المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمجبل عامل
المجموعةعدم التأثر بالإعلام
التوضيح
تحدث آية الله سماحة السيد محمد محسن قدس الله سره في هذه المحاضرة عن مفهوم حرية الفكر والاعتقاد وانتخاب الطريق الافضل طبقاً للآية الكريمة فبشّر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، مشيراً الى أهمية التمعن بالآيات القرآنية المليئة بالعبر والتوجيهات والتعامل معها بصِفتنا المخاطبين فيها، مؤكداً أن المنهج العقلائي لكل الأديان السماوية قائمٌ على أساس التفكر وانتخاب الافضل لتربيه الانسان.
ثم بيّن أن الله أوجد طريقتين في التربية أولها العقل المتصل بنا فالله تعالى سيؤاخذنا على قدر معرفتنا بهذا العقل ولن يكلفنا فوق طاقتنا، ثم وضح توصية العرفاء لأهمية فهم حقيقة العبادات التي نمارسها لا فقط صرف أدائها، مستكملاً في بيان الطريقة الثانية في التربية الالهية وهي إرسال الرسل الالهيين والمعرفة بالعقل المنفصل، مؤكداً أن العقل هو الحجة الالهية علينا والتي تلزمنا بالتفكير والاختيار قبل اتّباع أي منهج، مُبيناً أن العرفان هو العقل والعقل هو العرفان، ثم وضح منهج العلامة في التربية والتوجيه من خلال إحكام العقل وحرية الفكر والبحث في آراء المخالفين ليتمكن الفرد من إحكام النتيجة المبنية على الحجة والدليل العقلي، وهذا مصداق للآية فبشر عبادِ الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه مشيراً الى أهمية المراقبة الجدية في البرنامج السلوكي ومتابعة المعارف وإحكام حجّيتها بالعقل الحر.
وجدير بالذكر أن هذه هي المحاضرة الأولى في سلسلة محاضرات ثلاث ألقاها سماحته حول أهمية التعقل وعدم التأثر بالإعلام
هو العليم
حرية الفكر والاعتقاد
وضرورة التعقل وترك التقليد الأعمى
ضرورة التعقل و اتباع الحق و عدم التأثر بالإعلام - المحاضرة الأولى
ألقاها في جبل عامل:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعوذ بالله مِنَ الشيطان الرجيم
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلّى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمّد
وعلى آله الطيّبين الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
الحمد لله الّذي وفّقنا لزيارة الإخوة في هذه السَّنة .. كنتُ في السنوات السابقة مشتاقًا لزيارة الرفقاء والأصدقاء، ولكن لم يوّفقنا الله لذلك، إلّا أنّه – وبحمد الله – قد بلغ هذا الشوق مرتبةً لم أجد معها بُدًّا إلّا زيارتهم.
نظرًا للأمور الّتي واجهتها في هذه السنوات، مِن الرسائل الّتي كان الأخوة يرسلونها إلينا، وغيرها مِن أمور مختلف، ومِنَ الظروف الّتي نعيش فيها، [فلا بدّ] أن نتكلّم حولها.
مفترق الطُرق بين الضلال والفلاح هو الحريّة والتعقّل
قال الله تعالى في كتابه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ}۱؛ فإنّ العديد مِن آيات كتاب الله تعالى، وكذلك الروايات والآثار الّتي نراها مِنَ الأئمّة عليهم السلام، نجدها جميعها تحكي عن التفكّر والحريّة في السير وفي الطريق، الطريق والسلوك الإلهيّ في هذه الدنيا. وهذه هي النقطة الّتي لو أهملها الإنسان لهلك وضلّ وفسد طريقه، وإن راعاها نجح وربح وبلغ الصلاح والنجاح والفلاح والسعادة الأبديّة. [هذه النقطة] هي عبارة عن الحريّة في التفكّر والاعتقاد والاختيار والانتخاب الأصلح، وذلك في كلّ حال وظرف وفي كلّ زمان ومكان، مِن دون أن يشوب ذلك الدعايات والإعلانات والمصالح الشخصيّة والنفسيّة والصراخ وغيرها مِن أمورٍ عديدة مبكية ومهلكة، الّتي نراها في هذه الأزمنة ونجدها بجوارنا.
نجد في جميع آيات القرآن أنّ هذه النقطة جديّة وأساسيّة في الحركة الإنسانيّة إلى مرتبة الكمال، فيجب أن يسود هذا الأمر في جميع تصرّفات الإنسان وأحواله خلال عيشه وحياته في الدنيا.
نجد في القرآن الكريم {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}٢؛ هذه هي الحريّة في التفكّر والاعتقاد والسير، يعني أنّ القرآن الكريم يعلن هذه المسألة بأعلى صوته ويروّج لهذه الفكرة والخريطة. [قال] {فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، ولم يقُل (فبشّر العباد الّذين يستمعون القول مِن فلان ويتّبعون منهجه أو ويتّبعون سبيله)، [بل قال:] {يَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، يعني أنّهم يتّبعون مِن بين جميع الأقوال والاعتقادات والآراء ما يرونه بعقولهم، لا بأسماعهم، لا بهذا السمع، لا بمجرّد أنّ فلانًا قال، ولا بمجرّد أنّ القائل هو هذه الإذاعة أو هذه الجريدة أو هذه اليوميّة أو هذه المجلّة، ولا بمجرّد أنّ القائل هو هذا الشخص الّذي على المنبر، لا، بل ما يراه هو بفكره أنّه أحسن.
القرآن الكريم دستورٌ عرفانيّ وتربويّ وهو يخاطبنا كما يخاطب النبيّ
إنّ هذا القرآن عبارة عن آيات نزّلها الله تعالى على قلب النبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وكان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مرآةً لانعكاس هذه الآيات وأضوائها على قلوب آحاد هذه الأمّة إلى يوم القيامة. ماذا يعني هذا الأمر؟ يعني إن كنّا الآن مئة شخص، فإنّ الآيات القرآنيّة أنزلت على كلّ فردٍ فردٍ جالسٍ في هذا المجلس، وجميع آيات القرآن [كذلك].
التفتوا، فإنّ هذه المسألة مِن أدقّ المسائل وأظرفها، وقد كانت منسيةً حتّى عند كثير مِنَ الأعاظم، وهي المنهج العرفانيّ والسلوك الإلهيّ الّذي يُربّي الإنسان ويهذّبه ويوصله إلى مرتبة الكمال. هذه هي الطريقة.
فالقرآن الكريم مِن أوّل سورة الحمد إلى آخر سورة الناس، أي ما يزيد عن ستّة آلاف وستمئة آيات، هو عبارة عن مطالبَ عرفانيّةٍ وتوحيديّة وقِصصٍ وعِبَر ومسائلَ أخلاقيّةٍ واجتماعيّة، تتكفّل بإدارة شؤون الدنيا والآخرة لكلّ شخص [منذ] ولادته حتّى يصل إلى مرحلة التكليف، ليتأهّل ويستعدّ لبلوغ مرتبة الكمال. ولكن بما أنّه لا يمكن أن يُنزِّل الله تعالى هذا الكتاب على كلّ فردٍ فردٍ، نزَّله على شخص واحد وهو النبيّ الأكرم (اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد).
على هذا، ليس الأمر هو ما يقوله بعضُ الجاهلين بالمعارف الإلهيّة، مِن أنّ القرآن قد نُزِّل على نفس النبيّ الأكرم [واختصّ به]، فعندما يقرؤه الإنسان يجب أن يقرأه حكايةً وحسب، فلو أردنا أن نقول {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}۱، فينبغي أن ننوي في أنفسنا أنّنا نقرأ ذلك حكايةً عمّا نُزِّل على النبيّ، يعني بما أنّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) كان يقرأ هذا، فنحن نقرؤه كذلك!! لا [هذا ليس صحيحًا]. أو ما يقوله البعض مِن أنّ المخاطب بقوله {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}٢ هو النبيّ، فكيف لنا نحن أن نقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} في الصلاة وفي غيرها وكأنّها نُزِّلت إلينا!! بل يجب على المرء – وهم أفتوا بذلك – عندما يقرأ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} في الصلاة أن ينوي أنّ قراءته هذه، هي قراءة لِما خوطب به النبيّ وأنّ قراءته هي اتّباع وحكاية!! [بناء على هذه الأقوال] فكأنّ هذا القرآن هو رسالة للنبيّ، ونحن نقرؤها على أنّها نُزِّلت قبل ألف وأربعمئة سنة على شخص واحد، ولا علاقة لنا بهذا القرآن، إلّا أنّ قراءتنا له هو مجرّدُ حكايةٍ وأداءٍ للتكليف وإبراءٍ للذمّة في الصلاة!!
كلّ هذه الأمور أخطاء، وباطلة بالكليّة، بل هذه السورة إنّما نُزّلت علينا وعلى آحاد الأمّة وأفرادها إلى يوم القيامة؛ فالسورة الّتي تقول {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ}، تعني أنّه: أنت أيّها الجالس، أنت قل هو الله أحد، وذاك الجالس، أنت قل هو الله أحد؛ يعني على جميع أفراد الأمّة أن يروا أنّ هذه السورة نُزّلت إليهم، [غاية الأمر] أنّهم لم يكونوا موجودين في زمن نزولها، فأنزل الله تعالى القرآن بالحكايةِ والمرآتيّة والوسيلة والواسطة لإيصال هذه المطالب إلينا۱.
مثلًا، كيف يوصي الأشخاصُ الّذين يريدون ذلك؟ إنّهم قبل سنواتٍ مِن موتهم – بعشرِ سنواتٍ مثلًا – يكتبون وصيّةً ويجعلون وصيًّا عليها، يطلبون منه فيها أداء بعض الأمور بعد موتهم. جيّد، فمَن هو المخاطب بهذه الوصيّة؟ هم الّذين يقرؤون الوصيّة بعد وفاة الموصي، يعني أنّ المخاطبون بها هم جميع الأفراد الّذين يرون [هذه الوصيّة] بعد وفاة الموصي، فإن كان لهذا الشخص أربعة أولاد مثلًا، فجميعهم مخاطبون بهذه الوصيّة .. في آخر ليلة مِن حياة أمير المؤمنين المباركة، وهي الليلة الحادية والعشرين مِن شهر رمضان، أمْلى وأنشأ أميرُ المؤمنين وصيّةً، وهي وصّيةٌ مشهورة ذُكرت في نهج البلاغة، والّتي قال فيها «هذا ما أوصى به علِيّ بن أبي طالب [إلى أن قال] وكلّ مَن بلغه كتابي»٢، يعني نحن، فجميع الأفراد الحاضرين الآن مخاطبون حقيقةً بوصيّة أمير المؤمنين عليه السلام.
حسنًا، تقول الآية القرآنيّة {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}٣.. وهناك وصيّة لأمير المؤمنين (عليه السلام) ذُكرت في نهج البلاغة [يقول فيها] (الله الله في [بيت ربّكم] ... الله الله في القرآن)٤، فيجب علينا أن نقرأ هذه الوصيّة، وأن نعمل بهذه المسألة بجدّ؛ هذا هو المقصود.
أمّا بالنسبة للقرآن الكريم، فطريقة [تعامل] الأولياء الإلهيّين ونظريّتهم في آيات القرآن الكريم ورؤيتهم لها، لا تقتصر على أنّ القرآن قد نُزّل على قلب ونفس النبيّ وأنّه علينا قراءته حكايةً، وكأنّ القرآن رسالةٌ وجريدة [دُوّنت] ونُزّلت قبل ألف وأربعمئة سنة، ثمّ وصلت إلينا – بعد تلك المدّة – لنقرأها!! كيف نقرأ [الجريدة عادةً]؟ نقرؤها على أنّها أمور وقعت في زمن سابق، ولا علاقة بيننا وبينها. [أما القرآن] ليس كذلك، بل القرآن نَزَل ويتنزَّل علينا دومًا في كلّ يوم وفي كلّ لحظة، وعلى كلّ مولود يولد نهار السبت والأحد ... إلخ، وفي [كلّ وقت] كالعصر والليل والصبح، فهذا القرآن يكون بجنبه بمجرّد أن يُولد. هذا هو السرّ الأساسيّ في كيفيّة تربية القرآن وتزكيته [لنا]. يعني لا بدّ أن نقرّ ونعترف بأنّه لا يمكن الفرار مِنَ التكاليف والفرائض الّتي أوجبها الله تعالى علينا، وأنّها حيّة ونشيطة في كلّ زمان وآن، سواء كان إمام الزمان حاضرًا أم غائبًا، وسواء كان الأئمّة موجودين أو غير موجدين، فالقرآن بجنبنا وآيات القرآن بجنبنا [على كلّ حال]، وجميعنا مخاطبون بهذه الآيات.
كان السيّد الوالد رحمه الله [يردّ] مَن يقول أنّ مَن يقرأ مثلًا هذه الآية في سورة الحمد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يجب أن يقرأها حكايةً، أي حكايةً عمّا نزل على النبيّ، وحكايةً عمّا نُزِّل مِنَ الله تعالى على نفس الرسول قبل ألف وأربعمئة سنة. لماذا؟ لأنّنا [بحسب ادّعائهم] غيرُ جادّين بالاستعانة بالله تعالى، [وأنّ استعانتنا به ليست] كليّة ومئة وبالمئة، أمّا عندما يقول النبيّ والأئمّة عليهم السلام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فكانوا جادّين بقولها، وكان قولهم لها حقيقيّ وواقعيّ، أمّا نحن فقولنا مجازٌ وغير واقعيّ، ولهذا [يقولون أنّه] لا يجوز لنا مثلًا أن نلتفت إلى معاني هذه الألفاظ [ولا] التأكيد على أنفسنا لقبول هذه المطالب، فلذا نتلفّظ بها حكايةً. فكان السيّد الوالد يقول: لا، بل يجب على كلّ فرد أن يقرأ ألفاظ [القرآن] بجِدّ، وأن يصدّق معانيها، وأن يعترف ويقرّ بهذه المعاني، ويوجبها في نفسه مئة بالمئة، وأن يسأل الله تعالى التوفيق في ذلك. [أقول:] لا توجد مشكلة في ذلك، لا توجد مشكلة؛ [فلنقل] {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ونسأل الله تعالى أن يوفّقنا للوصول إلى المرتبة الّتي كان النبيّ والأئمّة متحقّقين فيها عند قراءتهم لها. فما المشكلة في ذلك، ما المشكلة؟! [بل] هذه هي الصلاة الّتي بها تربية وتزكيّة النفس وفيها النماء والكمال.
ولذا، لو قال الإنسان {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} لمجرّد أنّ النبيّ قال ذلك، فما الفائدة أصلًا؟! وهل تكون تلك الصلاة واقعيّةً؟! وهل يكون الإنسان على معرفة بهذه الصلاة، وهل يفهم منها شيئًا؟!
ولو قرأنا {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} لمجرّد أنّ الله تعالى نزّل سورتها على النبيّ – فنقرؤها مجرّدُ قراءةٍ إذ لو كان المُنزل غيرها لقرأناه كذلك – فليس في ذلك فائدةٌ أصلًا، وتكون الصلاةُ صلاةً جامدة لا روح فيها ولا معنويّة ولا روحانيّة، بل تكون مجرّد أداءٍ للحركات والتصرّفات [الجسديّة]، كالروبوت، الّذي يتصرّف دون معرفة ودون فَهْم، فهو مبرمج على بعض التصرّفات الخارجيّة، فيفعلها وهو لا يعلم ماذا يفعل وماذا يقول ولا يفكّر أصلًا، فهو ليس له فكر..
الحريّة وعدم التقليد أساسُ تربية الإنسان في عالَم الوجود وركيزة الأديان السماويّة
هذه هي حقيقة القرآن .. ولذا فإنّ الله تعالى في قرآنه وكتابه – وفي العديد مِنَ المواضع – ينهى عن التقليد. لمّا سُئل قومٌ: لماذا تفعلون كذا، ولماذا تعبدون الأصنام؟ قالوا: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا}۱ – نحن نسخر الآن مِن هذا الأمر والرأي ونضحك عليه – فعندما كان النبيّ يقول للشخص الّذي يعبد الأوثان والأصنام: إنّ الله تعالى يقول: لماذا تعبد بهذه الطريقة، ولماذا تعبد الصنم والوثن؟! كان يُجيب بأنّ أباه ووالده وجّده كانوا يعبدون الأصنام، وهو يتّبع طريقتهم تلك. حسنًا، [ولكن] {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}٢، أي هل يجب عليك أن تتّبعهم حتّى لو كانوا مجانين؟! وهل يجب [أن تتّبعهم] حتّى لو كانوا لا يعقلون؟! إنّ المسألة فطريّة؛ لاحظوا، لاحظوا كيف هي نظريّة الحريّة في القرآن، نظريّة حريّة الفكر، نظريّة حريّة الاختيار، نظرية حريّة السير، نظريّة حريّة التفكّر؛ فهو يقول لهم: [أتتّبعونهم] ولو كانوا لا يعقلون!! فلو كنتَ في الشارع [ورأيت] مجنونًا، فهل تتّبعه؟! حسنًا إنّ هذه الطريقة نفسها موجودةٌ .. وإن كان الوالد يهوديًّا فهل يجب أن يكون ابنه يهوديًّا؟! وإن كان المرء نصرانيًّا فهل يجب أن يتّبع ابنه طريقة وعقيدة والده؟!
إنّا نجد مسألة الحريّة في جميع آيات القرآن، وإن دقّقنا وحقّقنا في الآيات سنرى أنّها الحجر الأساس في تربية الإنسان في عالَم الوجود؛ يعني أنّ جميع الشرائع والأديان الإلهيّة مبنيّةٌ على هذا العمود وعلى هذا الحجر، وأنّ جميع الاعتقادات والمباني الشرعيّة ومباني الأديان الإلهيّة تجتمعُ على هذا العمود، ومبنيّة على هذه المسألة والحجر. وهذا ما نراه في القرآن وفي آحاد الآيات القرآنيّة، [يقول تعالى:] {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}، فهو لم يَقُل (فبشر عبادي الّذين يستمعون قول مَن بلغ التسعين، أو فبشر عبادي الّذين يستمعون قول هذه الجريدة المعروفة، أو فبشر عبادي الّذين يستمعون قول هذا المؤلّف المعروف والمشهور، أو فبشر عبادي الّذين يستعمون القول في هذه الظروف والأزمنة، أو فبشر عبادي الّذين يستمعون قول هذا التلفاز وهذه الإذاعة، أيّ إذاعة [كانت] وفي أيّ بلد كان وفي أيّ مكان)، لا، نحن لم نسمع بذلك، فهذا القرآن بين أيدينا وأيديكم فأنظروا فيه، فإن كانت هناك آية واحدة تقول أنّه يجب على الإنسان أن يتّبع المسائل بغير هذه الطريقة فليُرينا إياها، [كذلك هو الأمر] في جميع الآيات. حتى أنّ هناك إصرار في الآيات على أنّ اتّباعَ المِللِ للمناهج الإلهيّة والأديان الإلهيّة والرجال الإلهيّين، [يجب أن] يُبنى على العقلانيّة والتفكّر والانتخاب.
الطريقة الأولى للتربية في النظام التشريعيّ؛ الحجّة المتّصلة (أي العقل المتصل بنا)
لماذا يجب أن يتّبع الإنسانُ النبيّ؟ لأنّ النبيّ يدعونا إلى هذا الطريق، فلو كان النبيّ يدعونا إلى طريق آخر غير هذا، [كأن يدعونا] إلى مصالحه الشخصيّة والدنيويّة، وإلى مطالبٍ نراها بأعيننا وترفضها عقولنا، أي أن أعيننا ترى وعقولنا لا تقبل، فمِنَ المستحيل أن يُجبرنا الله تعالى على اتّباع هذا المنهج، لماذا؟ لأنّ الله تعالى أوجد وأوجب، للتربية في النظام التشريعيّ في هذا العالَم، طريقتين؛
الطريقة الأولى، وهي العقل المتّصل بنا، والمعروف بـ (العقل المتّصل)، وهو العقل [الموجود] في كلّ الأفراد، ويختلف هذا العقل بحسب اختلاف ظروفِ ومعلومات وعلوم [كلّ شخص]، وبحسب اختلاف المجالات العلميّة والتربويّة [وتجارب] السنين؛ فعقل الشخص الّذي في الصفّ الأوّل يختلف – بطبيعة الحال – عن عقل الشخص الّذي في الجامعة مثلًا أو غيرها مِنَ المراحل. والعقل الموجود في الرجل العاديّ، يختلف عن [عقل] المجتهد في العلوم الإلهيّة، فهنا يختلف العقل كلّيًا. والعقل الموجود في آحاد الرجال، يختلف عن العقل الموجود في الرجل الإلهيّ والوليّ الإلهي والعارف مثلًا، يختلف كلّيًا. فللعقل مراتب، ولهذا كان لكلّ شخص تكليف خاصّ يتناسب مع مرتبة عقله، لا أزيد. فإنّ الله تعالى لا يكلّف المرء أزيد مِن هذا، لا. فيقول الله له: بما أنّك فهمت هذا الأمر فيجب أن تتّبعه، وإن لم تفهم، فلا يجب عليك الاتّباع، لا يجب عليك الاتّباع. هذا جيّد، [لأنّه] لم يكن يفهم ..
مثلًا، قبْل أن نقرأ ونتعرّف ونرى المطالب الموجودة في الكتب، والّتي بعضها للأولياء والعرفاء، فقبْل ذلك يتعيّن علينا تكليف آخر. ولكن بعد أن وصلتنا تلك المطالب وعرفناها ورأيناها بأعيننا وقبلتها عقولنا – إذ لو لم نقبلها فلا بأس – فإن قبلتها عقولنا ولم نُقدم عليها ولم نمتثل لها، فسيؤاخذنا الله يوم القيامة، وهذا أمر ليس سهلًا، بل هي مسألة جديّة؛ [فإنّ الله سيقول هنا:] أنا وفّقتك لهذا الأمر، وأنا وضعت هذا الكتاب في هذه المكتبة حتّى إذا ذهبت إلى هناك، تقع عينك على الكتاب فتأخذه وتقرأه، كلّ هذه الأمور كانت توفيقًا منّي لك، حتّى أربيك وأهذّبك، فلِمَ لم تعمل بذلك؟! ولماذا لم تقُم بهذا الواجب وبهذه الفرائض؟!
نعم، إنّ بعض الأفراد في الشوارع هم – بطبيعة الحال – منعزلين عن هذه المطالب، فلهم تكاليف خاصّة بهم، ولكن بالنسبة للّذي عرف ولم يعمل، فالله تعالى سيعاقبه، الله تعالى سيعاقبه؛ وليست المسألةُ فقط مسألةَ صلاةٍ وصيام وزكاة وغيرها، لا، [فإنّ] هذه التكاليف ممّا يقوم بها جميع الأفراد، ولكنّ المهمّ هو كيفيّة العيش والحياة وفِعال الإنسان (الّتي توصله) إلى تلك المطالب، هذا هو المهمّ؛ أمّا بالنسبة للصلاة، فكلّ الأفراد يصلّون، إنّ الشيعة يصلّون والسنّة يصلّون، فالمسألة ليست مسألةَ صلاةٍ وصومٍ فقط، [فليس] الأمر الوحيد هو أن يصلّي الفرد فيتمّ الأمر ومِن ثَمّ ليس عليه شيء! لا، بل العقاب والمؤاخذة يوم القيامة ليست على القيام بهذه الأمور، [إنّ العقاب والمؤاخذة تتعلّقان] بكيفيّة تصرّفك في حياتك، وبكيفيّة إبطالك لحياتك واستعداداتك، وبإبطالك للإمكانات الّتي أودعها الله تعالى فيك، وقد صرفت حياتك في اللهو والعبث واللغو. هذا هو المهمّ.
ولهذا؛ تفترق كلّيًا صلاةُ الشخص الّذي بلغ تلك المطالب، عن صلاة الأفراد الّذين يصلّون [فقط]. [وتفترق كلّيًا] كيفيّة أفكاره عن كيفيّة [أفكارهم].
لا أدري إن كنتم قد سمعتم محاضراتنا في أيّام شهر رمضان في شرح دعاء أبي حمزة! لا أدري إن تُرجمت أم لا! كنتُ قد شرحتُ – في هذه السنة – بعض المطالب حول كيفيّة صلاة العرفاء والأولياء، وحول كيفيّة صلاة سائر الأفراد، والتفاوت بينهم في مراتب الصفاء ومراتب النيّة في الصلوات؛ وذكرتُ للرفقاء – عدّة مرّات – أنّني عندما كنتُ طالبًا [محصّلًا] للعلوم الدينيّة في الحوزة العلميّة، كنتُ أحضر صلاة الجماعة لآية الله الشيخ محمّد علِيّ الآراكيّ رحمه الله تعالى – فقد كان شخصًا طيّبَ النفس – وذلك عندما عزمتُ على القدوم إلى العتبة المقدّسة لحضرة فاطمة المعصومة، إذ أوصاني [حينها] السيّد الوالد بحضور صلاة الجماعة للشيخ محمّد علِيّ الآراكيّ، فكنتُ دائمًا، في كلّ يوم، أحضر صلاتي المغرب والعشاء. وكان الشيخ الآراكيّ [حينها] يدرّس في المدرسة الفيضيّة درسَ الخارج، وكان الكثير مِنَ العلماء يحضرون مجلس درسه، ولكنّني في ذلك الزمان لم أشتغل بالحضور في درسه، لأنّني كنتُ أقرأ شرح اللمعة أو رسائل شرح اللمعة المطولّة. ففي إحدى الليالي كنتُ جالسًا للتشهد، وكان جالسًا يصلي إلى جانبي أحدُ أعاظم العلماء، الّذي وصل فيما بعد إلى مرتبة المرجعيّة - لن أسمّيه – وقد كنتُ في التشهد [منحني الظهر] قليلًا، فوضع يده على ظهري ليستقيم [ظهري] – ولم أكن أتعمّد [الإنحناء]، وإنّما كان [يحصل مني ذلك] صدفة [وتلقائيًّا] بحسب طبيعة الحال – ثمّ وضع يده مرّة أخرى على ظهري ليستقيم ظهري – إذ لا بدّ في التشهّد أن يكون الشخص جالسًا مستقيم الظهر – [وهكذا فعل] مرّةً ثالثة [ورابعة وخامسة]. ففي التشهّد الواحد وضع يده ورفعها عني خمس مرات! فهل هذه صلاة؟! يعني هل هذه هي الصلاة الّتي أوصانا بها الله تعالى؟! هل الواجب هو أن تصلّي [صلاتك] وأن تفهم ما تقرأ في الصلاة، أم أنّك موكّل علَيَّ في إقامة ظهري؟! فهل هذا هي الصلاة!!
لاحظوا كيف [هي المسألة]؛ فإنّ الإنسان الّذي يصلّي [صلاة]، ولا يعرف ولا يفهم ماذا يقول فيها، يَصل إلى هذه النتيجة وإلى تلك الصلاة، أما الصلاة الّتي يوصي بها العرفاء والأولياء الإلهيّين لا توصل الإنسان إلى هذه النتيجة. فذاك الشخص لا يفهم أصلًا ولا يعرف [ما هي حالة] الشخص الآخر [المُنحني]، أهو مُتعب أم لا، أهو مستقيم [الظَهر] أم لا! [فالّذي ينبغي أن يحصل هو] أن يصلّي كلّ فردّ [وهو مُلتفتٌ إلى] حاله، فليس لك علاقة بالآخرين، فهل تصلّي، أم أنّك مُوكل على هذا الشخص!! فهل وكّلك الله تعالى به!! لاحظوا، فإن النتيجة – في هذه الحالة – هي ما ذكرتُ.
فإنّ هذه الكيفيّة مِنَ التفكّر والاختيار والانتخاب للمطالب، توصل الأفراد إلى هذه النتيجة، وذاك التفكّر يوصل الأفراد إلى تلك النتيجة؛ لاحظوا كيف هي مراتب الكمال في الإنسان. ثمّ إنّ ذلك الشخص [عندما يبلغ] الثمانين مِن عمره يموت بلا معرفة ولا فَهم ولا عِلم، لقد كان مجرّد حافظةٍ تحفظ المسائل، [مثله] كمثل الأقراص [المدمجة] والمكتبات، [بل هو] نفسها بدون أيّ فرق ...
علّة ترك الأمّة لأمير المؤمنين عليه السلام وميلهم إلى الخلفاء الثلاثة
على هذا، فإنّ العقل المتّصل في الإنسان، هو العامل الأساسيّ في كيفيّة معرفته وفَهمه للمطالب المتنوّعة والمتكثّرة، والّتي تُسمع مِن آحاد الأفراد، والجامعة على حسب مراتبهم. ولا يجوز للإنسان الاقتداء بأحد بدون تفكّر وبدون إعمال هذه القوّة الإلهيّة في النفس. وإذا اتّبع أحدٌ شخصًا أو منهجًا أو إذاعةً أو جريدةً أو أيَّ شيء كان، بدون إعمال هذه القوّة، سيُعاقب يوم القيامة بلا شكٍّ ولا ريبٍ. وعدم القيام بهذا الواجب، هو الّذي أهلك جميع الأمّة بعد النبيّ، فذهبوا واتّبعوا الخلفاء الثلاثة، وتركوا الخليفة الحقيقيّ والإمام الأصليّ وصاحب الولاية الكليّة الإلهيّة أمير المؤمنين عليه السلام، تركوه وحده، ومالوا إلى ذاك الشيخ الّذي لا يعرف أنامله، ولا يعرف شيئًا مِنَ المعلومات العاديّة. لماذا؟ لأنّهم أهملوا هذه الحجّة الإلهيّة الموجودة في نفوسهم.
النظرة العرفانيّة لوجود المعصوم وغيبته
لماذا اتّبعتَ النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم تتّبع في هذه الحياة فلانًا أو فلانًا، لماذا؟ لأنّكَ رأيت منه آثار النبوّة وآثار الصدق، [ورأيت منه] المنطق والحقيقة، فلذا اتّبعته. [أقول:] لا إشكال [في ذلك، وهذا] جيّد. حسنًا، فهل يجب أن نستمرّ على هذا النهج إلى آخر زمن النبيّ [فقط]، أم يجب أن نستمرّ عليه إلى ما بعد زمن النبيّ وحياته؟ فإن كنتَ تتّبع النبيّ [بناء على هذا النهج] إلى آخر زمن حياته الظاهريّة [فقط]، ولا تتّبع هذا النهج والطريقة بعد زمان النبيّ، فهو أمر خاطئ، وهو نقطة الضلال. [فإذا اقتصر] اتّباع الإنسان لشخص ما دام هذا الشخص حيًّا، فلا نتيجة [تُرتجى]؛ فهل يموت كلُّ شيء، إذا مات هذا الشخص؟! فهل يموت الله إذا مات هذا الشخص؟! فهل يموت الله وتموت كلّ الحقائق والوقائع والواقعيّة بموت النبيّ؟! لا، بل الواقعيّة باقية على حالها، فالشمس موجودةٌ والصحراء موجودة والأشجار والدنيا موجودة، والله موجود والملائكة موجودة، جميعها باقيةٌ. نعم، غاية الأمر أنّ جسم وبدَن النبيّ الظاهريّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) توقّف عن العمل والتصرّف، ولا يكون شيءٌ مِنه بعد ذلك، أمّا جميع الأمور الأخرى فهي باقية دون أيّ [اختلاف] ولو بمثقال ذرّة؛ فاتّباع الحقّ واتّباع العقل، والحريّة والاختيار في التصرّفات الشخصيّة والاجتماعيّة واتّباع الواقع، كلّها أمور كانت موجودة [وبقيت كما كانت] مئة بالمئة، ولم تتغيّر بعد [وفات النبيّ]. نعم، غاية الأمر أنّ الجسم الظاهريّ للنبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ذهب ودُفن، ولا يكون شيءٌ منه بعدُ، [فكان] أمير المؤمنين عليه السلام هو الوجود الباقي وهو استمرار لحياة [النبيّ] بعد النبيّ. وعليه، كانت وصيّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم) بخلافة وولاية أمير المؤمنين عليه السلام يوم غدير خمّ، [وهذه الوصيّة] تعني: هذا علِيّ نفسي الباقية بعد وفاة جسمي لا بعد وفاتي، فأنا لا أموت، أنا لا أموت، إذ حياتي بحياة الله تعالى في أبد الدهر.
فهل نبيّنا ميّت الآن؟! وهل انتهت القضيّة؟! لا، بل هو حيّ الآن، إذ يقول [الله تعالى] بالنسبة للشهداء {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}۱، وعليه فكيف يكون النبي ميّتًا، وكيف يكون كلّ شيء قد انتهى؟! ... يقول النبيّ: أنا لا أموت أبدًا، إنّي حيٌّ بحياة الله ما دام الله موجودًا، ولكن جسمي نعم، قد جاء إلى الدنيا وبعد يوم يذهب ويُدفن، كما الحال لو غِبتُ عنكم. ألم يكن النبيّ يغيب عن الناس؟ كان يذهب إلى الغزوات ويخرج خارج المدينة، فكان يغيب إذًا، وكذلك الأمر الآن [حال موته]، فإنّ جسمه هو الّذي غُيّب تحت التراب. فليس هناك فرق أبدًا، ولكن نحن مَن يُغيّر المسألة ويبدّلها، نحن الّذين لا اطّلاع لنا ولا عِلم ولا معرفة لنا بحقيقة النبوّة وبحقيقة الولاية، فنحن مَن يدّعي أن النبيّ إذا مات، يموت كلّ شيء وينتهي! ولكن [المسألة] ليست [كذلك]..
كنتُ قد بيّنت للرفقاء هذا الأمر بلحاظ زمن الظهور، أي ظهور الإمام الحجّة عليه السلام؛ فنحن ننتظر زمن الظهور، ولكن إذا لم يُرد الإمام عليه السلام الظهور، ألا يكون كلّ شيء موجودًا؟! وإذا أراد الإمام عليه السلام أن يظهر وأن ترتفع غيبته بعد مئة سنة [مِنَ الآن]، فهل ينتفي ويموت كلّ شيء خلال هذه السنوات المئة، فلا يكون هناك طُريقٌ ولا سُبُل ولا مسير إلى الهداية والرشاد؟! لا، [لا ينتفي شيء]. هل كان الأئمّة عليهم السلام في زمان حياتهم مرتبطين دائمًا بالأصحاب، أو [أنّ ذلك كان] في بعض الأحيان؟ [إذا كان] الأئمّة عليهم السلام في المدينة، والأصحاب منتشرون في خرسان والريّ وقُم وغيرها مِنَ البلدان، أفلا يكون لهم – في هذه الحال – إمام في ذلك الزمان؟! بل لهم [إمام]، فالإمام موجود وحيّ ويمشي في الشوارع، إلّا أنّه غائب عنهم. وبالرغم مِن غيابه عنهم، إلّا أنّه مسيطر عليهم بالولاية الإلهيّة، بحيث يكون أعرف بأحوالهم مِن أنفسهم، يعني أنّ الإمام عليه السلام، أي الإمام الحجّة، هو أعرف بأحوالنا – نحن الجالسون في هذا المجلس – مِن أنفسنا، فالإمام عليه السلام أعرف بأحوالي وأقوالي وكلامي وتكلمي مِنّي، فهو يعرف [ما أريد قوله] قبل أن أتكلّم، أيكون [والحال هذه] غائبًا عنّا؟! ما هذه الأفكار!!
كان الأئمّة عليهم السلام يُسجنون في السجون؛ فقد سُجن الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في السجون ثماني سنوات، أيكون [والحال هذه] غائبًا عنهم، فلا يكون للأمّة إمام!! فقد حبس هارونُ عليه اللعنة الإمامَ عليه السلام، فإن كان الإمام يغيب وتنتفي الإمامة بحبسه وبدخوله السجن، فليس بإمامٍ حينئذٍ، بل سيكون كأحدنا وكسائر الأفراد! ما الفرق بين الإمام وبين سائر الأفراد؟ إذا كان الإمام لا يستطيع أن يعلم شيئًا عن أحوال شخص، لأنّه في المدينة مثلًا وهذا الشخص في خرسان، [الّتي تبعد] أربعمئة فرسخًا، ولا يستطيع الإمام أن يراه [إلّا إذا كان] بجنبه، فهذا ليس بإمامٍ بل هو كسائر الأفراد!
وهذه المسألة بعينها تنطبق على الإمام الحجّة؛ ... فلو أخبرتكم أنّ الإمام الحجّة الآن موجود في منزل مِن منازل [مدينة] صور، دون أن أعطيكم عنوانه، بل [اكتفيتُ بإخباركم] أنّه في منزل مِن منازل صور، فكيف ستتعامل أذهانكم مع هذه المسألة، فهل [سنعتبر أنّ] الإمام غائب عنًا [في هذه الحالة]؟ لا. ولو قال الإمام مثلًا: أنا في [مدينة] صور وأنتم في [بلدة] العباسيّة في هذه الرابية، وأنا مسيطر عليكم، ولكنّني وشأني، أخفي نفسي عنكم ولا أريد أن ترونني. فهذا أمر جيّد [بنظرنا] ونحن نقبل به، فنحن نقبل [أن يكون] الإمام عليه السلام إلى جنبنا وأن نكون في عيون الإمام عليه السلام، وتحت نظره وسيطرته وولايته. والحال أنّ هذا أمر متحقّق، سواء كان الإمام عليه السلام في لبنان أو في إيران أو في أفريقيا أو في أمريكا أو في سائر البلاد، بل حتّى لو كان على القمر أو الشمس أو في أيّ [مكان]، فليست المسألة مسألةً ماديّةً، وليس الأمر في البعد الجسمانيّ. هذه هي الولاية، هل عرفتم كيف هي المسألة؟
فلهذا، وضع الله تعالى، قبل إرسال الرسل وإنزال الكُتب، هذه الحجّة [المتّصلة، أي العقل] في نفوسنا. وبهذه الحجّة نعرف النبيّ ونعرف الإمام ونعرف ما هو الطريق الأحسن .. لا تكليف على مجنون، فالله تعالى لن يؤاخذه ولن يعاقبه، أمّا الإنسان العاقل فسيؤاخذه الله، لأنّه قد جعل فيه هذه الحجّة بمراتب مختلفة؛ نعم، ففي الكثير مِن الروايات أنّ «حسنات الأبرار سيّئات المقرّبين»۱، فهذا بلحاظ المراتب، إذ إنّ مرتبة فَهم وإدراك وشعور واطّلاع الإنسان في الأمور الظاهريّة والباطنيّة، دخيلة في [تحديد] كيفيّة تصرّفاته وتوظيفه لهذه الحجّة. هذه الحجّة الأولى.
الطريقة الثانية للتربية في النظام التشريعيّ؛ الحجّة المنفصلة (أي العقل المنفصل المتمثّل بالأنبياء والكتب السماويّة والأوصياء والنوّاب)
[الحجّة] الثانية هي إرسال الكتب .. فهذه الحجّة هي عبارة عن العقل المنفصل، والعقل المنفصل؛ إمّا أنّه النبيّ (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، أو الإمام المعصوم (عليه السلام)، أو نائب الإمام (عليه السلام). هذا هو العقل المنفصل، لا أيّ فرد، ولا أيّ شخص، لا كلّ مدّع، لا كلّ مدّع لا يعرف الهرّ مِنَ البرّ، والحال أنّه يدّعي كلّ شيء، ويدّعي وصوله إلى المطالب، ليس هذا هو الحجّة المنفصلة، بل الحجّة المنفصلة هو الّذي يأخذ بأيدينا ويوصلنا إلى نفس المرحلة الّتي هو فيها، فهو [الّذي] يقول لنا: تعالوا، أنا أوصلكم إلى عين تلك المطالب وإلى تلك المرتبة. هذا هو الحجّة المنفصلة.
فالمسألة الأساسيّة فيما كنتُ أشرحه لكم في هذا المجال، هي أنّه يجب على الإنسان بشكل عامّ وعلى السالك بشكل خاصّ ومحدّد، أن يتّبع المطالب والأصول والمباني السلوكيّة والمباني الإلهيّة بالطريقة الّتي كان ينتهجها. فيجب على الإنسان أن لا يترك هذا أبدًا، فلا يقول: نحن قد اجتزنا هذه المسألة ولا نحتاج إلى مراعاة ذلك النهج! فهذا أوّل الخطأ وأوّل نقطة في الهلاك. وقد بيّنتُ لكم نقطة الهلاك الّتي وقعت الأمّة فيها، وهي أنّهم نسوا [المنهج] الّذي اعتمدوه في اتّباعهم [للأمور] قبل وفاة النبيّ وقبل زمان النبيّ.
فهم لمّا رؤوا أنّ هذا نبيّ [مُرسل] مِنَ الله تعالى، وأنّ معاجزه وأقواله وتصرّفاته، وأنّ القرآن والآيات، جميعها تُنبؤ عن ذلك، يعني أنّها تدلّ على أنّ النبيّ ليس رجلًا عاديًّا، وإنّما هو رجل إلهيّ، وأنّ تصرّفاته تصرّفات رجل إلهيّ، وأنّ قوله صدق وكلامه صدق وكلامه حقّ، ولا (يُردّ) ولا يُبدّل. فبعد أن فهموا هذا الأمر مِنَ النبيّ، اتّبعوا النبيّ وسلكوا منهجه. ولكن إلى متى؟ كان ذلك [فقط] في مدّة حياة [النبيّ]، ثمّ بعد حياته نسوا ذلك السلوك والنهج، يعني أنّهم تركوا الحجّة المتّصلة والعقل المتّصل بالباطن والنفس، فنسوا، وعندما نسوا ذهبوا إلى جانب عمر وأبي بكر، ذهبوا في ذلك الاتّجاه.
حجّةٌ دامغة وسؤالٌ مُفحِم لإخواننا مِن أهل السنّة
أنا أسأل إخواننا السنّة: لو جاء شخص إلى النبيّ وسأله مسألةً، فعجز النبيّ عن الجواب، بماذا ستفكّرون حينئذٍ؟ ستقولون: هل هذا نبيّ أم لا! بل هو ليس بنبيّ لأنّه عاجز؛ أي عجز عن [الإجابة على] السؤال. فلماذا لا تقولون بذلك عندما جاء اليهوديّ إلى مسجد المدينة، بعد زمان النبيّ، وسأل أبا بكر، فعجز، لماذا؟! لماذا لا تعتقدون بذلك؟! لماذا نسيتم هذه الطريقة؟! فإنّ هذه الطريقة طريقةٌ عقلائيّة، فلماذا نسيتموها؟! لماذا عندما رأيتم دخول أمير المؤمنين عليه السلام إلى المسجد وإجابته على سؤال اليهوديّ، الّذي أسلم بعدها وشهد بالتوحيد وبالرسالة والإمامة وبخلافة أمير المؤمنين عليه السلام،۱ [لماذا عندما رأيتم ذلك] لم تُقرّوا بشيء؟! أأنتم حمير أم أُناس؟! إنّ الحمار هو مَن يفعل ذلك! لماذا لم تفعلوا ذلك في زمن النبيّ، لماذا؟!
لو كانت هذه الحادثة قد وقعت مع النبيّ [فكان عاجزًا عن الجواب]، كيف كنتم ستتصرّفون؟ كنتم ستقولون [له]: أأنت نبيّ مع هذه الحالة [الّتي أنت فيها]! لا [لست بنبيّ]! ما هذا! أتدّعي أنّك مسددّ مِنَ الله تعالى وأنّ الملائكة وجبرائيل يوحون إليك، ثمّ تعجز عن هذا السؤال وتعجز عن الإجابة! [فإذن] لست بنبيّ! [أقول:] هذا جيّد، هذا منطقٌ، منطقٌ عقلائيّ، فيجب أن يرفضوا [مدّعي] النبوّة هذا وينكروا [عليه]، ثمّ يذهبوا ويتركوه. لماذا نسيتم هذه الطريقة بعد وفاة النبيّ، لماذا؟! إنّ الطريقة [الّذي اعتمدتموها بعد وفاة النبيّ] ليست منهجًا إنسانيًّا، بل هي ما نسمّيه نحن بالطريقة الحماريّة، الطريقة الحماريّة. فإنّ الإنسان لا يستطيع أن يمشي [بناء على هذا المنهج].
إذا رجعتَ إلى دكتور لمعالجة معدتك ولمعالجة ألمك، وعجز الدكتور عن المعالجة، فهل تذهب إليه ثانيةً؟ لا، بل ستذهب إلى دكتور آخر، أمّا لو رجعتَ إليه مرةً ثانية ستكون مجنونًا لا إنسانًا، بل حمارًا لا إنسانًا.
لذا وقع هذا الأمر بعد النبيّ .. لماذا؟ لأنّهم نسوا هذه الطريقة [العقلائيّة] وأهملوها؛ هذه الآية الموجودة في القرآن {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} هي [عبارة عن] منهج الحريّة، فإذا نسينا هذا المنهج نضلّ ونصبح كسائر الأفراد الّذين كانوا في زمن النبيّ، فبعضهم ذهب إلى هذا الطرف، والبعض إلى هذا الشخص، والبعض إلى ذاك، وكلّ يدّعي وصلًا بليلى، كلّ يدّعي وصلًا بليلى٢. [فأمامنا] إمّا هذه الطريقة وإما تلك الطريقة.
الحريّة والعقلانيّة نهجٌ إلهيّ وسلوكيّ
يجب على السالك، الّذي يسلك مسلكًا إلهيًّا، أن يراعي هذه النقطة بشدّة، في جميع تصرّفاته وفي كلّ لحظة مِن لحظات [حياته]؛ فإذا سمع شيئًا مِنَ الإذاعة، فلا يقرّ به بسرعة، بل يسكت ويقف ويتأمّل ويفحص ويحقّق في الموضوع. وإذا رأى شيئًا في الجريدة، لا يقول لأصدقائه: أنا رأيتُ في الجريدة كذا. لأنّ المؤلّف قد يكون كاذبًا، فقد يكون في هذه الجريدة خدعةٌ وحيلة. وإذا سمعنا مطلبًا مِن شخص، يجب أن لا نقرّ بذلك سريعًا، بل يجب أن نفكّر بعقولنا، أي بهذا العقل الّذي هو الحجّة الإلهيّة .. هذه هي الحجّة الإلهيّة.
وكما قلتُ [لكم]، فإنّ الله تعالى سيؤاخذنا بمقدار ما مِن هذه الحجّة في نفوسنا، لا أَزْيَد. فسيؤاخذنا الله بهذا المقدار .. هذه مسألة جديّة، فإن الله سيؤاخذنا بهذا المقدار. والسلوك الإلهيّ والعرفان بتمامهما موجودان في هذه المسألة، يعني أن كلّ مسائل العرفان ترتكز على هذه النقطة. فجيب على السالك دائمًا أن يكون متنبّهًا ومستحضرًا لهذه النقطة الأساسيّة، فيجب عليه أن يفكّر صبحًا وظهرًا وعصرًا وليلًا، أن يفكّر في كلماته وأقواله وتصرّفاته وفي تصرّفات سائر الأفراد وفي جميع الجوانب .. جميع هذه المسائل واجبة لهذا [السبب].
العرفانُ كلُّه عقلٌ والعقلُ كلُّه عرفانٌ
وعليه، فما كنّا نراه [مِن بعض الأشخاص] في زمن السيّد الوالد (رحمه الله)، وخصوصًا بعد وفاته، هو أنّهم نسوا هذا المطلب، فكنّا نرى ذلك [منهم] حتّى في زمن السيّد الوالد، مع أنّي لم أعرف شخصًا مِنَ الرجال الإلهيّين والأولياء الإلهيّين كان يؤكّد على هذا المطلب، كمّا أكّد عليه السيّد الوالد، في أقواله ومحاضراته وتأليفاته وكتبه، فما كنّا نسمعه [منه] دومًا في زمن حياته هو التركيز على هذه النقطة. وكنتُ أسمعه بنفسه يقول: أنا لا أعرف أعقل مِن أستاذي السيّد هاشم الحدّاد في زمن حياته. [لاحظوا قوله:] أعقل. فقد كان السيّد هاشم الحدّاد أستاذه، وهو مِنَ العرفاء. [والحال] أنّنا نتساءل: ما العلاقة بين العرفان والعقل! بل إنّ العرفان كلّه عقل، والعقل كلّه عرفان، وكلّ واحد [منهما] يؤثّر [على الآخر]، فالعرفان يؤثّر على عقل الشخص، والعقل يؤثّر على عرفان الشخص، وكلّ منهما يربّي الآخر ويكمّله.
قصّة مُعبّرة حصلت بين المحاضِر وأخيه ووالدهما السيّد العلّامة الطهرانيّ
كان السيّد الوالد يؤكّد على مسألة الحريّة ومسألة العقل، الحريّة والعقل. وأنا قلتُ للرفقاء في إيران – ولا أدري إن قلتُ ذلك [لغيرهم] – عدّة مرّات أنّ [السيّد الوالد] كان يؤكّد في زمن حياته على مسألة الاختيار والحريّة. مثلًا، كان السيّد الوالد يعتقد أنّه يجوز للحاجّ المعتمر أن يُحرِم مِن محاذاة الميقات، لا فقط مِنَ المواقيت الستّة ... حسنًا، ولكن فتوى الكثير مِنَ العلماء كانت خلاف ذلك، إذ يقولون أنّه يجب على المرء أن يمرّ مِن [إحدى] المواقيت الستّة. وفي خاطري أنّ المرجع الدينيّ السيّد الگلبيگانيّ (رحمه الله) – الّذي كان شخصًا جيّدًا وطيّب النفس – جاء في إحدى الأيّام إلى زيارة الإمام الرضا عليه السلام في مشهد، فذهبتُ مع السيّد الوالد لزيارة السيّد الگلبيگانيّ في بيته، فسأل السيّد الوالد السيّد الگلبيگانيّ عن رأيه في تلك المسألة، فرفض قائلًا: لا، إنّ الله تعالى أوجب للمعتمرين وللحجّاج الإحرام مِن هذه المواقيت، فهو الّذي وقَّت وجعل هذه المواقيت، فلذا يجب على الإنسان أن يمرّ على [إحدى] هذه المواقيت، ولا مفرّ مِن ذلك. فتكلّم وتباحث معه السيّد الوالد [حول ذلك]، وفي النهاية سكت السيّد الوالد ولم يتكلّم بشيء ولم يديم الكلام في المسألة. وبعد أسبوع، قال السيّد الوالد لي ولأخينا الأكبر، حين كنّا بجانبه: كتبتُ مقالة في مسألة الإحرام مِن محاذاة الميقات، وهي موجودة على الطاولة في المكتبة، فانظروا فيها [واقرؤوها]، ثمّ يجب أن أعرف رأيكم فيها. فذهب بها أخونا الأكبر (حفظه الله)، ونظر في هذه المقالة وقرأها، ثمّ سلّمني إيّاها، فقرأتُها. وبعد ثلاثة أيّام، طلب السيّد الوالد منّا رأينا في هذه [المقالة]؛ فقال أخونا: نعم، هي صحيحة وجيّدة، والمطلب فيها تامّ وليس فيها أيّ [خطأ أو إشكال]، فيجوز للإنسان أن يُحرِم مِن محاذاة الميقات، ولا [يجب أن يكون ذلك] مِن نفس الميقات، فهذا مطلب صحيح. ثمّ التفت السيّد الوالد نحوي وقال ممازحًا: ما هو رأي آية الله السيّد محسن، ما رأيكم؟ فضحكتُ، ثمّ قلتُ: سيّد الوالد، أنا لم أطّلع [بعد] على الآراء المضادّة لهذه المقالة، فلا يمكنني أن أُقرّ بشيء [الآن]، فأنا لم أقرأ أدلّة المخالفين. كان السيّد الوالد حينها مستلقيًا، فجلس، وثلاث مرّات أشار بيده وقال: هذا صحيح، هذا صحيح، هذا صحيح.
لاحظوا، هذه هي طريقة الأولياء وطريقة العرفاء. فقد قلتُ له: أنا لم أرى [بعدُ أدلّة المخالفين]. نعم، عندما أنظر في أدلّة المخالفين، أستطيع حينئذٍ أن أقول [وأحكم]، إن كان الحقّ معك أو مع المخالفين .. كنتُ صريحًا مع السيّد الوالد، نعم أنا كنتُ صريحًا معه. وهو [نفسه] كان يربّينا على ذلك، وأنا [الآن] أقرّ [بصحّة] هذه الطريقة وبتصرّفاته. فهو ربّانا هكذا، وهو الّذي ربّانا على هذه الطريقة وشجّعنا على السير في هذا المنهج.
فلم يقل لي السيّدُ الوالد [حينها]: أتقف أمامي وتتكلّم بهذا [الكلام]! ماذا تكون أنت، فأنت [مجرّد] طالب علم وطفل! لا، لم يقل [لي]: أنت طفل وولد في سن الثلاثين مثلًا، وأنا في سن السبعين، وأنا أبوك ووالدك! لا. فالطريقة الحقّة والطريق الإلهيّ، هو الطريق الّذي يكون [كما تصرّف السيّد الوالد].
لاحظوا، هو لم يقل: أنا والدك، وأنا عالِم، وأنا مجتهد، وأنا أعلم وأعرف منك، وأنا أستاذك – ففوق كلّ هذا قد كان أستاذنا وإن لم نكن تلامذته إلّا أنّه كان أستاذنا على كلّ حال – نعم، هو لم يقل ذلك. فلو قال: أنا أعلم منك. لكان خطأً، ولو قال: أنا أستاذك، ويجب أن تسمع دون أن تقول شيئًا. [لقلنا:] فلماذا طلبت منّا أن نقرأ تلك المقالة؟! فلو كنّا مجبورين على الطاعة في كلّ شيء، فلماذا نقرأ؟! [فليَقُل لنا] مِن أوّل الأمر: هذا حقّ، وذاك حقّ، والسلام. وبهذا يتمّ وينتهي كلّ شيء. ولماذا ألّف هذه الكتب، لماذا؟! [فلو كان الأمر كذلك] لقال: إنّ الأمر في هذه المسألة كذا، والقول في هذه المسألة كذا وينتهي الأمر. [فتكون المسألة حينئذ] كالأخبار والحكايات، وكحال الفتاوى الّتي تُكتب في الرسائل العمليّة. ففي الرسائل العمليّة لا يذكرون الحجج والأدلّة مِنَ القرآن [والروايات]، بل يكتفون بالقول: إنّ [حكم] هذه المسألة هو الوجوب [مثلًا]، وأنّ التطهير بالماء القليل يجب أن يكون مرتين مثلًا. دون أن يذكروا الأدلّة والحجج، لماذا؟ لأنّ المُقلِّد لا يلتفت إلى هذا الأمر، ولا يعرف بالأدلّة والحجج. [فلو كان الأمر، فيما نحن فيه، مِن هذا القبيل] لقال السيّد الوالد [حينها]: إنّ اعتقادي في هذه المسألة هو كذا، واعتقادي في تلك المسألة هو كذا، [دون] أن يكتب جميع هذه الكتب! فهو قد ألّف سبعين كتابًا في المسائل الاعتقاديّة المهمّة، الّتي طُبعت بعضها ولم يُطبع بعضها الآخر حتّى الآن. لا [لم يقل ذلك]، بل قال: أنظروا وفكّروا، ويجب أن تطالعوا بجِدٍّ، ويجب أن تطالعوا الأدلّة والحجج المخالفة؛ {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. وهذه الطريقة لا نجدها إلّا في العرفان وعند الأولياء الإلهيّين، هذه هي طريقتهم.
التقليد الأعمى والتبكيت والإسكات بلا حجّة ليس نهجنا
لذا، عندما نقول أحيانًا لشخص: إنّ فلانًا يقول كذا، وهو خطأ. فيجيبنا قائلًا: كيف تتكلّم هكذا، أأنت أعلم أم هو؟! فبمجرّد أن يقول لك: أتعلم أنت، أأنت أعلم، يجب أن لا تتكلّم! [يكون قد أخطأ]، وتكون هذه بداية الخطأ وأساسه. وبمجرّد أن يقول لك: إنّ فلانًا هو رئيس البلد الكذائي، فكيف تقول ما [يعارض] كلامه. فبمجرّد أن تسمعوا ذلك، يجب أن [تقولوا]: في أمان الله، حفظك الله، أدامكم الله، وفّقك الله، في أمان الله. وبهذا ينتهي الأمر ويُختم.
نحن لم نسمع – ولو لمرّة واحدة – لا مِنَ النبيّ ولا مِنَ الأئمّة عليهم السلام، أنّهم خاطبوا المخالفين بهذه [الطريقة] وبهذه المقالة وبهذا التعبير، [كأن يقولوا لهم:] أنت لا تفهم، أنت لا تعرف، نحن أعلم منكم، يجب أن تسكتوا، ويجب أن لا تتفوّهوا بشيء! لا، بل كانوا دائمًا يقولون: تعالوا لنبحث ونتباحث ونتكلّم، تعالوا. [هكذا كانوا] مع جميع الأفراد؛ أنظروا إلى الإمام الصادق، ولاحظوا محاضراته ومناظراته، وكذلك مناظرات الإمام الباقر والإمام الرضا عليه السلام، وكذلك الإمام الجواد والإمام الهادي وأمير المؤمنين عليه السلام، وجميع الأئمّة، وكذلك الأولياء الإلهيّين والعرفاء. كان تلك هي طريقتهم.
هذه هي النقطة الأساسيّة، يعني أنّ النقطة الأساسيّة في السلوك والتربيّة الإلهيّة، هي أن يتذكّر الإنسان في كلّ لحظة الحالة الّتي كان عليها قبل أن يتّصل بهذا المسلك، [أي أن يتذكّر] النهج الّذي كان يعتمد عليه؛ مثلًا، عندما قرأنا كتابًا، أو عندما سمعنا شيئًا مِن أحدهم، فكّرنا [في هذا المقروء أو المسموع] وقلنا: إن هذا أحسن مِن ذاك، فيجب علينا أن نتّبع [الأحسن].
فلماذا بعد مدّة ننسى هذه الطريقة، وهذه المسألة، وهذه النقطة، ولا نعتمدها؟! لماذا بعد مرور ثلاث سنوات أو عشر سنوات أو عشرون سنة، ننسى [هذه الطريقة]، ومِن ثَمّ نميل إلى هذا الجانب وذاك، ونعتمد تلك المسائل المختلفة، لماذا؟! لماذا ننسى؟! ما هي المشكلة [في المقام]؟!
حسنًا، يجب على الإنسان أن يتّبع هذه الطريقة في كلِّ شيء وفي جميع الظروف. هذه هي النقطة الأساسيّة في تربية الإنسان. ولو كان السالك طائعًا في المسائل العاديّة والعباديّة والأوراد والأذكار، ولا يتّبع ذلك المنهج، فلو مرّت عليه ألف سنة، لن يرقى مترًا [واحدًا] أبدًا، فهو لن يرقى مترًا ولا مترين، [غاية الأمر أنّه] تطرأ عليه بعض الحالات وبعض المسائل ويتوقّف. أمّا إن كان جوّالًا بهذه الطريقة، وإن سلك بناء على هذه الطريقة، فيجب [حينئذ] أن يشعر بالحريّة والسلوك العقلائيّ في مرامه، وبهذا يكون دومًا – بطبيعة الحال – في حالة مِنَ التكامل حتّى يصل إلى مرتبة الكمال.
وعليه، فإنّ المطالب الّتي نراها في الرسائل [الّتي تُرسل إلينا] ونسمعها مِن بعض الإخوان، كقولهم مثلًا: كيف نعلم إن كنّا نرقى في مراتب التربية [السلوكيّة] أم متوقّفون؟ لماذا نشعر بالملل والكسل في نفوسنا؟ لماذا لم نعُد نشعر بالنشاط الّذي كان موجودًا في أوّل الأمر؟ إنّ كلّ هذه المواضيع تبتني على تلك النقطة وذاك الحجر والأساس؛ فإن كان الإنسان يتّبع سيرة الأولياء واقعًا، وكان [ذلك] عن فِكر وعقل واطّلاع، وإن كان يطبّق البرنامج السلوكيّ الّذي اقترحه الأولياء على تلامذتهم، وإن كان مراقبًا بجدٍّ، فسيكون حينئذٍ في نشاطٍ سلوكيّ دائم لا ملل فيه، وسيكون هذا السالك – على الدوام – نشيطًا في برنامجه وتصرّفاته وأفعاله. وأمّا إذا تركنا هذا الأمر، ولم نعُد نفكّر به، وصرنا نقول: الأمور جيّدة، ونحن قد عبرنا تلك النقطة، ولا [حاجة] لأن نلتفت إليها. حينئذ، رويدًا رويدًا، وقليلًا قليلًا، يدخل الإنسان مِن حيث لا يشعر في بعض المجالات [غير السليمة]، وبدون أن يعرف أو أن يفهم [كيف] تزول عنه تلك الحالة، أعني حالة التعبّد والاستقامة والرسوخ والجديّة، فقليلًا قليلًا تُحذف عنه، وبعد مدّة يجد في نفسه كسلًا، ويفتقد لذلك النشاط، فلا يشعر في نفسه بنشاط للاستمرار بهذا الطريق.
هذه إحدى المطالب الّتي أردتُ أن أبيّنها وأوضّحها للإخوة. وتوجد بعض المطالب [الأخرى، سنوضّحها] في المحاضرة الثانية إن شاء الله، وهي مطالب جزئيّة، وإن كانت يجب أن تكون مطالبًا أساسيّة.
إذا كان عند الإخوة أسئلة [الآن، فليتفضّلوا بها] .. لا أدري كم الساعة الآن، وكم بقي مِنَ الوقت للغروب!
الحضور: الغروب بعد عشرة دقائق .. الغروب بعد خمسة عشرة دقيقة.
سماحة السيّد: نستطيع الاستمرار في [الجلسة] خمسة دقائق مثلًا. وإن شاء الله في المحاضرة الثانية، نكون في خدمة الرفقاء بالنسبة إلى الأسئلة، إن شاء الله.
حكم ماء الشعير
سؤال: هل يوجد إشكال في شرب ماء الشعير الخالي مِنَ الكحول والمصنوع في الدول العربيّة؟ وكذا المُصنّع في إيران؟
جواب سماحة السيّد: لا يوجد إشكال، إذا كان خاليًا مِنَ الكحول فلا إشكال.
سؤال: ما هو أهم عامل مساعد في حضور القلب في الصلاة؟
جواب سماحة السيّد: إن شاء الله نتكلّم حول هذه المسألة فيما بعد.
الجمع بين زيارة المشاهد المشرّفة وزيارة قبور الأولياء
سؤال: هل يُفضّل ترك زيارة قبور الأولياء، مثل السيّد علِيّ القاضي (قدّس الله سرّه)، عند ذهابنا إلى زيارة الأمير في النجف الأشرف؟
جواب سماحة السيّد: لا، لا يوجد مانع، فليزر الإنسان الإمامَ علِيّ عليه السلام، وليزر السيّد القاضي، فالسيّد القاضي تلميذ الإمام أمير المؤمنين، فلماذا يترك الإنسان زيارته. فلزيارة الأولياء حظّ خاصّ، ولهم مرتبة خاصّة. وقد سمعتُ مِنَ أساتذتنا الأولياء أنّه يجب على السالك أن يزور قبور الأولياء، لأنّهم متّصلون بالله تعالى بواسطة الإمام عليه السلام. كما أنّ السيّد القاضي كان يفعل ذلك [أيضًا]، فالسيّد القاضي كان في النجف الأشرف، وكان كلّ يوم أو يومين يزور المقابر ويستفيد منها. وقد سجّل السيّد الوالد بعض هذه الحكايات حول هذه المسألة في كتبه.
سؤال: مولانا الكريم، نحن نغبط القريبون منكم، والّذين يتربّون على [أياديكم]، فماذا نفعل نحن البعيدون عنكم وكيف نحصّل التربية؟
جواب سماحة السيّد: على كل حال نحن مِنَ الرفقاء ... [أمّا بما يخصّ السؤال] فعندي – إن شاء الله – أخبارٌ مبشّرة، وإن شاء الله نخبركم ببعض الأمور فيما بعد، إن شاء الله.
سماحة السيّد: حسنًا، هذه الأسئلة كثيرة، فإذا تسمحون لنا أن نؤخّر الإجابة عنها إلى الجلسة والمحاضرة الثانية يكون أحسن، وبالتالي لا نضيّع أوقات الإخوة بهذه المسائل. وكان بودّي أن أجيب عن هذه الأسئلة في هذه الجلسة، ولكنّي رأيتُ [الأَولى] أن أوضّح تلك المسألة، مِن حيث أنّنا رأينا بأعيننا وقوع رفقاء السيّد الوالد بعد وفاته في مهلكة [انطلاقًا] مِن هذه النقطة، ولذا كنتُ دائمًا أصرّ وأؤكّد على رفقائنا [بضرورة] رعاية هذا الأمر في جميع الأوقات، حتّى نُغلق ونَسُدّ منافذ دخول الشيطان إلى نفوسنا، فلا نسمح للأبالسة والشياطين أن يدخلوا مِن هذه المنافذ، وذلك بسدّها. ولذا رجّحتُ أن أبيّن هذه المسألة. وإن شاء الله نجيب عن المسائل الّتي طرحها الإخوة في المحاضرة الثانية، إن شاء الله.۱
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته