المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالسلوك العقلاني و المراقبة
التوضيح
تمّ التعرّض في هذه المحاضرة إلى خصوصيّات شهر شعبان المبارك، وكيفيّة تحصيل الفيوضات الإلهيّة منه بأفضل نحو ممكن، وقد شرح سماحة السيّد قدس سره فيها مقطعًا مهمّاً من المناجاة الشعبانيّة المعروفة، وهو المقطع الذي كان الأعاظم والأولياء يهتمّون به ويقرؤونه في قنوت الصلاة، فبيّن خلال ذلك المقام الذي يدعوى ويناجي الإمام عليه السلام به اللهَ في أدعيته ومناجياته، وبيّن المعاني الدقيقة لمضامين ذلك الدعاء، وفي الختام تعرّض لبعض الأعمال التي ينبغي عملها خلال الشهر المبارك.
هو العليم
بعض خصوصيّات وأعمال شهر شعبان المبارك
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢۱۱
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ باللـه من الشيطان الرجيم
بسم اللـه الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين
والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
وعلى آله الطيبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
إنّها أيّام شهر شعبان المبارك، كما أنّنا أيضاً على أبواب شهر رمضان المبارك، وقليلةٌ هي المواضيع المطروحة حول خصوصيّات شهر شعبان، مع أنّه شهرٌ عظيمٌ جدّاً، وتمّ التأكيد كثيراً على فضيلته في الروايات، فلدينا العديد من الروايات التي تحكي عن تنبيه الأئمّة عليهم السلام أصحابَهم في بداية شهر شعبان على الخصوصيّات التي يمتاز بها، وخصوصًا على صومه، والصوم يُعدّ كمقدّمةٍ للاستعداد والتهيّء لتلقّي تلك الفيوضات والأنوار الإلهيّة.
أهميّة الصوم كمقدّمة لتحصيل الفيوضات الإلهيّة
وهذه مسألة ملفتةٌ للنظر كثيراً، ففي كلّ موضع نُشاهد فيه الدعوةَ إلى مثل هذه العنايات والفيوضات، فإنّنا نرى هناك حضوراً للصوم كدعامةٍ أساسيّةٍ؛ فنرى بأنّه على الإنسان أن يصوم أوّلاً ثمّ يقوم بالعمل الكذائي، وأن يكون صائماً في اليوم الكذائي، وهكذا في الموارد المختلفة... ، فلقضاء الحوائج، عليه أن يصوم ثلاثة أيّام، ثمّ يقوم ببعض الأعمال الخاصّة، وكذلك فيما يخصّ ليلة الرغائب ـ مثلاً ـ عليه أن يصوم اليوم السابق، فنشاهد في جميع هذه الموارد أنّ الصوم يلعب دوراً أساسيّاً في تلقّي هذه الأمور والعنايات والفيوضات.
مراد النبيّ الأكرم بقوله: "شعبان شهري"
ونفس هذه المسألة تنطبق على شهر شعبان، حيث لدينا روايةٌ يقول فيها الرسول: «رجب شهر الله (ومختصّ بالله تعالى)، وشعبان شهري (ومرتبط بي، وشهر)، رمضان شهر أمّتي (ومختصٌّ بالأمّة)».۱ وهذه مسألةٌ جديرةٌ بالاهتمام، وكيف أنّه قد تمّ ترتيب هذه الأشهر، وكيف ينبغي على هذه الحقيقة التوحيديّة أن تنزل في شهر رجب، وتستقرّ في نفس رسول الله في شهر شعبان، لتنتقل من نفسه صلى الله عليه وآله وسلّم إلى الأمّة في شهر رمضان؛ فهذا التسلسل الذي تمّت ملاحظته في هذه الأشهر الثلاث ملفتٌ للنظر كثيراً ويتضمّن العديد من الأسرار والرموز.
فشهر شعبان هو الذي تكتسب فيه الفيوضات الإلهيّة جنبة الكثرة، فتصل إلى منصّة الظهور ومرتبة البروز الخارجي في نفس الإنسان، لكن هذا يتعلّق بالأشخاص الذين يتوفّرون على الاستعداد اللازم ويمتلكون القابليّة لإدراك هذه المسألة؛ كأنّ السالك يُلاحظ جنبة البقاء في شهر شعبان، وتنكشف لديه تلك الحقائق التي تلقّاها في شهر رجب الواحدة تلو الأخرى، إلى أن يصل إلى شهر رمضان، ليتجلّى له في هذا الشهر جانب العبوديّة على شكل الورود في رحمة الله تعالى الواسعة.
اهتمام الأولياء والأعاظم بالمناجاة الشعبانيّة وقراءتهم لبعض فقراتها خلال أيام السنة
على أيّ حال، فإنّ هذا الشهر هو شهرٌ مهمٌّ جدّاً، وقد كنت في وقت العصر أفكّر مع نفسي في خصوصيّات هذا الشهر وأسعى لتتبّع هذه المسائل، فانقدح في ذهني أنّ المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه كان يعمد في بعض السنين إلى ترجمة المناجاة الشعبانيّة للأصدقاء في شهر رمضان (بعض فقراتها وليس كلّها) ، وكانت من عادته أن يُداوم بأمرٍ من أستاذه المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه على قراءة فقراتٍ من المناجاة الشعبانيّة، وخصوصاً في القنوت، وكنت ألاحظ كثيراً أنّ المرحوم الحدّاد رضوان الله عليه يقرأ هذه الفقرات من المناجاة الشعبانيّة في قنوته، ويأمر بذلك، وكذلك الأمر بالنسبة للمرحوم العلاّمة في القنوت، ولا يخفى أنّ بعض الأصدقاء اقترح أن نجمع أدعية القنوت التي كان العظماء يعمدون إلى قراءتها غالباً، مع ترجمتها بشكلٍ مختصرٍ، لتكون بعد ذلك في متناول الرفقاء، غير أنّه وبسبب انشغالي ببعض المسائل والأعمال، لم أتمكّن ـ وللأسف ـ لحدّ الآن من إنجاز هذا العمل، لكنّني أتمنّى أن أجد له مكاناً ضمن البرامج التي أسعى لتحقيقها.
فالأدعية التي كان العظماء يقرؤونها، وكذلك تلك المنقولة عن الأئمّة عليهم السلام في القنوت هي أدعية ذات معانٍ راقيةٍ جدّاً، ومن الجيّد أن يعمد الإنسان في قنوت كلّ صلاة إلى قراءة أحد هذه الأدعية بحسب المناسبة، كما أنّها لا تُكلّف الإنسان شيئاً كثيراً، ويُمكنه أن يحفظها ويقرأها، ومن بين الأدعية التي كنت ألاحظ أنّ العظماء يعتمدون عليها كثيراً، هذه الفقرات من المناجاة الشعبانيّة، والتي يحسُن بالرفقاء أن يحفظوها ويقرؤوها في قنوتهم، لكن ليس كلّ فقرات المناجاة، بل خصوص هذه الفقرات التي سنتلوها على مسامع الإخوان، وأعتقد أنّه من اللازم قبل التعرّض للمسائل المرتبطة بشهري شعبان ورمضان أن نعمد إلى ترجمة هذه الفقرات بشكلٍ مقتضبٍ، ثمّ ننتقل بعد ذلك لبيان بقيّة المسائل بما يسمح به الوقت والمجال.
الطريقة الصحيحة لقراءة الأدعية مع الإخوة وبشكلٍ جماعي
المناجاة الشعبانيّة تُعدّ مناجاةً عجيبةً جدّاً، وقد ذكرت سابقاً أنّني كنت أشاهد بنفسي أنّ العظماءيقرؤونها في كلّ ليلة، ويستدعون أحد الأشخاص لقراءتها فيستمعون إليها... ، وتوجد هنا مسألة ينبغي أن ننبّه عليها في هذا المجال، وهي أنّني لاحظت في بعض الأمكان والمجالس، حينما يكون أحد الأشخاص يقرأ القرآن أو الدعاء، فإنّ بقيّة الأشخاص ـ في مناسبات مختلفة وخصوصاً في يوم عرفة الذي يُقرأ فيه دعاء عرفة ـ يحملون في أيديهم كتاب «المفاتيح»( ) أو نفس دعاء عرفة، وينظرون إليه ويقرؤونه أيضاً.
فمع أنّ هذا النحو من قراءة الدعاء يحصل فيه الإنسان على الثواب والفائدة، لكنّه يفتقد لذلك التأثير الذي يمتلكه الاستماع للدعاء، ولهذا، حينما يقرأ الدعاء أحد الأشخاص، يحسُن ببقيّة الأشخاص أن يتوجّهوا من قلوبهم لمعنى ذلك الدعاء وحقيقته، لا أن يُجرونه على ألسنتهم، أو الأكثر من ذلك أن ينظروا إلى الأوراق؛ فهذه الحالات والمعنويّات والتأثير الذي يحصل للإنسان من خلال الاستماع للدعاء سوف يقلّ عند النظر للدعاء المكتوب.
ومن هنا، حينما يكون أحد الأشخاص يقرأ الدعاء في الجلسات، ينبغي على الباقي أن يتوجّهوا ويصغوا إليه، ويُرخوا برؤوسهم للأسفل لكي يكون التأثير أكبر.
حالة الإمام حينما صدرت منه المناجاة الشعبانيّة
لقد كان المرحوم العلاّمة رضوان الله عليه يُؤكّد كثيراً على المناجاة الشعبانيّة، وكان بدوره يقرأ هذه المناجاة في كلّ ليلة أو كلّ يوم، ويُنبّه الأصدقاء على عدم الغفلة عنها، فهذه المناجاة تمتلك ـ بحقٍّ ـ مضامين عجيبة جدّاً، حيث لُوحظت فيها جميع الخصوصيّات والآثار الوجوديّة للإنسان وتصرّفاته وأعماله وأفكاره وتخيّلاته وتوهّماته، وقد أبرَزَ من خلالها أميرُ المؤمنين عليه السلام ـ بصفته مرآةً تامّةً ومظهراً تامّاً للإنسانيّة ـ كافّة ما يرتبط بالإنسان في علاقته بالله تعالى وبأعماله وأفعاله الخاصّة.
ولا ينبغي علينا أن نتصوّر في وقتٍ من الأوقات ـ كما حصل للعديد من الأفراد ـ أنّ هذه المسائل التي يذكرها الإمام عليه السلام هو منزّهٌ عنها، وبعيدٌ عنها، وبالتالي فهو لا يقصدها بالفعل، بل ذكرها لمجرّد تعليم هذه الدعاء للأشخاص الذين قرؤوه أمامهم وسمعوه منهم عليهم السلام؛ وكأنّ الإمام بِمَعزلٍ عمّا يُناجي به الله تعالى، فجميع هذه التصوّرات خاطئة؛ لأنّ الإمام عليه السلام في مقام العبوديّة هو أحد الناس من دون أن يمتاز عنهم بأيّ شيء، وهو لا يرى نفسه إماماً في مقام المناجاة؛ فالإمامة هي إمامةٌ في قبال الناس [لا في قبال الله]. وحينما يتحدّث مع الله تعالى، فإنّه لا يقول عن نفسه أنّه إمام، ولا معنى لأن يقول ذلك: "يا إلهي، أنا نبيّ، فالذي يتحدّث معك هو نبيّ، فعليك أن تكون منتبهاً، وتُنظّم ملائكتك في صفوف، فتقف هذه الملائكة بشكلٍ مؤدّبٍ، لكي تستمع إلى كلامي!".
كذلك الأمر بالنسبة لأمير المؤمنين أيضاً، وسيّد الشهداء يوم عرفة، والإمام السجّاد... ، فجميعهم حينما يكونون في مقام المناجاة مع الله تعالى، فهل يناجونه تعالى أم لا؟! فلا يُمكننا أن نقول بأنّهم لا يناجون الله عزّ وجلّ، ولا يتحدّثون معه، ولا يُخاطبونه! فحينما يُخاطبونه ـ والحال هذه ـ ماذا يقولون؟ وكيف يتحدّثون معه؟ هل يرون أنفسهم في مقام الإمامة، ثمّ يناجونه بعد ذلك؟ [هل هذا هو لسان حالهم:] يا إلهي! عليك أن تنتبه جيّداً وتعلم من الذي يُحدّثك! فالذي يُحدّثك هو الإمام الصادق صاحب كلّ هذه العلوم والتشكيلات والمسائل وغير ذلك؟!
[لو حصل ذلك] سيقول الله تعالى من أين أتيت بكلّ هذه الأمور حتّى تُباهيني بها؟! ومن الذي أعطاك كلّ ذلك؟!
هل التفتّم؟ إذن فالإمام الصادق عليه السلام هو إمامٌ بالنسبة إلينا، لكن هل يكون إماماً في مقابل الله تعالى؟! والرسول بكلّ ما يمتلكه من عظمة هو رسول بالنسبة إلينا، فينبغي ويجب علينا أن نطيعه ونتّبعه حذو النعل بالنعل، لكن هل هو كذلك بالنسبة لله تعالى؟ الرسول في مقابل الله تعالى هو أدنى منّا من حيث العبوديّة؛ فإلى أيّة درجة نرى أنفسنا عبيداً لله تعالى وأذلاّء وصغار في مقابله سبحانه، [سنجد أنّ شعور ورؤية رسول الله بالنسبة لهذا الإحساس الذي نشعر به في علاقتنا بالله تعالى [أقوى وأكبر]، وحينما أذكر هذه الأمور، فأنا لا أمزح! وإلاّ لو لم يكن الأمر كذلك، ما كان ليكون النبيّ رسولاً لله تعالى، ولن يكون الإمام عليّ هو الإمام عليّ، ولن يكون سيّد الشهداء هو سيّد الشهداء.
فذلك المقدار الذي نمتلكه من الإحساس بالوضاعة والحقارة والذلّة في مقابل مقام الكبرياء الإلهي ـ بحيث نرى أنفسنا لا شيء وعدماً وفراغاً ومن دون أيّ تأثير ـ عليك أن تضرب ذلك المقدار بعدد ما لا نهاية، ثمّ تنسبه للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم، وعليك أن تضربه بعدد ما لا نهاية، ثمّ تنسبه للإمام السجّاد عليه السلام؛ ويتحتّم عليك أن تضربه في ما لا نهاية؛ لأنّ مقام معرفتهم قد بلغ حدّاً بحيث إنّهم وضعوا جميع الوجود تحت إرادة الله تعالى واختياره من دون أن يحتفظوا لأنفسهم بأيّ شيء [من الحيثيّة والمقام والشأنيّة والوجود].
ضرورة تطبيق حالتنا مع حالة الإمام عند مناجاة الله
وأمّا بالنسبة إلينا، فالأمر مختلفٌ، حيث قد أبقينا لأنفسنا بعض الأشياء، وإلاّ لو لم نبق لأنفسنا أيّ شيء، لما ادعينا لأنفسنا بعض الأمور، ولما سمحنا بصدور بعض التصرّفات من أنفسنا، ولما قلبنا هذا العالم رأساً على عقب، إذن، من الواضح أنّنا أبقينا لأنفسنا شيئاً ما، وأنّنا نجعل لأنفسنا قيمةً وحساباً [في قبال الله].
وأمّا هم فلا، حيث إنّهم لم يكونوا على هذه الشاكلة، فحين يذكر أمير المؤمنين عليه السلام هذه الفقرات، ما هو الإحساس الذي يمتلكه؟ فعلينا نحن أن نسعى لكي نقترب قليلاً من ذلك [الإحساس الذي لدى الإمام] ، ومن حال أمير المؤمنين، ومن فهمه وإدراكه وشعوره، ومن تلك المكانة التي كان يراها لنفسه في مقابل الله تعالى، لكن بحسب ما يقتضيه فهمنا وإدراكنا؛ فنحن لا نفهم شيئاً من كلّ ذلك، بل العظماء هم الذين يفهمونه وحسب.
نعم، نحن نستطيع أيضاً بمقدار سعتنا أن نفعل شيئاً ما، فلا ينبغي علينا الاعتقاد بأنّه بوسعنا الاكتفاء بقراءة المناجاة الشعبانيّة لأنّه تمّ الحثّ عل قراءتها، إذ لا فائدة من [مجرّد القراءة]، أو بالأحرى إنّ له فائدة لكنّ فائدته قليلة.
علينا أن نناجي الله بحالة سلمان التي عبّر عنها الإمام
تعالوا، ولنضع أنفسنا في مكان أمير المؤمنين عليه السلام بكلّ ما يمتلكه من فهمٍ وإدراكٍ ومعرفةٍ واطّلاعٍ على مقام العزّ والكبرياء الإلهي من جهةٍ، ومن إحساسٍ بالذلّة والفقر وخلوّ الوفاض من جهةٍ أخرى، فحينما وقف أمير المؤمنين على قبر سلمان وكتب بأصبعه على التراب:
وفدت على الكريم بغير زاد | *** | من الحسنات والقلب السليم |
وحمل الزاد أقبح كلّ شـيء | *** | إذا كان الوفود على الكريـم |
[يقول:] دخلتُ ووفدتُ ووردتُ على كريمٍ وعظيمٍ مع أنّني لا أمتلك أيّ زادٍ أو قوتٍ وخالي الوفاض تماماً... ، وقد كنت أفكّر ما الذي تعنيه عبارة أمير المؤمنين، فنحن لا نستوعب ذلك، لماذا؟ لأنّنا بعيدون عن الحقائق إلى درجة أنّنا لا نعلم هل أنّ أمير المؤمنين يتكلّم جادًا أم هازلًا هنا فعلاً، فقد قيل حول سلمان أنّه: «منّا أهل البيت» ، وأنّه بلغ المرتبة العاشرة من الإيمان، وغير ذلك؛ فسلمان لم يكن بالشخص الهيّن، وكان ملحقاً [بأهل البيت عليهم السلام]، وبالغاً لمرحلة الكمال.
[يقول عن حال سلمان:] دخلتُ على كريمٍ من دون زادٍ ولا قوتٍ ولا مخزونٍ ولا متاعٍ، ووردت عليه وأنا خاوي الوفاض من الحسنات والقلب السليم.
وحمل الزاد أقبح .. شـيء | *** | ....... |
ثمّ يُجيب الإمام عليه السلام بنفسه، ويقول: لا [لا تظنّن أنّ فعلي قبيح]، على العكس من ذلك، فإنّي لم أقم بعملٍ قبيحٍ، بل لقد أحسنتُ صُنعاً؛ فالذي يُريد أن يذهب لمنزل عظيمٍ من العظماء، هل يليق به أن يحمل معه طعامه؟! أَلن يتصدّى له صاحب المنزل ويقول له: "يا رجل، إذا كنت مدعوّاً، فلماذا أتيت بغذائك، وحملت سلّة الطعام معك؟!"، نعم من الطبيعي أن يتصدّى له!
أمير المؤمنين يقول: من حُسن الاتّفاق أنّ سلمان قام بهذا العمل، وأنّه لم يحمل معه شيئاً، وإلاّ لو كان فعل ذلك لكان سيقول لله تعالى: إلهي، أنا جئتك، فتفضّل وانظر إلى ما حملتُ معي من عبادات وأعمال خيرٍ وإنفاقٍ وخيراتٍ ومبرّاتٍ.
رحم الله تعالى أحد الصلحاء من الذين كنتُ على علاقةٍ بهم ـ وسوف أتجنّب ذكر اسمه هنا ـ حيث كنت في إحدى الليالي متواجداً في منزله فقال لي:
«يا فلان، العمل الوحيد الذي قمتُ به في حياتي والذي بوسعي أن أعرضه على الله تعالى عند وفاتي هو أنّني ظللت لمدّة ستّة أشهر كاملة مستيقظاً في لياليها إلى طلوع الصبح، وصائماً أيّامها إلى حلول الليل».
وقال:
«يا إلهي، لقد استطعت أن أقوم طيلة أيّام حياتي بعمل واحد يُمكنني أن آتي به وأعرضه عليك!».
فقلتُ حينئذٍ في نفسي: «أشكرك يا إلهي على أنّني لم أتمكّن من القيام ولو بعمل واحد!! ».
في السنة الماضية وفي نفس هذه الأيّام أو قبلها حينما تُوفِّيت المرحوم الوالدة، كنت في المستشفى أنتظر أن يأتوا بها لإجراء العمليّة، وكان واضحاً تقريباً مصير هذه العمليّة، فكنت جالساً أتأمّل في كلام أمير المؤمنين عليه السلام، وكيف يُمكن تفسير [قوله]: «وفدت على الكريم...».
ومن العجيب جدّاً كيف خطرت فجأةً في ذهني هذه العبارة التي كتبها أمير المؤمنين على قبر سلمان بأصبعه، والتي يُريد أن يقول من خلالها أنّ سلمان كان هكذا وكان يمتلك مثل هذه الحال ويرى لنفسه مثل هذه المكانة، بحيث يتّجه نحو الله تعالى من دون أن يحمل معه أيّ شيء، ويجب أن ننتبه أنّ الذي نتحدّث عنه هو سلمان الذي نُعدّد له ألف كرامةٍ ومعجزةٍ، لكنّه عندما يُريد أن يتقدّم أمام الواقعيّة والحقيقة وفي مقابل الوفود على مقام العزّة الإلهيّة، وليس أمام الأعمال الدنيويّة.
لأنّ الأمر سيكون حينئذٍ مختلف تماماً [عندما يكون الكلام أمام الناس، عنه عندما يكون الكلام أمام الله ]، فأحياناً قد يأتي سلمان ويجلس مع أحد الأشخاص ويتكلّم معه، وأحياناً أخرى يُريد أن يضع نفسه إلى جانب الله تعالى؛ فها هنا مقامان مختلفان وظرفان متغايران.
أجل، عندما يُريد سلمان أن يكون بيننا، فإنّه يمتلك القدرة على كلّ فعلٍ يُمكن أن يخطر على بالك، فتقول له: شقّ القمر إلى نصفين، فيقوم به بكلّ يُسرٍ ـ مثل شرب الماء بالنسبة إليك ـ وبإشارةٍ واحدةٍ منه ينشقّ القمر إلى نصفين؛ وتقول له: أوقف الشمس، فيوقفها. وجميع هذه الأمور هي واقعيّةٌ ومن دون أيّة مبالغةٍ، بل إنّ القيام بهذه الأمور يوجب أساساً الضِعة لمثل هؤلاء! وتقول له أحي الموتى، فيُحييهم، وحوّل النحاس إلى ذهب، فيقوم بذلك وبكلّ ما تطلبه منه.
لكن انظروا إلى سلمان الذي يرغب أن يضع نفسه في جانب الله تعالى، كيف يرى نفسه؟ [يرى نفسه] لاشيء!
لقد كنتُ جالساً في قسم الطوارئ على كرسيٍّ في إحدى الزوايا، وكان هناك أيضاً ثلّة من الأصدقاء والرفقاء ننتظر متابعة الأمور، فخطر في ذهني فجأةً ذلك الشِعر، فانشغلت بالتفكير والتأمّل فيه، وأنّه كيف يُمكن للإنسان أن يصل إلى هذه المسألة، فرأيت فجأةً أنّ أولئك الأشخاص الذين كنّا ننتظرهم أتوا، والوالدة رحمة الله عليها أيضاً كانت أحوالها قد تغيّرت كثيراً في أواخر عمرها، حيث كانت تحكي لي عن المسائل التي تحدث لها، وكنت ألاحظ وكأنّ أمراً ما سيقع، فأتى أولئك الأشخاص وأخذوها، فما إن أخذوها وذهبوا بها إلى المصعد، حتّى رأيت نفسي فجأةً بأنّني نائمٌ عوضاً عنها وأنّني ذهبت ونمت في مكانها، وأنّهم يصعدون بي إلى الأعلى، وبدلاً من أن يأخذوها هي، فقلت مع نفسي: يا للعجب، لقد تقرّر إذن أن يذهبوا بي أنا ليُسلّطوا عليّ سكّينهم ومبضعهم، فلنذهب إذن ونرى ما الذي سيحدث!
فلنذهب وننظر! فحتى الآن لم نجرّب، فلنذهب ونجرّب [يقولها سماحته ويتبسّم]، ثمّ بعد ذلك رأيت أن المسألة قد اختلفت، فهذا الذهاب لا عودة فيه، وعندما رأيت أنه لا عودة، شاهدت أن جميع الأصدقاء والأصحاب والمحبين قد جلسوا جانباً [بعيداً عنّي]، فنظرتُ إليهم، وقلت: عجباً! لقد جلسوا جانباً، وكأنني ليس لي أيُّ رفيقٍ أو صديقٍ في هذه الدنيا! ونظرتُ إلى الأقارب والأرحام، فرأيت أنهم انفصلوا وجلسوا جانباً (طبعاً الكثير منهم فعلوا ذلك قبل ذاك اليوم...) عجباً! ونظرت إلى من أعرفهم، وقلت: هؤلاء الذين كنتُ معهم طوال هذه المدّة تركوني، وجلسوا جانباً!!
ونظرت إلى أعمالي، فرأيت أنها ليست معي أصلاً! بل كلّ عملٍ منها ذهب إلى مكانٍ آخر! وكل منها ذهب إلى عالمه وذهب إلى موقعيته، ولم يبق معي شيء، بل بقيت ونفسي فقط!
عند ذلك استوحشت! وقلت: عجباً! بأيّ حالٍ وبأيّ وضع أنا ذاهبٌ لملاقاة الله؟! مع أنّنا خلال هذه المدّة كنا نرى أن الله تعالى معنا، وأنّا نشكو إليه ونلجأ له، وكنّا نتكلّم معه ونبثّه همومنا، أين هو؟! ما الذي آخذُه معي، وما الذي أُقدِّمه إليه؟
فرأيت أنّه لا شيء لديّ أبداً! بل صفرٌ محضٌ، فحتّى الـ «نصف» غير موجودٍ في ملفِّنا!
في هذه الحالة قلت: نعم لديّ شيء وهو قويٌّ جدّاً: وهو الأمل برحمة الله، وهو ربوبية الله تعالى ورحمة الله، فقلت: هذا هو الذي معي، أمّا الصلاة فليست معي، والصوم ليس معي، وسائر الأمور والمشاغل كلّها لم تكن معي.
إنّ الأمل برحمة الله وبربوبيّة الله، هو الذي كان معي فقط وفقط، وهو الذي لم يتخلّ عني، وهو الذي لا يستطيع أحدٌ أن يُبعده عنّي، فقلت: بخ بخ! هذا هو الشيء الوحيد الذي يُمكن أن أُقدّمه لله تعالى، وأقول له انتبه! [ابتسام وضحِك من الجمهور] فأنا لديّ هذا الأمل بك! وعليه فلا ينبغي لك أن تُعذّبنا.
وبعد أن خطر هذا ببالي، حصل لديّ حالة شغفٍ شديدةٍ، وقلت في نفسي: إن كان الأمر كذلك، فلماذا لا يتم التعجيل في هذه القضية؟ وبعد ذلك عدت إلى حالتي الأولى.
عند ذلك فهمت بأن الإمام عندما يقول: «وفدت على الكريم» ، فهو قولٌ صحيحٌ، والواقع هو هذا، فهل يمكن لسلمان أن يُقدّم صلاة الليل التي صلاها أمام الله؟! وهل يمكنه أن يعرض أمام الله الموقعية والعلم والقدرة التي كانت لديه؟! فيقول: انظر يا إلهي إلى هذه القدرة والمقام الذي لديّ؟! بل هل يخطر هذا الكلام في ذهن سلمان ولو مجرّد خطورٍ؟ وهل يأتي إلى ذهن سلمان ـ ولو بمقدار طرفة العين ـ تصوّر أن يقول: كُنّا خلال هذه السنوات في خدمتك يا ربّ ـ حيث كان سلمان من المعمّرين ـ وذهبتُ من مدينةٍ إلى أخرى، ومن هذه الصومعة إلى تلك، ومن هذا الراهب إلى ذاك، إلى أن وصلت إلى هنا؟ هل يخطر في باله ذلك أساساً؟ أو هل يمكن أن يقول: أنا صاحب أسرار الشريعة وأسرار الطريقة، وأنا من أهل البيت؟ أبداً لا يقول ذلك، بل هذه الأقوال يُمكن أن تصدر مِنّا فقط.
لذا، ما كتبه أمير المؤمنين عليه السلام كان صحيحاً؛ لأنّ سلمان في حالة وفود على الله تعالى، وبما أنّه يَفِد على الله، فينبغي أن يكون ما يكتبه على قبره هو الشيء المناسب لهذا المقام.
هذه هي الواقعية!
شرح مختصر لبعض مقاطع المناجاة الشعبانيّة
«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك» ، يعني: يا رب أعطني كمال الانقطاع، وقطع العلائق عن أي شيء، عن عقلي ونفسي وتعلّقاتي، اقطع تعلّقي بها جميعاً، وابقِ لي تعلقاً واحداً، وهو الوصول إليك؛ فعبارة «انقطع إليه» ، تعني: أنّه قطع جميع العلائق بالغير، وتوجّه إليه فقط، هذا هو الانقطاع.
«إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك» ، إلهي امنحني الاتصال بك والانقطاع عن خلقك، أذقني هذا الأمر، وهذا الأمر عجيبٌ جداً، إذ عندما يحصل للإنسان هذا الأمر ـ ولو بمقدار ذرّةٍ واحدةٍ؛ إذ أين لنا أن نصل إلى أولئك العظماء ـ عند ذلك سيفهم كلمات العظماء وسيمكنه أن يحلّلها، وعند ذلك سيفهم كلام الإمام السجاد في دعاء أبي حمزة والتفكير فيه، وعند ذلك يمكنه أن يتأمل في المناجاة الشعبانية، وعند ذلك يمكنه أن يقرأ دعاء الإمام الحسين عليه السلام يوم عرفة، وسيعرف لماذا كان الإمام يقرأ الدعاء ويبكي وتنهمل دموعه على خدّيه كما ينهمل المطر!! وهل كان ذلك تصنّعاً منه، أم أنه أراد بذلك أن يعلّمنا؟! وسيعلم لماذا كان الإمام يقرأ ويبدو عليه التبدّل والتحوّل عندما يقول: «الهي هب لي كمال الانقطاع إليك»؟!
إنّ نفس هذه الموهبة هي أيضاً من قبلك أنت، وبواسطة هذا الفيض يُمكنني أن أنقطع إليك.
«وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك»؛ أي: أنِر عيون قلوبنا بنورك، فعندما تنظر إليك، افتح لنا أبصار قلوبنا، واجعلها تنظر إليك دون أن ترى غيرك، ولا ترى مُؤثِّراً في الوجود سواك، واجعلها ترى أنّك كلّ شيء، فترى أنّك مسبب الأسباب، وأن جميع العالم [قائمٌ] بوجودك، وترى أنك سارٍ وجارٍ في جميع الأمور!
لو كان لدينا شيء من هذه المعارف ما الذي كان سيحدث؟ هل كنّا لنتفوّه بما يفسّر كلمات وحالات الأئمّة في الأدعية؟ هل شاهدنا أحداً من هؤلاء العظماء يتكلّمون بمثل هذه الكلمات[في حمل الدعاء على غير ظاهره] ؟
«وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتى تخرق الأبصار حجب النور فتصل إلى معدن العظمة وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك» إذ الغاية من ذلك ليس فقط الخروج عن دائرة الكثرة والناس الظُلمانيِّين أو من عالم الدنيا الدنيّة، أو من الشهوات والهوس؛ فهذه الأمور ليست بشيءٍ مهمٍّ حتّى نتحدّث عنها، بل الغاية هي تجاوز العوالم النورانيّة وعوالم المعنى؛ «تخرق الأبصار حجب النور» ؛ حُجب النور، والعوالم والكثرات المرتبطة بعوالم الربوبيّة، والمرتبطة بحقائق عالم الربوبيّة، فلا تجعلنا نتوقّف في حقائق عالم الربوبيّة، ولا تجعلنا نقف عند النعم التي نراها في ذاك العالم، بل اجعلنا نتجاوز عن جميع ما سواك، التي هي ظهور لآثار جمالك وجلالك.
ينقل المرحوم العلامة عن المرحوم الحداد أنّه قال: «يا سيد محمّد الحسين! يحصل لي أحياناً أن أصل إلى بعض العوالم، بحيث ما إن أريد أن أتعرّف عليها حتّى أرى أنّهم نقلوني إلى عالم آخر» ، يعني: ما إن أريد أن أرى ما الذي يجري في ذاك العالم وما المسائل التي فيه، [حتّى انتقل إلى عالمٍ آخر].
هل تعلمون ما هي المسائل الموجودة هناك؟ أقول لكم هذا المقدار فقط: إنّ نسبة ذاك العالم إلى هذا العالم المادّي كنسبة البحر إلى القطرة!! ماذا أقول أكثر من ذلك؟ يعني: أن مقدار هذا العالم المادّي بما فيه بالنسبة إلى ذاك العالم كنسبة القطرة إلى البحر، وذاك هو كذلك، إذ يقول: ما إن أريد أن أرى ما الذي يجري في ذاك العالم أرى أنهم نقلوني إلى عالم أرقى، يعني: أنّي تجاوزته!
هذه هي الحُجب النورانيّة، والحجاب ينبغي أن يتمّ تجاوزه، لا ينبغي البقاء عنده، جميع هذه المراحل موجودةٌ في نفس الإنسان وسنأتي عليها لاحقاً، أما الآن فعليك أن تتجاوزها.
ينبغي العبور من آثار جمال الباري تعالى، وينبغي العبور من النعم الأخرى؛ كعوالم المثال والملكوت، والعبور من الخصوصيّات الجماليّة أيضاً.
يقول أحد الأصدقاء: كنت أفكر في آثار الجمال، وقلت في نفسي: ما هي تلك المرتبة من الجمال الإلهي عندما يريد أن يتجلّى؟ فجأة رأيت أن ظهوراً من ظهورات الجمال قد حلّ في قلبي! وحصل في نفسي من ذاك الجمال الذي رأيته حالةً، لو قسّمتها على جميع البشر في الكرة الأرضيّة لسكروا وتحيّروا جميعاً منها! يقول: رأيت جميع الأرض تنعم بذاك الجمال، وهذا الذي رأيته لو قُسّم على الناس كلّهم جميعاً لسكروا!! هذه حُجب النور، ومع ذلك يجب أن يتمّ تجاوزها.
«حتّى تخرق أبصار القلوب ...» ، انظروا: ما الذي يوجد أعلى منها؟ حتّى يقول الإمام انقلني إلى أعلى منها! ما الذي يوجد هناك؟
ذكرت لكم يوماً ـ لعلّه في شرح دعاء أبي حمزة ـ أن شخصاً من معارفنا ذكر لي أنه في زمن الشاه، ذهب صباح يومٍ من الأيام إلى المستشفى ليعود صديقاً من أصدقائه، وكان يحدّث نفسه أثناء الطريق بأنه ينبغي على السالك أن يتجاوز عن مسألة الجمال ولا ينظر ولا يلتفت إلى هنا وهناك، وفي هذه الأثناء أتت ممرضةٌ لتبدّل المصل للمريض، ولم تكن رعاية الحجاب في ذاك الوقت جيّداً، فقال: ما إن وقع نظري عليها حتّى غرقت في جمالها، فتعجّبت من ذلك، فصار فكرنا وذكرنا هو تلك الفتاة، وبعد ذلك حضرت ليلة الثلاثاء إلى المسجد، وكان المرحوم العلامة يتحدّث! وجلست أنظر إلى العلامة وفكري في المستشفى، فجأة قال المرحوم العلامة: نعم! يقولون بأنه ينبغي أن نتجاوز عن مسألة الجمال، لكن يا أخي ساعد فتاة يفتنك ويأخذ بلبّك، فما الذي تقوله بأنه علينا أن نتجاوز؟! هذا ليس عمل أيّ شخصٍ، هذه هي حجب النور؛ لأن هذه الأمور هي حجب النور، فهي مرتبطة بعوالم الربوبيّة، فإن كان هذا المقدار من الجمال لا تستطيع أن تتجاوزه، فما بالك بحور العين؟
يقول المرحوم العلامة: إذا أراد الله تعالى أن يبيّن لإنسان ـ بدون استعداده ـ جماله في قالب الحور العين وأمثالها، لما استطاع أن يعيش لحظةً في هذه الحياة الدنيا، هذه الأمور لا يُبيّنها الله الآن، بل يتركها لذاك العالم، يقول لنا: في الحاضر عليكم أن تتخلّصوا من هذه الدنيا ومن هذه الأوضاع، واتركوا تلك المسائل إلى ذاك العالم، وستبقى ديْناً لكم إلى هنا، أمّا أولئك الأشخاص الذين طووا هذه المراتب [فهم بأمانٍ وبإمكانهم مشاهدة هذه المسائل]، فلا تنظروا إلى هؤلاء الذين لديهم موقعيّة وخصوصيّات معيّنة.
أمير المؤمنين يقول: «حتّى تخرق أبصار القلوب حُجب النور»، اجعل عين قلبنا وبصيرتنا وتحمّلنا وسعتنا الوجوديّة التي منحتنا إياها... ، اجعلها تُمزّق حُجب النور وترفعها جانباً، وأوصلنا إلى النقطة المقصودة والغاية المنظورة، لا تجعلنا نتوقّف عند هذا الحدّ، ولا تشغلنا بمسائل الغيب والمُكاشفات والشهودات، بل اجعلنا نتجاوزها؛ «حتّى تخرق أبصار القلوب»، والمراد من أبصار القلوب هو تلك الحالة والاستعداد والقابليّة التي لدى القلب للمشاهدة، هذه يقال لها: «عين القلب» ، فقوله: «حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور» ، المراد بها هي أن ترتفع حجب النور، «فتصل إلى معدن العظمة» وهو مقام ذات الباري تعالى، وهو حقيقة «الوجود الصِرف» ، وهو معنى «بسيط الحقيقة» ، وهو معنى «الذات اللا متناهية» التي هي معدن ومنشأ لجميع الأسماء والصفات الكلّية، وإلى هناك يُريد الإمام أمير المؤمنين أن يُوصلنا، لذا علينا أن نلتفت جيداً، علينا أن لا نأنس بالعوالم الأدنى من تلك.
«وتصير أرواحنا معلّقةً بعزّ قدسك» ، فتطير أرواحنا إلى محلّ عزِّ القدس.
«إلهي وألحقني بنور عزّك الأبهج» ، إلهي امنحنا الوصول إلى نور العزّ الذي يحتوي على بهاءٍ أكثر وتشعشعٍ أكبر، والذي هو أعلى مرتبةٍ.
نور مقام العزّة هو مقام الفناء بالذات، هذا ما يقوله أمير المؤمنين بصراحة؛ ذاك النور الذي عندما يسطع في مقام عزّة الباري لا يبقى أيّ غيرٍ؛ أمير المؤمنين عليه السلام يقول: إلهي انقلني إلى هناك! ألحقني بنور عزّك واقطعنا عن جميع شراشر وجودنا، وامحُ عنّا جميع آثار وجودنا، وأفن جميع أنانيّاتنا وآثار نفسنا، ولا تبقي لنا شيئاً من وجودنا حتّى الوجود الثابت أيضاً؛ لأنه في مقام تجلّي نور العزّة لا يبقى شيء حتّى العين الثابتة لا تبقى، يعني: إنّ نقطة الشروع التي تكون مع كلّ شخصٍ وتحفظ له هويّته الشخصيّة وحقيقته الخارجيّة... ، حتّى هذه، لا تَبقى هناك، وهذا الدُعاء من الأدلّة النقليّة على مسألة الفناء الذاتي؛ لأنّ مقام نور العزّة لا يمكن لأحد أن يتحمّله غير ذات الباري سبحانه وتعالى، فغيرته لا تُبقي غيراً له، فعندما تتجلّى غيرة الباري لا يبقى شيءٌ أبداً؛ من هذه المرحلة يعلم أنه لم يكن هناك شيءٌ سوى الله، إذ قبل ذلك كان يرى أنّ هناك غيرٌ.
«إلهي وألحقني [بنور عزّك الأبهج] ...» ؛ هذه العبارة عجيبةٌ جداً، إذ تكشف عن أن الإمام يريد من الله تعالى فقط وفقط أن يصل إلى الفناء الذاتي، يعني هو يقول: حتّى «ذاتي» لا أريد لها أن تبقى، فامحُ الصفات والأسماء، وامحُ خصوصيّات تلك الهويّة التي أَتشكَّل مِنها وتتشكّل منها أنانيّتي، بل وحتّى نفسي أنا أُريدك أن تُفنيها؛ «وألحقني بنور عزّك الأبهج» ، فإذا حصل ذلك، ما الذي سيصير؟ «فأكون لك عارفاً» أي أصير عارفاً بحقيقتك الذاتيّة، فإن لم أدخل في عزّ نورك الأبهج لن أكون عارفاً لك! بل سأصير عارفاً بجزءٍ من آثارك، وشيءٍ من مظاهرك وبعض من خصوصيّاتك.
«وعن سواك مُنحرِفاً»؛ أي: وأبعدني عن كلّ مَن سِواك، وعن كلّ شيءٍ سواك، «ومنك خائفاً مراقباً» ، واجعلني أخشاك وأراقب وُجودَك وحُضورك، أي: الحضور في مقام عِزِّك، أي: المراقبة في تلك المرتبة وتلك النقطة، «يا ذا الجلال والإكرام».
هذا الدعاء جزءٌ من المناجاة الشعبانيّة، والذي كان العظماء يقرأونه في قنوتهم، ومن الجيد أن يحفظه الإخوة، ويدعوا به أثناء القنوت.
بعض خصوصيّات شهر شعبان المبارك
أوّلًا: يوم وليلة النصف من الشعبان وكيفيّة إحيائها
من جملة الخصوصيات في شهر شعبان هو يوم النصف منه، وهو يوم ولادة صاحب الأمر عجّل الله فرجه الشريف، ومعلومٌ كم هو فضل هذا اليوم وتلك الليلة وأيُّ خصوصيّاتٍ لها؟! وهي الليلة التي حصل فيها ظهورٌ ناسوتيٌّ لمقام الولاية الحقّة والحيّة، وبواسطة هذه الولاية تحقّق التجلّي الخارجي الأعظم للباري تعالى؛ لذا تُعتبر هذه الليلة ليلةً مهمّةً جدّاً. والمرحوم العلامة كان يُؤكد دائماً على الإخوة إحياء هذه الليلة، كما أنّه كان يُحيها دائماً، ويقرأ فيها دعاء كميل، ومن المناسب للإخوة أن يلتفتوا إلى ذلك ويحيوها؛ إمّا بشكلٍ جماعيّ أو فرادى في المنزل، بأيِّ شكلٍ أمكن.
ثانيًا: صيام أيّام شهر شعبان ووصلها بشهر رمضان، والصوم المطلوب فيهما
ومن الأفضل في شهر شعبان أن يصوم الإنسان فيه، وخصوصاً في آخره بحيث يصله بشهر رمضان، وأمّا بالنسبة إلى شهر رمضان، فمهما يتكلّم الإنسان حوله لا أعتقد بأنّه يُمكنه أن يؤدّي حقّه، والإخوة يعرفون بأنّه تمّ عرض بعض المسائل بالنسبة إلى خصوصيات ذلك الشهر الفضيل؛ مثل كيفيّة السحور، والإفطار، وإحياء الليالي المباركة لشهر رمضان ـ بقدر الإمكان ـ خصوصاً في العشر الأواخر؛ إذ من الأفضل أن يبقى الإنسان مستيقظاً إلى الصباح، وينام بعد الظهر أو قبل الظهر، وقد جرى التأكيد على هذه المسألة كثيراً، وأذكر كم كان العظماء يؤكّدون على إحيائها، وكانوا يُريدون أن ينبهونا على أن شهر رمضان إنّما يظهر في العشر الأواخر منه، يعني أن العشرين يوماً الأوائل هي مقدّمةٌ لتلك العشرة الأواخر؛ بحيث أن الإنسان إنّما ينال ما ينبغي من الهدايا والعطايا في تلك العشرة؛ لذا ينبغي أن نتوجّه أكثر، وكلّما استطاع الإنسان أن يحفظ توجّهه أكثر من خلال الطعام، أمكنه أن يدرك هذه الأيام المباركة ويستفيد منها بشكلٍ أفضل.
نسأل الله أن يجعل صوم الطاهرين والسائرين على طريقه من نصيبنا، وهو «صوم الخواص» و«صوم خواص الخواص» ؛ الصوم الذي ليس عبارة عن الإمساك عن الطعام والشراب فقط، وليس مجرّد التحكّم بالخواطر غير المناسبة وغير الصالحة، بل التوفيق حتّى للانصراف عمّا سوى الله، كما أشار إليه أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشعبانيّة، والتوجّه إلى ذات الباري في جميع الأمور؛ الأمور العاديّة والأمور الخياليّة والأمور المثاليّة والأمور القلبيّة والأمور الفكريّة، في جميع هذه الأمور يكون التوجّه نحو الله، ولا يتخلّى عن الانقطاع إليه دون غيره، هذا هو الصوم.
الصوم الذي يقوم به خاصّ الخاص هو هذا الصوم، لا نقول: إنّ هذا الصوم غير مرتبطٍ بنا بل هو خاص بالأولياء فقط، لا! بل علينا أن نتجرّأ قليلاً ـ ما الإشكال في ذلك ـ فإن لم يجعل الله تعالى جميع الأربع وعشرين ساعةٍ من نصيبنا، من الجيد أن يعطينا ثانيتين أو ثلاثة من تلك الحالة، فهذا يستحق الطلب من الله تعالى كي يجعله يحصل هذه الحالة إن شاء الله.
نسأل الله أن يقسم لنا ذاك الصوم الذي كان يجعل أولياء الله عندما ينتهون من هذا الصوم أن يذهبوا إلى زيارة الأئمّة وأولادهم شكرًا لله على تلك النعمة، وهذا ليس من باب الصُدفة، فهم لا يقومون بشيءٍ من باب العادة، بل كانوا يُحسّون بذلك ويشعرون ويصلون إلى تلك المقامات، وبعد ذلك يدعون الآخرين إليها.
نسأل الله أن يتفضّل علينا وأن يمنّ علينا جميعاً بما منّ به على المنقطعين إليه، إن شاء الله.
اللهم صل على محمد وآل محمد