المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1435
التوضيح
في هذا المحاضرة، يستمرّ سماحة السيّد في الحديث عن التنجّز لكن هذه المرّة في خصوص علاقته بالعمل، وذلك من خلال الإجابة عن الأسئلة التالية: كيف تتحقّق الاستفادة الحقيقيّة من النبيّ والوليّ؟ ما هي نتيجة العمل بأوامر العظماء؟ كيف يُمكن العمل بهذه الأوامر والمطالب؟ ما هي نتيجة التساهل في هذا الأمر؟ كيف يقتضي التنجّز الثباتَ على المباني في مواجهة الاعتراضات؟ هذا بالإضافة إلى بعض المسائل الأخرى التي تخلّلت هذه المحاضرة.
هو العليم
التنّجز وأهمّية العمل بأوامر العظماء
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٥ هـ ق - المحاضرة التاسعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنًّا»
يا مولاي! أنا ألتجئ إلى فضلك وكرمك، وأتوجّه وأسرع إليك، وأنا متشبّث بذلك الوعد الذي وعدت به الأشخاص الذين يُحسنون الظنّ بك بأن تتغاضى عن ذنوبهم ولا تؤاخذهم بزلاّتهم، وجعلت حياتي قائمة على أساس هذا الوعد؛ فأنت الذي وعدت بهذا الأمر.
حسنًا، ذكرنا في الليالي السابقة للإخوة أنّ عبارة >متنجّز< التي يُخاطب بها الإمام السجّاد عليه السلام الله تعالى تشتمل على معان كثيرة، ويمكن القول بأنّ المفتاح الأساسي لحركة الإنسان نحو الله يكمن في أن يكون الإنسان متنجّزًا، ولديه يقين وتصديق بالمسألة؛ فبكلمات مثل: ليت ولعلّ وممكن، ولننظر ماذا سيحصل، ولقد قيل لنا تعالوا إلى هنا، فأتينا لنرى ماذا هناك، ففي النهاية سيحصل شيء.. بهذه الكلمات لن يستقيم الأمر! يعني: لو ظلّ الإنسان في مدرسة معيّنة وفي محفل خاصّ وفي مجلس معيّن على هذه الحالة وبهذه الوضعية، فلو بقي ألف سنة على هذا النحو فلن يتقدّم خطوة واحدة؛ فهذه مسألة مهمّة وينبغي الالتفات إليها كثيرًا.
أدعية الأئمّة عليهم السلام بيان للسلوك الإنساني
وحقيقةً، عندما أذكر للإخوة بأنّ الإمام السجّاد قد بيّن لنا في دعاء أبي حمزة جميع طرق ارتباط الإنسان بالله، فهو ليس كلامًا اعتباطيًّا؛ ففي هذا الدعاء، ذكر الإمام السجّاد ما ينبغي للإنسان أن يعثر عليه في وجوده، وما يلزمه في علاقته مع الله، وما يمكن أن يربطه بالله ويكون باعثًا على حركته نحوه! بل يمكن القول ـ بعبارة صريحة وواضحة ـ بأنّ دعاء أبي حمزة هو دستور سلوكيّ وبيان للسلوك بكلّ معانيه؛ فقد تحدّث هذا الدعاء عن جميع تصرّفات الإنسان المرتبطة بالمسائل الشخصيّة والعائليّة والاجتماعيّة والسياسيّة والعباديّة؛ وعلينا أن نأسف كثيرًا لأنّنا حصرنا تذكّر هذه الأدعية بهذه الأيّام الخاصّة فقط؛ فلماذا لا نقرأها في سائر الأيام؟ فالأدعية التي يذكرها الأئمّة ليست للقراءة فقط، وليس الهدف منها هو أن نقرأها فقط لكي نحصل على ثواب، ثمّ نقول: لقد قرأنا دعاء الافتتاح في شهر رمضان ...! هل تعلمون بأنّ دعاء الافتتاح كان هو الدافع والعلّة التي جعلت المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يشارك في أحداث سنة (۱٣٤٢ ش) وفي اندلاع الثورة؟ فمن خلال الدراسات التي أجراها في النجف والقراءة المستمرّة والتحقيق والتأمّل في دعاء الافتتاح ـ سأبيّن لكم كيف كان ذلك ـ ، توصّل إلى نتيجة مفادها أنّ النظام الاجتماعي للمسلمين يجب أن يكون منطبقًا مع النظام الاجتماعي لرسول الله، كي يُمكنه التحرّك نحو الله تعالى؛ فالفضاء الاجتماعي يسوق الإنسان ويحرّكه نحو الله تعالى، والأجواء الاجتماعيّة توعّي الناس بالحركة نحو الله؛ فالمجتمع الإسلامي ينبغي أن يكون صارفًا للناس عن التوجّه إلى المادّيات وموجبًا لتوجّههم إلى الله وعالم الآخرة، لكن يبقى أنّ لكلّ إنسان حريّة الاختيار في أن يُطيع أو لا يُطيع؛ إذ كلّ واحد أعلم بحاله، ولا إجبار في الأمر؛ فحتّى في زمن رسول الله، عندما كان يتحدّث صلّى الله عليه وآله وسلّم، كان يخاطب الجميع، فكان بعضهم يُصغي لكلامه فيحصل على نتيجة إصغائه، وكان البعض الآخر لا يهتمّ بالأمر كما ينبغي عليه أن يكون ذلك، فكان يأخذ نصيبه بذلك المقدار.
الاستفادة الحقيقيّة من النبيّ والوليّ تتحقّق بطاعته والإصغاء لكلامه
وعلى كلّ حال، كان النبيّ يتحدّث ويخاطب الناس ويتمّ الحجّة على صحّة الطريق؛ فلم يكن هناك مجال لأحد أن يقول: نحن لم نسمع! لأنّ الناس سمعوا كلّ شيء، بل وبكلّ صراحة. واستمرّ هذا النهج إلى أن قُبض رسول الله؛ فجاء بعضهم ووضعوا كلام النبيّ بأجمعه جانبًا، وكأنّ دينهم منوط بأن يروا النبي كلّ يوم ويسلموا عليه؛ فإن لم يروه يومًا ما، ينتهي كلّ شيء! وحقًّا إنّ بعضهم كذلك؛ فما داموا يرون الشخص، تراهم يتأمّلون في أعمالهم وأفعالهم ويعملون على تصحيحها، لكن إذا غاب عنهم ذلك الشخص ليومين، ... يا عزيزي، أفهل كلّ شيء منحصر بالرؤية الظاهرية؟ وهل كلّ شيء منوط بالرؤية الظاهرية؟! فهذا الظاهر هو بمثابة جسر للعبور إلى الباطن، وخطوة للوصول إلى الواقع.
لقد ذكرت لكم مرارًا وتكرارًا بأنّه لو أتى إمام الزمان ـ فليس لدينا من هو أعلى من إمام الزمان، وفي الحقيقة، فإنّ الإمام واحد وهو إمام الزمان ـ ، وجلس عليه السلام في مكاني، وتحدّث إليكم بدلاً عنّي بنفس هذا الأسلوب من الكلام، واستمعتم إلى كلامه بعنوان أنّه إمام الزمان وأنّ له تلك المنزلة العظيمة، فلن تكون هناك أيّة فائدة ونتيجة من ذلك أبدًا، أو أنّ نتيجته ستكون قليلة؛ فلا نقول بعدم امتلاكه لأيّة فائدة، بل فائدته ستكون ضئيلة! إذ لا يكون كلام إمام الزمان مؤثّرًا وذا فائدة، إلاّ حينما تُصغي إلى كلامه، سواء جلس هنا أم لم يجلس؛ فعند ذلك يكون لكلامه تأثير وسلطة، ويكون لكلامه أثر عميق، فيُخرج النفس عن التعلّقات ويسوقها إلى عوالم هذه الألفاظ؛ وفي هذه الحالة، لن يكون هناك أيّ فرق بين وجود الإمام هنا أو عدم وجوده، حيث ينبغي عليك أن تخضع للإمام بعنوان أنّه الحقّ، وبما أنّه حقّ! فكلام الإمام حقّ سواء كان هو موجودًا أو غير موجود، وهو بنفسه حقّ، وله سيطرة وهيمنة وإشراف على جميع أمورنا وشؤوننا؛ وجميع حركاتنا وسكناتنا هي تحت نظره؛ فإن وضعنا بهذا النحو مثل هذه الشخصيّة في قلبنا وضميرنا، فعند ذلك ستكون حركتنا ـ شئنا أم أبينا ـ في نفس المسار الذي يرتضيه هو، وستحصل هذه الحركة على عمق يُمكّنها من النفوذ في النفس، فيجعلها تتحرّك، ويُخرجها عن المسائل العادية والعامّية وعن التوغّلات والتكالب على الكثرات وأمثال ذلك، ويُدخل الإنسان في عوالم وآفاق أخرى!
ألم تكن المسألة كذلك في زمن النبيّ؟! فما دام النبيّ موجودًا، كان الناس يُرحّبون ويرفعون أصواتهم بالصلوات والتسليمات و... لقد جاء رسول الله.. إنّ رسول الله في طريقه للمسجد، أسرعوا، تعالوا لتتوضّؤوا! فكان أحدُهم يضع سجّادته بسرعة حتّى لا تفوته الصلاة في الصفّ الأوّل، وكان الآخر يحجز مكانه في الصفّ الثاني ثم يذهب للوضوء لكي يكون أقرب إلى رسول الله بمتر؛ فهذا المتر بحدّ ذاته غنيمة!! يا عزيزي، لا فائدة في أن تأتي وتحجز مكانك أوّلاً؛ لأنّ المهمّ هو كم أنت ثابت على كلام النبيّ؟! وأخذُ الماء من فاضل وضوء النبيّ ومسحُ وجهك به لا يُعالج لك داء؛ فما يُداوي داءك هو: هل أنّك تخضع لكلام النبيّ سواءً كان موجودًا أو لا؟ وهل نفذ فيك كلام النبيّ أو لا؟ وهل أثّر فيك هذا الكلام أو لا؟ فماء الوضوء تضعه على وجهك ثم يجفّ بعد دقيقتين.. فعندما أردتُ الدخول إلى هنا، صبّوا في يدي شيئًا من ماء الورد، فمسحت به على وجهي؛ والحال أنّه لا وجود الآن لذلك الماء، حيث جفّ بعد دقيقتين. ولا أقول بأنّه لا يوجد فرق أبدًا؛ ففي نهاية الأمر، فإنّ ذلك الماء الذي حصل له تماسّ مع جسم النبيّ، وذلك اللباس الذي لامس جسم النبيّ هو بَرَكة، ونفس ذلك الارتباط هو بَرَكة، لكنّ هذه الأمور لا تُعالج الإنسان من جذوره؛ وما نحن الآن في صدده لا يحصل بسكب الماء على الوجه! ولو كان الأمر كذلك، لصار الجميع مثل سلمان الفارسي؛ فعندما يريد النبيّ أن يتوضّأ، نقول له: تعال لتتوضّأ هنا! وبعد ذلك، نسكب الماء عليه بوفرة حتّى يكثر الماء الملاقي له، ثم نقول لخلق الله: تعالوا وأسرعوا! فنضع كفًّا من الماء على أحدهم، فيصير سلمانًا، وعلى الآخر، فيُصبح أبا ذرّ.. كلاّ يا عزيزي! فالأمر لا يُصلح بهذا الشكل، وما نسعى إليه نحن لا يحصل بسكب الماء على الوجه وأمثال ذلك.
لقد كان أمرًا عجيبًا جدًّا! ففي كلّ يوم كنّا نتشّرف فيه بالحضور عند المرحوم الحدّاد، كنّا نطّلع على مسألة بل مسائل جديدة؛ ففي أحد الأيّام، كنّا جالسين عنده، وكان هناك شخص ـ لن أذكر اسمه ـ لا يزال الآن على قيد الحياة، وقد تعرّض المرحوم العلامة لذكر اسمه [في الروح المجرّد]؛ فنظر إلى السيّد الحدّاد ـ وكان المرحوم العلاّمة موجودًا وكنّا نحن أيضًا موجودين هناك ـ ، وقال: يا سيّدي، أريد أن آخذ ثياب السيّد محمد حسين، وأوصي بأن أدفن بهذه الثياب عند موتي، وأن يُلبسوني إيّاها عند تكفيني! وأمّا المرحوم العلاّمة، فقد كان مطأطئ الرأس ولم ينبس ببنت شفة؛ فتأمل السيّد الحداد قليلاً وقال: نعم جيّد؛ فما هو الإشكال في ذلك؟! لكن يبقى أنّ هذا لا يُفيد في إصلاح الأمر! بمعنى أنّه عليك الآن أن تسعى وراء شيء آخر، وداؤك الآن ودواؤك أمر آخر؛ فلبس الثوب والكفن لا يحلّ المشكلة! هذا كلّه مع التسليم أنّ لبس هذه الثياب يُخفّف قليلاً ممّا هو معروف من عذاب القبر وضغطته وسؤال منكر ونكير و...؛ فعذاب القبر ليس شيئًا مهمًّا، غاية الأمر أنّه يتضمّن مجموعة من المصاعب التي يُقاسيها الإنسان؛ فما الذي سيحصل عليه الإنسان من خلال رفع عذاب القبر عنه قليلاً؟! يعني: في أيّ شيء يفيد ذلك الإنسان وما هي المشكلة التي يحلّها له؟ فصحيح أنّ بعضهم يتعذّب في القبر، والبعض الآخر لا يتعذّب، إلاّ أنّه في الأخير ينتهي عذاب القبر، لكن ماذا بعد القبر؟! فقضيّة القبر تنتهي، ويأتي منكر ونكير، فيضربان الإنسان على رأسه بالمطرقة أو بأيّ أمر آخر؛ وقد سمعتم حتمًا بذلك، كما أنّ المرحوم العلاّمة ذكره في معرفة المعاد،۱ حيث أنّ هناك ضيافة خاصّة؛ ونقتصر على هذا الكلام حتّى لا تُصابوا بالدهشة!
وعلى كلّ حال، فإنّ قضيّة القبر تنتهي، ومسألتنا ليست مختصّة بالقبر، وغير مقتصرة على البرزخ، بل هي مرتبطة بالعوالم الربوبيّة التي تأتي بعد البرزخ والقبر؛ فماذ نفعل هناك حين طيّ المراتب الربوبيّة؟ لأنّ هذه المراتب لا تُطوى ولا تحصل بلبس ثوب السيّد محمد حسين! نعم، يصحّ ذلك من باب التبرّك والتيمّن، ولدينا استحباب أيضًا بوضع تربة سيد الشهداء في الجوانب الأربعة من القبر، ووضع عقيق تحت اللسان، ووضع جريدتين تحت إبط الميّت، وخصوصًا إذا كانتا من الرمّان، وكذا شهادة أربعين مؤمنًا وسورة يس وأمثال ذلك..۱ فكلّ هذه الأمور جيّدة، لكنّ مشكلة الإنسان لا تنحلّ بالكفن، وعلاج الإنسان لا يحصل بوضع التربة تحت اللسان، ولا بالعقيق؛ فهذه الأمور من جملة الوسائط التي تستجلب رحمة الله، ونحن نقبل بذلك، لكن يبقى علينا أن نعرف أين يقع الإشكال؟ وهل هذه الأمور توجب للإنسان الحصول على المراتب؟! وهل تمنحه الرشد العقلي والإدراكي؟! وهل تُساهم في ترقّيه؟ وهل تخرجه من الكثرات، أو لا؟
لأنّ هذه المسألة بحاجة إلى شيء آخر؛ إلى مراقبة وفهم وعبادة مستمّرة وخلوة وسماع المطالب.. فهذه الأمور هي التي توجب تجرّد الإنسان وتُحرّكه، وهي التي تنفعه يوم الحساب، وتُخرجه من هذه الكثرات والتعلّقات! هذه هي حقيقة المسألة.
وحقًّا إنّ دعاء الافتتاح لدعاء عجيب جدًّا! فهو يجعل الإنسان في حالة حركة.
العمل بأوامر العظماء يُفضي لتحقيق وعد الله تعالى
أذكر جيّدًا ـ وإن كنت طفلاً في ذلك الوقت ـ بأنّ المرحوم العلاّمة ـ وقد أشار إلى هذه المسألة في كتبه ـ أتى إلى قمّ، وذهب للقاء المرحوم آية الله الخميني، وذلك بعد تلك الأحداث والأعمال التي قام بها الشاه وطرحِه لمسألة الاستفتاء وتمكّنه من تحقيق بعض مآربه في ذلك الزمان؛ فذهب إليه، ورأى أنّه جالس، وقد كان على علاقة به، حيث كان يتردّد عليه، ويطرح عليه بعض المسائل، وكانا مترافقين ومنسجمين مع بعضهما البعض؛ فنظر إليه وقال: يا سيّد روح الله، بسم الله، فلنتحرّك ولننهض! ولنستمرّ في البرامج السابقة، وفي ذلك التبليغ والكلام والمسائل التي كنّا قد شرعنا بها، فقال: يا سيّد محمد حسين، ألا تدري ما الذي حصل؟ لقد انتهت المسألة، حيث قاموا بإجراء الاستفتاء، وفازوا فيه، ولم يبق المجال لفعل أيّ شيء! ولا يخفى أنّ المرحوم العلاّمة أشار إلى هذه المسألة بشكل مختصر في كتاب "وظيفة الفرد المسلم". فنظر إلى السيّد الخميني وقال له: ألم تقرأ في القرآن: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْض... وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ...} (النور، الآية ٥٥)، فقال: نعم، لكنّه وعد الله الذين آمنوا ـ يُريد من ذلك أنّ: إيماننا لا يزال موضع كلام! ـ فقال له المرحوم العلاّمة: ومع ذلك، فقد قال الله تعالى لنا نحن ذلك، وإلاّ فلمن قاله إذن؟! فصحيح أنّك تسعى إلى إيمان عال جدًّا، إلاّ أنّ هذه مسألة أخرى! فكان ذلك سببًا في ازدياد شوق المرحوم السيّد الخميني وعزمه على هذا الأمر؛ وعلى كلّ حال، فالمسائل كثيرة، والعديد منها لم يتمّ الحديث عنه لحدّ الآن.
فانظروا الآن إلى موقفه من هذه القضية! حيث نجده يقول: لماذا لا تتحرّك؟ ولماذا لا تُقدم على ذلك الأمر؟ أفلا تعلم بأنّ الله تعالى قد وعدنا؟ وأمّا نحن، فقد قرأنا هذه الآية ألف مرّة، لكنّنا لا نُصدّق، بل نقرأ القرآن بعنوان التبرّك فقط! فما هي الحالة التي نشعر بها حينما نقرأ هذه الآية؟ {وَعَدَ اللَّهُ الَّذينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ}.. فإذا رتّبنا الأثر على هذه الآية، وكانت لدينا مراقبة، واتّبعنا مطالب العظماء وعملنا بها، فإنّ هذا الوعد من الله سيكون له أثره.. ألن يكون له أثر؟ لأنّه إن لم يكن الأمر كذلك، فإنّ الله ـ تعالى عن ذلك ـ سيكون كاذبًا!
نحن ننسب الكذب إلى الله، لكن لا نتحرّك! حسنًا، تحرّك حتى ترى وعد الله! اعمل حتى تُشاهد وعد الله! لا تكذب حتى ترى وعد الله بالنسبة إلى الصادقين، ولا تُزوّر حتى ترى وعد الله بالنسبة إلى الأشخاص الأمينين! امش على الطريق المستقيم حتى ترى بعينيك عون الله لك، وترى كيف أنّ الله يساعدك، وكيف أنّه يرفع الموانع عنك، لكنّنا نأخذ المسألة مزاحًا فنتنكّب عن الجادّة، فلا يتدخّل الله لهدايتنا! يقول لنا: اذهب بنفسك، ومن الآن، زمامك بيدك! فأنت لم تعتمد على وعدي لك، حسنًا، على بركة الله، فاذهب بنفسك!
إنّ حقيقة المسألة هي أنّنا نأخذ ما وعدنا الله تعالى على نحو المزاح، ونتعامل مع هذه المطالب بالهزل؛ ففي زمان المرحوم العلاّمة، كنّا نأخذ المطالب التي يذكرها على نحو الجدّ، وكنّا نرى أنّه لا يمزح، وكان أمره جدّيًا؛ فحينما كنّا نعمل، كنّا نرى نتيجة ذلك، وحينما لم نكن نعمل، لم نكن نرى النتيجة.. هكذا، بكلّ صراحة ووضوح! فكلّ ما كان يذكره، كنّا نأخذه على أنّه حقّ؛ أي أنّه صحيح وحقّ وأنّه الطريق الذي طواه بنفسه؛ ولم نكن نتعامل على أساس أنّه قال هذا الكلام، فلعلّه يكون صحيحًا، فهو في النهاية رجل عالم، فلا بدّ أن يكون هناك شيء! يعني أنّنا كنّا نشعر بضرورة الإصغاء للكلام الذي يقوله؛ فحينما لم نكن نستمع إليه، كنّا نتضرّر، ولا نحصل على أيّة نتيجة؛ وأنا أُحدّثكم عن نفسي: في بعض الموارد، لم أُصغ إلى كلامه، فتضرّرت من ذلك في نفس ذلك الزمان. وأمّا أنّه متى يتمّ إصلاح ذلك الضرر وتداركه، فهي مسألة أخرى.
أي أنّنا كنّا نشعر بأنّ هذا الرجل عندما كان يتكلّم، لم يكن كلامه يصدر من منطلق ذوقي، ومن منطلق الرغبات العاديّة والمتعارفة، ولم يكن يتحدّث بهذه الأمور من منطلق بعض الدوافع الخاصّة، بل كانت هناك واقعيّة متجسّدة، وعلى أساس هذه الواقعيّة كان يقول: قم بهذا العمل ولا تقم بذاك! افعل هذا، والأفضل أن لا تفعل ذاك! يعني أنّ جميع المسائل كانت عنده على أساس متين وتخضع لحساب خاصّ؛ وهذا الذي شاهدناه في ذلك الزمان، فلم تكن المسألة واهية، بل كنّا نشاهد الواقعية.
فلو أتى شخص وقال: «فلنذهب يا سيّدي، ونر ماذا هناك! فهنا يلطمون الصدور ويقرؤون العزاء، وهذا المكان جيّد ونورانيّ؛ فمن الأفضل أن نأتي إلى هنا حتّى نحصل على بعض الحالات [المعنويّة]!»، فإنّ مثل هذا الشخص سيكون نصيبه بهذا المقدار، ولن يحصل على نصيب كبير!
في أحد الأيّام، أردت أن أشرع في أداء عمل معيّن وبرنامج خاصّ، فابتدرني المرحوم العلاّمة بالكلام من دون أن أقول له شيئًا، فقال: «يا فلان، نحن على يقين من هذا الطريق الذي نمشي عليه، حيث أنّ هذه المطالب قد انكشفت لنا بعين اليقين؛ وبما أنّنا على يقين من هذا الطريق، فقد دعونا الجميع للمسير فيه» وبعد ذلك، ذكر للحقير مسألةً مفادها أنّ طريق النجاة ـ على كلّ حال ـ هو في اتّباع هذا المسار، بحيث يكون من اللازم طيّ هذا الطريق.
وبحقّ، فإنّ هذه المطالب هي مطالب مفتاحيّة وهادية للدرب، وهي التي حفظتنا حتّى الآن! فعلى الرغم من جميع المصاعب والأمور المخالفة وغير اللائقة التي قد تحدث في كلّ زمان، إلاّ أنّ هذه المطالب كانت تأتي وتبعث على استقرار الإنسان وتشبّثه وثباته ويقينه بطريقه ومسيره؛ فلا تجذبه المغريات، ولا تُرعبه التهديدات، ولا تُؤثّر عليه الشائعات، ولا تأخذ منه الدعايات، بل تراه يعمل بما فهمه ويسلك الطريق الذي شخّصه، ويوصي الآخرين بهذا الطريق أيضًا!
ومرادي أنّ هذه الأدعية ليست مختصّة فقط بليالي شهر رمضان؛ فهذه الأدعية ـ في نهاية الأمر ـ قد ترشّحت من الإمام، ومن المناسب أن يقرأها الإنسان في جميع عمره.
العمل بالمطالب الواردة عن العظماء يكون بتطبيقها على مختلف الحالات التي تواجه الإنسان
فأنتم تُلاحظون بأنّ هناك بعض الكتابات والكلمات التي لا تستحقّ الاستماع أو القراءة؛ إذ بمجرّد أن يقرأ الإنسان منها شيئًا حتّى يضعها جانبًا؛ فكلّها هراء! وهناك بعض الكلام يستحقّ القراءة وإن كان يحتوي على بعض المطالب الخاطئة، غير أنّه صادر من بعض العظماء والعلماء والأشخاص الذين يتّصفون بالجدارة؛ ويبقى أنّه لا دليل على ضرورة قبول الإنسان بالخطإ، لكن على الإنسان أن يُصغي لذلك الكلام؛ فإن كان فيه مورد للنقد، ينقده، وإن كان فيه ما يُقبل، يقبله. والمرتبة الثالثة ترتبط ببعض المطالب التي حينما يطّلع عليه الإنسان، يجد أنّها تفترق كثيرًا عن السابقة؛ وهي الكلمات الصادرة عن الأولياء والعرفاء وأهل المعرفة؛ نظير المرحوم العلاّمة والسيّد الحدّاد والمرحوم القاضي والمرحوم الآخوند وأمثال هؤلاء الأولياء الذين لا يُمكن للإنسان أن يستخفّ بكلماتهم ويستهتر بها؛ والأعلى من ذلك هو الكلام المرتبط بنفس الإمام؛ إذ لا نقاش فيه أبدًا، وعلى الإنسان أن يبني حياته على أساسه! يعني: أنّك حينما تستيقظ في الصباح، عليك أن تستحضر جميع فقرات دعاء أبي حمزة في ذهنك؛ لأنّ الإنسان قد يواجه في كلّ لحظة مسألة معيّنة؛ فما الذي عليه أن يفعل؟ عليه أن ينظر ماذا قال الإمام هنا! وماذا قال الإمام هناك! كأن يكون الإنسان ماشيًا، فيأتي شخص ويطلب منه أمرًا، فيُجيبه بنعم أو لا؛ فإن قال: نعم، فهناك تبعات، وإن قال: لا، فهناك تبعات أخرى؛ فينظر مباشرةً إلى هذه الفقرات، ويرى ما هو القرار الذي اتّخذه الإمام في مثل هذه الظروف، ويبقى أنّ ذلك يكون بحسب فهمه هو، وليس من الضروري أن يكون مصيبًا في ذلك مائة بالمائة، بل على الأقلّ يستحضر هذه المطالب في ذهنه، ويرى ما الذي كان سيفعله الإمام فيما لو كان موجودًا في نفس هذه الظروف، وأيّ أمر سيصدر منه في هذه الحالة؟! وهنا سيكتشف أنّ الأمر اختلف كثيرًا.
ففي بعض الموارد، ينبغي عليه التأمّل، وفي بعضها الآخر، ينبغي عليه أن يتفاعل بسرعة، وفي بعضها، يكون من المفروض عليه أن يعمل بنحوٍ آخر؛ فهذه المطالب تُبيّن كيفيّة تعامل الإنسان في المجتمع وفي سائر الأمور الشخصيّة والعباديّة وغيرها ـ والتي يُبحث عنها في مكانها الخاصّ ـ ، لكن يبقى أنّها غير مقتصرة على ليالي شهر رمضان، بل ولا على الليالي التي يأتي فيها هذا الحقير الفقير الغارق في التقصير، ويُوفّق للقاء الإخوة .. فكم نقرأ نحن من دعاء أبي حمزة؟! من سنة إلى أخرى، نقرأ سطرين أو ثلاثة أسطر، لا أكثر!
كان أحد الرفقاء يقول: أعتقد بأنّك إن بقيت تشرح دعاء أبي حمزة بهذا النمط، فسيطول بك الأمر إلى زمان الرجعة، وستتجاوز حتّى عصر ظهور إمام الزمان!! فقلت له: يا عزيزي، إنّ هدفي هو أن آتي، وأجلس مع الرفقاء، ونأنس ببعضنا البعض، وأمّا بالنسبة لبقيّة الأمور، فبحسب ما يقسمه الله لنا.
عدم إمكانيّة السير والسلوك مع الشكّ والوسواس والتذبذب
إنّ هذا المعنى من التنجّز عجيب جدًّا! أي أن يكون للإنسان يقين بالنسبة إلى طريقه؛ فبدون اليقين لا توجد حركة؛ ولهذا، ذكرت لكم في تلك الجلسة بأنّ أسوأ الأمور وأخطرها وأكثرها مانعيّة وإخلالاً في طريق السالك هي مسألة الوسواس! فالوسواس يُردي الإنسان ويضرب جميع مبانيه من أساسها، ويُزلزل كافّة معتقداته من أصولها، ويأتي إلى قوام النفس والقلب ـ الذي ينبغي أن يكون استقرارُه محفوظًا حين الحركة نحو الله ـ ، فيُهدّمه، ويعمل على استبداله بالشكّ والترديد والتذبذب وغيرها؛ مع أنّه لا يُمكن للإنسان أن يفعل شيئًا مع وجود حالة التذبذب! يعني: إذا كان هناك شخص يُعاني من الوسواس، وكان يحضر عند المرحوم العلاّمة، لا، بل كان يحضر عند إمام الزمان لمدّة مائة سنة، لكن مع وجود حالة الوسواس لديه: هل أفعل هذا الأمر الذي أمرني به الإمام أم لا؟ حسنًا، فلأفعله الآن، لكن هل قال هذا لمصلحتي الآن، أم كان بوسعه أن يأمرني بشيء آخر؟ وما هي الحيثيّة التي لاحظها الإمام عندما أمرني بهذا الشيء؟ يا عزيزي، ما دخلك أنت بهذه الأمور؟ افعل ما يُطلب منك! فما علاقتك أنت بذلك! لقد قال لك: افعل هذا ولا تفعل هذا، ثم ذهب! فما الفائدة في أن تأتي أنت وتقول: لقد قال هذا الأمر أخذًا بعين الاعتبار لحالتي أنا! أو تقول: لقد كان بوسعه أن يذكر هذا الأمر بطريقة أخرى، فهو أراد أن يراعي جانبي! فلو بقي الإنسانُ مائة سنة على هذه الحالة، فلن يتقدّم ولو لخطوة واحدة، وسيكون قد اقتصر على الرؤية الظاهريّة للإمام والأنس به ظاهرًا فقط.
ولدينا نظائر هذا الأمر؛ فمثل هؤلاء الأشخاص كانوا موجودين في زمن المرحوم العلاّمة؛ ففي أحد الأيّام، أراد أحد هؤلاء أن يطرح أمرًا على الآخرين في جلسته الخاصّة، فظنّ الجميع أنّه يريد أن يطرح سؤالاً علميًا ـ فما أكثر الابتلاءات التي أصابتنا في ذلك الوقت جرّاء مثل هؤلاء الأشخاص!! ـ ، فقال: أريد في هذه الليلة أن أطرح عليكم سؤالاً، وعلى الجميع أن يُجيب عنه! فظنّوا بأنّه يُريد أن يشقّ القمر! فقال: إذا كان هناك وليّ لله في تلك الناحية من العالم، وكنتَ أنت في هذه الناحية من العالم عند وليّ آخر ـ كما هو حالنا نحن الآن ـ ؛ فما هو تكليفك بالنسبة إلى ذاك الوليّ؟ ما شاء الله.. أنعم به وأكرم! فمع عقلك هذا الذي لا يساوي عقل عصفور، أنت لا تفهم شيئًا! يا عزيزي الأحمق، إذا كان وليّ الله إلى جانبك، فلا ينبغي عليك أن تفكّر في ولي الله الموجود في ذاك الطرف أو هذا الطرف من العالم أو داخل البئر أو خارجه؛ فلو فرضنا أنّ وليّ الله كان في القمر، فما الذي ينبغي علينا فعله يا سيّدي العزيز؟ هل علينا أن نستقلّ مركبة «أبولو» لكي نراه؟! أم نركب البراق أو بغلاً أو غيره؟! أم أنّك أنت هو البغل وعديم الفهم؟!
ماذا يعني هذا؟ من يمكنه أن يطرح مثل هذا الكلام؟ وأن يكون له مثل هذا الفهم؟ فما دخلي أنا بمسألة أن يكون هناك وليّ لله في ذاك القسم من العالم؟ أدعو الله تعالى أن يحفظه من البلاء، لكن ما دخلي أنا بذلك؟ أليس إمام الزمان حاضرًا الآن في الدنيا؟ فماذا أفعل؟ إذا كنت لا أقدر على الوصول إلى إمام الزمان، فماذا يمكن أن أفعله غير الدعاء له بالسلامة وأن يوفّقنا الله لزيادة معرفته، ويُوضّح لنا باطنه؟ حسنًا، لنفرض أنّ هناك وليّ لله في ذاك القسم من العالم، فما هو الأثر الذي نحصل عليه جرّاء ذلك؟ لأنّه إذا كان هذا الوليّ الذي إلى جانبك يُمكنه أن يأخذ بيدك، فلماذا تُريد الذهاب عند وليّ آخر؟! وأمّا إذا لم تكن له القدرة على الأخذ بيدك، فلا قيمة له من الأساس؛ والحال أنّك قلت بأنّ ذاك مثل هذا! إذا كان ذاك أرجح من هذا، فعليك أن تذهب إليه، ولا شكّ في ذلك، والعقل يحكم بضرورة اتّباع الراجح، أمّا أن نقول: إذا كان يوجد وليٌّ لله في هذا القسم وذاك... والمراد من كلّ هذا، أنّ هؤلاء الأشخاص كانوا يأتون في ذلك الزمان، ويطرحون مثل هذه الأمور الفارغة التي لا تساوي قرشًا أسودًا.. كلّ ذلك بسبب ماذا؟ بسبب الوسواس! وقد كنت أعرف هؤلاء الأشخاص؛ فمن يكون لديه وسواس، يكون كذلك حتى لو كان جالسًا بالقرب من وليّ الله؛ فتجده يتساءل: هل يمكن أن يفكّر الإنسان أفضل من هذا أم لا؟ هل هناك كلام أفضل من هذا أم لا؟ وتكون جميع أموره مبتنية على هذا التساؤل: هل يُمكنها أن تكون هكذا أم لا؟ إلى أن يضع وليّ الله رأسه على اللحد ويُودّع هذا العالم.. فما الذي حصّلته منه؟ لا شيء! لأنّك كنت تعيش معه إلى الآن على أساس الوسواس والشكّ؛ ولهذا لن تحصل من وليّ الله على شيء أبدًا! والواقع أنّك لم تحصل على شيء غير الشكّ والشبهة والكلام الفارغ، والأفكار التافهة والمعوجّة التي لا تمتلك أيّة واقعيّة.. لماذا؟ لأنّه لا يوجد يقين في عملك، ولا يقين في طريقك، بل تقول: فلنعمل، وننظر ما الذي سيحصل؛ ففي النهاية، هذا السيّد أفضل من الآخرين، وله نورانيّة، وشكله لا بأس به، وإذا نظرنا إلى الظاهر، فهذا السيّد من حيث الشكل والملامح ليس فقط أنّه لا ينقص عن الآخرين، بل ما شاء الله، حفظه الله تعالى من شرّ العين... نعم، فهذه الأمور موجودة، غاية الأمر أنّنا نُظهرها، وإلاّ فإنّ هذه الأمور كانت موجودة في ذلك الوقت، وكان مثل هذا الكلام موجودًا..
أو من باب المثال: أن يكون أحد مراجع التقليد له اهتمام أكثر من وليّ الله ببعض المسائل؛ مثل أن يكون قد اشتغل بالأصول أكثر ـ وقد كانوا يُحدّثوني بهذه الأمور في ذلك الزمان ـ ؛ ففي النهاية، عمره تسعون أو ثمانون سنة، بينما السيّد عمره ستون سنة! فذاك اشتغل أكثر منه بعشرين سنة! لكن ماذا يعني ذلك؟ فهل كان يحفر الأرض بالمسحاة؟! فما قرأه هذا، قرأه ذاك؛ فماذا يعني أنّه درس أكثر منه؟ هل حفر الجبال، أم ماذا فعل؟ حسنًا، فما الذي ينبغي علينا فعله هنا؟ فهذا الوليّ بنفسه مجتهد؛ ولهذا نحن نسأله هو، لكن من الممكن أن يكون ذاك المرجع الموجود في ذاك المكان قد اشتغل أكثر وشاهد روايات أكثر! يا عزيزي، لقد شاهد روايات أكثر، لكن هل يعني ذلك أنّ فهمَه بالنسبة إلى الروايات أكبر؟!! أم أنّه اقتصر فقط على المشاهدة؟!! فانظر إلى أيّ حدّ بلغ هؤلاء من عدم الفهم؟ ولا أدري ماذا كان طعامهم؟ يا عزيزي، إنّ المسألة ليست بكثرة قراءة الكتب، بل بفهم الرواية والمسألة، وبالوصول إلى المباني وتلك المسائل، والكشف عن تلك الحقائق التي تُعين الإنسان على فهم هذه الروايات والمطالب والاستنباطات. فماذا يعني أن نقول: ذاك الشخص درس أكثر بعشر سنوات، وذاك درس سنتين أكثر؟! وما أكثر الهراء الذي كان يحصل في ذلك الزمان!
غربة الأئمّة عليهم السلام والأولياء
وحقيقةً، أنا أتحسّر كثيرًا في بعض الأحيان على المظلوميّة التي كان يُعاني منها والدي، حيث ابتلي بنا! ولم يكن من دون سبب ما قاله المرحوم العلاّمة لأحد الأشخاص حينما أراد الذهاب لزيارة الحرم، وقد قال لي ذلك أنا أيضًا ـ ففي بعض الأحيان كان يستعمل المزاح في موضع الجدّ ـ ، حيث كنت أودّ الذهاب للزيارة، فقال لي: إلى أين أنت ذاهب؟ فقلت: أنا ذاهب للتشرّف بزيارة الحرم، فقال لي: أبلغ سلامي للإمام الرضا، وقل له: يوجد هنا غريبان؛ أحدهما أنت والآخر أنا، فنحن كلانا غريب هنا! فقلت: حتمًا يا سيّدي، سأقول له ذلك. ولعلّه أراد أن يخبرني بشيء ويلفت نظري إليه من خلال هذا الكلام؛ فكلام الأولياء ليس عبثيّ وبلا حساب! لكن واقع الأمر هو هذا؛ فمن الذي استطاع فهم كلامه واستيعاب مراده؟ ومن الذي تمكّن من الوصول إلى تلك المباني؟
فكم هو عدد الأشخاص الذين عملوا بتلك المطالب التي كان يقولها ويذكّر بها مرارًا وتكرارًا؟ وليس لدينا القدرة على الدخول كثيرًا في التفاصيل؛ لأنّ ذلك سيُؤدّي للاعتراض علينا بأنّه: لماذا تفعل هذا، ولماذا تذكر ذلك؟
وحقيقةً، كم هو عدد الأشخاص الذين استطاعوا فهمه؟ ولهذا، كان يقول: يوجد غريبان؛ أحدهما أنت والآخر أنا! فكلانا غريب! حسنًا، من الذي تمكّن من فهم الإمام الرضا؟ ومن الذي أدرك مقامه؟ ومن الذي وصل إلى حقيقة مرتبته ومكانته ومنزلته؟ فهؤلاء كانوا متنجزّين،يعني أنّهم آمنوا، وساروا وفقًا لما يُمليه عليهم إيمانهم.
نتيجة التساهل في العمل بمطالب الأولياء
فأنت عندما تشعر بوجع، وتعجز عن تشخيص المرض، فتُراجع الطبيب الأوّل والثاني والثالث؛ فترى أن المسألة جدّية! ويقول لك الطبيب: لا تأكل من هذا الطعام، فهو خطر عليك! أو يقول لك: لا تفعل هذه الأمور! ثمّ بعد ذلك، تذهب إلى منزل صديقك، فترى أنّه قد أعدّ لك من ذاك الطعام، فماذا تفعل حينئذٍ؟ هل تجلس وتأكل منه؟ كلاّ، ولو فعل ما فعل! وقد لا تريد أن تخبره بأنّك تُعاني من المرض الفلاني، فتقول له: لا أشتهي هذا الطعام، سآكل من طعام آخر، فيقول لك: سأنزعج منك إن لم تأكل، أستحلفك بالله أن تأكل ولو بضع لقمات! لكن مع ذلك لا تأكل، لماذا؟ لأنّه لديك يقين، حيث قيل لك بأنّك إذا تناولت من هذا الطعام، فسوف يتفاقم مرضك، فلهذا لا تأكل منه.
لماذا نحن متساهلون إلى هذا الحدّ بالنسبة إلى المباني التي لدينا؟ فنقول مثلاً: عليّ أن أذهب إلى مجلس الخالة؛ لأنّها ستنزعج منّي إذا لم أذهب، والعمّة كذلك ستنزعج، فلأتغاضى عن هذا الأمر، والعمّ سيفعل كذا، فلأترك هذا العمل، والجار يتوقع منّي هذا الأمر، فلأدع العمل بالمسألة الفلانيّة! لماذا؟ لأنّه لا يقين لدينا، بينما هناك كان عندنا يقين؛ لأنّ المسألة هناك ترتبط بالمرض ولها علاقة بالنفس! ـ مثلما يُقال في أحد الأمثلة العامّية: المسألة مسألة نقود وليس نفس حتّى يُمكنك أن تتخلّى عنها؛ لأنّه ليس من السهل على الإنسان أن يُعطي النقود! ـ فعندما يقول لك الطبيب: إذا أكلت من هذا الطعام، ففيه ضرر عليك، لماذا لا تفكّر هناك بالعمّة والخالة والرفيق؟! ولا تقول: سآكل لأجله بضعة لقيمات؟ا بل تمتنع عن تناول ذاك الطعام بأيّة وسيلة وبأي سبب وتحت أيّة ذريعة، وتمتنع عن القيام بذاك العمل! السبب في ذلك هو أنّ المسألة جدّية بالنسبة إليك؛ فتكون هذه هي حالك عندما تنتبه لهذا الأمر.
وأمّا بالنسبة للمطالب التي يذكرها العظماء حينما يقولون [مثلاً]: لا ينبغي للمرأة أن تتحدّث مع الرجل؛ لأنّ في ذلك خطر عليها، وفيه ضرر عليها، ويُغيّر حالتها! فإنّنا نقول: إن لم آتِ وأسلّم على الضيف، فسوف يتضايق، وإذا أتى الجار ووقف عند الباب، ولم أذهب لاستقباله، سيقول: من يكون هؤلاء؟ لقد أتوا بدين جديد، فتراهم يعبسون ويجلسون هكذا من دون حراك! يالك من رِجعيّ! كأنّك أتيت من القرن السابع أو السادس الهجري أو من العصر الحجري! فما نتيجة كلّ هذه الكلمات؟ نتيجتُها هي أنّك لن تجنيَ تلك الثمرة التي ينبغي أن تحصل عليها من حياتك وعمرك وبرنامجك ودستورك لأجل رشدك وتكاملك! لا أقول بأنّك سوف تقع في الخطر؛ فهذا باب آخر وبحث مستقلّ، وقد ذكرنا نزرًا من ذلك في مقدّمة كتاب «حيات جاويد»؛۱ إذ من المؤسف أنّ وسائل الحياة العصريّة ضربت جميع النظم العائلية، وخلطت الأمور، وصارت تُشكّل خطرًا كبيرًا وحقيقيًّا يهدّد كيان العائلة، وسيبقى يهدّدها.
حسنًا، قد لا تصل المسألة إلى هذه الدرجة، لكن أقلّ شيء هو أنّ ذلك الاستعداد الذي ينبغي أن يُستفاد منه سيتعطّل، وتلك الحالة التي ينبغي على الإنسان أن يعبر ويتحرّك بها... ولا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة؛ فالرجل لا ينبغي له أيضًا أن يتحدّث مع المرأة؛ لأنّ حديثه مع المرأة سيترك أثرًا في نفسه، وليس من الضروري أن يُدرك الإنسانُ شيئًا في ذلك الوقت؛ إذ إنّ ذلك الحديث يترك في نفسه مجموعة من التأثيرات، ويزرع في داخله بعض التوهّمات والتخيّلات التي تبدأ بعد ذلك في النموّ، فتورد الإنسان ـ شيئًا فشيئًا ـ في مسائل وأمور أخرى؛ ولهذا، قيل من الأوّل: لا تتكلّم مع المرأة، اللهمّ إلاّ في المسائل الضروريّة، حيث لا إشكال هناك في الحديث مع المرأة.
فالإسلام لا يقبل بهذا النمط من الحياة الاجتماعيّة، وهو لا يُكنّ في ذلك العداء لأيّ أحد، فإن أردت فِعل ذلك، فافعله، هنيئًا لك! لكن عندما يأتيك عزرائيل، وتضع رأسك على الأرض، عند ذلك ستفهم حقيقة الأمر، وبأنّك أضعت جميع عمرك وأتلفته في هذه المسائل والأمور اليوميّة؛ وحينئذٍ، ستعرف بأنك ضيّعت استعداداتك، وبأنّك لم تحصل على النتيجة التي كان ينبغي أن تأخذها من حياتك وعمرك الذي منحك الله إيّاه! ولهذا، فإنّ العظماء قالوا لك: تعال من الأوّل، وقم بهذا العمل!
لكن ليس لدينا تصديق، حيث نريد أن نبقى في تلك الأجواء التي أنسنا بها، ونظلّ ثابتين في ذلك الفضاء الذي ارتبطنا به، ولا نرتقي إلى أعلى منه؛ بحجّة أنّه ستُواجهنا في هذه الحالة بعض المسائل والاعتراضات الأخرى؛ وحينئذٍ، ما الذي ينبغي علينا فعله؟ فإن أردنا أن نتهاون في هذا الأمر ونتساهل به، فإنّ بقيّة الناس لن يتضرّروا، بل نحن الذين سنتضرّر ونخسر؛ لأنّ لكلّ واحد من الناس عالمه الخاصّ وأعماله الخاصّة ـ سواء ذكرنا لهم ما نُؤمن به أم لم نذكر ـ ، وسوف يُعربون عن مواقفهم الشخصيّة؛ لأنّ لهم منهجهم الخاصّ في الحياة، ولهم ثقافتهم الخاصّة.. ومن يخسر هو نحن! نعم، لا ينبغي أن نتوقّع بأنّ كلّ عمل يصدر منّا يجب أن ينال إعجاب الناس وتحسينهم، كلاّ، بل يمكن أن يكون هناك اعتراض وكلام ومثل هذه المسائل.
التنجّز يعني الثبات على المباني ومواجهة الاعتراضات
لقد دوّنا كتابًا حول الأربعين، وذكرنا فيه بأنّه ليس لدينا في الإسلام سنّة للأربعين، وبأنّ الأربعين مختصّة بالإمام الحسين والسلام! فاتّصل بي أحدهم من مكان ما، وكان أحد الأقارب قد مات، فقال لي: يا فلان، لقد توفّي فلان، وسنقيم له ليلة الجمعة أو ليلة السبت مجلس أربعين، وها أنا ذا قد اتّصلت بك لإخبارك. فقلت له: لن آتي؛ فأنا في قم لكننّي لن آتي! فقال: لماذا؟ قلت: ألم أرسل لك كتاب >الأربعين< حتّى تقرأه؟ فقال: صحيح أنّك بعثته إليّ، لكن في النهاية ماذا علينا أن نفعل؟ فقلت: ماذا؟ أحسنت! إمّا أن تجيبني على هذا الكتاب، وإمّا حينما تموت، فإنّني سأعترض طريقك يوم القيامة أمام النبيّ والإمام الحسين، وأقول لك: أنا ابن أخيك أعطيتك هذا الكتاب، وقد قرأته؛ فلماذا لم تعمل به؟! لماذا؟ أجبني! وقلت له: أنا موجود في قمّ، ولست مسافرًا، وصحّتي جيّدة جدًا، ولست مريضًا، ومع ذلك، لن أشارك في أربعينيّة عمي؛ لأن الأربعين مختصّ بالإمام الحسين عليه السلام. ولا يخفى أنّه لم ينزعج منّي لذلك، حيث قال: حسنًا، فهذا يصحّ بناء على رأيك، فقلت له: كلاّ، بل أنت الذي قرأت هذا الكتاب عليك أيضًا ألاّ تذهب! فأنا لن أذهب حتمًا، لكن عليك ألاّ تذهب أنت أيضًا؛ لأنّني أقمت عليك هذه الحجّة! أمّا أن تقول بأنّ فلانًا سيتأذّى، وزوجة عمّي ستأتي وتقول: لماذا لم تأتي يا زوجة أخي! فإنّ هذه الأمور لا تصحّ.
فأنت الذي تُشارك في مجالس الإمام الحسين، سوف يأتي عليه السلام في يوم القيامة ويقف أمامك ويقول: لقد كنت تُشارك في مجالس عزائي، فلماذا لم تهتمّ بهذه المسألة؟! فنحن نحمل الإمام الحسين على الهزل، وقد لا يبلغ بنا الأمر درجة الهزل، لكن غاية ما نفعله هو أن نقول: لقد كان الإمام الحسين رجلاً صالحًا، فقتله يزيد، وانتقل إلى رحمة الله تعالى!! ففي نهاية الأمر، هو الإمام الحسين عليه السلام.. رحمة الله على جميع شهداء كربلاء، ورحم الله الجميع!!! ولماذا نضحك؟ فنحن هكذا أيضًا! فعندما أتوصّل إلى هذه النتيجة... لو أنّني لم أتوصّل إليها، فلا شيء عليّ، وسأقوم وأذهب [للمشاركة في الأربعينيّة]، لكن عندما أصل إلى تلك النتيجة، فسيُقال لي: يا سيدي العزيز، عليك أن تعطيني جوابًا! يا حضرة السيّد الفلاني الذي تهدّد وتتوعّد بأنّه لو تمّ الحديث عن المسائل الواردة في كتاب «الأربعين» من على المنبر، فسوف نقول لهم أن لا يدعوك، عليك أن تُجيب عن ذلك يوم القيامة! حسنًا، تعال وقدّم جوابًا يُثبت أنّ المسائل الواردة في كتاب «الأربعين» خاطئة؛ وحينئذٍ، لا إشكال، سوف نتراجع عنها، ونصلحها في الطبعة التالية، ونقول بأنّنا لم نتمكّن سابقًا من التوصّل لهذا الأمر؛ لأنّنا لم ننتبه إلى الآن لوجود الرواية الفلانيّة، ولم نلتفت إلى القصة والحكاية الكذائيّة؛ وقد تم لفت نظرنا إليها، وها نحن نصلحها!
أمّا إذا كتبت في كتابك وقلت ـ بحيث سمعك جميع الناس ـ : «إنّ الأربعين كانت في زمن الأئمّة، وبعد ذلك اندثرت كلّها وبقيت فقط أربعين الإمام الحسين عليه السلام»،۱ فعليك ـ بعمامتك هذه ـ أن تجيب عن ذلك يوم القيامة! لماذا طرحت على الناس كلامًا كذبًا من دون دليل؟ لماذا؟ هات دليلاً بأنّه في زمان الأئمّة، أقام الإمام السجّاد عليه السلام مجلس الأربعين للإمام الباقر عليه السلام ـ فلا كلام لنا ـ ، أو أنّ الإمام الرضا أقام مجلسًا لأربعين والده موسى بن جعفر، أو أنّ الإمام الجواد أقام أربعين لأبيه الإمام الرضا عليه السلام، أو أنّ الناس في زمن الأصحاب ـ نظير ابن أبي عمير وزرارة وفلان ـ أقاموا الأربعين، ثمّ بعد ذلك ضاعت هذه السنّة، حيث أتى زلزال فجأةً وقضى عليها جميعًا! أو أتى تسونامي وأخذها إلى قعر البحر! أو أتت فجأةً صاعقةٌ فاندثرت جميع الأربعينيّات!! وأنا لا أفهم كيف أنّ النبيّ الذي هو جدّ الإمام الحسين كانت له أربعين وضاعت، بينما بقيت أربعينيّة الإمام الحسين؟! فهذا من أعجب العجائب! ولو فرضنا أنّ أمير المؤمنين عليه السلام ـ الذي كان والدًا للإمام الحسين عليه السلام ـ كانت له أربعين وضاعت عبر صاعقة أو زلزال، فكيف بقيت أربعين الإمام الحسين؟! هذا تلاعب بدين الناس! هذا هو معنى ذلك! لكن أن يأتي الإنسان ويلعب بدين الناس، ليست بالمسؤوليّة السهلة!! فالله تعالى سيُشدّد في حساب الإنسان عليها! ولهذا، لا ينبغي على الإنسان أن يضع قدمه على ذيل الأسد؛ فغيرة الله تظهر هنا!
لكن عندما يكون لدينا تصديق بأمرٍ ما، علينا أن نثبت عليه، وعلينا أن نواجه اعتراض الناس علينا.. فليكن ذلك! لأنّك إذا واجهت اعتراض الناس عليك، وبقيت ثابتًا على علمك ويقينك، فاعلم بأنّ صلاة الليل مائة سنة لن تجعلك تتقدّم كتقدّمك بثباتك في الإتيان بأحد هذه الأفعال! فإن فعلت أحد هذه الأفعال مع اعتراض الناس وطعنهم فيك وانتقادهم لك، فهذا الذي يجعلك تتقدّم وتتحرّك، وهذا الذي يجعلك تترقّى.. هذه هي حقيقة الأمر، وهذا هو معنى التنجّز.
ونقتصر في حديثنا عن مسألة التنجّز والمتنجّز ـ الواردة في عبارة الإمام السجّاد عليه السلام ـ على هذا المقدار؛ لأنّه لو بقينا إلى آخر شهر رمضان نتحدّث عنها، لبقي هناك كلام، ومهما تحدّثنا عن هذه القضيّة، فإنّه يكون قليلاً، لكن خلاصة المطلب هو أنّ جميع حياة الإنسان وحركته تدور حول ذلك الاعتقاد الأوّلي، وذلك اليقين الذي يمتلكه الإنسان تجاه الطريق، وتلك الاستقامة التي يتّصف بها ويعمل على أساسها ويثبت.
ولهذا قلت لكم سابقًا بأنّ هذه المسألة تحصل لكلّ واحد في حياته، وقد حصلت لنا أيضًا، حيث قيل لنا في فترة من الزمان: عليك أن تتخلّى عن اعتقادك!
ـ لماذا؟
ـ عليك أن تتخلّى عنه!
ـ لماذا؟ فأنا على يقين بهذه المسألة؛ فلماذا أتخلّى عنها؟
ـ إمّا أن تتخلّى عنها، أو أنّنا لن نُسلّم عليك.
ـ عجبًا، أنا لديّ يقين واعتقاد وعلم بهذه القضية، وبأنّ هذا الشيء أبيض!
ـ لا، بل عليك أن تقول بأنّه أسود.
ـ بأيّ دليل؟
ـ لا يوجد لدينا دليل يا عزيزي، فهل تُريد أن تتكلّم وتردّ كلامي؟ فعندما نقول أسود، فهو أسود!
ـ فقلت: لا يا عزيزي، فنحن لم ندرس هذا، بل نقول للأبيض أنّه أبيض، وللأسود أسود، وللأحمر أحمر، وأنا لا أدري من أين أتانا أن نقول عن الأبيض أنّه أسود؛ فهذا الدرس لم نتعلّمه بعد!
ـ حسنًا، أنت لم تدرسه! من الآن فصاعدًا، لن نسلّم عليك!
ـ لا تسلّم، لا يهمّني ذلك!
ـ وسوف نقطع علاقتنا بك!
ـ فليكن ما يكون، فلا يهمّني أن تقطع علاقتك بي! يا عزيزي، إنّ الأبيضَ أبيضٌ؛ سواء قطعتَ علاقتك بي أم لا، وسواء سلّمت عليّ أم لا!
ـ سوف نقطع علاقتنا بك!
ـ فليكن! افعل ما تشاء!
فأنا لا يمكنني أن أتخلّى عن يقيني، لأنّني إن تخلّيتُ عنه، فالذي سيقف أمامي يوم القيامة ليس أنت، بل شخص آخر؛ فإن كنتَ أنت الذي ستقف أمامي وتقول لي: أنا أعطيك ضمانًا في يوم القيامة وأضمن لك بأنّني أنا الذي سأكون أمامك! فإنّني سأقول للأبيض بأنّه أصفر، بل هو أحمر، بل هو كلّ الألوان.. فلا إشكال، لكنّك يوم القيامة مشغول بأمورك الخاصّة، وتحمل ثقلك على عاتقك ولا تهتمّ بي أبدًا! وأنا فطِن وملتفت إلى الغد، وعندي علم بيوم القيامة؛ ولهذا، لن أخدع بكلامك هذا؛ فأنا أعرف بأنّك في يوم القيامة تفكر في أعمالك فقط.
فالذي عليّ أن أجيبه يوم القيامة هو إمام زماني؛ إذ سيقول لي: أنت لديك فهم، فلماذا وضعت فهمك جانبًا؟ وأنت لديك علم، فلماذا تركت علمك جانبًا؟ وأنت لديك يقين، فبأيّ مبرّر وضعت يقينك جانبًا؟! فغدًا، عليّ أن أجيب إمام الزمان، لا أنت! فقيل لي: سنقوم بهذا الفعل! قلت: قوموا به! بل قوموا بما هو أعلى منه، وافعلوا ما يحلو لكم، والآن أيضًا أقول: افعلوا ما شئتم..
والخلاصة ـ أيّها الرفقاء ـ بعبارة واحدة هي: عليكم أن تعملوا بما تتيقّنون منه، وأمّا إذا لم يكن لديكم يقين، فلا! ولا تخشوا من الاعتراض والنقد والطعن وأمثال ذلك؛ إذ ينبغي على الإنسان أن يكون ثابتًا على يقينه تجاه الطريق والمباني.. هذه هي المسألة.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد