156

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

2151
مشاهدة المتن

المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني

القسمعنوان البصري

المجموعةتفريغ القلب لتلقي دستورات الأولياء

التاريخ 1429/07/15

جلسات المجموعة(7 جلسة)

التوضيح

أثار سماحة السيّد محمّد محسن الطهرانيّ (قدّس الله سرّه) في هذه المحاضرة شعلة محكمة لا تشابه فيها، حين التفت إلى أقسام الآيات القرآنية المحكمة منها والمتشابهة، فجعل النفس إحدى تطبيقاتها، فالنفس إمّا محكمة أو متشابهة. وأورد لكلّ منهما جملة مِنَ المصاديق، تميّزت بالدقّة والمحوريّة، ملاحظًا أثرها في البناء السلوكيّ للنفس على المستويين الشخصيّ والاجتماعي. ومِن تلك المصاديق؛ خطيب يُحرّف تفسير آية – مسألة لطفية عن الشيخ مرتضى الحائريّ رحمه الله – تعطيل نعمة العقل – سقيفة بني ساعدة – الحرّ بن يزيد الرياحيّ – رفع المصاحف في صفّين – قضيّة حصلة مع سماحة المحاضِر – بدعة أداء صلاة التراويح جماعة – المختار بن عبيدة الثقفيّ .. واشتملت المحاضرة على تفسير دقيق لجملة مِنَ الآيات القرآنيّة. ولم يخل المقام مِن فقرات تلخّص مقاطع بحثه بأجمل إيجاز. وختم بثلاث إضاءات تتعلّق بالأشهر الثلاثة (رجب وشعبان ورمضان) وهي: السكوت والعِشرة والبيئة.
/۲۲
بي دي اف بي دي اف الجوال الوورد

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

1
  •  

  • هو العليم 

  •  

  • مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

  •  

  • شرح حديث عنوان البصريّ – الجلسة ۱٥٦

  •  

  • ألقاها: 

  • آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ

  • قدس الله سره

  •  

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

2
  •  

  •  

  • أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم

  • بسم الله الرحمن الرحيم

  • الحمد لله ربِّ العالمين

  • والصلاة والسلام على سيّدنا أبي القاسم محمّد

  • (اللهمّ صلّ على محمّدٍ وآلِ محمّد)

  • وعلى آله الطيّبين الطاهرين واللعنة على أعدائهم أجمعين

  •  

  •  

  • تنقسم الآيات إلى آيات محكمة ومتشابهة وكذلك النفس الإنسانيّة

  • وصل بنا الكلام في شرح حديث الإمام الصادق عليه السلام – على ما أذكر – إلى المطلب الّذي أشار إليه عنوان البصريّ، وهو أنّ الناس عندما يصلون إلى مفترق طرق في حياتهم اليوميّة، ينقسمون إلى مجموعتين، مِن حيث قبولهم ورفضهم للحقّ؛ فمنهم مَن تكون نفسه محكمة، ومنهم مَن تكون نفسه متشابهة. وفي شرحي للموضوع استدلّيتُ بالآية الشريفة {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‌ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ}۱، فيُقسّم الله الآيات القرآنيّة مِن حيث المواضيع الّتي تتحدّث عنها إلى مجموعتين هما:

  • الآيات المحكمات؛ وهي الآيات الّتي لا ترديد ولا شكّ ولا شُبهة فيها، وذلك لكونها واضحة المعنى لا تقبل التأويل والتفسير بغير ما تُشير إليه. وقد ذكرتُ نماذج مِن تلك الآيات للإخوة.

  • أمّا المجموعة الثانية فهي الآيات المتشابهات؛ وهي الآيات الّتي يمكن تأويلها وتفسيرها بغير معناها الحقيقيّ، لذا نرى كيف يستغلّها أصحاب النفوس المريضة والمعوجّة في الاستدلال على مقاصدهم المنحرفة. فيقول الله هنا: أنَّ مَن في قلبه زيغ – زيغ تعني الظلمة النفسيّة والانقباض القلبيّ وهو الانحراف في النتيجة – يتمسّك بهذه الآيات للاستدلال، فعندما يريد أن يستدلّ بالقرآن يتمسّك بها، فهو عندما يقرأ القرآن يبحث عن تلك الآيات الّتي يمكن أن يستغلّها للوصول في يوم مِنَ الأيّام إلى أهدافه الدنيويّة والنفسيّة.

  • إنَّ كيفيّة قراءة القرآن وكيفيّة التمعّن في معاني آياته، لمسألة دقيقة للغاية، فعلى الإخوة الانتباه لها.

  • مِن مصاديق النفس المتشابهة؛ خطيبٌ يُحرّف تفسير آية

  • حضرتُ في الأمس أحد المجالس، وقد طُرحت فيه مواضيع مختلفة. فذكر الخطيب بعض الأحكام الإلهيّة مبيّنًا أنَّها لا تنسجم مع طبيعة وشؤون المجتمعات الحاليّة. ولم يكن الرجل يذكر وجهة نظره طبعًا، بل كان ينقل عن بعض أهل العلم، وهي مواضيع مِن قبيل؛ رجم الزاني المُحصَن (بفتح الصاد لا كسرها)، وقطع يد السارق حيث جاء في الآية {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}٢.

    1. سورة آل عمران (٣)، الآية ۷.
    2. سورة المائدة (٥)، جزء مِنَ الآية ٣۸.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

3
  • مِنَ الواضح هنا أنَّ الآية تشير إلى وجوب قطع يد السارق، على أنَّ ذلك يستلزم توفّر بعض الظروف، فلا يمكن قطع يد السارق في جميع الأحوال، بل لا بدّ مِنَ التحقّق إن كان السارق فقيرًا أم لا، وهل كانت سرقته عن ضرورة اضطرّته لذلك أم لا، وهل كان يعلم حكم السرقة أم لا، وتحت أيّة ظروف نفسيّة كان .. فلا بدّ مِن ملاحظة جميع هذه الأمور قبل إجراء الحكم، وإلّا فلا يمكن وضع الناس في صفٍّ، ثمّ البدء بقطع أيديهم أو إعدامهم! فكلّ شيءٍ هنا مبنيٍّ على قواعد وأصول.

  • نعم، تتحدّث تلك الآية عن هذا الموضوع، وهي واضحة الدلالة، وقد ذُكر موضوعها في الروايات الواردة عن الأئمّة، وتمّ تطبيق حكمها طوال التاريخ الإسلاميّ، وبعد كلّ هذا يأتي ذلك الرجل ويقول: إنَّ المقصود مِنَ القطع في الآية ليس قطع اليد، بل إنَّ معنى اليد هنا هو السلطة، وذلك نظير ما جاء في آية {يَدُ الله فَوْقَ أَيْديهِمْ}۱، والّتي تعني أنَّ سلطة الله وحكومته وولايته مهيمنة عليهم، ونظير رواية «يَدُ اللهِ مَعِ الجَمَاعَةِ»٢ والّتي تعني أنَّ يد الله على رؤوس جماعة المؤمنين، ونظير الآية {وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْديهِمْ}٣. [ويقول ذلك الرجل:] إنّ معنى اليد في جميع هذه النظائر هو المعنى المراد مِنَ اليد في آية {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما}، وهو معنى السلطة، [فتصبح معنى الآية بحسب زعمه] أنّه لا بدّ مِنَ الحدّ مِن سلطتهم وذلك بأن يُلقى بهم في السجن!!

  • انظروا فإنّ الآية صريحة في دلالتها على قطع اليد، وكأنَّه قد غاب عن الرجل هذه الآية {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْديهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ}٤، وهي الآية المتعلّقة بحكم المفسدين في الأرض؛ الّذين يقطعون الطرق ويسلبون البلاد الإسلاميّة أمنها، ويجعلون المجتمع يعيش في حالة مِنَ الاضطراب وانعدام الأمن. فحكم هؤلاء هو أن تُقطّع أيديهم وأرجلهم مِن خلاف. ما الّذي تعنيه كلمة {مِنْ خِلافٍ}؟ إنَّها تعني قطع اليد اليُمنى والرجل اليُسرى. فهل في اليمين واليسار معنى الولاية والسلطة؟! كلّا، ليس فيهما ذلك. فما الّذي قادهم حينئذ إلى تلك تفسير الآية بمثل ذلك التفسير؟! إنَّه تهرّبٌ مِنَ الحقيقة والواقع وسيرٌ وراء ميولهم وأهوائهم النفسيّة، وأوهامهم وتخيّلاتهم.

    1. سورة الفتح (٤۸)، جزء مِنَ الآية ۱۰.
    2. نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص ۱۸٤.
    3. سورة المائدة (٥)، جزء مِنَ الآية ٦٤.
    4. سورة المائدة (٥)، جزء مِنَ الآية ٣٣.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

4
  • قد يتوهّم الإنسان توهّمًا أبلهًا أو يخطر على باله خاطر معيّن، ولكن لمّا كان لا يستطيع أن يطرح ذلك بوضوح وصراحة على المجتمع، لعلمه أنّ المجتمع سيرفضه، تراه يبحث عن دليل يُعزّز به رأيه، فيأخذ في البحث في الآيات والروايات مِن أجل الوصول إلى ضالّته، فيترك مئة رواية تتحدّث عن ذلك الموضوع، ويتمسّك برواية واحدة ليس لها أيّ سند أو أساس ويقول بما جاء فيها.

  • [مثًلا] جاء عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «سلوني قبل أن تفقدوني»۱، وعن الإمام الصادق عليه السلام قوله: سلوا عمّا دون العرش فعلمه عندنا. وهذه الروايات قد نُقلت في كتب الشيعة بالتواتر المعنويّ لا أنّها مستفاضة فقط٢، كما أنّها وردت في كتب أهل السنّة نقلًا عن أمير المؤمنين عليه السلام أيضًا. فمع كلّ هذا، تجد أحدهم يترك جميع هذه الروايات ويتمسّك برواية واهية لا أساس لها، يجدها في إحدى كتب أهل السنّة، تتحدّث عن جهل النبيّ بتأبير النخيل٣، أو [جهله] بأمور الزراعة والحِرف المتداولة في تلك الأيّام. إنَّ هذا الرجل [الّذي يقوم بهذا العمل] هو رجل مريض، لأنّه يتمسّك برواية واحدة منقولة في إحدى كتب أهل السنّة – وكلّنا يعرف ما هي حالة رواياتهم – ويترك وراء ظهره جميع الروايات الصحيحة سندًا، والّتي لا تقبل الشّك والطعن، وهي ليست رواية واحدة أو اثنين، بل هي بالعشرات، تتحدّث عن طبيعة علم الإمام.

  • فلا يمكننا – والحال هذه – إلّا أن نقول أنّ هذا الرجل مُصاب بمرض نفسيّ؛ فهو بسيرته وطريقة تفكيره هذه لا يسعى للوصول إلى الحقيقة، بل يسعى لتبرير أوهامه وتخيّلاته، تلك الأوهام والتخيّلات الّتي لا تقف عند حدّ معيّن، بل ستستمرّ على ما هي عليه [مِنَ الضلال] إلى آخر المطاف.

  • هناك أمر ليس بجديد، فهو موجود منذ أن خلق الله آدم أبو البشر وسيستمرّ إلى يوم القيامة، ألا وهو: أنّ الإنسان وهو في خضمّ الحقّ والباطل، كيف يتصرّف .. وكيف يختبر نفسه .. وكيف يتحقّق مِنَ المجريات حتّى لا يُوقعه الله في ذلك الإبتلاء .. [وكيف] يبحث عن الحقيقة وعن أصل المسألة وأساسها، قبل أن يفكّر في تحقيق تلك المنافع والميول الدنيويّة والنفسانيّة ..

    1. الوافي، للفيض الكاشانيّ، ج ۱، ص ٣٦۸. (م)
    2. التواتر المعنويّ هو اشتراك جملة كبيرة مِنَ الأخبار في نقل قضية واحدة بمعناها لا بألفاظها.الاستفاضة هو كل خبر كثر رواته في طبقة واحدة ولم يبلغ حدّ التواتر. (م)
    3. تأبير النخيل هو تلقيح طلع الإناث مِنَ النخل بطلع الذكور منها. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

5
  • نعم إن أخطأ أحدهم في هذا المجال، فذلك أمر آخر. فقد يقع الإنسان في الخطأ حتّى وهو يسير في الطريق الصحيح، فلا يمكن لأحدنا أن يدّعي عصمة نفسه، ولكنّه يستطيع – والحال هذه – أن يُصحّح أخطاءه وأفكاره الباطلة ويتلافى ما قد حصل. وهذه واحدة مِن بديهيّات الأمور. أمّا أن يقوم المرء باستغلال بعض الوسائل الضعيفة والناقصة والّتي تحتمل الصدق والكذب، وذلك لتبرير أفعاله وأهدافه، فهو أمر باطل. ولذا قال الله في تلك الآية أنَّ مَن في قلبه زيغ وانحراف فهو لا يتّبع الآيات المحكمات الواضحات الّتي تهدي الإنسان إلى طريق الحقّ.

  • من مصاديق النفس المحكمة: الشيخ مرتضى الحائريّ (رحمة الله عليه)

  • كم مِنَ الآيات القرآنيّة تدعونا إلى السير بخطى يقينيّة. لن تجد آية أكثر صراحة في دلالتها مِن تلك الآيات الّتي توجب على الإنسان أن يكون على علم ويقين، وأن يكون قاطعًا بصحة الطريق الّذي يسير عليه، وأن لا يكون كعامّة الناس الّذين يعتمدون على الظنّ والحدْس في حياتهم اليوميّة ويعيشون حالة الشكّ والترديد. [لاحظوا] آية {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}۱، وآية {يَرْفَعِ اللهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ}٢، فالله يرفع درجات الّذين أوتوا العلم، ويرفع الحُجب النفسانيّة عن بصائرهم، وهذا الأمر خاصّ بالّذين يطوون مسير حياتهم وهم على عِلم، فهم الّذين لا يجد الشكّ والحدْس طريقًا إلى حياتهم. أمّا مَن يطوي مسير حياته بناءً على التشكيك والحدْس، فلو أمضى ألف عام لَمَا تكامل ولو بمقدار شعرةٍ، فهذه نتيجة مَن يعتمد على الشكّ والظنّ ويقول: يبدو أنَّ الأمر بهذا الشكل.. [أقول:] يا هذا، أنت المُلام على تبنّيك مثل هذا الاعتقاد. أو يقول: أظنُّ أنَّ القضية تتمحور حول هذه الفكرة .. [أقول:] لا محلّ لظنّك هذا، بل يجب أن تكون على عِلم ويقين في أمورك الاعتقاديّة، أو قريبًا مِنَ العِلم إن لم يكن لك سبيل إلى العِلم اليقينيّ. ولهذا السبب نرى أنّ رؤية عامّة الناس ومعاملاتهم في مختلف المسائل تتعارض مع الآيات المحكمات في القرآن؛

  • فترى أحدهم يقول: ما دام فلان قد تبنّى فكرًا معيّنًا، فلا يجوز لك أن تقول ما يتنافى معه. [أقول:] مَن قال بهذا الشيء يا هذا، فهل يجب عليّ أن ألتزم الصمت وأمتنع عن التصريح بالحقٍّ لأنّه يتعارض مع ذلك الكلام، وذلك لا لشيء إلّا لكونه قد صدر عن فلان؟!هذه الأمور، لمّا كانت تتعارض مع الآيات القرآنيّة، فهي باطلة.

    1. سورة البقرة (٢)، جزء مِنَ الآية ٤؛ وجاء في سورة النمل (٢۷)، جزء مِنَ الآية ٣: وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ.
    2. سورة المجادلة (٥۸)، جزء مِنَ الآية ۱۱.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

6
  • [وترى آخر يقول:] ما دام عامّة الناس يتبنّون هذا الرأي، فيتوجّب علَيّ اتّباعهم. [أقول:] مَن قال بهذا الشيء، فإن كان الناس يريدون شرب السّم فهل يتوجّب عليك أن تشربه أيضًا؟! إنَّ هذا المنطق باطل.

  • [وقد تجد مَن يقول:] بما أنَّ لفلان مكانةً اجتماعيّة مرموقة، فينبغي للإنسان أن لا یسمح لفکره وعقله بالحركة والتحليق والتأمّل. [أقول: ولم ذلك] فلعلّنا نكون أفضل منه.

  • ذهبت يومًا لزيارة أستاذي المرحوم الشيخ مرتضى الحائريّ رحمه الله، ذلك الأستاذ الّذي أستطيع أن أقول بحقّ أنَّني قد تعلّمت مِن دروسه وأبحاثه أكثر ممّا يجب أن أتعلّمه، فقد كان رجلًا ثاقب النظر للغاية ومتواضعًا جدًّا. كان يحصل أحيانًا أن أجلس معه بعد انتهاء الدرس وأتباحث معه حول موضوع الدرس، فعندما تصل مباحثتنا إلى نقطة عقليّة، أي عندما كان البحث يتجاوز حدوده الفقهيّة ويدخل – مِن حيث شئنا أم أبينا – في دائرة البحث العقليّ، كان يقول: أنا لا أعرف في هذا المجال شيئًا، اذهب واسأل والدك عنه – إذ كان صديقًا حميمًا للمرحوم العلّامة – نعم كان يقول ذلك بكلّ صراحة وبدون أيّ مجاملات. وكم هو مستحسن أن يكون الجميع على هذه الشاكلة. وعندما ذهبت لزيارته، بمعيّة المرحوم العلّامة يومًا، قال: إنَّني أندهش ممّا مَنَّ الله به علَيّ مِن نِعَم، فأنا لم أدخل مدرسة ولم أتعلم فيها، بل كلّ ما هنالك أنَّ والدي أرسلني إلى الكتاتيب۱ لأتعلّم فيها، ومع ذلك فإنَّني عندما أقرأ الآن المواضيع الّتي كتبها الشيخ الطوسيّ، أرى أنّ الله مَنَّ علَيّ وجعلني متقدّمًا عليه في العلم وأثقب نظرًا وأعمق فكرًا منه. [أقول:] الرجل صادق في كلامه هذا، نعم لقد كان صادقًا ومستقيمًا لا يعرف الخداع، لقد كان فيه عِرق دينيّ، وكان مِنَ المتمسّكين بالولاية (رحمه الله) .. فكم يوجد مِن أمثاله؟ نعم، يوجد مِن أمثاله القليل، هذا إن وُجد فعلًا.

  • ما المانع أن يكون هناك مَن هو أعلم مِنَ الشيخ الطوسيّ، وإن كان يُكنّى بشيخ الطائفة، فهو ليس بإمام وليس معصومًا. أمّا المعصومون الأربعة عشر، فلا يصحّ لنا أن ننبس في قبالهم ببنت شَفة. أمّا سواهم فهم مِن بني البشر ولم يمنحهم الله العصمة، إلّا اللهمّ المُخلَصين منهم، الّذين بلغوا مقام الإخلاص بسبب متابعتهم للأئمّة عليه السلام، فلهؤلاء شأن آخر وهم مِنَ النوادر. نعم، إنَّ للوليّ الإلهيّ خصوصيّته، فأمره يختلف عن غيره، أمّا الآخرون أمثالنا، فشأننا بأن نقوم بمطالعة الكتب ونستنتج منها، كلّ بمقدار إدراكه وفهمه وسعة اطّلاعه، ووفق ما أتاحته له الظروف، ووفق ما تبلور لديه مِن أفكار كانت حصيلة تجارب متفاوتة، فهذا بطبيعة الحال يختلف مِن رجل لآخر.

    1. الكتاتيب جمع كُتّاب، وهو مكان يكون تحت إشراف شخص يُعلّم الناشئة القراءة والكتابة وحفظ القرآن وغيرها، وكان المسلمون في العصور السابقة يعتمدونها حتّى حلّت محلّها المدارس. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

7
  • إنّ الإخوة يعلمون أنّ المواضيع الّتي تُطرح هنا، هي نفسها الموجودة في الكتب الفقهيّة والروائيّة وكُتب الحديث، وهي نفس المواضيع الّتي طرحها الأئمّة عليهم السلام، فنحن لم نأتِ بها مِن مكان آخر. هذه هي المطالب الّتي نقوم بالبحث والتحقيق فيها، فنستنتج منها أشياء تختلف عمّا يُستنتج منها في أماكن أخرى. فإنَّ هذا يحصل، رغم أنّنا لسنا مَن جعل تلك الروايات، ولا نستدلّ بأمور نختلقها، بل نعتمد على ما له حجيّة شرعيّة، ولا حجّة في استنباط الأحكام إلّا لثلاثة أشياء هي: القرآن أوّلًا، ثمّ روايات أهل البيت وسيرتهم، والعقل ثالثًا حيث يكون حجّة بمفرده في بعض الموارد .. أمّا الإجماع الّذي كان البعض يتمسّك به أيضًا، فقد نقضتُ برهانه وجعلتُه أمرًا مِنَ التاريخ۱.

  • وبناءً على هذه الأدلّة الثلاثة، قد يستنبط أحدهم حكمًا ويستنبط آخر حكمًا مغايرًا، ولا بأس في هذا، فلسنا معصومين عن الخطأ، إذ لا وجود للمعصوم إلّا في فرد واحد [في هذا الزمان] وهو الآن غائب عن الأنظار، وهو الّذي أمرنا بهذا، وجعل تكليفنا في زمان الغيبة هو التمسّك بروايات أهل البيت، فإن أخطأ أحدنا، فوليّ الدين والقيّم على أمره – وهو الغائب عن الأنظار الآن – سيعفو عنَّا، ما دام الأمر لم يكن وراءه غرض أو مرض، وإلّا سيوقفنا يوم القيامة، بل سيحاسبنا في هذه الدنيا أيضًا.

  • مِن مصاديق النفس المتشابهة: تعطيل نعمة العقل

  • يجب علينا أن نلتفت إلى أمر مهمّ هنا، وهو: عندما نقرأ القرآن وروايات أهل البيت وكُتب التأريخ وكلمات العظماء، هل يصحّ أن نقيّمها بناء على مدّخراتنا العقائديّة والفكريّة، أم يتوجّب علينا أن نقبلها على ما هي عليه ونعمل بموجبها؟! الآيات القرآنيّة والروايات، الّتي تتحدّث عن موضوع العلم واليقين، تأمرنا؛ أن لا نكون كالحيوانات الّتي تتّبع أيّ صوت يصدر مِن أيّ جهة، وأن لا نميل مع كلّ ريح .. ما الّذي تعنيه عبارة «يميلون مع كلّ ريح»٢؟ هي تعني [أنّ مثلهم كمثل] الأشجار الضعيفة والطريّة الّتي تنحني مع كل ريح تهبّ عليها، في مقابل الأشجار الشامخة ذات السيقان الغليظة الّتي لا تتأثّر بتلك الريح. فعلى الإنسان أن يقرّر بنفسه أيّ طريق سيختار في حياته.

    1. يشير سماحته هنا إلى كتابه (اجماع از منظر نقد ونظر) ومعناه (الإجماع في ميزان النقد). (م)
    2. نهج البلاغة، تحقيق صبحي الصالح، ص ٤٩٦: قَالَ كُمَيْلُ بْنُ زِيَادٍ: أَخَذَ بِيَدِي أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ (عليه ‌السلام) فَأَخْرَجَنِي إِلَى الْجَبَّانِ فَلَمَّا أَصْحَرَ تَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ ثُمَّ قَالَ: يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ، إِنَّ هَذِه الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ: النَّاسُ ثَلَاثَةٌ؛ فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ولَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

8
  • لا أعتقد أنَّكم ستجدون في بيان هذا الأمر آيةً أكثر صراحة مِن هذه الآية {قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا}۱، ونظائرها، فهي آيات تبيّن أنّ السبب في عدم طاعة تلك الأقوام لتعليمات أنبيائهم هو عدم رغبتهم في تغيير المسار الّذي سلكه آباؤهم، فقالوا: بما أنّ آباءنا كانوا يفعلون كذا وينتهجون ذلك النهج، فعلينا أن نستمرّ على ما كانوا عليه. [أقول:] ما كان يفعله آباؤكم خطأ، فليس مِنَ المفروض أن تكون جميع أفعالهم صحيحة، فهل يجب أن يكون كلّ نهج انتُهج في الأزمنة السابقة صحيحًا، وهل يجب أن تكون جميع الطُرق الّتي انتخبتها الأمم السابقة طرقًا مرضيّةً وحقّة؟! وهل يصحّ مصادرة حقّ الاختيار والتفكّر للأمم اللاحقة إن كانت [أفكارهم] مغايرة؟! أفلا ينبغي لمَن سيبنون مستقبل الأجيال القادمة أن يمتلكوا نفس الحقّ الّذي كان يمتلكه آباؤهم، أم أنّه حقّ مختصّ بالسابقين فقط وحِكرٌ على مَن عاش قبل ثلاثين أو خمسين أو مئة سنة؟! إن كان الأمر كذلك، وَجَبَ أن لا يحصل أيّ تبدّل أو تغيّر في التأريخ، لأنَّ تلك القوانين الموضوعة ستحول دون أيّ تطوّر علميّ أو تغيير صحيح أو تبديل أخلاقيّ يريدونه، إذ سيُقال لهم: بما أنَّ مَن كان قبلكم لم يفعل مثل هذا الشيء، فلا يحقّ لكم أن تفعلوه!

  • لقد جاء جميع الأنبياء مِن أجل كسر هذا السّد وتحطيمه، {أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}٢، أي هل يتوجّب عليكم أن تتّبعوا آباءكم حتّى إن كانوا جَهَلة وحمقى فيما فعلوه؟ أتلاحظون درجة الوضوح الّذي بُيِّن بها [القرآن] هذا الأمر، هذه هي الآيات المحكمات.

  • مِن مصاديق النفس المتشابهة: سقيفة بني ساعدة وما تبعها مِن أحداث

  • دعونا نتجاوز فترة ما قبل النبيّ الآن، ولْنقم بتحليل ما حصل مِن أحداث في حياته وما بعد ارتحاله، فسنجد عندها أنَّ جميع المصائب الّتي حلّت بالمسلمين إنَّما حصلت بسبب عدم عملهم بهذه الآية، فقاموا أوّلًا، تبعًا للأهواء النفسيّة ومتابعة للشائعات، بانتخاب الأوّل خليفةً لهم، فأجلسوه جورًا في غير مكانه، وجعلوا مِنَ الحقّ جليس بيته. وعندما جاء دور الخليفة الثاني نراهم – بدل أن يلتزموا [بما زعموه مِن] مبدأ الانتخاب – عملوا بما أوصى به أبو بكرٍ، الّذي قد أوصى بخلافة عمر مِن بَعده.

    1. سورة لقمان (٣۱)، جزء مِنَ الاية ٢۱.
    2. سورة البقرة (٢)، جزء مِنَ الآية ۱۷۰.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

9
  • البعض [مِمّن يُعدّون مِن علماء الشيعة] في هذه الأيّام يعتبرون، ولله الحمد! أنّ ما حصل في السقيفة هو شرف ومفخرة للإسلام!! [أقول:] هذه على كلّ حال، واحدة مِنَ مسائل آخر الزمان. [ولا عجب في ذلك] لأنّه لا يمكن أن يترشّح عن تلك الأفكار المتعفّنة أفضل مِن هذا. فحادثة السقيفة الّتي تُعتبر محطّة خزي وعار، ها هي تتبدّل اليوم لتصبح شرفَ و[محطّ] افتخار العالَم الإسلاميّ!! ويبرّرون ذلك بأنّ المسلمين حفِظوا بذلك الإسلامَ مِنَ الضياع!!

  • أيّها الحمقى، لو فرضنا جدلًا صحّة ما حصل في السقيفة، فانتخبتم ذلك الرجل المنحرف وغير اللائق للخلافة كأوّل خليفة لكم، بناء عليه كان عليكم أن تقوموا بتشكيل سقيفة أخرى [لتنتخبوا الخليفة الثاني]! فهل كان ما أوصى به ذلك الرجل [الأوّل] صحيحًا؟! أترون مقدار ما عليه الناس مِنَ الجهل؟! فلو كان مبدأ الشورى والانتخاب صحيحًا، فلماذا تركتموه وراء ظهوركم وعملتم بما أوصى به ذلك الرجل [الأوّل]، لماذا؟!

  • والأمر نفسه جرى في قضيّة اختيار عثمان للخلافة، فما حصل هو أنَّ عمر أوصى بتشكيل مجلسٍ يضمّ كلًّا مِن طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وعثمان وأمير المؤمنين ورجل آخر لعلّه كان ابن عبّاس۱، فيجلس هؤلاء الستّة ويُغلق عليهم الباب ويتشاورون فيما بينهم، ثمّ ينتخبون أحدهم للخلافة. وكان عمر قد خطّط للأمر بدقّة؛ فبناءً على الطبيعة الروحيّة لهؤلاء النفر لا يمكن أن يصل أمير المؤمنين إلى الخلافة بأيّ حال مِنَ الأحوال. وقال عمر: إن اتّفقت جماعة منكم على رجل، وخالفهم آخر فليُضرب عنق المخالف .. أنا لا أتذكّر تفاصيل هذه القضيّة بشكل دقيق، ولكن ما خطّط له عمر كان عجيبًا، وقد ذكر المرحوم العلّامة تفاصيل هذه القضية في كُتبه٢، ويبدو أنَّني ذكرت هذه القضيّة أيضًا في الجزء الأول مِن كتاب (أسرار الملكوت).

  • فإن كنتم تقولون أنَّ الأصول الديمقرطيّة هي الّتي أوجبت عليكم القبول بخلافة أبي بكر، فلماذا لم تعملوا بهذه الأصول في قضيّة خلافة عمر وعثمان، فلماذا لم تطبّقوا مبدأ الحريّة في الانتخاب مع هذين الخليفتين أيضًا!! أم أنّه لا يلزم تطبيقه إلّا مع أمير المؤمنين [علِيّ]، الّذي هجم الناس على بيته وكسروا بابه ووطؤوا الحسنين بأقدامهم مِن أجل أن يُجلسوه على كرسيّ الخلافة، ألا تحصل هذه الديمقراطيّة [المزعومة] إلّا في هذا المورد؟! ولكن أميرُ المؤمنين تمنّع عن قبول طلبهم، فلم يفعل كما فعل عمر الّذي ضرب بنت النبيّ وقطّع أوصالها مِن أجل أن يصل إلى الخلافة.

    1. كان الرجل السادس هو سعد بن أبي وقّاص. [المترجم]
    2. راجع كتاب معرفة الإمام، ج ۸، ص ۱٩٣. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

10
  • وإن كان البعض [مِمّن يدّعي أنّه مِن علماء الشيعة] هذه الأيّام، ولله الحمد! يُنكر حصول هذه الحادثة!! فكلّ شيء آخذ بالتبدّل، ويبدو ممّا نلاحظه أنَّ علامات القيامة آخذة بالظهور. فعندما يبدأ التزوير والتحريف يطال المسلّمات التأريخيّة والضروريّات، فيبدو أنّه ناجم عن تغيّر في دوران الكواكب السيّارة والأرض والسماء، على أنَّ كلّ ما يحصل إنَّما يحصل مِن قِبَلنا نحن لا مِن قِبَل المخالفين؛ [فترى] هذا يُنكر صحّة زيارة عاشوراء ويُشكّك في سندها، والآخر يُنكر حادثة تقطيع جسد بنت النبيّ، ويأتي ثالث ليُبرّئ عمر مِن قوله في النبيّ حال احتضاره: إنَّ الرجل ليهجر۱.

  • أتعلمون ما هو معنى كلمة (الرجل) [في قول عمر عن النبيّ: إن الرجل ليهجر]؟ أتريدون أن أقول لكم معناها؟ إنَّها والعياذ بالله تعني الاستصغار، فهو يقول: إنَّ هذا قد بدأ بالهذيان. ومع كلّ ما صدر مِن هذا الرجل عديم الحياء، يأتي مِن علمائنا مَن يُبرّئ عمر مِن مقولته تلك قائلًا: هل مِن المعقول أن يصدر مثل هذا الكلام عن عمر؟! أترون كيف يقوم هذا الرجل بتبرئة عمر مِن ذلك الكلام الّذي ذكره أهل السنّة قَبْل الشيعة في كتبهم، فيعدُّ هذا الرجل مِنَ المتّقين والزهّاد!! أتلاحظون إلى أيّ حدّ وصلت بنا المصائب .. اذهبوا واقرؤوا بأنفسكم ما ذكره هذا الرجل في أحد كتبه.

  • إنَّ كلّ ما جرى على الأمّة الإسلاميّة كان بسبب تركهم العمل بتلكما الآيتين القرآنيّتين: الأولى [الّتي تفيد] أنّ إقدامك على عمل يجب أن يكون عن علمٍ ويقينٍ. والثانية [الّتي تفيد] أن الطريق الّذي يجب أن تنتخبه للسير عليه هو الّذي يوصلك إلى مرحلة العلم واليقين، أو لا أقَلّ أن يمنحك الاطمئنان النفسيّ.

  • فلو جعلنا – اعتبارًا مِنَ اليوم – هذه المبادئ نصب أعيننا وعملنا بموجبها؛ فهل سنقوم حينئذٍ بأيّ عمل كان؟! وهل سنُقلِّد أيًّا كان، ونتواضع وننقاد لأيّ رجلٍ – إنَّ المقصود مِنَ التواضع هنا هو التواضع المعنويّ طبعًا – وهل سنسلّم بعد ذلك مقاليد أمورنا لأيٍّ كان؟! وهل سنسير في أيّ طريق يصادفنا؟! وهل سنصغي إلى كلّ شائعة نسمعها؟! إلى آخره مِنَ تساؤلات ..

    1. يصطلح البعض على هذه الحادثة بـ (رزيّة يوم الخميس)، وفاضت كتب الشيعة والسنّة بها، حين طلب النبيّ وقت احتضاره دواة وقلم ليكتب لهم ما لا يضلوا بعده أبدًا، فقاطعه عمر قائلًا: إن الرجل ليهجر. وقد استوفى السيّد العلّامة محمّد حسين الطهرانيّ البحث حول هذا الموضوع في كتابه (معرفة الإمام): ج۱ ص٢۸٩، ج۷ ص٢٣، ج۸ ص۱۱٩، ج٩ ص٢۰۱، ج۱٣ ص۱۰٦، ج۱٤ ص٢٦. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

11
  • مِن مصاديق النفس المحكمة؛ الحرّ بن يزيد الرياحيّ

  • ما الّذي قاله الإمام الحسين عليه السلام في يوم عاشوراء، إنَّ كلّ ما قاله الإمام يوم عاشوراء يتلخّص في هذه الجملة: لماذا لا ترجعون إلى عقولكم أيّها الحمقى؟! نعم، إنّ هذه الجملة خلاصة وعصارة ما كان الإمام وأهل بيته وأصحابه قد خاطبوا به القوم. فكلّ كلامهم مع القوم، كان يتمحور حول هذا الأمر وهو: أين ذهبت عقولكم، أأصبحتم سُكارى وحيارى ومذهولين، هل أصبحتم مِنَ الذين لا يعقلون؟!

  • فما الّذي فعله الحرّ [الرياحيّ]؟ إنَّه استثمر عقله، ووضع في رأسه شيئًا آخر بدل أن يملأه جبسًا۱، فأخذ يُفكّر في نفسه ويقول: ما الّذي يجري هنا، فما هو الذنب الّذي ارتكبه الإمام الحسين عليه السلام؟! نعم جلس الحرّ يُفكّر في الأمر، فأعانه الله ومنحه التوفيق، فأشرق عليه نور مِنَ ذلك الجانب، وبمجيء النور تُحلّ جميع العُقد الواحدة تلو الأخرى. على أنَّ كلّ ذلك يحصل بتوفيق مِنَ الله، فلا ينبغي لنا أن نُفكّر بغير هذا الشكل. فلمّا كانت نفس الحرّ صافية، وخالية مِنَ الحقد والضغينة [أنقذه الله].

  • أمّا ما فعله الحرّ قبل ذلك فكان عن جهل، وسيتجاوز الله عنه، وسيعفوا عنه الإمام الحسين. فلم تكن فعلته تلك عن عناد، بل كانت على عينيه غشاوة حالت بينه وبين إدراك الأمر بصورةٍ صحيحةٍ؛ فكان يعتقد بإمكانيّة حصول حلّ وسط للمشكلة بين الإمام الحسين (عليه السلام) وبين يزيد، بأن يتمّ إبعاد الإمام الحسين إلى إحدى المدن، أو أن يواصل حركته باتّجاه آخر .. نعم هكذا كان مستوى تفكير الحرّ في بداية الأمر، ولم يكن يعلم أنَّ الجيوش قد أخذت، الواحد تلو الآخر، بالوصول إلى المنطقة .. فما الّذي حصل لكم أيّها القوم حتّى تقوموا بهذا العمل، فهل انقلب أحد على السلطة الحاكمة، أم أنّه مجرد قدوم رجل مع اثنين وسبعين مِن أصحابه بنسائهم وأطفالهم؟!

  • فأحضر الحرّ صفاءَ باطنه في يوم عاشوراء، فاستنقذه ممّا كان فيه .. فلم يكن الحرّ مِن مصاديق الآية {فَأَمَّا الَّذينَ في‌ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، بل استعان بآيات الله المحكمات، فاستحضر العلم واليقين وأخذ يُعيد الأمور وفق الحسابات المنطقيّة، فقال: هل ارتكب ابن النبيّ الزنا والعياذ بالله – والحال أنّ أولئك مرتكبوا الزنا يمشون في الشوارع بكلّ حريّة – أم أنّه كان مِن شاربي الخمر – والحال أنّ نصف أفراد المجتمع يشربون الخمر سرًّا – أو أنّه كان يلعب القمار والشطرنج – والحال أنَّ جميع الناس تلعب الشطرنج هذه الأيّام بلا مانع يمنعهم – أو قد تسلّق جدران البيوت وتعدّى على ساكنيها؟! فرأى الحرّ أنّ شيئًا مِن ذلك لم يصدر مِنَ الإمام، بل ها هي صلاة الإمام الحسين وصيامه، وها هي سيرة حياته اليوميّة. فما الّذي أراده الإمام الحسين؟ يقول الإمام الحسين عليه السلام: لقد تضمّن الاتّفاق الّذي تمّ بين أخي وبين معاوية والد يزيد، أن أَلتزم الصمت طوال فترة حياة معاوية، [وقد فعلت]، أمّا الآن وقد مات معاوية وأصبحت الخلافة مِن حقّي، فبأيّ حقٍّ يجلس يزيد اللاعب بالكلاب والقردة على كرسيّ الخلافة؟!

    1. الجِبْس مادة تستعمل في جبيرة الكسور، وقد تستعمل في البناء كالجصّ. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

12
  • فأخذ الحرّ يستحضر جميع هذه الأمور في ذهنه ويزنها بعقله، فكان قد وضع في رأسه مخًّا بشريًّا، لا مخًّا حيوانيًّا أو جبسًا، فقارن بين المعسكر الّذي هو فيه والمعسكر الآخر، وفكّر في الأمور تفكيرًا منطقيًّا، فوجد جهنّم في هذا الجانب والجنّة في ذاك، وبهذا اتّضحت له جميع الأمور. وعندما يصل المرء إلى هذه المرحلة، يأتيه الشيطان عادةً ويقول له: إن ذهبت إلى هناك سوف تُقتل، وسيحلّ بأهلك وعيالك كذا وكذا .. وبهذا تقع النفس في دوّامة. غير أنَّ الحرّ ركل جميع هذه الأفكار برجله، ولعن كلّ ما قد يحول بينه وبين التحاقه بمعسكر الإمام الحسين. فما هذا الّذي حصل هنا؟ الّذي حصل هو أنَّ الله أعان الحرّ وهداه إلى الطريق الصحيح.

  • كان الحرّ يشعر في هذا الموقف بالخجل، ممّا كان قد فعله [بالإمام الحسين قبل توبته]، فكيف سيذهب إلى الإمام الحسين والحال هذه! لم يكن الحرّ يعلم أنَّ الإمام الحسين هو البحر المحيط، فهو لا ينظر إلى تلك الأمور أبدًا حتّى لو فعل الحرّ مثلها أضعافًا مضاعفة، فإنَّ الإمام يقول هنا: لا شأن لي بماضيك، فكلّ ما يهمّني مِن أمرك هو ما أنت عليه الآن، فأنا لست مِن أهل الحقد، فلا شأن لي بماضيك، ولن أفتح ملفّك لأنظر فيما فعلت في الماضي البعيد أو قبل سنتين – هذا ما عليه الآخرون عادةً – يقول الإمام هنا: لستُ مِن أهل الحقد والضغينة، بل أنا منزّه عنهما، فأنا البحر المحيط وأنا [مَظْهر] وجود الله غير المتناهي، نعم أنا مَظْهر وجود الله الّذي لا نهاية له، فمِمّ تستحي؟! أتستحي مِنَ الله؟! إنَّني مَظْهر لله، فتعال إلينا ولا داعي للخجل هنا.

  • وأنتم تعرفون الكيفيّة الّتي استقبل بها الإمامُ وأصحابُه الحرَّ، إنَّهم استقبلوه وكأنَّ شيئًا لم يكن، وكأنَّ الحرَّ لم يسدّ الطريق بوجه الإمام ولم يتسبّب بكلّ ما حصل [بعد ذلك] .. إذ لو لم يفعل الحرّ ذلك لَمَا حدثت واقعة عاشوراء، ولأخذت الأحداث مجرى آخر؛ فلربما كان الإمام سيذهب إلى اليمن حيث تتواجد أعداد مِن شيعته هناك تحفظه. نعم، إنَّ كلّ ما حصل في عاشوراء مِن قتلٍ واستشهادٍ، كاستشهاد علِيّ الأصغر وغيره، إنَّما كان بسبب ما فعله الحرّ في بداية الأمر. ومع كلّ هذا فقد استقبله الإمام وكأنَّه لم يفعل شيئًا. بل أكثر مِن هذا؛ فالإمام لم يُلحق الحرّ بأصحابه وحسب، بل جعله بابًا للحوائج، فمَن يتوسّل بالحرّ يُستجاب دعاؤه.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

13
  • بناءً على هذا، فإلى مَن يجب أن يلتجأ المرء؟ فهل يوجد غير الأئمّة مَن نستطيع أن نلتجئ إليه؟ إن التجأ أحد إلى غيرهم فليس إلّا مجنونًا.

  • كان هذا نموذجًا مِن تلك المصاديق، وإن أردنا التوسّع في البيان فهنالك الكثير ممّا يمكن أن يُقال في هذا المجال، والإخوة مِن أهل الاطّلاع، فبإمكانهم استخراج المزيد مِنَ الجزئيّات والفروع.

  • مِن مصاديق النفس المتشابهة: رفع المصاحف على الرماح في صفيّن

  • {فَأَمَّا الَّذينَ في‌ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}، فإنَّ الّذين في قلوبهم ظلمة وانحراف يتوجّهون إلى [الآيات المتشابهات]، فما هو العامل الّذي يدعوهم للسعي وراءها؟ إنّه القلب .. ليس هنالك أيّة ظلمة وعتمة وإبهام في الآيات القرآنيّة، بل إنّ الظلمة موجودة في باطننا نحن، فلمّا كان الباطن مُظلمًا ستكون جميع الآثار المترشّحة عنه ظلمانيّةً. 

  • إنَّنا نقرأ القرآن، غير أنَّ ما نستنتجه مِن آياته يكون ظلمانيًّا .. لقد كان معاوية وعمرو بن العاص يقرؤون القرآن أيضًا، ولكن عندما وصل بهم الأمر إلى وجوب التمسّك بما جاء في القرآن، رأيناهم يرفعون القرآن على رؤوس الرماح مِن أجل القضاء على القرآن الناطق، أي على علِيِّ بن أبي طالب (عليه السلام)، فقالوا: لماذا نتقاتل فيما بيننا، دعونا نحتكم إلى القرآن. [أقول: إن كان الأمر كذلك] فلماذا لم يقوموا بهذا بالأمس أو قبل أسبوع أو شهر؟! إذ استمرّت معركة صفين ثمانية عشر شهرًا، فلماذا لم يفعلوا ذلك خلال تلك المدّة، أم أنّ أوانه لم يكن قد حان إلّا في هذا الوقت، حتّى أتيتم الآن لتقولوا: حسبنا كتاب الله فلنحتكم إليه؟! أين كنتم مِن هذا الأمر طيلة الأشهر الثمانية عشر الماضية، ألم تتنبّهوا إلى وجوب الرجوع إلى القرآن إلّا في هذه اللحظة الّتي كان فيها مالك الأشتر على بُعْد أمتار قليلة مِن خيمة معاوية؟! إنَّ هذا هو أحد مصاديق المتشابهات.

  • فقد جاء [حينها] أولئك الّذين هم مِن أهل الظاهر إلى الإمام علِيّ وهم يقولون: لماذا تقاتلهم وها قد رفعوا المصاحف عاليًا؟! فقال لهم الإمام: لماذا لم يفعلوا هذا الأمر إلى الأمس؟! قالوا له: لقد كانوا مخطئين، وها هم يتراجعون عن خطئهم، فلماذا نقاتلهم؟! قال لهم الإمام: لقد قاتلناهم لمدة ثمانية عشر شهرًا مِن أجل أن نصل إلى هذه اللحظة الّتي سنجتثّ فيها هذه الجرثومة عن وجه الأرض، وأنتم تقولون توقف عن الحرب!! وهكذا حتّى وصل بهم الأمر إلى أن رفعوا السيوف فوق رأس أمير المؤمنين قائلين له: إمّا أن تأمر مالك الأشتر بالعودة أو سنُقطّع جسدك قطعة قطعة. إنَّ هؤلاء القوم هم ممّن في قلوبهم زيغ، فهم لم يجلسوا ليفكّروا في أنفسهم أنّه: لو كان القوم صادقين في دعواهم، لِمَ لَم يفعلوا هذا الأمر مِن قَبل .. وإن كانوا يدّعون التمسّك بالقرآن، فلماذا رفض معاوية خلافة الإمام علِيّ، وبغى عليه عندما بويع الإمام بالخلافة .. ولماذا فعل معاوية ذلك مع خلافة علِيّ ولم يفعل ذلك مع خلافة عثمان وعمر؟ أفلم يكن معاوية يؤمن بوجوب طاعة الخليفة، فللخليفة الحقّ في تنصيب الولاة وعزلهم، فلماذا تمرّد معاوية على الخليفة وقام بتنصيب نفسه خليفة؟ عمر هو الّذي نصّب معاوية [واليًا على الشام]، ولكن ها قد تسلّم الخليفةُ الرابع الخلافةَ، وهو يريد عزل هذا الوالي ..

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

14
  • كيف يمكن الإجابة على كلّ هذه التساؤلات؟! إنَّ مَن يمتلك شيئًا مِنَ العقل والفهم، ولم يكن في قلبه زيغ، سيتمكّن مِنَ التمييز بين الحقّ والباطل فورًا، وسيقول: هذا [الطرف هو طرف] المكر والاحتيال والكلام المزدوج؛ إذ ترى الرجل [منهم] يتكلّم بشكل ما في الأمس، واليوم يتكلّم بشكلٍ آخر؛ فقد كان كلامه بالأمس بهذا الشكل لأنّه يجلب له المنافع، أمّا اليوم فقد تبدّلت الأوضاع، فتراه يغيّر لهجته في الكلام. فطبيعة كلامه ليست مبنيّة على الحقّ والواقع، بل مبنيّة على تأمين مصالحه الشخصيّة وتعزيز مكانته الاجتماعيّة، لذا تراه يبدّل الكلام الّذي كان يجلب له المنافع بالأمس بكلام آخر، لأنّ كلامه الأوّل سيُلحق الضرر به إن تكلّم به اليوم، وتراه أيضًا لا يتردّد في اختيار العبارات وتركيب الألفاظ الّتي تحرف أفكار الناس ومسلكهم ما دام ذلك سيحفظ له مكانته الّتي يحتلّها.

  • مِن مصاديق النفس المتشابهة: الإعراض عن الحقّ بعد إقامة البيّنة عليه

  • بناءً على ما تقدّم، فإنَّ الأمر يعتمد على باطننا؛ فبما أنّ أنفسنا تعاني مِنَ المتشابهات النفسيّة، ترانا نأخذ مِنَ القرآن بالآيات المتشابهة بدل الأخذ بالآيات المحكمة. وبما أنَّنا نعاني مِنَ الانحراف النفسيّ، ترانا نحرف المؤشّر إلى الاتجاه المعاكس عند مواجهتنا للحقائق. وبما أنَّا نعاني مِنَ النقص والخلل، ترانا عندما نكون على مفترق طُرق بين الحقّ والباطل نقوم بحرف الشاقول۱ نحو الجهة الباطلة ونسير فيه .. لماذا نسير في الاتجاه الباطل ولا نسير في الاتجاه الحقّ؟!

  • كنتُ في مجلسٍ يضمّ أربعين أو خمسين شخصًا، وذلك قبل اثنتي عشر أو ثلاثة عشر عامًا، فتكلّمتُ فيه عن موضوع ما، وبعد انتهائي مِنَ الكلام قلت لهم: مَن لديه سؤال عمّا تحدّثتُ عنه الآن فليسأل إن شاء، فلا أريد مِن أحد أن يقول بعد ذلك أنّه لم يستلم إجابة عن سؤاله، أو أنَّه لم يسأل مراعاةً لبعض الأمور، أو أنّه وجد أنّ السؤال يخالف المصلحة، فما زلت متواجدًا في هذا المكان وعليكم أن تسألوا أسئلتكم. فأخذوا يسألون عن مختلف جوانب الموضوع، وعندما انتهت أسئلتهم قلتُ لهم: ألا يوجد سؤال آخر، ألم يبقَ أيّ إبهام لديكم، فإن لم يكن هناك أيّ إشكال بعدُ فلنختم المجلس بالصلاة على محمّد وآل محمّد .. فصلّوا على النبيّ وآله واختُتم المجلس.

    1. وله تمسيات أخرى كالمضمار والفادن؛ وهو خيط في إحدى طرفيه ثقل، وقد يكون معه عصا؛ هو ميزان البنّائين والمهندسين والفلكيّين والزرّاع يستعملونه في القياسات والمساحات وضبط استقامة البناء وغيره. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

15
  • ولكن مِن بين الخمسين الّذين حضروا المجلس، لم يتقبّل كلامي سوى أربعة منهم، فالستة والأربعون الباقون لم يتقبّلوا، وبقوا على حالهم. فلماذا يحصل هذا، بالرغم أنّه قد تمّت الإجابة على كافّة الإشكالات ولم يتبقَّ أيّ إبهام؟! وأنا لم أستعن بعلم الرمل أو الاسطرلاب في كلامي، كما أنَّني قلت لهم أن يسألوا كلّ ما لديهم مِن أسئلة وأن لا يتحجّجوا بأنّهم استحوا أن يسألوا أو بأنّهم لم يريدوا السؤال، فلماذا لم يتقبّلوا؟! [لم يتقبّلوا] لأنَّ في قلوبهم زيغ، أي انحراف واعوجاج، وهو ممّا يتوجّب علينا معالجته. أمّا أولئك الأربعة فتقبّلوا كلامي لأنَّهم يتمتّعون بالصفاء، فاستمعوا إلى الكلام ووزنوه بعقولهم وسألوا عمّا استشكل عليهم. وبدوري تكلمتُ بكلّ وضوح ولم أترك أيّ إبهام، فلم تكن الآيات القرآنيّة الّتي قرأتُها ممّا [يصعب فهمه]، ولم يكن في كلامي متشابهات، بل كنتُ أتكلّم بكلّ صراحة، وأوضحت لهم كلّ شيء.

  • نعم إنَّ هذه الحالة كانت موجودة على مرّ العصور وستبقى إلى الأبد.

  • تفسير الإمام الصادق للمحكم والمتشابه

  • عندما سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن معنى المحكمات في آية {هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ}، قال: نحن أهل بيت النبيّ آيات الله المحكمات. وعندما سُئل عن المتشابهات في قوله تعالى {وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ}، قال: هم أبو بكرٍ وعمر وعثمان. فهؤلاء هم الّذين يعدّهم البعض مفاخر العالَم الإسلاميّ.

  • ما الّذي يعنيه تفسير الإمام هذا؟ إنَّه يعني أنّهم [عليهم السلام] أهل بيت الحقّ ومدار الحقّ، وأنّ كلّ ما سواهم باطل. فالحقّ يعني أهل البيت، و (أهل البيت) يعني الحقّ، فأينما يضع أهل البيت أصابعهم يكون الحقّ هناك، وكلّ مكان يخلو مِن آثارهم فهو الباطل، ولا وجود لشِقّ ثالث. نعم، لا مكان لأحد غير المعصومين الأربعة عشر، ولهذا يقول الإمام: نحن آيات الله المحكمات. ما الّذي يعنيه قول الإمام أيضًا؟ إنَّه يعني أنّ عليكم اتّباعنا.

  • وما الّذي قاله رسول الله في هذا المجال؟ لقد قال «إنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللهِ وَعِتْرَتِي‌»۱، أي إنَّ القرآن كتاب محكم، ولمّا كان أهل البيت إلى جنب القرآن، فهذا يعني أنَّ أهل البيت هم المعيار والميزان الّذي تُعرف به المحكمات. فمَن يقول بالتمسّك بالقرآن وترك أهل البيت لن يجني غير الضلالة.

    1. لقد خصّص سماحة العلّامة آية الله السيِّد محمّد حسين الحسينيّ الطهرانيّ (رضوان الله عليه) الجزء الثالث عشر مِن كتاب (معرفة الإمام) للبحث في حديث الثقلين هذا. [المترجم]

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

16
  • مِن مصاديق النفس المتشابهة: بدعة أداء صلاة التراويح جماعةً

  • لاحظوا صلاة التراويح الّتي يصلّيها الإخوة مِن أهل السنّة في المسجد الحرام في ليالي شهر رمضان؛ كنتُ قد ذهبت إلى هناك لليلة أو ليلتين مِن ليالي شهر رمضان عندما تشرّفت بالذهاب للعمرة قبل عدّة سنوات؛ ترى هناك جمعًا غفيرًا مِنَ الناس يركعون ويسجدون معًا، فسمعتُ أحد المعمّمين يقول عندها: انظروا كيف تكون عظمة الإسلام!! هم يقومون بتسجيل تلك الصلاة وبثّها لكي يشاهدها جميع سكّان العالَم، فعظمة الإسلام تتمثّل [في نظره] في أن يسجد الملايين معًا. ولكن كلّ ما يقومون به باطل، لأنَّهم يقومون به على خلاف ما أمر الله، إذ كان رسول الله قد أمر بأداء صلاة التراويح فُرادى، أي عليك أن تعتزل في زاوية وتصلّيها، فلا تقتدي بأحد ولا يقتدي بك أحد، فالرسول قد أمر بأداء الركعات الألف هذه فُرادى. ومع هذا يأتي مَن يرى نفسه أحرص مِن رسول الله والأئمّة على الدين، وكأنَّه يعلم عن الدين أكثر منهم، فيقول: ما الّذي يعنيه أن يأخذ الناس زوايا المسجد الحرام ويصلّوا فرادى، فماذا سيقول الناس عنَّا حينئذ، ألن [ينتقدونا] قائلين انظروا كيف يصلّي كلّ واحدٍ منهم وحده، فعلينا والحال هذه أن نأتي ونجتمع ونصلّيها معًا.

  • كنت حاضرًا في مجلس يخطب فيه أحد عباد الله – لا أريد أن أذكر اسمه هنا – وكان يتكلّم بالعربيّة فلم يكن إيرانيًّا، وتحدّث عن موضوع الطواف، وكيف يجب أن لا تنحرف الكتف عن جهة الكعبة ولو بمقدارٍ قليلٍ، ويبرّر ذلك قائلًا: أنَّ الله قد أمر بذلك لكي يتحرّك الجمع بصفوف منتظمة. فقلتُ له: هل نحن في معسكر تدريبيّ بحيث يجب أن يسير فيه الجنود بنسق واحد؟! فيبدو أنّك اشتبهتَ فخلطت بين المسجد الحرام وبين المعسكر التدريبيّ الّذي يسير فيه الجنود بحركات منتظمة! بل الواجب هنا أن يكون كلّ واحد مِنَ الحجّاج وحاله. فاعتذر عبد الله هذا عن كلامه.

  • انظروا كيف يأتي التفكيرُ السياسيّ هنا فيجعل الدِينَ تابعًا له. انتبهوا إلى هذا الأمر جيّدًا، إنّ تبديل عمر لشريعة رسول الله وأمره بأداء تلك الصلاة – الّتي أمر الله بها فُرادى – جماعةً لم يكن لله ولا طَمعًا في الجنّة أو خوفًا مِن جهنّم. كلّا، بل قام بذلك مِن أجل أن يتباهى على الآخرين بخلافته، فلسان حاله يقول: تعالوا وانظروا إلى هذا الجمع الغفير مِنَ الناس الّذي أنا خليفتهم، كيف يركعون ويسجدون معًا، نعم، انظروا إليهم كيف يركعون معًا بشكلٍ منتظم كقطعة واحدة، ويرفعون رؤوسهم مِنَ السجود في وقت واحد.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

17
  • ولقد حاول أمير المؤمنين أن يُعيد سنّة رسول الله إلى ما كانت عليه، فواجهه أولئك القوم السُكارى والحيارى بقولهم: أتنهانا عمّا كان يفعل آباؤنا يا علِيّ. أتعتقدون أنَّ آية {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى‌ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى‌ آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ}۱ تحكي حال الكفار والمشركين فقط؟! كلّا يا سادة، بل هي تشمل حتّى الشيعة، وتشملنا نحن المتواجدين في هذا المكان، نعم إنَّها تشمل الجميع. [فعندما أراد علِيّ إعادة سنّة النبيّ] تصايح القوم: وا سنّة عمراه، أتريد أن تُبدّل السنّة الّتي سنّها عمر! [أقول:] إن كان عمر قد سنَّ هذه السنَّة، فإنّ النبيّ قد سنَّ لكم قبله تلك السنَّة، وها أنتم تتخلّون عن سنّة النبيّ وتتمسّكون بسنّة عمر! فلِمَ يحصل هذا؟! إنَّه يحصل لوجود زيغ في قلوبهم، فلم يستثمر القوم عقولهم .. ولو فرضنا أنَّ النبيّ لم يكن قد شرّع لكم ذلك الأمر، فهل مِنَ الصحيح أن تُساووا بين النبيّ وعمر الّذي لم يكن يعلم كم عدد أصابع يده؟!

  • هذا هو التشابه، ولهذا السبب نرى الإمام الصادق (عليه السلام) يقول: نحن آيات الله المحكمات، فكلامنا أهل البيت كلامٌ محكم لا يقبل التأويل. وهذا هو عين الحقّ. أمّا في الطرف المقابل، فماذا يوجد؟ توجد المتشابهات، وهناك يتواجد محبّو [الخلفاء الغاصبين] السائرون على نهجهم.

  • مِن مصاديق النفس المتشابهة: المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ

  • جاء في إحدى الروايات أنّ رجلًا سأل الإمام الصادق عليه السلام عن مصير المختار بن أبي عبيدة الثقفيّ في الآخرة .. [والمختار هذا] هو الرجل الّذي قام [ضدّ حكومة ابن زياد] بعد واقعة عاشوراء، وقتل قتلةَ الإمام الحسين، فأرسلهم إلى جهنّم، وكان للإمام السجّاد عليه السلام دعاء في حقّه٢. إنَّ الرواية طويلة، جاء في ذيلها أنّ الله سيأمر بالمختار إلى نار جهنّم٣ لأنَّه لم يكن يؤمن بإمامة الإمام السجّاد، بل كان يقول بإمامة محمّد بن الحنفيّة٤، وكان يقوم بأعماله بأمرٍ مِن محمّد بن الحنفيّة، فيستغيث المختار بسيّد الشهداء قائلًا له: لي حقّ عليك. فيأتي خطاب يقول: نعم، بما أنَّ هذا الرجل قد أرسل القاتلين في يوم كربلاء إلى جهنّم، فهو مشمول بشفاعة الإمام الحسين (عليه السلام). وبذلك يخرج المختار مِنَ النار بشفاعة الإمام. ثمّ يسأل الراوي الإمام الصادق: لماذا يُلقي الله المختار في نار جهنّم مِنَ الأساس؟ فيقول له الإمام: لأنّه كان يوجد ميل في قلبه تجاه الأوّل والثاني. ثمّ يُردف الإمام قائلًا: واللهِ لو وُجِد مقدار ذرّة مِن محبّة هذين الرجلين تحت جناحي جبرائيل وميكائيل، وهما ملكان مقرّبان مِن حملةِ العرش، لألقى الله بوجهيهما في النار. ففي عين التولّي لا بدّ مِنَ التبرّي [أي أنّ التولّي توأم التبرّي]، فلا معنى لأن يتولّى أحدهم أهل البيت ويحبّهم، وفي الوقت نفس يميل قلبه إلى أولئك القوم، نعم لا يمكن أن يكون هذا الأمر صحيحًا بأيّ حال مِنَ الأحوال.

    1. سورة الزخرف (٤٣) جزء من الآية ٢٣.
    2. بحار الأنوار، الشيخ محمد باقر المجلسي، ج ٤٥، الحديث ۱٣ ص ٣٤٤. (م)
    3. المصدر نفسه، ج ٤٥، الباب ٤٩، الحديث ٥ ص ٣٣٩، والحديث ۱٥ ص ٣٤٥. (م)
    4. هو ابن أمير المؤمنين عليه السلام، وأمّه خولة بنت جعفر بن قيس الحنفيّة. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

18
  • بناءً على هذا، فالوصول إلى مقام النفس المحكمة، يكون بخروج الإنسان مِن حالة الشّك والشبهة وأن يصل بواسطة الولاية إلى ولاية الإمام (عليه السلام)، حيث تأخذ الأمور شكلًا آخر؛ فتظهر جميع المسائل لصاحبها بصورةِ المحكمات، ويُظهر عالَم الوجود حقيقته الشفّافة للإنسان. ولهذا جاء في الحكمة أنَّ مَن يشقّ طريقه إلى حقيقة الحكمة والعِلم سيُنار له عالَم الوجود بأجمعه دون أن يبقى أمامه أيّة نقطةٍ مبهمةٍ. حينئذ لن يجد الزيغ والإبهام طريقًا إلى نفسه، وستنتفي كلّ أنواع الشّك والتردّد. وهذا أمر لا ريب فيه، وهو قوله تعالى {سُبْحانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ * إِلاَّ عِبادَ الله الْمُخْلَصينَ}۱. فلا مكان للعجز هناك، حيث سيكون الله نفسه هو الّذي يسبّح نفسه، لا أنّ مقامنا البشريّ هو الّذي يسبّحه، هذا المقام المحفوف بالخطأ والزلل والنقص، أمّا ذلك المقام فهو مقام الحقّ والإحكام.

  • يبدو أنَّ في هذا المقدار مِنَ الشرح، لهذه الفقرة مِنَ حديث [عنوان البصريّ]، كافٍ.

  • ثلاث إضاءات تتعلّق بالأشهر الثلاثة؛ السكوت والعشرة والبيئة

  • بما أنّنا لم نوفّق للقاء الأخوة قبل شهر رجب [فسنستدرك الأمر اليوم للكلام عن بعض] المسائل الّتي تتعلّق بهذه الأيّام، وإن كانت هذه المسائل تُطرح دائمًا، والإخوة على عِلم بها. سأشرح باختصار مسألتين أو ثلاث مسائل خاصّة بهذه الأشهر الثلاث؛ رجب وشعبان ورمضان. وهي مسائل ليست بعيدة الصلة عن المواضيع الّتي نتحدّث عنها في مجالسنا هذه.

  • الإخوة يعلمون ما لهذه الأشهر مِن خصائص غير عاديّة، وهي تختلف في طبيعتها عن خصائص بقيّة الأشهر. كما أنّ الوضع الروحيّ للإنسان يختلف فيها عنه في بقيّة أشهر السنة. وقد قرأ وسمع الجميع مثل هذه الأمور مِنَ العظماء، وأتذكّر هنا كيف كان المرحوم العلّامة يؤكِّد على أمرين أو ثلاثة في هذا المجال؛

  • أحدها موضوع السكوت، فقد كان يؤكِّد بشدّة عليه، بل كان يؤكّد على ضرورة عدم الخوض حتّى في المواضيع المفيدة. [اعلموا] أنّ عدم الخوض في المواضيع غير المفيدة هو أمر عام يجب في الأشهر الأخرى أيضًا. فينبغي للإنسان طبعًا أن لا يشغل وقته في تلك المواضيع، الّتي لا بداية لها ولا نهاية ولا قيمة؛ كغلاء هذه السلعة ورُخْص الأخرى، سواء في هذه الأشهر أو في غيرها. فعلينا أن ندع هذه الأمور لأهل الدنيا، فهم أولى بها، وباستطاعتهم أن يؤدّوا حقّها بأحسن وجه. فلا داعي لأن نشغل أنفسنا وأفكارنا بها، فعلينا أن نريح بالنا مِنْ هذه الناحية، وأن لا نقلق بشأنها، فقد خلق الله – وله الحمد – لها أُناس خاصّين. فمسألة عدم الخوض في الأمور غير الضروريّة [هو أمر واضح بالنسبة إلينا]، فلا يستحقّ كثير بيان.

    1. سورة الصافات (٣۷)، الآيتان ۱٥٩ و ۱٦۰.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

19
  • أمّا مسألة عدم الخوض في المواضيع المفيدة غير الضروريّة؛ فهي وإن لم يكن فيها سوء أو عدم فائدة، إلّا أنّ على الإنسان أن يتجنّب الخوض فيها أيضًا في هذه الأشهر الثلاثة، فعليه أن يزيد مراقبته وأن يراعي فيها السكوت إلّا في الموارد الضروريّة منها.۱

  • كان المرحوم العلّامة يقول: كان الكثير مِنَ الأساتذة وتلامذتهم يشتغلون ويختلُون بأنفسهم في هذه الأشهر، كانوا يضعون حصاةً صغيرةً في أفواههم، لكي تمنعهم مِنَ الكلام إن حصل أمامهم حديث وأرادت النفس أن تستعرض أمام الآخرين. إنَّ مثل هذه الأشياء تحصل أحيانًا، إذ يطرح أحدهم موضوعًا، فيراه الآخر باطلًا، فتتحفّز النفس هنا للرّد عليه. لا يا هذا، ليس عليك مِنَ الأمر شيء، فاجلس أنت واكتف بالسماع ولا حاجة لردّك عليه، فهناك مَن سيتولّى هذه المهمّة – كما سبق وبيّنتُ – فلا حاجة لأن تصرف جهدًا في هذا المجال فيوجد – ولله الحمد – مَن سيكفيك ذلك، فإن ذلك واجب كفائيّ.

  • وأنا لا أقصد هنا أنّه علينا القيام بنفس ذلك التصرّف [وهو وضع الحصاة في الأفواه]، بل قصدتُ الإشارة إلى ضرورة دوام المراقبة، وسيجني الإنسان ثمارها بنفسه. إنّ مسألة السكوت لمسألة في غاية الأهميّة، فكم يحصل أن يفقد الإنسان تلك الآثار العباديّة وآثار التوجّه إلى الله بسبب كلام واحد يخرج مِن فمه، فتتلاشى تلك الآثار وكأنَّه لم يكن قد بذل جهدًا في أداء تلك الأعمال والمراقبات. ويحصل ذلك على وجه الخصوص في المشاجرات الّتي تحصل داخل البيت، فلهذا الأمر دور كبير هنا، فعلينا أن نُبعِد أنفسنا عن هذا الجوّ وأن لا نتدخّل ونُبدي رأينا في كلّ ما يحصل، بل علينا أن نفوّض الأمر إلى الآخرين، كلٌ بحسب مجاله، بشرط أن لا يتجاوز الحدود المسموح بها. فليُبعد الإنسان نفسه قليلًا؛ عن تلك الأمور الّتي تخصّ شريكه في العمل وجاره، وعمّا يجري في الخارج مِن ذهاب وإياب وسير في الشارع والجلوس في السيّارة. فإن ارتكب أحدهم عملًا باطلًا، فلا يلزم عليه التدخّل والردّ، وإن أراد أحدكم أن يتدخّل في كلّ ما يجري في الشارع والزقاق سيهدم كلّ ما بناه. نعم، علينا أن نتجنّب التدخّل في شؤون الآخرين، وعلينا أن نشتغل بما كُلّفنا به.

    1. يظهر ممّا تقدّم أنّه (قدسّ الله سرّه) قسّم المسائل الّتي يتكلّم بها الناس إلى ثلاث أقسام؛ مواضيع غير مفيدة، ومواضيع مفيدة ولكنّها غير ضروريّة، ومواضيع مفيدة وضروريّة. (م)

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

20
  • فإن حشرنا أنفسنا بعمل الغير، سنكون قد خسرنا المعركة، ولن نجني مِن تصرّفنا هذا أيّة نتيجة .. لا يمكننا أن نجعل الآخرين مثلنا .. نعم، ليس هنالك أيّة فائدة تُرجى مِن ذلك التصرّف .. فعلينا أن نُراقب أنفسنا ونلاحظ ردود أفعالنا تجاه الأعمال المختلفة الّتي يقوم بها الناس؛ فهل علينا أن نتدخّل، أم علينا أن نعتزل ما يحصل، ونحيل أفعال العوام الاعتياديّة إلى أهلها، ونترك الجُهّال وأفعالهم؟ فلا بدَّ أن يكون هناك فرق بيننا وبين غيرنا. نعم، كان العظماء يؤكّدون على مسألة السكوت تأكيدًا كبيرًا، ولا أعتقد أنّه توجد مسألة قد بُيّنت في هذا المجال تفوق مسألة السكوت أهميّة، فالأمر في غاية الأهميّة.

  • أمّا الموضوع الثاني، الّذي كان العظماء يؤكّدون عليه، هو موضوع مخالطة الناس ومعاشرتهم، [فهنا يُسأل:] ما نوع الناس الّذي ينبغي مخالطته، ومع مَن ينبغي أن نتكلّم ونتعامل؟ [فالمسألة حسّاسة، لأنّه] قد يحصل أن يتسبّب لقاء واحد في تبديل حال الإنسان، وقد حصل لي شخصيّا الكثير مِن هذا؛ كنت في وقت ما، أتمتّع بحالٍ معنويّ جيد دامَ أيّامًا، حتّى مررتُ في إحدى الليالي بمكان صادفتُ فيه أحد المخالفين – حصلت هذه الحادثة بالخصوص في حياة المرحوم العلّامة، إلّا أنّه قد حصل معي الكثير مِن أمثالها كما أخبرتكم، فقد اختبرت الأمر بنفسي فلستُ أنقل ذلك عن أحد هنا، نعم وإنَّه لأمر واضح بالنسبة لي – فسلّم علَيّ الرجل ورددتُ عليه السلام، ولم يحصل بيننا سوى تبادل الاستفسارات عن الأحوال ثمّ افترقنا، ففقدت في الحال تلك الحالة المعنويّة الّتي كنتُ أتمتّع بها، واستمرّيتُ على هذا الحال الجديد لمدة أسبوع أو أسبوعين، ثمّ أخذتُ بالتوسّل الشديد وقلت: لقد أخطأتُ يا إلهي، فإن تكرّر هذا الأمر سأقوم بتغيير مسيري وإن تطلّب منِّي الأمر الالتفاف مِن وراء الجبل. حتّى أخذَت الأمور مجرى آخر. أتلاحظون أيّ تأثير قد تركه ذلك اللقاء الّذي لم يستمرّ سوى عشر ثوانٍ، فكيف يجوز لنا – والحال هذه – أن نرتبط بأيٍّ كان، فنتبادل معهم الحديث وتميل قلوبنا إليهم؟! ألن يكون لذلك تأثير، ألن تترك تلك النفوس أثرًا علينا؟!

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

21
  • لهذا السبب نرى كيف يؤكّد العظماء على ضرورة أخذ الحيطة والحذر الشديدين في هذا الجانب، إذ كم تترك هذه الارتباطات آثارًا كبيرةً على المرء. ويستطيع كلّ واحدٍ منّا أن يلمس بنفسه الآثار الّتي تتركها نفوس الآخرين عليه؛ فإن جلس إلى أولياء الله فسيترك ذلك أثرًا خاصًّا عليه، وإن جلس إلى غيرهم سيجد لذلك أثرًا مختلفًا على نفسه.

  • كان المرحوم العلّامة يدعو أحيانًا أحد الوعّاظ [إلى مجالسه]، وهو قد انتقل إلى رحمة الله الآن. فتمّت دعوته في شهر رمضان في إحدى السنين، وكانت له سيماء وحالة خاصّة في بادئ الأمر، مثلًا لم يكن طول لحيته مقبولًا، مع أنّه رجل معمّم، وهكذا بالنسبة إلى قبائه وعباءته .. ولاحظنا أنّ وضع الرجل يتبدّل مع كلّ يوم يمرّ مِن أيّام شهر رمضان حتّى إذا وصل الشهر إلى آخره وجدنا أنَّ شكله أصبح مقبولًا.

  • والعجيب في الأمر أنّ هذا الرجل وهو على المنبر امتدح المرحوم العلّامة في مناسبة ما، بالرغم مِن أنَّ المرحوم العلّامة كان ينهى الخطباء عن القيام بذلك، وكان ينزعج كثيرًا مِن ذلك، ويقول لهم: إن حاولتم أن تمدحوني، فلن أستطيع الاستفادة مِن وجودكم في المرات القادمة. نعم كان يوصل إليهم الرسالة بشكل مؤدّب. ففي أحد الأيّام اعترف هذا الرجل [الواعظ، وهو على المنبر] بهذه الحقيقة قائلًا: لا أدري ما هو السرّ الكامن في معاشرة هذا الرجل، فمجرّد الجلوس إليه – سواء حصل حديث أم لا – يبدّل حال الطرف المقابل. فأطرق حينها المرحوم العلّامة رأسه إلى الأرض ولم يقل شيئًا، فما الّذي كان بإمكانه قوله، فالرجل قد قال كلمته وانتهى. وقد حصل ذلك بعد أن أساء رجل غير عقلانيٍّ إلى المرحوم العلّامة في اليوم السابق، إذ كان قد استشكل عليه في أمرٍ ما، فذكر الخطيب ذلك الكلام في اليوم اللاحق في معرض ردّه على هذا الرجل الّذي أشكل على العلّامة.

  • إنَّ هذا التأثير الّذي شعر به الخطيب هو تأثير النفس وتأثير صفاء الروح وخلوص الضمير الّذي ينتقل – شاء أم أبى – إلى الطرف المقابل، فيعمل على تبديل النفس. وهذا الانتقال والتبدّل يحصل في الموارد السلبيّة أيضًا؛ فإن عاشر أحدهم أولئك المنحرفين وأصحاب الاعوجاج والباطن الفاسد والضمير المظلم، فسيتبدّل هو تدريجيًّا بدون أن يشعر، فتراه إن رجع إلى نفسه يقول: يا للعجب، في أيّ حال كنت وفي أيّ حالٍ أصبحت.

مصاديق النفس المحكمة والنفس المتشابهة

22
  • كما كان المرحوم العلّامة يؤكّد على موضوع البيئة الّتي يجب أن يعيش فيها الإنسان. فكم أكّد على ضرورة العيش في بيئة صالحة غير فاسدة .. فلماذا كان المرحوم العلّامة يؤكّد كلّ ذلك التأكيد على حرمة التوطّن في بلاد الكفر، ولماذا كان يصرّ على تبيين الآثار الضارّة لهذا التوطّن على الإنسان؟ إنَّ كلّ تلك الآثار الضارّة تحصل بسبب انعدام وجود الروح [المعنويّة] هناك. وبالرغم مِن ذلك يقول البعض: ما المانع أن نسكن هناك، فنحن نستطيع أداء صلاتنا في تلك البلدان أيضًا. [أقول:] لا وجود للصلاة هناك يا هذا، بل هي مجرّد حركات روتينيّة، كحركات الدُمى والإنسان الآلي الّذي يُشحن ليقوم ببعض الحركات كرفع اليدين وخفضهما.

  • نعم، هنالك فرق كبير جدًا بين الصلاة الّتي تؤدَّى هناك، وبين الصلاة الّتي تؤدَّى تحت ولاية إمام الزمان عليه السلام، كالصلاة في مكّة وفي العتبات المقدّسة، وذلك لأنّ نور الولاية موجود هنا ومعدوم هناك، إذ لا وجود هناك لغير الظلمة.

  • فيا مَن يقول أنّه يؤدّي الصلاة هناك أيضًا، نقول لك: سواء عليك أأديتها أم لم تؤدّها، فهي صلاة لا روح فيها ولا توجّه. بل إنَّه أمر يعمل على تخدير المرء وسلب المعرفة منه دون أن يشعر، وهذا ما يجعله يقول: ها نحن نصوم ونصلّي ونقرأ القرآن ولم نفقد ديننا! نعم، إنَّ للبيئة الّتي يعيش فيها الإنسان أثرًا كبيرًا عليه.

  • هذا بعض ما كان يجب التذكير به، وإن كان الإخوة على معرفة بذلك. أمّا ما سوى ذلك مِن مواضيع فقد تمّ التذكير بها سابقًا.

  • نسأل الله؛ أن يهبنا جميعًا أفضل الجوائز، وهو إدراك هذه الأشهر المباركة كما ينبغي. وأن يوفّقنا لنيل النعمة الحقيقيّة، وهي التحقّق بمقام الإحكام والإتقان وبلوغ الحقيقة ومعرفة الإمام عليه السلام. ونسأله أن يُعجّل في فرج الإمام عليه السلام، وأن يجعلنا مِنَ المنتظرين الحقيقيّين له، وأن لا يحرمنا مِن لقائه في الدنيا وشفاعته في الآخرة.

  • اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد