المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1435
التوضيح
ماذا سيحصل لو تعامل الله تعالى معنا بعدله؟ من هو المصدر الحقيقي للأعمال: الله تعالى، أم الإنسان؟ ما هو السرّ في جعل الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم منزل أبي سفيان مأمنًا في فتح مكّة؟ ماهو الفرق بين تعاملنا مع الحوادث والوقائع وتعامل الأولياء والنبي معها؟ وكيف تتجلّى رحمة الله فيهم؟ إذا لم يتعلّم الإنسان بأنّه لا شيء، ما الذي سيحدث له؟ هي تساؤلات سعى سماحة السيّد قدس سره تعالى للإجابة عنها في هذه المحاضرة، مع الإشارة في ضمن ذلك إلى بعض القصص التربويّة المعبّرة.
هو العليم
أهمية الوفادة على الله تعالى بغير زاد
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٥ هـ ق - المحاضرة السابعة
محاضرة ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
«وَأَنَا يَا سَيِّدِي عَائِذٌ بِفَضْلِكَ هَارِبٌ مِنْكَ إِلَيْكَ متنجِّزٌ مَا وَعَدْتَ مِنَ الصَّفْحِ عَمَّنْ أَحْسَنَ بك ظنًّا»
يا سيّدي ويا مولاي! أنا ألجأ إليك وأهرب منك وأسرع إليك، وعلى يقين من الوعد الذي وعدت به من العفو والصفح عن من أحسنوا بك ظنًّا!
كان الكلام يدور حول فقرة "متنجّز ما وعدت"، وإن لم ننته بعدُ من الحديث عن فقرة "هارب منك إليك"، ولم نذكر المطالب المرتبطة بها، مع أنّها سابقة عليها، لكنّ الكلام فعلاً هو عن نفس هذه الفقرة التالية، والتي لها ارتباط بالفقرة السابقة، وسوف نتحدّث عن تلك الفقرة الأولى لاحقًا.
لو تعامل معنا الله تعالى بعدله لما بقي لنا شيء، وقصّة لطيفة عن ذلك
ذكرنا أنّ الإمام السجّاد عليه السلام يقول في هذه الفقرات: إنّ رأسمالي في المسير إليك هو فضلك وكرمك ولطفك العميم! وتقدّم أن ّهذه الفقرة تقع في مقابل مسألة العدل، حيث يقول الإمام عليه السلام: لا يمكنني أن أجعل عدالتك هي رأسمالي، وإلا فلن يبقى لي شيء؛ فإن كنت تريد أن تتعامل معي بعدالتك، فكيف يمكنني حينئذٍ أن أصل أو أبلغ تلك المراتب والدرجات والعوالم التي أعرف أنّك جعلتها لأوليائك وخواصّك؟! فإن كان من المفترض أن يتعامل الله معنا على أساس عدله، لا بفضله ـ لأنّ هذين الأمرين منفصلان تمامًا، ومختلفان عن بعضهما البعض ـ ، فلن يبقَ لي شيء.
كان هناك شخص من كبار السنّ المقيمين في طهران، وكان لديه مجالس عزاء في ليالي الجمعة، حيث كان يجتمع عنده بعض الأشخاص ويقرؤون العزاء ويلطمون، ثمّ بعد ذلك يأكلون مرق اللحم ويذهبون.. هكذا لا أكثر! فكانت عبارة عن مجالس توسّل فارغة عن المحتوى تبدو كأنّها هيأة۱، وتخلو من أيّ هدف ومقصود، وتخلو من الحديث عن أيّ مطلب مهمّ؛ فكانوا يقتصرون على مجرّد الجلوس واللطم، ثمّ يقومون لتناول الطعام ويذهبون؛ هكذا وحسب! وبعد ذلك، يستأنفون أعمالهم السابقة "روز از نو، روزى از نو"٢! ولا يخفى وجود الكثير من أمثال هؤلاء، وهذا منهم! وكنت قد التقيت به سابقًا، لكنّه توفّي؛ فقد كان رجلاً أمّيًا، ولا علم لديه، بل رأسماله هو الصراخ والصياح عند سماعه للعزاء والمصيبة، وكان يجذب الناس إليه بعمله هذا؛ أي كان لديه دكّانًا! فالدكاّن له أنواع وأقسام؛ لأنّه في اجتذاب الناس، يستعمل كلّ شخص وسائله وطرقه الخاصّة التي تتناسب مع فنّه ومهنته؛ فالتاجر له طريقة، والطبيب له طريقة، والمهندس له طريقة، والمعمّم له طريقة، وغيره كذلك.. فكلٌّ له طريقة خاصّة وأسلوب خاصّ في اجتذاب الناس يُمكنه من خلالها أن يعرض بضاعته في السوق بشكل أفضل، بحيث يلفت نظر الطالب إليها؛ فهذا أيضًا من مظلوميّة الإمام الحسين عليه السلام، حيث ابتلي بنا، فصرنا نتعامل به من أجل تمشية أمورنا وتحقيق رغباتنا الدنيويّة!
أتى هذا الشخص إلى مشهد، ومن باب القضاء والقدر أنّ أحد أصدقاء المرحوم العلاّمة جاء به إليه، ولِحُسن الحظّ أنّني لم أكن موجودًا في ذلك المجلس!! حيث جاء به لكي يلتقي به المرحوم العلاّمة؛ لأنّه ـ في نهاية الأمر ـ من أهل التوسّل والولاء، وله حالات، ويبكي على الإمام الحسين إلى حدّ الصراخ و... وهذا بحدّ نفسه يُعدّ عالمًا من العوالم!! فالصراخ والعويل له عوالمه ومراتبه الخاصّة، فلا تستهينوا بالأمر وتتّخذونه مزاحًا!!! لأنّ الصراخ والعويل والقفز والانبطاح وإثارة الفوضى هو بحدّ ذاته مرتبة من المراتب! ففي مثل هذه المجالس، قد يفقد الإنسان وعيه، وتحصل له حالة من الوجد! وأمّا البحث عن أنّ هذه الحالة هل هي بيد الإنسان[وتصنّعّه لها] أم ليست بيده[بحيث تكون حالة حقيقية فيه]، فنترك الخوض فيه الآن!! لكن يبقى أنّ هذه الأمور هي عبارة عن مسرحيّة! ألم تُشاهدوا مسرحيّة من قبل؟! فهذا أيضًا أحد أنواع المسرحيّات والتمثيل؛ غاية الأمر أنّه تمثيل ولعب بالمقدّسات، ولعب بنواميس عالم الخلقة وعالم الوجود!
نعم، لقد جاء به لكي يراه المرحوم العلاّمة؛ فكم كان والدنا المسكين مظلومًا بسبب مثل هؤلاء الأشخاص والتلاميذ والمريدين! فحينما أفكّر في بعض الأحيان، أرى أنّه كان مظلومًا ـ حقيقةً ـ ، خصوصًا عندما أتذكّر تلك الأعمال التي كانت تصدر في ذلك الوقت من أولئك الأشخاص؛ فكان ـ لعظمته وكرمه ومن باب الخجل والحياء ـ يُغمض العين عنها، ويتجاوز عنها؛ وفي بعض الأحيان، كان يصل إلى سمعه مطلب من هؤلاء، فكان يتأذّى من ذلك إلى درجة أنّ ضغط دمه يرتفع!
فنحن كنّا على علم بهذه المسائل؛ والحاصل أنّه أتى به لكي ينوّر العلاّمة عينيه بجمال ذلك الشخص، ويستفيد منه، ولا بدّ أنّه كان يظنّ أنّ المرحوم العلاّمة سيتبرّك به! فأتى صاحبنا وجلس في زاوية، ونظر إلى العلاّمة وقال: الحمد لله، لقد وصلت بفضل الله تعالى إلى مرتبة، بحيث لا يُمكن أن يصدر منّي أيّ ذنب! فقال له المرحوم العلاّمة: نفس أنّك ترى في نفسك بأنّه لا يصدر منك ذنب هو أكبر ذنب غير قابل للعفو! فضربه أثناء ذلك بصاروخ ـ أحيانًا يُضرب الإنسان برصاصة، وأحيانًا يُرمى بمضادّ للطائرات، وأحيانًا بصاروخ ـ بحيث لم يدر أين وقع عليه! إنّ نفس إحساسك بأنّك وصلت إلى حالة ومرتبة لا يصدر فيها أيّ ذنب منك هو أعظم ذنب غير قابل للعفو! هذا هو المهمّ في المسألة!
يا هذا! اذهب وتعلّم الأدب، اذهب وتعلم اللباقة، اذهب وتعلّم الحقيقة عند أهلها! فلا ينبغي لك أن تتكلّم هكذا! ولا يخفى أنّني كنت قد وفّقت للقاء به في اليوم السابق على ذلك، فكانت لديه بعض الترّهات التي تستحق الإصغاء؛ والحاصل، أنّنا قمنا بالمطلوب معه في اليوم السابق؛ فكان يريد أن يجبُر ما قمنا به ـ بشكل من الأشكال ـ من خلال لقائه بالمرحوم العلاّمة! فقام العلامة بالإضافة عليه أكثر!
ما معنى هذا؟ ماذا يعني قولك: أنا لا يصدر منّي ذنب؟ من أنت حتى تذنب أو لا تذنب؟ يا عزيزي، إن مَسَك أحدُهم أذنَك، نزع معها مخّك [لشدّة ضعف بدنك]! فمع بلوغك الثمانين أو التسعين من عمرك لست بالشخص الذي تكون له القدرة على فعل طاعة أو معصية! فالإنسان قد يصل إلى مرتبة من الأنانية وعدم الفهم... إذ إنّ لعدم الفهم مراتب أيضًا! فبعضٌ لديه شيء من عدم الفهم، وبعض آخر لديه أكثر من ذلك، وأحيانًا قد يوجد شخص لا يمتلك أيّ حظّ من الفهم؛ فهي مسألة مقولة بالتشكيك.
الله تعالى هو مصدر كلّ أعمال الإنسان
لقد جاء الأولياء ليقولوا: يا عزيزي، إنّ جميع الأمور هي منك [أي من الله تعالى]! فما هي حقيقة الذنب؟ الذنب هو الوقوف أمام الحقّ، والتكبّر أمام الله، وإبراز الأنانية مقابل الله تعالى، وإثبات الوجود وادّعاء الاستقلاليّة أمامه عزّ وجلّ؛ نظير: أنا لا يصدر منّي ذنب، أنا لا تصدر منّي معصية!
لقد وقف أمير المؤمنين عليه السلام على قبر سلمان عند دفنه، وكتب هذين البيتين من الشعر بأصبعه على تراب قبره:
وفدت على الكريم بغير زاد | *** | وحمل الزاد أقبح كل شيء |
من الحسنات والقلب السليم | *** | إذا كان الوفود على الكريم |
هذا الذي يعلمنّا إياه أمير المؤمنين! فأين نحن من سلمان؟! فسلمان قد صار "منّا أهل البيت"، وقال عنه النبيّ: "بحر لا يُنزف" ـ يعني لا نهاية له ـ ، ومع ذلك عندما يموت مثل هذا الشخص، فإنّ أفضل حال يريد أمير المؤمنين أن يصف به تلميذه التربوي الذي تربّى في حجره، وفي مدرسة أمير المؤمنين والنبيّ، فإنّه يقول: عندما رحل سلمان عن الدنيا، لم يصحب معه أيّ شيء ليعرضه على الله تعالى.. كان صفرًا! مثل الذي يوجد الآن في يدي: لا شيء، فقط هواء! فأين ذهبت تلك الصلوات التي كان يصلّيها؟! وأين ذلك الصوم الذي كان يصومه في هذه السنوات؟! وماذا حصل لذلك الحجّ الذي أدّاه؟! وأين هي تلك الصدقات التي كان ينفقها؟! انتبهوا جيّدًا، فقد وصلنا إلى مطلب دقيق جدًّا! ألم يكن يُصلّي؟! من الذي كان يصلّي؟ سلمان؟! لا! سلمان لم يكن يصلّي! من الذي كان يصوم؟ سلمان كان يصوم؟! كلاّ، سلمان لم يكن يصوم! من الذي كان يقرأ القرآن؟ هل كان سلمان هو الذي يقرأ القرآن؟! هل كان سلمان هو من ينفق؟! ألا يتطلّب الإنفاق مالاً؟ من أين كان يأتي هذا المال؟ حتمًا لم يكن يأتي به من منزل خالته؛ فمن أعطاه المال إذًا؟ وعليه، عندما كان سلمان ينفق، كان يأخذ المال من جهة، ويضعه في جهة أخرى؛ فأين هو سلمان في هذا البين؟ غير موجود! فليس لسلمان أيّ دخل هنا! من الذي كان يصلّي؟ من الذي كان يلقي الشوق للصلاة في نفس سلمان؟ من الذي كان يلقي محبّته في قلب سلمان؟ فلو لم يكن هناك محبّة في قلب سلمان، فهل كان سيصلّي؟! لم يكن ليتمكّن من تحريك يده أبدًا حتّى يُصلّي! فذلك العشق لله تعالى الموجود في قلب سلمان هو الذي جعله ينهض في منتصف الليل للصلاة، وذلك العشق لله هو الذي دفعه لفتح القرآن لكي يقرأ: {وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى} (طه، ذيل الآية ۱٣۰)؛ فعلّة هذه الأمور هو ذلك العشق لله تعالى الذي يأخذه سلمان من جيبه ويُنفقه؛ فإذن من الذي يفعل ذلك كلّه؟! هو [الله تعالى] الذي يفعله! فنحن نرى الجهة الظاهريّة فقط للفعل، لكنّه هو الذي يقوم به؛ فلو أنّه أخذ من سلمان ذرّة واحدة من هدفه ومقصوده ومراده، فهل كان بوسعه أن ينهض للصلاة؟!
... | *** | اگر نازى كند از هم فرو ريزند قالبها |
[يقول: لولا عنايته لما استقام حجر على حجر]
كان النبيّ عيسى على نبينا وآله وعليه السلام يمرّ من مكان، فشاهد أمًّا تخاطب ابنها وتقول له: بنفسي أنت! أموت لأجلك! فتكاد تقتل نفسها لأجله، فقال: محبّة الأم جيّدة، لكن ليس بهذا الشكل الذي تقتل فيه الأمّ نفسها! ثمّ قال: إلهي، ما هي حقيقة هذه المحبّة؟! فقال تعالى له: أنا الذي منحتها هذه المحبة، أتريد أن آخذها منها؟ وفجأةً، رأى بأنّ الأمّ ألقت بابنها وهي تقول: إلى متى أبقى أسيرة لك لا أهتمّ بنفسي! فتركته وذهبت، فشرع الطفل بالبكاء والصراخ! فقال النبيّ عيسى: لقد أخطأت! أعدها، وإلاّ فإنّ الطفل سيموت!
فهل تعلم هذه الأمّ ـ التي تفدي طفلها بنفسها ـ من الذي يحرّك الأمور من وراء الستار؟ لا تعلم! فهي تقول: أموت لأجلك! روحي لك الفداء! بنفسي أنت! لكن من الذي يدفعها من وراء الستار لإبراز هذا الحبّ؟ فلو تغيّرت المسألة قليلاً، لذهب كل ذلك الإبراز للمحبّة جانبًا، وأصبح ذلك الطفل شخصًا عاديًا بالنسبة إليها، من دون أن يختلف عن الآخرين في ذلك!
لقد وصل سلمان إلى هذه المرتبة بالفعل، وأمّا نحن، فأدركنا شيئًا منها؛ إذ:
كس ندانست كه منزلگه آن يار كجاست | *** | آنقدر هست كه بانگ جرسى مى آيد |
[يقول: لا أحد يعلم أين هو منزل ذاك الحبيب، فكلّ ما هنالك هو صوت جرس يرنّ]
فنحن عرفنا شيئًا ما، ووصل إلى أذهاننا أمرٌ معيّن، ونظنّ بعض الأشياء، ونريد من الله تعالى أن يرفع هذا الجهل عنّا؛ وحينئذ، سيُصبح الأمر لذيذًا جدًا؛ فحينما يُرفع الستار أمام الإنسان، سيُدرك كلّ شيء، ويفهم بأنّ جميع الأعمال التي يؤدّيها، والإنفاق الذي يقوم به ليس منه، بل هو كرجل آلي، ووسيلة ليس أكثر، ومحض آلة من آلات ذات الحيّ القيّوم المسيطر والمتولّي على جميع العالم، وهو مجرّد وسيلة من الوسائل!
يا سيّدي، نحن الذين أتينا بهذا الشخص إلى هذه المدرسة، ونحن الذين أخذنا بيده وأحضرناه إلى هنا، ومع ذلك، يأتي الآن ويفعل كذا وكذا! نحن.. نحن، نحن! يا عزيزي، اترك "نحن" جانبًا! فما الذي تعنيه عبارة: نحن الذين أتينا به؟! وماذا تعني جملة: نحن الذين قمنا بهذا العمل؟! فقولنا "نحن" هو الذي سيُسقطنا، وهو الذي سيوجد سدًّا أمامنا؛ ولهذا، يجب أن نكسر هذه الأنا، وأن نرفعها من طريقنا؛ فإن كلاًّ منها يُشكّل سدًّا في وجوهنا، ومانعًا وستارًا يمنع عين الإنسان من النظر إلى الحقيقة؛ فلا يعود بإمكانه النظر إلى ذاك الواقع.
وأمّا سلمان، فقد وصل إلى أنّه ليس بشيء، وقد كتب أمير المؤمنين حالته هذه على قبره:
وفدت على الكريم بغير زاد...
فأمير المؤمنين لا يمزح مع سلمان، ولا يجامله، ولو فتّشنا العالم لنجد شخصًا لا يجامل أحدًا، لوجدنا أنّه أمير المؤمنين؛ فهو لا يجامل أحدًا، بل هو صريح! يقول: هذا معوجّ، وذاك مستقيم! وهذا صحيح، وذاك خطأ! وهذا صدق، وذاك كذب! صريح لا يوارب أحدًا! فهذا الذي يُقال له قسيم الجنّة والنار، وميزان۱الحقّ والباطل؛ ففي السنة الأخيرة التي كنت فيها في مشهد بعد المرض الذي أصاب المرحوم العلاّمة قبل وفاته بثلاث سنوات، ذهبنا معه بضعة أيّام إلى أخلمد ـ وهي منطقة ريفيّة في نواحي مشهد ـ ، واستأجرنا منزلاً هناك لمدّة أسبوع؛ لأنّ الأطباء كانوا يقولون بأنّ عليه أن يكون في مكان جيّد؛ فبسبب مرض القلب الذي ألمّ به، كانوا يوصوننا بأن نأخذه إلى نواحي مشهد، فلا ينبغي له أن يبقى في نفس المدينة؛ لأنّ هواءها لا يُناسبه! فذهبنا، وبقينا هناك لمدّة سبعة أو ثمانية أيام؛ وفي إحدى الليالي، دار الحديث بيننا حول أمير المؤمنين عليه السلام وصفّين وهذه الأمور.. وجرى الكلام عن راحلة الإمام، وأنّها كانت بغلةً لا فرسًا! فقلت له: نعم، صحيح أنّ راحلته كانت بغلةً، لكنّها كان تختلف عن سائر البغال! فقال لي: كلاّ يا عزيزي! كان يركب البغلة لتواضعه! فقد كان لديه فرس للركوب، ولم يكن يركبه، وبما أنّ الإمام كان أميرًا على الجيش، كان عليه أن يلاحظ هذه المسألة! وكان هذا الكلام جميلاً بالنسبة إليّ! وأنّ ركوبه البغل كان لأجل هذا الأمر!
السرّ في جعل النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم منزل أبي سفيان مأمنًا في فتح مكّة
فطأطأ رأسه قليلاً ثمّ رفعه وقال: جدّنا هذا ما ترك فعلاً يُمكن لشخص أن يقوم به ولم يفعله هو! وإنّ الإنسان ليتحيّر حقيقةً من أعمال أمير المؤمنين، وليس هو فقط، فالمعصومون لا فرق بينهم: سيّد الشهداء والإمام الحسن والنبيّ والبقيّة... نظير ما حصل مع النبيّ عندما دخل إلى مكّة ـ وهو أمر عجيب جدًّا ـ ، حيث جعل منزل أكبر عدوّ وخصم له ورأس الفتنة (أبو سفيان) مأمنًا لسائر الأشخاص؛ فكلّ من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن، وإن لم يدخله، فهو يعلم ما الذي سوف يحلّ به! وحقيقةً، إنّ الإنسان يقف متحيّرًا أمام هذه الحادثة! فقد كان بوسعه أن يعيّن منزلاً غيره؛ كأن يقول مثلاً: كلّ من دخل المسجد الحرام فهو آمن! فالمسجد الحرام هو أفضل مكان، وكلّ من دخله يكون آمنًا، أو أن يقول: كلّ من دخل منزل فلان.. لماذا أبو سفيان بالضبط؟! هل فكّرتم بهذه المسألة لحدّ الآن؟ يريد النبيّ أن يقول في هذه المسألة بأنّه لا وجود لأنا وأنت، وفي مدرستي، أبو سفيان وسلمان على حدّ سواء، وكلّ من يخطو خطوة للأمام يدخل المنزل، وكلّ من لم يخطُ يبقَ خارجًا؛ سواء كان أبو سفيان أم غيره! فقد كان أبو سفيان أسوأ الناس وأصعب الأشخاص وأعدى الأفراد وأقسى الناس وأفسدهم في الجاهليّة وفي الأحداث التي جرت، لكن مع ذلك يقول النبيّ: عندما تريد رحمة الله أن تأتي إلى مكّة، وأن تُطهّر مكّة من لوث الكفر، لا يعود هناك فرق بين أحد أبدًا؛ سواء كان أبو سفيان أم غيره! لذا، فإنّ أكثر الأشخاص بُعدًا من رحمة الله يُمكن للإنسان تصوّره، والشخص الذي لو طالت رحمة الله تعالى الجميع، فلا ينبغي أن تطاله: هو أبو سفيان، لكن مع ذلك يقول الله تعالى: إنّ رحمتي تطال حتّى هذا الرجل!
هل رأيتم كم هي مسألة دقيقة؟ يعني ما الذي نتصورّه الآن نحن المسلمون الشيعة؟ فإذا حصلت لنا مثل هذه المسألة في هذا العصر، فإنّ أوّل عمل سنقوم به هو أن نطلق رصاصةً على رأس أبي سفيان، فينفجر دماغه كما يُفعل بالبطيخ! وسوف نظنّ أنّ هذا العمل صحيح؛ ففي نهاية الأمر هو رجل كافر وفاسق، وارتكب كلّ هذه الجرائم ، حيث آذى الناس، وافتعل حرب الأحزاب ومعركة أحد ومعركة بدر، بل لقد كان هو المثير لجميع الفتن التي كان يقوم فيها الناس ضدّ النبيّ؛ فالقاعدة تقول أنّه لا يحتاج إلى محاكمة من الأساس، حيث بوسعنا أن نُصدر في حقّه حكمًا غيابيًّا، ثمّ نجريه عليه عندما ندخل مكّة.. فيتلاشى أبو سفيان في الهواء! هذا هو مقتضى القاعدة؛ أي أنّ هذا النوع من التفكير له أصل وقاعدة يستند إليها! لكنّ فكر النبيّ ليس كفكري أنا؛ لماذا؟ لأنّ النبي ليس هو أنا، فالنبي هو نبيّ، بينما أنا هو أنا؛ فهو شيء آخر، ويعيش في أفق مختلف وفي عالم مختلف؛ فهو واسطة رحمة الله، بينما أنا إنسان عادي لي أفكاري الخاصّة ومسلكي الخاصّ وذوقي الخاصّ وفهمي الخاصّ! فأنا شخص كسائر الأشخاص الآخرين؛ يقال لي: اقتله وأرح الجميع منه! فهذا ما يقتضيه فكري، وأرى أنّني مصيب في ذلك، وأنّ فكري صحيح؛ فهذا الرجل ارتكب مخالفة، وينبغي أن يقتل؛ وهذا أمر طبيعي!
لكن يبقى أنّه حينما أُصدر هذا الحكم، فإنّني أصدره بما أنّني شخص عادي، ولست بنبيّ ـ هل تلتفتون إلى ما أريد أن أقوله لكم؟ ـ ؛ فأنا شخص عادي، لي فكري العادي وذوقي العادي، وأتعامل ضمن معطيات عادية فيها الخطأ والصواب، وفيها الصحيح والسقيم، وفيها السالم والمعيب؛ فهي على أشكال مختلفة، وقد حصلتُ عليها من طرق مختلفة، وكثيرًا ما تكون هذه الطرق غير صحيحة؛ ففي النهاية، أنا لم أحصل على هذا الفكر هكذا ومن دون سبب، بل حسن قال شيئًا، وحسين قال شيئًا آخر، وتقي قال شيئًا، وزيد قال شيئًا، والآخر قال خلاف كلامه، وأنا من جهتي قرأت بعض الأمور، وسمعت بعض الأشياء، وهكذا! فجبرائيل لم ينزل عليّ؛ لأنّ عمله انتهى في زمن النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم؛ وعليه، من أين أتت هذه الأفكار التي حصلتُ عليها؟ أتت ممّا سمعته، وما قرأته، ومن هذه المطالب المختلفة، والتي كثيرًا ما تكون مغرضة، وكثيرًا ما تكون غير صحيحة، وكثيرًا ما تكون سقيمة؛ فإنّ فكرة واحدة تأتيني، فأصدر أحكامي على طبقها؛ فأقول: هذا حسن وذاك سيّئ، وهذا يُعدم وذاك يُعفى عنه، وهذا يُسجن وذاك يُطلق سراحه، وهذا يُدفع له مال وذاك يُعطى منصبًا والآخر يُقال عن منصبه، وهكذا مع بقيّة المسائل التي تحصل! فهل كان النبيّ يُحصّل مدركاته على هذا الأساس؟ أبدًا! بل كان تعامله ـ في حدّه الأدنى الذي ينسجم مع الفهم العرفي والعامّي ـ مع الملائكة وجبرائيل؛ وهذا هو التصوّر الأدنى للمسألة، وإلاّ فأين جبرائيل من رسول الله؟! لكننا نتكلّم في الحدّ الأدنى الذي يتمثّل في جبرائيل؛ ونحن نعلم أنّ جبرائيل لا يحصل على معلوماته من الصحف والراديو والتلفزيون والبي بي سي، بل يأخذها من جهة أخرى؛ فهو لا يستمع إلى الراديو، ولا يأتي بأخباره من التلفزيون، بل يأتي بها من المنبع، لا من الراديو والإنترنت وأمثالها! فالنبي يأتي بهذا الفكر ويفتح مكّة، وعندما يفتحها، سوف يكون حكمه مختلفًا عن حكمنا نحن! فنحن نحكم بشكل خاصّ، حيث نقول: يجب أن يُقتل هذا! بينما هو يقول: لا ينبغي أن يقتل!
الرسول والأولياء هم تجلّ لرحمة الله تعالى الواسعة
ونحن نقول: يجب أن يسجن هذا! وهو يقول: ينبغي أن يُطلق سراحه! فنقول له: ما معنى هذا؟ بل ينبغي أن يُسجن! فيقول لنا: إن كنت أنا هو النبي، فاجلس أنت ولا تتكلّم! ونقول: ينبغي لهذا أن يُمنح منصبًا، فيقول: النبي: لا ينبغي أن يسلم أيّ منصب! فنقول له: لقد ضحّى هذا الرجل كثيرًا، وجاهد في سبيل الله! فيقول النبيّ: من الذي يعلم أكثر: أنا أم أنت؟!
كان هناك أشخاص في زمن المرحوم العلاّمة يعترضون عليه، ويقولون: لماذا يمنح المرحوم العلاّمة العالِمَ الفلاني وقتًا ليأتي إلى منزله كلّ أسبوع ويجلس معه، بينما العالِم الفلاني الذي يتمتّع بهذه الخصوصيات وهذه المنزلة لا يعطيه مجالاً أبدًا، بل حتّى عندما يطلب منه موعدًا للقاء به، لا يمنحه ذلك! فكان ذلك الشخص يبرز اعتراضه! فقلت له: يا عزيزي، عندما تصير أنت أستاذًا، تعال وبدّل مكانة هذين الشخصين؛ وقل لذاك الذي يأتي كل أسبوع أن لا يأتي! أمّا الآن، فبما أنّ هناك مثل هذا السيّد بمثل هذه المنزلة، فتمهّل قليلاً، ولا تعمل على إظهار رأيك، ودع الأيّام تمضي!
فما الذي يفهمه هذا؟! يا عزيزي، اذهب وانشغل بعملك؛ فماذا تفهم أنت من هذه الأمور؟ هل لديك خبر عمّا يجري في الضمير؟ وهل لديك اطّلاع على النفوس؟ وهل لديك علم بالأمور؟ اذهب واعمل بتخصصّك ـ مهما كان هذا التخصّص ـ ، وأبرز رأيك في ذلك المجال! وقد كان الأمر على هذا النحو أيضًا في زمن النبيّ، حيث أتوا عنده، واعترضوا عليه: لماذا جعلت بيت أبي سفيان مأمنًا؟ ألم يكن يفعل كذا؟ ألم يفتعل معركة بدر؟ ومن الذي كان وراء معركةأحد والأحزاب و...؟ إنّ فعل رسول الله لا يصدر من تلقاء نفسه، بل إنّ فعله هو فعل الله! سواء في مقام التكوين أم في مقام التشريع والتربية؛ ففي كلا الجهتين التكوينيّة والتشريعيّة، يكون فعل رسول الله هو فعل الله؛ وعليه، حينما يُخصّص النبي منزل أبي سفيان بالذكر، فإنّ ذلك يعني أنّ هذا الدين هو دين الرحمة، لا دين القتل والانتقام! فممّن تريد أن تنتقم؟ فقد قام أبو سفيان بتلك الأعمال في الجاهلية، وأمّا الآن، حينما صار هذا الإنسان مسلمًا، فقد أصبح ينطبق عليه: "الإسلام يجبّ ما قبله"؛ أي أنّ الإسلام يستر كلّ ما كان قبله ويمحوه ويضع عليه ستارًا! وقد ارتكب تلك الأفعال في زمان الجاهلية؛ يعني في أجواء الفكر الجاهلي المليء بالحقد والضغينة والحسد والأنانية والنفسانيات؛ ففي مثل هذه الأجواء، أشعل الحرب، وبمثل هذه الذهنيّة ارتكب تلك المخالفة، وفعل هذه المعصية.
رحمة الله على المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه، فقد كان يقول في ذلك الزمان: إنّ ذاك الحكم الذي أجراه رسول الله على الناس عندما دخل مكة وعفا عن الجميع ـ باعتبار أن الأجواء الحاكمة قبل دخول الإسلام كانت أجواء كفر وجاهليّة ـ ، يجري بنفسه أيضًا على الأشخاص الذين كانوا في حكومة الطاغوت قبل الثورة؛ هل رأيتم كيف هو هذا الفكر؟! إنّ هذا الفكر يصير حينئذٍ فكر رسول الله! فهذا الفكر يجتذب الناس من جميع الفئات ومن كل قسم وصنف، وهذا الفكر يرفع حالة الخوف والوجل، ويستبدلها بحالة الأمن في النفوس، ويُلقي فيها الاطمئنان والهدوء والسكينة.
فلو أنّك ذهبت عند رسول الله، وجلست بجانبه، لأحسست وكأنّك دخلت تحت شلاّل يصبّ الماء على رأسك، وقد كان الأمر كذلك حقيقةً! وهذا ما كنّا نشعر به مع المرحوم العلاّمة! وحتّى لو فعلنا في وقت من الأوقات أمرًا مخالفًا، وذهبنا عنده، فمع أنّ هناك ضرب وفرك للأذن، لكنّنا كنّا نشعر ـ في نفس ذهابنا عنده ـ بأنّ فركه لأذننا رحمة، وضربه لنا رحمة، ومعاتبته إيّانا رحمة، وعبسه في وجهنا رحمة.. كنا نحسّ بهذه الحالة من الرحمة، وهذا الجانب من فيضان الرحمة.
أهمّية الحفاظ على وجه ماء المؤمن
وهذا أمر عجيب جدًا، فإنّ العلاقة مع الأولياء تعلّم الإنسان الكثير من الأمور والمسائل، وكيف أنّه كان يحمي الأشخاص، ويحافظ على ماء وجههم، وكم كان يلتفت إلى شأنيّة الناس! ففي إحدى المرّات، حصلت مسألةٌ مع أحد الرفقاء ـ وقد انتقل إلى رحمة الله ـ ، فأراد [المرحوم العلاّمة] أن يتعامل معه من منطلق تربوي، وكنت على علمٍ بذلك؛ فانكشفت هذه المسألة للناس، وبأنّ هذا الشخص قد جرى تنبيهه، حيث أنّ الكثير من الأشخاص فهموا ذلك، مع أنّني كنت أسعى أن لا يعرف أحد بذلك؛ لأنّني كنت مطّلعًا على الأمر، لكنّ ذلك الشخص كان بنفسه يتحدّث مع الناس في خصوص هذه المسألة، ولست أنا! ومع كلّ هذا، فقد كان [المرحوم العلاّمة] حريصًا جدًّا على أن لا تنتشر هذه المسألة! فيأتي ذلك الشخص ويبعث رسالة مع أحدهم، فيأتي هذا الأخير إلى منزل المرحوم العلاّمة، فندخل ـ نحن الثلاثة ـ إلى حسينيّة المنزل، ثمّ يغلق الباب حتّى لا يدخل أحد فيطّلع على الأمر، وبعد ذلك، يأتي قرب المنبر ـ أي أنّه يقطع كلّ الفاصلة الموجودة بين باب الحسينيّة والمنبر ـ ، ثمّ يقول بصوت خافت بعد أن جلسنا ثلاثتُنا قرب المنبر: حسنًا، حدّثوني عن حقيقة المسألة؟ فكنّا نتحدّث ـ نحن الثلاثة ـ بهذه الطريقة حتّى لا يُسمع صوتنا في الخارج، فتنكشف هذه المسألة المرتبطة بهذا الشخص لأحد! هكذا كان هؤلاء يربّون الناس، وهكذا كانت أخلاقهم!
فينبغي أن يُحفظ ماء وجه المؤمن، وإذا شاهدنا شيئًا من مؤمن، لا ينبغي علينا أن نشيعه؛ فنقوله لهذا، ونقوله لذاك ولذاك.. فننشره في كلّ العالم، ولا يبقى لنا إلاّ أن نخبر به من في لندن! فهذا ليس من عادة الأولياء ودأبهم؛ ووالله، إنّ هذا خلاف دأب الأولياء: بأن يرى إنسان شيئًا من رفيق له... حسنًا، لقد قدّر الله تعالى ورأيت ذلك، فلماذا ينبغي عليك أن تذهب وتقول لهذا ولذاك؟! وعندما تجلس مع شخص ثان، لماذا تذكره له؟! يا عزيزي، إنّ هذا الفعل حرام! فهذه المسائل التي أذكرها للرفقاء هي من المسائل الأساسية في السلوك، ومن المسائل المفتاحية للسلوك؛ فهكذا كان منهج العظماء، ومسلكهم، لكن أين نحن الآن من هذه الأمور؟ أتذكرون أنّنا كنّا نقول في الليالي الأولى: أين نحن من هذه الأمور؟ فأين نحن، وكم لدينا التزام بهذه المباني؟! وما مقدار التزامنا بها؟!
فهذا هو برنامج العظماء وأولياء الله في هذه الدنيا، وكلّ من يأتي ويعمل بهذه المسائل، فإنّه هو الذي ينتفع بها ويتحرّك ويتقدّم للأمام، وكلّ من لا يكون كذلك؛ فيأتي ويستمع فقط، ويقول مع نفسه: «سنرى ما الذي سيحصل!»، فلن يستفيد تلك الفائدة، ولن يحصل على أيّ نفع.
إذا لم يتعلّم الإنسان بنفسه أنّه لا شيء، فإنّ الله تعالى يُعلّمه ذلك
فقد جاء أمير المؤمنين عليه السلام وكتب ذاك الشيء الذي كان في قلب سلمان؛ فسلمان كان قد وصل إلى مرتبة، بحيث عندما كان يصلّي، لم يكن يرى أنّ هذه الصلاة منه، وعندما كان يصوم، لم يكن يرى أنّ هذا الصيام منه.
وقد حدّثتكم سابقًا عن أحد الأشخاص، حيث كان رجلاً صالحًا جدًّا ومحترمًا ومن أهل المراقبة والذكر ـ ولن أذكر اسمه حتّى لا تحصل في حقّه غيبة لا قدّر الله، لأنّني أريد أن أنقل عنه أمرًا ـ ، وقد انتقل إلى رحمة الله، وله حقّ كبير في عنقي بالذات لأجل بعض المسائل؛ ففي إحدى الليالي، كنت في منزله، فقال لي: يا فلان، أريد أن أقول لك شيئًا ـ وقد كان رجلاً عالمًا ومدرّسًا ... ـ ، أنا في حياتي فعلت شيئًا واحدًا يمكنني أن أحمله معي من هذه الدنيا وأعرضه على الله تعالى، وأقول له: إلهي، لقد فعلت شيئًا واحدًا في جميع عمري، يُمكنني ـ ولله الحمد ـ أن أعرضه عليك حينما أرحل عن هذه الدنيا؛ وهو أنّني في إحدى فترات حياتي، قضيت مدّة ستّة أشهر كنت فيها أظلّ مستيقظًا طيلة الليل إلى الصباح، وأقضي النهار بالصوم! هذا هو العمل الذي قمت به طوال عمري!
فقلت حينئذٍ: أشكر الله تعالى بأنّني لم أقم بهذا العمل! أي أنّني لم أكن أملك الأهليّة للقيام به! فهذا الرجل قام خلال ستّة أشهر... فلو كنّا نحن، لاستولى علينا النوم في ليلتين و... لكن يبقى أنّ هناك أمر واحد؛ وهو: لو فرضنا أنّ الإنسان لم يقم بهذا العمل، فلن يحصل أيّ شيء، ولن يحدث أمر ذي بال؛ حتّى يأتي الإنسان ويقول: إلهي، لقد فعلت هذا الأمر لك! لكن من الذي جعلك مستيقظًا طيلة الليل حتّى الصباح؟ من الذي جعلك كذلك؟ فلو فرضنا أنّه في ليلة من هذه الليالي أصابك ألم في قلبك أو معدتك، أو أصابك مرض أفسد عليك صومك؛ فماذا كنت ستفعل في ذلك الحين؟ هل يمكنك أن تقول حينئذٍ: «إلهي، لقد أحييت الليالي طيلة ستّة أشهر، ولم أغمض عيني ولو للحظة واحدة»، حيث كان ينام في النهار، ويبقى مستيقظًا طيلة الليل إلى الصباح! لكن من الذي كان يُبقيك مستيقظًا إلى الصباح؟ من الذي أعانك على صومك وجوعك في النهار؟ فقد كان بوسعه أن يبتليك بمرض في هذه الأشهر الستّة، لكنّه لم يفعل، لماذا؟ لكي يجعل قلبك سعيدًا! فالله تعالى عطوف وعظيم إلى حدّ أنه يريد أن يُسعد قلوبنا بأنّنا فعلنا شيئًا له! لذا، إذا أراد أن يبتلينا بمرض، يتركه إلى ما بعد ستّة أشهر؛ لأنّ ذلك الشخص نذر من أوّل الأمر ستّة أشهر، ولو كان قد نذر أربعة أشهر، لجعلها الله تعالى أربعة، ولو كانت ثلاثة أشهر، لجعلها ثلاثة أشهر، ولو كانت سنة، لجعلها سنة؛ وهكذا!
يقول: لا أفسد عليه هذه الأشهر الستّة؛ فهذا عبدي يريد أن يعمل عملاً لي، فلماذا أفعل شيئًا أخرّب به عمله؟! لماذا أبتليه بمرض يصرفه عن تلك النية التي نواها وذاك الهدف الذي يهدف إليه؟! أرأيتم كم هو عجيب هذا الإله؟! فالعمل الذي صدر منه هو يضعه ـ بفضله ومنّه ـ في حسابنا نحن، ويقول: أنت فعلت هذا! والحال أنّه كان بوسعه أن يعطّل الأمر من أساسه؛ كأن ينام الإنسان فجأة: يا ويلتاه، لقد نمت لمدّة ساعة، وذلك بعد مرور خمسة أشهر! لكنّ الله تعالى يتركه مستيقظًا سواءً كان في حالة ذكر أو قراءة للقرآن أو صلاة أو سكوت، أو غير ذلك؛ فيحصل بذلك على حالة من الصفاء، فيقول الله تعالى له: أنت من فعل هذا، وليس أنا! لقد أخفيت نفسي خلف الستار، وأنت الذي بقيت مستيقظًا طوال الليل، وأنت الذي قرأت القرآن طوال الليل، وأنت الذي بقيت تصلّي طوال الليل.. بارك الله بك من عبد! فيفرح ذلك الشخص، ولا يكتفي بذلك، بل يقول: إلهي، إنّني أقدّم لك هذا العمل! أي أنّه يُعيد لله تعالى ذلك العمل الذي صدر منه هو؛ وهذا أمر عجيب ورائع جدًّا!
وأمّا سلمان، فلم يكن يقم بمثل هذا العمل، بل يقول: لو بقيت مستيقظًا إلى الصباح، فأنت الذي أبقيتني مستيقظًا؛ وبالتالي، فأنا لاشيء! وإن صمتُ إلى الليل وأمسكتُ عن الطعام؛ فمن الذي قام بذلك؟ ومن الذي وفّق إليه؟ والدليل على هذا الأمر هو أنّ نفس هذا الرجل رحمة الله عليه قال: كنت مرّة في الحج، فأردت أن أصوم في يوم عرفة, وفي نفس الوقت أقرأ دعاء يوم عرفة، حيث لدينا في الروايات أنّ الدعاء في عرفة مهمّ جدًا، والصوم في عرفة وإن كان مهمًا ـ إذ يمكن الصوم هناك بعنوان النذر وأمثال ذلك ـ ، لكنّ الشخص الذي يُضعفه الصوم عن الدعاء عليه أن يفطر؛ لأن الدعاء في عرفة مهمّ جدًا وكذلك الأمر بالنسبة للمناجاة والأدعية والمسائل الواردة في يوم عرفة، خصوصًا هناك في ذلك الفضاء وتلك الأجواء؛ والحاصل، أنّه قال: عندما كنت منهمكًا في الدعاء، تدهور وضعي الصحّي بعد الظهر، ورأيت نفسي مجبرًا على الإفطار.. فهناك أراد الله تعالى أن يقول له: يا حاجّ، أتذكر تلك الأشهر الستّة التي صمتها؟! أنا الذي كنت وراء صدور ذلك الفعل منك، والدليل عليه هو هذا، حيث إنّك صمت في هذا اليوم وصبرت إلى ما بعد الظهر، لكنّك لم تعُد بعد ذلك تطيق الاستمرار!
وحينئذٍ، ما هي حقيقة الأفعال التي نقوم بها نحن؟ هنا تصير حقيقتها واضحة! فغاية ما قام به هذا السيّد الطهراني[يعني نفسه] هو صبّ ماء طاهر على أيدي الجميع؛ فهو لا يصدر منه سوى التخريب.. حيث يأتي ويصبّ الماء الطاهر على أيدي الجميع! نعم، إذا كان هناك حقّ ومطلب صحيح، فلماذا لا يتقدّم الإنسان إلى الأمام؟! ولماذا نبقى محافظين على هذه الأفكار العامّية؟! لماذا؟ ولماذا لا نخطو للأمام؟ ولماذا لا نرتقي أكثر من مستوى العامّة؟ ولماذا لا نرفع فكرنا وذكرنا إلى ما هو أعلى من فكر العوامّ ومسائلهم؟
فبما أنّ العظماء بيّنوا لنا هذه المطالب؛ فلماذا لا نستفيد منها؟ أليس كذلك؟! بلى! لماذا لا نفعل ذلك؟ حسنًا، نسأل الله أن يوفّقنا جميعًا لفهم هذه المطالب أكثر فأكثر، وأن يمنّ علينا بفضله وبعنايته، فيأخذ بأيدينا، ويرفع عنّا موانع الطريق التي زرعناها في نفوسنا بهذه الطريقة، بحيث يُعدّ كلّ منها بمثابة حاجز يمنعنا من الوصول إلى تلك الحقيقة.. وهذا عجيب جدًّا! فما هي حقيقة هذه الواقعيّة التي يقول عنها الإنسان عندما يبدأ بالتقدّم: عجبًا! يجب أن أضع هذا جانبًا! وذاك جانبًا! ويجب أن أرفع يدي عن هذا! وأتخلّى عن ذاك الفكر..! فما الذي سيبقى؟ ما الذي سيبقى في النهاية؟ عند ذلك يرى أنّ الحلاوة هنا! فقد كان يعتقد بأنّ اللذّة تكمن في هذه الشهوة، لكنّه لم يكن يعلم! وكان يخال بأنّ ما يتذوقّه حلو، لكنّه لم يكن بشيء! فالحلاوة الحقيقيّة هنا[في سلوك طريق الحقيقة]، والجمال هنا، والبهاء هنا، وجميع الأمور هنا!
نرجو من الله ـ إن شاء سبحانه ـ أن يُوفّقنا جميعًا بلطفه وعنايته، ويمنحنا من نعمه الخاصّة التي وهبها لأوليائه والسائرين إلى حريم وحرم قدسه.
اللهم صلّ على محمد وآل محمد