المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
المجموعةسنة 1433
التوضيح
هذه هي المحاضرة الأولى من محاضرات شرح دعاء أبي حمزة الثمالي التي ألقاها سماحة آية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني في الليلة الثالثة من شهر رمضان المبارك سنة 1433هـ، وتناول فيها شرح فقرة (عظم يا سيدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي ) مبيناً معنى الأمل ومدى تناسبه مع العمل، وأن الذي ينسجم مع عظم الأمل هو عفو الله لا عدله، ثم أشار إلى ضرورة رفع مستوى الأمل لدينا، وبيّن أن منزلة الإمام عليه السلام قد تراجعت بين الشيعة، ثم تعرض إلى حقيقة أن من يعرف الله حقاً يعبده حباً لا خوفاً، وأن الأمل العظيم الذي يطلبه الإمام عليه السلام أعلى من دخول الجنة، معتبراً أن الولاية هي الشرط الأساسي للتوحيد.
هو العليم
ما هو الأمل العظيم؟
شرح دعاء أبي حمزة الثمالي - سنة ۱٤٣٣ هـ ق – المحاضرة الأولى
ألقاها:
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله على سيّدنا ونبيّنا أبي القاسم محمد
اللهمّ صلّ على محمد وآل محمد
وعلى آله الطاهرين
واللعنة على أعدائهم أجمعين
الظاهر أنّنا وصلنا إلى هذه الفقرة بحسب ما أذكره، حيث انتهى الكلام في السنة الماضية إلى شرح هذه الفقرة «فحقّق رجائي واسمع دعائي يا خير من دعاه داع وأفضل من رجاه راج». إذاً نشرع في الفقرة التالية:
«عظم يا سيدي أملي وساء عملي، فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي»
معنى الأمل وضرورة تناسبه مع العمل
إنّ هذه العبارة عجيبة جداً، هكذا ينبغي للعبد أن يخاطب مولاه.. بهذا النوع من الفكر وبهذه النيّة، أن يكون لديه حسن ظنٍّ به، وأن يكون لديه هذا الاعتقاد بربّه. الإمام عليه السلام يفيد بأنّ أملي كبير جداً وانتظاري وتوقعي منك يا ربّ عظيم.. التوقّع والإرادة المنتظرة منك.. فكأن العبد عندما ينفق جميع قدراته وطاقته في توقّع شيء، يسمّى ذلك التوقع "أملاً"، والأمل يختلف عن التوقّع والمراد والنيّة الظاهريّة.. وإن شاء الله نتحدّث عن هذا الأمر لاحقاً.
«عظم يا سيّدي أملي».. ما هو هذا الأمل الذي يتحدّث عنه الإمام؟ ما هو الأمل الذي يمكن للإنسان أن يؤمّله من الله تعالى، حتى يقول إنّ أملي كبير جداً؟ لكنّه في المقابل يقول: «ساء عملي»؛ فعملي وتصرّفي وطريقتي في التعامل وسائر أعمالي لا تنسجم مع هذا الأمل الكبير الذي لديّ. لذا فالإمام عليه السلام يقول بأن المسألة هي أنّ لديّ غاية ومراداً لا يمكنني أن أتنازل عنه، ما هي هذه الغاية والمراد التي يتحدّث عنها الإمام؟ ومن الطبيعي أن الإنسان يأتي ويبذل وقته ويصرف عمره وينفق ماله وشخصيّته في سبيل الوصول إلى هذا المقصد، فهذا الأمر ليس بالشيء البسيط الذي يمكن للإنسان أن يتعامل معه كما يتعامل مع شراء البطّيخ والفاكهة، حيث يقول إذا لم أشتر الآن يمكنني أن أشتري بعد ساعة أو في الغد. بل يقول إني أصرف عمري في سبيل الوصول إلى هذا الأمل وهذه الغاية. لكن في المقابل أرى بأن العمل الذي أقوم به في سبيل الوصول إلى هذا الأمل وهذه الغاية لا يوصلني إليه، إذ لا تناسب بين العمل الذي أعمله وبين ذاك الهدف.. الإمام لا يمزح هنا، بل هو يتكلّم بلسان حالنا نحن، وهذه الفقرة عجيبة جداً. وإن شاء الله إذا وفّقنا الله في الليالي الآتية ووصلنا إلى شيء من عمق هذه الفقرة فسوف يقف الإخوة على ضرورة الالتفات إلى هذا الأمر.
حسناً، هذه هي واقعيّة المسألة.. لدينا أمل كبير في صدورنا، وهذا الأمل كبير جداً وعظيم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى "ساء عملي"، ليس لديّ عمل حسن، فالعمل الذي عملته ليس جيّداً، وليس عملاً يمكنه أن يحقّق لي هذا الأمل، إذ لو كان هذا العمل يكفي لتحقيق هذا الأمل لما قال الإمام عليه السلام: «وساء عملي»، بل قال حسن عملي، ومن خلال هذا العمل الحسن سوف يوصلني في النهاية إلى ذلك الأمل والهدف، وهذا ليس قبيحاً.. إذ إننا نصلّي.. ونصوم ونحجّ ونخمّس ونزكّي.. ولا نكذب ـ نقول إن شاء الله ـ لا نفتري ـ لا قدر الله ـ لا نغش في المعاملة إن شاء الله.. فهذه من الأمور التي نمارسها يومياً، وعليه فينبغي أن نصل بذلك، فإن كانت هذه الأمور هي التي توصل الإنسان، فينبغي أن يكون الجميع عرفاء بالله، وينبغي أن يكون الجميع أولياء لله، وأن يكونوا وصلوا إلى المطلوب.. نعم، لقد كُتب الكثير من الكتب في هذا الوقت، وصار الجميع عارفاً.. إن لم يكن هناك محاسبة ومسؤولية فستصل المسألة إلى هذا الحد!
الذي ينسجم مع عظم الأمل هو عفو الله لا عدله
«فأعطني من عفوك بمقدار أملي» .. هنا يطلب الإمام عليه السلام بصراحة من الله تعالى، ويقول له: إلهي هذه هي وضعيّتي؛ فمن جهة أملي كبير، ومن جهة أخرى عملي وتصرّفي سيّء وغير لائق.. إذا كان الأمر كذلك فما هي النتيجة؟ هل نطلب من الله أن يتركنا إذا كان عملنا سيئاً؟ كلاّ! بل نقول: إلهي تعامل معنا بعفوك في هذه الحالة، لا بعدلك، تفضّل علينا بفضلك، لا بحكمك وقهاريتك.. اعطف علينا برحمانيّتك، لا بحسابك ودقّتك وعدلك.. «فأعطني من عفوك بمقدار أملي»... أي تفضّل بعفوك ومنّك وجودك على سوء عملي، فهناك عندما يكون عملي سيئاً تفضّل عليّ بحسن عفوك وجودك ورحمتك، لا بعدلك، فإن عاملتني بعدلك فلن يبقى شيء، لكن إذا عاملتنا بعفوك فعند ذلك سوف أصل إلى ذاك الأمل الكبير الذي عبّر عنه الإمام: «عظم يا سيدي أملي».
حسناً، ما النتيجة التي نحصل عليها؟ أنا عبدٌ لديّ أمل كبير جداً، ومن جهة أخرى أضع عفوك إلى جانب هذا الأمل.. والنتيجة هي الوصول إلى ذاك الأمل والهدف. وهذا أمر سهل وبسيط. انظروا.. الإمام إلى أي شيء يدعونا؟ وإلى أيّ مكان يدعونا؟
يقول: «فأعطني من عفوك بمقدار أملي».. إلهي عندما يشملني عفوك، فأطلب منك أن لا يقتصر على أن يمحو ذنوبي فقط، فإن اقتصر على محو الذنوب فقط فماذا يحصل؟ حتماً سوف يخيب ذلك الأمل. فلو أنّ الله تعالى في يوم القيامة عفا عن ذنوبنا ورفع عنّا العقاب الذي نستحقّه بأعمالنا وأخرجنا من النار بعفوه فقط، وقال لنا أنتم لم تقوموا بفعل قبيح.. جيد! لكن يبقى لدينا الكثير من الأمور التي لم تحصل بعد.. فصحيح أنّ العقاب قد ارتفع.. لكن هل هذا هو أملنا فقط؟ يعني أن الإمام السجاد عليه السلام عندما يقول: «عظم يا سيّدي أملي»، فهل يكون أمل الإمام السجاد أن لا يدخل النار فحسب؟ هل يكون أمل الإمام السجاد أن لا يكون مستحقاً للعذاب والعقاب فقط؟ هذا أملنا جميعاً! فهذا هو الحدّ الأدنى.. من منّا لا يرغب في الخروج من النار؟! من منّا لا يتأذّى من النار؟! من منّا يقول: لا مانع عندي من دخول النار إذا امتلأت الجنّة؟! كلاّ... [يبتسم سماحة السيّد] إنّ من يقول ذلك لا يدري ماذا هناك !!
ضرورة رفع مستوى الأمل لدينا
الإمام السجّاد عليه السلام يطلب من الله أن يشمله بعفوه بمقدار الأمل الذي لديه.. هذا عجيب! فالإمام لم يطلب أن يعفو عن ذنبه فقط، ولو طلب ذلك، لسأله الله تعالى ما هو طلبك الآن؟ فإن كان مرادك العفو، فقد عفونا عن ذنبك! لكن الإمام يقول لا بل سأبقى واقفاً هنا، فليس مرادي أن تعفو فقط عن ذنبي، بل ينبغي أن توصلني إلى أملي.. ما شاء الله! ما هذا العبد الجريء واللجوج.. لن نستخدم ألفاظا أخرى لأن هذا الكلام كلام الإمام.. انظروا إلى الإمام كم يبيّن لنا أن رحمة الله تعالى واسعة! وكم هو شامل وواسعٌ العفو الإلهي! و بالمقابل كم خوّفونا ويخوّفوننا من هذا الإله الرحيم!
تراجع منزلة الإمام عليه السلام بين الشيعة
عندما كان المرحوم العلاّمة يريد أن يكتب كتاب معرفة الله، كنت أصرّ عليه كثيراً وأقول له لماذا لا تبدأ بتدوين هذا الكتاب؟ وكان في ذلك الوقت مشغولاً بتدوين كتاب معرفة الإمام.. حيث كان يأتينا بعض الخطورات والتوهّمات بأن عمره ـ لا سمح الله ـ قد لا يكفي لذلك، فلا يستطيع الشروع بكتاب معرفة الله وبيان مسألة التوحيد بشكل واضح.. وكنت أصرّ عليه بأن يشرع بكتاب معرفة الله، حتى لو لم يتم العمل في كتاب معرفة الإمام... لكنه كان يقول: اعلم يا سيّد محمّد محسن أن كل ما يريده الله هو الذي سيقع، وكل ما قدّره الله تعالى أن يجري من قلمنا هو الذي سيحصل.. فلا تتأسّف ولا تنزعج من شيء، فإني أخاف على موقعيّة الإمام عليه السلام ومكانته في الثقافة الشيعيّة، إذ صارت موقعيّة الإمام في الثقافة الشيعيّة المعاصرة مهملة وغير معتنى بها، وينبغي عليّ أن أحيي الموقعيّة الصحيحة للإمام عليه السلام، وأحافظ على حريم الإمام، وأظهر حقيقة الإمام، وأبيّن للناس من هو الإمام وما هي حقيقته وما هي حقيقة الولاية.. وكنت قد قلت شيئاً للمرحوم الوالد ليس الآن موضع ذكره، بل أتركه إلى وقت آخر عندما تسمح الفرصة له.. وأضاف رحمه الله: لقد شعرت بأن الناس قد مشوا في اتجاه وتحرّكوا نحو أمر، وحمّلوا أنفسهم أموراً، حيث ضحّوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل ذلك الهدف.. لكنّهم لم يعرفوا الإمام، لذا عليّ أن أبيّن لهم من هو الإمام عليه السلام، وأعلن لهم بأن التشيّع يساوي الإمامة، وأن التشيّع صفر بدون إمامة الإمام.. هذه عين عبارته، يعني أن جميع وجودنا وكياننا يدور حول محور الإمامة، ويتمحّض حول ولاية إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وبدون ولاية إمام الزمان نحن صفر.. لا شيء..
لقد ذَكر سماحته بأنّه تمّ إغفال هذه المسألة.. لأسباب متعدّدة.. والعاقل تكفيه الإشارة. ثمّ قال رضوان الله عليه: ما لم أنتهِ من تدوين هذا الكتاب فلن أشرع في كتاب "معرفة الله".. فإن كنت تريد التعجيل في الشروع بكتاب معرفة الله، فادعُ الله كي أنتهي من كتاب معرفة الإمام [يضحك سماحة السيّد]..
وأنا بدوري أقول هنا بأنّ نتيجة جميع مجلّدات هذا الكتاب [معرفة الإمام] موجودة في المجلد الثامن عشر، نعم حاصل جميع هذه الأجزاء من كتاب معرفة الإمام تظهر في الجزء الثامن عشر منه. وعلى الإخوة أن يقرءوا جميع مؤلّفات المرحوم العلاّمة؛ من أوّلها إلى آخرها، ولكن عليهم أن يعلموا بأن الخلاصة والغاية والمقصود والمطلوب من كتاب معرفة الإمام هو الجزء الثامن عشر، وما ذكر فيه من مطالب.
من يعرف الله حقاً يعبده حباً لا خوفاً
وبعد أن شرع بكتابة معرفة الله، قال لي: يا فلان! لقد شرعنا بتدوين هذا الكتاب.. عند ذلك سألت العلاّمة سؤالاً واحداً، وقلت له: ما هو هدفك من تأليف كتاب معرفة الله، إذ الجميع يعلم بأن الله واحد، وأن صفاته معروفة وأسماءه محددة، وأنه ذات لا يزال.. الجميع يعلم ذلك، فما هو الشيء الذي تهدف إليه من تأليف هذا الكتاب؟ فقال: لديّ هدف واحد وراء ذلك، وهو أن أبيّن ذات الإله العطوف الودود الرحيم الرحمن ذي الفضل والمجد والكرم والرحمة.. ذاك الإله الذي أُخِذ منّا وأخفوه في عالم آخر وأبعدوه عنّا.. أريد أن آتي بذاك الإله وأقرّبه أقرّبه حتّى أضعه أمام الجميع وأقول هذا هو الله، هذا هو إلهنا! إلهنا هو الذي يجلس بجانبنا، والإله الذي يعطف علينا، الإله الذي يفرحنا ويضحكنا، الإله الذي يمسح بيد رحمته على رؤوسنا، الإله الذي هو أرأف بنا من الأمّ بطفلها، وأعطف بنا من الأب على ابنه.. هذا هو الإله الواقعيّ. لا ذاك الإله الذي بيّنوه لنا كالغول المهيب الذي أشعل نار جهنّم؛ بحيث أنك إن ذهبت يميناً أو يساراً فسوف تسقط فيها.. وإذا فعلت شيئاً هنا تكبّ على وجهك في النار، وإن أخطأت في قراءة سورة الحمد، ولم تحسن قراءة حرف الضاد في {ولا الضَّالِّين } فسوف تُرفض صلاتك.. وغيرها من الأمور التي ألصقناها بهذا الإله، فصوّرناه غولاً بأنياب، وقدّمنا هذا الإله إلى الناس، بحيث صار يحقّ للناس الفرار من مثل هذا الإله، ويبقون في حالة من الحيرة والضلالة لا يدرون من يعبدون، ومن الذي يسجدون له ولمن يركعون.. هذا الذي قدّموه لنا ليس إلهاً، بل الإله الذي ينبغي لنا أن نعبده هو الإله الذي وصفه لنا الإمام السجاد عليه السلام، حيث قال: إلهي هو إله لا يقتصر فقط في عفوه على محو أعمالي السيّئة، بل يوصل الإنسان إلى أعلى مرتبة قد تكون لديه.. هذا هو إلهنا.. { فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} فكيف يمكن ذلك؟! كيف يمكن أن تتبدّل السيّئات إلى حسنات؟! لعلّ الله يوفّقنا لبيان ذلك لاحقاً إن شاء الله ، (وإذا نسيت أحياناً فذكروني، إذ بعض الإخوة يقول: أنتم تعدوننا ببيان الكثير من الأمور أثناء الكلام ثمّ أنتم توضّحون كلّ شيء إلاّ ما وعدتم به [يضحك سماحة السيّد]) أجل.. فكيف يمكن من الناحية العقليّة ـ لا من ناحية الرحمة والفضل الإلهي ـ بل من الناحية العقليّة والفلسفيّة أن تتبدّل السيّئة إلى حسنة؟! فهذه سيّئة والسيّئة تعني العمل المخالف، لكن السيّئة عند الله تتبدّل إلى حسنة.. هذا عجيب!! لكن هذا هو مقتضى الإبداع الإلهي، والعجيب هو هذا.
حسناً.. قال المرحوم العلاّمة: لقد كتبت كتاب معرفة الله لكي أبيّن للناس بأن الإله الذي ينبغي أن نعبده ليس لديه إبر يلسع بها، ولا سمّ ولا ذيل ولا أنياب طويلة كأنياب الفيل، لا سوط.. لا رصاص لديه.. ليس لديه هذه الأمور، بل إنك إذا أدركت شمّة من رحمة الله، فقد تترك عبادته جانباً من شدّة رحمته.. هذه هي الرحمة الإلهيّة الواسعة جداً. يقول بأن الله رحيم ورحمن إلى حدّ أني أتجرّأ وأقول لماذا أعبده، إذ من المعلوم كيف سيتصرّف معي هذا الإله.. لكن العبادة في هذه الحالة تصير من باب العشق لا من باب التكليف، فعندما يصير وقت الظهر، لا يقول صار وقت الصلاة ويجب أن أصلي، بل يقول: ها! لقد فُتحت الأبواب الآن.. وعندما يصير المغرب لا يقول بأنه بعد ساعة تغرب الشمس وراء الأفق، وعند ذلك يجب عليّ أن أتوضأ وأصلّي ثلاث ركعات، حتى لو كان يأتي بهذه الصلاة بشوق.. لكن ذاك يقول متى تغرب الشمس؟ لماذا لا تغرب سريعاً؟ لماذا لم يصل بعد وقت صلاة المغرب؟ لماذا لا يأتي وقت صلاة العشاء كي أقوم وأصلّي؟ طبعاً لا يصلّي العشاء مع المغرب ويقول: نصلّيهما معاً دفعة واحدة ونرتاح منهما، لا، بل يؤخّر صلاة العشاء ويقول: أتركها لموعد آخر، لا أصلّيها الآن، أؤخرّها ساعتين بعد، حتى أكسب وقتاً آخر للقائه، آخذ موعداً آخر منه.. عند ذلك كم تفرق المسألة عن تلك، وكم يترك هذا الأمر أثراً على الإنسان.. هذه الصلاة تصير صلاة من باب العشق والمحبة، هذه الصلاة تصير الصلاة التي يقول عنها أمير المؤمنين: «بل وجدتّك أهلاً للعبادة فعبدتك» طبعاً كلام الإمام هذا هو في أعلى مراتبها..
إنّ الإمام عليه السلام يقول لم أقم بهذا الأمر من باب التكليف، وأنه إذا لم أصلِّ سوف يضربني الله على رأسي.. أو أن تكون صلاتي من باب التجارة والمعاملة وأنّي أريد الجنّة من وراء هذه الصلاة.. كلاّ بل إنّني أنتظر حضورك وموعد اللقاء بك بجميع وجودي، فحتّى لو لم يكن هناك جنّة فسأبقى أعبدك.
يُنقل عن المرحوم السيّد القاضي ـ لا شك بأنكم قرأتم ذلك في الكتب التي كتبت حوله ـ أنّه كان يقول لتلاميذه إذا أخذوا منّا الصلاة في يوم القيامة، فما الذي سأقوم به عندئذٍ.. والحال أنّه لا صلاة يوم القيامة.. حيث ينتهي وقتها في ذلك اليوم.. يقول السيّد القاضي: إذا حرمونا من الصلاة يوم القيامة فما الذي نفعله هناك! ما المصيبة التي تحلّ بنا عندئذٍ.. فما هي الصلاة التي كان هؤلاء يصلّونها؟! كيف كان هؤلاء يصلّون؟ في المقابل ينقل أحدهم بأنّه لو لم يذهب لإيقاظ فلان [و هو من العلماء المعروفين] لما استيقظ لصلاة الصبح، بل كانت فاتته. هل التفتّم إلى الفرق؟ بينما هذا يقول ماذا نفعل يوم القيامة إن أخذوا منا الصلاة. كم هو الفرق كبير بين هذا وذاك!!
ومع ذلك يُتّهم هؤلاء العرفاء بأنّهم ضدّ الله، وأنهم ضدّ الدين وضدّ الولاية!!
الأمل العظيم أعلى من دخول الجنة
«فأعطني من عفوك بمقدار أملي ولا تؤاخذني بأسوأ عملي» .. يا إلهي لا تحاسبني بعملي المخالف، لا تؤاخذني بذاك العمل السيّئ الذي صدر مني.. حسناً هذه الجمل الأربع من الإمام السجّاد: أحدها هي أن أملي كبير جداً، وعندما ننظر نرى بأن العبد عندما يكون لديه أمل ـ مع غضّ النظر عن الإمام السجّاد الذي لديه مراتب عالية من المعرفة والتجرّد، بل ننظر إلى أنفسنا نحن ـ إذا أردنا أن يكون لدينا أمل معيّن فيما يرتبط بعاقبتنا، فما الذي نتأمّله؟ قيل لنا بأن الله قد جعل جنّة للمطيعين، وجهنّم للمسيئين والعاصين.. ماذا يمكن أن يكون أملنا الكبير؟ هل أملنا الكبير هو أن لا ندخل جهنّم؟ فهذا هو الحدّ الأدنى للمؤمن الذي يمكن أن يؤمّله، وأن يفكّر فيه ويتوقّعه من الله.. وكذا دخول الجنّة والالتذاذ من النعم الموجودة هناك بحسب ما ذكر لنا.. صحيح أنّه أمر مطلوب، لكن هل هذا الأمر أمل كبير؟ أعتقد بأنه ينبغي أن تكون المسألة بشكل آخر، وأن تكون مختلفة بعض الشيء، فالأمل الكبير يختلف عمّا نؤمّله نحن والمبني على أساس الشواهد والقرائن والمدارك والخصوصيّات التي لدينا.
لعلّه صار لدى الإخوة تصوّر معيّن عن هذه المسألة، وأنه ما هو الهدف الممكن للعبد الذي يمكن أن يصل إليه، بحيث أنّه بوصوله إلى هذا الهدف لا يعود يشعر بالندم والحسرة أبداً؟ ما هو الشيء الذي يمكنه أن يكون كذلك للعبد؟ وهذا ما أشار إليه الإمام السجّاد في هذه المسألة.
لدينا في الأدعية المأثورة عن الأئمة عليهم السلام الكثير من الأمور بالنسبة إلى هذه المسألة، ففي دعاء كميل نجدها، وفي المناجاة الشعبانية، وفي المناجيات الخمس عشرة المرويّة عن الإمام السجّاد عليه السلام.. فعندما يقول الإمام عليه السلام: «إلهي من ذا الذي ذاق حلاوة محبتك فرام منك بدلاً»، ما هي المسألة الكامنة هنا؟ وما هو السرّ المخفيّ هنا؟ وهذه الفكرة موجودة في المناجاة الخمسة عشر، و قد ورد نظير ذلك عن أمير المؤمنين عليه السلام في المناجاة الشعبانيّة، التي كان الإخوة حتماً يقرؤونها في ليالي وأيام شهر شعبان، ويلتفتون إلى معاني فقراتها. وهذا المعنى موجود أيضاً في دعاء كميل الذي أورده أمير المؤمنين ضمن عبارة «هبني.. هبني». إذاً من المعلوم أن الأمل الذي يطلبه الإمام عليه السلام عبر قوله «عظم يا سيّدي أملي» ليس هو الخوف من جهنّم، ذاك الأمل ليس عبارة عن المطالب الظاهرية والمسائل البسيطة، وليس هو مجرّد دخول الجنّة والتنعّم بنعيمها وسائر نعم الله تعالى التي وصفت لنا، والتي نرى أن الجميع يسعون للوصول إليها.. بل المسألة شيء آخر. وهنا نرى أن الله تعالى يظهر عظمته، وهذه العبارة عبارة عجيبة جداً؛ حيث من جهة، يبيّن أن حقيقة العبودية هي صفر محض مقابل الذات الكبريائية للحقّ تعالى؛ ويقول بأن عملي سيّئ وقبيح وتصرّفي ليس حسناً... وقد ذكرنا أن الإمام يبيّن في هذه العبارات موقعية العبد أمام مولاه.. ومن جهة أخرى يبيّن ذاك اللطف اللامتناهي للباري تعالى بالنسبة إلى عبده الذي هو صفر ولا يملك شيئاً مقابله.
الولاية هي شرط التوحيد
هاتان نقطتان متقابلتان تماماً.. نعم، لكن هناك شرط ولهذا الأمر قاعدة، إذ لكلّ شيء قاعدة وشروط.. الإمام الرضا عليه السلام ذكر هذا الشرط وقال: «كلمة لا إله إلا الله حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي»، فمن يدخل في حقيقة التوحيد يصير محصّناً، ويصير محفوظاً من عذاب الله تعالى.. لكن «بشروطها، وأنا من شروطها» فذكر أنه عليه السلام من شروط حريم التوحيد، إذ من دون ولاية الإمام لا يمكن لأي شخص أن يدخل إلى هذا الحريم أبداً.
حسناً، لم يكن مقرراً أن نتحدّث إليكم الليلة، بسبب التعب الذي أشعر به جرّاء السفر، وكنت أريد أن أخبر ابني قبل دقائق من نزولي بأن يعتذر عنّي للإخوة.. لكن لم يطاوعني قلبي على ذلك، لذا وضعت عباءتي وقلت يا علي!! ننزل ونرى الإخوة على الأقل، ونتحدث إليهم ببضع كلمات.. إن شاء الله علينا أن نشرع والباقي على الله، على أنّ أصل الشروع بيد الله أيضاً.. وكذا الحركة والوصول كلّها بيد الله، وكلّ ما يأتي فهو منه تعالى، وليس لديّ أيّ إرادة أو اختيار أقدّمه.
إذاً نترك تتمّة المطالب إن شاء الله ـ لولا البداء ـ إلى الليلة القادمة، إذا أراد الله.
اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد.