المؤلّفالعلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني
المجموعةمناقب أهل البيت
التاريخ 1397/09/19
التوضيح
ما هي الآراء المطروحة بخصوص معنى الميزان وكيفيّة نصبه يوم القيامة؟ هل لميزان يوم القيامة كفّة واحدة أم كفّتان! من هم الموازين في يوم القيامة؟ ما هما الطائفتان اللتان لا توزن أعمالهما يوم القيامة؟ كيف يكون أمير المؤمنين عليه السلام ميزانًا للأعمال في يوم القيامة؟ ما هي التضحيات التي قدّمها الإمام عليّ عليه السلام في سبيل الله تعالى؟ كيف تُقاس أعمال الأمّة والشيعة بأعمال أمير المؤمنين عليه السلام؟
هي تساؤلات سعى سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ قدّس الله نفسه الزكيّة للإجابة عنها في هذه المحاضرة التي عقدها لبيان بعض مناقب أهل البيت عليهم السلام في مسجد القائم بطهران.
هو العليم
ميزان يوم القيامة: معناه وكيفيّة نصبه
مناقب أهل البيت عليهم السلام ـ الجلسة الرابعة
محاضرة القاها
سماحة العلاّمة آية الله السيّد محمّد الحسين الحسينيّ الطهرانيّ
قدّس الله نفسه الزكيّة
أعوذُ بِاللَه مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ
بسم اللَه الرّحمن الرّحيم
وصلّى اللهُ على محمّدٍ وآلِه الطاهرين
ولَعنَةُ اللَه عَلى أعدائِهِم أجمَعينَ
الآراء المطروحة بخصوص معنى الميزان وكيفيّة نصبه يوم القيامة
﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَأُمُّهُ (ومكانه وأصله) هَاوِيَةٌ ، وَمَا أَدْرَاكَ (أيّها الرسول) مَا هِيَهْ ، نَارٌ حَامِيَةٌ (وحارّة ومشتعلة)﴾ ۱.
أوردنا سابقًا آيات من القرآن المجيد تُشير إلى أنّ ميزانًا سيُنصب للإنسان في يوم القيامة، حيث تُصرّح هذه الآيات بأنّ أحد المواقف التي سيُواجهها هذا الإنسان هو الميزان؛ كما أنّ هناك روايات جاءت في هذا الباب أشرنا إلى بعضها أيضًا؛ وبيّنا كذلك معنى الميزان.
لقد وقع خلاف بين العلماء والعظماء والمفسّرين في معنى الميزان، وكيفيّة نصب ميزان الأعمال للإنسان، حيث قال المرحوم الشيخ الطبرسيّ رحمة الله تعالى عليه في تفسيره للآية الشريفة : ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾٢: «ذُكر فيه أقوال أحدها أنّ الوزن عبارة عن العدل في الآخرة وأنّه لا ظلم فيها على أحد»؛ فالميزان الذي سيُنصب للإنسان هو ميزان العدل؛ مثلما جاء في الآية الشريفة:
﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾٣.
فبما أنّه ورد في هذه الآية: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾، فإنّ ذلك يدلّ على أنّ المراد من الحقّ الذي جاء في آية ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ هو القسط؛ هذا مع أنّه ورد في بعض الروايات أيضًا أنّ المراد من الميزان هو ميزان العدل.
أجل، يبقى أنّ هناك فارقًا من حيث المعنى بين العدل والحقّ؛ فالعدل يعني أن يُساوي الإنسان بين شيئين، من دون أيّة زيادة أو نقصان، بل تكون المساواة بينهما من جميع الجهات، ولا يكون هناك أيّ إفراط أو تفريط؛ فهذا هو معنى العدل. وأمّا الحقّ، فيُراد منه الواقعيّة بعينها، والتحقّق بعينه؛ ولعلّ الحقّ يتوفّر على معنى ألطف وأدقّ قليلاً من معنى العدل؛ لأنّه عين التحقّق. فالعدل يأتي في المرتبة الثانية، حيث ينبغي على الإنسان أن يقيسه على الحقّ، ليرى موطن الزيادة أو النقصان؛ وحينئذ، يصدق معنى العدل؛ وأمّا الحقّ، فهو عين الواقعيّة والتحقّق.
ومن هنا، فإنّ الشيخ الطبرسيّ ذكر في تفسيره لهذه الآية ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾ بأنّ البعض فسّرها بالعدل؛ أي أنّه سيُقام في ذلك اليوم للإنسان ميزان العدل؛ وهذا أحد الاحتمالات التي أشرنا في الليالي السابقة إلى رواية واردة بشأنه.
والاحتمال الآخر أنّ الله تعالى سينصب ـ في الأساس ـ يوم القيامة ميزانًا يزن فيه الأعمال، حيث يتوفّر هذا الميزان على كفّتين؛ تمامًا مثل الموازين الموجودة في الدنيا؛ فينصب هناك ميزانًا، ويزن به الأعمال؛ وقد نُسب هذا الاحتمال إلى ابن عبّاس والحسن البصريّ؛ كما أنّ الجبّائية ارتضوا هذا الاحتمال؛ ثمّ إنّها اختلفوا في الميزان الذي سيُنصب بهذا النحو وله كفّتان، وفي ماذا سيضعون في هاتين الكفّتين؛ وذلك لأنّ الأعمال التي قام بها الإنسان هي من الأعراض، وقد اندثرت، والذي سيكون في يوم القيامة هو نفس وجود الإنسان؛ وبالتالي، ما الذي سيوضع في هذه الموازين ويوزن هناك؟ قالوا: مع أنّ أعمال الإنسان قد اندرست، إلاّ أنّ صحيفة عمله تكون موجودة، فتوضع في تلك الكفّتين، وتوزن، حيث يُراد من صحيفة العمل الصحيفة التي تُسجّل فيها أعمال الإنسان؛ فهذا الذي ذكره البعض.
وقال البعض الآخر: تظهر علامات للحسنات وعلامات للسيئات التي أدّاها الإنسان في الدنيا، وتوضع هذه العلامات في الكفّتين، ليراها جميع الناس.
وقال بعضهم: تظهر للأعمال الحسنة التي قام بها الإنسان صورة حسنة، وللأعمال السيّئة صور قبيحة ومُنكرَة؛ فتوضع هذه الصور في تينك الكفّتين، وتوزن هناك.
وقال بعض آخر: توضع نفسا المؤمن والكافر، وتوزنان؛ لكن، قد يُشكل هنا بأنّ البعض قد يكون سمينًا وثقيلاً، فينبغي أن تكون حينئذ صحيفة أعماله ثقيلة جدًّا! وقيل في جوابه: كلاّ! توضع نفسا المؤمن والكافر هناك، وتوزنان، لكنّ الوزن الذي يحصل عليه المؤمن في ذلك العالم مختلف عن الوزن الذي يوجد لديه في هذا العالم، إذ إنّ وزن المؤمن والكافر هناك ينسجم مع عالم الملكوت، حيث يُؤتى بالكافر ويكون وزنه بمقدار حبّة واحدة؛ فإلى هذا الحدّ يكون صغيرًا! في حين يُؤتى بالمؤمن الذي كان في الدنيا مريضًا ونحيفًا، فيكون كبيرًا بمقدار جبل أبي قبيس؛ فإلى هذه الدرجة يكون عظيمًا! فيوزن هؤلاء بهذا النحو.۱
وقد طُرحت في هذا المجال احتمالات أخرى، غير أنّها بأجمعها احتمالات تبرّعية. ويظهر بشكل واضح كلّ من معنى الميزان وطريقة الوزن، وذلك من الكلام الذي طرحناه ليلة أمس بخصوص الآيات القرآنيّة، حيث استنبطنا تلك المسائل بأجمعها من القرآن الكريم؛ أي أنّنا استخرجنا مجموعة من الآيات، ووضعناها إلى جانب بعضها، وتوصّلنا من خلالها إلى تلك النتائج؛ إذ «إِنَّ القُرآنَ يُفسِّرُ بَعضَه بَعضًا»۱و٢
فقد جاء في الآية الكريمة قوله تعالى: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾، كما جاء في موضع آخر: ﴿وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ﴾؛ بمعنى أنّه للحقّ وزن، بينما الباطل لا وزن له. وتوجد آيات ورد فيها عنوانا الثقل والخفّة: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾٣، ﴿وَمَنْ خّفَّت مَوَازِينُهُ﴾،٤ حيث نرى هنا أنّ الثقل جاء في مقابل خفّة الميزان. فالمؤمنون ميزانهم ثقيل، والكافرون ميزانهم خفيف؛ ولا يوجد لدينا أيّ موضع ورد فيه أنّ ميزان حسنات المؤمنين ثقيل، وميزان سيّئات الكفّار ثقيل أيضًا؛ بل إنّ ميزان حسنات المؤمنين يكون ثقيلاً، وميزان سيّئات الكفّار خفيفًا؛ فكلّما ازدادت السيّئات، صار الميزان أخفّ، وكلّما ازدادت الحسنات، صار أثقل؛ لأنّ الميزان يُقاس بالحقّ فقط؛ ولهذا، كلّما زادت الأعمال الحسنة، اشتدّ فيها عنوان تحقّق الحقّ؛ وكلّما قلّت أعمال الإنسان الحسنة وازدادت سيّئاته، صار وجود الحقّ في هذا الإنسان أندر؛ وأضحى ـ بالتالي ـ ميزانه أخفّ.
لميزان يوم القيامة كفّة واحدة فقط!
هذا، مع أنّ ذلك الميزان مختلف عن هذا الميزان؛ فبما أنّ الموازين التي تُنصب في الدنيا مادّية، فإنّها كلّما كانت [كفّتها] أثقل، هبطت إلى الأسفل أكثر؛ وكلّما كانت أخفّ، ازداد صعودها إلى الأعلى؛ وأمّا في ذلك العالم، فالأمر بالعكس، بحيث كلّما كان الوزن أثقل، صعد إلى الأعلى أكثر؛ وكلّما كان أخفّ، ازداد هبوطه إلى الأسفل؛ لأنّ هناك عالم القُرب؛ فالأفراد الذين تكون موازينهم ثقيلة يكون تجرّدهم أكثر، ولطافتهم أعلى، وقربهم أزيد؛ فيصيرون أدنى إلى مقام القُرب: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾٥؛ وفي ذلك الحين، سيتوجّه الخِفاف إلى الأسفل: ﴿وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ﴾٦.
فقد ورد لدينا بخصوص بلعم بن باعورا أنّه أخلد إلى الأرض بسبب توجّهه إلى الدنيا۷؛ وحينما يتوجّه أحد في الأرض إلى الأسفل، فلن يصعد إلى الأعلى.
ومن هنا، فإنّ ميزان الأعمال يُقاس في يوم القيامة بواسطة الحقّ فقط، بحيث يُقدّر هذا الحقّ السيّئات والحسنات؛ فكلّما كانت الحسنات أكثر، كان الإنسان أقرب للحقّ؛ وكلّما كانت السيّئات أكثر، كان أبعد عن الحقّ. فالملاك هنا هو عنوان القُرب أو البُعد، والثقل والخفّة قائمان على أساس زيادة الأعمال الحسنة وقلّتها؛ فلا يكون للسيّئة في ذلك العالم أيّ وزن، ولا يُمكنها الولوج إلى هناك بتاتًا؛ لأنّه عالم القدرة والعلم والحياة والنور والتجرّد؛ فلا سبيل للظلمة إلى هناك أبدًا. ولهذا، فإنّ الأفراد الذين ابتلوا بارتكاب السيّئات، وصارت نفوسهم شيطانيّة لا يتمكّنون من الارتقاء إلى ذلك العالم، بل يضيعون ويتلاشون في مراحل البُعد؛ لأنّ ميزان أعمالهم لا يكون ثقيلاً حتّى يرفعهم إلى الأعلى، بل يُنزلهم إلى الأسفل؛ فيكون حدّهم ومستواهم واقعًا في مراحل البُعد، و ﴿ضَلُّوا﴾؛ فيضيعون هناك؛ وهذه هي حقيقة الميزان.
ولهذا، لا يوجد في أيّة رواية أو آية أنّ الميزان يتوفّر على كفّتين، بل الميزان له كفّة واحدة، وهي الحقّ. فكفّة الميزان الذي يُؤتى به للإنسان وتوضع فيه أعمالُه هو الحقّ!
هذا، مع أنّ هناك موازين متعدّدة لمختلف الأعمال؛ فالصلاة لها ميزان، ولكلّ من الزكاة والجهاد والصدق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والإيثار والعفّة والعبوديّة والمحبّة والولاية ومعرفة الله أسمائه تعالى ميزان؛ ولهذا، قال الباري عزّ وجلّ: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾؛ ولم يقل: نضعُ الميزان القسطَ؛ فالموازين هي بحسب الأعمال الحسنة؛ كما أنّ أعمال الإنسان تُقاس بالحقّ؛ فيُنظر هناك: كم هو مقدار الحقّ في الصلاة؟ وكم هو مقداره في الزكاة؟ وكم هو مقداره في الجهاد؟ وكم هو مقداره في المحبّة والولاية؟ وكم هو مقداره في المعرفة؟ فتُقاس كلّ هذه الأمور بواسطة الحقّ.
الأنبياء والأوصياء عليهم السلام هم موازين يوم القيامة
ولذلك، فإنّ الروايات الواردة بخصوص أنّ المراد من الحقّ هم الأئمّة وأمير المؤمنين، وأنّ أعمال الأمّة تُقاس بأعمالهم كثيرة جدًّا، حيث أشرنا في الليلة السابقة إلى ثلّة من هذه الروايات؛ ونستعرض الآن رواية منها أو روايتين:
يروي الصدوق في كتاب فضائل الشيعة بسنده عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام عن آبائه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال:
«حُبّي وحُبُّ أهلِ بيتي نافعٌ في مَواطنَ أهوالُهنَّ عَظيمةٌ؛ عِندَ الوفاةِ وفي القَبرِ وعِندَ النشورِ وعِندَ الكِتابِ (وإبراز صحيفة الأعمال) وعِندَ الحِسابِ وعِندَ الميزانِ وعِندَ الصراطِ»۱.
والمراد من عبارة «حُبّي وحُبُّ أهلِ بيتي نافعٌ» أنّ كلّ من يحبّني ويحبّ أهل بيتي يصير في أحد العوالم ـ الذي هو عالم الميزان ـ ميزانُه ثقيلاً؛ وبالتالي، يتّضح أنّ الميزان يُقاس هناك أيضًا بالمحبّة، بحيث كلّما صارت محبّة الرسول أهل بيته في قلب الإنسان أكثر، أضحى ميزانُه أثقل.
وجاء في الاحتجاج عن هشام بن الحكم أنّ زنديقًا سأل الإمام جعفر الصادق عليه السلام:
أ وَ لَيْسَ تُوزَنُ الأعْمَالُ؟
قَالَ [عليه السلام]: «لَا؛ لأنَّ الأعْمَالَ لَيْسَ أجْسَامًا، وَ إنَّمَا هِيَ صِفَةُ مَا عَمِلُوا، وَإنَّمَا يَحْتَاجُ إلَى وَزْنِ الشَّيءِ مَنْ جَهِلَ عَدَدَ الأشْيَاءِ وَلَا يَعْرِفُ ثِقْلَهَا وَخِفَّتَهَا؛ وَإنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ».
قيل: فما معنى الميزان؟
قال [عليه السلام]: «العدل».
قِيلَ: فَمَا مَعْنَاهُ في كِتَابِهِ: ﴿فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ﴾٢؟
قَالَ [عليه السلام]: «فَمَنْ رَجَحَ عَمَلُهُ»٣.
أي أنّ عمله قد تشبّع أكثر بصفة العدل؛ وبالتالي، فإنّ العمل يُقاس هنا بواسطة العدل.
وجاء في معاني الأخبار بسند متّصل عن هشام بن سالم الذي كان من أعاظم أصحاب الإمام الصادق عليه السلام:
قال: «سألتُ أبا عبد اللهِ عليه السلام عن قولِ اللهِ عزّ وجلّ:﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾٤؛ قال: "هم الأنبياءُ والأوصياءُ"»٥.
بمعنى أنّ أعمال الأمم تُقاس بأعمال النبيّ ووصيّه، بحيث كلّما كان عمل الإنسان أقرب إلى عملهما، كان أثقل؛ وكلّما كان أبعد، كان أخفّ.
ورُوي في كتاب الكافي بسند متّصل عن عبد الله بن سنان، عن رجل من أهل المدينة، عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين:
قال: «قال رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليه وآله وسلّم: "ما يوضَعُ في ميزانِ امرِئٍ يومَ القيامةِ أفضلُ من حُسنِ الخُلُقِ"»٦.
فكلّ من يكون أحسن خلقًا تكون صحيفة أعماله حسنة؛ فيتّضح هنا أنّ هذه الصحيفة تُقدّر بواسطة حُسن الخُلق.
ووردت رواية مفّصلة في توحيد الصدوق بسند متّصل عن أمير المؤمنين أنّه سُئل عليه السلام عن الآيات القرآنيّة التي يظهر وجود تناقض بينها، فأجابها عنها واحدة، واحدة، إلى أن وصل إلى قوله تعالى ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾۷، فقال:
«فهو ميزانُ العدلِ يُؤخذُ به الخَلائِقُ يومَ القِيامةِ يدينُ اللهُ تَبَارَك وتَعالى الَخلقَ بَعضَهم مِن بَعضٍ بِالمِوازينِ»۱.
فيُنظر على أساس ميزان العدل هذا: ما هو الثواب الذي يستحقّه زيد مع عمرو، وعمرو مع زيد، والناس مع بعضهم؟ وكيف كانت علاقتهم في الدنيا مع بعضهم؟ حيث نراهم يتواجدون في درجات متغايرة من حيث قُربهم من هذا العدل وبُعدهم عنه.
وجاء في حديث آخر مختلف عن هذا الحديث أنّ المراد من الموازين هم الأنبياء وأوصياؤهم، حيث قال عليه السلام بخصوص قول الله تعالى ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾٢: «فَإِنَّ ذَلِكَ خاصّة»، مجيبًا عن سؤال الزنديق الذي ادّعى فيه وجود تناقض بين الآيات القرآنيّة؛ إذ يقول الله تعالى في أحد المواضع: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ﴾، في حين أنّه يقول في موضع آخر: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ (أي للذين يُنكرون وجود الله ولقائه) يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾؛ فقال ذلك الزنديق: يوجد اختلاف بين هاتين الآيتين، حيث نجد القرآن يقول في أحد المواضع: سنُقيم للناس ميزانًا للأعمال، ويقول في موضع آخر: لن نُقيم لهم أيّ ميزان! ﴿لا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾؛ فنرى وجود تناقض بين هاتين الآيتين!
فقال الإمام [ما معناه]:
لا يوجد بينهما أيّ تنافٍ؛ فقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾٣، وكذلك ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ، وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ﴾، يتعلّق بالذين لديهم أعمال حسنة وأخرى سيّئة؛ فهؤلاء هم الذين يوجد لديهم ميزان؛ وأمّا الآية التي جاء فيها: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾، فإنّها مختصّة بالمنكرين للقاء الله تعالى؛ فهي خاصّة بالنسبة إليهم، ومختصّة بهم٤.
أ فهل يوجد تعارض بين هاتين الآيتين؟! لا يوجد بينهما أيّ تعارض؛ لأنّ هذه الآية جاءت بخصوص المنكرين لوجود الله تعالى ولقائه، حيث جاء فيها:
﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ، أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾٥.
طائفتان لا ميزان لهما يوم القيامة: المخلَصون والمنكرون للقاء لله تعالى
قل يا أيّها الرسول: هل نُخبركم عن أكثر الناس خسرانًا، والذين تكون خسارتهم أكثر من الجميع؟ هم الذين تكون لهم في الدنيا نشاطات كبيرة، ويبذلون جهودًا مضنية، معتقدين أنّهم يقومون بأعمال حسنة، غير أنّ الأمر لا يكون بهذا النحو؛ لأنّهم يفتقرون للإيمان بالله تعالى، ولا يعتقدون بلقائه، ويكفرون بآياته؛ ولهذا السبب، لا يكون لهم في يوم القيامة أيّ ميزان! ﴿فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ﴾؛ فلا يكون لديهم أيّ عمل صالح؛ لأنّ ذلك الكفر والإنكار لله تعالى وآياته سيحرق جميع الأعمال الحسنة التي ظنّوا أنّهم قاموا بها في الدنيا، ويقضي عليها كلّها، فلن يبقى لهم أيّ عمل، لكي نأتي بصحيفة أعمالهم، ونضع لهم ميزانًا لهذه الأعمال.
وحينئذ، يقول الإمام: لا يوجد أيّ تنافٍ بين تلك الآيتين؛ لأنّ هذه الآية عامّة، وتلك خاصّة؛ ولدينا في القرآن الكريم العديد من الآيات الخاصّة والعامّة، كما أنّه توجد في كلّ لغة من لغات العالم عمومات وخصوصات كثيرة إلى ما شاء الله تعالى.
ولهذا، وكما أسلفنا الذكر في ليلة أمس، فإنّ هؤلاء لا يملكون صحيفة أعمال، وليس لديهم ميزان، بل يدخلون جهنّم من دون حساب؛ فهذا ما يتعلّق بهذه الطائفة الخاصّة؛ وهم الذين ليس لديهم أيّ عمل. فحتّى إذا قام هؤلاء ـ الذين لا يتوفّرون من حيث الكفر والشرك على أيّ عمل ـ بعمل صالح، فإنّ إنكارهم لله وشركهم وكفرهم بآياته تعالى سيقضي على كلّ هذه الأعمال الصالحة؛ فيظلّون من دون عمل!
كما أنّ المقرّبين والمخلَصين لا يوجد لديهم عمل؛ لأنّ كلّ عمل قاموا به أوكلوه إلى الله تعالى؛ فلم يعُد لهم أيّ عمل! وحينئذ، سيكون أمير المؤمنين عليه السلام من دون عمل؛ فيأتي يوم القيامة، ويقول الله الحقّ تعالى: ماذا عملت؟
فيقول: أقسم بالله أنّني لم أعمل شيئًا!
ـ لكنّك قُمت بكلّ هذه الأعمال.
سيقول: أنا؟! كلاّ!
فهو لا يرى هذه «الأنا»، حتّى يقول أنّه أدّى العبادة.
ـ يا علي، لقد جاهدت، وفعلت كذا، وكذا، و...!
سيقول: أقسم بالله أنّني لا أعثر على نفسي، لكي أعثر بعد ذلك على جهادي؛ فُدلّني على نفسي، حتّى أجد جهادي!
فمهما نقّبوا في المحشر، فلن يجدوا عليًّا؛ لأنّه لا يوجد هناك، بل هو في الأساس موجود في حرم الله تعالى، ولا يوجد في أيّ موضع آخر! فهؤلاء الأفراد ليس لديهم عمل، وهم لا يتوفّرون ـ بحقّ ـ على أيّ عمل! ولا يُراد من ذلك أنّهم لم يعملوا شيئًا، بل إنّ عملهم يفوق عمل الثقلين، حيث قال النبيّ الأكرم: «ضَربةُ عَليٍّ يومَ الخَندقِ أفضلُ مِن عِبادةِ الثقلَينِ (أي الإنس والجنّ)» ۱؛ وهذا هو الحقّ! فإن تفحّصنا ودقّقنا النظر، سيتّضح لدينا مثل الشمس في رائعة النهار أنّ هذه الضربة أثقل من عبادة الجنّ والإنس؛ لكن، حينما ينظر أمير المؤمنين، يرى أنّه لا يمتلك أيّ عمل؛ وفي هذه الحالة، ماذا عسانا أن نفعل؟! ومن الذي قام حينئذ بهذا العمل؟!
سيقول [الإمام]: إلهي، أنت الذي قُمتَ به؛ وبالتالي، سيختصّ بك أنت!
ـ إذن، من تكون أنت؟
سيقول [الإمام]: إنّني معك لا أعثر على نفسي؛ فمهما بحثت عنها، لا أجدها؛ فقد ضيّعتها!٢
﴿يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾٣؛ فهؤلاء أيضًا ليست لديهم صحيفة أعمال، ولا يملكون ميزانًا أيضًا، فهذا هو حال هذه الطائفة؛ وبالتالي، لا يوجد أيّ تعارض بين الآيات القرآنيّة.
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "لَقَدْ حَقَّتْ كَرَامَتِي ـ أَوْ قَالَ: مَوَدَّتِي ـ لِمَنْ يُرَاقِبُنِي وَ يَتَحَابُّ بِحَلَالِي"». يقول: «لقد أوجبتُ كرامتي، وحقّت هذه الكرامة ـ أو المودّة ـ بالنسبة للذي يُراقبني، وذاك المؤمن الذي يتطلّع إليّ، ويحبّني، ويتحابّ مع أحبّائي (التحابّ يعني أنّ هذا يُحبّ ذاك، وذاك يُحبّ هذا)؛ فوجوه هؤلاء تظهر في يوم القيامة من نور، وقد اعتلوا منابر من نور، وارتدوا ثيابًا خضرًا».
قيل: يا رسول الله، من يكون هؤلاء؟! فقال صلّى الله عليه وآله وسلّم [ما مضمونه]: «إنّهم جماعة ليسوا بالرسل ولا الأنبياء ولا الشهداء، "وَلَكِنَّهم تَحَابُّوا بِحَلالِ اللهِ"٤»؛ فقد أحبّوا بعضهم على أساس حلال الله، واعتمادًا على ذلك الأصل الذي أذن لهم فيه تعالى.
وذلك لأنّ الناس من جميع الأجناس والطوائف يُحبّون بعضهم، غير أنّ هذه المحبّة لا تكون قائمة على أساس الحلال؛ إذ لو دقّقنا النظر، سنرى أنّ منبع تلك المحبّة يرجع إلى أحد الأمور الدنيويّة؛ فنجد أنّ هناك العديد من الجلسات والمؤتمرات والأحزاب والمذاهب والآراء والكتب، لكنّ مآلها في الأخير يرجع إلى البطن أو الشهوة أو الرئاسة، من دون يتخطّى محور اجتماع هؤلاء الأفراد هذه المسائل. لكن، إذا وُجد بعض الأشخاص الذين يُحبّون بعضهم لله تعالى، من غير أن توجد لديهم أهداف أو نوايا سيّئة، فإنّ هؤلاء لن يكونوا أنبياء ولا شهداء، لكنّهم سيتوفّرون على الخاصّية التالية:
ويَدخلون الجَنَّةَ بِغِيرِ حِسابٍ؛ نَسألُ اللهَ أن يجعلَنا مِنهم بِرَحمتِه.
فهذا هو كلام أمير المؤمنين عليه السلام؛ ونحن بدورنا نقول: «نَسألُ اللهَ أن يجعلَنا مِنهم بِرَحمتِه».
ثمّ إنّ أمير المؤمنين يقول:
وأمّا قوله: ﴿فَمَن ثَقُلَت مَوَازينُهَ﴾۱ و ﴿خَفَّت مَوَازينُهُ﴾٢، فإنّما يعني الحسابَ، تُوزنُ الحسناتُ والسيّئاتُ؛ والحسناتُ ثِقلُ الميزانِ والسيِّئاتُ خِفّةُ الميزانِ.
فهذا الذي يعمّ كافّة الناس، وليس المقرّبين والمخلّصين، ولا الأشقياء المنكرين للقاء الله تعالى؛ إذ يكون لعموم الناس أعمال حسنة وأخرى سيّئة؛ فكلّما قاموا بأعمال حسنة، زاد ثقل ميزانهم؛ في حين أنّ أعمالهم السيّئة تُساهم في خفّة هذا الميزان.
علّة كون أمير المؤمنين عليه السلام ميزانًا للأعمال
لقد أشرنا في ليلة أمس إلى أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ميزان الأعمال، واستعرضنا مجموعة من المسائل مفادها أنّ عدله وعبادته وزكاته وإيثاره وكلّ واحدة من خصائصه عليه السلام تُجعل ميزانًا، لتُقاس أعمالُنا بعد ذلك بأعماله، بحيث كلّما كنّا أقرب منه، كانت [أعمالنا] أثقل، وكلّما كنّا أبعد منه، كانت [أعمالنا] أخفّ؛ لأنّ أمير المؤمنين إمام، ونحن مأمومون؛ هذا، وسنتحدّث إن شاء الله تعالى لاحقًا في بحث «الشهادة» عن مسألة أنّه عليه السلام ليس إمامًا لنا نحن وحسب، بل هو إمام لكافّة الأنبياء؛ مثلما أنّ نبيّنا شاهد عليهم بأجمعهم؛ ولنغضّ الطرف الآن عن هذه المسألة ؛ لأنّنا سنبحثها لاحقًا هناك. وخلاصة القول: إنّ أمير المؤمنين إمامنا؛ وباعتبارنا مأمومين، فإنّه من الواجب علينا أداء أعمالنا وفق ذلك النهج [أي نهجه عليه السلام]؛ وأمّا بالنسبة لكيفيّة أدائنا لهذه الأعمال، ومقدار إخلاصنا فيها، فإنّه سيُقاس يوم القيامة كلّ واحد منها على أعمال أمير المؤمنين، فيوضع عمله عليه السلام في كفّة، وعملنا في كفّة أخرى؛ وحينئذ، علينا أن نرى: ما هي الأعمال التي قام بها هو؟!
وبعدما اتّضحت لدينا المقدّمتان اللتان ذكرناهما ليلة أمس، نقول: إنّ المراد من ميزان أعمال كلّ أمّة هي أعمال نبيّها أو وصيّ نبيّها؛ لأنّ الله تعالى أرسل هؤلاء الأنبياء والأوصياء من أجل دعوة الناس إلى متابعة عقائدهم وأفكارهم وأفعالهم؛ وبالتالي، فإنّ كلّ من يكون عمله أقرب إلى عمل نبيّه سيكون أقرب إليه في الدرجات الأخرويّة؛ وكلّ من تكون حسناته أقلّ، سيكون أبعد. وعليه، سيتّضح بكلّ جلاء من الأخبار التي مفادها أنّ عليّ بن أبي طالب ميزان الأعمال ـ حيث نقرأ أيضًا في زيارته عليه السلام: «السلامُ على ميزانِ الأعمالِ» ٣ ـ أنّه: أوّلاً، تؤدّي الأعمال السيّئة إلى البُعد، ولا تكون هذه الأعمال قابلة للوزن؛ في حين، أنّ الأعمال الحسنة هي التي يكون من شأنها الوزن؛ وفي هذه الحالة، ستُقاس أعمال الأمّة بأعمال حضرة أمير المؤمنين عليه السلام.
فعلى سبيل المثال، توضع عباداته عليه السلام، وتُقاس بواسطتها عبادةُ كلّ واحد من ناحية الإخلاص؛ فكلّما كانت درجة هذه العبادة أقرب إلى أمير المؤمنين، كان مقام صاحبها أقرب إلى مقامه عليه السلام؛ وكلّما كانت أبعد، كان صاحبها أبعد.
وكذلك بالنسبة للصلاة؛ إذ توضع صلاة أمير المؤمنين، وتُقدّر بها صلاةُ كلّ فرد من الأمّة، حيث يُؤتى بتلك الصلوات التي كانت تُشاهد منه عليه السلام، وبعروج روحه أثناء الصلاة، ووقوعه مغشيًّا عليه وسط بستان النخيل۱، واستلال السهم من رجله، وانمحائه بالكلّية في الأنوار الإلهيّة٢.
وفي مقام العدل والإنصاف، يُجعل عدلُه عليه السلام معيارًا، حيث أنّه في الوقت الذي كانت فيه البلدان الإسلاميّة تحت تصرّفه، وكان أقرانُه مثل عبد الرحمن بن عوف وعبد الرحمن بن أبي بكر ومعاوية وعمرو بن العاص قد جمع كلّ واحد منهم جبالاً من الثروة ـ بحيث حينما مات بعضهم، كانوا يستعملون الفؤوس لعدّة أيام من أجل تقطيع سبائك الذهب الكبيرة لكي تُقسّم بين الورثة٣ ـ، أتاه أخوه عقيل يطلب من بيت المال صاعًا واحدًا من القمح (أي ما يعادل مَنًّا واحدًا)، وقد جاء إليه عدّة مرّات يطلب هذا المقدار من القمح، وكان أمير المؤمنين يعلم أنّه وأبناءه جائعون ويعانون من الفقر المدقع، لكنّه أحمى الحديد، وأدناه من جسد عقيل، إلى درجة أنّ أنينه قد ارتفع، فقال له:
«ثَكِلَتْكَ الثَّوَاكِلُ يَا عَقِيلُ! أَتَئِنُّ مِنْ حَدِيدَةٍ أَحْمَاهَا إِنْسَانُهَا لِلَعِبِه، وتَجُرُّنِي إِلَى نَارٍ سَجَرَهَا جَبَّارُهَا لِغَضَبِه (على الظالمين)» ٤؟!
كما أنّ ابنته استعارت عقدًا من بيت المال، فنهرها الإمام عليه السلام بشدّة٥، وقد اعتلى الإمام الحسن عليه السلام منبر الكوفة بعد وفاته عليه السلام، وقال:
«والله ما خلّف درهمًا ولا دينارًا إلاّ أربعمائة درهم ، أراد أن يبتاع لأهله خادمًا»٦.
أجل، فهو بنفسه الذي قال:
«وَاللهِ لَو أُعطيتُ الأقاليمَ السبعةَ بِما تَحتَ أَفلاكِها على أن أَعصِيَ اللهَ في نَملةٍ أسلُبُها جِلبَ شَعيرةٍ ما فَعَلتُ! وإِنَّ دُنياكُم عِندي لَأَهونُ عِندي مِن وَرَقَةٍ في فَمِ جَرادَةٍ تَقضِمُها»۷.
فهذه مسألة حقيقيّة! فتوضع هذه المسألة، ويُقال حينئذ: «أيّها الإنسان، تفضّل على بركة الله! أيّها المدّعون، تعالوا لكي نوزن أعمالكم!».
وفضلاً عن أنّه مستعدّ للتخلّي عمّا يقع تحت يديه من الأفلاك في مقابل عدم سلب جلب شعير من فم نملة، فإنّه يُقسم بأنّ الابتلاء بأشدّ العقوبات أحبّ إليه من ظلم أحد:
«واللهِ لَأَن أبيتُ على حَسَكِ السعدانِ (وهو شوك خاصّ وقاس) مُسَهَّدًا وأُجَرَّ في الأغلالِ مُصَفَّدًا أَحبُّ إلَيَّ مِن أن أَلقَى اللهَ ورَسولَه يَومَ القِيامةِ ظالِمًا لِبَعضِ العِبادِ وغاصِبًا لِشَيءٍ من الحُطامِ»۱.
وكذلك في مقام الإيثار والإنفاق على المساكين، فإنّ إيثاره وإنفاقه عليه السلام يُجعلان معيارًا: ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا﴾٢، كما يُجعل جهادُه عليه السلام ميزانًا في مقام الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس والألسن، ويُتّخذ كظمه للغيظ وطهارته ميزانًا أيضًا في مقام كظم الغيظ والعيش من دون أهواء ونزوات.
فحينما كان الإمام عليه السلام متوجّهًا إلى البصرة من أجل صدّ أصحاب الجمل، حطّ رحاله بالربذة، وانهمك داخل خيمته في إصلاح نعله، فجاءه حجّاج كانوا في طريق عودتهم من مكّة، ليطرحوا عليه بعض الأسئلة، ويلتقوا به، وظلّوا ينتظرونه خارج الخيمة، فدخل عليه عبد الله بن عبّاس، وقال له: «نحنُ إِلى أنْ تُصلِح أمرَنا أحوجُ مِنّا إِلى ما تَصنعُ».
فلم يعتن أمير المؤمنين بكلامه بتاتًا، إلى أن فرغ من إصلاح نعله، ثمّ ضمّها إلى صاحبتها، وقال: «(يا ابن عبّاس) قَوِّمْها»، فقال ابن عبّاس: «درهم أو نصف»، فقال أمير المؤمنين:
«والله لهما (أي هذا الزوج من النعال) أحبُّ إِليَّ من أَمرِكم هذا (ومن الحكومة التي تدعونني إليها)، إِلاّ أنْ أُقيمَ حقًّا أو أدفعَ باطلاً»٣!
قبس من إيثار الإمام عليّ عليه السلام وتضحيته في سبيل الله تعالى
وهكذا أيضًا في مقام الإيثار والتضحية بالنفس في سبيل الرسول الأكرم والدين، حيث تُجعل ليلة المبيت ودفاعه عليه السلام عن رسول الله في غزوة أحد وبقيّة الغزوات معيارًا وميزانًا.
فحينما خرج النبيّ الأعظم من مكّة، قال له [ما معناه]: «يا عليّ، نم في مكاني»، فنام أمير المؤمنين في مكانه صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم يقل: «إن نمت في مكانك، فما الذي سيحصل؟ هل سيقتلونني، أو لا؟»، فذلك لم يكن مهمًّا بالنسبة إليه، بل قال: «أو تسلمنّ بمبيتي هناك؟»، فقال النبيّ: «نعم»، قال [ما مفاده]: «سأنام».
فذهب أمير المؤمنين، ونام في مكان الرسول الأكرم، ووضع عليه برد النبيّ الأخضر، لكي يظنّ الجميع أنّه صلّى الله عليه وآله وسلّم هو النائم هناك، وظلّوا يقذفون أمير المؤمنين بالحجارة من الليل إلى الصباح، فلم يتحرّك ولم يقم من مكانه، حتّى لا يكتشفوا أنّه عليّ، وأنّ الرسول قد خرج، فيتبعونه، ويُمسكون به! فجعلوا يرمونه ويرجمونه بالحجارة طيلة الليل إلى الصباح.. أولئك الأربعون رجلاً من شجعان العرب الذين اجتمعوا في دار الندوة، وعقدوا مجلسًا للتشاور قرّروا فيه ضرورة قتل النبيّ الأعظم.
وقد جاء في الروايات أنّ جبرائيل ظلّ تلك الليلة جالسًا عند رأس أمير المؤمنين، وإسرافيل عند رجليه، وبقيا يُروّحان عليه إلى الصباح، ويقولان: «بَخٍّ بَخٍّ مَن مِثْلُكَ يَا بنَ أبي طَالِبٍ، وَاللهُ عَزَّ وَ جَلَّ يُبَاهِي بِكَ الملَائِكَة»۱.
ومن الواضح أنّ هذا إيثار وتضحية بالنفس؛ وحينئذ، هل كان أمير المؤمنين يعلم حقيقةً أنّه سينجو بنفسه؟! فأيّة قيمة للحياة هنا؟!
وأمّا حكاية دفاعه عليه السلام عن رسول الله في أحد، فهي عجيبة جدًّا، حيث فرّ الجميع، وهرب عثمان إلى أعلى الجبل، فانتهت الحرب، وهدأ أوارها، لكنّه ظلّ يعتقد أنّها لم تنته وأنّه سيُقتل، فهبط إلى أسفل الجبل بعد مرور ثلاثة أيّام بلياليها٢. كما هرب عمر وأبو بكر، حيث هربا منذ البداية، في حين، ظلّ أمير المؤمنين والرسول الأعظم [لوحدهما]!٣
وقد فرّ الجميع أيضًا في غزوة حُنين، حيث قالت نسيبة: «رأيت عمرًا يهرب، فقلت له: إلى أين تهرب؟! لقد تركت رسول الله لوحده! فقال: إنّ رسول الله هو بنفسه مَن أمرنا بالهروب!»، فكان في صدد الهروب، وهو أمرٌ ذكره السنّةُ أنفسهم!!٤ وأمّا أمير المؤمنين، فظلّ صامدًا لوحده؛ هذا، مع أنّهم لا يُوزّعون الحلوى في الحروب، بل هناك السيف وحسب، وقد ضُرب جسد أمير المؤمنين بالسيف، إلى درجة أنّه أصيب في أُحد بتسعين جراحة من الجراحات العميقة، بحيث كان يسقط بسببها على الأرض٥. وقد جاء في الروايات أنّ جبرائيل كان يأتي ويرفع أمير المؤمنين من إبطه، ويقول: «قم يا عليّ، فليس لرسول الله أحدٌ غيرك!» ٦. وحينما انتهت الحرب، سقط أمير المؤمنين طريح الفراش، وملئوا جسده بالضمادات، حيث كانت به جراحات من رأسه إلى قدمه تدخل فيها الفتائل۷.
وهكذا أيضًا، تُجعل ـ في مقام الإيثار والتضحية في سبيل الرسول الأكرم ودين الله تعالى ـ ليلةُ المبيت ودفاعه عليه السلام عن رسول الله في غزوتي بدر وأُحد وبقيّة الغزوات ميزانًا.
ومن المثير جدًّا الاطّلاع على ما حصل في معركة الأحزاب! ﴿وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا﴾۱، حيث قال المسلمون: «خذوا محمّدًا وأسلموه وانجوا بأنفسكم!» ٢.
﴿مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا﴾٣، «أي أنّ ما وعدنا به الله تعالى والرسول من الفتح كان كذبًا بأجمعه!».
وهنا، حيث لا يقدر أيّ أحد على التنفّس، يقول أمير المؤمنين: سأتقدّم من أجل الدفاع [عن الدين والرسول]؛ هذا مع أنّه لا يستطيع أيّ أحد في هذا الموقف التنفّس، لا أنّه لا يتنفّس، بل ﴿وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ﴾٤. فحينما ينتاب الإنسانَ الخوفُ الشديد، فإنّ رئتيه تصعدان إلى الأعلى مع قلبه، وتخنقانه؛ وهذا هو السبب الذي يُفضي إلى موت الإنسان خوفًا؛ وفي مثل هذه الظروف، تقدّم أمير المؤمنين [للحرب].
لكنّنا نجد البعض يُشهر سيفه عندما يكون الأوان أوان المجلس والمسجد، ولا توجد حرب ولا نزاع، فيقول: «يا رسول الله، دعني أضرب عنق هذا الأعرابيّ!»؛ فيُمسك بذلك الأعرابيّ المسكين، ويأتي به، ويقول: «دعني أضرب عنقه!». هل تعلمون من الذي قال ذلك؟٥ إنّهم المعارضون لأمير المؤمنين! فحينما كنتم في ميدان المعركة، كانت ألوانكم شاحبة [من الخوف]، وقلوبكم تخفق، وكنتم تقولون لبعضكم: «فلنمسك بمحمّد، ونسلمه، وننجو بأنفسنا!» ٦؛ لكن، عندما جئتم إلى المجلس والمسجد، تفتّقت شجاعتكم، وسللتم سيوفكم من أغمادها، وقلتم: يا رسول الله، ائذن لنا في الدفاع عن الدين!
قياس أعمال الأمّة والشيعة بأعمال أمير المؤمنين عليه السلام
وبشكل عامّ، سيُجعل الإمامُ نموذجًا بارزًا في جميع الصفات والأفعال، وتُقاس أعمالُ الأمّة والشيعة بأعماله، بحيث كلّما كان عمل الإنسان أقرب إلى عمله، وكانت إبرة ميزان عمله، وميزان صلاته، وميزان جهاده، وميزان زكاته، وميزان قراءته للقرآن، وميزان إيثاره، وميزان عبوديّته، و... أقرب إلى عمله عليه السلام ، كان ذلك العمل أصحّ وأثقل. وإذا افترضنا أن شخصًا قام بعمل خالصًا لوجه الله الكريم تمامًا، فإنّ إبرة ميزان هذا العمل ستستقرّ على عمل الإمام؛ وفي هذه الحالة، سيكون ذلك الشخص قد فني في مقام ولايته عليه السلام، وهنيئاً له! لكن، إذا لم يكن لدى الإنسان أيّ عمل صالح، فإنّ تلك الإبرة ستستقرّ في الجانب المقابل. وأمّا الأشخاص الذين لديهم عمل ولكنّه مشوب، فسيتواجدون في الوسط، وذلك بحسب اختلاف درجات إخلاصهم وعدم إخلاصهم؛ ولهذا، فإنّ لكلّ أحد في يوم القيامة مقامًا ومنزلة خاصّة.. هذا ما يتعلّق بكون الإمام عليه السلام ميزانًا.
وأمّا بالنسبة لكونه عليه السلام صراطًا أيضًا، فقد بحثنا عن هذه المسألة بالتفصيل: «السلام على الصراط الواضح والنجم اللائح»۱.
لقد تحدثنا عن موضوع الصراط على مدار عدّة ليالٍ، وتطرّقنا لموضوع الميزان في ليلتين، ونختتم هنا ـ بحمد الله تبارك وتعالى ـ بحث الميزان. ففي هذا الشهر الفضيل. شهر رمضان المبارك، تناولنا في سياق حديثنا عن المعاد عدّة مواضيع، شملت: القيامة، والحشر والنشر، والعرض، وتطاير الكتب، والشهادة، والصراط، والميزان. ولا تزال هنالك عدّة مواضيع أخرى تحتاج إلى بحث وتفصيل، ومنها: الشفاعة، والحساب، والجزاء، والأعراف، واللحوق، والجنّة، والنار. نسأل الله تبارك وتعالى أن يمنحنا التوفيق لاستكمال هذه البحوث بعد شهر رمضان المبارك، وذلك في ليالي الثلاثاء أو أيّام الجمعة، حتّى نتمكّن، بإذن الله، من استكمال مباحث المعاد، ثمّ ننتقل إلى مباحث أخرى.
نرجو من العليّ القدير أن يوفّقنا جميعًا إن شاء تعالى، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم من جميع الجوانب، وأن يُطهّر أعمالنا وأفكارنا ونوايانا من شوائب الرياء والإعجاب بالنفس والأنانيّة، وأن يجعلها كلّها له؛ وأن يجعلنا من شيعة أمير المؤمنين عليّ عليه السلام الحقيقيّين في الدنيا والآخرة؛ بمحمد وآله الطاهرين، صلّ على محمّدٍ وآله أجمعين.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد