المؤلّفآية الله السيد محمد محسن الحسيني الطهراني
القسمعنوان البصري
المجموعةالولاية والهداية
التوضيح
تعرّض سماحة آية اللـه السيّد محمّد محسن الحسيني الطهراني قدس سره في هذه المحاضرة إلى مسألة اختلاف الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة التي تحيط بإمام كلّ زمان، وتساءل عن مدى تأثير هذه الظروف على أداء الإمام عليه السلام لدوره، فهل هداية الإمام مشروطة باللقاء المباشر به؟ وهل الأشخاص الذين لا يملكون الفرصة للقاء بإمام زمانهم أو يعيشون في زمان الغيبة محرومون من فرصة الهداية؟
هو العليم
هداية الإمام عليه السلام في الظروف المختلفة
شرح حديث عنوان البصريّ - المحاضرة ٢
ألقاها
آية الله الحاجّ السيّد محمّد محسن الحسينيّ الطهرانيّ
قدس الله سره
أعُوذُ بِاللَهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم
بِسمِ اللَه الرَّحمَنِ الرَّحِيم
الْحَمدُ لِله ربِّ العالَمينَ
وَالصلاةُ والسلامُ على أشرَف المُرسَلينَ وخاتمِ النَّبيّينَ أبي القاسمِ محمَّدٍ
وعلَى آلِهِ الطَّيِّبين الطّاهرين
و اللعنةُ علَى أعدائِهمْ أجمَعينَ
لقد كان من المقرّر أن ينعقد هذا المجلس ليلة الجمعة، إلاّ أنّنا أوكلناه إلى ليلة الأحد؛ وذلك بسبب السفر الذي عرض للحقير من أجل تقبيل أعتاب الإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام. وقد كنّا نظنّ بأنّنا سنرجع البارحة، غير أنّه وبسبب بعض الظروف التي حصلت [لم نتمكّن من ذلك]، ويبدو وللـه الحمد أنّه كان من الخير أن نُجبر على المكوث في مشهد مادام ذلك مصحوباً بالتوفيق الإلهي. نعم، لقد غادرناها اليوم ووصلنا قبل قليل. في الحقيقة إنّ عالم القضاء هذا لعجيب جدّاً، وعجيب كيف أنّ الأمور تجري في هذا العالم بمشيئة اللـه، وكيف أنّ الإنسان قد لا يرى في بعض المسائل خيراً مع أنّها عين الخير: {عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُم}۱. وقد كنت عازماً على تأجيل المجلس من هذه الليلة إلى ليلة الإثنين؛ لأنّني احتملت أنّني سأكون في سفر، وألاّ أتمكّن من الحضور، إلاّ أنّني رأيت [بعد ذلك] بأنّه من المحتمل أن يكون الأصدقاء قد أعدّوا برنامجهم، ولربّما قد وجّهوا دعوةً أو حدّدوا موعداً؛ ولذلك فقد راعيت هذه المسألة. وعلى كلّ حال، فأنا أعتذر، وليصفح عنّا الرفقاء بسبب الأمور الخارجة عن إرادتنا. ومن هنا فإنّني ـ ومن باب أن نمرّ مع الأصدقاء والرفقاء على ذكر هذه الرواية الشـريفة ونننتفع من خلال بعض الكلمات من هذا الحديث الشريف ـ سأتطرّق هذه الليلة إلى بعض المطالب المختصرة التي تعطي نظرة إجماليّة على البحث دون تفصيل وبسط. وبسبب خُلفنا للوعد، فإنّنا سنعقد الجلسة اللاحقة ـ استثناءاً ـ ليلة الجمعة من الأسبوع القادم.
سببان لاعتذار الإمام عليه السلام من عنوان البصري عن استقباله
ذكرنا سابقاً بأنّ عنوان البصري أتى عند الإمام الصادق عليه السلام وهو يبحث عن ضالّته، فقد كانت له ضالّة وهدف ينشده، ومن أجل الوصول إلى ذلك الهدف؛ فإنّه التمس من الإمام أن يعطيه برنامج عمل. وعندما قدِم إلى الإمام، قال له عليه السلام: «إنّي رجلٌ مَطلوبٌ ومَعَ ذلكَ لِي أورادٌ فِي كُلِّ ساعةٍ مِن آناءِ اللَيل والنّهارِ فلاتَشغَلنِي عَن وِردِي». (إنّي رجل تتعقّبني الحكومة وتترصّدني وتُراقبني؛ فأنا لدي محذور من هذه الجهة. وعلاوةً على ذلك، فإنّ لديّ في الليل والنهار أعمال خاصّة بي، ولديّ أوراد وأذكار أشتغل بها في كلّ ساعة وكلّ برهة من الليل والنهار).
نُلاحظ في هذه الرواية أنّ الإمام عليه السلام قد لفت النظر إلى نقطتين: النقطة الأولى وهي تلك المسائل المرتبطة بما هو خارج عن منزله وعن دائرته الشخصيّة، وبعبارة أخرى فإنّ الإمام عليه السلام يشير هنا إلى المسائل الاجتماعيّة. والنقطة الثانية ترتبط بالمسائل الشخصيّة. فالإمام عليه السلام يقول: يوجد لديّ محذوران؛ المحذور الأوّل يرتبط بالقضايا الخارجيّة ـ وهذا يُشكّل لي مانعاً من أجل إقامة علاقة معك ـ والمحذور الثاني يرتبط بمسائلي الشخصيّة. وذلك أن الإمام عليه السلام يقول: لديّ هنا مانعان: «إنّي رجلٌ مطلوبٌ»، هذا أوّلاً (فأنا مراقَب، وهم يتعقّبونني، فقد عيّنوا الجواسيس لمراقبتي، وخلاصة القول أنّني لا أستطيع أن أقيم علاقات عاديّة)، وثانياً، أنا نفسي مشغول، فكلّ شخص ـ في الأخير ـ لديه أشغاله الخاصّة في الحياة، وله برنامج، وله ذكر ووِرد. يبقى أنّ هذه مسألة أخرى (أي مسألة الذكر والورد وما إلى ذلك)، وسنبحثها لاحقاً إن شاء اللـه.
هل تشكّل الظروف الاجتماعيّة مانعاً أمام هداية الإمام عليه السلام؟
أمّا بالنسبة لمسألة «إنّي رجلٌ مطلوبٌ»، فما هو مراده عليه السلام من ذلك؟ فهل تُشكّل هذه القضايا الخارجيّة والاجتماعيّة عائقاً أمام هداية الناس بالنسبة للإمام؟ فعندما يقول الإمام عليه السلام: أنا مراقَب، هل تُعدّ مسألة كونه مراقَباً مانعاً له عن الهداية؟ وعليه، من حقّ عنوان البصري هنا أن يطرح هذا التساؤل: إذاً، فماذا أفعل؟ أنتم مراقَبون، فماذا عليّ أن أفعل؟ وأين أذهب؟ وإلى من أرجع؟! وأيّ طريق أسلك لرفع الجهل عنّي والوصول إلى الهدف المنشود؟! ومن يراجع تاريخ الأئمّة عليهم السلام فسيجد نظائر عديدة لهذه المسألة.. حيث نرى بأنّ الأئمّة قد عاشوا عبر التاريخ حالاتٍ ومراحل مختلفة. فمثلاً في زمان الرسول الأكرم وصدر الإسلام كان الرسولُ صلّى اللـه عليه وآله وسلّم يتعقّب الناسَ بنفسه واحداً واحداً، ومع ذلك لم يكن أحدٌ يأتي عند الرسول من الأساس، فكان النبيّ يُغادر مكّة ويذهب إلى الطائف ويتوجّه نحو الناس، وكان إذا رأى شخصاً جالساً في المسجد الحرام؛ ذهب إليه وشرح له المسائل وقرأ عليه القرآن. وإذا ما لاحظ مجموعةً من الأشخاص ـ على سبيل الفرض ـ مجتمعين بالقرب من الحجر الأسود، فإنّه يذهب عندهم ويجلس بينهم ليبيّن لهم مطالبه ويُبلّغها لهم. وفي بداية الرسالة وبعد مرور ثلاث سنوات، قام الرسول بجمع قومه وعشيرته لكي يشرح لهم المطالب: {وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ الأَقْرَبين}۱. لاحظوا أنّ الرسول يتوجّه بنفسه نحو الناس! فلم يكن أيّ أحد يأتي عنده، أي أنّ الرسول كان يرجع إلى الناس من أجل هدايتهم، وكان يتتبّعهم واحداً واحداً. فالرسول كان يريد ـ بأخلاقه وتصرّفـاته ـ أن يجمع الأشخاص واحداً واحداً، ويجتمع بهم ويجذبهم إليه. وهكذا الأمر بالنسبة للحروب التي حصلت في المدينة، فقد كان الرسول يذهب ويدعو الناس إلى الإسلام، لكي يعتنقوه ويصيروا مسلمين.
وذلك أنّ فلسفة الغزوات والجهاد في الإسلام ترجع إلى هداية جميع الناس؛ لأنّه بحسب الفلسفة العامّة للهداية والفيض الإلهي بالنسبة للناس، فإنّ اللـه تعالى يرى شمول لطفه لجميع الناس، وهذا اللطف هو الهداية، وهذا على العكس تماماً ممّا يُطرح في هذا العصر، حيث يُنظر إلى الدين كعنصر تهديد وإرعاب وتضييق وتعسّف بالنسبة للأشخاص، ثمّ يأتون بعد ذلك ويتساءلون: هل يُمكن لهذا العنصر أن يكون عن اختيار أم لا؟ وما هي المكانة التي تحتلّها حريّة الإنسان في هذا المجال؟ لأنّه إذا كان مقرّراً فرضُ أمر معيّن على الإنسان من الخارج، فمن الضروري ـ طبعاً ـ ملاحظة الظروف التي تحيط به على مستوى علاقته بذلك الأمر؟ وهل يمتلك حريّة القبول أم لا؟ وما هي المصالح التي تترتّب على ذلك؟ مثلاً لو كان أحد الأشخاص يعيش في مجتمع معيّن، وظروف خاصّة.. ظروف محليّة وعائليّة واجتماعيّة معيّنة، ثمّ يتمّ وضع قانون رسمي من أجل تنظيم بعض المسائل في ذلك المجتمع... حسناً، إذا أراد الإنسان أن يعيش في هذا المجتمع، فعليه أن يخضع لهذا القانون ولو بالإكراه، وإلاّ فليُغادر ذلك المجتمع.
إنّ المسألة التي ابتلي بها الناس ـ مع الأسف ـ في هذه الأيّام والتي دفعتهم للبحث ـ خطأً ـ عن أجوبة تتعلّق بالتساؤل حول امتلاك الاختيار في الاعتراف بالدين )أو عدم امتلاك الاختيار في ذلك( هي: النظر إلى الوحدة من مقام الكثرة، أي أنّنا نعدّ أنفسنا في هذه الدنيا كموجودات مستقلّة لها شعور وإدراك واختيار بالنسبة للمسائل التي تُحيط بها، ثمّ نتساءل بعد ذلك حول هذا الدين المفروض علينا، وهذه الصلاة المفروضة علينا، وهذا الصيام المفروض علينا، هل توجد فيها مصلحة أم لا؟ هل هي راجحة أم لا؟ وإلى أيّ حدّ يمتلك الإنسان الاختيار في قبوله أو عدم قبوله بهذا المذهب وهذا الدين؟ وأين ذهبت حريّته في البين؟ (ونحن بطبيعة الحال لن نتعمّق هاهنا في البحث عن هذا الموضوع وسنكتفي بالإشارة إليه). وأمّا بالنسبة لمحلّ الاشتباه، فهو يكمن في عدم نظرنا لجانب الوحدة أبداً.. وهي الوحدة التي من خلالها أنزل اللـه تعالى ـ من باب اللطف بعباده ـ هذا الدين. عندئذٍ، هل يبقى لمسألة حريّة الرأي والفكر والاختيار وغير ذلك أيّ معنى من الأساس؟ فحينما يرى الأب بأنّ ابنه يُعاني من المرض، وإذا لم يأخذ هذه الحقنة، فإنّه من المحتمل أن يموت بعد ساعتين ـ كأن يكون مصاباً بالديفتيريا (الخناق) وأمثال ذلك ـ، فهنا لا مجال للاختيار، ولا مجال للانتخاب. وإذا قال الابن: أنا لا أريد؛ لأنّني سأتألّم، بل أريد أن أموت، ولا أرغب في تحمّل الألم الذي تُسبّبه هذه الحقنة! (وهذا متوقّع منه؛ فهو طفل صغير، ولا يفهم)؛ ففي هذه الحالة، على الأب أن يُمسكه من يديه ورجليه ويُقيّده حتّى يأخذ الحقنة، ولا ينبغي أن يُلاحظ هاهنا أنّ ابنه هل سيقبل بذلك أم لا.
وهكذا فإنّ جميع تلك المصالح والمنافع التي يراعيها اللـه سبحانه من أجل عباده، مبنيّة على علم اللـه تعالى المحيط بمصالح العباد، أمّا الناس فهم جاهلون بعواقب الأمور وبالمصالح الواقعيّة، فلماذا يقول اللـه سبحانه: ينبغي على الناس أن يدخلوا في الإسلام؟ لماذا؟ ولأيّ شيء يقول اللـه تعالى: يتحتّم على الجميع أن ينضووا تحت نظام إسلامي واحد؟ لماذا قدّر اللـه تعالى علينا الجهاد؟ أفهل يعود إليه عزّ وجلّ نفع من ذلك؟ كلاّ! بل جميع هذه الأمور قد جُعلت على أساس اللطف، أي لأنّه تعالى لطيف، فإنّه يقول: ينبغي عليك أن تقبل، وإذا لم تقبل، يجب أن نلزمك بها بالفرض والقوّة؛ لأنّك جاهل.. لأن فرضنا بأنّك جاهل.
لماذا تبسّم النبي عندما رأى الأسرى مكبّلين؟
ففي غزوة بدر، عندما أتوا بالأسرى مكبّلين بالحبال حتّى لا يهربوا ـ وقد كانوا حوالي سبعين شخصاً ـ، عبروا بهم بجانب رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله فتبسّم..
حسناً، في مثل هذه الظروف، لو كنّا نحن هناك حقّاً، ما هو الحكم الذي كنّا سنُصدره في حقّ الرسول؟ فنحن بسبب عقلنا المحدود، وسعة فهمنا وإدراكنا المحدودين، وجهلنا بالمصالح، وجهلنا بمقام الرسول، وجهلنا بمدركات الرسول؛ ما هو الحكم الذي كنّا سنصدره؟ سيكون حكمنا هو: حينما اندلعت الحرب وتغلّب فيها الرسول، وخرج منها منتصراً، فإنّه قد تربّع على أريكة السلطة والقدرة والسيطرة، وصار ينظر إلى الأسرى من برجه العاجي بسخريّة واستهزاء قائلاً: هل رأيتم ماذا فعلنا بكم؟ هل رأيتم كيف أسرناكم؟ لقد أردتم أن تُحاربونا، فهل رأيتم ماذا أصابكم؟ وهذه مسألة طبيعيّة، لماذا؟ لأنّ هذا ما تقتضيه مدركاتنا، فمدركاتنا لا تتعدّى هذه المرحلة، فنحن لا يُمكن أن يأتي على بالنا أنّه من المحتمل أن تكون هناك مسائل أخرى قد جرت في ذهن الرسول؛ لأنّنا بعيدون عن ذلك المقام، ولا يُمكن أن يخطر على بالنا شيء غير هذا فيما يخصّ المنشأ الذي من الممكن أن تكون تلك الضحكة قد نشأت منه أو المحمل الذي من شأنها أن تُحمل عليه. وبعبارة أخرى: نحن نقيس فعل الرسول وعمله على أساس شؤوننا المتعارفة؛ وهنا تبدأ هذه النوعيّة من الإشكالات بالظهور، وتبرز الاعتراضات، وهنا تطفو الأسئلة على السطح: لماذا فعلت هذا، ولمْ تفعل ذلك؟! ويا رسول اللـه، كان من الأفضل أن تقوم بهذا الأمر.
كار نيكان را قياس ازخود مگير | *** | گرچه باشد در نوشتن شير، شير |
(يقول: لا تقس فعلك بأفعال الصالحين، ولا يغرّنك التشابه الظاهري بين كلمتي (شير) و(شير) [فالأولى تعني الأسد والثانية تعني الحليب])
فنظر الرسول الأعظم يتعلّق بمعنى آخر. حينئذٍ حدّق أحدهم بالعبّاس عمّ الرسول وقال له: هل الشخص الذي كنت تُحدّثنا عنه في مكّة بأنّ له حالات ومعنويّات وأخلاق عجيبة وكلام من هذا القبيل هو هذا الذي نراه الآن؟ هل هو نفسه الذي نُشاهده الآن؟ انظر ولاحظ كم هو مسرور بأسرنا! سمع الرسول الأكرم صلّى اللـه عليه وآله كلام هذا الرجل، فقال: لقد دعوتكم كثيرا فلم أجد منكم آذاناً صاغية، وأنا الآن أريد أن أسوقكم إلى الجنّة ولو بالسلاسل!! وهذا تماماً مثل الطفل الذي يفرّ من تأديب أبيه ولطفه وعنايته، أو مثل قصّة حضـرة موسى مع تلك الشاة التي فرّت من القطيع، فركض خلفها لا لأجل إرجاعها للقطيع، بل ليحميها من الذئب. فما الذي كان يدور في مخيّلة تلك الشاة، وما الذي كان يدور في مخيّلة موسى؟! لاحظوا أين يكون الفارق؛ فهي كانت تفرّ مظنّة أنّ موسى كان يريد أن يُخضعها لأوامره وتربيته وعصاه، وموسى كان يركض خلفها لكي يحميها من شرّ الذئب! فهي لن تصل أبداً إلى مستوى فكره! وعليه، أفهل يقتضي العقل والمنطق في مثل هذه الظروف أن ندع ذلك الخروف وتلك الشاة وشأنهما؟ ولسان حالنا يقول: فإذا كنت لا تُدرك ـ والحال هذه ـ لماذا نحن نتعقّبك، اذهب! اذهب لحالك، فنحن لن نركض خلفك من دون فائدة. كلاّ! فوجدان الرسول، وعقل ومنطق النبيّ يقتضون أن يتعامل مع الناس وفقاً لأفكاره هو، لا بحسب أمانيّهم وخيالاتهم وتوقّعاتهم، وإلاّ لما كان نبيّاً، ولصار مثل بقيّة الناس. وهذه المسألة مسألة دقيقة ولطيفة جدّاً. فلدينا في الآيات القرآنيّة {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}۱، وكان الأنبياء على اختلافهم يقولون: «نحن لا نريد منكم أجراً، نحن لا نريد منكم أيّ أجر من الأساس» فراحتنا تكون في أن نذهب إلى منازلنا ولا نتدخّل في شؤون أيّ شخص. نحن لا نريد منكم أجراً، نحن لا نسعى للحصول على الرئاسة، ونحن نفضّل كثيراً أن ننشغل بأعمالنا وأن ننعزل عن الناس. {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبيلاً}٢. فالكلام في أنّ أجرنا هو هدايتكم. فهل تحسبون أنّنا نريد منكم أن تأتونا بالأموال إذا هديناكم؟ وهل ستحملون إلينا الفواكه من بساتينكم؟ يقول الأنبياء: احتفظوا بتلك الأموال لأنفسكم، وبتلك الفواكه، وبتلك النعم الظاهريّة، فكلّها لكم. وفي مقابل جميع هذه الآيات القرآنيّة لا نريد منكم أجراً إلاّ أن تعثروا على طريق الهداية. هذا هو منهج الأولياء ومدرستهم! فمنهج ومدرسة أنبياء اللـه وأوليائه هو أن يتعاملوا مع الناس بعقلهم وسرّهم وروحهم ومنطقهم، وليس من خلال أفكار الناس ورغباتهم واعتماداً على علاقة الناس بهم وكيفيّة نظرة الناس إليهم، وإلاّ لما تمكّنوا من القيام بأيّ شيء. (ولو خضنا في هذه الأبحاث، فإنّنا سنبتعد كثيراً عن المسألة [الأساسيّة].)
وعلى أيّة حال، مع وجود كلّ ذلك فإنّهم يقولون: تعالوا وفكّروا في الأمر وشغّلوا عقولكم:
{قُلْ فَلِلهِ الْحُجَّة الْبالِغَة}۱..
{فَبَشِّرْ عِبادِ * الَّذينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}٢..
استخدموا عقولكم، وحرّكوا أفكاركم، فإنّ وجدانكم وفطرتكم ستقودكم ـ شئتم أم أبيتم ـ إلى الإسلام وشريعته؛ فنحن لا نريد أن نفرض عليكم ذلك بالقوّة، بل يكفي أن تلتفتوا بأنفسكم [إلى حقيقة المسألة] لكي تصلوا إلى هنا.
اختلاف الظروف الاجتماعية في الأزمنة المختلفة
وبناءً عليه، فنحن نلاحظ وجود اختلاف في المسائل على عهد الأئمّة والرسول الأكرم؛ ففي زمان الرسول الأكرم، كان صلّى اللـه عليه وآله يتعقّب الناس بنفسه، فيدقّ باب هذا المنزل وذلك المنزل، ويجلس هنا ويجلس هناك، ويُحارب، ويخطب في الناس.. هذا في زمان. وفي زمان أمير المؤمنين، نُشاهد استمرار هذه السيرة بنفس خصوصيّاتها، حيث كان أمير المؤمنين يذهب بنفسه عند الناس، وبعد أن قاموا بتنصيب ذلك الخليفة في مقام الخلافة، فإنّ أمير المؤمنين لم يسمح لهم بذلك، وإلاّ لو سمح لهم بذلك، لما كان هو الإمام علي، ولكان كسائر الناس العاديّين. فعلي صلوات اللـه عليه هو الذي كان يعتبر الناس ـ من خلال عطفه وفهمه وإدراكه الخاصّ ـ بمثابة أبنائه، ويسعى لخلاصهم ونجاتهم من الجهل الذي كانوا يعيشونه.. لقد كان أمير المؤمنين بهذا الشكل! ولذلك فقد كان يتعقّب الناس واحداً واحداً مخاطباً إيّاهم:
ألم تكونوا حاضرين في الغدير؟ أفلم تشاهدوا الرسول؟ ألم يقل كذا وكذا؟ ألم يُمسك بيدي أمام عـشرات الألوف من الناس؟ أفلم يخطب في الناس؟ لماذا فعل كلّ ذلك؟
فيجيبونه: يا علي، لقد تمّ الأمر! وليس ثمّة هناك من إشكال يا علي، فسيصلك ـ إن شاء اللـه ـ منه تعالى نصيبٌ ما، وستحصل منه على ثواب، فاصبر الآن، فقد ضاعت الحكومة والسلطة من بين يديك وانتهى الأمر، فلا تُفرّق بين جماعة المسلمين!
لقد كانت هذه هي الأجوبة التي يُقدّمونها له، وأنا لا أمزح! فكان أمير المؤمنين يقول لهم: أنا لا أُقدم على هذا الأمر من أجل مصلحتي الشخصيّة.. لقد كان علي عليه السلام يأتي إلى هذا المنزل وإلى ذلك المنزل فيجيبونه قائلين: يا علي، لقد انتهى الأمر! اعذرنا، وغضّ الطرف عن حقّك، ولا تشعل الفتنة!
وعندما أتمّ عليهم الحجّة، قال لهم: حسن جدّاً، لقد جاء دوري أنا! فذهب إلى المنزل، وأغلق عليه الباب واعتزل الناس. قال لهم: إذا كنتم لا ترغبون في الإصغاء إليّ، فأنتم أحرار! والأمر سهل بالنسبة إليّ. لقد أتيت إليكم وأخبرتكم، وحملتُ بنت الرسول على الدابّة، وأتيت بها إلى منزلكم، وذلك لكي أقول لكم: إنّ أقربَ شخصٍ إلى الرسول، وموضعَ أسراره، والتي كان وجودُها بمثابة كلّ رأسمال الرسول، والتي كان يوصي بها كثيراً هي هذه وليس أبو بكر هذا، ولا عبد الرحمن بن عوف هذا، ولا أبو عبيدة بن الجرّاح هذا!
لكنّ حقيقة الأمر أنّ الشيطان عندما يحضر ويعمل على إخفاء وجه الحقّ، فإنّ حتّى فاطمة الزهراء تُطوى في ملفّ النسيان! حسناً هذه هي فاطمة الزهراء التي كان يقول عنها النبيّ: «فاطِمةٌ بِضعَةٌ مِنّي»، وهو لم يقل ذلك في بيته، ولم يهمس بها في أذن أحد الأشخاص، بل قالها في المسجد، حيث قال أمام العشرات من الأشخاص: «فاطمةُ بَضعةٌ منّي، مَن آذاها فَقد آذاني، ومَن آذاني فقَد آذَى اللَه». لكن ما الذي حصل حتّى يتعرّض مثل هذا الكلام الصـريح الصادر من الرسول للإهمال الكلّي؟ علينا أن نستعيذ باللـه تعالى، وواقعاً علينا أن نستعيذ باللـه تعالى؛ فماذا يعني أن تقول عن نفسك بأنّك مسلم؟ يعني أنّك متّبع للرسول، وماذا يعني أنّك متّبع للرسول؟ يعني أنّه يجب عليك طاعة جميع أوامره ونواهيه. حينئذٍ وبالنظر إلى مثل هذه اللوازم والملزومات، عندما لا تمتثل للكلام الصريح الصادر عن الرسول، فأيّ نوع من المسلمين أنت؟!
حينئذٍ يقول أمير المؤمنين عليه السلام بدوره: حسن جدّاً، إذا استقرّ الرأي على هذا الأمر، فإنّني سأذهب بدوري للجلوس في منزلي، وحينئذٍ سيتوجّب عليكم أن تأتوني للمنزل. وعندما يستقرّ في منزله، يأتي ذلك اليهودي ليطرح بعض الأسئلة، فلا يتمكّن حضرة الخليفة من الجواب عنها، فيبعثون إلى عليّ، وحينما يأتي ذلك النصراني ليطرح بعض الأسئلة، فيعجزون عن الجواب عنها، يبعثون إلى عليّ، وعندما يُريدون أن يقيموا الحدّ ظلماً على تلك المرأة، ويظلّون حائرين، يأتي سلمان إلى عليّ قائلاً: يا علي، أدركنا، فيأتي عليٌّ ويحكم! وحينما توشك أن تشتعل الحرب، يأتي عمر بنفسه عند عليّ من أجل استشارته في الحرب. فعلى الرغم من أنّ عليّاً اختار الجلوس في منزله وعدم التدخّل في الأمور، غير أنّ قلبه كان يحترق.
حسناً، لقد كان هذا فيما يخصّ أمير المؤمنين في هذ المقطع الزمني وفي هذه المرحلة الخاصّة. وأمّا بالنسبة لبقيّة الأئمّة، فعندما ننظر [إلى سيرتهم]، نرى في بعض الأحيان أنّه كان من المحال الوصول إليهم؛ ففي كثير من الأوقات، كان الإمام الحسن عليه السلام موضوعاً تحت المراقبة، حيث كان والي المدينة يُراقب الأشخاص الذين يتردّدون على منزله عليه السلام. وكذلك الأمر بالنسبة للإمام السجّاد، والإمام الصادق، وموسى بن جعفر عليهم السلام، حيث نشاهد في مختلف العصور ـ التي حكم فيها بنو أميّة وبنو مروان وبنو العبّاس ـ بعضَ الموارد والمقاطع [التاريخيّة] التي يستحيل فيها على أيّ شخص ـ اللهمّ إلاّ القليل النادر ـ أن يلتقي بالإمام عليه السلام، هذا مع أنّ اللقاء بالإمام يعني حلّ المسائل والهداية والإرشاد، فما هو التكليف في هذه الحالة إذن؟! وهل أنّ هداية اللـه تعالى متوقّفة على اللقاء بالإمام؟ لو كان الأمر كذلك، فإنّ الهداية ستكون مختصّةً بالأشخاص الذين كانوا يجاورون الإمام أو يسكنون في حيّه، لكن ماذا عن بقيّة المدن والأحياء؟! فهؤلاء لم يكونوا يرون الإمام، وبالتالي سيكون باب الهداية مغلقاً بالنسبة إليهم.
يقول أحد العظماء في إحدى الرسائل التي كتبها إلى تلميذه: على الرغم من أنّ باب الوصول إلى الإمام عليه السلام وباب السلوك إلى اللـه وهدايته مسدود في زمان الغيبة، غير أنّه يوجد فرق بين من يكون جالساً خلف باب المنزل ويسمع عن قُرب الأصوات الصادرة عن المنزل ـ حيث يكون مطّلعاً إلى حدٍّ ما على ما يدور فيه ـ وبين من يمشي في الشارع وهو مشغول [بأموره الشخصيّة]. ولهذا، على الرغم من أنّهم لن يفتحوا لنا الباب، لكن ينبغي السعي وإعمال الجهد حتّى لا نبتعد عن محاذاته. ولكن يبدو أنّ هذه المسألة التي ذكرها هي محلّ نظر وتأمّل؛ لأنّ تلك الهداية التي يرنو إليها السلاّك إلى اللـه تعالى لها ـ بطبيعة الحال ـ جنبة باطنيّة، حيث يرتبط أصل السير وحقيقة تلك الهداية بمسألة العلاقة القائمة بين النفوس وبين مبدئها الأعلى؛ وهذه المسألة هي مسألة أساسيّة في الهداية. ومن ناحية أخرى، هناك تلك الواسطة في الفيض وذلك الهادي للسبُل والمعين للسلاّك في طريقهم نحو المقصود والآخذ بأيدي أولئك المتخبّطين في هذا الطريق والفقراء إلى لقاء المعبود، بحيث لا توجد أيّ علّة أو مبدأ يُمكنه القيام بهذا العمل سوى مقام الولاية.
فالولاية عبارة عن إحاطة قدرة خفيّة.. تلك القدرة التي تُرسي النظام في عالم التكوين وتتولّى مسؤوليّة جريان الفيض الإلهي في جميع العوالم. فهذه الولاية في الحقيقة أمرٌ باطني لا ظاهري، هذا مع أنّها قد تمتلك مظهراً ظاهريّاً.
لا فرق بالنسبة للإمام عليه السلام بين زمان الظهور وزمان الغيبة
وبناءً عليه، كيف يُمكننا أن نتصوّر بأنّ إمام الزمان عليه السلام غائب خلف الستار؟! فإذا كان إمام الزمان عليه السلام عاجزاً عن الأخذ بأيدي أولئك الأشخاص ذوي القلوب الطاهرة والمنزّهة والذين يمتلكون الحُرقة والصفاء والخلوص والصدق والإحساس بالألم، فإنّ ذلك سيُعدّ نقصاً بالنسبة له عليه السلام؛ أي أنّه إذا لم يتمكّن من مساعدتهم والأخذ بأيديهم كما كان يفعل في زمان حضوره وظهوره، فلن يكون إماماً [في الحقيقة]! فالإمام الذي يَعتبر أنّ ارتباطَه بالنفوس وتكاملها متوقّف على حضوره ـ بحيث تكون غيبتُه حجاباً وساتراً ومانعاً عن تربيته للناس ـ لا يُعدّ إماماً في الحقيقة، وإلاّ فبماذا سيفترق عن بقيّة العباد؟! هذا من جهة، وأمّا إذا كان الإمام عليه السلام يُمكنه ذلك (أي لا يفرق لديه الأمر في الارتباط بالناس بين غيبته وزمان ظهوره)؛ فإنّ ذلك يعني أنّ الباب غير مغلق، بل هو مفتوح على الدوام، وطريق الوصول إلى اللـه تعالى ميسّر للجميع.
وفي نفس الوقت، هاهنا مسألة أخرى هي أنّ هذا ظلم، بل ياله من ظلم! لأنّ الناس لا يمتلكون الاختيار في وجودهم وحضورهم في زمان معيّن! فهل كان تواجدنا في هذا الزمان داخل تحت اختيارنا؟ لا! فكلّ واحد منّا له أب وأمّ ـ إذا كانوا أحياءً، فليمدّ اللـه في أعمارهم إن شاء اللـه ويُعيننا على شكران نعمتهم وكدحهم لأجلنا، وإلاّ فليغمرهم تعالى برحمته ـ فذلك الأب والأمّ هما اللذان أوجدانا، أليس كذلك؟ ولم يكن لنا أدنى اختيار في المجيء في هذا الزمان وهذا العصر، كما أنّهما بدورهما لم يكن لهما اختيار في المجيء إلى هذه الدنيا، ولن يكون للذين سيأتون لاحقاً اختيار أيضاً. وبالتالي، كيف يمكن أن ينسجم ذلك مع العدل الإلهي؟! أي كيف ينسجم عدل اللـه تعالى مع إفاضته للهداية والنعمة على أشخاص لم يكن لهم أيّ اختيار في اكتساب تلك الهداية، وكيف ينسجم أيضاً عدله مع حرمانه لذلك الفيض عن أشخاص لا يمتلكون أيّ اختيار؟! ولماذا ينبغي علينا عدم التواجد في زمان الرسول؟! ولماذا بإمكان الأشخاص الذين كانوا يعيشون في زمان الرسول أن يستفيدوا [من وجوده الشـريف] ويصلوا للكمال المنشود، أمّا نحن فلا؟ فما هو تقصرينا نحن في ذلك؟ نعم، إذا قال اللـه تعالى: (لا فرق بينكم وبين الذين كانوا يعيشون في زمان الرسول، وعلى فرض أنّهم تمكّنوا في زمان رسول اللـه وزمان الإمام عليه السلام من الوصول إلى الكمال المنشود، ولم تتمكّنوا أنتم من الوصول إليه في هذا العالم، فإنّكم ستصلون إليه في الآخرة من دون أن يوجد بينكم أيّ فرق في المقام والدرجة في ذلك العالم)؛ فلن يوجد أيّ إشكال في الأمر، وسنرضى بذلك؛ لأنّ الجميع سيصل في الأخير إلى المستوى المطلوب، سواءً كان ذلك في هذا العالم أم ذاك. فهم لا يقولون بأنّ الباب مغلق، بل هو مفتوح، غاية الأمر أنّ طريقة الصعود والحركة تختلف، وفي الأخير لن يفرق الأمر. وأمّا إذا كان المقصود من الكلام هو أنّ نعمة الوصول إلى لقاء اللـه تعالى والعبور عن الدنيا والإعراض عن جميع الشهوات وخرق الحجب النفسانيّة والروحانيّة هي مختصّة بالأشخاص الذين يلتقون بالإمام ـ بحيث يكون البقيّة محرومين من ذلك ـ؛ فإنّه ظلم ومخالف للعدل ومرفوض تماماً.
الضيق والفرج، والعسر واليسر هي جميعاً تابعة لإرادة اللـه وضروريّة للتكامل
وبناءً عليه، هل يُمكن عدّ كلام الإمام الصادق عليه السلام الذي يقول فيه: «إنّي رَجُلٌ مَطلُوبٌ» نقطة ضعف في مسألة هداية الإمام عليه السلام وأخذه بيد المحتاجين؟ أم أنّه لا يفرق الأمر في ذلك بين أن يكون الإمام مراقباً ومطلوباً أم لا؟ فالكون تحت المراقبة وعدم ذلك هما حادثتان مختلفتان تابعاتان للمشيئة الإلهيّة، أليس كذلك؟ فإحدى الحادثتين تقتضي أن تكون جميع الأمور في هذا الزمان سهلة وميسّرة، ثمّ يتبدّل التقدير الإلهي، فيأتي العُسر والضيق، ويُعاني الناس من الضغوط والحدود. فالكلام ـ والحال هذه ـ هو حول تأثير هذه الحادثة في مسألة الهداية أم عدم ذلك؛ إذ ينبغي ألاّ تترك أيّ تأثير.
في أحد الأيّام، قال أحد الأشخاص للمرحوم العلاّمة: يا سيّدي! ادع اللـه تعالى لينقص من ابتلاءاتنا ومشاكلنا، إذ لا يُمكننا القيام بتكاليفنا كما ينبغي، وخلاصة القول أنّه كان يشكو حاله. فقال له المرحوم العلاّمة: يا عزيزي! إذا كنت تتوقّع أن تعيش على ضفاف نهر مضطجعاً على سرير ذي فراش ووسادة، يأتيك الغلمان المخلّدون عندما يحين وقت الغذاء بالصواني المملوّة بالأطعمة ذات الألوان المختلفة والمذاق اللذيذ جدّاً، من دون أن يُصيبك في هذه الدنيا أيّ غمّ أو همّ، وتكون ذاكراً للـه تعالى في هذه الحالة، [فتوقّعك هذا خاطئ] وعليك أن تحمل هذا الأمل والتوقّع إلى ذلك العالم! إذ لم يصل يا عزيزي أيّ واحد من الأولياء والأئمّة والعظماء والأنبياء إلى اللـه تعالى بهذه الطريقة! فمن يُريد أن يطوي الطريق الصحيح إلى اللـه تعالى، عليه أن يُكيّف نفسه مع تقدير اللـه تعالى وقضائه ومشيئته.. (وهذه مسألة مهمّة جدّاً!) عليه أن يُكيّف نفسه مع عالم المشيئة الإلهيّة، فيُؤدّي عمله في حال اليُسر والعُسر، وفي حال الشدّة والرخاء.
فالمسألة هي بهذا النحو، وسأتعرّض إن شاء اللـه ـ عند البحث حول الورد والذكر ـ إلى كيفيّة تأثير الذكر، وأنّ المسألة هي على خلاف تصوّراتنا، إذ في كثير من الأحيان من الممكن أن يكون للتلفّظ بـ «يا اللـه» مرّةً واحدة في حالة العسر والشدّة أثراً لا يمتلكه التلفّظ بها ألف مرّة في حالة اليُسر، ونكل البحث حول العلّة والسبب في ذلك إلى فرصة أخرى إن شاء اللـه تعالى، لكي نتعرّف على حقيقة الذكر ما هي؟ وما هو الورد؟ وما معنى عبادة اللـه تعالى؟ وما هو مراد الإمام عليه السلام من كلّ ذلك؟
لابدّ من اختلاف المظاهر والآثار لإدراك حقيقة التوحيد
ويبقى الكلام هنا حول مسألة تعذّر ظهور التوحيد من دون وجود الاختلاف في المظاهر وشبكات عالم الإمكان. فإذا كان هناك ظهور واحد ومظهر واحد ونسَق واحد، فلا وجود إذن للتوحيد، إذ التوحيد يعني عدّ النظام أمراً واحداً، ومتى يُمكننا عدّه كذلك؟ ومتى يُمكننا عدّ الأحداث والوقائع أمراً واحداً؟ حينما يوجد اختلاف بينها؛ أي على الرغم من وجود اختلاف بينها، فإنّنا نعدّها أمراً واحداً، وأمّا إذا لم يكن هناك اختلاف، فلا يُمكننا القول بالوحدة؛ لأنّ الوحدة بما هي هي ليست إلاّ هي. فحقيقة التوحيد تعني عدّ الأشياء أمراً واحداً، وهذا لا يمكن تحقّقه إلاّ عندما يغضّ الإنسان نظره عن الاختلاف، أي أنّ الاختلاف قائم وموجود لكنّه لا يراه؛ حينئذٍ يمكن للإنسان أن يتحدّث عن التوحيد. فإذا كان نظره متوجّهاً إلى الكثرة، فهذه كثرة، وأمّا إذا كان نظره متوجّهاً للتوحيد، فينبغي عليه أن يُذيب تلك الكثرات في ذلك التوحيد؛ ولهذا نقول بأنّه من اللازم وجود الاختلاف.
فاللـه تعالى قد جعل توحيده وفيضه يتجلّى في أطوار وأدوار وأشكال مختلفة، وهو يُريد أن يقول لنا بلسان الحال، ويسعى لأن يُفهمنا بأنّ: الأخذ بأيدي الناس وهدايتهم من عدّة جهات هو على حدّ سواء بالنسبة إليّ، واعلموا أنّ هدايتي لا تخضع لأيّ سبب أو علّة تكون خارجةً عن عنايتي في المقام الأوّل، وعن اهتمامكم أنتم في المقام الثاني، هذه هي حقيقة المسألة! وإذا كان من المقرّر أن يكون للأوضاع والأحوال تأثير في هذه الهداية، فإنّ ذلك يعني خروجها عن دائرة الحكم الإلهي، وتضييقها وتحديدها من قدرة اللـه المطلقة. وهنا يُريد اللـه تعالى أن يقول لنا: كما أنّ اليُسر بيدي، كذلك العُسر بيدي؛ فاليُسر والعُسر هما في الحقيقة شيء واحد، وعلى الإنسان أن ينظر إلى كلا الجانبين بنظرة واحدة.
وبناءً عليه، لا فائدة من الأساس من تلك الهداية المقيّدة بزمان الظهور، فالهداية التي تُرجى منها الفائدة هي الهداية التي يكون منشؤها إرادة الحقّ ومشيئته، وليس الظهور ولا الغيبة. وعليه، فلا الظهور له دخل في مسألة الهداية، ولا الغيبة دخيلة في عدمها، ولا علاقة لأيّ منهما بالأمر. ولقد اقتضت المشيئة الإلهيّة المرتبطة بهداية كلّ شخص وتكامله أن يرى الإنسان مبدأً واحداً فقط حاكماً على جميع الأحداث والوقائع، وألاّ يُشاهد أكثر من علّة واحدة لجميع هذه التغيّرات والاختلافات.فإذا كان اللـه تعالى لا يُرى إلا من خلال نافذة الرحمة ـ والمراد بها الرحمة كما نراها نحن بطبيعة الحال ـ ومن خلال إناء الطعام والموائد المزيّنة بما لذّ وطاب؛ فذلك ليس بإلـٰه. ومن ناحية أخرى، إذا كان اللـه تعالى يُرى دائماً من خلال الشدّة والضيق وغير ذلك، فإنّه ليس بإله أيضاً؛ فاللـه تعالى هو إله فوق العسر واليسر.. هذا هو اللـه، وهذا هو معنى التوحيد. ولهذا، فإنّنا نُشاهد هنا ظهور طرق مختلفة لهداية الناس؛ فتلك الطريقة وذلك السير الذي يُراعي جانب التوحيد في جميع برامجه وكافّة جوانبه التربويّة هو أقرب إلى التوحيد الحقيقي من بقيّة الطرق والمسارات التي تسعى للوصول إلى هذه الحقيقة من جوانب مختلفة.
نعم، يبقى أنّ هذه المسألة تحتاج إلى توضيح أكثر، غير أنّه لا وقتُ المجلس يسمح لنا بإطالة الكلام، ولا حالُ هذا الحقيرـ ولا بدّ أنّكم قد التفتم إلى ذلك أثناء الحديث ـ.، فلنكل بقيّة المطالب إن شاء اللـه تعالى وبحوله وقوّته إلى الجلسة القادمة إذا لم يحصل بداء.
نرجو من اللـه تعالى أن يكون في جميع الحالات وكافّة الأوقات هو المدبّر لأفعالنا وأعمالنا وقلوبنا وسرّنا وسويدائنا، كما يقول حضرة سيّد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام: «إلَهِي، قَدْ عَلِمْتُ بِاخْتِلَافِ الآثَارِ وتَنَقُّلاتِ الأطْوَارِ أنّ مُرَادَكَ مِنِّي أن تَتَعَرَّفَ إليّ في كُلِّ شَيءٍ حتى لا أجْهَلَكَ في شَيءٍ». هل تعلمون ماذا يُريد أن يقول عليه السلام؟ يريد أن يقول: لو افترضنا أنّ هناك أستاذاً جامعاً للفنون والعلوم المختلفة، نظير الرياضيات والجبر والهندسة وعلم المثلّثات والكيمياء والفيزياء والجغرافيا وطبقات الأرض والهيئة والنجوم والخطّ والرسم وغيرها من العلوم الرائجة في هذا العصر، وتكون له ـ علاوةً على ذلك ـ إحاطة كلّية بالعلوم الإلهيّة أيضاً؛ ولنفرض انّ طالباً جاء ليتعلّم منه، فتارةً نجد أنّ هذا التلميذ يقتصر في تعلّمه من هذا الأستاذ على الرياضيات فقط أو الكيمياء فقط أو الطبّ، أو غيرها من العلوم كالفلسفة وأمثال ذلك؛ فهو في هذه الحالة قد تمكّن من تحصيل علم واحد أو علمين من علوم هذا الأستاذ. وتارةً أخرى نجد أنّ هذا التلميذ قد جاء وتعلّم جميع العلوم التي يمتلكها ذلك الأستاذ وأحاط بها، فماذا يصير حينئذٍ؟ يصير جامعاً للعلوم ويمسي العلاّمة ذا الفنون!
فسيّد الشهداء يريد أن يقول: إلهي، إنّك تُريد أن تجعل ـ في مقام تعريف عبادك بك ـ جميعَ صفاتك الوجوديّة فيهم لكي يحصلوا على اللياقة التامّة. فمن خلال هذه الأحوال المختلفة التي تطرأ، تُريد أن تجعل هذه الجامعيّة التي لديك في هذا العبد. ومن هنا فإذا لم يحصل الاختلاف في الأحوال؛ فلن تكون ثمّة جامعيّة، وسيرى هذا العبدُ التوحيدَ من منظار واحد فقط ويغفل عن البقيّة.
ونحن بدورنا ندعو اللـه تعالى أن: يا إلهي، تفضّل علينا بالقابليّة والأهليّة لاستجماع جميع تلك الكمالات التي يُمكن أن يحصل عليها الإنسان في طريق التوحيد، ولا تسلب منّا عنايتك وفضلك في كافّة الأحوال، ولا تقطعنا عن التشبّث بمقام الولاية في جميع الآنات والأوقات، ولا تحرمنا في الدنيا من زيارة أوليائك وأئمّة الهدى، وفي الآخرة من شفاعتهم.
اَللّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّد وآلِ مُحَمَّد