و هو أنّنا نسمع صوت جرس يأتي من هناك )
إنّنا نعلم هذا المقدار فقط و هو أنّنا نسمع صوت جرس يأتي من هناك، فلنتمسّك بصوت الجرس ذاك و نتّبعه، لعلّنا نصل نحن أيضاً إن شاء الله إلى منزل المحبوب، فأولئك الذين ذهبوا ووصلوا قالوا: أيّها العزيز إنّ المنزل موجود، تأكّد من ذلك لأنّه موجودٌ فعلاً، ووجوده أعلى من اليقين أيضاً، غاية الأمر أنّنا نعيش في الغفلة و غير ذلك من المسائل الأخرى التي تأسرنا، ونتعامل مع هذه الأمور بالمزاح وعدم الجدّية.. لكن لا، هذه الأمور موجودة بنحوٍ مسلّم.
نسأل الله أن يمنحنا شرف التنعّم بضيافة الله في هذا الشهر، وأن تكون سفرتنا مملوءة أكثر وأكثر وأيدينا طافحة بفيوضاته عزّ وجلّ، وأن يجعل جميع أفعالنا وتصرّفاتنا ونفوسنا وسرّنا وسويداءنا على غرار أفعال الأعاظم والأولياء وتصرّفاتهم.
اللهم صلّ على محمّد وآل محمّد.